أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد ابداح - 27 يوماً في بغداد - ج4















المزيد.....


27 يوماً في بغداد - ج4


محمد ابداح

الحوار المتمدن-العدد: 4638 - 2014 / 11 / 19 - 12:37
المحور: الادب والفن
    


وضعت حقيبتي الصغيرة على كتفي، وبيدي الأخرى حقبية الملابس والهدايا ، ثم خرجت من الشركة ، ثم مررت بجانب المطعم الذي قصدته وقت الظهيرة لتناول الغداء ، نظرت إليه وهو كما كان وقت الظهر عامراً بالزبائن ولكن بنسبة أقل بقليل ، فقلت لنفسي لعلي أعود إليه في المساء ، ولكن قبل ذلك علي أن أجد فندقاً كي أبيت فيه .
كان كل شيء يبدو قديماً ، الشوارع والمنازل والأسواق ، الشجر والحجر ، وحتى البشر ، ثمة العديد من مكاتب السفريات ، والعيادات الطبية ، والمطاعم والمحال التجارية ، ومحال بيع الخمور ، وقد لاحظت بأن حي البتاويين يمتلأ بالسودانيين ، وعلمت لاحقاً أن هذا الحي يضم أكبر تجمعاً للجاليات السودانية في العراق ، وهم يعملون تقريباً في جميع المهن ، البقالة والخضروات والمهن الحرفية وكافة الأعمال ذات الطابع الخدمي ، ويُعـد البتاوين من أقدم الأحياء في بغداد، وهو يقع بين شارع (أبو نواس) ونهر دجلة غرباً والشارع الممتد بين ساحتي الطيران والأندلس، وتحده شمالا ساحة التحرير، والكرادة جنوبا، ويتوسطه شارع السعدون الشهير ممتداً من ساحة الفردوس وصولا إلى ساحة التحرير، وتتمركز في وسطها أشهر العيادات الطبية ودور السينما والفنادق الشعبية والسياحية الفخمة على السواء، والمحال التجارية على جانبي شارع السعدون ، وتتوسطها ساحة النصر التي تمثل أكبر تجمعاً للاختصاصات الطبية في العراق عموماً، كما يمكن ملاحظة العدد الكبير من مكاتب ومؤسسات الخدمات المطبعية حيث تعتبر منطقة البتاوين المركز الرئيسي للمطابع في بغداد ، وربما في العراق فأشهر و اكبر المطابع البغدادية تتمركز فيها أظافة الى كونها مركزاً تجارياً و صناعياً مهماً يغذي العاصمة بغداد .
لم أكد أبتعد عن مكتب السفريات، حتى أرشدني ( زول) سوداني لفندق شعبي في شارع السعدون الشهير، بحي البتاويين، دخلت قاعة الفندق ، وكانت القاعة كبيرة ، وهي أقرب لمقهى شعبي ، حيث كان ثمة مجلساً يسار القاعة ، مؤثثاً بفرشات اسفنجية على الأرض مكسوة بقماش أزرق ، ويجلس عليها النزلاء ، كانوا يتحدثون ، ويضحكون ويشربون استكانة الشاي ( كاس شاي العراقي)، وبدى لي ذلك المجلس كأنه مضافة عربية ، وكان ثمة تلفاز تم وضعه على خزانة بجانب الجدار ، توجهت لمكتب الإستعلامات ، وكان فيه رجلاً مسناً ، سلمت عليه ، وسألته عن غرفة للإقامة ، وأخبرته بأني مواطن أردني ، وقد كنت مسافراً للكويت ، ولكني الآن مضطراً للمبيت بسبب غلق الحدود.
رحب بي ذلك الرجل ، ترحيباً حاراً ، وقال لي : هلا بيك في العراق ، إحنا أخوتك ابني ، وانشاء تنحل هذه المشكلة على خير ، ثم أخبرني بأنه ثمة غرفة للحجز وثمنها عشرة دنانير عراقي في اليوم الواحد ، وبالطبع فهذا خبر سار بالنسبة لي ، فمبلغ العشرة دنانير هي أقل بنصف المبلغ الذي أخبرني عنه ذلك السوداني ، وربما هو أقل سعر لغرفة فندقية في بغداد كلها آنذك.
