أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - علي ديوب - الروائي المصري يوسف القعيّد: القدرة على الاختصار أهم من القدرة على الكتابة















المزيد.....


الروائي المصري يوسف القعيّد: القدرة على الاختصار أهم من القدرة على الكتابة


علي ديوب

الحوار المتمدن-العدد: 1238 - 2005 / 6 / 24 - 09:13
المحور: مقابلات و حوارات
    


من المألوف أن يصل الشعر بالكاتب إلى اعتبار"القدرة على الاختصار أهم من القدرة على الكتابة"؛ أما أن تقدم له مهنة الصحافة هذه العبرة.. فهي شهادة تقدير يمنحها يوسف القعيد لوسطه الإبداعي الثاني- للصحافة، التي طالما علق عليها الأدباء استعصاء اللغة، و تملص التعبير، و فجاجة الدلالة و هروب الصورة.. الخ
هذا بعض من يوسف القعيد، أضعه بين يدي القارئ العزيز بلا مقدمات:

* يوسف القعيد ، لم هذا التعلق بالقرية؟ هل تريد أن تثبت أن الرواية ابنة للحكاية التقليدية، و ليست ابنة المدينة؟
** الريف هو الأساس عندي، نعم. و لكن ليس بمعنى تجريد فن الرواية من نسبه. أبدا. أنا مؤمن بأن كثافة المدينة أقرب إلى النص الروائي، و قد نشأت الرواية أساساً نتيجة نشوء المدن في العصور الوسطى. و كانت هذه أحدثت عند نهايات الطرق، لكي تصرّف ما تنتجه القرى. و هذا يؤكد أن الريف هو الأساس.
و المدينة هي ، في تعقيد علاقاتها، و تبعا لعدم إنسانية هذه العلاقات.. تعتبر أرضية صالحة للرواية. و لكن النوعية الختلفة للريف تجعله أقرب إلى الشعر.
* و كيف كان تجلت ثنائية ريف/ مدينة، في سيرتك الأدبية؟
** أنا، ببساطة شديدة لم أكن أتمنى العيش في المدينة. و لكن حدث أن تعرفت، في نتصف السينات، على أول أديب في حياتي- و هو المرحوم محمد عبد الكليم عبد الله- و دعانا لزيارته في قريته، و هي قريبة من قريتي( أنا من الضاهرية مركز منوفية محمافظة البحيرة، و هو من كفر بولين مركز كوم حمادة محافظة البحيرة)؛ و حين زرته وجدته رجلا يلبس الجلابية، و الطاقية، و يمسك العصا، و يقعد على الساقية.. فأعجبني المنظر جدا- منظر الأديب القاعد على الساقية، و الباني بيته في البلد.. و كان أملي أن أصبح مثله. و أكرر تجربته؛ لكن للأسف اتضح لي فيما بعد أنه لا يوجد نشر خارج القاهرة. و أنه لا توجد كتابة، و لا يوجد احتكاك بين المثقفثن. و هذا ما اضطرني للتوجه، منذ تلك اللحظة، إلى القاهرة و العيش فيها، حتى اليوم. و ذلك على طريقة " مجبر أخوك، لا بطل". و أنا، في وجداني، لا أزال فلاحا. رغم المظاهر المدنية!
* ألم ينسحب هذا الوجدان على الشخصيات الروائية لديك؟ ألا تتسم هي الأخرى بشيء من الانقسام؟
** شوف، يا سيدي: أنا جميع أبطالي من الفلاحين. و حتى عندما أكتب عن المدينة تستهويني الكتابة عن الأحياء العشوائية، حول المدينة، و التي سكانها قادمين من الأرياف. يعني حتى وجدان البطل عندي هو وجدان ابن القرية. هذه مسأل أساسية، في كتابتي.. و هي تؤكد هذا التأثير الخفي الذي تسأل عنه.
* ثمة إلحاح لدى عدد من الكتاب المصريين على ترسيخ ملامح القرية المندثرة( طقوس، عادات، و أنماط حياة بدائية دافئة و بسيطة و بطيئة..)؛ هل تحاولون التأريخ لما يموت، أم هي زفرات نوستالجيا، تقذفكم إليها صعوبات و سرعة، و برودة الحياة العصرية؟
