أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هندة بن سالم بوشناق - القناع بين القدسيّة و اللّعب















المزيد.....


القناع بين القدسيّة و اللّعب


هندة بن سالم بوشناق

الحوار المتمدن-العدد: 4282 - 2013 / 11 / 21 - 12:32
المحور: الادب والفن
    


مقدّس و مدنّس، القناع أداة يعود اختراعها إلى العصور القديمة، إكسسوار طقسي و فرجوي، " يحوّل، يحرّر يحمي يخفي" ، في كل حالاته هو الوسيلة الأساسيّة لتّملّك و التّمثّل.
تختلف أشكاله مواده ألوانه و يتحوّل أحيانا لمجرّد ماكياج أو رسوم جسديّة، جميلا كان أو بشعا هو في الأوّل و الآخر أداة تزييف المظهر، استعماله لا يكون أبدا بدون نتيجة. حاملا لقوي خارقة القناع يؤثّر في حامله مادّيّا و معنويّا، لكنّه أيضا المؤدّي للنّشوة.
نرمز بكلمة قناع لأشياء عدّة، لكلّ جسم يُشبه الوجه بغضّ النّظر عن حجمه، لكلّ ما يغيّر من ملامح الوجه الحقيقيّة، لما يخفي الوجه مهما كان شكله، وللوجه في حدّ ذاته، أي أنّ القناع محاكاة للوجه في أحجام مختلفة من تميمة يتعوّذ بها المعتقدون بالأرواح الشّرّيرة إلى منحوتة ضخمة تُستعمل في الاحتفالات يتوسّطها كمّ من الأقنعة الّتي توضع على الرّأس تغطّي الوجه و أحيانا تمتدّ لتغطّي كامل الجسم أكانت تُستعمل في الطّقوس أو المساخر أو اللّعب.
القناع هو جسم ثلاثيّ الأبعاد جميلا كان أو قبيحا كما يمكن أن يكون منحوتة تشكيليّة مجرّدة، يُختصر في بعض الأحيان بمساحيق يُطلى بها الوجه، في هذه الحالة يمكن القول بأنّ القناع هو أقرب ما يكون للوجه وهو بصفة عامّة الوجه الثّاني الآخر و البشرة الجديدة، ما يحيلنا للقول بأنّ القناع غلاف الوجه أو الجسم كلّه، كما أكّد تادوز كانتور Tadeusz Kantor ؛ " الوجه هو القناع. في مفرداتي اللّغويّة استبدلت كلمة قناع بمفهوم الغلاف" ، و يبقى تحديد وظيفته بين الإظهار والإخفاء محلّ تساؤل و بحث لا متناهي.




1. القناع من الطّقس إلى الفرجة

يرتبط القناع بالطّقس والفرجة على حدّ سواء، مازجا بين هذا و ذاك، مُستوجبا الموسيقى في الممارسات الطّقسيّة حاملا مُرتديه على الرّقص مُحوّلا هذا النّوع من الممارسات الثّقافيّة إلى احتفالات فرجاوية، والعكس صحيح أيضا، في الفنون الفرجاوية الّتي يُستعمل فيها القناع تتحوّل بشيء من السّحر إلى ممارسة اعتقاديّة يُقدّس فيها هذا الوجه " المجمّد في ملامحه و مادّته" المعبّر بسحره و تأثيره في حامله، و ذلك حسب قابليّة المتفرّج و ثقافته و خصوصا نِظرته للقناع وقدرته على استيعاب رموزه، لأنّ القناع "يطرح نوع من وجه لوجه مُشفّر بين المتفرّج و المؤدّي لأنّه يؤسّس وهما يستعدّ له الجمهور" .
أقنعة عقائدية، أقنعة التّمثيل، أقنعة المساخر والمهرجانات و حتّى أقنعة الأطفال الورقيّة، " تبقى دائما كثيرا أو قليلا مرتبطة بأشياء فوق طبيعيّة و تشارك في نفس الطّقوس حتّى و إن اختلفت الوظائف" ، و في كل الحالات يمثّل " الوسيلة المكرّسة للوصول إلى النّشوة" .
"بوتا" "بمبارا" " نقونتونق" "ديونيزوس" "قناع زورو" " قناع المهرّج" "مايجو" ... تطول لائحة أسماء الأقنعة و وظائفها ما يجعل البحث فيها يأخذنا إلى منعرج تاريخي و سردي يكثر فيه الوصف أكثر من التّحليل و التّعمّق في تأثيرها في شخصيّة وسلوك حاملها، لذلك سنختصر البحث على بعض الأجناس الّتي من شأنها أن تعمّق مفهوم التّقنّع عندنا و تتماشى في أثارها مع المنهجيّة المطروحة لفهم دوره الثّقافي و الفرجوي.