طلب مني الرجل جواز سفري ، فاعطيته إياه ، وأخبرني بأن جواز سفري سيبقى عنده طالما أنا موجود في الفندق ، فوافقت على ذلك ، وقد كان مكتب الإستعلامات عبارة عن طاولة خشبية نصف دائرية ( كاونتر) ، وخلفة ثمة خزنة حديدية ضخمة ، فقام بوضع جواز سفري فيها ، ثم ناولني مفتاح الغرفة ، ونهض من مقعده ، ثم أرشدني لغرفتي بنفسه .
كان الفندق عبارة عن مبنى قديم نسبياً ، يتكون من ثلاثة طوابق ، وفي كل طابق مجموعة من الغرف المستقلة ، غرفة واحدة لكل نزيل، وثمة حمام خارجي مشترك في آخر الممر ، ولكن على الأقل كان ثمة جهاز للتكيف في كل غرفة ، كانت غرفتي تقبع في الطابق الثاني ، وكانت نظيفة ومرتبة ، وفي الحقيقة يجب عليها أن تكون كذلك ، فهي شبه فارغة تقريباً ، ولم تكن تحتوي إلا على سرير واحد مفرد، وخزانة خشبية صغيرة ، إضافة لطاولة مستديرة عليها منفظة سجائر، لم أقم باستخدام الخزانة في بداية الأمر، لأنني كنت آمل ألا تطيل إقامتي ، لذا أغلقت الخزانة ولم أضع فيها شيئاً من أمتعتي.
توجهت للنافذة الوحيدة في الغرفة ، وكان زجاجها أخضر اللون ، فتحت النافذة متوقعاً رؤية الشارع ، ولكن كل ما رأيته للأسف هو ساحة خلفية للفندق ، تمتلأ بصناديق للمشروبات الغازية الزجاجية ، والعديد من المقاعد الخشبية، مكدسة فوق بعضها .
كان الوقت أقرب للغروب، فهممت باغلاق النافذة ، لكن فجأة لمحت فتاة في ساحة الفندق وكأنها خرجت من العدم ، تحمل بعض زجاجات الكولا الفارغة ، وتضعها في أحد الصناديق ، وكان بجانبها صبي سمين بعض الشيء ، ولكن يبدو أصغر منها سناً ، كان يساعدها في ذات الأمر، ثم عادا للداخل من خلال باب أسفل نافذتي مباشرة .
أغلقت النافذة ، ثم جلست على السرير ، وأخذت أفكر بما حدث اليوم ، كان علي أن أبدو متماسكا ، فأنا أبلغ الآن الثامنة عشر من عمري ، ولست صغيراً ، ولست أدري ماذا كان يدور في رأسي حينها ، فاذكر بأنني ولكي أرفع معنوياتي ذاتياً، تذكرت قصة طارق بن زياد ، وكيف قاد جيوشاً بأكملها وفتح الأندلس وهو في السادسة عشر من عمره ، ولكني في حالتي هذه لن أحارب أحداً هنا، ولن أقود جيوشاً وسط هذه الغربة ، بل سأقود نفسي فقط ، وأبقى يقظاً وحذراً من الوقوع في أي مشاكل، حتى تنتهي هذه المحنة على خير، وقلت: اليوم أو غداً ، فإن الحدود حتماً سوف تفتح ، وعندها سأسافر إما للكويت أو قد أعود للأردن ، حسب الظروف.
