أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سامي فريدي - رجلُ أوجاع ومختبرُ الحزن















المزيد.....


رجلُ أوجاع ومختبرُ الحزن


سامي فريدي

الحوار المتمدن-العدد: 4465 - 2014 / 5 / 27 - 18:29
المحور: المجتمع المدني
    


سامي فريدي
رجلُ أوجاع ومختبرُ الحزن
يتساءل أحد أساتذة أوكسفورد -في مادة اللاهوت- إذا ما كان السيّد يسوع المسيح الناصري قد ضحك أو ابتسم خلال سنواته الأرضيّة. لمَ لمْ يذكر مؤرخو الأنجبل أن يسوع ضحك مرّة أو قال طرفة. بينما يؤكدون أنه بكى وأنه تعرّق دما وحزن. هناك أكثر من ثلاثمائة وستين نبوءة عن السيّد المسيح في كتاب التناخ العبراني، ليس بينها إشارة للضحك والابتسام. ونبوءة أشعياء النبي تؤكد حقيقة أخرى: ّ"رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَن"- (أش53: 3). لكن مصدر أوجاع السيّد وحزنه ليس في ذاته، وأنما فينا -نحن-! فهو يستطرد للقول:"لكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ"- (أش53: 4- 5).مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل قساوة قلوبنا والتصاقنا العنيد للتلذذ بالآثام. قال المعلّم للفريسيين والكهنة يا مرائين!.. قالوا له لماذا تكسر السبت؟. قال لهم السبت جعل لأجل الانسان، وليس الانسان لأجل السبت!. لم يقل لهم أنا هو ربّ السبت (مر2: 27، 28)، ولم يقل لهم أنه هو الكلمة الذي هم يكسرونه ويرذلونه. بنفس الطريقة نحن نتساءل لما السيّد لا يضحك؟!.
في (تك6: 5- 6) "انّ الربّ ندم وتأسف في قلبه أنه صنع الانسان. لأن كلّ تصورات قلب الانسان كانت شريرة"- حول هذا النص اعترض ذات مرة أحد الأخوة المسلمين، معتبرا أنه لا يليق القول عن الله أنه - ندم أو حزن أو تأسّف!-. كيف يقبل الأخ المسلم أن الله - يمكر ويضلّ ويكيد وهو خير الماكرين-، ولا يقبل أن الربّ يحزن بسبب شرور الانسان. الأولى أن يتفكر المرء في نفسه، ويراجع أفكاره ومشاعره وأفعاله ومشاويره، ليعرف كم منها يدين للشرّ، وكم منها يسيء لأخيه، وكم منها من قاموس الظلمة. وكم هو بعيد عن الحقّ!
يقول أحد الكتاب الانجليز أن عظمة لغته تتمثل في ثلاث كلمات: [sorry, thanks, please]. والسؤال هو كم مرّة قال أحدنا هذه الكلمات لربّه وسيّده السماوي. فالنور والدفء والماء والنفط والطعام النباتي والحيواني والأرض المنبسطة، والأخوة والاجتماع والصحة والذاكرة وكل الملكات والمميزات والنعم والملذات غير المعدودة هي من بركاته، بدون مقابل او سؤال. ومن جانبه يتعامل معنا بالمحبة والرعاية والمسامحة وطول البال والرحمة والحلم وو أشياء كثيرة، حسبناها حقا لنا وواجبا عليه!. الربّ لا يريدنا أن نكون عبيدا، لأن الأصل في العبودية هو عبودية الخطيئة، أي عبودية الشيطان. الله ليس إله عبيد، ولا يحبّ أعمال الشرّ. اولئك أضلّهم صاحبهم فحسبوا أنهم استعبدوا لله. أساءوا للربّ حين حسبوه طاغية جبّارا، واقطاعيا تسرّه رؤية الدم والظهور المنحنية. وهو يقول: "برؤية الشرّ لا أُسَرّ!"، "تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم!". ليس هو إله عبيد ولا إله أموات.أولئك تنقصهم معرفة الحقّ، معرفة الاله الحقيقي، ومعرفة حقيقة الإله. نسبوا له من الصفات والأسماء ما لا يليق بالبشر، ولا يقبلونه لأنفسهم، وهم حسبوا أنهم يمتدحونه ويمجّدونه. اختلط عليهم الحق من ابليس، والملاك من الجنّ، وكلّ حسبوه من الله!. إذا كان كلّ انبياء التوراة قد قصروا عن تقديم الكلمة للناس، حتى تنزّل الكلمةُ المبارَك بنفسه أخذا هيئة إنسان، ليخلّص الانسان من عبودية الخطيّة، فيسخر منه الناس، مفتخرين بالظلمة ورائحة الدم."مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ.رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ، وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ، أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟. وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ."- (أش53: 3، 7- 9). فماذا يضيف شخص جديد، إلا الارتداد والضلال.
