أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - بن سالم رشيد - هل تحولت علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية إلى ساحة للشعوذة والهذيان؟















المزيد.....



هل تحولت علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية إلى ساحة للشعوذة والهذيان؟


بن سالم رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 4409 - 2014 / 3 / 30 - 15:12
المحور: الصحافة والاعلام
    


كنت أنتظر أن أقرأ ردا علميا على كتابات عزي عبد الرحمن. يقوم بتحليلها، وتشريحها ليكشف سطحيتها وعداءها للعلم. وطال انتظاري ولم أجد سوى بعض الردود المجاملة التي وئدت النقد والجدل في الثقافة العربية وتلك المنبهرة " بالنور" الذي يسطع منها فأعماها عن رؤية تناقضاتها وتخريفها. لذا وجدت نفسى مضطرا لنقد ما كتبه عزي ودحضه لعل بعض القراء الذين سماهم الكاتب انطوان فرح "النبت الجديد"، في كتابه الموسوم: ابن رشد وفلسفته، والذي نشره في 1903، يقرؤون هذه السطور ببصيرة بعيدا عن العاطفة الدينية الجياشة. وقد اعتمدت في كتابتها على بعض ما كتبه عزي ذاته والحوار الذي أجراه معه أحد مريديه (1) وهو يكفي لاستشفاف ما يفكر به، ويجنبنا أي اتهام بالتحامّل عليه أو تقويله ما لم يقله.
وقبل أن نفتح المجال لعزي عبد الرحمن ليشرح لنا طريقته في النظر إلى وسائل الإعلام بنفسه، يجب التنبيه إلى أن المرء يحتار أن يضعه. هل يضعه في صف علماء الاجتماع باعتباره خريج علم الاجتماع بشهادة دكتوراه من جامعة أمريكية قدم فيها أطروحة حول البنيوية. أو يضعه في مصاف استاذة الإعلام بحكم عمله؟ وبعد مناقشة كتاباته يكتشف القارئ أن لا لوجود للشيخ في الجبة. فلا أثر في هذه الجبة لعالم الاجتماع، ولا يوجد في الجبة ذاتها عالم في الاعلام والاتصال من نوعية الأساتذة الذين سنشير إليهم في هذا المقال. وما كتبه في الإعلام لحد الآن هو عبارة عن تهويمات متناقضة يحتفي بها المنافحين عن مقولة :" الإسلام هو الحل"، خاصة بعد أن نشر دراسته المعنونة :( الإعلام الإسلامي: تعثر الرسالة في وقت الوسيلة.) (2) لقد وجدوا فيه الفاتح في مجال أسلمة علوم الاعلام، وحجتهم الدامغة في رفع شعار الإعلام الإسلامي هو الحل.
قد يقول أحد مريديه أن عزي عبد الرحمن تبرأ من مفهوم الإعلام الإسلامي في الحوار ذاته الذي اعتمدته مرجعا لهذا المقال. بالفعل، لقد عارض وجود إعلام إسلامي. لكن السؤال المطروح هو كالتالي: متى فعل ذلك ولماذا؟ فتناقض مع ما جاء في مقاله المذكور؟ هل دفعه نضجه العلمي لمراجعة ما كتبه في السابق؟ لا أعتقد ذلك لأن ما كتبه لاحقا ينطلق من التصور ذاته دون مسمى " الإعلام الإسلامي". إن قراء عزي يعرفون أن المقال المذكور كتب في زمن كان فيه الجميع يصدح بالإعلام الإسلامي. وهو الزمن الذي اكتسح فيه الاسلام السياسي الشارع الجزائري، وبدأ التدافع للاقتراب منه طمعا في منصب سام أو لضمان لقمة العيش. لكن الآن، بعد أن أصبح الإسلام السياسي تهمة وحتى جنحة، وفعلا منبوذا ومحاربا عالميا ارتعدت فرائص عزي عبد الرحمن خوفا لأن الأمر يتعلق بمصدر الرزق. فراح يتبرأ، في أكثر من مقام، من مضمون المقال المذكور. فيا للشجاعة التي تجعل المفكر يحجم عن نقد ذاته، ويكتفي بنفي ما كتبه في السابق دون أن يقول أنه كان على خطئ!
قد يتهمني البعض بأنني ابتعدت عن النقاش العلمي حول ما كتبه عزي عبد الرحمن، وانصرفت للنبش في مواقفه. فليطمئنوا سأعود إلى موضوعي الأساسي .
يُعرف عزي عبد الرحمن خصوصية كتاباته بأن ما يبحث عنه هو شيء من الفكر الاعلامي وقد يكون فيه بعض الفلسفة أيضا. (3) فليطمئن عزي عبد الرحمن فلا يوجد عاقل يتهمه بـــــالتعامل مع الفلسفة ليس من باب ايمانه بأن من تمنطق تزندق فحسب، بل لأنه ينظر إلى الفلسفة باعتبارها مفصولة عن الفكر. وينظر إلى الفكر مفصولا عن الواقع، إذ يقول في هذا الصدد:( الكمال يكون في عالم الافكار أما الواقع فيشوهها ويلونها بألوان شتى.) (4)هكذا بجرة قلم يبعد عزي عبد الرحمن الواقع عن التفكير!. فبجرة القلم ذاته يقر بأن عالم الأفكار كامل- ربما عزي لم يسمع طيلة حياته بوجود أفكار خاطئة أو غير كاملة وقد صححت لاحقا أو تم تفنيدها - ولإثبات ذلك يؤكد أن الفكر منفصل عن الواقع وإن اقترب منه شوهه ولونه. ومعنى هذا الكلام بالعربي الفصيح، إن الأفكار التي أدت إلى المبكرات العلمية ووضع قوانين علمية، مثل قانون الجاذبية، ليست لها أي صلة بالواقع! ليس هذا فحسب، بل يدعو كل من يريد التفكير إلى نفي نفسه، والنأى بذاته عن الواقع حتى لا يشوه فكره. فهل يوجد أستاذ فلسفة في أي مدرسة ثانوية في المنطقة العربية يسمح لأي تلميذ بأن يهذي بمثل هذه السفسطة؟ لعمري حتى الدرويش، الذي هاجر الديار واعتصم بقمم الجبال، وقطع صلته بالعالم الخارجي لا يتجرأ على ذكر هذا الكلام حتى لا يتهم بالجنون. لكن عزي عبد الرحمن لا يقوله فقط، بل جعل منه ريادته العلمية. وهل نزلت نظريات الاتصال كالوحي على المنظرين أم أنها ولدت من رحم البحث الأمبريقي المضني؟ بالمناسبة هل سمع عزي عبد الرحمن بأداة البحث التي تسمى : الملاحظة بالمشاركة، التي تحرك عملية التفكير في موضوع البحث وتهيكله. فما المقصود بها؟ ربما فهم أن الملاحظة بالمشاركة هي هجرة الواقع! في حين أن أفذاذ الباحثين طوروها على الصعيد النظري والممارسة العملية وأسموها: " موضعة المشاركة Participant Objectivization. (5
لكن هل يوجد شيء يسمى الفكر الإعلامي وإن أوجده عزي بحكم أنه "علامة"، فما المقصود به؟ هل هو الفكر الذي يطفح من منتجات وسائل الإعلام؟ هل هو فكر المؤسسات الإعلامية إذا افترضنا، تجاوزا، أنه بإمكانها أن تفكر خارج ما تنتجه من مواد إعلامية؟ وهل يقصد به فكر جمهور وسائل الإعلام، وكأن لهذا الجمهور فكر يميزه عن غيره ؟ وهل هو تفكير القائمين بالاتصال؟ هل يُقصد به التفكير في وسائل الإعلام؟ لا نجد في كتابات عزي عبد الرحمن اجابة عن هذه الأسئلة، بل توجد محاولات للتهرب منها. ربما يقصد بالفكر الإعلامي التفكير في وسائل الإعلام. لكن هذا التفكير يأخذ منحنيين: منحى فلسفي. وهنا يظل يحتفظ بمسماه : الفلسفة التي يتغير موضوعها حسب الاهتمامات والسياقات، ومنحى معرفي وتسمى أكاديميا "ابستمولوجية الإعلام والاتصال". ويوجد العديد من جهابذة الأساتذة في مجال الإعلام في العالم ألفوا في هذا المجال وكتبوا عنه- ( أنظر قائمة بعض الباحثين الذين كتبوا عنه) (6) . وكتاباتهم منشورة باللغة الانجليزية، والفرنسية والإسبانية، وبعضها القليل باللغة العربية. وقد أدرج معهد الصحافة في تونس، وكلية الإعلام في الجزائر تدريس هذا العلم. ربما عزي عبد الرحمن لم يطلع علي القائمة المسرودة أسفله أو لم يسمع بها أو يتهرب منها لأنها تتحدث عن الواقع وهو يخشى أن يشوه فكره! وربما يسمع ببعضها وتفاداها لأن اجتهاده كما يقول لا يتم من داخل المحيط الأكاديمي وإنما من خارجه إلى حد بعيد. (7) لذا يعتقد أن خروجه عن الاجماع الأكاديمي العالمي يشفع له بتغرير من لا يملك معرفة في مجال نظريات الاتصال، وبعض طلبته الذي يقول عنهم ( لقد وجدت فهما أكثر لهذه النظرية ( أي نظريته) في أوساط الطلبة وخاصة من درسوا عندي مغربا ومشرقا في الدراسات العليا). (8) إذا، يحق لعزي كتابة ما شاء من حماقات لأنها موجهة أصلا لأشخاص لازالوا في مرحلة الدراسة الجامعية. ولا يهمه رأي زملائه من الباحثين العرب والأجانب في العلوم الإعلامية والإنسانية بصفة عامة. ربما تجنب النظر إلى ما كتبه الباحثون لأنه يتحاشى التعاطى مع مواضيعه بالمفاهيم الامتثالية كما يقول. فالفكر الإعلامي هو مفهوم غير امتثالي! لكن هل ابستمولوجية الإعلام مفهوم أو مبحث معرفي؟ فإذا كانت ابستمولوجية الإعلام لدى عزي عبد الرحمن مفهوما فإن علم الجغرافيا مفهوم، أيضا، وليس تخصصا علميا قائما بذاته، شأنها شأن الرياضيات والفيزياء.
