أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - .زرادشت نيتشه - من الأخلاقي الأول الى اللا أخلاقي الأخير















المزيد.....


.زرادشت نيتشه - من الأخلاقي الأول الى اللا أخلاقي الأخير


عادل عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4532 - 2014 / 8 / 4 - 10:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


زرادشت نيتشه
من الأخلاقي الأول الى اللا- أخلاقي الأخير
عادل عبد الله

من هو زرادشت نيتشه ؟
هذا هو السؤال الذي كان نيتشه, يتمنى على أحدٍ أن يتقدم به إليه، يقول نيتشه: "ما سألني أحد، كما كان ينبغي على احد أن يفعل ذلك، عمّا كان يعنيه أسم زرادشت على شفاه اللا خلاقي الأول the first immoralist " (1)، ذلك، "لأن ما كان يمثله الطابع الفريد لهذه الشخصية الفارسية عبر التاريخ، يقع في الحقيقة، موقع النقيض التام لهذا الذي نحن بصدده من شخصية زرادشت..
فلقد كان زرادشت أول من رأى في الصراع القائم بين الخير والشر، الدولاب المحرك لعمل الأشياء, فضلا عن أن ترجمة الأخلاق ميتافيزيقياً، بوصفها قوة، وسبباً أولا، وهدفاً بحد نفسها، لهي من صنيعه.
لكن السؤال الحقيقي يقترح مسبقاً الطريقة الخاصة للإجابة عنه، لقد ابتدع زرادشت هذه الأخطاء الأكثر شؤماً، اعني الأخلاق، ومن ثم، كان يتوجب عليه أن يكون أول من يتعرف عليها بوصفها أخطاءه. لا بسبب من كونه وحده يمتلك أطول وأكثر تجربة عن الموضوع، من كل المفكرين، - فالتاريخ بكليته- هو – في الحقيقة- التفنيد التجريبي لنظرية ما يسمى )النظام الأخلاقي للعالم(،إن الأكثر أهمية هنا، هو أن زرادشت أكثر مصداقية من أي مفكر آخر، فتعاليمه، وتعاليمه وحدها تعتمد الحقيقة قيمة عليا، بما يعني، أنها النقيض لجبن’المثاليين’ الذي يعمدون إلى الفرار أمام الحقيقة. إن لزرادشت من الشجاعة ما يفوق بها شجاعة كل المفكرين مجتمعين.التكلم بالحقيقة، وإتقان الرواية، هذه هي فضائل الفارسية، هل فهمتموني؟ تجاوز الأخلاق لنفسها من خلال الصدق، وتجاوز الأخلاقي لذاته، ليحلّ في نقيضه- فيّ أنا- ذلك ما يعنيه اسم زرادشت على فمي."( 2)
والآن، ماذا يمكن أن يعنيه هذا النص الطويل لنا؟
أولا: إن العلاقة التي تجمع زرادشت بنيتشه هي علاقة ذات طبيعة أخلاقية، تضم الأخلاقي الأول، مبتدع القيم (زرادشت) والأخلاقي الأخير نيتشه، بوصفه محطّم القيم، ومن هنا يسمي نيتشه نفسه في النص "اللا أخلاقي الأول".
ثانياً: ثمة شخصيتان اثنتان تحملان الاسم (زرادشت) نفسه، فهناك أولا، زرادشت النبي، الواقعي، الشخصية التاريخية مؤسس القيم الأخلاقية، وهناك من بعد، زرادشت، (النبي) محطم القيم، الزرادشت الذي ابتدعه نيتشه ليتكلم نيابة عنه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت). أما عن العلاقة بين شخصية زرادشت التاريخي، و زرادشت نيتشه، فهي كما يقول النص "علاقة النقيض لهذا الذي نحن بصدده".
ثالثاً: لما كان زرادشت التاريخي، هو أول من ابتدع القيم، ورفعها إلى منزلة ميتافيزيقية، وكان مثل هذا الإجراء يمثل بداية الخطيئة ومصدر الشرور في العالم، بالنسبة لنيتشه، فان ما ينبغي على زرادشت التاريخي نفسه هو"أن يكون أول من يعترف بهذا الخطأ" ولأن زرادشت التاريخي لم يفعل ذلك، في الواقع، فان مهمة الاعتراف بالخطأ أولا، وتهديم كل القيم، من بعد، كان أن أناطها نيتشه بنفسه, أي بزرادشته الخاص، ومن هنا نفهم، معنى العلاقة الكامل، بين الأخلاقي الأول, زرادشت التاريخي, واللا أخلاقي الأخير، زرادشت نيتشه.