لماذا يتمّ اختيار الذبائح والقرابين من الحيوانات الأليفة والمنزلية كالطيور والدجاج والخرفان والثيران؟، وهي مخلوقات أليفة نافعة ووديعة، ليس منها ما يؤذي أو يستكره. لماذا يجري استبعاد النسور والنمور والأسود والفيلة والديناصورات؟..
هل يتوقع أحد أن يظهر من بين الأشرار والقتلة مخلّص يحرّر شعبه من الذلّ والهوان؟.. هل يذهب الناس إلى صناديق الانتخاب ليختاروا أحد المجرمين والمشهورين بالفساد والدم نائبا أو رئيسا يتولى إدارة أمورهم وأمور بلادهم؟.. أم يختارون لاعب جمباز أو أكروبات ينقلهم من أيام الحزن إلى أيام الضحك والفرفشة؟.. علينا أن نعرف أولا ماذا نريد، وهل ما نريده نافع ومفيد؟.. وهل ما نريده يناسب ما نحن فيه؟.. اليهود اختاروا باراباس (ابن عباس) بدلا من يسوع المسيح!.. فكيف كان عاقبة اليهود بعد صلبهم المخلّص!.
لقد جاء يسوع المسيح في زمن كان متقدما ومتحضرا حتى بلغة أيامنا هذه، ولكن أهل الشرق الأوسط لم يكونوا متهيئين ثقافيا وعقليا لاستقباله!. لذلك قال: "أَصْغَيْتُ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنّي. وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي. قُلْتُ: هأَنَذَا، هأَنَذَا. لأُمَّةٍ لَمْ تُسَمَّ بِاسْمِي. بَسَطْتُ يَدَيَّ طُولَ النَّهَارِ إِلَى شَعْبٍ مُتَمَرِّدٍ سَائِرٍ فِي طَرِيق غَيْرِ صَالِحٍ وَرَاءَ أَفْكَارِهِ!."- (أش65: 1-2) ما أروع أفكار الكتاب المقدّس وأعمقها عندما نقرأها بعيون معاصرة، وذهنية ثقافية منفتحة!.. ما أعمق أزماتنا الاجتماعية التي يعود تاريخها عشرات القرون، ونحن نهرب منها أو نتجاهل أسبابها ومظاهرها وأبعادها التاريخية. هل كان يسوع ثائرا؟.. هل جاء محرّرا؟.. هل كان مصلحا؟.. هل كان مفكرا وقائدا؟.. نعم ونعم ونعم!. هل جاء نبيا ورسولا؟.. هل جاء لانشاء ديانة أو تدجين مجتمع؟.. هل سعى لتسخير الناس لخدمة نزعاته وأطماعه وتمجيد ذاته؟.. لا ولا ولا!.