يقول عزي عبد الرحمن أنه يكتب من خارج المحيط الأكاديمي. أعتقد أن هذا الكلام بحاجة إلى توضيح. فهل يقصد أن كتاباته متحررة من شروط الكتابة العلمية- الأكاديمية، وهو الذي لا يتوان عن ابراز الشهادات والمناصب الأكاديمية التي تبوأها، أم يقصد أن كتاباته غير موجهة للجامعيين والاكاديمين ؟ ربما يريد عزي أن يبرر عدم الاعتراف بما كتبه في المحافل الأكاديمية سوى لدى بعض طلاب قسم الدعوة بجامعة الأمير عبد القادر الذين لا يعرفون من علوم الإعلام والاتصال سوى بعض المفردات أفادهم بها العلامة أبو جرة سلطاني، الذي تتلمذوا على يده في الجامعة المذكورة. والتي يمكن أن نذكر منها: الإمام، والمنبر، والمسجد، والآية الكريمة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ-;- مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( سورة الحجرات). وبعض المتعلمين الذين وصلتهم شذرات من متون علوم الإعلام عن طريق السمع. ولم يقرؤوا أعمال أبرز المفكرين والباحثين المعاصرين في علوم الإعلام في أوروبا وأميركا بسبب حاجز اللغة أو لتواضع مستواهم المعرفي الذي خانهم في فهمها. عندما يعترف عزي بأنه يكتب من خارج الوسط الأكاديمي فإنه يضع نفسه في موضوع ذاك المشعوذ الذي يدعي براعة في معالجة كل الأمراض وعندما يُسأل عن رأي الطب في نشاطه يقول أنه لا يشتغل في المستشفيات ولا يعنيه الباحثون في مجال الطب وممارسوه!
يتواضع عزي عبد الرحمن جدا في حديثه المذكور أعلاه، ولا يتحدث عما أنجزه، بل بشهر سلاحه ليعدم علميا من سبقوه في مجال البحث العلمي في حقل العلوم الإجتماعية في الوطن العربي، فيقول: ( وحتى المحاولات الميدانية فقد أنبنت على العينات القصدية لصعوبة اعتماد العينات العشوائية في المنطقة العربية لندرة قواعد البيانات أو غيابها، فنتج عنها التجزؤ والأخطاء المنهجية و"المضاربة" والتسرع في طرح الافتراضات. وأن هذه المحاولات لا تسمح بالتعميم في معظم الحالات) (9).
تفضح هذه الفقرة جهل عزي عبد الرحمن، عما يتحدث عنه. وأنه بعيد كل البعد عن منهجية العلوم الاجتماعية بصفة عامة وبحوث الإعلام والاتصال بصفة خاصة. ودليلنا على ذلك توجزه في النقاط التالية:
1- يبدو أن عزي لا يعرف الشروط الأساسية التي يجب أن تتوفر في العينة العشوائية حتى يتم اعتمادها في البحوث. لأنه لو كان يعرفها لقال أن استخدام العينات العشوائية ليس صعبا في المنطقة العربية فقط، بل في العالم بأسره تقريبا. ففي أي بلد في العالم تم استخدام عينة عشوائية ( سواء بسيطة أو منتظمة ) لدراسة جمهور القنوات الفضائية التي تبث لجمهور متناثر في القارات الخمس. أو قراء صحيفة ورقية وطنية في بلد شاسع يزيد عددهم عن مئات الآلاف أو مستمعي الإذاعات الدولية الذين يبلغ عددهم عشرات الملايين الموزعين في بقاع العالم؟
2- نلاحظ أن عزي لا يصف ما تم تحقيقه في المنطقة العربية ببحوث، بل يسميها محاولات للانتقاص من قيمتها وبخسها. ويؤكد أنها تتضمن أخطاء منهجية وضعفا نظريا. لكنه لا يقدم لنا ما يثبت ذلك من باب: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين... ولم يستعرض أي مثال يؤكد حكمه! لو أن عزي تواضع وقال إن البحوث التي سمحت له ظروفه بالإطلاع عليها هي التي مكنته من تقديم حكمه المذكور لقلنا هذه وجهة نظر، وكل إنسان حر في وجهة نظره حتى لو كانت خاطئة. أما أن يعمم حكمه على كل البحوث التي جرت في المنطقة العربية، فهذا يعني أنه يعرف كل مراكز البحوث الاجتماعية في كل قطر عربي من موريتانيا وصولا إلى اليمن، ومطلع على محاولاتها، كما يحلو له القول! فهل اطلع على نتائج البحوث الميدانية التي أجرتها جامعة ميشغن الأمريكية مع جامعات وباحثين عرب من مختلف الدول العربية ونشرتها تحت مسمى : Arab Barometer وشملت العديد من الدول العربية؟ إن المنطقة العربية شاسعة ولا يمكن متابعة كل ما يجري فيها من بحوث، فلنكتفي بالجزائر فقط، فهل سمع عزي عبد الرحمن بوجود مركزي بحث يملكان قاعدة بيانات منذ عقود من الزمن. واجريا بحوثا بالتعاون مع المراكز البحثية الأجنبية المرموقة، وهما مركز بحوث الاقتصاد التطبيقي من أجل التنمية، ومركز البحوث الاجتماعية والاقتصادية الذي ساهم الباحث الفرنسي بيار بورديو في إنشائه تحت مسمى " لارداس"؟ ثم هل اطلع عزي على مؤلفات بيار بورديو حول الجزائر في بداية الاستقلال بدءً بكتابه الموسوم سيوسيولوجية الجزائر، والصادر في 1958، مرورا بأزمة الزراعية التقليدية في الجزائر بالتعاون مع عبد المالك سيد والذي صدر في 1964 ، ووصولا إلى كتابه الموسوم: " العمل والعمال في الجزائر" والذي صدر في 1967. فبفضل هذه الأعمال دخل بيار بورديو عالم الكبار في علم الاجتماع إذ سمحت له بصقل مفاهيمه، مثل مفهوم " Habitus " الذي فتح النقاش العلمي حول التداخل بين الموضوعي والذاتي في العلوم الاجتماعية. وقد استند إليه جيل كامل من الباحثين في علم الاجتماع في دراسة مختلف الظواهر الاجتماعية في العديد من دول العالم.
هكذا، يسمح عزي لنفسه أن يحكم على أعمال بيار بورديو بأنها تتضمن أخطاء منهجية وضعيفة نظريا، وهو الذي استخدم مفاهيم بيار بورديو المستخلصة من هذه الأعمال دون الإشارة إليها، كما سنوضح لاحقا!