وفي تلك اللحظة بالذات تذكرت عائلتي ، وتساءلت عن أخبارهم وأمورهم ، فخلصت إلى أنه ينبغي علي التوجه لمكتب الإستعلامات للأتصال بأهلي في الكويت، نظرت حولي في الغرفة، ولم يكن ثمة أي هاتف فيها، فأخذت محفظتي وأبقيت باقي الأمتعة ، ثم أغلقت غرفتي بالمفتاح ونزلت إلى الطابق الأرضي ، وتوجهت لمكتب الإستعلامات كي أستخدم هاتف المقسم للإتصال بالكويت أو الأردن ، ولكني لم أجد الرجل المسن في مكتبه، بل رأيت فتاة تجلس مكانه ، فعرفتها فوراً وتذكرت بأنها تلك الفتاة التي كانت تنقل زجاجات الكولا الفارغة في ساحة الفندق الخلفية .
ألقيت عليها التحية، وسألتها عن إمكانية استخدام الهاتف للأتصال ، فقالت : والله كلّش ماكو اتصالات وكلمة ( كلّش ) تعني باللهجة العراقية ( قطعياً ) ، ثم أكملت : الإتصالات الخارجية كلها مقطوعة مع الكويت والأردن وأي دولة ثانية !! ..
قلت في نفسي : يا إلهي ، هذه مشكلة أخرى ، فكيف سأطمئن على أهلي بالكويت ، أو على الأقل أخبرهم بأني قد علقت في بغداد ، وبأنني بخير، كيلا يقلقوا علي ، نظرت إلى الفتاة برهة ، ثم سألتها إن كان ثمة أي طريقة أخرى للإتصال ؟
فقالت : لا والله ماكو طريقة ثانية ، ثم سألتني قائلة : أنت أردني ؟
فأجبتها : نعم
فقالت : أهلا بيك...
فسألتها عن الرجل المسن ، فقالت : والدي سيأتي بعد قليل !، وهو جالس في المضافة الآن مع الرجال ، فعلمت حينها أن ذلك الرجل يبدو أنه هو صاحب الفندق .
توجهت بعد ذلك إلى المضافة ، فرأيت الرجل جالساً على الفرش الأرضي في المجلس ، سلمت عليه قائلاً : السلام عليكم عمي ، فرحب بي ، ثم أشار لي بالجلوس ، وقد لاحظت بأن ذلك الصبي السمين ، والذي كان يساعد الفتاة بعملها في ساحة الفندق الخلفية ، يجلس بقربه، وبعد جلوسي ، عرض علي الرجل شرب الشاي ، فقلت له : لا شكراً لك ..
فقال : عيني ، هذا شاي عراقي كلّش زين ، لازم تشرب ويّانا، ثم قام بصب الشاي في كاسة صغيرة مميزة ولها صحن زجاجي ..
تناولت الكاسة منه ، ثم وضعتها أمامي ، وبدأنا جميعاً ننظر إلى التلفاز ، وكانت قناة عراقية أرضية تذيع أخبار إجتياح الجيش العراقي للكويت ، وتصور مشاهد دخول تلك القوات إلى المدن الكويتية ، الواحدة تلو الأخرى ، ويتخلل ذلك مشاهد مصورة لمقابلات تلفزيونية ميدانية مع مواطنيين كويتين يبدو عليهم الفرح بهذا الإجتياح ، ومن الواضح أن تلك المشاهد كانت إما معدة مسبقاً من قبل السلطات السمية العراقية ، أو أنها تمت من قبل أناس يدّعون بأنهم كويتيين ، فلم أكن لأصدق ولو للحظة بأن أي مواطن كويتي سيكون سعيداً بما حصل لوطنه .
ولازلت أذكر بأن التلفزيون العراقي قد قام ببث مقابلة حصرية ، مع مطربة كويتية مشهورة جداً في ذلك الوقت ، وأنا شخصياً كنت من معجبيها ، وهي تدعى (نوال) ، وقد سألها المذيع العراقي عن رأيها بما حدث ، وهل أن ذلك يشكل تحريراً للكويت أم إحتلالاً كما يدعي البعض ، فقالت: أنا أذكر جدّتي الله يرحمها ، كانت دايماً تقول بأن الكويت هي جزء من العراق ، لكن الإستعمار البريطاني قسمها وفصلها عن العراق !