من لا يعرف يسوع الناصري فلا يحكم عليه. ومن لا يؤمن به لا يشترك في زيادة جراحه. "مَجْدًا مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ، وَلكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ!. كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْدًا بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟"- (يو5: 41- 44)
كثير من الناس لم يعرفوا يسوع، ولكن يسوع يعرفهم جيّدا، يعرفهم أكثر من انفسهم. والكتاب ينقل شذرات من التشخيص الاجتماعي لعيوب الناس وتشوّهاتهم السّارية لليوم، -يمكن القراءة بغض النظر عن اللغة الدينية، فالأصل في العيوب يبقى اجتماعيا ونفسيا-!..
"شَعْبٍ يُغِيظُنِي بِوَجْهِي. دَائِمًا يَذْبَحُ لأصْنامه فِي الْحَدَائق، وَيُبَخِّرُ عَلَى الآجُرِّ. يَجْلِسُ فِي الْقُبُورِ، وَيَبِيتُ فِي الْمَدَافِنِ. يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَفِي آنِيَتِهِ مَرَقُ لُحُومٍ نَجِسَةٍ. يَقُولُ: قِفْ عِنْدَكَ. لاَ تَدْنُ مِنِّي لأَنِّي أَقْدَسُ مِنْكَ!. هؤُلاَءِ دُخَانٌ فِي أَنْفِي، نَارٌ مُتَّقِدَةٌ كُلَّ النَّهَارِ. هَا قَدْ كُتِبَ أَمَامِي. لاَ أَسْكُتُ بَلْ أُجَازِي. أُجَازِي فِي حِضْنِهِمْ، آثَامَكُمْ وَآثَامَ آبَائِكُمْ مَعًا قَالَ الرَّبُّ، الَّذِينَ بَخَّرُوا عَلَى الْجِبَالِ، وَعَيَّرُونِي عَلَى الآكَامِ، فَأَكِيلُ عَمَلَهُمُ الأَوَّلَ فِي حِضْنِهِمْ."- (أش65: 5-7)
المجتمعات التي رفضت يسوع المسيح ما زالت تتراجع وتقدّم ذبائح وثنية، وفي دائرة الشرق الأوسط من باب النذور أو التقرّب زلفى، بدء بالبلدان العربية -سنة وشيعة- إلى نيران ايران والهند إلى أقصى شرق آسيا. وفي ذلك يتنجس بعضهم من بعض وهم منغمسون في نفس الممارسات، السنّة والشيعة فيما بينهم، والمسلمون من السيخ والهندوس والبوذية، وأولئك كذلك فيما بينهم. كلّ منهم يقول للآخر: "قِفْ عِنْدَكَ. لاَ تَدْنُ مِنِّي لأَنِّي أَقْدَسُ مِنْكَ!." وهذه كلّها خارجة عن الزمن، وأمرها انتهى، إلا إذا كانت للأوثان. لأنّ هذه كانت سارية قبل السيّد المسيح " ولكنّه الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ."- (عب9: 26). والسيّد الذي قال على الصليب "قد أكمل!"، هو أيضا بعمله على الصليب قد دشّن عهدا جديدا (New Covenant) الذي به أيضا -قد أبطل الناموس!- وكلّ ما كان، مصدّقا لقوله المبارَك: " بالنعمة أنتم مبرّرون، بالايمان!". وقوله أيضا: "أريد رحمة لا ذبيحة!". فالايمان أفضل كثيرا وأنجى، من أعمال وثنية باطلة.
*
"لا كرامة لنبي في بلده"..
