أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامح سعيد عبود - ‎‎‎‎كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - النفس القلقة والمريضة والمتعبة















المزيد.....


‎‎‎‎كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - النفس القلقة والمريضة والمتعبة


سامح سعيد عبود

الحوار المتمدن-العدد: 337 - 2002 / 12 / 14 - 04:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


 

   نعرف أنه طالما ظل الإنسان يملئه الخوف من الأخطار المحيطة به ،سواء المجهولة له أو حتى المعلومة المصدر بالنسبة له ،وأنه طالما يدفعه الأمل فى مستقبل أفضل فى هذه الدنيا ماديا وروحيا،وحياة سعيدة خالية من أدنى الهموم ،وأنه طالما تحيره الدهشة مما لا يفهمه من ظواهر حوله ،فأنه سيظل يلجأ لكل هذه الدوافع أو بسبب بعضها للإيمان بما وراء الطبيعة وخارجها ،ليجد فيما يعتقد الأمان من الخوف والأمل فى الأفضل والتفسير لما يدهشه .حتى ولو كان ما يعتقد فيه بالغ السذاجة واللامعقولية ،وحتى ولو كان ما يؤمن به متناقضا كل التناقض مع ما وصل إليه العلم الحديث من حقائق لا تقبل الشك.‏‏
‎‎       فطالما ظل الإنسان مقهورا من شتى المؤسسات فى المجتمع ، ومقيدا بعشرات القيود فى المجتمع الطبقى والسلطوى ،  فأن تحقيق الحد الأدنى من الأمان والسعادة والفهم الصحيح للواقع ، يصبح فى غاية الصعوبة حتى أن من يمكن أن يتحرروا من تأثير هذه القيود هم قلة نادرة بالنسبة للغالبية الساحقة من البشر. ومن هنا سيظل الإنسان إما راضيا عن حياته قانعا بها ، أو أنه يؤجل آماله لما بعد الموت فى حياة أخرى أفضل إذا كان مؤمنا بهذا ، أو أن يحلم بعالم من الخيال يخلوا من الشر والخطيئة يمكن تحقيقه على الأرض حيث تصبح الحياة الدنيا أفضل ماديا وروحيا، ومن ثم فعليه أن يسعى لتحقيقه ، وإن لم يستطع فعليه إذن أن يعتقد فيما يشاء من الأساطير والخرافات، التى تفسر له ما يدهشه، وتعطيه ما يريده من أمان وآمال، وهو إذ يفعل كل هذا فهو يختار الحل السهل والمريح ،بدلا من مواجهة الظروف الشاقة والمرعبة التى يعانيها ، وبدلا من النضال من أجل تغييرها ..وهو الأمر المشروط بفهم الواقع فهما صحيحا.‏‏
‎‎       فالإنسان العاجز والمستسلم  فى المجتمع الطبقى ، بدلا من أن يبحث عن التفسير لكل ما يدهشه عبر العلم فهو يلجأ للتفسير الخرافى بدلا من التفسير العلمى ، بالطبع أن العلم لا يعنى فهم نهائى هو مستحيل فى الحقيقة ،بحكم العجز البشرى الدائم على معرفة كل أسرار الواقع اللانهائى فى مداه و اللانهائى فى تغيره ، وإنما المطلوب فقط فهم صحيح يتلخص فى النظرة العلمية الصحيحة للعالم ،أو بمعنى آخر تبنى المنهج العلمى فى فهم الواقع ،مادام التفسير الشامل والمطلق هو وهم هزلى لا يمكن تحقيقه على مستوى العلوم المختلفة، وخصوصا فى ظل الظروف المشار إليها فيما سبق.‏‏