أ‌. القناع: عمل عقائدي فنّي

ترتبط الأقنعة ارتباطا وثيقا بالمعتقد، ما يجعل البحث في أثرها تناول للاعتقاد الّذي أنتجها و الثّقافة الّتي ينتمي إليها، نفيُها عن الحلقة الّتي ينتمي إليها أو تحليله خارج النّشاط الإنساني الّذي تتجزّأ منه عبارة عن تحليل لشكل من أشكال الفن التّشكيلي لما يتضمّنه القناع في كلّ حالاته من جماليّات و تعقيدات في الشّكل و المادّة، كما لا يمكن أن نتجاهل كونها تفقد كامل خاصيّاتها موضوعة هنا أو هناك فهي تحيى و تُوحي بكلّ أسرارها من خلال حركة حاملها.
من الأكيد أنّ مفهوم القناع تغيّر عبر الزّمن، و اختلفت أهمّيته من حضارة لأخرى، من مُجرّد وسيلة تخفّي أو قناع جنائزي، إلى أداة فرجاويّة تجسّد إله أو إنسان من الطّقس إلى التّمثيل، مُمثّلة في كلّ الحالات واجهة ثقافيّة، تتغيّر ملامحه بتغيّر ملامح المجتمع الّذي ينتمي إليه.
كان الإنسان البدائي يتخفّى بأشياء عدّة عند خروجه للصّيد، يسعنا أن نصف هذا التّخفّي بالتّقنّع علما أنّ الإنسان آن ذاك ينظر لهذه الأشياء كوسيلة تخفي هويّته البشريّة و تساعده على الاقتراب من فريسته، ما يؤكّد على دور القناع الأوّل وسيلة إخفاء للحقيقة و إظهار واجهة مزيّفة، شيئا فشيئا تغيّرت نضرته لهذا القناع فأصبح يوليه أهمّية و يختار بعناية المواد الّتي يصنعه منها معتقد انّه تجسّد لإله أو روح تحميه وتبارك أفعاله ونشاطاته، انتقل بذالك القناع إلى المقدّسات و صارت صناعته في حدّ ذاتها طقسا يُحفى به. تولّدت عن هذه الاعتقادات احتفالات تمجّد الآلهة أو تستدعي الأرواح لتّبارك بها يلعب فيها القناع دور الوسيط بين عالمهم الدّنيوي و عالم المقدّسات و الخوارق، تحت تأثير الموسيقى وطنطنة الطّبول يتطلّب و يستوجب من حامله الرّقص تبعا لقواعد خاصّة بكلّ قناع ما يزيد في تعقيد الرّسالة المشفّرة الّتي يطرحها على الحضور، و إن لم تتوفر عند هؤلاء الثّقافة المناسبة والاعتقاد الصّادق بمفعول القناع فسوف لن يستنتجوا من الطّقس سوى عرض فرجوي يجمع بين الموسيقى و الرّقص يصل فيه المؤدّي المقنّع إلى النّشوة، ما يحيلنا إلى دور القناع كفاصلة بين عالمين، بين عالم المقدّسات و العالم الدّنيوي، بين الحقيقة و الخيال، بين المتفرّج و حامل القناع، و نتبيّن أيضا دور القناع كوسيلة توصل لنّشوة وهو دور يستحقّ بحثا في سيكولوجيا المقنّع الّذي وحده يستطيع نفي أو تأكيد ذلك.
بعض الشّعوب الإفريقيّة حافظت على تقاليد هذه الأقنعة لكنّ البحث في طقوسهم و الأساطير الّتي ولّدت هذا القناع أو ذاك يبق مرتبطا باعتقادات الباحث الإتنولوجي في حدّ ذاته ونضرته الشّخصيّة للأقنعة، كما أنّنا سنجد اختلافا في الأطروحات المقدّمة في هذا الصّدد لأنّ الطقس و الأقنعة تتغيّر و لو تدريجيّا بتغيّر الاعتقادات الّتي تـنتجها وتتأثّر بها.
تغيّر شكل القناع في العصور القديمة مع المحافظة على أدواره البدائيّة، و أكتسب مكانة مختلفة في عالم الفرجة، صارت له ملامح بشريّة لكنّه بقي يمثّل تجسُّد المقدّسات، مظهرا رغبة الإنسان في تحدّي قدراته الجسديّة المحدودة، نأخذ كمثال قناع المسرح الإغريقي الّذي ينخرط ضمن الممارسات الطّقسيّة، علما أنّ هذه الفترة الزّمنيّة زاخرة بأنواع عديدة من الأقنعة شكلا و وظيفة.

