أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد محمد أنور - المكون الثقافى للشخصية المصرية















المزيد.....



المكون الثقافى للشخصية المصرية


أحمد محمد أنور

الحوار المتمدن-العدد: 4311 - 2013 / 12 / 20 - 00:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



مقدمة
عُرفت الشخصية المصرية بملامح خاصة تميزها عن غيرها منذ القدم ، فالمصرى يحمل فوق كتفيه ثقافة ضاربة فى عمق التاريخ السحيق ، والحكمة البسيطة أو الأحدوثة الأسطورية التى نسمعها من فلاحةٍ عجوز سنجدها عند التحليل والدراسة ، تجسيد أصيل للثقافة المصرية ولحضارة الآباء الأوائل فى أعمق وأبهى صورها.
فالثقافة المصرية كانت اذاً ولا تزال هى جوهر الانسان المصرى ، والمحرك الرئيس لوجدانه وعقليته ، والمُشكل والجامع لخيوط شخصيته ، وتتعجب حين ترى أن تلك الشخصية ، كانت دوما مثارا لنقد الانسان المصرى فى غير جانب من جوانبها ، وأن الانسان المصرى لم يعرف السُخرية من نفسه أو صياغة النُكتة ونقد واقعه الا بعد عصر الاضطمحلال الأول – بداية الأسرة السابعة – منذ انهارت دولته القديمة وفقد احساسه بقوميته ، وهو الذى تميز منذ كون أول حكومة مركزية فى التاريخ ، وأول دولة قومية بالمفهوم الصحيح ، بالجدية والانضباط والايمان والاخلاص والمودة والتسامح والكرم وحب الحياة والانتماء لأرضه والذوبان والحنين الى الوطن.
وبشكل عام ثمة علاقة حميمة بين مُصطلحين شائعين فى حياتنا ومجتمعاتنا البشرية وهما الثقافة والشخصية culture and personality... ، وذلك لأن معظم التعريفات التي تناولت مفهوم الثقافة، أكدت على ارتباطها بشكل اساسي بالنتاجات/ الابداعية والفكرية/ للانسان. وهذا يعني ان الثقافة ظاهرة مُلازمة للانسان، باعتباره يمتلك اللغة، واللغة وعاء الفكر، والفكر ينتج عن تفاعل العمليات العقلية والنفسية التي يتمتع بها الانسان دون غيره من الكائنات الحية، فالعناصر الثقافية وجدت معه مذ احس بوجوده الشخصي/ الاجتماعي، واخذ مفهومها يتطور ويتسع، وتتحدد معالمها مع تطور الانسان، الى ان وصلت الى ما هي عليه الآن.
والسؤال الذى تطرحه هذه الدراسة هو "هل هناك ـ بالفعل ـ خصوصية لنفسية الإنسان المصري؟؟" ، سنقوم هنا فى هذه المحاولة برصد الخصائص النفسية الأساسية للشخصية القومية للمصرى، ومحاولة تتبُع المكون الثقافى الأصيل لها ، فى شتى نواحيه السياسية والحضارية والدينية.
هذا موضوع خاص جداً، خاص بكل المقاييس لأنه يتناول أدق وأصعب مكونات الإنسـان، نفسه، المرآة التي تعكس كيـمياءه، روحه، انفعالاته، وحياته بشكل عام.


اولا : مفهوم الشخصية ‏

انطلاقاً من ان الشخصية تعبر عن الجوهر الاجتماعي/ الحقيقي للانسان، فقد عرّفها رالف لينتون، بانها:«المجموعة المتكاملة من صفات الفرد العقلية والنفسية، ‏اي المجموع الاجمالي لقدرات الفرد، العقلية واحساساته ومعتقداته وعاداته، واستجاباته العاطفية المشروطة» (لينتون، 1964، 607)،
كما عرفها فيكتور بارنوا: بانها تنظيم لدرجة ما، للقوى الداخلية للفرد، وترتبط تلك القوى بكل مركب من الاتجاهات والقيم والنماذج الثابتة، بعض الشيء، والخاصة بالادراك الحسي، والتي تفسر _ الى حد ما _ ثبات السلوك الفردي»، وهكذا، يعبر مفهوم الشخصية عن الوصف الاجتماعي للانسان، والذي يشمل الصفات التي تتكون عند الكائن البشري من خلال التفاعل مع المؤثرات البيئية، والتعامل مع افراد المجتمع بصورة عامة. وهذا ما يعبر عنه: (بالجوهر الاجتماعي للانسان). اي انها مجموعة الخصائص (الصفات) التي تميز فردا/ انسانا بذاته، من غيره في البنية الجسدية العامة، وفي الذكاء والطبع والسلوك العام. الشخصية اذن هى ذلك النظام الدقيق المتماسك، المتفرد الديناميكي لمجموعة الصفات الثابتة نسبياً ـ والتي يمكن التكهن بها أيضاً ـ للسلوك الإنساني وللتفكير البشري، تلك المكونة للإنسان الفرد في تفاعله مع الآخرين، والمؤسِسَة لاستجاباته المختلفة لشتى المؤثرات الاجتماعية المحيطة به.
ثانيا : مفهوم الثقافة ‏

تُعد الثقافة عملا مهما في تصنيف المجتمعات والامم، وتمييز بعضها من بعض، وذلك بالنظر لما تحمله مضمونات الثقافة من خصائص ودلالات ذات ابعاد فردية واجتماعية، وايضا انسانية، ولذلك، تعددت تعريفات الثقافة ومفهوماتها، وظهرت عشرات التعريفات ما بين (1871 _ 1963)، منها ما اخذ بالجوانب المعنوية/ الفكرية، او بالجوانب الموضوعية/ المادية، او بكليهما معا، باعتبار الثقافة _ في اطارها العام _ تمثل سيرورة المجتمع الانساني، وابداعاته الفكرية والعلمية، وهذا التنوع في التعريفات، حدا بـ/ادغار موران/ ان يقول بعد مرور قرن على اول تعريف انثروبولوجي للثقافة:«الثقافة بداهة خاطئة، كلمة تبدو وكأنها كلمة ثابتة، حازمة، والحال انها كلمة فخ، خاوية، منومة، ملغمة، حائلة.. الواقع ان مفهوم الثقافة ليس اقل غموضا وتشككا وتعددا، في علوم الانسان منه في علوم التعبير اليومي»

ولعل اقدم تعريف للثقافة، واكثرها شيوعا، ذلك التعريف الذي وضعه/ ادوارد تايلور/، والذي يفيد بان الثقافة: هي ذلك الكل المركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد، والفن والاخلاق والقانون، والعادات وغيرها من القدرات التي يكتسبها الانسان بوصفه عضوا في المجتمع ، وعرفها عالم الاجتماع الحديث/ روبرت بيرستيد/ بقوله:«ان الثقافة هي ذلك الكل المركب الذي يتألف من كل ما نفكر فيه، او نقوم بعمله او نمتلكه، كاعضاء في مجتمع»،‏ وضمن هذا المفهوم، يرى/ جيمس سبرادلي J.SPRADLEY ان ثقافة المجتمع، تتكون من كل ما يجب على الفرد ان يعرفه او يعتقده، بحيث يعمل بطريقة يقبلها اعضاء المجتمع.. ان الثقافة ليست ظاهرة مادية فحسب، اي انها لا تتكون من الاشياء او الناس، او السلوك او الانفعالات، وانما هي تنظيم لهذه الاشياء في شخصية الانسان، فهي ما يوجد في عقول الناس من اشكال لهذه الاشياء. ‏

وربما يكون احدث مفهوم للثقافة، هو ما جاء في التعريف الذي اتفق عليه في اعلان مكسيكو، والذي ينص على ان الثقافة - بمعناها الواسع - يمكن النظر اليها على انها:«جميع السمات الروحية والمادية والعاطفية، التي تميز مجتمعا بعينه، او فئة اجتماعية بعينها. وهي تشمل: الفنون والآداب وطرائق الحياة.. ‏ كما تشمل الحقوق الاساسية للانسان، ونظم القيم والمعتقدات والتقاليد». ‏
ثالثا : العلاقة بين الثقافة والشخصية ‏

ان شخصية الفرد تنمو وتتطور، من جوانبها المختلفة، داخل الاطار الثقافي الذي تنشأ فيه وتعيش و تتفاعل معه حتى تتكامل وتكتسب الانماط الفكرية والسلوكية التي تسهل تكيف الفرد، وعلاقاته بمحيطه العام. ‏
وليس ثمة شك في ان الثقافة مسؤولة عن الجزء الاكبر من محتوى اية شخصية، وكذلك عن جانب مهم من التنظيم السطحي للشخصيات، وذلك عن طريق تشديدها على اهتمامات او اهداف معينة. ويكمن سر مشكلة العلاقة بين الثقافة والشخصية في السؤال التالي:«الى اي مدى يمكن اعتبار الثقافة مسؤولة عن التنظيم المركزي للشخصيات؟ اي عن الانماط السيكولوجية؟ وبعبارة اخرى: هل يمكن للتأثيرات الثقافية ان تنفذ الى لباب الشخصية وتعد لها؟»
هذا وبعد أن تناولنا مفاهيم الشخصية والثقافة والعلاقة بينهما ، يثور تساؤل هام "هل هناك حقاً سمات نفسية محددة للشخصية المصرية أم أن الأمر محض تكهن" ؟!
ومما لاشك فيه أن هناك خصائص وسمات يختص بها الإنسان المصري دون سواه، وهذا ينطبق على الإنجليزي والمغربي مثلاً، كما في كل شعوب الأرض. هل التعميم واجب وهل هناك ضرورة للتحديد؟!
التعميم بشكل مطلق غير علمي، ولكن تحديد السمات والصفات الغالبة ضرورة لابد منها.
رابعا: البيئة الطبيعية والشخصية المصرية :

