أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مجدي الجزولي - ماهية فوضى الغوغاء















المزيد.....

ماهية فوضى الغوغاء


مجدي الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 1281 - 2005 / 8 / 9 - 12:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


فجعت البلاد أيما فجيعة بمصرع الدكتور جون قرنق المفاجئ أياماً قلائل بعد أداءه القسم نائباً أول لرئيس الجمهورية و ذلك وفقاً لنصوص إتفاقية السلام الشامل. الأحداث التي أعقبت وفاة «البنج» (1 – 3 أغسطس 2005) صدمت الرأي العام المحلي و الدولي و اطلقت المخاوف من احتمال انهيار مجمل مشروع السلام السوداني مما حدا بمجلس الأمن إلى إصدار بيان يوم الأربعاء 3 أغسطس يحث فيه السودانيين على إلتزام الهدوء و التمسك بإتفاق السلام. و قد مال الرأي إلى تبرير أحداث العنف و التخريب بهول المصيبة و روح الإحباط و الشك التي سادت بين جموع من المواطنين الجنوبيين الذين علقوا آمالاً عراض على التغيير السياسي قيد الحدوث، و شكل موت قرنق بالنسبة لهم إنقطاعاً لتوقعات و طموحات منتظرة.

كما تمادت غوغاء اليوم الأول في العنف كذلك ردت غوغاء مناوئه الفعل برد فعل مماثل و أخذت القانون بيدها مما رفع حدة التوتر في شوارع الخرطوم و أحياءها، فكانت حصيلة المواجهات من الجانبين 130 قتيل و مئات من الجرحى وفقاً لإحصاء الصليب الأحمر الصادر يوم الخميس 4 أغسطس. أصدر رئيس الجمهورية بياناً طالب فيه الشعب بالصبر و ضبط النفس كما أعلنت الحركة الشعبية مراراً أن مقتل قرنق كان بسبب حادث و ليس عملاً مدبراً. برغم تأكيدات الحكومة و الحركة لم تتوقف أحداث العنف في اليومين الثاني و الثالث بل ولدت ديناميكية ذاتية، مما يحيلنا إلى البحث عن جذرها الإجتماعي في إطار أوسع لا ينتهي عند الشكوك الناتجة عن موت د. جون قرنق.

خلفت الحرب الأهلية السودانية تركة ثقيلة من النازحين في كل مدن السودان، مصابهم متعدد الأوجه، إقتلعتهم الحرب من مجتمعاتهم المحلية و حطمت الأساس المادي لوجودهم، و من ثم قذفت بهم إلى أطراف الحواضر لا يجمعهم أي كيان إجتماعي سوى ما توفره المدينة من جمع المعدمين المتفكك. في هامش المدينة طور النازحون أنماطاً خاصة للمعيشة داخل معسكرات للإيواء أصبحت بمرور الوقت «غيتو» كبير يجمع في لجته عوامل إنفجار متعددة، إذ أن غيرية اللغة و العرق و الدين و الثقافة تغذي محنتها ضغائن القتال و التشريد لم تجد في المدينة بنية إقتصادية و إجتماعية تساعد في الإندماج. على العكس أصبحت المعسكرات المسرح المفضل لعمل المنظمات الإنسانية و الهيئات الخيرية الدولية منها و المحلية و هي و إن صدقت النوايا و رغم الخدمات المباشرة التي تقدمها لا توفر حلولاً جذرية لأوضاع النازحين، بل قد تساهم حتى في إطالة أمد حالة النزوح و صد مبادرات الشرائح المتقدمة من النازحين أنفسهم للإندماج في المجتمع الجديد.