ألسنا نحن أيضا، أكثر ما يربطنا بأهلنا وبلادنا هو الألم والأوجاع، أليس الحسذ والبغضاء والشماتة والغدر هو ما يؤثث تراثنا الاجتماعي، ويدفعنا للهجرة بعيدا عن جغرافيا الشرق الأوسط، وعن تراثه الاجتماعي بجذوره البدوية المتخلفة!.. يسوع لم يهاجر طبعا. لكنه قال منذ البدء: "لا كرامة لنبي في وطنه وبين أهله وفي بيته!"- (مر6: 4). يسوع الذي حسبوه يهوديا عاش في الجليل، والذي سمّوه ناصريا احتفلت به السامرة ، والذي صلبته أورشليم التفت حوله كنعان. أفكار يسوع التي بذرها على طرق الشرق الأوسط داستها الأرجل ونثرتها الريح، ولكنها أزهرت وأينعت وأعطت ثمارا في أوربا، ساعدتها أن تكون هي المخلّصة والقائدة للبشرية بأفكارها ومدنيتها وقيم التسامح والقبول!!.. فعمل يسوع لم يذهب هباء، ولا يذهب سدى، ولكن الذين ينكرونه.
يسوع الذي أنكره اليهود في وقته، تعرض لرفض أقسى ومهانة أرذل من بعد من خلال الاسلام. فهو لم ينكر يسوع المسيح مباشرة، وانما بطريق موارَب. إذ أنكر صلبه زاعما أن الله استبدله على الصليب بشخص آخر -والله خير الماكرين-، وأنكر بنوّته المقدّسة زاعما أن الله بلا صاحبة أوولد، مسوّغا الصورة البيولوجية الجسدية، متناسيا أن الله روح وأن المسيح كلمة الله وروح منه، فكان في الأمرين يشيع سخرية ورذلا. وبتكذيب السيّد تسبّب في إعادة الناس للطقوس اليهودية والوثنية التي تجاوزها الزمن!.
إذا كان أهل الحضر فعلوا به ما كان، فكيف كان فعل الأعراب والبدو. يقول شاعر عربي (مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الهَوَانُ عَليه)!.. هكذا فهم العرب صورة يسوع المسيح الناصري الخارجية، وغفلوا عن سلطانه الخارق ومعجزاته التي لم يسبقه أو يلحقه أحد إليها. لو كان يسوع قائدا عسكريا لتبعه كثيرون، وخضعت لصيته الأمصار. لوكان اباد مدنا وأحرق بشرا، لرفعوا صوره في كلّ مكان وسمّوا أبناءهم على اسمه، وعبدوه من الخوف. لكنّ السيّد جاء ليخدم (فعل مبني للمعلوم) لا لكي يُخْدَم (بالمبني للمجهول)، تواضع حتى أخذ صورة عبد، وبذل نفسه من أجل أحبابه. جاءيصلي من اجل الناس ويغفر لهم، وليسيطلب من الناس أن يصلّوا -عليه- ويطلبوا له الغفران!.. جاء ليعطي حياة، ويخلّص ناسا من يد الهلاك. فكان للناس أن ترذله وتهينه. منتظرين شخصا يحمل نياشين نحاسيّة وسيوفا يلمع نصلها في حرّ الظهيرة، تبذل له فروض الطاعة والخضوع والعبودية. لهذا أيضا تفتتح الحكومات الجديدة عهودها بحفلات اعدام جماعية، وتستمر بعض البلدان في اقامة عروض عامة للتعذيب والتقطيع، لكي يستمرّ عهدها في الحكم.
*
رجلُ اوجاع ومختبرُ الحزن..