وهل أطلع عزي عبد الرحمن على أعمال عالم الاجتماع والأنثربولوجيا المرحوم جمال غريد الذي قضى حياته في الأحياء الشعبية الفقيرة، وفي المصانع، وفي قلب الريف الجزائري ليحاول أن يفهم المجتمع الجزائري. هذا الباحث الذي خاطب "أدعياء العلم"، أمثال عزي، الذين يهرفون بما لا يعرفون بالقاعدة التي أمن بها: إذا لم تقم بدراسة ميدانية وتعيش الواقع اليومي مع مجتمع بحثك، فلتخرس.
وهل سمع عزي عبد الرحمن بالباحث الاجتماعي الفذ وادي بوزار الذي أعد أطروحة دكتوراه في علم الاجتماع بعنوان: " الحل والترحال"- La pose et la mouvance والذي نشرها في كتاب يتألف من جزأين صدر عن الشركة الوطنية للطباعة والنشر- الجزائر- في 1982، وهو بحث ميداني ثري شخص فيه تمثلات البدو والحضر الجزائريين لمفهوم المكان والزمان؟ لقد أصبح هذا الكتاب من المراجع الأساسية في الحديث عن الثقافة الجزائرية. لو أطلع عليه عزي لأخرجه من اللغو والثرثرة والحديث السطحي والساذج عن الثقافة الجزائرية ووضعه فوق أرضية صلبة أرساها الباحث المذكور بعد عشر سنوات من العمل الميداني في سهول الجزائر وهضابها وصحرائها. وهل سمع عزي عبد الرحمن بباحث اجتماعي جزائري يسمى علي الكنز أو عبد القادر جغلول أو عدي الهواري؟ وهل أطلع على أعمال الباحث الاجتماعي العراقي الوردي الذي لا يمكن الحديث عن المجتمع والثقافة في العراق بدون الرجوع إليها؟ وهل سمع بالباحث والأديب المغربي عبد الكبير الخطيبي الذي يقول عنه العالم السيميائي رولان بارث أنه استفاد كثيرا من كتاباته؟ إن عزي لم يسمع بمعظم هؤلاء ناهيك عن الإطلاع على أعمالهم. ولم ينزل إلى الميدان: فمن البيت المكيف إلى السيارة إلى المكتب المكيف. لكنه يحكم، بدون خجل أو تردد، على إنجازاتهم. ويتهمهم بارتكاب أخطاء منهجية، والمضاربة والتسرع في طرح الفرضيات!. لقد سعى عزي، من خلال حكمه على أعمال غيره التي لم يطلع عليها ،إلى تأكيد ما قاله أرسطو: الجاهل يؤكد، والعالم يشك، والعاقل يتروى.
3- يقول عزي عبد الرحمن أن المحاولات الميدانية التي انبنت على العينة القصدية لا تسمح بالتعميم في معظم الحالات. أيعقل أن عزي عبد الرحمن يجهل أن مسألة التعميم في البحوث الاجتماعية، سواء اعتمدت على العينة العشوائية أو القصدية، مازالت تثير النقاش العلمي لحد الساعة، بحكم الاعتقاد العلمي أن الظواهر الاجتماعية لا تعيد إنتاج ذاتها، كما هي، في كل الأماكن، وكل الظروف؟ ويبدو أن عزي، الحامل لدكتوراه في علم الاجتماع، لا يعلم بوجود بحوث كيفية، ولا يدري أنها ترفض فكرة التعميم التي يتحدث عنها رفضا قاطعا على الصعيد الفلسفي والعملي. فإذا قرأتم من الآن فصاعدا بحثا حول اثنوغرافية الاتصال أو الانترنت في هذا المجتمع أو ذاك، على سبيل المثال، فأعلموا أن نتائجها قابلة للتعميم، حتى وإن أدعى صاحبها عكس ذلك. لماذا؟ لأن عزي يقول أن كل نتائج البحوث الاجتماعية قابلة للتعميم!
ربما يعذر القارئ الكريم عزي عبد الرحمن عن قصور نظره لمنهجية الإعلام لأنه منشغل بهم التراث. وهذا الانشغال ليس معرفيا بل منهجيا، كما يؤكد ذلك في الحوار المذكور أعلاه، ويوضح ذلك بالقول: لقد بدت لي منهجية الباحثين المسلمين الاوائل والمحدثون في دراسة الظواهر متطورة لكنها ناقصة في التفاصيل. (10) لقد بحثتنا في كتاب عزي عبد الرحمن الموسوم: منهجية الحتمية القيمية في الإعلام الصادر عن الدار المتوسطية للنشر عن مناهج الباحثين المسلمين الأوائل والتابعين والمتأخرين فلم نعثر لها على أثر! إذا القول أنه يستخدم مناهجهم هو مجرد إدعاء ولغو. ربما عزي لا يعرف ما هي المنهجية أصلا. لأنه لو عرفها لما أصدر كتابا عن منهجية ما يسميها نظرية الحتمية القيمية. وحشر فيه أدوات البحث المستخدمة في العلوم الاجتماعية المعروفة منذ مطلع القرن الماضي. لا يوجد كتاب واحد في العالم يقسم مناهج البحث حسب نظريات الاتصال المعروفة أكاديميا. أي منهجية خاصة بنظرية انتقال المعلومات عبر مرحلتين، و منهجية مخصوصة لنظرية الغرس الثقافي، ومنهجية دوامة الصمت، ومنهجية الأجندة، ومنهجية النظرية البنائية، ومنهجية النظرية البنيوية في الاتصال، وغيرها. بالفعل، هناك ترابط بين المناهج والنظريات، فمناهج البحث الكيفي ترتبط ببراديغمات Paradigms معينة، ومناهج البحث الكيفي ترتبط ببراديغمات أخرى. عجيب لم ترد أي إشارة في كتابات عزي لمسألة البراديغمات التي تتناسل منها النظريات، وهو الذي يدعي أنه صاحب نظرية!
4- من المفروض أن من يتهم الباحثين العرب بقصور بحوثهم وضعفها المنهجي والمعرفي ينجز بحوثا ميدانية أفضل وخالية من كل المأخذ المذكورة. لكن للأسف لم ينجز عزي عبد الرحمن بحثا ميدانيا استند إليه في صياغة ما يسميه نظرية الحتمية القيمية. ربما يعتقد أن النظريات لا تولد من رحم الواقع، بل تنزل مثل الوحي. أليس هو القائل بأن الأفكار كاملة والواقع يشوهها ويلونها؟
رغم أن عزي لا يقتر في لوم الباحثين العرب على التسرع في طرح الفرضيات إلا أن ما كتبه في السنوات العشر الأخيرة لا يتضمن أي فرضية، ولم يسع إلى قياس أي شيء كتب عنه. قد يقول البعض أن عزي انتقل من موقع الباحث إلى موقع العالم أو العلامة، وهو اللقب الذي يحلو لصبيان الإعلام أن بنادونه به - لذا يجوز له ما لا يجوز لغيره. فيكرر ذاته في كتاباته، بل يجعل خواتم كتاباته لا تختلف عن مقدماتها! إنه يمارس فن الدوران. لا يطرح أي سؤال أو إشكالية. بل يسرع إلى تقديم إجابات جاهزة لأسئلة لم تطرح أصلا. فالفيلسوف جيلبار لاروشال يقول أن الإيديولوجيا تبدأ عندما تنتهي الأسئلة الفلسفية(11) لكن عزي عبد الرحمن لم يطرح أي سؤال في بحثه. لقد شرع في تشغيل الإيديولوجيا منذ بداية كتاباته. والقول أنه يتصدى إلى إشكاليات كبرى في كتاباته هو مجرد إدعاء لأن التعريف البسيط للإشكالية هو الفجوة القائمة بين ما نعرفه وما نريد أن نعرفه. فهل تجد في كتابة عزي ( ما نعرفه)، أي جرد لما وصل إليه التفكير والبحث العلمي العالمي حول المواضيع التي يكتب عنها؟ وهل تجد فيها ما يريد أن يعرفه؟ ربما عزي يعرف كل شيء وليس بحاجة إلى طرح السؤال لأنه يملك الإجابات مسبقا، لذا فهو لا يبحث، بل يلقن طلبته فقط.
5- يقول عزي عبد الرحمن أن الساحة العربية تستهلك بطريقة غير منهجية وبصفة متأخرة ما ينتجه الآخرون إلا ما ندر. ( ويقصد بالآخرين الغربيين بالطبع). فإذا كان هذا الكلام لا يجانب الحقيقة، فالمفروض أن عزي يقدم لنا كل ما يطرأ من جديد في مجال الإعلام والاتصال، وخاصة أنه يتقن اللغة الانجليزية ويدرس بها. لم يعتمد عزي على أي كتاب أو مؤلف أجنبي في كتاباته الأخيرة. أيعقل مثلا أن يكتب المرء عن تكنولوجية الاتصال الحديثة، والانترنت والشباب دون الإشارة من باب الإشارة فقط، إلى كتابات الباحثين الأمريكيين النشيطين (12) ناهيك عن مناقشتها وهدمها وبناء صرح معرفي على أنقاضها. لكن عزي عبد الرحمن لم يفعل ذلك.