في عهد الثمانينات شهدت ضواحي أم درمان نزوحاً كثيفاً من بادية كردفان و دارفور بسبب الجفاف و المجاعة، لكن تمكن هؤلاء تدريجياً من إيجاد موطئ قدم و مصدر رزق و تحولت معسكراتهم مع الزمن إلى إمتداد طبيعي للمدينة، كما نشأت حركة تجارية مزدهرة في المنطقة. عند مقارنة أوضاع هذه المجموعة مع حال النازحين من جحيم الحرب في الجنوب يتضح أن عدة عوامل حالت دون تطبيع ظروف نازحي الحرب المعيشية، في مقدمتها التغييرات العميقة التي طالت سوق العمل و سياسات التشغيل، حيث غاب عن فكر و إهتمام موجهي الدفع الرأسمالي أن إطلاق يد السوق وفق قاعدة العرض و الطلب لا يستقيم و المسؤوليات الإجتماعية للدولة، فمن كان أمياً و غير مدرب و لا يعرف حرفة أو مهنة حتماً لن يجد عملاً يتكسب منه في قطاع خاص فضل الإعتماد على العمالة الأجنبية لحسن تأهيلها من حيث التدريب و المهارة في المقام الأول و لسهولة ضبطها و التحكم فيها بما هي أجنبية، ما يتطابق و إعتماد الربح هدفاً أوحداً للنشاط الإقتصادي. أما النشاطات الصغيرة المدرة للدخل فتشترط قاعدة مالية للإنطلاق، لا تتوفر لمعظم النازحين، و من استطاع منهم الإفلات تكبله شروط منافسة رأسمالية تقسو يوماً بعض يوم بسبب نمو الإحتكارات الكبيرة في التجارة و الخدمات و فتح الباب على مصراعيه للإستيراد السلعي و لرأس المال الأجنبي بالإضافة إلى التعاظم اليومي لقائمة الضرائب و الرسوم و الأتاوات الحكومية، ما نتج عنه محاصرة القطاع غير الرسمي و هو المنفذ المعيشي الوحيد أمام مجموعة كبيرة من سكان المدن بينهم النازحين. من زاوية أخرى لعبت العزلة الإجتماعية التي فرضتها عوامل الثقافة و اللغة و الدين دوراً في إستطالة حالة النزوح التي وطدها ثالوث الفقر و الجهل و المرض فتحولت المعسكرات إلى «غيتو» مركب. النتيجة النهائية أن نسبة عظيمة من نازحي الحرب تحولت بفعل هذه العوامل المتكاملة إلى طبقة من العناصر المنبوذة و المتفسخة تجمع صغار المجرمين و المنحرفين و العاطلين المزمنين و غير القابلين للتشغيل، مما يجعلهم عرضة لكل تحريض ديماغوغي خاصة العرقي منه، و ذلك لإنفراط كل أواصر الإنتماء الإجتماعي عدا ما يلصق بالمرء من خاصة عرقية. بالتالي فإن أي دعوة للعنف الجماعي ضد الغير المستقر تجد صدى و استجابة، بالذات على خلفية الصراع و التفكك الإجتماعي، و للسودان منه نصيب يمتد في تاريخه الحديث منذ فجر الإستقلال عالق بطبيعة الحال في الذاكرة الجمعية، مع الإنتباه إلى أن جل النازحين إما ضحايا مباشرين للحرب أو مقاتلين سابقين من الجهتين.

بالمقابل فإن كلفة الحرب من القتلى و الجرحى و المعاقين شملت كل بيت و كل أسرة في الشمال السوداني و بإلتهابها الأخير في عقد التسعينات أذاقت الجميع طعم فجيعتها، فتعاظمت بالتالي عقد الهوية و أصبحت شأناً ملموساً مشخصناً و لم تعد مجرد قضية للحوار أو شكوى من فرص الإزدهار الإقتصادي المهدرة بسبب تمرد بعيد في أحراش الجنوب، خاصة و الإنقاذ لم تترك طبلاً للحرب إلا و قرعته. على أية حال تركت (شبْكَة) الإنقاذ أثراً لا يمكن التقليل من شأنه في وعي السودانيين بأنفسهم شماليين و جنوبيين حيث تقلصت طاقة التسامح و القبول و التضامن، و ذلك من تراث السودان عبر قرون طويلة، أمام إنغلاق الهويات العرقية و الدينية. لذا لم يكن مستغرباً أن تصدر فتاوى تحرّم التعامل مع أفراد الحركة الشعبية بعد توقيع إتفاق السلام و بدء نشاط الحركة في المدن الرئيسية. كذلك لم يكن مستغرباً أن ينمو تيار إنفصالي بين مستعربي السودان، أخذ على عاتقه جمع كلمة (الشماليين) و تحفيزهم على المطالبة بتعديل إتفاقية السلام بما في ذلك شمول (الشمال) في الإستفتاء على وحدة البلاد، بسبب ما اعتبره الإنفصاليون الجدد تنازلات بالغة من (الشمال) لصالح (الجنوب).

