أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بيتر إسحق إبراهيم - الموت يرقص














المزيد.....

الموت يرقص


بيتر إسحق إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 4289 - 2013 / 11 / 28 - 17:46
المحور: الادب والفن
    


1

مرت ثلاثة أشهر, اختبرت فيها كل ويلات الوحدة وقسوتها, حدقت في سقف الغرفة.. حملقت في تفاصيل الحائط المواجه.. جلست في الظلام.. راقبت تكون الأضواء المتسللة عبر خصاص النافذة وفتحات الشيش على الحائط والسقف وتمواجها.. صادقت دقات الساعة كالمنتظر لوقوع حادث, لكن حادثاً لم يحدث ولم يتغير شيء, تشابهت الأيام والليالي ومرت, مرت وها أنت مستلق على ظهرك طريح الفراش, بالكاد لا تبارحه إلا لإطعام نفسك مرة واحدة يومياً أو لقضاء حاجتك, شيئاُ فشيئاً بدأت علامات الحياة في الإنحصار عن جسدك الذي أصابه الهزال وعن روحك من قبله, خارت قواك وبدوت كمن يرفع راية الإستسلام في وجه الحياة, كمن يطلب موتاً لكنه لا يمتلك شجاعة إنهاء حياته بنفسه, لذلك يشحذ الموت ويمهد له كل السبل المتاحة والغير متاحة.


كلما تذكرت ما كان عليه هذا البيت أجهشت في البكاء, كانت تتدفق الحياة عبره, لا ينقطع عنه الغناء والرقص والضحكات, أسرة سعيدة من أربع أفراد, ولد وبنت وأم محبة للرقص والغناء ومحبة للحياة وأنت, شب الصغيران على حب الحياة والرقص والغناء كما والدتهما, أنبتت فيهم تلك النبتة التي لطالما حسدتها عليها, وودت لو تشاركها لكنك كنت تستشعر أنك غير أهل لذلك, لكنها كانت تصر عليك بعض الأوقات لتشاطرها هذه الرقصة أو تلك, لم يكن ليطاوعك جسدك المتحجر على تأدية تلك الحركة أو هذا الدوران, لكنك لم تمانع المحاولة من أجلها. سعادة.. رقص.. غناء.. ضحكات, هكذا كان حال البيت لسنين عدة.

بدأ عقد الأسرة في الانفراط, كبرت الابنة ونضجت, تزوجت وانتقلت للعيش مع زوجها إلى بلدة مجاورة, هاجر الابن إلى دولة أخرى بحثاً عن فرص عمل أفضل, حدث هذا في ظرف عام, لكن هذا لم يقلل أبداً من مقدار السعادة التي يحويها هذا البيت بين جنباته, والفضل يرجع إلى تلك المرأة التي بلغت منتصف العقد الرابع من العمر, تحب الحياة, وزوج سعيد بزوجته, يكاد يطير عندما تتمايل في رقصاتها, و تحلق هي في أفق السموات البعيدة, كانت الرقص وسيلتها للتغلب على مصاعب الحياة, حتى أنها يوم توفيت والدتها ظلت ترقص بينما تنهمر الدموع من عينيها, تعجبت أنت من مثل هذا التصرف, لكنك عرفت بعد هذا أن هذه هي, وهذه هي طريقتها ومنبع جمالها.

آآآه, كيف لي أن أعيد جمع أشلاء كل تلك الذكريات المبعثرة وأعيد استحضار هيئتها كما كانت ؟! لا لتكون مجرد ذكريات قد استدعيتها من غياهب النسيان, بل لتكون واقعاً معاشاً, كيف لي هذا ؟.

على ما يبدو أن الحياة لم تشاطرها الحب, فقد أصيبت بمرض لعين, سحب منها الحياة رويداً رويداً حتى أقعدها الفراش, لم تتوقف عن الغناء, لكنها مجبرة توقفت عن الرقص, و إن كان القلب يرقص بين الضلوع حتى رقص رقصته الأخيرة ذات صباح مظلم, ثلاثة أشهر مرت منذ ذلك الحين, جاء الأبناء ليودعوا الأم لكنهم لم يمكثوا طويلاً في رفقة الأب المكلوم, تركوك تغرق وحيداً في بحر الوحدة, تهرب من الحياة التي خانتك, تطلب الموت فيهرب منك, معلق أنت مابين عالمين, لا عائش لا ميت, والبيت الذي ما كانت تنقطع عنه أسباب الحياة غرق في بحر الظلمات والصمت, صمت مطبق موحش وكأنه القبر, واكتملت قتامة المشهد بتلك الجثة الهامدة الممددة على الفراش, يند عنها حركات متقطعة بين الفينة والأخرى, لكنها رغم ذلك مازالت مجرد جثة مسلوبة الروح.


2

أنت تراها الآن, هي زوجتك, ترقص وتغني ويبدو عليها السعادة, كالملائكة هي, جاءتك أثناء نومك, لم تنبس لكن حركة جسدها قالت كل شيء, قالت أنها أينما ذهبت ستكون سعيدة مادامت ترقص وتغني, كما عهدتها دوماً, بينما تقبع أنت هاهنا حي ميت, لا تدرك الحياة ولا يدركك الموت.

انهض
الآن وليس بعد حين, مازال قلبك على وهنه ينبض بنبض الحياة فتمسك به, انهض قبل فوات الأوان, وليكن بعثاً جديداً.

حسناً, ها أنت تنهض أخيراً, تتعثر في الظلام لكنك تهتدي سريعاً إلى مفتاح الكهرباء, يصيبك الضوء بالعمى لكن لا يهم, ها أنا أعود للحياة, أمشي متثاقلاً لا يهم أيضاً, أضيء جميع أضواء المنزل, أتجه إلى الجهاز الخاص بتشغيل الموسيقى, هاهي موسيقاها المفضلة, جميع الأضواء مضاءة, الموسيقى تصدح في أرجاء المنزل, الحياة تعود للمنزل, فكرت في الرقص, أخذت أرقص وأرقص وأرقص, حتى خارت قواي, لكني مع ذلك أستشعر شيئاً جميلاً, وكأن جسدي قد عاد للحياة, كأن روحي المسلوبة قد ردت إلى, أو أن روح زوجتي العزيزة قد تلبستني بكل ما تحمله من جمال ومحبة للحياة, غمرتني الحياة في تلك اللحظات حتى تيقنت أنها لحظات لميلاد جديد.



#بيتر_إسحق_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الارتواء من بحيرات السراب
- غٌربة
- هُدى


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بيتر إسحق إبراهيم - الموت يرقص