وفي الحقيقة سواء أكان هذا الكلام حقيقة أم مجرد مهاترات إعلامية ، فإن الكويت هي دولة مستقلة وذات سيادة معترف بها عالمياً، كما أنها عضو في الأمم المتحدة ، وليست قطعة قماش متنازع عليها بين شخصين ، أو بهيمة سائبة ، يحق لأي شخص الإستيلاء عليها في أي وقت شاء.
نظر إلي صاحب الفندق ، ثم سالني : ها أبو جاسم .. شرايك في اللي قاعد يصير ؟
فقلت له فورا : أنا يا عمي طالب علم على باب الله ، وضيف عندكم ، ولا علاقة لي بهذا الأمر ...
فضحك الرجل مني وقال : إيه أحسن الواحد ما يتدخل في السياسة، ثم سألني قائلا: أنت يا ابني أردني أردني ولا فلسطيني أردني !؟
وفي الحقيقة لم يعجبني سؤاله ، فقلت له : وهل ثمة فرق ؟ إحنا كلنا واحد فلسطينيين وأردنيين ..
فقال : لا عيني .. بس أنا أعرف أنه أغلب الأردنيين هم من أصل فلسطيني !!
فقلت له : لا أعرف عن هذا الموضوع ، ولكن أعرف إن الأردني والفلسطيني واحد ..
عندها قام بتغيير الموضوع قائلا : إيه .. زين .. وأهلك ساكنين بالكويت ؟
ارتحت لسؤاله هذا لأنه غير الموضوع ، فقلت له : نعم ، وأكلمت قائلا : هم يقطنون في مدينة ساحلية ( اسمها أبو حليفة ) ، وأخبرته بأنها مدينة بحرية جميلة جداً ، وبأن منزلنا كان قريباً من البحر، وأخبرته بأنني كنت أحب ممارسة هواية السباحة كل يوم ، وكذلك هواية صيد السمك ، ثم صمت فجأة ولم أكمل حديثي !!.. ، وبدأت أتجاهل الحديث معه ..
فقد تذكرت بأني علي الحذر الشديد في كلامي ، وأن لا أسمح لبراءة الثقة أن تطغى عليّ ، فقد تحدثت مع رجل غريب عن نفسي وحتى أخبرته عن هواياتي!! ، وأنا لاأعرفه أصلا وأول مرة أراه فيها ! ، أو أجلس معه ، فالأجدر بي أن لا أثق بأحد ، حتى ولو كان هذا الرجل مسناً ويبدو عليه أنه إنسان جيد ، إلا أني أبقى غريب ، في بلد غريب علي ، فوجب الحذر .
صمت برهة ، وأخذت أنظر للتلفاز ، ولكن ذهني شارداً تماماً ، فقد كان يدور برأسي أمرين إثنين ، بدى لي أنهما أهم شيء يجب علي التركيز فيهما ، الأمر الأول هو أنه يجب علي أن أجد عملاً مناسباً لي بأسرع وقت ، كي أتمكن من تغطية نفقات الإقامة في الفندق ، ومصاريف الطعام والشراب ، أما الأمر الثاني فهو عائلتي ، أي والدي وأخوتي ، فكنت قلقاً جداً عليهم ، وخصوصاً بعدما شاهدت مناظر الدبابات العراقية وهي تجتاح مدن وشوارع الكويت .
أخذت أفكر في طريقة أتمكن من خلالها من إيجاد عمل لي ، فخطر لي أن أذهب لذلك الشاب السوداني ( خيري) في مكتب السفريات ، فقد يجد لي عملاً عنده ، أو على الأقل سيساعدني في إيجاد عملاً مناسباً بمكان آخر لدى أصدقاءه ، فعزمت أن أذهب إليه في تلك الليلة ، تحمست لتلك الفكرة ، فالأمر بالنسبة لي حياة أو موت ، ويجب علي أن أتصرف بسرعة ، ولذا نهضت واقفاً ، ثم استأذنت من صاحب الفندق قائلا : عمي سأخرج الآن إلى المطعم عشان أتعشى ..