للطبيعة أثر كبير على الشخصية لدرجة أن علماء النفس والإجتماع استطاعوا أن يضعوا صفات مميزة لسكان المناطق الريفية تميزهم عن سكان سواحل البحار , وتميز هؤلاء وهؤلاء عن سكان الجبال والصحارى .
يقول جوستاف لوبون فى كتابه " الحضارة المصرية القديمة " : " إذا كان المصرى قد شعر بالسأم من سهوله الوضاءة المشرقة , فإنه قد جهل الآلام المفزعة والتى تنشأ على شواطئ البحار الموحشة , وفى خلال الشفق الأحمر تحت السماء المتقلبة الغادرة ".
فإذا نظرنا إلى الطبيعة المصرية وجدنا النيل يتمايل فى هدوء بين جنبات الوادى السهل المنبسط , ووجدنا سجادة من الخضرة الجميلة والمريحة منبسطة على ضفتيه تدعو للراحة والإسترخاء , وخرير المياه فى القنوات والترع , وأنين السواقى وهى تروى عطش الأرض , ووفرة الغذاء الناتج عن الأرض الخصبة المعطاءة , والسماء الصافية معظم فصول السنة , والشمس المشرقة على مدار العام , والمناخ المعتدل صيفا وشتاءا والذى يخلو من التقلبات الحادة والعنيفة والمهددة . هذه هى الطبيعة التقليدية التى عاش فيها المصرى على ضفتى النيل وتركت بصماتها على شخصيته فى صورة ميل إلى الوداعة والطمأنينة والهدوء وطول البال والدعابة والمرح والتفاؤل والوسطية وحب الحياة . هذه السمات لاندركها بوضوح إلا إذا قارناها بسمات من يعيشون فى بيئات مهددة مليئة بالعواصف والنوّات على سواحل البحار والمحيطات الهائجة , أو من يعيشون فى بيئة صحراوية أو جبلية شديدة القسوة والفقر والجفاف , أو من يعيشون فى غابات مليئة بالحيوانات المفترسة يتوقعون الخطر فى كل لحظة , أو من يعيشون فى القطبين تحت العواصف الثلجية ويلبسون ثيابا ثقيلة تحد من حركتهم وتلقائيتهم وتخنقهم تحت ثقلها ، وإذا كانت الطبيعة السمحة البسيطة المعطاءة قد أعطت صفاتا إيجابية فإن لها أيضا جانبا سلبيا , حيث منحت المصرى شعورا زائدا بالطمأنينة والسكينة وصل به فى بعض الأحيان إلى حالة من الكسل والتواكل والسلبية والتسليم للأمر الواقع والميل إلى الإستقرار الذى يصل أحيانا إلى حالة من الجمود . فالشخصية المصرية مثل الطبيعة المصرية لاتتغير بسهولة ولا تتغير بسرعة , بل تميل إلى الإستقرار والوداعة والمهادنة وتثبيت الوضع القائم كلما أمكن والتصادق معه وقبوله . وهذه الصفات قد خدمت إلى حد كبير كل من حكموا مصر على مدار التاريخ حيث كان ميل المصرى للوداعة والطمأنينة والإستقرار يفوق ميله للثورة والتغيير , وربما يكمن هذا العامل وراء الحالة المزمنة من الحكم الإستبدادى على مدار التاريخ المصرى , فقد كان الحاكم يبدأ بسيطا متواضعا ثم بطول المدة واستقرار الأوضاع تتمدد ذاته على أرض الوادى الخصيب وسط أناس طيبين مسالمين وادعين , وشيئا فشيئا تتوحش هذه الذات الحاكمة وتحكم قبضتها على رقاب الشعب , والحاكم يعرف دائما أن الشعب المصرى لا يميل إلى الثورة خاصة فى أشكالها العنيفة . فخلو الطبيعة المصرية – نسبيا - من الزلازل والبراكين والنوّات والأعاصير الجارفة يقابله ميل شعبى لاستمرار الإستقرار واستقرار الإستمرار , وهذا شعار يرفعه كل حاكم استبد بحكم مصر واستغل هذه الرغبة الدفينة لدى المصريين فى الإستقرار والوداعة وراحة البال . وذكر ابن خلدون فى مقدمته : " أن أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح , والخفة , والغفلة عن العواقب " . وربما يفسر هذا كون المصريين كانوا يحكمون بواسطة حكام أجانب معظم مراحل تاريخهم , وكانوا يقبلون ذلك سماحة أو طيبة أو غفلة أو تهاونا أو رغبة فى الراحة والإستقرار . وحين كانت تشتد بهم الخطوب نتيجة عسف الحاكم الأجنبى المستبد والمستغل كانوا يستعينون بالنكات اللاذعة والسخرية لتخفيف إحساسهم بالمرارة مما يعانون , وكان سلاح السخرية يؤجل الثورة وربما يجهضها لأنه يعمل على تنفيث الغضب الكامن والمصرى يتحرك ويثور فى حالات قليلة ومحددة وهى :
1- حين تنتهك قدسية عقيدته الدينية المتراكمة عبر عصور طويلة .
2- حين تجرح كرامته الوطنية بشكل مهين .
3 – حين تهدد لقمة عيشه بشكل خطر .
والطغاة والمستبدون كانوا يعرفون حدود هذه الأشياء فيحفظون له الحد الأدنى منها حتى يضمنوا استمرار ولائه , أو يحاولون خداعه حتى لا يصل إلى حالة الشعور بالمهانة أو العوز المحرض على الثورة .

التغيرات الطارئة على البيئة الطبيعية لمصر

ولا شك أنه قد حدثت تغيرات شملت الطبيعة المصرية وامتد تأثيرها إلى الشخصية المصرية , فقد أدى الزحام الشديد فى المدن والقرى إلى الإحساس بالضيق والإختناق والحرارة الزائدة خاصة فى الصيف , إضافة إلى ارتفاع معدلات التلوث السمعى والبصرى , كل ذلك أدى إلى تنامى حالة من العصبية وسرعة الإستثارة والعدوان لدى المصريين بشكل لم يكن معهودا من قبل . وعرف المصريون الزلازل فى السنوات الأخيرة فاهتز الإحساس بالإستقرار بعض الشئ . ولم تعد خيرات الأرض تكفى المصرى أو تطمئنه لذلك لم يعد مطمئنا كما كان واضطر للسفر إلى شرق الأرض وغربها باحثا عن لقمة العيش له ولأسرته , ثم عاد بعد سنوات وهو يحمل أفكارا وتوجهات تنتمى إلى بيئات وثقافات أخرى , وضعف لديه الإنتماء بدرجات متفاوتة عن ذى قبل لأن البيئة المصرية لم تعد معطاءة كما كانت ولم تعد مستقرة كعهده بها ولم تعد وديعة مطمئنة كما عرفها . وقد أدى هذا إلى بعض التغيرات نذكر منها :
1- توجهات دينية استقطابية لا تعترف بالآخر المختلف وتميل إلى تكفيره أو استبعاده .
2 – جماعات تميل إلى التعامل بعنف مع السلطة والمجتمع , ولكن هذه الجماعات لا تشكل حتى الآن تيارا عاما , حيث بقى عموم الناس متأثرين بالطبيعة القديمة للشخصية المصرية نوعا ما , وإن كان هذا قابل للتغير فى السنوات القليلة القادمة فى حالة استمرار الضغوط السياسية والإجتماعية والإقتصادية القائمة.
3- رغبة فى الهجرة إلى أى مكان فى الأرض بعيدا عن الأحوال المعيشية الصعبة التى تخلو من الأمل والحلم خاصة للشباب .
4 – حالة عامة من الإحباط والقلق والضيق , ولكنها لا تتشكل – حتى الآن - فى صورة فعل يهدف إلى التغيير.
5- شراهة استهلاكية لدى الجميع – رغم الفقر – وخاصة الفئات التى أثرت ثراءا طفيليا سريعا، إذن فقد تغيرت الطبيعة فى بعض جوانبها وتغيرت تبعا لذلك الشخصية المصرية فى بعض سماتها.

خامسا: الخصائص النفسية العامة للانسان المصرى

1- المصري انبساطي بطبعه وهو أيضاً انطوائي، بمعنى آخر أن الظرف يخلق جوّه النفسي العام من فرح ومرح وابتهاج (ليست كل الشعوب كذلك، والإنجليزي مثلاً خير مثال على ذلك) ، كذلك فإن الظرف يجعله يحزن ويكتئب وقد ينبسط وينطوي في فترة زمنية قصيرة، وقد يكون انبساطه هذا متصلاً مرضياً بمعنى أنه نوع من الحيل الدفاعية الإنكار ـ Denial ، فقد يضحك على المُحزن ولا يبالي بالذي يدعو للترقب والحذر (تكوين عكسي). كل تلك الأمور تعتمد إلى حد كبير على الاتجاهات الداخلية والخارجية : الداخلية بمعنى عالمه الخاص، رؤاه، أحلامه، خيالاته (فانتازياه)، العوامل الوراثية التي تجري في دمه وتشكل طبعه، والخارجية بمعنى درجات تفاعله وردود فعله تجاه الحدث صغيراً كان أم كبيراً، ومدى توحده بما يستمتع به داخل بيته، في عمله، في الشارع وفي الوطن عموماً.

غير أن هناك أنواعاً من الشخصية تمثل أبعاداً عميقة للغاية. ومن ثم يمكن فحص مسألة "الانبساطية" كطبع في الشخصية لا "كحالة فرح"، وذلك من خلال رؤيتها كمنظومة نفسية على درجة عالية من الدقة لسمات ليست لها أبعاد محددة مثل الاختلاط بالآخرين، النشاط الاجتماعي، الحيوية، الاندفاع، والسيطرة الوجدانية على المحيطين: يبدو من تلك الملاحظات العامة أن الإنسان المصري بدأ، أو علَّه فعلاً فَقَد تلك الانبساطية التلقائية، أو علَّه بالفعل فقد منظومتها الداخلية الدقيقة فترك نفسه نهباً لما يحدث حوله، يستسلم له، ينهش فيه؛ فيضحك إما سخرية من الآخرين، أو من نفسه، وقد يضحك في أسى أسود، وقد ينبسط ويضحك عالياً لكن لفترات محدودة، في محاولة للشفاء من أمراض المجتمع وتوحش العلاقات الإنسانية حوله، وكذلك التشبث الشديد بالماضي أو الحلم الغريب بالمستقبل المزدهر الذي ـ يمكن ـ أن تستمر فيه الانبساطية أطول، وتكون فيه الانطوائية مجرد انعطافة.