لم يشر عزي عبد الرحمن إلى أي كاتب حديث انشغل بعلوم الإعلام والاتصال في الكرة الأرضية. فهل يعتقد عزي أن كل ما كتب بكل لغات العالم عن الإعلام والاتصال غث ولا يستحق حتى مجرد الإشارة إليه أو أنه يتطرق إلى مواضيع لم يتم التطرق إليها غيره مطلقا؟ لذا يعد من الفاتحين. وهذا ما يروجه صبيان أقسام الدعوى. إن الأشخاص الذين يتعاملون مع غوغل، ويتقنون لغة إضافية للغة العربية: الانجليزية، الاسبانية، الفرنسية، الايطالية، الألمانية، يدركون أن عزي عبد الرحمن كف عن قراءة الجدي13) تبيّن ذلك. ففي سؤال عن نظرية مدرسة التفاعلات الرمزية، يؤكد أنها (ملائمة اكثر لدراسة الاتصال الشخصي إلا إذا اعتبرنا ان وسائل الإعلام بدورها علاقات اجتماعية بتم من خلالها بناء المعاني عبر شبكة من التبادل والاتصال بين الأفراد.) فهذه إجابة شخص توقفت قراءاته في الثمانينات. لأن من اطلع على أخر إنتاج علمي في علوم الإعلام والاتصال يرى أن العودة القوية إلى نظرية التفاعلات الرمزية في علوم الإعلام والاتصال اليوم، ليست بحاجة إلى إثبات، فجل الدراسات التي أجريت حول مواقع الشبكات الاجتماعية الافتراضية، (14)والتواصل الاجتماعي الإلكتروني جعلت من أطروحات غوفمان مفاتيح تسمح بفهم كيفية عملية تبادل المعلومات والتجارب وبناء الذات في هذه الشبكات، وصياغة العلاقات الاجتماعية الافتراضية بل أن وسائل الاتصال الجماهيري التي بدأت تستعين بتطبيقات " الواب 2" كاختيار اتصالي أو تسويقي بدأت هي الأخرى تستفيد من هذه النظرية.
حتى نتأكد مما سبق قوله فلنذهب إلى قائمة المراجع التي اعتمد عليها عزي في كتاباته والتي تتواتر في بحثه. إنها قليلة جدا ولا تزيد عن عدد اصابع اليد الواحدة يتصدرها ابن تيمية وبن القيم الجوزي، وابن خلدون، وبن طفيل، ومالك بن نبي. ربما قام ابن تيمية بالتنظير للتلفزيون في شبه الجزيرة العربية وقام تلميذه بن القيم الجوزي بدراسة ميدانية لمواقع الشبكات الافتراضية في الحجاز ونحن لا ندري! إن عزي عبد الرحمن يستكين إلى الأسماء المذكورة أعلاه ليتركها تفكر بدلا عنه لأنه عاجز عن تجاوزها في الفكر، ويحبذ أن يشبهونه بها. يا لخسارة المسعى في رجل أرسل إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة فعادا إلينا ليردد ما كتبه ابن تيمية ومالك بن نبي؟
فاعتماد عزي على هذه الأسماء القليلة فقط، التي يسميها " التراث العربي الاسلامي"، في الكتابة عن الإعلام والاتصال في العالم المعاصر الذي يزداد تعقدا يشبه ذاك الذي لا يملك أي خلفية عن علم الاقتصاد، فتزود بكتاب مالك بن نبي " "المسلم في عالم الاقتصاد" ليناقش انضمام دولته إلى منظمة التجارة العالمية!
إذا كتابات عزي لا تعاني من فقر في المراجع فقط، بل من إملاق فكري. وما كتبه عنه مريدوه مصاب بفقر الدم المعرفي والثقافي. فكتبوا عن كتابات عزي بالاعتماد على كتابات عزي فقط. واكتفوا بترديد ما كتبه بشكل لا يخلو من الانبهار والذهول! وهل يملكون غير ذلك طالما أنهم لا يفرقون بين علوم الإعلام والدعوى. ولا يميزون بين العلم والإيديولوجيا؟
يقول أحد المريدين أن عزي عبد الرحمن قدم قراءة تأويلية للواقع الإعلامي في المنطقة العربية والإسلامية بمفاهيم جديدة في حقل علوم الإعلام والاتصال.(15) وقد نشر هذا الكلام في موقع شيخه: عزي عبد الرحمن. وهذا يعني أن عزي متفق كل الاتفاق مع هذا القول، أي يقر أنه ابتكر مفاهيم جديدة حتى يفهم الواقع الإعلامي في المنطقة العربية. إذا عزي عبد الرحمن مصر على عدم التزامه بالأمانة العلمية فهو لم يوقف سائله الذي سأله قائلا: ) حاولت في المدة الاخيرة إثارة مفاهيم جديدة أخرى مثل الزمن الاعلامي وعنف اللسان والكلام وبيولوجية العقل والفكر... الخ هل تصب كل هذه الاخيرة في نفس التنظير؟ (16)( . ألم تلاحظوا أن السائل يقف موقف الطالب ولا يعرف ما هي المفاهيم التي تصب في التنظير المزعوم أو لا تصب؟ بالطبع إن عزي لم يصحح للسائل بالقول أن مفهوم الزمن الإعلامي، وبيولوجية العقل، والفكر، وعنف اللسان ليست جديدة. ولم يتسم بالأمانة العلمية ويعترف ويقول أن غيره سبقه في الكتابة عنها ومناقشتها، وأضاف لها كيت وذيت بإسهاب، بل رد عليه بشكل ضمني بأنها من بنات أفكاره! ألا تدخل الامانة العلمية في باب القيم التي يتحدث عنها عزي عبد الرحمن؟
أعتقد أنه لا يوجد عاقل يصدق لحظة أن رأسمال الاجتماعي والرمزي هو من بنات أفكار عزي. فحتى الكتابات الحديثة التي وظفت هذا المفهوم في مجال إدارة المؤسسات توقفت عند منبته وذكرت السياقات التي ظهر فيها وبيّنت إسهامات بيار بورديو في صياغته .(17) لكن عزي عبد الرحمن لم يفعل ذلك، بل سطا على المفهومين بدون ذكر المصدر. قد يقول قائل لكن عزي اجتهد وصك مفهوم رأس المال الإعلامي. وللرد على هذا القول نقول كفى ضحكا على ذقن الطلبة، فالمفهوم ليس لفظا أجوفا ولحافا نسحبه على كل واقع. إن المفهوم هو اختزال لبحث وتحليل يعبر بشكل موجز عما توصل إليه البحث والتفكير في واقع محدد. فما هو الواقع الذي يغطيه رأسمال الإعلامي، وأين الحدود العلمية التي تفصله عن رأسمال الرمزي والاجتماعي؟ وما هي علاقته المعرفية بالمخيال الإعلامي الذي يتحدث عنه عزي. بالمناسبة حتى مفهوم المخيال نحته الفيلسوف الفرنسي غستون بشلار، وطوره عالم الاجتماعي الأمريكي رايت ملز في كتابه المعنون: المخيال السيوسيولوجي، ووظفه الفيلسوف محمد عابد الجابري في كتاباته عن العقل العربي. وقد ألف الباحث الفرنسي أريك ماسي كتابا بعنوان: المخيالات الإعلامية: سوسيولوجية ما بعد نقد وسائل الإعلام.