نظر لي الرجل ثم قال متعجباً : أبو جاسم ليش تروح تدور مطعم ! ، هاي المطعم عندك ! ، مشيراً بيده إلى الجهة المقابلة من المضافة ، أخر الممر المؤدي لدرج الطوابق العليا في الفندق ، ثم أكمل قائلا : عندنا كل شي تريده ، بس تدلل !! ، ثم نظر للفتى السمين وصاح به قائلا : مهدي ! قوم يا ولد ودي أبو جاسم على الكافتيريا ، وخليه يطلب اللي يريده ..
قفز مهدي من مجلسه بسرعة البرق ، وبدى أن سمنته الظاهرة لاتؤثر على حركته إطلاقاً ، ووجدت نفسي بعدها سائراً معه في الممر ، ثم قادني لقاعة الكافتريا ، وقد كانت قاعة متواضعة ، تحتوي على بضعة طاولات خشبية مستطيلة الشكل، وغرفة مطبخ ، قلت للفتى : حسناً يا مهدي ، مذا تقدمون الليلة ؟ ، فقال : أي شي تريد ، تمّن مع لحم ، تشريب ، كباب ، باجه ( فوارغ) ، بامية ، فاصوليا مع تمن !، سمك مسقوف ! ( يعني سمك مشوي ) ، سندويشات جبن العرب! ، وفي بعد عصائر شمام ورمان .. ، وفي الحقيقة لقد أتحفني بما قال ، فقاطعته : حسناً سوف أطلب ولكن قبل ذلك اريد أن أذهب لمكتب السفريات، كي أسأل عن أخبار الحدود ، ثم أعود ، فقال : ايه زين على كيفك .
خرجت من الفندق وكان الظلام قد حل، ولكن الشوارع مضاءة بشكل جيد ، كما أن واجهات المحلات التجارية عامرة بالإضاءة ، وحركة الناس لازالت نشطة جدا، وقد بدت لي كل المداخل متشابهة في الليل ، إلا أنني تمكنت من الوصول لمكتب السفريات كونه لايبعد كثيراً عن موقع الفندق الذي أقيم فيه ، دخلت لمقر الشركة ، وكان ثمة شاب سوداني آخر يكنس أرضية المكتب ، ويبدو أنه يعمل مراسلاً في الشركة ، سألته عن خيري ، فأجابني بأنه يستقبل الآن ضيوفاً بمكتبه الخاص ، وأشار إلى مكتب بجوار قاعة الإستعلامات ، وكان ذلك المكتب مغلقاً ، فسألته عن إمكانية رؤيته الليلة ، فاقترح علي أن أنتظر في القاعة ، ففعلت ذلك، وجلست أشاهد التلفاز في قاعة الإنتظار.
وبعد بضعة دقائق ، دخل الشركة رجل عراقي الهيئة، وقال للسوداني : الله يعينك ! ، ( ويبدو أن تلك كانت تحية السلام عند بعض العراقيين )، ثم أكمل قائلاً : ها عثمان .. خيري وينه ؟
فقال عثمان بتردد : أه ه ه .. ، هو بالداخل مع عبير !! ، وأشار بيده للمكتب المغلق !..
قال العراقي : هذا خيري أبو العيو...( وفي الحقيقة كانت كلمة بذيئة فاعتذر عن ذكرها ) ، مايشبع من النسوان ، ثم أكمل قائلاً : روح عيني قول له أبو لينا يريدك ضروري !
توجه عثمان إلى المكتب بعد أن أسند المكنسة الخشبية إلى طاولة مكتب الإستعلامات ، ثم طرق باب مكتب خيري قائلاً : خيري ! أبو لينا يرديك ضروري ..
فرد خيري من خلف الباب : أيوه .. إصبر شوية .. يله جاي ..
وبعدها بقليل فتح خيري الباب ، ثم خرجت من مكتبه فتاة بدت في العشرينات من عمرها ، ولا ابالغ إن قلت أنها كانت رائعة الجمال ، حنطية البشرة ، عيون واسعة عسلية ، شعرٌ يبدو أملس بنيّ اللون ، قامت بترتيبه على عجل ، فبدا أنه بحاجة للمزيد من التسريح ، كانت تلبس قميصاً أصفر ، وتنورة بيضاء تمتد إلى ما تحت الركبة بقليل..