2- المصري عاطفي، رومانسي في آماله وأحلامه، رومانسي جداً في حبه لمصر (وكأن مصر هي الكون كله)، ورغم المنغصات يتمسك، أو يحاول التمسك بهذه الرومانسية، لكنه تدريجياً يفقد الثقة في أحلامه وفي عاطفته، فنجده يُصفع من أصدقائه، يُهزم ، ويحزن ، وتدريجياً تُسلْب عاطفته حتى يصبح خشناً وفظاً، يائساً وفاقداً للحلم .

3-المصري صبور وكأنه الجَمَل، يحب اجترار أحزانه وأفراحه ، يحزن، وينفجر فجأة، يتحمل حتى لو كان رقيقاً، يخاف المستقبل ويخشاه ويعمل له ألف حساب، يتألم بشدة ويخشى الزمن وتقلباته، في داخله إحساس دفين بعدم الأمن والأمان، ولا يثق في الآخرين بسهولة على الرغم من أنه ـ أحياناً ـ قد يصدق، رغبة في التصديق، أو رغبة في الهروب.

4-المصري طموح، يسعى ويجتهد ويبتكر وينفعل، لكنه ـ أحياناً ـ ما يصاب بالبلادة نتيجة الإحباط المستمر والفشل المتكرر، رغبته في تحقيق ذاته عالية، وإذا ما اصطدمت بالظروف والعقبات تألم ونعى نفسه وقعد في ركن ينزوي ويمضغ أحزانه.

5-المصري يتفاعل مع البيئة المحيطة ويشارك فيها، يغني مع المغني، يرقص مع الراقص، يضحك مع المُضحك، يقف احتراماً للوحة تشكيلية، وقد ينحني لمن يعلمه فناً وذوقاً، يحتضن الآخر ـ غير المصري ـ خاصة في مجالات الفنون والآداب، يقدره ويحترمه لكنه لا يتمكن من أن يغفر له الخطأ الجسيم تحديداً إذا كان في حق مصر ومكانتها، هناك من يتصور مصر المنشأ فقط وقد تكون، وهناك من يتصور أن كرامة مصر هي نوع من الشوفينية وأن المصريين حساسين للغاية. في الحقيقة أن كل الشعوب تعتز بأوطانها، لكن المصري بشكل عام له خصوصية أنه يحمل الشمس بين ضلوعه والنيل في عينيه، وهو يفخر بذلك دون مبالغة، يعلن للدنيا في حب أنه (مصري.. كريم العنصرين)، قادر على التعامل مع الجماد بخصوصية شديدة تثرى داخله؛ فإذا ما تأملنا بناءه للسد العالي والأهرامات، للأوبرا والآثار، حفره للقناة، لمجرى العيون وتشييده للقلعة، بناءه لمدن عربية كاملة والنهوض بكل مؤسساتها. لو تأملنا أعمال الصبية من فلاحي الحرانية، ولو تأملنا حولنا للاحظنا أن المصري يمزج عرقه ونفسه بالجماد ويظهر فيه جلياً، على الرغم من أن أعمال المقاولات السريعة والمشبوهة قدً طغت على جمال العمارة، فبدت بعض البنايات الجديدة صمّاء دون روح، ينطبق الأمر كذلك على الذوق الفني في مجال الأغنية، الطرب والمسرح، وهي انعكاسات لنفسية هذا الشعب.

-6 المصرى عاشق للفن ، متذوق ممتاز ، حساس يطلق خياله بلا قيود ، حيث نلحظ في المصري ارتباطاً عميقاً بأغنيات محمد منير ابن النوبة ذات الأصل الحضاري كمصر الفرعونية، ونجده يتعشق مع أداء لطفي بوشناق التونسي للتواشيح والطرب الأصيل . المصري يتذوق دائماً، وأحياناً لا يحسن التذوق، حسب مزاجه، يتذوق الأكل والعلاقات الحميمة، الألوان، الطبيعة، الموسيقى، النكتة والحب بكافة أشكاله ، وثم يبدو من الحيوى أن نفرق بين الفن والجمال ، فليس كل عمل فنى جميل ، وهذه هى الطامة التى يعانى منها مجتمعنا المصرى فى هذا الوقت ، منذ أن طرأت عليه أنساق اجتماعية غريبة ، بعضها عربى قح ذو بيئة صحراوية جافة تناقض البيئة المصرية ، وبعضها غربى وافد من الغرب الأوروبى والأمريكى بكل سماته الثقافية المغايرة للسمات الثقافية للمصريين ، وسواء كانت البدونة أو التغريب ، فهى أنماط ثقافية وافدة ، لا تعبر عن المصريين ، وكلاهما غريب عن التربة المصرية ، وكلاهما بعيد عن الوسطية التى ميزت الشخصية القومية للمصريين منذ آلاف السنين فى الثقافة والدين والعادات وكذلك الفن .

7- المصري لا يتمرد لكنه قد يضحي بكل شئ ـ فجأة ـ إذا مُسّت كرامته، ولا يفوتنا هنا التنويه بأن الفترة الأخيرة تحديداً شهدت بعض التنازلات خارج الوطن وربما داخله لآخرين يملكون القوة والمال، حيث تهون على المصري نفسه جداً حينما يهون الوطن في المكان الذي يعمل به، المصري ممتد ورحب كالصحراء، وصحراءه ليست فظّة ولا تنجب أجلافاً بل فيها رقة السماء التي تظللها بندف القطن المتناثرة على صفحتها الزرقاء، وهو معطاء كأرضه السمراء أخضر كزرعها. يقدس الأسرة وتماسكها، يحترم القيم، لكن مما لاشك فيه أن ثمة تحولات قد حدثت في الفترة الأخيرة أثرت على درجة هذا التماسك، فحدث نوع من الاغتراب العائلي، وأصبحت لزوجة العلاقات وتمحورها حول المادة معوقاً للاقتراب، تناثرت ثلة الأصدقاء، اختفت نقرات الأصابع من على الأبواب، غنت الأجراس الإلكترونية، توارت الطيبة والمحبة لمصلحة التوجهات العملية من الحصول على فائدة أو فوائد ما، يلتم الشمل وينفرط بسرعة، أصبح يلتهم طعامه بسرعة، يشرب مشروبه وماءه بسرعة، يجري بسرعة، يقود سيارته وموتورسيكله ودراجته بسرعة، ييأس بسرعة، يملَّ بسرعة، يفقد صبره بسرعة، يتألم بسرعة، ينزعج بسرعة، يفرح بسرعة وتنطفئ الفرحة لديه بسرعة، كل هذه التوترات السريعة الناتجة عن توتر العصر وتعقدات الحياة، تشابكها ماديتها وفقدانها للروحانية والرومانسية، أدت الى تغيرات شتى في السمات الشخصية لنفسية الإنسان المصري، وهو بحسه القديم وتاريخه المتأصل، بالجينات المختلطة والمركبة، بحضاراته المتعاقبة، بفرعونيته، إسلامه، قبطيته، عروبته، هذه التشكيلة ليست ترفاً ولا مجرد فسيفساء كثيرة الألوان وإنما هي قاعدة ثرية غنية توحي بضرورة أن هذه السمات ستظل تتأرجح وتتماوج على أرضية سخية، وإن كان عطاؤها مختلفاً ومتبدلاً وفق ما يقتضيه الحال.


سادسا العوامل المؤثرة في الشخصية المصرية :-

هل نحن بحاجةـ فعلاًـ لأن يكون لدينا فهم لبناء الشخصية المصرية وتحديدها !! إذا كان في الأساس موضوع الشخصية ـ عمومًا ـ مازال عصيًا على الفهم مثيرًا للجدل. ويعود السؤال المُلّح : هل لتلك الشخصية كينونة ثابتة؟ أم أنها صَيرورة متغيرة؟

لقد تميزت الشخصية المصرية على مر عصور طويلة بسمات كانت أقرب إلى الثبات ولذلك يعتبرها العلماء سمات أصيلة وذلك لتمييزها عن سمات فرعية أو ثانوية قابلة للتحريك مع الظروف الطارئة . فالمصرى تميز بكونه : ذكيا , متدينا , طيبا , فنانا , ساخرا , عاشقا للإستقرار, التحولات فى وكان هذا يشكل الخريطة الأساسية للشخصية المصرية فى وعى المصريين ووعى غيرهم , وقد أدى إلى الثبات النسبى لهذه السمات ارتباطها بعوامل جغرافية ومناخية مستقرة نسبيا ، وقد حدثت تحولات نوعية فى بعض السمات وتحولات نسبية فى سمات أخرى , فمثلا استخدم البعض ذكاءه فى الفهلوة , وتعددت صور التدين بعضها أصيل وبعضها غير ذلك , وقلت درجة الطيبة وحل محلها بعض الميول العنيفة أو العدوانية الظاهرة أوالخفية , وتأثر الجانب الفنى فى الشخصية تحت ضغط التلوث والعشوائيات , وزادت حدة السخرية وأصبحت لاذعة قاسية أكثر من ذى قبل وأحيانا متحدية فجة جارحة , أما عشق المصرى للإستقرار فقد اهتز كثيرا بعدما أصبحت البيئة المصرية طاردة نحو الخارج بحيث أصبح حلم كثير من الشباب السفر إلى أى مكان لتحقيق أهدافه بعد أن أصبح متعذرا تحقيق الآمال والأحلام على أرض الوطن .ستطيع أن نرصد عددا من العوامل الرئيسة التى أدت إلى تلك التغيرات فى السمات الأصلية للشخصية المصرية ومنها :