رابعاً: في حقيقة الأمر ثمة توّحد وتداخل بين الشخصيتين يتمثل بإكمال كل منهما لدور الآخر. إذ لّما كان زرادشت التاريخي، كما تحققنا من ذلك في المصادر التي تروي أحداث حياته – لم يعترف بخطأ ابتداعه للأخلاق ومن ثم سعيه ‘لي تهديم ما ابتدعه، فان مثل هذه المهمة قد أناطها نيتشه بزرادشته الخاص، به نفسه، كأن نيتشه يريد أن يشير إلى إمكانية إنقاذ "الواقع" من خلال عمل "المخيلة"، وهذه الفكرة تؤلف إحدى الركائز، المهمة لفلسفة نيتشه كلها.
خامساً: يتحدث النص، عن نظام أخلاقي للعالم، ممتد تاريخياً، من زرادشت إلى نيتشه، وهو التاريخ ذاته لا غير، التاريخ الذي يمثل زرادشت الحقيقي بدايته، ويمثل زرادشت نيتشه نهاية له، ولما كان هذا التاريخ الأخلاقي يمثل بالنسبة لنيتشه، تاريخ الأخطاء الأكثر شناعة في العالم، من جهة، وكان مبتدعه هو زرادشت الأول من جهة أخرى، فان أفضل واعلي عملية قلب لقيم هذا التاريخ الممتد بين الزرادشتين، هي تلك التي سيتولى زرادشت نفسه انجاز مهامها وهكذا، يسند نيتشه إلى زرادشته الخاص, مهمة قلب التاريخ الأخلاقي المشترك بين الشخصيتين وتغييره.
بقي أن نضيف في هذه الفقرة, القول، إن مهمة تغيير القيم وقلبها، حين يسندها نيتشه إلى شخصية اسمها "زرادشت" حصراً، لا شخصية أخرى سواها أبدا، فان معنى هذا فضلا عن معنى اعتراف الإنسان بخطئه, إن قيم الإنسان الأخلاقية لا يمكن لأحد سواه أن يغيّرها، أي أن قدر تغيير أخلاق الإنسان مسألة رهينة به وحده, لكونها قراره الخاص واختياره الحر، وهي المسألة نفسها، تلك التي مرت بنا خلال شرحنا لحكاية الراعي الذي تدخل الأفعى في فمه، فحيث عجز "زرادشت" في كتاب نيتشه عن إخراجها، أشار على الراعي أن يخرجها بنفسه، أي إن يقضم رأسها ويتلفه إلى الخارج، كعلامة على قدرة الإنسان تغيير مصيره بيديه.
سادساً: عندما يقول نيتشه في نصه, إن زرادشت أكثر مصداقية من أي مفكر آخر، وان تعاليمه هي النقيض لجبن المثالية الذين يعمدون إلى الفرار أمام الحقيقة فليس المقصود هنا باسم "زرادشت" زرادشت التاريخي، النبي، إنما المقصود على وجه الحقيقة، هو زرادشت نيتشه، أو نيتشه نفسه، لا لأن مثل هذا الفعل - قلب القيم والاعتراف بالخطأ- لم يحصل كفعل صادر عن زرادشت حسب، بل لان الحديث يدور عن "جبن المثاليين" الذين يعمدون إلى الفرار أمام الحقيقة، أي عن جبن كل المفكرين الذين تلوا النبي زرادشت التاريخي وآمنوا بتعاليمه، ثم لم يستطيعوا أن يفعلوا ما يعمد نيتشه هنا إلى فعله، على يدي زرادشت نفسه، إي على يدي نيتشه.
سابعاً: "هل فهمتموني؟" هذه هي العبارة التي يختتم فيها نصه، إنها تأتي بصيغة سؤال، يعقبه نيتشه بالإجابة عنه مباشرة، بقوله: "تجاوز الأخلاق لنفسها من منطلق الصدق" وتجاوز الأخلاقي لذاته ليحل في نقيضه- فيّ أنا- ذلك ما يعنيه اسم زرادشت على فمي.
تشير العبارة الأولى، إلى عملية تجاوز الأخلاق لنفسها غير أن عملية التجاوز هذه، تجاوز الأخلاق والأخلاقي لذاته، لم تنجز – كما يشير النص- من قبل الأخلاقي الأول، أي من قبل زرادشت التاريخي، إنما أنجزت من خلال حلول الأخلاقي في نقيضه، - فيّ أنا – أي من خلال حلولها في اللا-أخلاقي، في نيتشه نفسه، أو في زرادشته، الخاص، الذي يمثل هنا بوصفه، اللا-أخلاقي الأول، نقيض زرادشت التاريخي، مبتدع الأخلاق.