نظرت تلك الفتاة لأبي لينا ، ابتسمت له وكأنها تعرفه، ثم مضت في طريقها خارجة من الشركة ، وتبعتها عيوني كصائد يتهيأ لقنص غزال شارد.
قال خيري : أهلا أخوي أبو لينا .. تفضل .. تفضل أدخل المكتب ..
دخل أبو لينا عنده ، وأغلق الباب خلفه..
قلت في نفسي عندها : هلاّ.. هلا .. هلا .. ، والله يا خيري ما أنت بسهل ، فاتح مكتبك بيت دعارة ! ، وقد بدى لي أن الأمر سيطول ، فقلت لعثمان : آه يازول .. أنتظر ولا أروّح وأرجع بعدين ؟
فأجاب : والله أحسن تروح وترجع بعدين ، ثم سألني ماذا أريد منه ؟
قلت له : لا .. ولا حاجة ، بس كنت أريد أسأله إذا في أخبار جديدة عن السفر للكويت أو الأردن ، وكمان في حاجة شخصية كنت أريد أن أسأله عنها..
قال : والله مثل ما أنت شايف مافي زباين .. لسه الحدود مغلقة ومافي أي أخبار جديدة..
فقلت له : طيب وبالنسبة للإتصالات الدولية ، هل صار في مجال للأتصال بالكويت أو الأردن ؟
فقال : كل الإتصالات الهاتفية الدولية مقطوعة ..
فقلت : خلاص مافي مشكلة ، برجع بكرة الصبح إن شاء الله ..
قال : ماشي تمام !..
سلمت عليه وخرجت من مقر الشركة ، ثم مضيت عائداً إلى الفندق .
بعد وصولي للفندق ، توجهت مباشرة إلى المضافة ، كي أبحث عن الصبي السمين ( مهدي) ، حتى أرى ما يمكن أن أطلبه على العشاء في الكافتيريا ، وخصوصاً بأنه قد أتحفني بأسماء المأكولات العراقية الشعبية ، فكانت فرصة كبيرة لي كي أن أعرف المزيد عنها .
كان مجلس المضافة يعج بالنزلاء ، وباستكانات الشاي العراقي ، مرصوفة على السجاد وكانها نبتت من الأرض أمام الجالسين ، إضافة إلى صحون بلاستيكية مليئة بالتمور العراقية ، أخذت أنظر في الجالسين بحثاً عن مهدي ، ولكني لم أجده في المضافة ، فعدت لمكتب الإستعلامات كي أسأل عنه .
كان أبو مهدي جالساً خلف كاوتنر الإستعلامات ، فسلمت عليه قائلا : الله يعينك أبو مهدي !
ضحك مني أبو مهدي حتى بان سقف حلقه ومال بظهره للخلف ، ثم قال : أبو جاسم ! خلاص إنت صرت عراقي ، وتتكلم مثلنا ..، ثم أكمل قائلا : ها عيني شلونك .. وين رحت يا بو جاسم ؟ ما شفتك بالكافتيريا ، ولا بالمضافة ؟ خير إن شاء الله ؟ شاكو ماكو !!
أخبرته بأنني ذهبت لمكتب السفريات لأستفسر عن أمر فتح المعابر الحدودية مع الكويت والأردن ، ولكن ليس ثمة أي جديد في هذا الأمر ، فقال : يا إبني خلاص ما تشيل هم ، الله يسهلها ..
ثم قال لي : أنت طلعت من الفندق بدون وثيقتك عيني ، ( يقصد جواز السفر) ..
ثم أكمل قائلا: أبو جاسم دير بالك تطلع برة الفندق بدون جواز سفرك أو هوية رسمية ، لأنك شايف الأوضاع الأمنية في العراق ، وإذا مسكتك شرطة الإستخبارات ، وأنت ما وياّك أي وثيقة أوهوية إثبات شخصية ، ترى عيني ياخذونك سجن المخابرات العسكري..