‎‎          نعم سيظل الإنسان هكذا حتى يأمن من الخوف ، وتتحقق أحلامه فى الحياة الأفضل ،ويجد تفسيرا علميا صحيحا لكل ما حوله من ظواهر تدهشه ، ولاشك أن مجابهة الخوف والأمل والدهشة بالعلم الذى هو فهم الواقع من خلال تغييره منهجا وحقائق ، وبالعمل الذى هو تغيير الواقع عبر فهمه وسائلا وممارسة ، سواء أكان هذا الواقع هو الطبيعة أو المجتمع .هو الحل والأمان والتفسير الصحيح ، وكم هو حل رائع ،وروعته هذه تكمن فى أنه واقعى وعملى وممكن وفعال وحى ، وإن كان لا يحوز روعة الخيالات المستحيلة والوهمية والمثالية والميتة وغير الفعالة.‏‏
‎‎      إن الأزمات النفسية والاجتماعية تعتصر الإنسان فى المجتمعات الطبقية السلطوية وخصوصا المجتمع الرأسمالى ، فتزداد مخاوفه وقلقه الدائم على مستقبله وحياته المعرضة للاهتزاز والضياع فى أى وقت ويزداد إحساسه بالغربة والتفرد والوحدة حتى ولو امتلأت حياته بالعلاقات الاجتماعية المشوهة ، والتى فى حقيقتها لا تختلف عن علاقات السوق ،فالكل فيها يتحول إلى سلع تتصارع فيما بينها ،وبلا رحمة فى حمى مجنونة لاستهلاك سلع أخرى بشرية وغير بشرية ،وتلهب ظهورها رغبات لا تنتهى فى الاستهلاك فيما يتجاوز الضرورات الطبيعية له.
       ولأن أسلوب الإنتاج الرأسمالى خاصة يؤدى إلى بروز عدة ظواهر لا يستطيع لها فهما أو تفسيرا ،ويخاف من بعضها ويأمل فى بعضها ،مثل الركود والرواج ،الكسب والخسارة،النجاح والفشل،العمل والبطالة ،التآمر والتآمر المضاد.كل هذا فى عالم تتواتر أحداثه بسرعة واستمرار ، وناهيك أيضا عن أزمات العمل والدراسة والأسرة والشارع والتى يواجها إنسان مقهور زائف الوعى ومغترب ، وأمام كل هذا فليس له من خيار سوى بين طريقين مادام فردا وحيدا فى تلك الغابة البشرية ، هما إما أن يفهم قوانين الغابة ويتعامل معها فيصيب النجاح ويصبح أحد وحوشها ،أو لا يستطيع التعامل معها سواء رفض أم قبل ،فيصبح أحد فرائسها.‏‏
‎‎      كل هذه المظاهر تجد سببها فى أسلوب الإنتاج الرأسمالى نفسه سواء أكان تقليديا أم بيروقراطيا، وبالتالى فأن استمرار لجوء الإنسان فى العصر الحديث كما فى العصور التى سبقته لأشياء مقدسة فى زمن لا مقدس فيه واقعيا إلا المال آله المجتمع الرأسمالى بلا منازع.والهروب لأفكار وجماعات تعطيه الأمان والأمل والفهم حتى ولو كانت فاضحة الزيف ..لأوهام تعطيه تفسيرا للعالم من حوله حتى ولو كان تفسيرا غاية فى السذاجة برغم كل التطورات العلمية . يصبح أمر مفهوما مادامت كل هذه الخرافات تحقق إشباعه الروحى .‏‏
‎‎       كما أن هناك أسباب أخرى لسيادة خرافية التفكير برغم التقدم العلمى التى لا يمكن فصلها عن الممارسة البشرية جماعية كانت أو فردية ..وهى  أن 12%من البشر مرضى نفسيين وعقليين يبلغ الفصاميون منهم النصف كما أشار بذلك تقرير منظمة الصحة العالمية سنة 1999،كما أن هناك 3%معاقون ذهنيا أى أن معدل ذكائهم العام دون ال70 ، وهناك بالطبع من يقتربون من هؤلاء سواء فيما يقترب من الخلل النفسى والعقلى والسلوكى فى الشخصية أو فى درجة الإعاقة الذهنية ، و إن لم يصلوا إلى حد المرض أو الإعاقة الذهنية .والمقياس الذى يقيس معدلات الذكاء العام لدى البشر لا يقيس معدل الذكاء الاجتماعى أو النفسى لديهم واللذان قد لا يتطابقان بالضرورة مع معدل الذكاء العام للفرد وهو ما يفسر تورط الأذكياء فى الإيمان بالخرافات ، وأخيرا فهناك فيض متزايد من مدمنى الخمور والمخدرات والمكيفات عموما والتى يؤثر الإدمان على قواهم العقلية.‏‏