1- ثورة يوليو وما صاحبها من تغييرات جذرية ( بعضها ايجابى وهو ما يتصل بالتحرر الوطنى وطردالمستعمر , وأكثرها سلبى وهو ما يتصل بالحكم الإستبدادى البوليسى ) أدت إلى تغيرات فى البناء السياسى والإجتماعى والإقتصادى , وهزت البنية القيمية حيث أشاعت قيما استبدادية قهرية , وأرست قواعد الإعتمادية على النظام , والسلبية , والفهلوة , وادعاءات البطولة الزائفة , والسير وراء الزعيم بأعين مغمضة وأصوات هاتفة وقلوب مليئة بالحماس الجارف بلا دليل . باختصار أحدثت الثورة ورجالها تناقضات هائلة فى البنية النفسية للشخصية المصرية تحتاج لبحث منفصل لبيان مداها .
2- نكسة يونيو 1967 , وقد كانت قمة التعبير عن خداع الذات والتسليم لزعامات كاريزمية بعيدة عن التخطيط السليم والموضوعية . حدث بعدها صدمة وتغيرات جذرية أخرى فى الشخصية المصرية حيث راحت تبحث عن هوية دينية بعد فشل الهوية القومية الإشتراكية التى نادى بها زعماء الثورة ومنظروها , ومن هنا بدأت التيارات الدينية المعتدلة والمتطرفة فى مصر وامتدت إلى العالم العربى والإسلامى تحت وطأة المواجهة البوليسية القاسية لتلك التيارات
3-معاهدة السلام مع إسرائيل وما تبعها من تغيرات سريعة ومفاجئة لكثير من المفاهيم حول إسرائيل كعدو أساسى والإرتماء بعد ذلك فى الحضن الأمريكى وماتبعه من تغيرات ثقافية واجتماعية بناءا على التفاعل مع ثقافات غريبة تستقبلها الشخصية المصرية بمشاعر متناقضة وبشكل أسرع من طريقتها وطبيعتها فى استيعاب وهضم وتمصير الثقافات الأخرى .
4- الإنفتاح الإقتصادى المنفلت , وما تبعه من تنامى القيم الإستهلاكية , والرغبة فى الثراء السريع دون جهد حقيقى , وشيوع قيم الخفة والفهلوة وانتهاز الفرص .
5-السفر إلى بلاد الخليج وغيرها من الدول العربية , وما تبع ذلك من تغير الأنماط الإستهلاكية والثقافية والدينية تبعا للنموذج الخليجى , مما أدى إلى تعتعة استقرار النماذج القائمة والمستقرة منذ قرون لصالح النموذج السلفى من ناحية أو النموذج المستغرب من ناحية أخرى .
6- العولمة وما أدت إليه من فتح السماوات للقنوات الفضائية والإنترنت , وفتح الأسواق لكل ماهو جديد , وفتح شهية المتلقى للمزيد من الجديد والغريب والمثير .
7-قانون الطوارئ الذى امتد العمل به لمدة 25 سنة ( وما زال حتى كتابة هذه السطور عام 2005 م , 1425 ه – ولا يدرى أحد متى يتوقف العمل به ) , بحيث أدى إلى شيوع حالة من القهر والخوف , وانعدام الثقة بين السلطة والشعب , وأطلق يد السلطة الأمنية فى كل صغيرة وكبيرة فى حياة الناس ( تعيينات الوظائف على كل المستويات , والترقيات , واختيار الوظائف القيادية , والإنتخابات , والبعثات , وكل شئ ) , وأطفأ النبض الحقيقى على المستويات السياسية والفكرية والدينية والإجتماعية , وأتاح الفرصة لتغلغل الفساد المحتمى بالسلطة ووصول عناصر تفتقر إلى الكفاءة والضمير إلى مراكز عليا تحت سقف الطاعة والولاء , فى نفس الوقت الذى ابتعدت فيه ( أو استبعدت ) العناصر الموهوبة والمتميزة عن مراكز التأثير والتوجيه , أما بقية الناس فقد تحولوا إلى أغلبية صامتة تسعى إلى أن تحصل على لقمة عيشها وعيش أبنائها , ولكى تتقى سطوة السلطة المطلقة تحت مظلة قانون الطوارئ لجأت إلى تعلم مهارات الفهلوة والتحايل والكذب والإلتواء والتخفى والتنازل عن أشياء كان يعتز بها المصريون مثل الكرامة والضمير والصدق والشهامة , واستبدل كل هذا بحالة من الخنوع والخداع والنفاق والتحايل ومد اليد تسولا أو رشوة أو سرقة .
ورغم التحولات الحادثة فى السمات الست للشخصية المصرية إلا أن الشخصية المصرية تعتبر نسبيا أكثر ثباتا خاصة فى مواجهة تغيرات العولمة , حيث نجد أن مجتمعات عربية أخرى قد ذابت تماما أو تكاد فى النظام العالمى الجديد بكل سلبياته وإيجابياته , وربما يعود ذلك الثبات النسبى للشخصية المصرية إلى تراكم سماتها فى طبقات حضارية عبر عصور طويلة وتأكد هذه السمات مع الزمن رغم التغيرات الطارئة , كما أن المصرى لديه ميل قوى للإبقاء على الأوضاع القائمة يعود لتأثره بالطبيعة الجغرافية والمناخية التى يعيشها كما سنذكر ذلك لاحقا .


سابعا: الشخصية المصرية بين التكيف والتشوه :

المصريون لديهم قدرة هائلة على التكيف مع الظروف , ويبدو أن هذه القدرة اكتسبوها من تاريخهم الطويل فى التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات , وتغير الظروف والأحوال التى يعيشون تحت وطأتها , فلديهم مرونة كبيرة فى التعامل , ولديهم قدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه أيا كان هذا الأمر , ولديهم صبر طويل على الظروف الضاغطة والقاصمة , ولديهم أمل فى رحيل من يظلمهم بشكل قدرى لا دخل لهم فيه ( اصبر على جارك السو , يا يرحل يا تجيله داهية تاخده ) , فهم يراهنون دائما على الزمن يحل لهم المشكلات , أو تتحلل معه، فالمصرى كثيرا ما يقبل الأمر الواقع ويغير فى نفسه وفى شخصيته وفى ظروف معيشته لكى يلائم هذا الواقع , وبالتالى لا يفكر كثيرا أو جديا فى تغيير الواقع بل يميل غالبا للإستسلام له والتسليم به إلى درجة الخضوع المذل , ولهذا عرف عن المصريين ميلهم للإستقرار وعدم التغيير , وخوفهم من الجديد , وابتعادهم عن المغامرة أو المخاطرة , ورضاهم بما هو كائن , وصبرهم السلبى على ظروف تستحق المواجهة أو التغيير أو الثورة، وقد أدت محاولات التكيف المتكررة أو المستمرة مع ظروف ضاغطة وسيئة فى فترات متعاقبة إلى حدوث تشوهات فى سمات الشخصية لم ينجُ منها إلا قليل من الناس كانوا على وعى بهذا الأمر , أو قرروا الإمتناع عن التكيف المشوه مع ظروف مشوهة ، والامتناع ببساطة يعنى الثورة على النظم الفاسدة القائمة، وهذه القلة من الناس تعانى ظروفا صعبة حين تتعامل مع مجتمع وافق غالبيته على قبول الأمر الواقع – دون محاولة صادقة أو جادة لتغييره – وهذا الأمر يضع تلك الأقلية فى حالة غُربة واغتراب وصعوبات حياتية كثيرة، وقد تجلى هذا بوضوح أثناء وبعد ثورة 25 يناير 2011 حيث سعت قطاعات عديدة للعب بمشاعر المصريين وتنفيرهم من حدث الثورة وشبابها بالحديث عن الاستقرار والأمن وكانوا أكثر من يُقامر بمستقبل هذا الوطن، وإذا أخذنا مثلا آخر لذلك هو موضوع الرشوة , فقد انتشرت بشكل وبائى فى المجتمع المصرى حتى أصبحت من القواعد الأساسية للتعامل مع موظفى الحكومة , ويقابلها البقشيش أو الإكرامية أو الدخان فى القطاع الخاص , فإذا وجدنا شخصا شريفا يرفض هذا الأمر من منطلق أخلاقى , فإننا يمكن أن نتوقع كم الصعوبات التى سيواجهها فى حياته اليومية

شخصية المصري تغيرت وفقاً واستجابة لتغيرات بيئته المحيطة، تلك البيئة التي تشكل في مجملها ذلك الجوّ المحيط الذي يترعرع فيه الطفل وينشأ: البيت، الأسرة، الجيران، الحي، الأقارب، المدرسة، الشارع، المجتمع، الوطن ، وقد رأى المستشرق الفرنسى " جاك باركن " أن الفهلوة هى السلوك المميز للشخصية المصرية , وهو يرى " أن هذا السلوك مكن مصر من ألا تضيع أبدا لكنه جعلها تخسر كثيرا " ، ويصدق دكتور حامد عمار عميد التربويين المصريين على مقولة المستشرق الفر نسى محاولا قطع شوط طويل فى المسافة الشائكة بين كون الفهلوة سلوكا أنقذ مصر على طول تاريخها من الضياع , والخسارة التى ما زالت مصر تتكبدها بسبب الفهلوة

وفى هذا السياق من التراجع الحضارى وترهل قسطا غير قليل من الثقافة المصرية ، نجد في مصر الآن أكثر من أي وقت مضى مشكلة نفسية لفظية، قُبح لفظي، عُنف حواري، كلمات صدِئة ومفردات مفزعة تنبع من قلب البيئة التي تلوث هواءها كما تلوث وجدانها.