(18) وهو في الحقيقة تتويجا لأعماله وإشرافه على ملتقى في جامعة السوربون بعنوان: " المخيالات الاجتماعية والثقافة الجماهيرية. لكن عزي لا يتوقف عند تاريخية المفاهيم التي يستخدمها جاهزة. لذا يعتقد بعض صبيان قسم الدعوى أن عزي عبد الرحمن هو من صك مفهوم الزمن الإعلامي لأنهم يجهلون كتابات السابقين الذي تناولوه بالبحث، مثل: جيل بروفنوست في كتابه المرجعي الموسوم : الترفيه والمجتمع: محاولة في علم الاجتماع الأمبريقي"، و مؤلفو كتاب: وسائل الإعلام والزمن والديمقراطية، وهم على التوالي: فيتاليس أندري، وجون فرانسو تيتو، وميخائل بلمر، وكستغنا برنارد. والباحثان وجون كلود دومنغي وببيرماكو أرولدي اللذان نشرا مقالا علميا مرجعيا حول الزمن الإعلامي بعنوان : التلفزيون ومسألة الزمن، هذا دون أن ننسى البحث الموسوم: مسألة الزمن وتلقي البرامج التلفزيونية والذي أنجزه كل من جيزيل برترولد، وجيرار دوروز، وألن ميرسي، ومؤلفا كتاب: Time and Media Markets ، وهما: ألان ب ألبران، وأنجل أرست ريكا. وغيرهم من الباحثين الذين لا يمكن أن نذكرهم جميعا لأن المقام لا يسع لذلك. ربما يجد البعض ما يشفع لعبد الرحمن عزي بالقول أنه اشتغل على موضوع الزمن الإعلامي دون الإطلاع على أعمال هؤلاء. ويمكن أن نقبل هذه الشفاعة تجاوزا رغم أنها تعد " عذرا أقبح من ذنب"، لكن هذا لا يعفي عزي عبد الرحمان من الالتزام بالأمانة العلمية والإشارة إلى من صاغ المفهوم قبله. يقول البعض إن العبرة لا تكمن في من كان سباقا إلى استخدام هذا المفهوم، بل في أصالة الطرح وعمق الواقع الذي يغطيه. إذا كانت الأسماء الثقيلة المذكورة أعلاه قد انطلقت من تراث نظري يؤمن بأن مفهوم الزمن يرتبط بالحركة كما يبين ذلك علم الفيزياء وإدراكنا لطبيعة والوسيلة الإعلامية وأشكال التعبير الإعلامي والفني كما يؤكده الفيلسوف جيل دلوز في كتبه التالية: الزمن والسرد، والصورة –الزمن، والصورة-حركة. بالمناسبة هل سمع عزي عبد الرحمن بوجود هذه الكتب؟ لو بذل أيسر جهد وقرأها لخجل مما كتبه. لأن الفهم البسيط للزمن يتعارض مع مفهوم الديمومة الذي يلمح له عزي في " الزمن القيمي". لعل الجزائري بحسه البسيط يعرف أن إدراك الزمن يختلف من ثقافة إلى أخرى، بل حتى داخل الثقافة الواحدة. وأحسن مثال على ذلك هو اختلاف التصور للزمن بين سكان جنوب الجزائر وشمالها والذي أكده عالم الاجتماع وادي بوزار في الكتاب المشار إليه أعلاه. فمعظم الباحثين المذكورين أعلاه قاموا ببحوث ميدانية للكشف عن الاختلاف في إدراك الزمن وكيف يؤثر على وسائل الإعلام. فالباحثان جون كلود دومنغي وببيرماكو أرولدي بينّا الاختلاف في إدراك الزمن في فرنسا وإيطاليا وتأثيره على تعرض شعوب هاذين البلدين للبرامج التلفزيونية.
إذا كان بالإمكان تبسيط الإشكالية التي حاول الباحثان المذكوران أعلاه معالجتها فيمكن القول أنها تختصر في السؤال التالي: كيف يتمفصل الزمن الإعلامي ( التلفزيوني) في بعده التلقوي ويتقاطع أو يترابط أو يندمج مع الحياة اليومية، أو كيف يتغلغل الزمن الإعلامي في أوصال حياتنا اليومية ويهيكلها ويدفعنا لتغيير تعاملنا معه. ومن أجل معالجة هذه الإشكالية شغل الباحثون المذكورون أعلاه عدة مفاهيمية ومنهجية واختبروها عبر بحوث ميدانية. أما عزي فلم يطرح إشكالية بحث أو قضية للتفكير، بل استعرض ما يعتقد أنه حقيقة بدون أي سند علمي أو تحليل مبني على بحث ميداني. فيقول: إن التعلق بالزمن الإعلامي يكون عادة على حساب الزمن القيمي، بحكم أن الزمن الإعلامي يستقطع أجزاء من الأزمنة الأخرى، ولعل ذلك يجعل الفرد لا يشعر بمرور الوقت أثناء مشاهدة التلفاز أو تصفح الإنترنت. فقد أحدث الزمن الإعلامي عدم التوازن في التعامل مع الأزمنة الأخرى. وحيث أن هذا الزمن الإعلامي ليس فيه الكثير من القيمة فإن في استخدامه إضعافاً للزمن القيمي بعامة. (19) ‏ وهل يشعر محب لعبة الشطرنج بمرور الوقت عندما يكون منغمسا في اللعبة؟ فلعبة الشطرنج ليس وسيلة إعلامية على ما اعتقد.
هكذا، لا يتكبد عزي مشقة البحث عن مفهوم الزمن في الحضارة العربية الإسلامية، بل يسرع إلى تقسيم الأزمنة إلى زمن إعلامي، وزمن اجتماعي، وزمن قيمي؟ ولا يتريث قليلا ليقدم لنا الأدوات المنهجية والمعرفية التي سمحت له بهذا التقسيم. فهل الزمن الإعلامي يأتي من خارج المجتمع حتى نقول أنه زمن غير اجتماعي؟ إن المهتم بحقل الإعلام والاتصال يلاحظ أن كل من كتب عن العلاقة بين الزمن ووسائل الإعلام يضع الزمن الإعلامي بين قوسين لأنه يدرك صعوبة الفصل بين الزمنين الاجتماعي والإعلامي. وهل يوجد زمن اجتماعي خال من القيم لأن هناك زمن قيمي؟ بالطبع عزي يعرف أن ذلك مستحيل لذا يقول أن الزمن الإعلامي لا يتضمن الكثير من القيم. وبهذا فإنه يظهر كأنه مالك لمقياس يقيس به مقدار القيم الموجودة في الأزمنة المختلفة! لكن لنفترض أن عزي يملك هذا المقياس السحري، أليس المطلوب أن يرتب أفكاره أولا حتى لا يقدم لنا الشيء ونقضيه. فمن جهة يقول أن الزمن الإعلامي ليس خاليا من القيم، بل يملك قليلا منها، ومن جهة أخرى يقول: ) أما الزمن الإعلامي لم يساهم في تنويع الزمن وإنما في تفكيكه عن طريق إدخال زمن يسعى الى الهيمنة على الزمن القيمي والاجتماعي وإبطالهما كعناصر محركة في التغيير والتطور.) (20) أرأيتم أن السفسطة لا حد لها! فالزمن الإعلامي يملك بعض القيم، وهذه الأخيرة تهجم على الزمن القيمي) المفروض أنه مملوء بالقيم( فتفككه وتبطله، يا سبحان الله ، يبدو أن القيم التي يضمنها الزمن الإعلامي رغم قلتها فهي أقوى من القيم الموجودة في الزمن القيمي. هكذا يمكن لعزي أن يواصل شطحاته طالما أنه لم يضبط مفهوم القيم الذي يتحدث عنه حتى نعرف هل هو ذاته الموجود في الزمن الإعلامي والزمن القيمي أم لا. لذا من الطبيعي أن لا يعرفنا بمعنى الزمن القيمي الذي يتحدث عنه من باب الالتزام بأبجديات التفكير العلمي التي تفرض على كل باحث تحديد المفاهيم التي يستخدمها في دراساته وبحوثه! لكن القارئ يستشف من قوله أن الزمن القيمي هو الزمن المملوء بالقيم ولا توجد فيه سوى القيم. - يا لعبقرية التفكير- لكن هذه العبقرية يبطل مفعولها في تقديم الإجابة عن السؤال التالي: أين يوجد هذا الزمن القيمي؟ وفي أي عصر من العصور؟ ولدى أي شريحة من العمر أو لدى أي فئة اجتماعية، وفي أي مجتمع؟
ماذا لو جارينا عزي في فهمه البسيط والمحدود وغير المنطقي للزمن، وتقسيمه للأزمنة وسألناه: من قال لك أن الزمن الاعلامي يقتطع من الأزمنة الأخرى؟ وفي أي مجتمع؟ ومتى؟ ومن هي الشريحة الاجتماعية التي يقتطع منها؟ وما مستواها الثقافي والاجتماعي؟ وهل قمت ببحث ميداني لتأكيد ما قدمته كحقيقة؟هل استندت إلى بحوث سابقة؟ هل استنتجته من ملاحظتك رغم أن الملاحظة لا تملك الحقيقة العلمية. إن عزي يفتقد " الحس العملي" الذي شرجه بيار بورديو في عدته المفاهيمية، والذي يسمح لنا بدحض هذا الفهم.