‎‎       وبجانب كل هؤلاء ينتشر منحطو الأخلاق الذين لا هم لهم إلا المكاسب الشخصية على حساب الآخرين وبأى وسيلة يستطيعوها ومنها بالطبع الخرافات ، سواء أكانوا دجالين بشكل مباشر أو مجرد مروجين للخرافات عبر وسائل الإعلام والثقافة .وعلى الجانب الآخر يوجد الضحايا من السذج من ضعاف العقول أو المضطربين نفسيا أو عقليا المندفعين بإرادتهم الحرة نحو هؤلاء ،والقادرين على الدفاع عن غفلتهم بشتى الحجج . ‏‏
‎‎       إن كل ما ذكرته من عوامل هى بعض عوامل انتشار الأوهام والخرافات والأساطير ،وعدم زوالها من المجتمع البشرى برغم التقدم العلمى الهائل ،وذلك لوجود فصل بين ما يطبقه الإنسان فى حياته العملية من منجزات العلوم والإيمان بحقائقها ،وبين ما يؤمن به من خرافات ،لا تتفق وروح العلم ،انطلاقا من نظرة نفعية وانتهازية لكل من العلم والأساطير.‏‏
**********
البديل
         كانت و لا تزال تلك القيود تكبلنا،وتحرمنا من الحرية والتقدم والعدل والمساواة والسعادة،حقا لقد حققنا من التقدم على هذا الطريق الشىء الكثير ،بفضل هذا التحرر النسبى من تلك القيود ،والذى ما تحقق إلا بفضل تلك القدرة المحدودة التى اكتسبناها للتمرد عليها ،حقا لقد تجاوزنا حيوانيتنا بما تشمله من غرائز وعواطف وإن لم ننفها ،وعرفنا الأنا العليا والضمير والعلم والفلسفة والأخلاق والقيم والمثل العليا،وباختصار سرنا على درب الحضارة التى هى قصتنا منذ تركنا الوحشية وإلى الآن ،وقد تنازعنا منهجان متناقضان فى التفكير والسلوك ،أحدهما كان يدفعنا قدما للأمام على الطريق،والآخر إن لم يستطع أن يدفعنا للخلف فكان ولا يزال يعرقل تقدمنا .وكان ما وصلنا إليه من نقطة فى رحلة لا نعرف متى تنتهى ،هو محصلة نهائية لتفاعل المنهجين سواء أكان هذا التفاعل صراعا أم امتزاجا، بتلك الدرجة أو تلك.نسمى المنهج الأول بما يشمله من خصائص المنهج العلمى ، و نسمى الثانى بما يشمله من خصائص بالمنهج الخرافى أو الأسطورى.‏‏
‎‎      والمنهج العلمى لم يتشكل مرة واحدة كما لم يكن كذلك المنهج الخرافى ، وإنما كان نشوءهما وتطورهما عمليتين عبر الزمن وصلتا إلى ما وصلتا إليه الآن من تطور فى هذه اللحظة الزمنية التى نعيشها ،إلا أننا لا يمكن أن نتنبأ بما يمكن أن يؤول إليه الأمر فى المستقبل ،فالمغامرة الكبرى التى بدأها الإنسان لم تنته بعد ،بل تشير بعض المؤشرات أن الإنسان على شفا تحول خطير فى رحلته التطورية العظيمة بما يمكن أن يحققه من انتصارات واكتشافات تتيح له سيطرة أكبر على الطبيعة ،والمزيد من التقدم على مستوى الكيف وليس الكم فحسب.‏‏