الخلاصة هي أن استقطاب مقدر قد تبلور على خطوط العرق و الدين، طرفاه تصوران مانويان بإسم الشمال و الجنوب و ركيزته في الوعي ذاكرة جمعية حية تذخر بالضغائن - استقطاب يختلف كمياً و نوعياً عن الموروث من علاقات صراع و سلم بين المجتمعات في الجهتين الجغرافيتين، و هو بذلك دليل على هشاشة البنية الإجتماعية للتسوية السلمية في السودان و تهديد إجتماعي و ليس فقط سياسي لمستقبلها. لذا ليس من الحكمة الإكتفاء بسطور نيفاشا و ما نتج عنها من ترتيبات في هرم السلطة، و لا بد من إجراءات ملموسة لحفظ السلام بين الطرفين الإجتماعيين و من بينها حتماً مبادرة تشمل القوى الإجتماعية و السياسية لتطبيع أوضاع نازحي الحرب حسب إختيار حر يكفل لهم الحق في العودة إلى مناطقهم الأصلية أو البقاء حيثما هم، بجانب التمييز الإيجابي لعموم المتأثرين بالحرب بحيث يُستقطع من ميزانية التنمية المنتظرة التمويل الضروري لتوفير القدر الأساس من التعليم و التدريب للنازحين بغرض تصفية حالة «الغيتو» و إدماجهم في دورة الحياة المنتجة. في إتصال وثيق مع هذه المهمة لا بد من الصراع الفكري الفطن ضد التيارات الإقصائية على جانبي خط (الطَبـَشير) الفاصل بين جهتي البلاد و فضح دوافعها الذاتية و الإنتهازية، بالقدر نفسه يجب شرح الأسس الموضوعية و الملموسة للسلام و الوحدة و تجاوز محدودية الإنشاء العاطفي في هذا الصدد، حتى يعقل الناس القضايا و المهام الناشئة عن كلا الخيارين بدلاً عن المطروح من لجاج تبسيطي.

إذا كان من عبرة يستقيها أهل الشوكة في المؤتمر و الحركة من الأحداث الأخيرة فهي أنه لا سبيل و لا مجال لتنفيذ إتفاق السلام دون سند إجتماعي من الجماهير، و أن الإتفاق سيظل معلقاً في السماء إذا لم يعمل الشريكان على توسيع دائرة الإجماع حوله و تحويله إلى مكتسبات جماهيرية ملموسة من خلال إعتبار المطلوبات العملية للسلام و الإنتقال من الشمولية إلى الديمقراطية. ذات الحجة قد تفيد في حفز القوى السياسية السودانية على النضال بين الجماهير بدلاً عن إطلاق التصريحات من فوقها و العمل من أجل عقد المؤتمر القومي الجامع ليس بغرض زيادة النسب لكن بهدف توحيد إرادة الشعب و تنظيم صفوفه و الدفع بحركة الجماهير حول برنامج موحد للعمل ضمن بنوده: إتخاذ قرار سياسي بعودة المفصولين تعسفياً، تحقيق العدالة الإنتقالية، إلغاء القوانين الإستثنائية، إستقلال القضاء، قومية القوات النظامية و الخدمة المدنية، حرية و ديمقراطية و إستقلال الحركة النقابية، المساواة بين الرجل و المرأة في كافة المؤسسات و المرافق خاصة في الهيئات القيادية و مراكز صنع القرار، مراجعة سياسات الخصخصة. علينا جميعاً إدراك حقيقة تقول أن إنعزال القوى السياسية عن قواعدها الشعبية في وقت الأزمات و التحولات الإجتماعية يعني إخلاء الساحة للمهيّجين و المهرّجين من كل شاكلة، ما لا يأتي إلا بالبوار.



#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حفظ السلام
- بصدد خصخصة السياسة
- بصدد خصخصة الدولة
- في ضرورة الماركسية و المهام العالقة
- سلم تسلم
- بصدد الدين -الوطني- و السلطة -الإستعمارية-
- النخبة و الطبقة في الصراع السياسي السوداني
- صناعة الحرب و السلام
- في الإستعمار و الدولة الوطنية: تعليق على بعض من تراث عبد الخ ...


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - مجدي الجزولي - ماهية فوضى الغوغاء