لنكشف سطحية رأي عزي في الزمن الإعلامي، وحتى سذاجته نقول أن عزي يقصد بالزمن القيمي، هو الزمن الروحي، أي الزمن الديني الذي لا يتبدل أبدا ولا يتغير لأنه يسمو فوق المجتمعات ويخترق التاريخ. وبهذا فإنه يرى الدين خارج المجتمع ولا يملك أي امتداد اجتماعي لأنه لو كان عكس ذلك لأختلط مع الزمن الاجتماعي. فالزمن القيمي في نظره لا صلة له بمتغيرات المجتمع )هل رأيتم التخريف الفكري بالنسبة لشخص يرى أن الإسلام دين ودنيا وليس نذر النفس لله في الدير أو الكنيسة؟ ( ما أراد عزي قوله بعد كل هذا اللغو والتخريف هو التالي: إن التعرض لوسائل الإعلام يصرف الناس عن القيام بأعمالهم اليومية ( هذا بالضبط ما تقوله الأمهات لأطفالهن اللذين يشاهدون التلفزيون ولا يصرفون وقتهم في مراجعة دروسهم.( فمستوى تحليل عزي للزمن الإعلامي لا يختلف عن مستوى فهم الأمهات اللواتي لم يذهبن إلى المدرسة ولا يعرفن أن أطفال اليوم اصبحوا يكتسبون رصيدا تعليميا ومعرفيا عبر التلفزيون، و ينمون رأسمالهم الاجتماعي الذي يتحدث عنه بيار بورديو- وسطا عليه عزي دون ذكر المصدر- عبر الشاشة الصغيرة. ويرى أن الوقت الذي يخصصه الأشخاص لمشاهدة التلفزيون أو استخدام الانترنت يقتطع من الوقت المخصص للعبادات ( وهذا ما يقوله بعض الأئمة الذين وجد الجهل فيهم ضالته. فلم يدركوا أن عدد القنوات التلفزيونية الدينية التي لا تقوم سوى بحثهم على العبادة في تزايد، إذ تخصص جل وقتها لبث القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وبث فتاوى في أمور الدين).
إذا، عزي لا يفرق بين مفهوم الوقت ( بمعنى المدة التي يخصصها الشخص لوسائل الإعلام) ومفهوم الزمن كتصور، وتأثير وسائل الإعلام على تمثلنا له. فزمن الذروة في القنوات التلفزيونية قد غير ايقاع الحياة وأعاد تنظيم النشاط الاجتماعي داخل الأسر ومواعيد العمل في الأرياف وأوقات تناول وجبة العشاء في المدن. معنى هذا أن عزي عبد الرحمن مازال متمسكا بالفهم) التعاقبي) للزمن ولم يدر أن البحوث الحديثة وصلت إلى حقيقة مفادها أن ( التلازم أو التزامن) زعزع الفهم التقليدي للزمن القائم على التعاقب. فوسائل الإعلام الحديثة غيرت إدراكنا التقليدي للزمن ولعل أبرز مثال على ذلك هو " تعدد المهام" أي أن أبناء الجيل الرقمي أصبحوا يتابعون مقابلة كرة القدم، ويقرؤون رسائلهم النصية التي تعلق عليها، ويحّملون ملفا صوتيا من اللوح الإلكتروني، ويأكلون سندويتش، في آن واحد. وهذا ينسف اختزال عزي لمفهوم الزمن في المدة ويقضى على فكرة تقسيم الزمن التي يعتقد أنها من نوابغه الفكرية.
بالمختصر المفيد إن عزي ينطلق من مفهوم لاهوتي لوسائل الإعلام إذ يراها وسيلة لإفساد الأخلاق وأداة ترفيه. فالزمن الإعلامي في نظره يختصر في الترفيه فقط والترفيه في نظر الكثير من السلفيين محرم لأنه مصنع الآثام يلهي الناس عن ذكر الله وعبادته، ويعلمهم الفسق والفجور؛ أي يدمر الزمن القيمي. بالطبع هذا الفهم ساد قبل ظهور التلفزيون المدرسي ومازال قائما لدى الأشخاص الذين لا يشاهدون التلفزيون ولا يعرفون الفرق بين القنوات التلفزيونية. هكذا يجد عزي نفسه يشترك مع ذاك السلفي الذي رمى جهاز تلفزيونه من سكنه بالطابق الخامس لأنه ضد الزمن الإعلامي، عفوا ضد التلفزيون الذي يلهي أسرته عن العبادة. الفرق الوحيد أن عزي استاذ الإعلام. ربما تحول إلى مفتي يحرم استخدام وسائل الإعلام من خلال تدريسها.
نعود الآن إلى قضيتين أساسيتين: وهما: القيم. والحتمية. عزي عبد الرحمان ليس الوحيد الذي تحدث عن القيم والإعلام. فالكثيرون قبله وبعده ربطوا وسائل الإعلام بالقيم لكنه لم يلتزم بأخلاقية العلم وقيم البحث العلمي ويشير إليهم. رغم أن الاختلاف بين ما كتبوه وما يعتقد عزي عبد الرحمن أنه حوله إلى نظرية، هو اختلاف بين الليل والنهار. فأصحاب نظرية التأطير الإعلامي، أمثال Dietram A. Scheufele، وVirginie Le Torrec ، June Woong Rhee يفترضون أن الأحداث لا تنطوى في حد ذاتها على مغزى معين ، وإنما تكتسبه من خلال وضعها في إطارFrame يحددها وينظمها ويضفي عليها قدراً من الاتساق من خلال التركيز على بعض جوانب الموضوع وإغفال جوانب أخرى. وفهم المادة الإعلامية يتطلب معرفة تأطيرها الذي تتدخل فيه عدة اعتبارات اقتصادية، وقانونية وسياسية، واجتماعية، وثقافية، وأيديولوجية، ومهنية. فالقيم هي مؤشر بسيط ومتواضع يستخدم ضمن مؤشرات أخرى لفهم نظرية التأطير الإعلامي. لكن أصحاب هذه النظرية لم يعطوا للقيم طابعا أخلاقيا لاهوتيا، بل شخصوها في العديد من المجالات بشكل ملموس وقابل للقياس والتحليل.(21) فعزي الذي يزعم أنه ابتدع نظرية القيم لم يجلس مع نفسه دقيقة فقط، ليجيب عن السؤال التالي: ما هي القيم؟ وأين وصل تفكير البشرية في موضوع القيم؟ وما هي الإضافات التي اضافها لموضوع القيم؟ وهل القيم ثابتة ومتعالية على المجتمعات والمجموعات البشرية أم أنها متحركة ومتغيرة؟ ألم يقل عامة الناس أن القيم التي تربينا عليها قد انقرضت أو تغيرت- ولم تنكسر مثلما يقول عزي لأنها ليست من فخار أو زجاج؟ و ما هي القوى الخفية التي تغير القيم إذا كانت هذه القيم متغيرة؟ وهل القيم هي بالضرورة أخلاقية، مثلما يدعي السلفيون الذين حرموا من الدرس العلمي، ولا توجد قيم اقتصادية ) القيمة التبادلية( واجتماعية وثقافية وجمالية وفنية؟ وهل وسائل الإعلام هي التي تغير القيم أم أن القيم هي التي تغير وسائل الإعلام؟ وأين نوجد القيم بالضبط؟ هل توجد في لدن المؤسسة الإعلامية أم في وعي أو لا وعي الصحافي العامل في المؤسسة الإعلامية؟ هل تستنبط من المادة الصحفية؟ أم توجد لدى المتلقي؟ وإذا كانت تستنبط ألا يمكن قراءتها وفق نظرية التلقي والتأويل أو الهرموسية حسب تعبير المنظر هانس جورج غدامير . عزي لا يجيب على هذه الأسئلة. لماذا؟ لأنه يملك فهما لاهوتيا للقيم. وهذا الفهم لا يساعدنا أبدا على استيعاب واقع وسائل الإعلام في المنطقة العربية والإسلامية التي تشترك في تعاليم الدين الواحد. ولا يعيننا على استقراء مستقبلها. فهل تستطيع القيم الإجابة عن التساؤلات التالية: لماذا لا نعثر على حضور قوي لتلفزيون لبنان ( يقصد به تلفزيون الدولة اللبنانية الذي غاب عن البث لأشهر قبل ست سنوات) أمام هيمنة القنوات التلفزيونية الخاصة في وقت لا توجد في سلطنة عمان قنوات خاصة في ظل حضور طاغي للتلفزيون الحكومي؟ ولماذا نشاهد انفجارا في البث التلفزيوني في اليمن، ومصر، وتونس، بينما تعيش المملكة المغربية انفجارا في البث الإذاعي؟ لماذا شاخ قراء الصحف الورقية في دول المشرق مقارنة بتشبيب قرائها في الجزائر؟ كما أن نظريته المزعومة لا تستطيع أن تفسر لنا تنوع نشاط شركة روتانا واختلاف توجهاتها. فهذه الشركة تملك العديدة من القنوات: روتانا سينما، روتانا طرب، روتانا خليجية، روتانا أف أم، روتانا كلاسيك، وروتانا مصرية، وأل بي سي، والرسالة. فكل هذه القنوات تخضع لمنظومة قيمية واحدة خاصة بمؤسسة روتانا، فالمفروض أن قيم منتجاتها تكون ذاتها بصرف النظر عن نوع المنتج ووقت بثه. لكن الواقع يفند هذا الأمر.