‎‎        وعند هذه النقطة من الرحلة يحتاج الإنسان لنوع جديد من الفلسفة ،لنوع جديد من الإجابة على الأسئلة الكبرى التى ما وجدت الفلسفة إلا لاكتشافها.‏‏
‎‎       و لا أزعم مطلقا أنى قادر بأى حال أن أقدم هذه الإجابة ،وإنما كل ما أحاوله هو مناقشة كيفية الوصول للإجابة. ‏‏
‎‎        أعتقد أننا إزاء كل هذا فى حاجة لنوع من فلسفة العلم ، ولنوع من فلسفة الحياة لتحقق إشباع الاحتياجات الإنسانية المرتبطة بالنوع الإنسانى التى كانت ولا تزال تشبعها الميتافيزيقا كأحد الخطوات الهامة نحو تغيير الواقع إلى الأفضل‏‏
‎‎        فالعلم قد حل أو يحل فعلا محل الفلسفة فى معظم مباحثها الباقية ،ولم يبقى لها سوى الميتافيزيقا (المبحث الفلسفى الذى يبحث فى طبيعة ما وراء الواقع المادى) والتى آن لها أن تذهب إلى الجحيم ،فلم يجنى منها البشر إلا الحصرم وقبض الريح .أما العلم فقد جنى منه البشر كل ما قد حققوه من تقدم مادى وفكرى ومعرفى ،وكل ما حققوه من تحسن فى ظروف حياتهم وكل ما قد توصلوا إليه من تفسيرات مؤكدة أو يمكن تأكيدها.‏‏
‎‎        وأما ما أقصده من العلم بالتحديد .فهو التراكم المعرفى المتزايد الذى يحصل عليه البشر من أجل فهم الواقع المحيط بهم طبيعيا كان أم اجتماعيا ،وفهم الإنسان لنفسه باعتباره جزءا من هذا الواقع ..وهى العملية التى تحدث عبر التأثير المتبادل بين البشر والواقع المحيط بهم . ‏‏
‎‎        فالمعرفة هى نتاج الاحتكاك المتبادل بين البشر والطبيعة أثناء عملية العمل .والتى نرصد من خلالها الظواهر المختلفة للواقع ونقوم بالتجريد النظرى لها ،ونفسرها بشتى مناهج البحث العلمى المعروفة ،والذى يوحدها على اختلافها شروط عامة هى الموضوعية والواقعية ..الخ. ‏‏
‎‎        أعتقد أن المعيار الوحيد للحقيقة التى هى هدف العلم الأول هو الممارسة العملية ولكن ليس بالمعنى البراجماتى ،ولكن بمعنى أن اقتراب نظرية علمية من الحقيقة ،يعنى قدرتها الأعلى على التفسير الأفضل للواقع من بين نظريات أخرى متنافسة فى تفسير نفس الظاهرة ، وأن المحك الوحيد المقبول هو استخدامها عمليا فى التنبؤ الصحيح بتطورات الظواهر،وقدرتها على التأثير فى الأشياء التى تكون الواقع .هذه هى الحقيقة الموضوعية التى تهم كل من يودون تغيير الواقع وإحداث المزيد من التقدم فى رحلة الجنس البشرى التى بدأها منذ تجاوز حدود الحياة الوحشية إلى حالة الحضارة .تلك الحقيقة الموضوعية هى ما يحصل عليها البشر فعليا فى حياتهم الواقعية وليس عبر التأملات النظرية.‏‏
‎‎         فلينس البشر وإلى الأبد أنهم وأرضهم مركز هذا الكون .وعليهم أن يعلموا علم اليقين أن وزنهم بأى معنى موضوعى أو تاريخى بالنسبة للوجود هو شىء أقرب ما يكون للصفر.وأن الحقائق الموضوعية التى من الممكن أن يحصلوا عليها هى من الضآلة بحيث لن تجعلهم قادرين على الوصول للحقيقة المطلقة للكل. للمجرد بالمعنى الفلسفى أو لأى تفسير مؤكد لما وراء الواقع ، و بالتالى فعليهم التخلص من المذاهب والأنساق الفكرية الجامعة المانعة الشاملة التى تزعم أنها المعبرة عن الحقيقة المطلقة..والفكرة المطلقة.والتى تجد فيها الإجابة عن كل سؤال . والتى لا تترك شاردة و لا واردة و إلا فسرتها .‏‏