يمثّل القناع في المسرح الإغريقي، الّذي يُقام في احتفال ديونيزوس لتمجيد المقدّسات، وجه من وجوه تعقيدات ظهور الآلهة و صرامة القواعد الّتي تحدّد تجلّي المقدّس و الفوق طبيعي في كلّ المظاهر الثّقافيّة الخاصّة بتلك الفترة، لذلك القناع يمثّل ملامح معيّنة خاصّة بالشّخصيّة الّتي يمثّلها يعرفها المتفرّج و يميّزها أثناء العرض، فالقناع الإغريقي لا يخفي بل يظهر، فالهدف من ارتدائه ليس إخفاء هويّة حامله بقدر ما هو إظهار الشّخصيّة المُمثّلة و رمز لـخصائصها ، ما ولّد دور القناع في المسرح و الّذي استمرّ إلى يومنا هذا؛ القناع هو واجهة و هويّة الشّخصيّة التّمثيليّة المتجسّدة في الممثّل المؤدّي لدورها.
بفضل الإغريقيين صار القناع جزء من العروض المسرحيّة، لكن الفضل يعود للرّومان في إثراء هذا الإكسسوار و تعدّي الأجناس القديمة ما مهّد لظهور أنواع متعدّدة الأشكال والأنماط و خصوصا الخروج من الطّابع الطّقسي إلى الفرجة التّثقيفيّة الترفيهيّة، و جعل القناع المسرحي امتداد للأقنعة الاجتماعيّة يحمل مفاهيم سيكولوجيّة.