** أنا لأول مرة جئت للإقامة في المدينة، آخر الخمسينات من القرن الماضي. و في تلك اللحظة نشأت في ذهني مقولة، قد تكون خاطئة- لكني لا زلت مؤمنا بها- هي أن "القرى خلقها الله، و إنما المدن صنعها البشر".
ثم إن ما أكتبه، و يكتبه غيري، يقرأ في المدن أكثر مما يقرأ في القرى. لأن القرية فيها نسبة أمية رهيبة. و حتى وصول الكتاب إلى القرية لا يتم بسهولة.. و يالتالي كانت عندي رغبة حقيقية لأن أقدم هذا العالم المنسي، المهمش، الخارج من دائرة الاهتمام، تقديما معرفيا لناس المدينة.
فإذن كانت تدفعني في البداية رغبة في رصد العادات و التقاليد و الأمثال الشعبية.. و ذلك من خلال شكل فني هو الكتابة الروائية. و حين قمت بذلك كنت أعيش في المدينة؛ أي أني اعتمدت عملية استحضار من الذاكرة. و كنت أدعمها بزيارات أتردد بها إلى القرية ما أمكنني. و لا تنس أن أول رواية كتبت في تاريخ الرواية المصرية، و هي رواية( زينب) لحسين هيكل، صدرت في طبعتها الأولى- 1914- بعناون فرعي هو "مناظر و أخلاق ريفية"، و لم تصدر تحت عنوان رواية؛ و علينا أن ندقق في هذين التعبيرين. ثم إن الدكتور هيكل كان أسعد حظا، لأنه كتب في فرنسا. و يمكنك أن تجد مشاهد في الرواية جوهرها مواضيع من الرومانسية الفرنسية، في العصور الوسطى.. هذا ليس طعنا بهيكل، و إنما هنا فكرة هي ابن القرية حين ينتقل إلى المدينة، و يريد أن يكتب عن القرية، يدفعه نوع من تذكير أهل المدن أن هناك قرية ترسل لكم الخيرات.. و يبقى محملا بتراث القرية و أساطيرها و حكاياتها.. و هذا شيء طبيعي. و يمكنك أن تجده في أعمالي الروائية. حتى أن رواية الحداد تكاد تكون سجلا توثيقيا للقرية المصرية منتصف الستينات. من القرن العشرين. و لكن طبعا من دون الوقوع في الستاتيكية و الجمود؛ يمكنك أن تجد الفعل و الدراما و الناس التي تحيا و تتحرك... و على خلفية من المناظرو الأخلاق و الحياة في الريف.
* هو إذن خطاب ريفي، يسعى إلى متلق مختلف- المتلقي المديني؟
** لا. ليس خطابا. و لا يمت إلى شيء من هذا القيبل المبيت. أنظر: القاهرة هذه تختصر الوطن. و نحن حين نتوجه عادة من بلدتنا إلى القاهرة، نقول "نحن رايحين مصر". و محطة القطار- في بلدنا- التي نركب منها إلى القاهرة اسمها محطة مصر. أما كلمة القاهرة هذه فهي كلام الغرباء.
* و لكن كل عواصم العالم الثالث حملت هذا المرض( اختصار الوطن)، و ذلك نتيجة الحرمان العام، في الوطن، و تمركز كل الخدمات فيها!
** نعم، و لكن القاهرة وحدها تكاد تكون عاصمة حتى للدول المحيطة. يعني فكرة العمران، و فكرة تركيز كل شيء فيها: 60% من المهندسين الزراعيين في مصر يعيشون في القاهرة. مع أن طبيغة عملهم تقتضي أن يعيشوا خارجها- في الريف!
و على كل أنا لم أقصد بالكتابة أهل المدينة.. لكن عملية النشر تجعل منهم جمعور القراءة الأساسي. هذا إذن ليس خطابا مبيتا، يحركني..
* القرية المصرية، هي أيضاً تعرضت لتغييرات ديمغرافية و ثقافيةجديدة في العقود الأخيرة؛ هل استطاعت الرواية المصرية، على العموم، رصدها؟
** نحن- عن نفسي- شهدنا ثلاث درامات أساسية في القرية المصرية: الأولى هي الثورة، و ما خلفته من تأثيرات على علاقات الإنتاج الجديدة، و صعود طبقات جديدة( طبقات الفقراء- و أنا منها)، و الثانية هي كارثة الانفتاح الاقتصادي التي تمت في منتصف السبعينات، و من ثم الثالثة، التي نعيشها اليوم، و الناتجة عن وصول آليات السوق و الخصخصة إلى القرية المصرية.
ثلاث حركات انتقال رئيسية تمت في عمر جيل واحد.. و طبعا كل كتاب جيلي عبرنا عن ذلك. و بأشكال مختلفة. و لم نبق منفصلين عن حركة الواقع الذي نعيشه.
***