لا يهتم عزي بهذه الأسئلة المستنبطة من الواقع، لأنه يرى نظريته مفصولة عن الواقع. لذا يتحدث عن الإعلام العربي دون ذكر اسم بلدا بعينه، ولا قناة تلفزيونية معينة، ولا برنامج تلفزيوني محدد، ولا صحيفة، ولا اسم صحافي. صحيح إن إغفال هذا الواقع هو من متطلبات النظرة الميتافيزيقية لوسائل الإعلام. لكن الصحيح أيضا أن عزي لا يملك الشجاعة الأدبية ولا المسؤولية العلمية التي تتطلب ذكر الأشياء بأسمائها وعدم التهويم والحديث في العموميات الذي يسقط الاختلاف بين وضع وسائل الإعلام في الدول العربية . ناهيك عن الدول الإسلامية. أن يتقيد عزي بالمثال القائل " من يخاف سلم" ذاك شأنه. لكنه لم يتردد في رجم باحثي الإعلام والاتصال العرب بتهمة قلة الجرأة في الحديث المذكور أعلاه. وهنا يقع فيما نهى عنه الشاعر الذي قال :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إن فعلت عظيم
ألا يدخل هذا البيت في خانة القيم التي يدعي عزي أنه ينظر لها؟
ولو سايرنا عزي في رؤيته للقيم، فمن الظلم أن يقوم بربطها بوسائل الإعلام. أليس هو القائل أن الزمن الإعلامي ( أي وسائل الإعلام) يملك القليل من القيم؟ وينفي وجود القيم فيما هو مرئي. (22) كما يدل على ذلك ما كتبه بعنوان: الإعلام والبعد الثقافي، من القيمي إلي المرئي. بمعنى أن الإعلام كان يفيض بالقيم، قبل ظهور الوسائل المرئية ) السينما، والتلفزيون، و شبكة الانترنت(، وبمجرد ظهورها غابت القيم لأسباب مجهولة؟ فماذا يبقى من الإعلام في هذا العصر إذا سحبنا منه كل ما هو مرئي؟ ربما الإذاعة فقط. لكن حتى الإذاعة أصبحت تقرأ وتشاهد. إذا لماذا يسمى نظرية " الحتمية القيمية في الإعلام" ؟ وما يسميه نظرية لا يفيدنا بتاتا في تفسير ديناميكية الإعلام ) انتشار رهيب في عدد القنوات التلفزيونية في تونس، وموت الكثير منها بشكل متسارع( بل يطمسها. وذلك لأن القيم من منظور عزي هي معطى منجز وكامل البناء وسرمدي، بينما وسائل الإعلام متغيرة وتبني ذاتها باستمرار.
يمكن أن نقول، من باب النصيحة- لمن يسعى إلى التعافي من الجهل الذي اصابه نتيجة قراءة ما كتبه عزي عن القيم والإعلام أن يلجأ إلى الكتاب المرجعي بعنوان : القيم إلى أين؟ مداولات القرن 21، وهو كتاب شارك فيه أكثر من 50 من صفوة الباحثين وفلاسفة العالم المعاصر من إصدار المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون وبيت الحكمة بتونس ومنظمة اليونسكو في 2005. وإذا أراد يضيف له كتاب آخر، وهو: الثقافة وقيم التقدم لورانس أ هاربيزون وصمويل ب هنتينيون، ترجمة المركز القومي للترجمة مصر 2009.
يشبه صبيان أقسام الدعوى عزي عبد الرحمن بمكلوهان. بل أن بعضهم يراه أعظم من هذا الأخير. وهذا يدل على عدم إطلاعهم على ما كتبه مكلوهان. فهذا الأخير سكن في المكتبة لعقود من الزمن قبل أن يصدر كتبه التي تزدحم فيها الاستشهادات بتاريخ التكنولوجية بدءًا بالبخار والكهرباء وصولا إلى الإلكترونيك. وتفيض بتاريخ الفنون: الرسم والفن التشكيلي، والنحت، والتصوير، والموسيقى والأغاني، والرقص، والرسم، والكتابة والطباعة، والسينما، والرواية والشعر، والكتاب، والإذاعة والتلفزيون. فمن يقرأ كتب مكلوهان يأخذ فكرة عن التاريخ التقني والثقافي والفني والأدبي لشمال أمريكا. وأول ما يلفت النظر إلى كتابات عزي التي تتحدث عن الترسبات الثقافية والثقافة العربية هو إملاقها الثقافي. فلا تتضمن أي إشارة إلى الشعر- الذي يقال أنه ديوان العرب- أو القصة أو الرواية، ولا تحيل القارئ إلى الموسيقى أو الغناء أو الرقص أو الفنون التشكيلية- لأنها في نظره حرام. ولا أثر للثقافة الشعبية والسير الذاتية والملاحم، والشعر الشعبي. ولا تتضمن تاريخا : تاريخ الكتابة وما اثرته من إشكاليات خاصة بعد تدوين القرآن، والسيرة النبوية، ولا الجدل الذي أثاره دخول المطبعة إلى المنطقة العربية بين رجال الدين، ولا النقاش الحاد الذي جرى حول تحريم الصورة في الإسلام وتصدى له الباحث التونسي محمد عزيزة (23) ولا يتضمن عناصر مقارنة للثقافات ولا ذكر لمعالم جغرافية. وقد نتساءل: هل اطلع عزي حقا على ما كتبه غيره عن الثقافة العربية؟ وهل قدم شيئا يفيد القارئ ويقدم له قيمة مضافة حول هذه الثقافة فتغنيه عن العشرات من الكتب في هذا الموضوع. أنصح القارئ الكريم بقراءة أو إعادة قراءة مقالين فقط، على سبيل المثال، للمغفور له محمد عابد الجابري، وهما: المسألة الثقافية في الوطن العربي منذ الخمسينيات. (24) والفضاء الحضاري للثقافة العربية. (25) ويقرأ ما كتابه عزي حول الموضوع ذاته. فإنه يستخلص أن عزي يكتب مواضيع في الإنشاء المدرسي فيحشوها بفقرات من كتاب بن تيمية، وبن قيم الجوزية، ومالك بن نبي، وبن خلدون، ويضيف لها بعض الأحاديث النبوية وآيات من القرآن الكريم. ويسميها حفريات، من باب التقرب من العمل الموسوعي الذي قام به ميشال فوكو: حفريات المعرفة. الآن أدركتم أن الجابري الذي يغوص بنا في عمق التراث المكتوب ويثري معارفنا بزاد معرفي عن المذاهب والتيارات الفلسفية والفقهية والسيرة النبوية الشريفة والمدارس الأدبية والشعرية وصولا إلى التيارات السياسية الحديثة ومطالب التحرر الفكري والثقافي والمعرفي يتهيب من أن يسمى جهده بالحفريات. لكن عزي يفعل ذلك لأن أخذ بعض الاقتباسات من الأسماء المذكورة أعلاه فقط. ولست أدرى لماذا يقحم عزي عبد الرحمن آيات قرآنية في كتاباته، فيسلخها عن سياقاتها الأصلية؟ هل يوردها من باب التأكيد أن القرآن الكريم جاء بالحق أم أن كلامه يقترب من القرآن ولا يتطلب مناقشته؟
أعتقد أن جل دارسي العلوم الاجتماعية يدركون أن عصر الحتميات في العلوم الاجتماعية قد ولى؛ أي أنه لا يمكن دراسة أي ظاهرة بالاعتماد على عامل واحد وتحييد بقية العوامل. فالحتمية لا مكان لها حتى في العلوم البيولوجية. لقد استطاع علماء الجينات أن يشكلوا مصفوفات جينية للبشر تمكنهم من معرفة الأمراض الوراثية التي يمكن أن يتعرض لها هذا الشخص أو ذاك، بل أنه اصبح بإمكانهم أن يتدخلوا علميا لتصحيح بعض التشوهات في بعض الجينات لتخليص الأشخاص من بعض الأمراض الوراثية. فرغم تطور اكتشافاتهم العلمية إلا أنهم لم يؤمنوا بالحتمية البيولوجية، أي القول بأن الشخص الذي يرث عن والديه بعض الجينات المسببة للأمراض يصاب بها بالضرورة في حياته. بل يربطون احتمال الاصابة بها بتوفر بعض الشروط، مثل النظام الغذائي، وتلوث البيئة الطبيعية التي يعيش فيها، وطبيعة نشاطه المهني، ومدى ممارسته للرياضة، وغيرها. وعزي ليس عالما بيولوجيا حتى يدرك هذا الأمر. لكن كان عليه أن يدرك أن العلوم الاجتماعية تفتقد دقة العلوم البيولوجية. والبحوث الاجتماعية تؤكد يوميا تعايش العديد من الرؤى النظرية " للواقع". فالحتمية هي صفة تبخيسية للباحث واحتقارية لجهده لأنها تجانب فكرة وجود حقيقة متعددة في دراسة العلوم الاجتماعية والإعلامية تحديدا. لكن الرغبة في التمتع بلقب العلامة حتمت على عزي عبد الرحمن أن يتطاول ويضع نفسه في مقام مكلوهان الذي ألصقت به نظرية الحتمية التكنولوجية وهو برئ منها. وهل بقي شخص من المتعلمين في اصقاع الأرض يؤمن بالحتمية في العلوم بعد أن تزايد عدد المؤمنين بمقاربة الباحث الفرنسي: إدغار موران والتي سميت " الفكر المعقد. (26)