‎‎         إلا أن البشر بالمعنى العلمى يصلون فعلا لحقائق مطلقة جزئية هنا وهناك ،وأنهم يقتربون من حقائق مطلقة أخرى ،ويصلون لحقائق نسبية أيضا ، وأنهم يحققون تراكم معرفى ثبتت جدارته بالممارسة العملية ، وهو ما يقربهم من فهم أوسع للواقع بشكل تدريجى .وهم يجردون ويعممون الظواهر الواقعية فى نظريات وقوانين.إلا أن الفهم العلمى للواقع ليس هو الفهم المطلق الجامع الشامل الكلى القدرة.‏‏
‎‎         وهو فهم عليه التخلص تماما من أحادية الجانب التى ألاحظ أنها السمة المميزة لمعظم الإنتاج الفكرى والعلمى حتى عهد قريب .فكل الأشياء التى تكون الوجود وكل العمليات التى تشكل جوهرها وكل الظواهر الناتجة عن هذه العمليات ،هى من التعقيد وتعددية الجوانب والمستويات ،مما يجعل الوصول لحقيقتها مشروط بعدم الاكتفاء إطلاقا بالنظر إليها من أحد هذه الأوجه والجوانب وفقط .فهذا لن يؤدى بنا إلا لحقائق جزئية أو نسبية.وهذا ينطبق أيضا على أحادية السبب ،فالنتيجة الواحدة قد تكون لسبب أو آخر.أو لتفاعل مجمل شروط وأسباب متعددة.كما أن نفس السبب قد يؤدى لنتائج متعددة.‏‏
‎‎         تتميز فلسفة العلم عن فلسفات التأمل الميتافيزيقى ، بأنها تبحث عن ما يميز العلم باعتباره كذلك عن شتى أنواع الوعى البشرى (الأيديولوجية،الدين،الفن)على سبيل المثال،وكذلك البحث عن الخصائص العامة التى لا ينفرد بها فرع من العلم عما سواه،وإنما تجدها متجسدة فى قوانين وحقائق العلوم المختلفة،ولا أقصد بالطبع قوانين الجدل الثلاثة الشهيرة،هذه الخصائص هى ما يمكن الوصول إليها من خلال عملية التجريد لحقائق العلوم المختلفة.‏‏
‎‎        فإذا كان الوجود هو كل ما هو مستقل عن وعينا به ،وهو فى حقيقته أشياء موضوعية تدركها العلوم المختلفة ،كل فى مجال تخصصها واهتمامها وبحثها .إلا أن هذه الأشياء التى تكون ذلك الوجود على تنويعاتها المختلفة ،وبالرغم من هذا التنوع ،هى عمليات متبادلة ومترابطة بين أشياء أخرى ،فالوجود سلاسل متشابكة من العمليات التى تشكل جوهر الأشياء الواقعية ،فأى شىء من أشياء الوجود مرهون وجودا وعدما بالعملية التى تجرى بين مكوناته أو بينه وبين أشياء أخرى .وهذه العمليات هى التى تتجلى لنا فى مظاهر مختلفة ندركها من خلال حواسنا وامتدادها من أجهزة ،لتنعكس أخيرا فى عقولنا فى صورة وعى.‏‏
‎‎         فالفقرة السابقة هى تجريد ينتمى للعلم ،وتمت من خلال رصد الحقائق الموضوعية ،وهو ما يمكن اختباره بالممارسة العملية ،إلا أنها فى نفس الوقت لا تنتمى لفرع من العلم دون سواه،وإنما تنتمى للعلم باعتباره كذلك ،فهى أشبه ما تكون بالتجريد الرياضى منها بالتجريد الميتافيزيقى.هذا النوع من التجريد هو ما أقصده بفلسفة العلم.‏‏