* شهد جيلكم نقلة كاملة من حيز المعارضة إلى موقع المستفيد و المستثمر، و المهيمن على العملية الثقافية.. و صارت مصلحته تميل إلى تأبيد الحال. ما رأيك؟
** استنى، استنى؛ أنا أعترض على كلامك مرتين: أولا في تأكيدك أن جيل الستينات يستثمر ما قام به سابقا من معارضة. و ثانيا على أنه يحتل أماكن قيادية في الثقافة المصرية الآن.. ممكن تعطيني أمثلة..
* و ماذا عن أمثال جابر عصفور، جمال الغيطاني، و صلاح عيسى، سمير سرحان، و علي أبو شادي.. و غيرهم؟؟
** ممكن، فرد فردين ثلاثة... إنما الجيل لا أعتقد أنه في موقع القرار الثقافي، أو أنه انتقل من موقع المعارضة إلى مواقع الاستثمار.
موقف المثقف من النظام، يتحدد برأيي بحالات ثلاثة: إما معارضا، أو مبررا أو متفرجا. و لعله من الصعب عليك أن تأخذ مثقي جيل بكامله، و تطلق عليه هذا التعميم. فنحن أفراد، و لكل فرد اختلافاته. و الحكم الراهن في مصر مثل الحكم الراهن في سورية( يضحك: لا أدري إذا كنت ستبقي على الجملة الأخيرة)؛ لا أعتقد أنه يجلب المثقف و يقول له حقق ما كنت تحلم به. أعتقد أن الجيل في الجوهر لا يزال في موقع المعارضة، و طبعا بدرجات متفاوتة.
و أريد أن أضيف بأن فكرة المجايلة الأدبية هي من أكثر الأفكار غموضا. و لم تدرس الدراسة الجيدة حتى الآن. تقو لي مثلا جيل الستينات، طيب، نجيب محفوظ يقول: نشرت أفضل أعمالي في الستينات، فهل أعتبر من جيل الستينات؟ و هو رجل مولود في 1911. فما المقصود بالجيل، إذن؟ تاريخ الولادة؟ تاريخ النشر؟ في الستينات نشر صلاح عبد الصبور أفضل شعره. و كتب ألفريد فرج و محمود دياب أفضل مسرحياتهما، و غيرهم.. و غيرهم!
* أعتقد أن فترة الانطلاق، هي التي تحدد جيل الكاتب؛ و على كل انا أتجاوز الجيلية- كإشكالية- نحو جوهر السؤال؟
** يا أستاذي، نحن في الستينات، و لولا نكسة يونيو-1967- هذه الكارثة التي ألمت بنا، و التي لا تزال لغاية اللحظة تعيش في داخلنا، و نلتف حولها.. لولا الدراما الرهيبة تلك: دراما الصعود الصعود العظيم، ثم النكسة المروعة.. لما كان، ربما، تعبير الستينات خرج إلى الوجود.
يعني نحن جيل يلتف حول هزيمة. لا على تقدم ، و لا على نصر، و لا على إعادة بناء. و هزيمتنا لاتزال مستمرة حية و مؤثرة.
* تجد السلطة العربية الاستبدادية في ذريعة الحرب بابا لديمومة وضعها الشمولي، بقوانينه الاستثنائية، و لاستغلال خيرات الوطن، و تبديد طاقات المواطن.. هل تعتقد أن الرواية العربية تمكنت من فضح هذه الأكذوبة؟
** في روايتي "الحرب في بر مصر" كشفت جانبا من هذه الحقيقة/ الفضيحة. تقول الرواية أن الحرب صنعها الفقراء، و حولها الأغنياء إلى مشروع استثماري. هذا تلخيص مخل، و لكن هذا هو موضوعها. و هو نوع مما يكرره التاريخ.. و لما كنتم أنتم في سورية طرفا في الحرب تلك، فقد أنتج كتابكم أشياء مهمة في هذا. و أنا لا أنسى رواية أحمد يوسف داؤود "دمشق الجميلة". قبل أن يتحول إلى الدراما التلفزيونية، و من ثم للأسف تنقطع أخباره.. و هناك رواية "جرماتي" لنبيل سليمان، و "من يحب الفقراء" لعبد العزيز هلال.. يعني فعلا طرحت الحرب معها، و بعدها، أدبيات اقتضت كشفها، رغم ما ينتج عن ذلك من فظائع، أو فضائح..