وفي الختام أتوقع أن يرد علي أحد المريدين قائلا: يبدو أن الغيرة هي التي دفعتك لكتابة ما كتبت لأنك نكرة ولم تسطع أن تصل إلى قامة عزي عبد الرحمن الذي يحتفى به في أكثر من جامعة جزائرية. وتخصص مؤتمرات لتظريته. لهذا المريد وغيره أقول أن القامة التي تتحدث عنها، هي قامة من القش لا تستطيع الصمود أمام أي هبة نسيم النقد. أما المؤتمرات التي تتحدث عنها فيؤسفنى القول أن بعض المشعوذين يحاولون جعل الجزائر، التي تزخر بعلمائها ومفكريها عبر التاريخ، مخبرا لتطبيق المثال العربي القائل: من قلة الصوف جزوا الكلاب. فها هو أحد الجازين يقول: ( فنظرية أستاذنا عبد الرحمن عزي تعد المخرج الأمثل لمأزق الإعلام العالمي وجمهوره، الذي بات يتخبط في الإسفاف والفساد والانحلال، ويساهم بشكل كبير في تمييع أخلاق المجتمعات وهدم القيم الفاضلة.) (27) ألم يسمع أحدكم مثل هذا الكلام أو ما يشبهه من فم أحد الشباب الجزائريين الذى لفظه نظام التعليم التكميلي، فوقف بمدخل أحد المساجد طارحا بضاعته من المسك والبخور والسواك والكتب الصفراء للبيع مرتديا سترة من الجلد وحذاءً رياضيا من نوع " نايك". وكحل عينيّه وترك لحيته على سجيتها. فهذا الشاب يعد عينة من الذين يكتب لهم عزي ويقول أنه وجد لديهم تفهما. " فهنيئا للمفكر والعلامة عزي عبد الرحمن بمريديه في اندفاعهم المبارك إلى دفع علوم الإعلام والاتصال إلى دياجير الظلام والشعوذة والخرافة. فهاهي نظريته تتحول إلى منقذ، بل إلى دين يخلص البشرية من مفاسدها وانحلالها.
وهنيئا له لأنه تمكن من خصي أتباعه علميا وناسيا الحديث النبوي الشريف التالي: أحكم السفينة فإن البحر عميق واستكثر الزاد فإن السفر طويل وخفف الظهر فإن العقبة كؤود وأخلص العمل فإن الناقد بصير’.
المراجع:
1- حوارات مع مؤسس النظرية المفكر عبد الرحمن عزي، الباب الثلاث من كتاب: قراءات في نظرية الحتمية القيمية في الإعلام. من إعداد بوعلي نصيرـ منشورات مكتبة ا-قرأ- قسنطينة، 2009 ( ص 177- 200)
2- عزي عبد الرحن: الإعلام الإسلامي، تعثر الرسالة في عصر الوسيلة، حولية جامعة الجزائر، العدد 4- 1990
3- بوعلي نصير ( إعداد): قراءات في نظرية الحتمية القيمية في الإعلام، منشورات مكتبة اقرأ- قسنطينة الجزائر- ص 183
4- المصدر ذاته، ص 183
5- أنظر:
Pierre Bourdieu: L objectivation participante, Actes de la recherché en sciences socials, Vol 150 decembre 2003, pp43-53
6- Alex Mucchielli-;- Armand et Michèle Mattelart-;- Yves Winkin-;- Yürgen Habermas-;- Pierre Levy-;- Pierre Levy-;- Paul Watzlawick-;- Luc Ferry-;- Jean-François Lyotard-;- Jean Olivier Meunier-;- Jacques Perriaut-;- Jean Louis Missika, Dominique Wolton-;- François Dosse-;- Denis Benoît-;- Bernard Miège-;- Daniel Bougnoux
7- بو علي نصير ، ص 179
8 - المرجع ذاته ، ص 179
9 - المرجع ذاته ص 182
10 - المرجع ذاته، ص 180
11- Gilbert Larochelle, Philosophie de l’idéologie . Théorie de l’intersubjectivité-;- Presses Universitaires de France, 1995-;- p 9
12- من بين الكتاب الجادين في هذا المجال نكتفي بما يلي من باب التوضيح فقط:
Dana Boynd ، و ٍSonia livingstone، Jeff seven، Steven Johnson، Evgeny Morozov، Serge Tesseron ، Jay David Bolter ، Henry Jenkins،

13- المرجع ذاته، ص 180
14- يمكن أن نذكر على سبيل مثال:
Daniel Bonvoisin et Paul de Theux: La « présentation de soi » dans les réseaux sociaux-;-
http://www.media-animation.be/La-presentation-de-soi-dans-les.html

15- نصير بوعلي: : قراءة أولية في كتاب، الإعلام وتفكك البنيات القيمية في المنطقة العربية: قراءة معرفية في الرواسب الثقافية للبروفيسور عبد الرحمن عزي، مسترجع من موقع:
https://sites.google.com/site/valuemediadeterminismtheory/naciroverview

16- بوعلي نصير، المرجع السابق، ص 182
17 - أنظر: ستيفان شوفاليه وكريستان شوفي: معجم بيار بورديو، ترجمة الزهراء إبراهيم، دلر الجزائر للنشر، 2013، ص 62
18- Eric MACÉ-;-, Les imaginaires médiatiques. Une sociologie postcritique des
Médias, Editions Amsterdam 2006
19 - عبد الرحمن عزي: الزمن الإعلامي و الزمن الاجتماعي، دراسة في تفكك بنية التحول الثقافي في المنطقة العربية،" المستقبل العربي، 11-2005
20- نصير بوعلي، مصدر سابق ص 185
21- 1أنظر على سبيل المثال:
June Woong Rhee: Strategy and Issue Frames in Election Campaign Coverage: A Social Cognitive Account of Framing Effects, Journal of communication, is published quarterly for the International Communication Association, Summer 1997/Vol. 47 No. 3
22- "عزي عبد الرحمن : الإعلام والبعد الثقافي: من القيمي إلي المرئي،" التجديد، (ماليزيا)، العدد 1 ، 1997.
23- أنظر:
Mohamed Aziza: Le theatre et l islam, Alger, SNED 1966.
24- محمد عابد الجابري: الثقافة العربية منذ الخميسنيات، مجلة المستقبل العربي، العدد 346 لشهر كانون الأول/ديسمبر 2007
25- مجموعة مؤلفين:: منارات الثقافية العربية، للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، 2009
26- أنظر:
Edgar Morin : Introduction à la pensée complexe-;- Seuil-;- 1990
27- عبد العالي زواغي: هل نظرية الجزائري عبد الرحمن عزي هي البديل.. حاجتنا إلى إعلام قيمي في ظل أزمة الإعلام المعاصر، مسترجع من الموقع:
http://www.djazairnews.info/index.php?view=article&tmpl=component&id=39523



#بن_سالم_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل تحولت علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية إلى ساحة ل ...


المزيد.....




- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - بن سالم رشيد - هل تحولت علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية إلى ساحة للشعوذة والهذيان؟