‎‎          أما عن فلسفة الحياة والتى أرى أنها مسألة فى غاية الأهمية ،ذلك لأن غياب إجابة موضوعية عن كيف يحقق الفرد سلامة النفس ويضمن لنفسه سعادة حقيقية فى ظل مجتمع مريض يدفع ببنيته وعلاقاته الداخلية أفراده إلى التشوه والمرض والتعاسة ، وفى ظل غياب الفرصة لتغييره بالفعل فأنه يدفعهم للهروب إلى عالم الخرافة والأسطورة والخيال. وهو تفسير ظاهرة انتعاش وصعود الغيبيات والخرافات فى شتى بقاع الأرض،رغم كل ما حققه البشر من تقدم علمى ،وأن هذه الظاهرة بفروعها الصوفى والسياسى والعلاجى ،لا توجد فى البلدان المتخلفة فحسب أو الأوساط الغير متعلمة على نحو كاف ،و إنما تنتشر فى البلدان المتقدمة ،وفى الأوساط المتعلمة بل والعلمية أيضا وهى تحول دون إمكانية تغيير الواقع الاجتماعى الحالى بكل ما يمثله من تدهور ، حيث تقدم تلك المخدرات بديلا عن تغيير الواقع بالفعل بالهروب إلى عالم الخرافة والأسطورة والخيال. فلا العلم ولا فلسفته بكافيان للقضاء على الخرافات والأساطير ، طالما استمر الاغتراب والتشيؤ ملازما للوجود الإنسانى . وهى الظواهر الناتجة عن نمط الإنتاج الرأسمالى والتسلطى السائد السائد والبنية الاجتماعية الطبقية الحالية .فضلا عن الأسباب الأخرى المعروفة اجتماعية كانت أو فردية.‏‏
‎‎     إلا أن هذا الاحتياج لهذا النوع من الفلسفة سيظل ضروريا مهما تغيرت الأنظمة الاقتصادية الاجتماعية،لارتباط هذا الاحتياج بالنوع الإنسانى فى حد ذاته. فسيظل البشر إزاء كل: من الموت والمرض والفشل والرغبات المكبوتة والآمال المحبطة والخوف والجهل والدهشة ،أسرى نوعهم الحيوانى، اللهم إلا إذا تغيرت هذه الطبيعة.ومن ثم فسيظلون فى احتياج دائم لفلسفة من فلسفات الحياة تعينهم على المقاومة والتجاوز ليس عبر الأساطير والخرافات والأوهام العصابية .وإنما عبر فهم علمى للحياة الإنسانية. واعتقد أنى توصلت لإجابة ما بهذا الشأن ليست نهائية بالطبع تتلخص فى أهمية تجاوز الذاتية و والخروج من أسرها إلى الموضوعية ،وتحقيق المعنى للحياة عبر نمط حياة مغاير لنمط الحياة المغترب .والتحرر من عبودية الأشياء ، ورفضنا كوننا مجرد أشياء ، وأن نحاول أن نحقق علاقات أكثر عقلانية على أن يتم ذلك على نحو جماعى متمرد على نمط الإنتاج الرأسمالى والوعى البورجوازى السائدين ، و التمسك بسمات المنهج العلمى فى السلوك وطريقة التفكير على المستويات الفردية والجماعية والعامة والخاصة .
        وعلى العموم فأنى مازلت أفكر فى إجابة قوية ومتكاملة لهذه الإجابة الفلسفية ،والتى لا يجيب عنها علم النفس مثلا والذى لا يهتم سوى بالمرضى والمضطربين نفسيا وعقليا أما الإنسان السوى فلا سبل أمامه إلا النضال ضد أسباب الاغتراب للقضاء عليها أو الاستسلام للغيبيات لو شاء الحل السهل ، ولهذا الإٌنسان السوى تتوجه فلسفة الحياة بالإجابة .ليصبح أكثر قدرة على مقاومة الاغتراب والتشيؤ برغم استمرار أسبابها.