في كلّ عائلة أو جماعة بشريّة يوجد شخص -مختلف!-.شخص فرد. يتميز عن إخوته ورفقته، لا يشاركهم لهوهم واهتماماتهم، ربما يميل للتأمل و - التوحّد- أو تحاصره الالام والمآسي، وقد يكون محبوبا لاتضاعه وتنازله المستمرّ، أو يكون موضع سخرية وازدراء. والانجيل ينقل لنا صورة عن نظرة إخوة السيّد المسيح إليه، "وَكَانَ عِيدُ الْيَهُودِ، عِيدُ الْمَظَالِّ، قَرِيبًا. فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ: انْتَقِلْ مِنْ هُنَا وَاذْهَبْ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، لِكَيْ يَرَى تَلاَمِيذُكَ أَيْضًا أَعْمَالَكَ الَّتِي تَعْمَلُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي الْخَفَاءِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَلاَنِيَةً. إِنْ كُنْتَ تَعْمَلُ هذِهِ الأَشْيَاءَ فَأَظْهِرْ نَفْسَكَ لِلْعَالَمِ!. لأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: إِنَّ وَقْتِي لَمْ يَحْضُرْ بَعْدُ، وَأَمَّا وَقْتُكُمْ فَفِي كُلِّ حِينٍ حَاضِرٌ. لاَ يَقْدِرُ الْعَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ، وَلكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا، لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ. اِصْعَدُوا أَنْتُمْ إِلَى هذَا الْعِيدِ. أَنَا لَسْتُ أَصْعَدُ بَعْدُ إِلَى هذَا الْعِيدِ، لأَنَّ وَقْتِي لَمْ يُكْمَلْ بَعْدُ."- (يو7: 2- 8). فرغم الغرض غير المريح من كلام الأخوة، جاء ردّ السيّد عليهم بهدوء ونقاء، وكأنه لا يشمّ رائحة السخرية والشماتة فيهم. والعبارة الأخيرة التي يختم بها البشير يوحنا سفره غنية ومذهلة، تترك للقارئ مساحة للتأمل إلى ما لا نهاية.. "وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ، إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ. آمِينَ."- (يو21: 25). العبارة التي تخطر لي هنا، هي كم من الأذى والهزء لقى السيّد من الناس، وهو يجول ويعمل خيرا. وإذ كان ينتقل من مدينة إلى مدينة ومن قصبة إلى قرية، كم من المدن والقرى والقصبات رفضت استقباله، والأخرى التي طردته منها. لا يورد الكتاب -كالعادة- غير إشارات متفرقة منها. (مر5: 17)
كم هم أولئك الذين كذّبوه والذين لم يؤمنوا به، والذين آمنوا به ثم تركوه، اتبعوه ثم هجروه.." مِنْ هذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ. فَقَالَ يَسُوعُ لِلاثْنَيْ عَشَرَ: أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا تُرِيدُونَ أَنْ تَمْضُوا؟."- (يو6: 66- 67). فالسيّد الذي بلغ عدد اتباعه السبعة آلاف شخصا، مرّ بظروف لم يتبقّ له غير الأثني عشر، فيعطيهم الحريّة أن يذهبوا وشأنهم!. كم مرّة حصل ذلك؟.. كم احتمل إذن من الذين جاء يعتقهم من ربقة ابليس، وكيف ردّوا عليه وارتدّوا، بينما استمرّ هو على محبته لهم، وغفرانه وخدمته.
"وَلَمَّا كَانَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِاسْمِهِ، إِذْ رَأَوْا الآيَاتِ الَّتِي صَنَعَ. لكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ. وَلأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ."- (يو2: 23- 25). فالمعرفة المسبقة هنا تتحول إلى مصدر عبء وسبب حزن وسبيل مواجهة مع الذات. الانسان نفسه لا يعرف ما يفعل، وكيف يغير موقفه أو يتراجع أو يعمل السوء بعد حين. بينما السيّد ينظر إليه ويرى ما وراء الزمن، ويتعامل بشكل عاديّ ، دون أن يخذل أو يفضح أو يرفض!.