ورث الرّومان المسرح الإغريقي المرتبط بالطّقس لكنّه سرعان ما تميّز عنه في بعض النّقاط تاركا العروض العقائديّة محوّلا اهتمامه للعروض الّتي تتناول الحياة الدنيويّة، على المسرح الرّوماني بدأ اللّعب يتّخذ مسارا فنّيّا و مع الاهتمام الّذي أولوه للإخراج كتجسيد للرُّؤى الشّخصيّة أصبحت الرسالة أكثر غموضا، " في الفترة الرّومانيّة نشاهد تنوّع مذهل في الأقنعة" و بالتّالي تنوّع في الشّخصيّات و أدوارها، يتمتّع الممثّل بأدائها موقنا أنّ لعبه يلقى اهتماما من جمهور ينتظر المتعة من خلال ما يمثّله ويماثله مدركا أنّ الممثّل فنّان يعطي من ذاته لإحياء الشّخصيّة أو القناع، فالممثّل عند الرّومان نجم يستحقّ كلّ التّقدير.
لم يتوقّف نسق تطوّر المسرح الروماني كنوع أدبي و فرجوي، وصولا لأواخر العصور الوسطى التي شهدت تغيّرا جذريّا في هذا الجنس من العروض و في أدواته و إكسسواراته، انبثق منه نمطا إيطاليّا يُسمّى بـ"كوميديا الفن" "Commedia dell arte".
أهمّ الصّعوبات الّتي تعترضنا عندما نطرح السّؤال حول الكوميديا الإيطاليّة أو "كوميديا الفن" تتمثّل في تحديد الموضوع، جنس مسرحي مميّز يُمارس إلى اليوم وفي الكثير من البلدان، نشأ في السّاحات و انتقل للمسارح، مستوحى من المهرّجين و يمثّله ممثّلين مقنّعين، و هذا هو ما يهمّنا في هذه المرحلة من البحث قناع كوميديا الفن .
قناع يغطّي نصف الوجه العلوي، يصنع غالبا من الجلد، ملامحه بشريّة مبالغ فيها و ساخرة، يمثّل شخصيّة نمطيّة، "هو أبعد ما يكون عن القناع القديم الّذي يُعبّر عن نوع مسرحي نهائي ( كوميديا تراجيديا(" .
اثنا عشرة قناعا لاثنتا عشرة شخصيّة كلّ منها لها صفاتها و خاصيّتها و سلوكها العام، يعتمد أداؤها على نصّ مكتوب يُذكر فيه أهم الأحداث و المواقف في المسرحيّة دون التّطرّق لتّفاصيل الّتي على الممثّل أن يضيفها من ذاته، و يرتجل أثناء العرض ما يتماشى مع رغبة الجمهور دون الإخلال بنسق العرض و أداء بقيّة الشّخصيّات، فهنا القناع بمثابة بشرة ثانية حالما يلتصق بالوجه يُدخل الممثّل في طيّات شخصيّة أخرى تُطالب لنفسها بالحياة من خلال جسده، هويّتها القناع و طباعها لا تتغيّر وشخصيّتها تستقي من ذات الممثّل.
فرضت الكوميديا الإيطاليّة الحاجة إلى إحساس و إبداع الشّخصيّة التّمثيليّة من الذّات، إذ يجب أن يُستخرج من الأعماق ما يُوحي به القناع و يثري الدّور " مع المتعة في اختلاق التّفاصيل الّتي لا تكون متوقّعة دوما من الذّات نفسها" .
يختلف التّمثيل المقنّع في شرق آسيا و بالتّحديد في اليابان عن الأداء المقنّع في الأجناس المسرحيّة الّتي سبق ذكرها، يجمع بين الغناء و الرّقص مستوجبا الدّقة في الحركة لأنّها لغة في حدّ ذاتها في هذا النّمط المسرحي الّذي حافظ على هويّته منذ " القرن الرّابع عشر" ؛ "مسرح النو" "Le théâtre Nô" " المختلف و المتميّز" .
قناع النّو عمل فنّي و مقدّس، يمثّل تجسّد الأرواح و يحمل في بعض الأحيان إمضاء أشهر النّحّاتين، ملامحه بشريّة، أصغر من الوجه الطّبيعي منحوت على الخشب ترسم ملامحه المعبّرة عن حالة نفسيّة بكلّ عناية بعيدا عن الطّابع الكاريكاتوري، يُستغنى عنه في بعض الحالات ليعوّضه وجه الممثّل بملامح مجمّدة ، عُوّض في مسرح الكابوكي Kabuki بالماكياج.
حالما يضع الممثل القناع يخرج سيكولوجيّا من شخصيّته و يدخل في الشّخصيّة التّمثيليّة، و كأنّ روحه تخرج من جسده لتدخل مكانها روح الدّور أو يتمثّل فيه إله أو شيطان.. تصبح حركاته و سكناته بالإضافة للموسيقي و الّتي هي عنصر أساسيّ في هذا الجنس المسرحي تعبير عن الحالات النّفسيّة الّتي يمرّ بها، و مهما كان نوع القناع الممثّل يقدّسه لأنّه يّمثّل سحر خلق وتمثّل الشّخصيّات سواء كان ذلك في الماضي حيث كان أداة عقائدية أو في الحاضر و انتقاله إلى إكسسوارات المسرح.
و حده المُعتقد يؤثر على تعامل الفنّان مع القناع، و لا نقصد هنا بكلمة مُعتقد الدّين فقط، وإنّما كلّ ما يُؤمن به الفنّان و كلّ ما ينتمي لثـقافته الشّخصيّة و رهافة أحاسيسه تجاه كل المظاهر الفنّيّة حتى وإن لم يمارسها، كذلك الأمر بالنّسبة لجمهور الأعمال المقنّعة. اليوم نشاهد على المسارح في كل العالم تقديس الممثّل لقناعه و سعادته في لعب الشّخصيّة الّتي يمثّلها بالرغم من وعيه بأنّه/أو لأنّه إكسسوار و واجهة مزيّفة تلغي هويّته الشّخصيّة و في أحيان أخري تماثله بالدّمى المتحركة، ربّما يعود ذلك لسّحر المرتبط بالقناع منذ بداية صنعه فيجعله الفاصل بين الحقيقة والخيال متحدّيا كلّ الثّقافات.
ب‌. القناع بين الظّاهر و القفا: فاصلة بين الواقع والخيال