***
* هل تعتقد أن الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى، تتم لاعتبارات فنية صرفة، أم تحركها العلاقات؟
** سؤالك يحمل صيغة استنكارية، و رغم أن كلا الأمرين وارد؛ أنا رأيي أن الوقوف عند العلاقات الشخصية لا يفيد كثيرا.. لأن الذي يجب أن نتكلم عنه هو هل هذا الأدب الذي تمت ترجمته قرئ جيدا؟ أو بالتحديد أكثر: هل تجد هذه الأعمال طريقها إلى راكب المترو في لندن و باريس؟ و هل المسافر الياباني من طوكيو إلى لوزاكا، لساعتين، يقرأ رواية مترجمة؟ هذا هو السؤال الأساسي؛ و أنا جوابي عليه لا، للأسف.
* و حتى لو كان الكاتب من وزن ماركيز؟
** أقول لك لا. بالنسبة لنا ككتاب عرب. لأن الأهم في المادة المقروءة في الغرب، هو أن تطبع طبعات شعبية. و أعتقد أنه لم يصل لتلك الطبعات، حتى لنجيب محفوظ، إلا الشيء اليسير.. ثم إن الكثير من أدبنا ترجم في إطار الجامعات و المستشرقين و مراكز البحوث. لكننا لا نمثل كتابا يقرأ لهم.
* و كيف إذن تتحول أشعار محمود درويش و أدونيس، مثلا، إلى مأثورات على جدران محطات المترو في باريس؟
** انتظر انتظر؛ أنا في استوكهولم وجدت مثلا أن أهم ثلاثة كتاب عرب وصلت أعمال لهم إلى الأرصفة، هم( سمير أمين، أنور عبد الملك، و نوال السعداوي). و لم أجد حتى نجيب محفوظ!
نعم يمكنك أن تجد ماركيز في محطات المترو، و لكن نجيب محفوظ لا. ذلك لأن ماركيز( يتمهل) ابن أمريكا اللاتينية، التي هي جزء من الحضارة الغربية. أما نحن ف( الآخر). و لا أريد أن أقول بالتقسيم التقليدي( إسلام/ مسيحية، أو يهودية..)؛ نحن الشرق.
هذا الوضع كان أيام زمان، في التسعينات. و أنت حينما تنظر لاحقا إلى كارثة سبتمبر و ما تبعها، تدرك أن هذا الطريق بات مسدودا... و لكن لا يمنع من ترجمة و إيصال أعمالنا. لكني لست متفائلا. و ليس لدي إحساس بأنه يمكن للأدب العربي أن يواجه يوما آداب أسيا و أمريكا اللاتينية و إفريقيا..
***