هؤلاء الناس المميّزون الذين يجمعون بين النجاح المهني وصفاء القلب والخذلان الاجتماعي أو (سوء الحظّ) هؤلاء أمثلة جزئية وشهود مختارون للسيّد المسيح. فالربّ لا يترك نفسه من غير شاهد!.. وشهوده في كلّ زمان ومكان. شهوده ليس فقط الكون والنجوم وعلامات الأزمنة، ولكن شهوده أيضا بين الناس. هذا الشاهد المختار هو صاحب الجين الذي يحمل كلّ الخصائص الوراثية للعائلة بخيرها وشرّها، وكلّها تعمل في حياته وجسده. في كلّ شخص تغلب جينات أبوية أو أموية على الشخص. بينما هؤلاء يجمعون بين الاثنين وبنفس القوة، وبأكبر نسبة من الاجتماع. هل من تبرير علمي لهذه الظاهرة؟.. يقول الكتاب المقدّس عن ذلك: "وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا."- (أش53: 6). في حياة كلّ شخص أخطاء وخطايا، ولكن ليس كلّ الاشخاص يعمل معهم قانون العدل الطبيعي بشكل دقيق وملحوظ. وكثير من الأشرار ينعمون بحياة مُرَفّهة، ومجرمون كثيرون لا تنكشف جرائمهم للمجتمع او القضاء. الرأي السائد عرفا أو دينيا أن حسابه سيكون في الحياة الثانية. لكن الناس لا يلاحظون أو يدركون أن العقاب وانعكاسات الأفعال تكون من جنس الفعل وفي زمنه. وقد لا يشعر الشخص أنه دفع قصاص أفعاله. لكن القصاص أو الدينونة مهما كانت لا تكون كاملة، فهل تستكمل من خلال شخص آخر متبرّع بحسب طبيعته - المازوشيّة!-، ناهيك عن الجزء النهائي في الحياة الأخرى.
هذا الفرد المميّز، المتفوق والمُعذّب هو (رجل الأوجاع ومختبر الحزن)، -حمّال الأذيّة- بحسب أغنية فائزة أحمد. هذا الشخص هو أيضا سبب بركة لعائلته او المحيط المقيم فيه، والخادم الذي كثيرون ينتفعون بخدماته.ولكنه هو نفسه، لا يكاد يأخذ شيئا أو مجدا لنفسه. هو محفوظ من الشرّ ويحظى برعاية طبيعية كاملة، ولكن ليس بالمستوى الذي يحتسب ترفا. فهو لا يتجاوز زهده، وقناعته الطبيعية تكفيه عن حاجات كثيرة تستغرق سواه.
*

هناك تصنيفان في العموم للناس: ميّالون للغرور، وميالون للتواضع. خادمون لنفسهم، وخادمون للمجتمع. وقسْ على ذلك. ويكاد يكون هذا نوعا من التقسيم الطبيعي الذي يصعب التدخل فيه. هذا التصنيف دالة أخرى على مبلغ التفاوت بين الناس، ليس على الصعيد العقلي والجسدي وانما النفسي والروحي أيضا. لذلك يحتاج المجتمع للتكامل بين أفراده وامكاناته لتأمين الحدّ المطلوب من الانسجام أو القدرة على الاستمرارية. والمجتمعات التي تنهار وتنقرض هي التي فقدت درجة التنوع والتفاوت المطلوبة لاغناء واقع التكامل. كذلك المجتمعات التي تعاني من الفوضى والانقلابات العنيفة والعنف الداخلي هي ضحية فقدان التفاوت والتعاون و المعاملات الداخلية التي تضمن درجة التكامل المطلوبة. ان مجتمعات الكراهية هي في طريقها للانقضاض على نفسها والانقراض. المجرم دائما يبحث عن ضحية تسمح له بتنفيس طاقته التدميرية. الساديّة والمازوشّية عمليتان متداخلتان ومتقاربتان، تحتاج كلّ منهما للأخرى. غياب أحدهما يشكل صدمة للآخر العاجز عن تحقيق نزعته المرضيّة. اللصّ بحاجة إلى ضحيّة مناسبة تمرّر سرقاته، وكذلك كلّ المظاهر السلوكية والأنشطة البشرية الحسنة والسيّئة. فصل علماء النفس بين فكرتي القطبية والتكامل. لكن الظاهرتين توجدان في وقت واحد، ولا تغني احداهما عن الأخرى. هذا ينطبق على الغنى والفقر، والوفرة والحاجة، والرجل والمرأة. والاتجاه السائد -ثقافيا على الأقل- إلى اعتبار المرأة مساوية ومكافئة للرجل. أي الغاء القطبية. وثمة اتجاه نحو عقد زيجات مثلية، ترسخ حالة عزل التفاوت الجنسي. وهو أمر ضدّ التطور والنموّ الطبيعي، وبداية فعليّة لانهيار المجتمع البشري، ليس بالمفهوم الجنسي، وانما بالمفهوم الاجتماعي والحضاري. شيوع هذه المظاهر في أوربا، ينبغي أن يذكر بالتقديرات الفلسفية السابقة لسقوط الحضارة (كولن ولسن) أو بدء انهيارها (صدام الثقافات). وما يحدث اليوم، رغم الطفرات الالكترونية الظاهرة، إلا أنها تؤكد وتعجل انقراض الغرب اجتماعيا وحضاريا.