لكن, من هو زرادشت؟ الأول هذه المرة لا الثاني، زرادشت التاريخي الواقعي، لا النيتشوي المتخيل ؟
تحدثنا إحدى الموسوعات عنه، إذ تقول:
"انه ولد في اذربيجان، ثم انتقل إلى فلسطين واستمع إلى بعض أنبياء بني إسرائيل، ثم رجع إلى اذربيجان، ولما لم تطمئن نفسه إلى اليهودية، ارتدّ إلى الأديان الفارسية، وتشبه ولادته ونشأته ولادة ونشأة المسيح، فالله قد مازج روحه بلبن بقرة، شربه أبو زرادشت، فصار نطفة في رحم أمه، فقصدها الشيطان ليفسدها لكن أمه سمعت مناديا من السماء يخلصها، وعندما ولد تكلّم في المهد، وسمعه الحاضرون، وبما بلغ الثلاثين بعثه الله نبيا ورسولا، ونسبت إليه خوارق فهو يحيي الموتى ويبرئ الأعمى، وله كتاب "الأفيستا" AVESTA وشرحه "الزندافيستا، ZEND AVESTA.
ويقسّم العالم قسمين هما الروحي والجسمي، ويقسم الخلق إلى التقدير والضعف، والوجود إلى النور والظلمة، وأما الموجودات فينسبها إلى النور والظلمة معا، وإنها مفطورة على الخير والشر معا، والعالم صراع بين القوتين، وسينتهي بانتصار إله النور أو الخير، "أهورامازدا" في آخر الزمان ولذلك تسمى الزرادشتية أحيانا باسم "المازدية" وأطلق عليها الإسلاميون اسم المجوسية، ويقال أن زرادشت مات مقتولا في السابعة والسبعين من عمره.( 3)
وبرجوعنا إلى المصدر الذي أخذت هذه المعلومات منه وهو "الزرادشتية، الفجر والغروب" لمؤلفه ( زيهينر، س. ) نعثر على المعلومات المهمة الآتية:
في مستهل كتابه – آنف الذكر- يقول المؤلف: لا يعرف المرء المتوسط الثقافة حتى في يومنا هذا شيئا عن زرادشت، سوى انه الناطق الذي استخدمه الفيلسوف نيتشه، ليعلن من خلاله عقيدته عن الإنسان المتفوق، ومع هذا لم يشوّه مفكر ديني عظيم بشكل أكثر فظاظة، مما تم به تشويه زرادشت، لقد شوّهه إتباعه الذين حجبوا مباشرة صفاء رؤيته التوحيدية، وشوّهه المجوس في الشرق الذين قدموه إلى العالم الروماني، اليوناني، ليس فقط كمبدع لديانة ثنوية قاسية، جعلت الخير والشر، قوتين رئيسيتين محوريتين متصارعتين ومتماثلتين في الأزلية، بل قدموه أيضا كساحر ومنجم ومشعوذ، وشوّهه الفيلسوف نيتشه الذي صاغ حوله تعاليم، لم تكن لترضي ذوقه أبدا.(4 )
ويبدو- كتعليق أولي لنا – إن صاحب الموسوعة الذي استحضرنا تلك المعلومات عن زرادشت من مصدره، لم يقرأ أو يطلع على ما استحضرناه هنا من مدخل الكتاب الذي اتخذه مصدرا لمعلوماته، إذ أن صاحب الموسوعة، يستحضر من المعلومات عن زرادشت، ما ينفي مؤلفه بالضبط إمكان نسبتها إلى النبي زرادشت، ومن هنا يمكن أن يضيف المؤلف "زيهينر" اسم صاحب الموسوعة، إلى القائمة التي تضم أسماء أولئك الذين شوّهوا شخصية زرادشت، إن اطلّع على ما دونه الدكتور الحفني في موسوعته.
أما قدر تعلق الأمر، بتشويه نيتشه لزرادشت النبي، بحسب ما يذهب الدكتور زيهينر لذلك، فيبدو انه هو الآخر، لم يطلّع على كتاب نيتشه "هذا هو الإنسان" تحديدا، الفقرة التي استحضرناها عن تفسير نيتشه لاستخدام اسم زرادشت بطلا لمؤلفه الأساسي.