وفى دراسة مبكرة للدكتور حامد عمار عن أحوال المجتمع المصرى والشخصية المصرية ضمنها كتابا بعنوان : " فى بناء البشر : دراسات فى التغير الحضارى والفكر التربوى " صدر فى عام 1964 م , وفى هذه الدراسة القيمة حاول الدكتور عمار أن يحدد سمات مميزة لشخصية المصرى الفهلوى نذكر منها بإيجاز :

1- التكيف السريع والقدرة على التلون مع الموقف ونقيضه ، والإدراك فى لمح البرق وفيما يشبه الإلهام بما هو مطلوب فى هذه اللحظة فيستجيب على الفور ، وهو قادر على أن يعيش فى أى ظروف ويتعامل مع أى شخصية, ويتباهى بأنه يستطيع أن يلاعب " الجن الأحمر " ويعايش " ملائكة السماء والأرض " فى نفس اللحظة دون أن يجد فى ذلك غضاضة ، ودون أن يتطلب ذلك منه جهدا كبيرا . ولذلك استطاع هذا النمط أن يتقبل ويساير كل تغيير , ويتعامل مع كل جديد دون ارتباك أو حيرة , ومظاهر الحياة تدل على هذه القدرة الفائقة ، وإن كانت هذه المرونة والقدرة على التكيف السريع تتميز بأمرين : الأول : المرونة والقدرة على هضم وتمثيل كل جديد , والثانى : المسايرة وإخفاء المشاعر الحقيقية . وهذه النزعة هى التى أعطت للمصريين القدرة على التعايش مع حكام وولاة بلغوا غاية فى الظلم والإستبداد .
2 – النكتة المواتية : فحين تحاصر المصرى الهموم والأزمات , وتثقل عليه , وتنقلب أمامه الأمور تقلبا لم يشارك فيه , فإنه يشارك فى الأحداث بالتعليق الساخر عليها , ويطلق النكتة بعد النكتة , فيضحك , ويخفف بذلك من التوتر العصبى الذى كان يمكن أن يدفعه إلى الغضب , ويستريح بما تحققه له السخرية بالذين انفردوا بالعمل من ترضية , وتصرفه عن الواقع إلى عالم من الخيال والمرح , وهذا ما جعل أحمد أمين يقول فى كتابه الشهير " قاموس العادات والتقاليد المصرية " : إن النكتة كانت سلاحا مصريا يلجأ إليها المصرى " تعويضا عما أصاب الشعب من كبت سياسى واجتماعى , وتنفيسا له من الضائقات التى تنغصه , مما يجعل الحياة أمرا محتملا . والنكتة عند المصريين تختلف عن النكتة عند غيرهم من الشعوب , فهى أولا إحدى السمات المميزة للشخصية المصرية , فهو يستمتع بتأليف النكتة والإستماع إليها حتى لو تكرر سماعه لها , وأهم الوظائف التى قامت بها النكتة المصرية هى التغطية على الموضوع , وأخذه على المحمل الهين , والإنصراف عنه انصرافا يعفى من التفكير فيه تفكيرا جديا .
3 – المبالغة فى تأكيد الذات والإلحاح على إظهار قدرة فائقة : وهناك فرق بين الثقة بالنفس الناتجة عن الطمأنينة الداخلية والإدراك الواعى للقدرات والظروف من ناحية والموقف الخارجى من ناحية أخرى , وبين تأكيد الذات الناجم عن فقدان الطمأنينة , وعدم الرغبة , وعدم القدرة أيضا , على تقدير المواقف تقديرا موضوعيا , وإحساس داخلى بعدم الكفاءة , وشعور بالنقص أمام المواقف يحاول إخفاءه بالتهكم على الآخرين , أو بادعاء المقدرة الخارقة على حل العقد بما يشبه المعجزة , وإنجازها " هوا " , أو عمل كل شئ بالإصبع , أو حل المعضلة بجرة قلم ، ومن سمات " الفهلوة " المبالغة فى تأكيد الذات ( إخفاءا لشعوره بالضآلة ) وبما يعرف عادة بأنه " القنزحة " فى الكلام والسلوك , ولعل معظم ما نراه من البذخ فى العزائم , أو المبالغة فى تأكيد " الكرامة الشخصية " بمناسبة وبدون مناسبة , والإهتمام المبالغ فيه بالشكليات فى المناسبات والأفراح والمآتم , وكل ما يتصل بالمظهر أو " واجهة الشخصية " للفرد أو للجماعة, ليس إلا تعبيرا عن الرغبة فى تأكيد الذات .
4 – العلاقة الملتبسة مع السلطة : فالفهلوى برغبته الدائمة والملحة فى تأكيد الذات يشعر فى قرارة نفسه بالسخط على الأوضاع التى توجد التمايز والتفرقة أيا كان نوعها , مهما كانت أسبابها ومبرراتها , ويتفرع من ذلك عدم الإعتراف بالسلطة أو الرئاسة , والتنكر لها فى أعماق الشعور , مع أنه فى الظاهر يبدى الخضوع ويستخدم عبارات فيها مبالغة شديدة للتفخيم ( أفندى و بيه و باشا , سعادة الباشا ) , ويلجأ إلى طقوس زائدة عن الحد للتعبير عن الإحترام , ويخفى كل ذلك الشعور بالإمتعاض , ويعبر عنه أحيانا بقوله : " فلان عامل ريس " أو " عايش فى الدور "، غير أن المصرى لا يفقد الثقة أبداً فى السُلطة رغم حقده عليها.
5 – الإسقاط والتهرب من المسئولية : إن أهم الأسلحة التى تتزود بها شخصية " الفهلوى " هى عملية " الإسقاط " , لكى يزيح المسئولية عن نفسه ويلقيها على غيره من الناس , أو على ظروف خارج نطاق الذات تبرر ما يقع فيه من مواقف الخطأ أو التقصير ( وهو ما يعرف فى علم النفس بوجهة الضبط الخارجية حيث يعتقد الفرد أن أحداث حياته تمت بتأثير من الآخرين أو من الحظ أو من عوامل لا يملك التأثير فيها أو تغييرها - الباحث ) , وتزداد الفهلوة بازدياد القدرة على ممارسة هذه العملية النفسية , وبذلك لا يقوم الفهلوى بالعمل نتيجة شعوره الداخلى بالواجب , ولكن بدافع الطمع فى الكسب أو الخوف من العقاب , وما يقوله ويفعله هو دائما " لحاجة فى نفس يعقوب " كما يصفها المصريون , وليس لتحقيق الذات بالعمل الإجتماعى المنتج ( ربما يفسر هذا المحاولات المستميتة لدى المصريين للتهرب من العمل , ويؤكد هذا الإحصائية التى بينت أن إجمالى الإنتاج لدى الشعب المصرى يساوى فى المتوسط 27 دقيقة عمل يوميا لكل فرد - الباحث ) .
ومن مظاهر الإسقاط الواضحة كثرة الشكوى من الزمان والتبرم من كيد الآخرين وإلقاء التبعة فى كل مشكلة على " الحكومة " أو على " البلد اللى من غير عُمده " أو على " الإدارة " , أو أى قوة أخرى غير الشخص أو الجماعة المسئولة .
6 – الفردية وغلبة ال" أنا " , وعدم التوافق مع العمل الجماعى : وليس هذا من قبيل الأنانية لمجرد الأنانية , ولكنه تأكيد للذات من ناحية , وانصراف عن احتكاك الذات بغيرها من ناحية أخرى مما يعرضها لمواقف تنكشف فيها حقيقتها , أو تذوب فيها شخصية الفرد فى شخصية الآخرين . ويضاف إلى ذلك جذور العصبيات القبلية والعائلية , ونقص التربية الإجتماعية , لأن الإنسان يولد بنوازع الفردية والأنانية , ثم ينجح المجتمع أو يفشل فى عملية " التطبيع الإجتماعى " أى جعل الفرد يتخلى عن جانب كبير من فرديته والإندماج فى الجماعة واكتساب القدرة على التفاهم والتعاون والعمل بجدية وإخلاص مع الآخرين , وفى ظل تنظيم اجتماعى أو إدارى أو قانونى , فإذا لم تتم عملية التطبيع الإجتماعى كما يجب فإن شخصية الفهلوى تظهر وهى تجيد إظهار الموافقة , ومسايرة الآخرين والتعاون معهم , ولكنه يتخذ هذه المواقف الشكلية من قبيل المجاملة , أو الخوف من الحساب أو العقاب , فيتظاهر بالعمل مع الجماعة ولكن بلا روح ولا التزام , وهذا هو سر الشكوى من غياب " روح الفريق " والقدرة على العمل الجماعى فى ظل قيادة ( راجع فشلنا المزمن فى الألعاب الجماعية مثل كرة القدم خاصة على المستوى العالمى , وتذكر دائما صفر المونديال – الباحث ) , ولتحقيق هدف عام وليس لهدف شخصى , بولاء للجماعة , وفى الأمثال المصرية الكثير مما يعبر عن الروح الفردية مثل " حصيرة ملك ولا بيت شرك " .
7 – الحرص على الوصول إلى الغنيمة بسرعة ومن أقصر الطرق دون الإعتراف بالمسالك الطبيعية : ولذلك يبحث الفهلوى دائما عن وسيلة تجعله يقفز على المراحل , ويتخطى الحواجز , باللجوء إلى الكذب أو التزوير أو الوساطة , أو الرشوة أو الغش , فإذا وجد أنه لن يصل إلى الهدف إلا بالطريق الطبيعى كغيره , وأن هذا الطريق يحتاج إلى المثابرة والصبر واتباع خطوات لابد منها , فإن الحماس للعمل ينطفئ فى لحظة .

والآن نسأل أنفسنا : مالذى جعل الشخصية المصرية تُصاب بهذا الداء بشكل وبائى مستعصِ لم ينجُ منه إلا القليلون ؟
يرجع معظم المفكرون والباحثون هذا السلوك إلى العلاقة السلبية للمصريين بالسلطة على مر العصور حيث تعرض المصريون على طول تاريخهم لفترات استعمار واستبداد وقهر وتسلط مما كان يفوق قدرتهم على المقاومة أو التغيير فى كثير من الأحيان , ونظرا لتكرار هذه الخبرات السلبية تعلم المصرى أسليب للتكيف والمواءمة تتضمن تحايلا على المستعمر أو المستبد

ثامنا: بعض الأنماط الثقافية المصرية

- الثقافة اللغوية

في الثلاثين سنة الأخيرة، حدث نوع من الإغتراب اللغوي لصالح اللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية الأمريكية، وظهر ذلك بينًا على المحلات وفي إعلانات الكباري والشوارع والميادين وكذلك صفحات الصحف، كما حدث خلق مفردات جديدة غريبة تعكس المعاناة من حالة بارانويا Paranoid State ) أي (الإحساس بالاضطهاد وبالخوف وبالإنزعاج وبالجزع من أصدقائي ومن الغرباء)، وهي حالة نفسية معروفة لدى بعض المرضى النفسيين، لكن تعقدات الحياة اليومية، الصوت العالي، العراك، الشجار، الازدحام المروري، الشك في الآخر والارتياب في مقاصده، أدّى إلى ظهورها، بل إلى تزايد حدوثها، الازدحام، الاحتكاك، الاكتظاظ، النفلات الأمنى والأخلاقى، الاعتداء على مساحات الآخرين .