        ولا شك أن هذه الإجابة لابد وأن تؤسس على حقائق العلم ،وألا تتضمن تشويها للواقع أو تبشيرا بأى أوهام غيبية .وإنما المسألة تقتصر على كيف نفكر ونسلك على نحو يضمن لنا السلام النفسى ، ويعنى كيف نفهم الواقع على النحو الصحيح وهذا يتضمن فى الالتزام بالمنهج العلمى والمنطق العلمى فى التفكير وفهم حقائق الواقع عبر العلم والعلم وحده والسعى وراء زيادة هذا الفهم وتعميقه ،وأن نسلك وفق هذا الفهم من أجل تغيير الواقع لنحصل على أقصى ما يمكن من الحرية والسعادة الحقيقيتين وهما ما لا يمكن الحصول عليهما عبر أنماط الحياة القائمة على استغلال وقهر الآخرين أفرادا وجماعات وما لا يمكن الحصول عليهما عبر العبودية سواء للبشر أو للأشياء. بل عبر نمط مختلف للحياة قائم على التعاون الطوعى فيما بين البشر لتلبية احتياجاتهم الجماعية،نمط يتحرر فيه البشر من العبودية بكافة أنواعها .‏‏
‎‎         ولا شك أن التاريخ البشرى يزخر بفلسفات من هذا النوع تحولت عبر الأيام إلى أديان كالبوذية والكونفوشوسية والطاوية اللواتى انزلقن بدورهن إلى عالم الأوهام والخرافات ،كما حاولت الوجودية وبعض مدراس اليسار الجديد أن تفعل ذلك إلا أنها أيضا أخفقت فى تقديم تصور واضح ومتكامل ،وأخفقت فى أن تنقذ الغالبية الساحقة من البشر من تداعيات مجتمع الاستهلاك المريض من الانزلاق إلى الخرافية.
       




#سامح_سعيد_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - مجتمع الاستهلاك
- كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - غسيل العقول
- تهنئة بالذكرى الأولى لإطلاق الحوار المتمدن فى وجهه الزمن الر ...
- كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - فيض المعرفة اللامتناهى
- كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - البداية والتمهيد
- مقدمة وخاتمة كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
- رسائل و ردود
- الفصل الثامن من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتم ...
- الفصل السابع من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل السادس من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الخامس من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الرابع من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الثالث من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الثانى من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماع ...
- الفصل الأول من كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى ...
- اللاسلطوية والصحة العقلية
- ملاحظات على التجربة
- لاسلطوية نجيب محفوظ
- نقد اشتراكية الدولة
- لماذا تحولت للاسلطوية؟


المزيد.....




- اغتيال بلوغر عراقية شهيرة وسط بغداد والداخلية تصدر بيانا توض ...
- غالبية الإسرائيليين تطالب بمزيد من الاستقالات العسكرية
- السعودية.. فيديو لشخص تنكر بزي نسائي يثير جدلا والأمن يتحرك ...
- صحيفة: بلينكن سيزور إسرائيل الأسبوع المقبل لمناقشة صفقة الره ...
- الديوان الملكي يعلن وفاة أمير سعودي
- الحوثيون حول مغادرة حاملة الطائرات -أيزنهاور-: لن نخفض وتيرة ...
- وزارة الخارجية البولندية تنتقد الرئيس دودا بسبب تصريحه بشأن ...
- أردوغان يقول إن تركيا ستفرض مزيدا من القيود التجارية ضد إسرا ...
- وزير الدفاع الأمريكي يشكك في قدرة الغرب على تزويد كييف بمنظو ...
- مشاهد للوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير قبل لحظات من ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامح سعيد عبود - ‎‎‎‎كتاب تقدم علمى تأخر فكرى - النفس القلقة والمريضة والمتعبة