إذ كما يبدو أن الدكتور زيهينر, مع افتراض عدم اطلاعه على ما ذكرناه، قد تعامل مع زرادشت نيتشه كواقعة حقيقية، تستحضر اسم النبي الزرادشت وتتكلم بلسانه وتعلن عن تعاليمه، وهو الأمر الذي لم يحصل بطبيعة الحال على نحو مطلق. المهم هنا، أن نستحضر من كتاب "الزرادشتية" بعض المعلومات الصحيحة عن حقيقة النبي زرادشت، لما في هذا الأمر من فائدة تؤدي بنا إلى انجاز غاية بحثنا في هذه الفقرة يقول زيهينر:
"يكون تاريخ زرادشت هو "588" ق.م وبإمكاننا أن نأخذ هذا التاريخ لنشير إلى النجاح الأول الذي حققته رسالته النبوية، عندما كان زرادشت في الأربعين من عمره، وهذا يتفق مع تاريخ مولده الذي كان في 628 ق.م كما يقول ثيودور بار كوناي، بحسب إشارة المؤلف في هامشه، وبما انه يقال عادة انه عاش سبعة وسبعين عاما، فلن نكون مخطئين كثيرا في تحديد تاريخه في الحقب الممتدة من عام "628" حتى عام "551" قبل الميلاد.( 5)
أما عن المكان الذي عُرف واستقر فيه زرادشت، "فمن المحتمل أن زرادشت كان احد مواليد الري في ميديا وانه فرّ من هناك إلى خوارسيميا، حيث وجد في النهاية نصيرا له في نشتاسب.(6 )
أما عن تعاليمه، فيمكن أن نورد التفصيل الآتي بشأنها: إذ يبدو أن القوة والعنف قد اجتاحا حياة الناس وان "الأذى يستهدف الناس والقطيع،، وان مأزق الثور الذي يجد نفسه بلا حماية في عالم من القوة.. استغاث روح الثور بكربٍ إلى الرب الحكيم "أهورا مزدا" وهو الذي يعد الإله الواحد بالنسبة لزرادشت... وسأل الثور قائلاً، لم خلقتني ومن خلقني، فالعنف والضراوة والقوة والرعب والقوة تحيط بي".( 7)
فأجاب الرب الثور، فيما أجابه "لقد خلقت هنا هذا الرجل فقط، الذي أصغى إلى أوامري، وهو زرادشت من سلالة اسبيمان".( 8)
بعبارات شارحة موجزة: ثمة حوار يدور بين الثور الذي أصبح هدفا للأذى، وبين الرب، "أهورا مزدا" يطلب خلاله الثور الحماية من الرب، فيكون "زرادشت" هو الشخص الذي عهد الرب إليه مهمة حماية الثور، "فيستغيث روح الثور برعب حقيقي وسخرية مخيفة عندما يعلم أن القوى العليا قد عهدت به إلى زرادشت، قائلا: فإذا هل ارضي بحامٍ ليست لديه أية قوة، وبرسالة رجل ضعيف.. وكان زرادشت عالما بضعفه أيضا وكم كانت المعارضة كبيرة لتعاليمه، حيث كان يشتكي لقيام قومه باضطهاده، لأنه لم يكن سيدا إلا على عدد قليل من القطعان والناس، بينما كان عدوه اقوي منه".( 9)
ويبدو في النهاية، أن هناك "شكاً بسيطاً بأن حالة حرب حقيقية نشبت بين الفريقين، بين زرادشت وبين حاميه وشتاسب من جهة أولى، وبين ما يسمون بإتباع الكذب... واعتمد زرادشت، مثل النبي محمد "ص" على قوة السيف لتنفيذ فعالية رسالته النبوية، ووصف زرادشت نفسه بأنه عدو حقيقي لتابع الكذب، ومؤيد قوي لتابع الصدق".( 10)