* يعرف عنك أنك تحظى بعلاقة قوية، مع كل من نجيب محفوظ و محمد حسنين هيكل.. فهل تفيدنا بنظرة عن قرب لكل من الرجلين؟
** في منتصف الستينات أصدرت أولى رواياتي، فأحببت أن أضعها بين يدي أدباء مصر. و الكاتب الوحيد الذي تكلمت معه هاتفيا، بعد حصولي على رقمه من الدليل، هو نجيب محفوظ، الذي أعطاني ميعادا على القهوة. و هناك استلم الرواية مني، و نشأت بيننا علاقة بسيطة. في حين كان الكتاب الآخرون إما وزراء، أو رؤساء مجالس إدارة، أو مسؤولون في الدولة. و كان الاتصال بهم صعبا. بل كان من أصعب الأشياء- في الدنيا- أن تستطيع رؤية إحسان عبد القدوس مثلا.. أو أن ترى يوسف السباعي، أو حتى أحمد علي باكثير( رغم أن هذا لم يكن يمت إلى المناصب بصلة). أما نجيب محفوظ فكان هو الوحيد الذي بإمكانك أن تراه على القهوة. و يكفي أن تشد كرسي لتجلس إليه.. و نحن كلنا تقريبا تعرفنا- من حوله- بعضنا على البعض الآخر.
هناك اختلافات أساسية بيني و بين الأستاذ نجيب، كرجل ليبرالي. أختلف معه في مواقفه من عروبة مصر، في فرعونية مصر، و في السلام مع الاسرائيلي.. لكن هذا رجل يمكن أن تختلف معه، و لا يؤدي الخلاف إلى دم. حقيقة أنا أقصد ما يتجاوز العبارة المتداولة، التي تقول" خلاف لا يفسد للود قضية"؛ فأنا أعني الاختلاف الشديد، الذي يفصل بينكما، و تصلان إلى الخصومة. نعم. و طبعا هناك أبوته لنا؛ يعني تقريبا هو الوحيد- مع يوسف إدريس و يحيى حقي- أصحاب التجارب الكتابية قبلنا، تستطيع القول أنك تتلمذت على أيديهم، و تربيت عليهم، و قرأت لهم؛ و يمتاز محفوظ عن صنويه بميزة أخرى هي أنه قارئ جيد. و كنا نتبادل الكتب، و كذا الآراء. و حين نعطيه أعمالنا يعود إلينا برأيه فيها، بعد أسبوع. و صحيح أنه كان يخالطه بعض مجاملة، لكنك تطمإن أنه قرأك.
* لكن هناك من تحدث عن خصومتك له جراء انتقاده لروايتك( الحداد)؟
** قرأ الحداد، و قال أنها بعد الفصلين الأول و الثاني لم تضف جديدا. و أنا أخذتها على أنها مسألة صراع أجيال.. و أن الرجل غيران..و لكن لما رجعت إليها ثانية، وقرأتها مع الطبعات اللاحقة، لقيت أن كلامه يحمل قدرا من الصواب و الصحة. و هذا جعلني أعترف أن الرجل- كما يقال عندكم بلهجة أهل الشام- يعني " شيخ الكار". و هذا شيء عظيم، لم يفعله لنا أحد سواه!
* و ماذا عن هيكل- رجل السياسة، و اعتزاله الكتابة؟
** أنا لم أعلاف هيكل إطلاقا في زمن سطوته. أي عندما كان رئيس تحرير الأهرام، و كان بالضبط يعادل معنى " كن فيكون". لقد كان حاكماً أساسياً في مصر: هو مثلاً أتى بيوسف إدريس، و لويس عوض، و توفيق الحكيم، و نجيب محفوظ، و صلاح جاهين، و عبد الرحمن الشرقاوي.. لقد عمل نهضة حقيقية.. يومها لم أكن أعرفه. و قد ذكرت هذا في مقدمة كتاب عملته معه عن تجربة عبد الناصر مع المثقفين.
و لكن عندما صدرت روايتي" يحدث في مصر الآن"، في السبعينات، ناداني الاستاذ محمد السيد أحمد، في حزب التجمع، و قال لي: الأستاذ هيكل يريد منك نسخة من الرواية، فجلبت له نسخة، و حملتها إهداء لمحمد السيد أحمد. و تكرر هذا إثرإصداري لرواية" الحرب في بر مصر".. و لكن بعد صدور الجزء الأول من ثلاثية" المصري الفصيح" طلب أن أذهب إليه، و كان خرج يومها من الإهرام. و صار صاحب مكتب خاص، مثله مثلي. بفارق الاسم و الامكانيات طبعا. و أنا، بالمناسبة، أختلف مع وصفك له بالسياسي. ذلك لأنه من أكثر الناس قراءة و متابعة للأدب، و حفظاً للتراث الشعري. مثلاً، لما نال ماركيز جائزة نوبل للآداب- 1984- و بدأنا نهتم به في مصر، لهذا السبب، كلمت هيكل عنه، ففوجئت بأنه يعرفه المعرفة التامة؛ من أن زوجته مصرية، من بورسعيد، و أنه تقلب في المواقف من يساري إلى.. و أنه كان صحفيا.. و.. ما إلى ذلك.
* و لكن أليست هذه معلومات صحفية؟
** لا، بل هي أدبية. لآن لأن المعلومة الصحفية تؤخذ عادة من وكالات الأنباء.. ثم إن هيكل يستطيع أن يلخص لك مشروع غارثيا ماركيز بأنه أكبر من هز عروش الديكتاتوريات في أمريكا اللاتينية. صحيح أن هناك من سبقه، و هناك من لحقه، أيضا، و لكن هذه تظل علامة أساسية في تجربة الرجل.
و هيكل يعتبر تجربة ثقافية شديدة الأهمية. و أنا صلتي به- بعيدا عن لغة النفع- صلة مهمة. لأن هذا يمثل لي زهو مرحلة انتهت، و أنا الآن متوجع. و لعل من المهم أن ترى أزهى أيام عمرك تنسرب و ترحل.. و الفترة التي ارتبطت بها و كتبت عنها.. كل هذا ممثل بشخص- شخص تستطيع أن تراه و تتعامل معه!
* إذن هل خلف اعتزال هيكل خسارة للأدب أيضاً؟
** هذا صحيح. و رأيي الشخصي أن تجربة هيكل، التي بدأت في الأهرام، تجربة وضعت الركيزة لدور مصر الثقافي في الوطن العربي.
فمصر قادت الأمة العربية لا بخطب جمال عبد الناصر، وإنما فعلت ذلك بصوت ام كلثوم، و بالكتاب، و الاسطوانة، و بلوحة الفن التشكيلي، و بالفيلم السينمائي.. الخ. و هيكل كان دوره أساسياً في دور مصر الثقافي المهم، بدءً من 1852- 1970.
***