- الثقافة السياسية

إذا أردنا دراسة الثقافة السياسية المصرية فلابد أولا من تعريف الثقافة السياسية، فهي القيم والمبادئ السياسية لدي كلا من العامة والنخبة، ومن المعروف أن الشعب المصري ينقسم إلي عدة توجهات سياسية مثل : الباحثون عن الديمقراطية، الرافضون للتطبيع مع اسرائيل، الداعون لتفوق الدولة المصرية، وغيرها من التفرعات، ولا ننسي أن الأغلبيه من الشعب المصري ليس لديه الوقت سوي للبحث عن لقمة العيش بغض النطر عن توجه سياسي أو ايدلوجية مفضلة، وإذا انتقلنا لتفحيص ما هي معالم الثقافة السياسية التي تسود المجتمع المصري وغيرها من المجتمعات الواقعة تحت حكم ديكتاتوري ، والتى ذاقت ويلات الاستعمار بشتى صوره على مر التاريخ ، سنجد أن دخول فترات عدم الديمقراطية وغياب الحرية قد أدي إلي انتشار العديد من القيم التي تؤثر سلبا علي روح وحب الجميع علي المدي الطويل، فمثلا نجد أن مشاعر "الخوف" قد ترسبت في نفوس المواطنين، وتحولوا إلي مخلوقات جبانة عاجزة عن المطالبة بحقوقها والوقوف في وجه الظلم خوفا من بطش السلطة والشرطة، وغيرهما من المؤسسات الفاسدة. وتحول المصريون الشجعان علي مر سنوات الديكتاتورية إلي فئران تبحث عن لقمة العيش صباحآ وتجري إلي جحورها مساءً تجنبآ للمشاكل، وتتطور الأمور لتصبح "السلبية" أحد القيم السائدة جنبا إلي جنب مع الخوف. وذلك أفقد المواطنين شعورهم بالوطن وأزال الروابط التي تربط بين المصريين وبلدهم مصر، فبدلا من أن يشعر المواطن بالخوف علي وطنه من كل سوء أصبحت "الأنامالية" منتشرة في كل مكان وتبقي قلة قليلة تهتم بالشأن العام وتحاولان يكون سلوكها إيجابي، وهذا أحد أسباب تفضيل العديد من المصريين لحالة الإستقرار المزيفة التي عاشوا فيها لسنوات حتي بعد ازدياد وطأه الظلم عليهم، وكذلك انتشر النفاق وتغليب المصلحة الشخصية علي المصلحة العامة لدرجة أصبحنا نشعر معها أن هذا هو العرف وليس الخروج عن القاعدة، وذلك أدي بالضرورة الي غياب الثقة وبين أنباء الوطن الواحد ولعل أسوأ ما نشاهده علي الساحة الآن هو التوتر الملحوظ بين النخبة السياسية والمثقفين من جانب والشعب وما يليه من شك دائم وعدم الاطمئنان من جانب آخر. مثل تلك الحالة لا تبشر بأي خير، فأقل ما يضمن نجاح المرحلة الراهنة هو ضرورة بناء الثقة بين مختلف التيارات السياسية وبينها وبين الشعب في محاولة جاده لتحقيق النفع العام ولم شمل الفئات المختلفة.
مما لا شك فيه أن كل هذه القيم السلبية والأمراض المعيبة لن تختفي بين يوم وليلة، بل تحتاج للعديد من المجهودات والمزيد من الصبر من كافة قطاعات الشعب للتخلص منها تدريحيا، وكافة رواسب الحكم الديكتاتوري الذي استمر لسنوات وعقود ، فالتشوه الذى أصاب الشخصية المصرية كان نتاج تشوه ثقافى متراكم أدى اليه الاستبداد فى أبشع صوره – قبل الثورة وبعدها- فالشخصية المصرية من المنظور الشخصي للإنسان الفرد، تتفاعل مع ما يحيط بها من متغيرات وأحداث خاصة تلك المؤلمة (حوادث وكوارث إنهيار العمارات ـ العنف الطائفي ـ الموت غرقاً في العبارة ـ الموت حرقاً في قصر ثقافة بني سويف وفي قطار الصعيد ـ نزيف الأسفلت ومسلسل حوادث الطرق الذي لا ينتهي ـ فزع وهلع أنفلونزا الطيور ـ أزمة القضاةـ توترات الشارع- الانفلات الأمنى بعد الثورة – حجم جرائم المسئولين – الاستبداد الدينى والعسكرى - الفوضى المنظمة – العشوائيات ) ...
ومن أهم ما يجب عمله في سبيل تحقيق ذلك هو ضرورة اقتراب النخبة من الشعب ومحاولة درءا لنقاط الخلاف بينهم، وفتح قنوات اتصال حقيقية تسعي لتقريب وجهات النظر، وكذلك علي جميع التيارات السياسية التحلي بالمصداقية في مواجهة من ينافسها بعيدا عن التشدد ورفض الآخر، وذلك حتي لا نقع في شرك ديكتاتورية جديدة برداء جديد أي كان ديني أو سياسي.
إن السبيل الوحيد لإعادة الثقافة السياسية الداعية للحرية لكافة المجتمعات التي ترعرعت تحت حكم ديكتاتوري هو التكاتف الوطني والإخلاص، كلٌ في مكان عمله، واطلاق العديد من المبادرات المجتمعية لإعادة بناء الثقة وحب الوطن ووضع المصلحة العامة فوق الجميع، الحاكم قبل المحكوم