أيمكن لزرادشت نيتشه أن يكون هيراقليطس ؟

ما يهمنا من خلال ما تقدم كله هو:
أولا: إن الفترة التي عاش بها زرادشت، واشتهر, هي المدّة ذاتها التي عاش به هيرقليطس واشتهر أيضا.
ثانياً: إن فهم نيتشه لعدد من الديانات الشرقية، البوذية، والزرادشتية، كان فهماً سيئاً وصل إليه من خلال التشويه الذي مارسه المجوس على الديانة، ثم نقلوه إلى العالم- الروماني اليوناني، إذ لم يكن زرادشت النبي يؤمن بوجود إلهين احدهما للخير وآخر للشر، إنما كان موحداً كما مرّ بنا.
ثالثاً: إن زرادشت كان نبياً "ضعيفاً".
الأمر الذي يسمح لنا بالقول، إن التصور النيتشوي لعلاقة الزرادشتَـين الأول والثاني لم يكن صحيحاً إنما مؤسسا على الصورة التي عرضت بها الزرادشتية في أوربا.
لكن ورغم ذلك، كان موضوع السؤال عن حقيقة زرادشت موضع بحث، يقول الدكتور يسري إبراهيم: ونتساءل في البداية – من هو زرادشت نيتشه، ونقول مع داونهاوزر، انه نيتشه نفسه، فقد كتب إلى اوفريك عن الجزء الأول ’هكذا تكلم زرادشت’ مؤكدا انه يحتوي على ’صورة لوجودي’ وفي ’هذا هو الرجل’ يقرر انه يتكلم عن نفسه في ’فاغتر في بايروت, ولذلك فان النص حين يذكر اسم ’فاغنر’ نستطيع أن نستبدل به اسم نيتشه أو زرادشت، وفوق هذا فإننا لا يمكن أن نشك في إشارات زرادشت المتعددة إلى ماضيه في ’هكذا تكلم زرادشت’ وهي تلميحات إلى ماضي نيتشه نفسه، ونيتشه أيضا يسمي نفسه ’أبو زرادشت’ ويشير إليه باعتباره ’شخصا اقوي مني’ ".( 11)
ولكن لماذا يختار نيتشه نبياً ومعلماً دينياً, لفارس القديمة كقناع، والسؤال هنا لدانهاوزر أما الإجابة عنه، فهي:
إن "داونهاوزر يقدم عدة أسباب أخرى لاختيار نيتشه زرادشت كقناع، والسب الأول، إن اسم زرادشت نفسه حتميا ليعيد إلى ذاكرة القارئ الأوروبي، صورة الشرق ويعده لنقد التراث الغربي كله والسبب الثاني: انه بالكلام على لسان مؤسس العقيدة، يشير نيتشه أكثر من مرة إلى انه أكثر من فيلسوف تقليدي، والسبب الثالث إن اسم زرادشت يمثل نهاية مفاجئة, لجملة تبدأ بـ(هكذا تكلم زرادشت)لأن (هكذا تكلم) صوت توراتي استخدمه لوثر أحيانا في ترجمته الألمانية للكتاب المقدس والنهاية تصبح مفهومة بالنسبة لكتاب يبدأ بالتأكيد على, إن الإله قد مات، واختيار نيتشه لزرادشت اختيار ذو مغزى لأنه يشير إلى بديل للمسيح وفي نفس الوقت يحول دون وجود مثل له".( 12)
ربما أصبح القول الآن مهيئا لتثبيت النتيجة التي نعتقدها بشأن هذه المسألة، وعلى النحو الآتي:
أولا: إن التسويغ النيتشوي الذي مرّ بنا, لسبب استخدامه لاسم زرادشت، كان مقنعا تماما، ومنسجما مع سياق الفكر النيتشوي كله، بغض النظر عن مدى صدق وتطابق فكرته مع شخصية زرادشت النبي.
ثانياً: إن جميع التعاليم التي نطق بها زرادشت نيتشه، لا تمتّ بإيما صلة حقيقية مفترضة مع زرادشت التاريخي.
ثالثاً: إن جميع تعاليم زرادشت نيتشه الفلسفية، "الصيرورة، العود الأبدي، إرادة القوة، لعب الوجود" تلتقي على نحو كلي مع التعاليم الفلسفية لهيرقليطس، فضلا عن وجود جوانب مهمة نفسية وشخصية، تحظى بها شخصية زرادشت نيتشه، تتطابق مع شخصية هيرقليطس.
رابعاً: يمكن القول من خلال ما تقدم كله، إن زرادشت نيتشه، للأسباب التي ذكرناها من قبل نيتشه ودونهاوزر، يمثل جوانب مهمة وحقيقية، من إرادة نيتشه في تنفيذ أفكاره عبر اسم هذه الشخصية, غير أن التعاليم التي أعلنها "زرادشت" نيتشه هي تعاليم هيرقليطية على نحو مؤكد، ومن هنا يمكن القول إن سمات من شخصية زرادشت النبي، تتحد بسمات أخرى أكثر أهمية، من شخصية هيرقليطس، ليكون ناتج الشخصيتين، هو "زرادشت" نيتشه، أو على وجه الدقة، نيتشه نفسه. بعبارة جامعة إن زرادشت النبي، هو الشكل والجسد، وان هيرقليطس، هو المضمون والروح، وان المركب الناتج من اتحادهما، هو زرادشت نيتشه.
ولأن العنوان الجامع لفلسفة نيتشه برمتها، هو "هكذا تكلم زرادشت" حيث أتخذ نيتشه من كتابه هذا " إنجيلا في حياته، ولم تكن كتبه التالية إلاّ تعليقا عليه"( 13) وكان الكلام من خصائص الروح، فان الذي تكلم في فلسفة نيتشه هو، هيرقليطس على وجه الحقيقة، ومن هنا فالقول، "هكذا تكلم هيرقليطس" عنوانا لكتاب نيتشه، لا يعدّ مفارقا للحقيقة، بل هو العنوان الباطني الصحيح لكتابه، إذ يكون "هكذا تكلم زرادشت" عنوانه الظاهر.
بقي أن نضيف هنا : إن صلة الرحم الفكري هذه بين الفيلسوفين الكبيرين، هيرقليطس ونيتشه، إنما تحدث بين مدونة فلسفية تضمّ مئة وثلاثين شذرة أو عبارة فقط كتبها الأول، من جهة، وبين عدد من المؤلفات يربو على خمسة عشر مؤلّفاً كتبها نيتشه، من جهة أخرى، ومعنى هذا بدقة : أن ما تعامل مع نيتشه كان نصوصا هيرقليطية عاطلة عن الشرح والتفصيل والإفاضة، إنها مبادئ حسب أو بذور أفكار قابلة للإستنبات والتفتح .
ملاحظة : المقال القادم – ( هكذا تكلم هيراقليطس – في صلة الرحم الفكري والعاطفي بين هيراقليطس ونيتشه )