* لكي تضع نفسها فوق المبدع، و تجنده لأيديوليتها.. فرضت الثقافة الشمولية رؤيتها بأن الموقف هو الذي يصنع المبدع؛ هل توافقني أن موقف المبدع يأخذ أهميته من إبداعه؟
** لا، أنا أختلف معك: أنا أرى أهمية المبدع تقوم على مواقفه. و حتى ماركيز أهميته بنيت على مواقفه.
* لو كان هذا صحيحا لعمنا على بحر من الماركيزات.. و لأن القضايا تتبع المدافعين عنها، فقد صرنا إلى ما يخجل أمم الأرض!
** شوف: كل المثقفين يطبعون كتبا و ينشرونها. و لكن أن تتحول هذه الكتابات إلى سلطة عند الناس، و أن يضبط هؤلاء موقفهم على الموقف الذي سيتخذه هذا الكاتب أو ذاك- و يعتبروه بوصلة لهم- فهذا أمر يحمل كبير الأهمية. نحن كنا ننتظر ملحق الأهرام، كل يوم جمعة، كي نعرف كيف تفكر مصر.. و الأسماء التي سبق و ذكرتها كانت هي المعيار للمزاج العام في مصر.
هنا الأمر ليس مجرد كتابة إبداعية صرفة- كما ترى- بل موقف متمم للكتابة الإبداعية. أما الحرفة الصرفة، من إجادة و فشل، و .. الخ فهذه أمور تناقش بين أصحاب المهنة( بيننا و بين بعض).
* يوسف القعيد واحد من الأدباء الذين مارسوا الصحافة، إلى جانب الأدب؛ كيف تجلى تأثير ذلك بين الصنفين لديك؟
** كل أديب، عادة، يقول لك " أنا لم أستفد من الصحافة". أنا شخصيا استفدت حاجتين أساسيتين: الأولى أنني تمكنت من رؤية كل شبر في مصر. و هذه مسألة شديدة الأهمية، أن تكتب عن واقع تعرف كل ما فيه. و الثانية تتمثل في رفع القداسة عن الكلمة. حيث كنت أعتقد، قبل أن أشتغل في الصحافة، أن كل ما أكتبه يجب أن ينشر حرفيا. لأني كنت أكتب بغاية تغيير العالم. لكن لقيت في الصحافة أنني أستطيع اختصار موضوعي إلى النصف، بل إلى الربع، بل و إلى عمود من أصل ثمانية.. و يكون ذلك في صالحه.
عملي في الصحافة هو الذي مكنني من إدراك هذه الحقيقة، التي تجعلني اليوم أقول بأن القدرة على الاختصار أهم من القدرة على الكتابة. فالتحدي هو كيف تكون مختصرا و مركزا. لديك مشاعر تقدر بثلاث درجات، فتكتبها بكلمات تساوي ثلاث درجات. لا ثلاثة و نصف، و لا اثنتين.
أنا الآن- و بعد تجربة كبيرة في العمل الصحفي- أرى الكتاب نوعين: من إذا أطال أمل( و هذا يمثل كارثة)، و من إذا أقصر أخل. هذه المهمة الشاقة لا تستطيع أن تتعلمها إلا من خلال رائحة ورق الصحافة. و لعلمك فأنا توقفت عن العمل الصحافي منذ مطلع هذا القرن.



#علي_ديوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سليم الحص و سلاح المقاومة
- قصة موت معلن في اللاذقية!؟
- فكرة- لبنان تموت إذا استبدت به كراهية الغير-
- بالشكر تدوم النجوم


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - علي ديوب - الروائي المصري يوسف القعيّد: القدرة على الاختصار أهم من القدرة على الكتابة