- الثقافة الدينية

لقد لعب الدين دوراً محورياً فى تشكيل الشخصية المصرية على مر العصور، بل ويرى كثير من المفكرين والمؤرخين أن الدين- بغض النظر عن نوع الديانة- ظل يحتل نفس الموقع فى حياة المصريين منذ العهد الفرعونى القديم وحتى عهدنا الراهن، يثير حسن حنفى هذا البعد حين يقول (إن الدين لعب منذ الفراعنة الدور المحورى فى حياة الشعب، خاصة وأن حياة المصريين تقوم على الزراعة وهو ما يجعل الدين متجذرا فى حياتهم الاجتماعية والسياسية بسبب نمط الحياة الفلاحية)، وطوال تاريخ مصر، بقى العنصر الدينى عاملا فعالا فى صياغة القوانين الحاكمة فى المجتمع، وفى تحديد شكل العلاقات الاجتماعية والسياسية، خاصة، العلاقات بين الحكام، والمحكومين، فقد كان الرمز الديني منذ عهد الفراعنة، هو وسيلة الحاكم في اخضاع الشعب، ولم يختلف الامر كثيرا فى العهود التالية القبطية والاسلامية بدولها ومذاهبها المختلفة، كما كان الدين فى المقابل أيضا هو محركا للثورات التى اكتسبت طابعا دينيا، بل كان فى أكثر من حالة عامل تجمع قوميا ضد العدو الخارجى (كما فى عهد الدولة الأيوبية حين لعب الدين دورا أساسيا فى النضال ضد الحروب الصليبية). ولم تستطع الثورات الوطنية أن تغفل عمق هذا الميراث، فن لثورة العرابية (1879- 1882) التى مثلت نقطة تحول فى تاريخ العمل الوطنى المصرى لم يكن بمقدورها تجاوز فكرة الخلافة، ويعلق لويس عوض عليها بقوله (إن العُرابيين لم يكونوا يعرفون ماذا يريدون، أو على الأصح أنهم كانوا يربدون مصر للمصريين، أى يريدون الدولة القومية، ولكنهم من جهة أخرى كانوا يقبلون التبعية للثيوقراطية العثمانية).
وإذا لم يكن هناك خلاف حول الدور البارز الذى لعبه الدين فى تاريخ الشعب المصرى وحكامه وأيضا فى تاريخ ثوراته وتمرده، والذى ظل يشكل مقوما من مقومات الشخصية الوطنية، إلا أنه- فى المقابل- كان للمقومات الأخرى فى هذه الشخصية أثر أخر فى تحديد طبيعة هذا الدور، وفى صبغ سمات معينة على طبيعة التدين عند المصريين. إذ كان هذا التدين أقرب إلى التدين الفردى الملتصق بالعبادات منه إلى التدين السياسى ذى الصفة الجماعية، كما أنه اتسم إلى حد كبير بطابع عملى نزع عنه سمة التشدد والعنف الجماهيرى ، وفى ذلك يقول طه حسين (إن التاريخ يحدثنا بأن رضا مصر عن السلطان العربى بعد الفتح لم يبرأ من السخط ولم يخلص من المقاومة والثورة، وبأنها لم تهدأ ولم تطمئن إلا حين استردت مصر شخصيتها المستقلة فى ظل ابن طولون، وفى ظل الدول المختلفة التى قامت بعده، فالمسلمون- إذن- فطنوا منذ عهد بعيد الى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو أن السياسة شىء والدين شىء أخر، وأن نظم الحكم وتكوين الدولة إنما يقوم على المنافع العملية قبل أن يقوما على أى شىء أخر).
والتدين فى الشخصية المصرية مرتبط بعناصر التاريخ والجغرافيا كما رأينا , وهو مرتبط أيضا بالطبيعة الزراعية لأرض مصر , فالمصرى القديم والحديث يضع البذرة فى الأرض ويرويها من ماء النيل ثم ينتظر بزوغها ونموها وترعرعها فيرى بذلك تلك القدرة الخفية وراء كل هذا فتترك فى نفسه محبة واحتراما وتقديرا لها ورغبة محبة ومختارة فى عبادتها والتقرب إليها , ولهذا نجد إلحاح فكرة الدين والتدين على الشخصية المصرية ممثلا فى كثرة المعابد فى طول مصر وعرضها , وكثرة الرموز الدينية فى كل الآثار المصرية بشكل ملفت للنظر , فلا تكاد ترى أثرا مصريا قديما لايحمل تلك النقوش أوالرموزأ والنصوص الدينية , وكان اهتمام المصريين بالحياة الآخرة يفوق اهتمامهم بالدنيا , ولذلك نرى فى آثارهم غلبة القبور والمعابد على القصور والبيوت . باختصار نستطيع القول بأن الشخصية المصرية مشبعة بالدين فى مراحل نموها المختلفة عبر العصور، وعلاقة المصرى بالدين علاقة حساسة وغامضة وأحيانا ملتبسة ومتناقضة , ولكنها علاقة مركزية ومحورية فى أغلب الحالات , وهى علاقة طوعية خرجت من رحم الحب للإله والمودة له حيث رآه المصرى مصدرا للنماء والدفء والرخاء لذلك كان تصور الموت إيجابيا لديه فهو سيذهب إلى إله محبوب ويحيا لديه حياة طيبة , لذلك نرى القبور عامرة بالمقتنيات والنقوش والنصوص فكأن الميت ذاهب إلى زيارة محبوب فأخذ معه مالذ وطاب لكى ينعم فى رحاب محبوبه بكل هذا حين يبعث بين يديه . وهذه العلاقة الودودة المختارة المحبة تختلف عن علاقات أخرى تميل – بتشدد وتنفير مثل الدعاة الجدد هذه الأيام- أكثر إلى الرهبة والفزع والخوف من الإله ، إذن فعلاقة المصريين بالإله علاقة فيها رجاء أكثر من الخوف . وفيها ترغيب أكثر من الترهيب , ولهذا نجد المناسبات والطقوس الدينية تتحول لدى المصريين إلى احتفاليات مبهجة ومبهرجة فى غالب الأحيان , فهم قد حولوا رؤية هلال رمضان إلى احتفالية عظيمة وكذلك ليالى رمضان كانت ومازالت لهم فيها طقوس احتفالية كثيرة تفوق كثير من الشعوب الأخرى , وكذلك يحتفلون بذكرى المولد النبوى وذكرى الإسراء والمعراج , وذكرى النصف من شعبان وذكرى عاشوراء , ولكل ذكرى من هذه الذكريات طقوس وطعوم خاصة تميزها . قد يقول قائل بأن هذه الإحتفاليات إرث فاطمى جاء إلى مصر مع الفاطميين , وهذا صحيح ولكن الطبيعة المصرية احتضنت هذا الإرث لأنه وافق تركيبتها النفسية , وأضافت عليه من قريحتها التى اشتهرت قبل الفاطميين بعصور طويلة بمحبتها للإحتفاليات الدينية، وهذا الحب المتجاوز للخوف من الإله – الروح الصوفية - ترك فى الشخصية المصرية علاقة ملتبسة بالغيب , فالمصرى لديه ثقة هائلة بالغيب وتوقعات إيجابية منه تجعله فى حالة استرخاء وعدم استنفار أغلب وقته , فقد تعود أن يأتى النيل بالخير دون جهد شاق , وتعود على طبيعة هادئة ليس فيها برد قارس أو حر شديد أو زلازل أو براكين أو وحوش , وتعود على قدر هائل من التماسك والتكافل الإجتماعى المرتبط بالمجتمع الزراعى من ناحية والمرتبط من ناحية أخرى بالتعاليم الدينية المتواترة والمستقرة فى البيئة المصرية . وهذه الحالة تركت فى الشخصية المصرية حالة من الوداعة والطمأنينة العميقة والثقة فى الغيب وفى الآخر، لعب الدين المعتدل دورا حيويا فى إشاعة البشر والتفاؤل فى حياة المصريين , لأنه أمدهم باليقين من خلال إيمانهم بالخلود والحياة الآخرة والحساب والجنة التى تعوض الفقير أو المظلوم عما قد يكون لاقاه من معاناة فى حياته الدنيا . فقد جنبته عقيدته الدينية العميقة الخوف من المجهول , والرعب من العدم , والشك فى المصير , والحيرة من الموت , حتى موت الأحياء فى نظره كان انتقالا إلى حياة ثانية زاخرة بالسعادة والخلود . وكلها عقائد ومفاهيم سرت بالبشر والبهجة والتفاؤل والمرح فى حياة المصريين ، وفى معالجة عقلانية لموقف الإنسان المصرى من الدين، يشير عباس محمود العقاد إلى أن الذهن المصرى ذهن عملى واقعى، ويفسر ذلك بقوله (إن الأرض والنيل والفيضان والغلة، أى المحصول، كلها بالنسبة للذهن المصرى وقابع محسوسة مطردة فى قياس العقل لا يتصل بعالم الغيب إلا اتصالا بسيطا لا يحوج المرء إلى خيال جامح وإنما يحوجه إلى التدين والإيمان المعتدل).
ومن هنا يرى العقاد أن هذا هو سبب هدوء العقيدة الدينية عند المصرى وخلوها من التعصب وخلو تاريخ مصر الدينى من المذابح الطائفية. ويدلل العقاد على رأية بقوله "أن الإنسان المصرى فى عهوده القديمة خلق عالمه السماوى على نمط عالم الأرض يأكل فيه الإنسان ويشرب ويستعد له بالطعام وبمتاع هذا العالم الأرضى وأنيته، وبعمل على أن يحفظ جسده من العطب لأنه الجسد الذى سيعيش به بعد البعث".
وقد رأى بعض الباحثين أن اعتناق المصريين للإسلام لم يشكل انقطاعا فى المكونات الأساسية للشخصية الوطنية المصرية ولموقفها من الدين، بل إن عدم وجود مؤسسة دينية دنيوية فى الإسلام كان يتلاءم تماما مع طبيعة الفلاح المصرى ونزوعه الدائم للاستقلال بإيمانه عن أى جهة وسيطة بينه وبين إلهه الذى يعبده،. كذلك فإن هذه الاستقلالية والفردية فى التدين هى فى- نظر البعض- التى سمحت للمصرى أيضا أن بنقل معه إلى الإسلام كل ما ورثه من عادات وطقوس عن ديانته القديمة كانت قد عاشت بالمثل خلال الحقبة المسيحية، وتأكيدا على هذه النزعة الاستقلالية والعملية فى نفس الوقت، يفسر كثير من الباحثين سر قبول المصريين بتغيير ديانتهم أكثر من مرة حين تركوا ديانتهم الفرعونية القديمة واعتنقوا المسيحية ثم تركوا الأخيرة ليعتنقوا الإسلام. وأخيرا تحولوا داخل نفس الديانة من مذهب إلى أخر، فتبنوا المذهب الشيعى حين استعانوا بالفاطميين وقبلوا العودة إلى المذهب السنى مع الدولة الأيوبية، وعلى الرغم من هذه التحولات، التى إرتبطت فى الغالب بدوافع سياسية واجتماعية، فقد ظل المصريون على موقفهم الوسطى فى التدين فتحولهم إلى المذهب الشيعى لم يربط بقبولهم لمبدأ الإمامة ولا بموقف عدائى من الصحابة، وفق المذهب السنى. كذلك فإن رضاهم بالانقلاب السنى الذى أحدثه صلاح الدين الأيوبى لم يعن تركهم لكل تقاليدهم الشيعية خاصة اعتزازهم (بآل البيت)، وهو ما أدى فى لحظة تاريخية إلى تمردهم على الدولة الأيوبية السنية وبخاصة فى فترة حكم الملك العادل (1200-1298م).
وقد تميزت الحياة المصرية وإلى وقت قريب بقبول التعددية الدينية , فكان اليهود والنصارى والمسلمون يعيشون جنبا إلى جنب ويكونون نسيجا مجتمعيا متماسكا ومتعايشا , وكان للحكم الإسلامى دور كبير فى ترسيخ هذه التعددية فالإسلام بتعاليمه السمحة وصفة العالمية فيه ورفضه لكل أشكال القهر الإعتقادى أو التمييز العنصرى على أساس الجنس أو اللون أو الدين , قد رسخ لمبدأ حرية العقيدة والمساواة وحقوق المواطنة للجميع على اختلاف انتماءاتهم وتنوعاتهم فكان الولاة والخلفاء والأمراء فى الدولة الإسلامية يتخذون من اليهود والنصارى وزراء ومستشارين , وكان اليهود إلى عهد قريب يملكون مشروعات اقتصادية كانت هى الأضخم فى مصر فى ذلك الوقت مثل " عمر افندى " و " صيدناوى " و " عدس " و " ريفولى " وغيرها من المحلات والمشروعات التجارية الكبيرة , وكانوا يملكون بل ويسيطرون على تجارة الأقمشة فى حى الأزهر ذو السمت الإسلامى , وكان النصارى وما يزالون يملكون المشاريع الإقتصادية الضخمة التى يعمل فيها مسلمون ومسيحيون على السواء وبلا تمييز، ولكن للأسف الشديد حدث بعض التحول فى هذه الحياة التعددية وكان من أسباب هذا التحول :

- الصراع العربى الإسرائيلى وما تركه من شكوك بين اليهودى المصرى وغيره من النصارى والمسلمين
- ثورة يوليو وفكرها الإختزالى البعيد عن الروح السمحة للإسلام , وضيقها بفكرة التعددية على كل المستويات
- الفكر الدينى الخليجى القادم إلى مصر مع المصريين العائدين من هناك بعد الطفرة النفطية والقائم على التصور الإلغائى أو التسفيهى أو التحقيرى أو الإستبعادى للآخر المختلف عقائديا
- المشاعر السلبية لدى بعض أقباط المهجر , وعملهم على استثارة النزعات الطائفية لدى أقباط الداخل ومحاولة الإستقواء بالخارج المسيحى .
- لعبة الأمن والسياسة والدين , حيث ضعفت الأحزاب السياسية , وأصبح الأمن مخولا بحل القضايا السياسية والأمنية , وحل المشكلات القائمة بين الطوائف والإتجاهات المختلفة , وقد لجأ الأمن إلى اتباع أساليب قمعية أو أساليب غير سياسية .

وفى السنوات الأخيرة حدث مزيد من التحول فى هذه النظرة وتلك العلاقة بالدين , وكان هذا التحول قادم من خارج مصر حمله أبناؤها الذين سافروا إما إلى الغرب المسيحى العلمانى أو إلى الشرق الإسلامى السلفى . فالذين عادوا من الغرب المسيحى العلمانى يحاولون فصل الدين عن الحياة , ويحاولون من وقت لآخر صبغ الحياة المصرية بالصبغة الغربية فى الدين والإجتماع والثقافة , ولكنهم يواجهون بقيم دينية واجتماعية وثقافية راسخة تجعل من هذا التغيير أمرا صعبا ، والذين عادوا من الشرق الإسلامى السلفى يحاولون صبغ الحياة الدينية المصرية بالصبغة السلفية مع التقليل من أهمية اختلاف الزمان والمكان والظروف , والتركيز على الحدود الشرعية أكثر من التركيز على جوهر الدين وروحانياته, وداعين إلى منهج استقطابى أحادى مستبعدا للآخر أو مستهينا بشأنه , ولكنهم يواجهون باختلاف الطبيعة المصرية عن الطبيعة الصحراوية القديمة والطبيعة النفطية الحديثة , ويواجهون باختلاف التركيبة المجتمعية المصرية التى قامت منذ فجر التاريخ على التعددية الدينية وقبول الآخر كمواطن شريك والتعايش معه .