فقلت : لا أنا معي هوية إثبات شخصية أردنية في محفظتي ، وما في داعي احمل جواز السفر معي في كل مكان أذهب إليه ، خوفاً من أن يضيع مني أو يُسرق من قبل النشالين ..
فقال : إيه .. يصير .. بس المهم يكون وياك إثبات شخصية ..
فقلت له : إن شاء الله ، ثم سألته عن مكان مهدي ..
فقال : والله مهدي خلاص راح البيت مع أخته نادية ( يقصد الفتاة التي رأيتها مع مهدي سابقاً ) ، ثم سألني ماذا أريد من مهدي ؟
فقلت : لا بس كنت بروح الكافتيريا معه .. عشان نشوف الوجبات ..
فقال : إيه ما كو مشكلة ، تقدر تروح هسه ، وأطلب اللي تريده من الطباخ الموجود في المطعم ، ثم أكمل قائلا : بس دير بالك عيني .. بعد الساعة الثامنة نغلق الكافتيريا ..
فقلت له : حسناً سأذهب الآن ..
توجهت لمطعم الفندق، وسألت الطاهي عن الوجبات المتوفرة للعشاء ، ثم طلبت صحن أرز مع بامية بلحم العجل ، وقد اخترتها لأنها سعرها هو الأقل بين الوجبات الأخرى ، فقد بلغ تكلفتها خمسة دنانير عراقية فقط ، وفي الحقيقة يمكن القول بأن العراق يملك إلى جانب إرثه الحضاري ، إرثاً ضخماً وزاخراً من المأكولات الشعبية ، والتي يتميز بها المطبخ العراقي ، فأنت تحتاج لوقت طويل حتى تتعرف على أنواع تلك المأكولات وأصناف الحلويات ، فضلا عن مواقيتها المحددة والتي تقدم فيها ، وعلى سبيل المثال فإن وجبة الفطور في الأردن أو مصر تتكون من أطعمة خفيفة عادة ، كصحن الحمص المحطون أو الفول أو اللبنة أو المربى مع الزبدة مع كاسة شاي ، أما في العراق فإن وجبة الفطور غالباً ما تتكون من الكباب المشوي ، أوالباجة ( الفوارغ ) الدسمة جداً !
على أية حال ، أنهيت وجبة العشاء سريعا ، ثم ذهبت للمضافة لشرب الشاي ، ومشاهدة التلفاز ، ولم يطل الأمر بي حتى شعرت بالدوار ، فلم أدري أكان ذلك بسبب الشاي العراقي الثقيل أم بسبب وجبة العشاء ، أم أنه الإرهاق الشديد ، بعد هذا اليوم الطويل والمثير ، فنهضت من المجلس ، ثم سرت نحو مكتب أبو مهدي، وطلبت منه مفتاح الغرفة ، فسلمني إياه ، وقلت له : أنا نعسان كثير والله يا بود مهدي بدي أروح غرفتي وأنامم ..
فقال : تصبح عى ألف خير ابو جاسم .. الله وياك ..
قلت له : تصبح على خير ..
صعدت إلى غرفتي ، وأغلقت الباب بالمفتاح ، وكانت الغرفة مضغوطة جداً وحارة ، فأشعلت جهاز التكييف ، وأطفأت ضوء الغرفة ، ثم استلقيت على السرير، وأغلقت عينيّ ، وبدأت أستذكر أحداث اليوم ، منذ لحظة أنطلاقنا من عمان ، مروراً بالحدود الأردنية والعراقية ، وانتهاءا بإذاعة خبر إحتلال جيوش صدام حسين للكويت ، ثم بدأت صور الشخصيات تتماهى أمامي ، أم علاوي وابنتها ، ياترى هل وصلت لبيتها وهي آمنة الآن ، ورأيت وجه خيري السوداني ، فقلت في نفسي : أكيد هو الآن نائم في العسل مع الفتاة عبير !! ، أو ربما مع غيرها من النساء ..