فهناك أزمات فوضى وتخلف في الشرق، وازمات تحلل حضاري وانقراض اجتماعي في الغرب. قبل ألفي عام أعلن يسوع المسيح الناصري بدء زمن جديد وحضارة جديدة، لم تلقَ القبول المأمول.. الكتاب المقدّس يتحدّث أيضا عن مرحلة ما بعد الرفض وتبعاته. المشكلة هنا أن البشرية لا ترتقي، لا تنتصر لذاتها او لعقلها، وانما هي تنقرض. وهي تنقرض بالانقضاض على نفسها وذاتها. هذه الحقيقة تحتاج أن يتنبه لها الفرد وهو يراقب مجتمعه. عندها يدرك أن العدّ التنازلي قد بدأ قبل أن يدري!. عندها يكفّ البرفيسور عن السؤال لم لم يضحك المسيح!، لأن لا أحد سيكون قادرا أن يتذكر أن يضحك، او يقدر عليه.



#سامي_فريدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هَذا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ..!
- يسوع .. حبّة الحنطة!..
- أعماله.. وأعمالهم..
- قالوا.. وقال..
- البارّ بين الأثَمَةِ
- الصَّلِيبُ عَثْرَةُ لِلنّاظِرِ
- خرستوس آنيستي.. آليسوس آنيستي
- سايكولوجيا الحرف- 18
- سايكولوجيا الحرف- 17
- سايكولوجيا الحرف- 16
- سايكولوجيا الحرف- 15
- ساسكولوجيا الحرف- 14
- سايكولوجيا الحرف- 13
- سايكولوجيا الحرف- 12
- سايكولوجيا الحرف-11
- سايكولوجيا الحرف -10-
- البنت.. البنت/ الولد.. الولد..
- سايكولوجيا الحرف- 9
- رسالة ثانية إلى مصر
- رسالة إلى مصر..


المزيد.....




- الرياضة الأكثر شعبية.. الأمم المتحدة تقرر 25 مايو -يوما عالم ...
- الأمم المتحدة: لا نستطيع إدخال المساعدات إلى غزة
- بدول أوروبية.. اشتباكات واعتقالات مع توسع الاحتجاجات الطلابي ...
- للتعامل مع طالبي اللجوء.. الشرطة الأميركية تستعين بالذكاء ا ...
- أمريكا تدعو إسرائيل إلى اعتقال المسؤولين عن مهاجمة قافلة الم ...
- الجمعية العامة للأمم المتحدة تصوت الجمعة على عضوية فلسطين ال ...
- الجمعية العامة للأمم المتحدة تصوت الجمعة على عضوية فلسطين ال ...
- النيابة التونسية -تتحفظ- على مدافعة بارزة عن حقوق المهاجرين ...
- تونس: توقيف رئيسة منظمة -منامتي- التي تناهض العنصرية وتدافع ...
- رئيس البرلمان التونسي: الادعاءات بالتعامل غير الإنساني مع ال ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سامي فريدي - رجلُ أوجاع ومختبرُ الحزن