هذه اللمحة السريعة عن طبيعة الشخصية الوطنية المصرية تكشف عن جانبين هامين من جوانبها قد يبدوان ظاهريا متناقضين رغم تلاصقهما، وهما عمق البعد الدينى ومحوريته فى هذه الشخصية من ناحية، ثم اتخاذه طابعا فردي وعملي من ناحية أخرى. وأهمية هذين البعدين تكمن فيما قد يقدمانه من تفسير لبعض التساؤلات الأساسية التى تثيرها ظاهرة "الإسلام السياسى"




تاسعا: ملامح متباينة للشخصية المصرىة


- الإستقرار والجمود :

أحد سمات هذا المجتمع هى الإستقرار النسبى عبر تاريخه الطويل مقارنة بمجتمعات أخرى محيطة به , ولهذا الإستقرار أسباب سياسية وأسباب اقتصادية وأسباب اجتماعية وأسباب دينية وأسباب نفسية . فمن الأسباب السياسية مثلا حالة الإستبداد التى عاش فيها المصرى وأصبحت جزءا من حياته اليومية اعتاد عليها , وهنا تداخلت الأسباب السياسية مع الأسباب الدينية التى سبق وعرضناها لتهئ لحالة الإستقرار الذى تحول إلى استبداد ثم إلى جمود . فإذا انتقلنا إلى الأسباب الإجتماعية وجدنا أن الترابط الأسرى والإجتماعى الوثيق لدى المصرى والذى يدعمه تلك التركيبة العاطفية الجياشة لدى المصرى إضافة إلى الحالة الدينية التى تدعوه دائما إلى التراحم والتكافل , كل ذلك يجعل المجتمع المصرى أقرب إلى الإستقرار ويجعله عصيا على التفكك أو التناحر تحت مطارق الأزمات أو الإنشقاقات فهو غالبا ما يعود إلى ترابطه وتكافله , وإذا جئنا إلى الأسباب النفسية نجد أن المصرى لديه قدرة هائلة على التكيف مع الظروف المختلفة ومع الأحوال المتباينة ولديه قدرة هائلة على التحمل وعلى الصبر تجعله لا يميل إلى المواجهة أو التغيير , بل ينتظر الزمن أو القدر ليغير ماهو فيه , وإلى أن يحدث ذلك يقوم هو بتكييف نفسه وضبط احتياجاته طبقا لما تسمح به الأوضاع القائمة ، والبعض يفسر الإستقرار فى المجتمع المصرى ( والذى يصل إلى الجمود أحيانا ) بأنه عائد إلى الطبيعة المعتدلة لدى المصريين فهم لا يميلون للعنف أو للتغيير السريع , ويفسر الدكتور جمال حمدان ذلك فى كتابه " شخصية مصر " بقوله : " لا غرابة إذن فى أن تكون السلطة والحكم والنظام فى مصر دائما هى أكبر دعاة الإعتدال المصرى المزعوم وأشد المهللين المحبذين المزينين له ومحترفى التغنى المخادع الماكر به . ذلك لأن الإعتدال المرضى ليس فقط ضمان البقاء المطلق لهم , ولكن أيضا ضمان التسلط والسيطرة المطلقة . فمجتمع هذا النوع من الإعتدال العاجز هو مجتمع بلا صراع , هو مجتمع من العبيد أو قطيع من الأقنان .

- ضعف الإدارة الجماعية على الرغم من كثرة الكفاءات الفردية :

فهناك غياب ملحوظ فى القدرة على العمل كفريق على الرغم من وجود كفاءات فردية متميزة فى كل المجالات , ولهذا نجد بطولات وإنجازات متعددة على المستوى الفردى ( 4 جوائز نوبل وعدد كبير من الشخصيات الفذة فى كل المجالات العلمية والفنية والأدبية والسياسية والدينية ) يقابلها فشل ملحوظ فى الإدارة الجماعية . وهناك بعض التفسيرات لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " إذا فتحتم مصر فاتخذوا منها جندا فهم خير أجناد الأرض ..... " ( أو كما قال صلى الله عليه وسلم) , فقد حدد صلى الله عليه وسلم كلمة جندا , فإذا أخذناها كما هى " جندا " وليس" قادة " فيمكننا أن نفهم مالديهم من قدرات قتالية وليس قدرات قيادية ، ففى مصر دائما أزمة قيادة وأزمة إدارة , ومشكلة دائمة فى أى عمل جماعى يزيد أفراده عن شخص واحد , فما اجتمع شخصان إلا ودبت المشكلات فى العمل . وربما يرجع هذا إلى الغرام بالتفوق الفردى والبطولات، وحالة الفردية والتفرد تنتشر من أعلى قمة الهرم ( السياسى أو الإجتماعى أو الدينى ) لتصل إلى أدنى مستويات العمل ( الأسطى فى ورشته ) , وتمنع الإستفادة من تراكم العمل الجماعى المتناسق والمتعاون , وتمنع تكوين منظومات عمل قابلة للنمو والتطور من جيل لجيل , وهذا الغياب لتلك المنظومات يجعلنا نبدأ من الصفر فى كل مرحلة ونعيد نفس الأخطاء .

- النظام الداخلى رغم الفوضى الظاهرة :

إذا تأملت النظام السياسى أو الإدارى فى كثير من المراحل التاريخية يخيل إليك أن البلد (مصر) على وشك الضياع أو الإنهيار أو الحرب الأهلية , ولكن هذا لا يحدث على الرغم من قسوة الظروف واضطراب الإدارة . ويمكنك أن ترى مثالا مصغرا لذلك فى بعض التقاطعات فى المدن حيث يغيب شرطى المرور نتيجة لإهمال أو تراخ , ويحدث تداخل بين السيارات من الإتجاهات المختلفة وتحدث أزمة مرورية , وفجأة تجد مواطنا أو أكثر( ليس لهم علاقة بالمرور ) تطوعوا بإدارة الأزمة وبدءوا فى تنظيم حركة السيارات , وهذا يحدث فى التعامل مع الحوادث والحرائق والأزمات الكبيرة حيث تجد أن هذا الشعب الفوضوى ظاهرا أو فى أغلب حالاته قد تحول إلى طاقة هائلة ومنظمة تواجه الأزمة أو الحادث وتعوض القصور الحكومى والإدارى فى مواجهة مثل هذه المواقف، وقد اتضح هذا فى زلزال 1992 , حيث قام الأهالى ( بعد إفاقتهم من صدمة الزلزال ) بتنظيم صفوفهم ومحاولة إنقاذ المنكوبين بكل الوسائل الممكنة , ولم ينتظروا ذلك من الحكومة فهم قد تعودوا على قصور أدائها , وفعلا نجحوا فى تقليل آثار الأزمة لحد كبير , ومن المذهل أنه بعد الزلزال ولمدة ثمانية وأربعين ساعة لم تسجل فى أقسام الشرطة جريمة واحدة , وفى هذا دلالة مهمة لا نستطيع تقديرها إلا إذا قارنا هذا بما حدث فى زلزال كاليفورنيا أو إعصار كاترينا فى أمريكا حيث انطلقت موجات السلب والنهب والفوضى فى وقت الأزمة

























الخاتمة

فى الختام نجد أن الدراسة قد توصلت الى أن شخصية الانسان المصرى قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالتقافة المصرية وبالبيئة الطبيعية المصرية ، وبعوامل الجغرافيا والتاريخ ، ولم تخرج أنماط تفكيره عن هذه الأطر ، رقياً مع صعود نجم مصر ورقيها سياسياً وحضارياً ، وانحداراً مع هبوطها وتدنيها عن مكانتها التى تستحقها ، وهنا لا بد لنا أن نسلط الضوء الى أهم ما خلصت اليه الدراسة من تأثيرات جلية للمنتج الثقافى على شخصية الانسان – أى انسان - والشخصية المصرية هنا دراسة حالة:-

1- توفر الثقافة للفرد، صور السلوك والتفكير والمشاعر، التي ينبغي ان يكون عليها، ولاسيما في مراحله الاولى، بحيث ينشأ على قيم وعادات تؤثر في حياته، بحسب طبيعة ثقافته التي عاش فيها. ‏

2- توفر الثقافة للافراد، تفسيرات جاهزة عن الطبيعة والكون، واصل الانسان ودورة الحياة. ‏

3- توفر الثقافة للفرد المعاني والمعايير التي يستطيع ان يميز _ في ضوئها _ ما هو صحيح من الامور، وما هو خاطىء. ‏

4 - تنمي الثقافة الضمير الحي عند الافراد، بحيث يصبح هذا الضمير _ فيما بعد _ الرقيب القوي على سلوكاتهم ومواقفهم. ‏

5- تنمي الثقافة المشتركة في الفرد، شعورا بالانتماء والولاء، فتربطه بالآخرين في جماعته بشعور واحد، وتميزهم من الجماعات الاخرى. ‏

6- واخيرا، تكسب الثقافة الفرد، الاتجاهات السليمة لسلوكه العام، في اطار السلوك المعترف به من قبل الجماعة.


















المراجع

1- أحمد محمد أنور: الفن والمجتمع ، نظرة موجزة على الحالة المصرية ، مقالة صحفية ، الحوار المتمدن ، 9/5/2013
2- خليل فاضل : ملامح الشخصية المصرية فى صحتها وعلتها ، مقالة صحفية ، الحوار المتمدن ، 5/8/2006
3- فاطمة زكى : منظومة القيم والثقافة المصرية قبل وبعد الثورة ، مقالة بمجلة الديمقراطية ، http://digital.ahram.org.eg/Policy.aspx?Serial=639913
4- محمد مهدى (دكتور): الشخصية المصرية ، دراسة على الانترنت ، http://www.elazayem.com/A(61).htm
5- هالة مصطفى (دكتور): خصائص الشخصية المصرية ، مقالة بمجلة الديمقراطية، http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=812671&eid=1894



#أحمد_محمد_أنور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأثر الاقتصادى على تطور المجتمع من وجهة النظر الماركسية
- فى المعادلة السياسية المصرية ، الدم يساوى ماذا؟


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد محمد أنور - المكون الثقافى للشخصية المصرية