ورأيت كذلك صورة ابو مهدي وابنه مهدي ، ثم وجبة العشاء وكاسة الشاي العراقي الثقيل ، فمازلت أشعر بطعم الشاي الحلو في فمي ، كان ذلك آخر شيء تذكرته بوضوح ، فبعدها أصبحت الصور في عقلي تتمايل وتتداخل وباتت أقل وضوحاً ، وكأنها أضواءاً خافتة ملونة وليست صوراً ، فعلمت حينها بأني سأستسلم أخيراً للنوم.
وفي الحقيقة ، أذكر بأن صوت جهاز التكييف كان مزعجاً في البداية ،ولكني سرعان ما تعودت على هديره ، ثم في مرحلة ما بعد نومي في تلك الليلة ، أيقظني صوت صرير ، مصدره يد الباب ، وكأن شخصاً ما يحاول فتحه مراراً وتكراراً ، ولكنه لم يستطع لأن الباب مغلق بالمفتاح..
إرتعبت جداً في البداية ، حتى أني لم أستطع القيام من السرير ، فصرخت : مين ! ، فلم يجب أحد ، لكن توقف ذلك الشخص عن محاولاته لفتح الباب ، واستطعت أن أرى بعض الضوء المتسلل أسفل باب غرفتي من جهة الممر، وكذلك رأيت على الأرض ظل شخص يتحرك خلف الباب !!..
قلت لنفسي : لا يمكن أن يكون هذا لصاً قد دخل الفندق ، لأن الفندق مليء بالنزلاء ، لكن ربما يكون نزيلاً في الفندق ، وقد يكون ثملاً من كثرة شرب الخمر، فاعتقد بأن هذه غرفته ، ولذا حاول فتحها ، لكني في ذات الوقت سمعت في الممر أصوات أناس تتحدث وضحكات نساء !!..
فقلت في نفسي : يا الله.. لا بد أني أحلم ، وخصوصاً بأني قبل نومي كنت أتذكر منظر الفتاة الجميلة ، ذات القميص الأحمر والتنورة البيضاء، في مكتب ذلك السوداني اللعين ( خيري ) !!. ولكني في الحقيقة لم أكن أحلم ، فقد نهضت من السرير ، وأنرت ضوء الغرفة ، ووقفت خلف الباب ، وكانت أصوات وضحكات النساء لازالت تصدر من خلف الباب ، فعلمت حينها بأني حتماً لست أحلم ، وتذكرت حينها بأني أقيم في فندق شعبي رخيص في حي البتاويين.
لذا فإن تلك الأمور قد تبدو طبيعية ، وذلك بأن تحضر فتيات الهوى بصحبة زبائنهن من النزلاء، إلى غرفهم ، كي يقضوا ليلة حمراء وحميمية ساخنة ، ولكني على أية حال كنت مرغماً على الإقامة في هذا الفندق ، على الأقل ريثما أجد بديلاً أفضل ، ولكني قلت لنفسي كان الأجدر بأبو مهدي أن يمنع مثل هذه التصرفات في داخل فندقه.
أطفأت النور مرة أخرى ، ثم عدت إلى السرير ، ولكن النوم وقتها كان قد تجاوزني ، فبقيت مستلقياً على ظهري ، وأنا أسمع بين حين وآخر، ضحكة امرأة يصدر من الغرفة المجاورة ، وتارة غنج امرأة أخرى يمتزج بتأوهات غريبة الصوت ! ، ويبدو أن النوم غلبني بعد ذلك ، ولم أكن أذكر أكان ذلك بعد ساعة أو ربما أكثر .



#محمد_ابداح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حواء امرأة شرقية
- خنادق الموت
- تعلمت معك
- الأقدار
- لذة الموت
- هل تمضي وحيدا
- 27 يوماً في بغداد - ج3
- سيرة ذاتية
- يا جور قلبك
- احن لعينيك
- ليته انتظر
- هذا الفؤاد
- أشتريك
- تعبت أهرب من تفاصيلك !
- ما أريد أحلم
- متى نصر الله !
- داعش بيكو !
- 27 يوماً في بغداد - ج2
- مساء الصمت
- 27 يوماً في بغداد


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد ابداح - 27 يوماً في بغداد - ج4