الهوامش
( 1)NICTZSCHE: ECCE HOMO, TRANSLATED BY CLIFTON P. FADIMAN, THE MODERN LIBRARY, NEWYORK P. 134- 135
(2 ) ibid.
( 3) الحفني، عبد المنعم: موسوعة الفلسفة والفلاسفة، ج1، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999، ص 686- 687.
(4 ) ر. س، زيهينر: الزرادشتية، الفجر والغروب، ترجمة د. سهيل زكّار، دار التكوين للطباعة والنشر، دمشق، ص 15.
( 5) زيهينر: الزرادشتية، ص 32.
( 6) المصدر نفسه: ص 33.
( 7) المصدر نفسه: ص 34.
( 8) المصدر نفسه: ص 34.
( 9) المصدر نفسه: ص 35.
( 10) المصدر نفسه: ص 36.
(11 ) داونهاوزر VIEW OF SOCRATES PP.241-242 نقلاعن يسري إبراهيم: فلسفة الأخلاق, ص 147
)12) دونهاوزر: ص 243 نقلا عن يسري إبراهيم: فلسفة الأخلاق ,ص148- 149-.
( ) ديورانت، وول: قصة الفلسفة ، ص 524.



#عادل_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شخصية هيراقليطس - من تحامل أرسطو الى تشويه النقاد العرب
- المطلق الهيجلي - إنقاذ مفهوم الله من التصور الديني اليهودي و ...


المزيد.....




- بيسكوف: نرفض أي مفاوضات مشروطة لحل أزمة أوكرانيا
- في حرب غزة .. كلا الطرفين خاسر - التايمز
- ارتفاع حصيلة ضحايا هجوم -كروكوس- الإرهابي إلى 144
- عالم فلك: مذنب قد تكون به براكين جليدية يتجه نحو الأرض بعد 7 ...
- خبراء البرلمان الألماني: -الناتو- لن يتدخل لحماية قوات فرنسا ...
- وكالة ناسا تعد خريطة تظهر مسار الكسوف الشمسي الكلي في 8 أبري ...
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 795 عسكريا أوكرانيا وإسقاط 17 ...
- الأمن الروسي يصطحب الإرهابي فريد شمس الدين إلى شقة سكنها قبل ...
- بروفيسورة هولندية تنظم -وقفة صيام من أجل غزة-
- الخارجية السورية: تزامن العدوان الإسرائيلي وهجوم الإرهابيين ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - .زرادشت نيتشه - من الأخلاقي الأول الى اللا أخلاقي الأخير