يفصل القناع بين الواقع والخيال، واقعيّة اللّعب و البعد الخيالي للأحداث، بين واقعيّة جسد الممثّل المقنّع و البعد الخيالي الّذي يُحدثه من خلال شخصيّته التّمثيليّة، القناع نفسه واقعيّ ملموس يتحوّل من خلال حركة الممثّل لهويّة الدّور الخياليّة، يُولد في خيال النّحّات و يتحوّل لحقيقة ملموسة من خلال المادّة الّتي تكوّنه، يُجسّد و يُحيي شخصيّة من خيال الكاتب تُولد على الورق لتموت مع انتهاء العرض، فهل هذه حدود القناع؟ هل يتوقّف سحره عند الحدود الفاصلة بين الحقيقة و الخيال؟ و السؤال الأهم هل هذا ظاهر القناع أم قفاه؟
يعتبر غلان ويلسون Glenn Welson أنّه " يحسن بنا أن نفهم الدّور الّذي يلعبه المسرح في سيكولوجيا الإنسان" لنفهم حاجته و غايته من الأداء، فالإنسان بالدّرجة الأولى أنشأ النّشاطات الثّـقافيّة ليخفي بها رغباته الأكثـر عمقا في ذاته، و الأعمال المسرحيّة جزء من هذه النّشاطات يمثّل استمرار لحياته الاجتماعية يمارس على خشبته ما تمنعه الأعراف البشريّة، يتمثّل و يتماثل و يرى ما يماثله دون الخوف من الحسبان و لا من نظرة المجتمع لتمثّله الأصلي، فهذا اللّعب يبدو في الظّاهر لعبا جسمانيّا لكنّه في الواقع " لعب عقليّ و نحن نسمّي هذا الّعب تخيّلا" ، و القناع هو الإكسسوار المناسب لإخفاء هذه الرّغبات و البروز كهويّة لهذه الأدوار يطالب بالحياة من خلال الممثّل فيظهر هذا الأخير كأداة تحت إمرة رغباته في المثول و تحت تأثير سحره.
قد يصل عبءُ القيود الاجتماعيّة إلى منع الممثّل من أداء بعض الأدوار أو بعض الحركات، و لا سبيل للهرب من المعاتبة، فيكون القناع الواجهة المناسبة الّتي ينطوي وراءها الممثّل و يلعب بكلّ حريّة، إذ "يستطيع القناع أن يخترق كلّ القواعد" .
في النّهاية نعود لمقارنة القناع بالوجه، القناع يُظهر ما يرغب حامله في إجلاءه لمحيطه مُخفيا حقيقته، فهو يُوهم النّاظر إليه بحقيقة الخيال الّذي يمثّله مُخفيا الحقيقة في حدّ ذاتها، فيصير بذلك القناع الفاصل بين داخليّة الفرد و واجهته الحقيقيّة الخياليّة، و الأهم أنّ المقنّع يتمكّن من لعب الدّور الذي يتماشى مع ذاته موهما أنّه يلعب دور القناع فتنعكس بذلك الصّورة و تصبح شخصيّة القناع حقيقيّة تخفي شخصيّة المقنّع الخياليّة أو تلك الّتي كان يلعبها في حياته الواقعيّة.
يجعلنا القناع نتساءل عن ماهيّة الواقع والخيال و مدى انفصال/تمازج هذين العالمين، و إذا كان هو الفاصل بينهما أو المازج، يظهر أيّا فيهما و يخفي أيّا فيهما، و هل يؤثّر فعلا في شخصيّة حامله أو هو تبادل بين الشّخصيّتين؟

2. القناع في الفرجة التّونسيّة

عرفت تونس القناع منذ عهود عدّة، بفضل الحضارات الّتي استقرّت على أراضيها، فنجد اليوم موروثا أثريّا يزخر بأشكاله المتعدّدة، بعضها طقسي يعود للفترة البونيقيّة، كما نجد أقنعة تمثيل رومانيّة متعدّدة الأشكال، رغم هذا التّنوّع بين الطّقس و اللّعب طالت فترة الاستغناء عن القناع في بلادنا إلى أن أعيد له البعض من أهمّيته في اللّعب التّمثيلي من خلال مسرح بدأ في استعادة مجده كأداة " تثقيفيّة و ترفيهيّة هامّة جدّا و الحاجة ماسّة إليها" في مجتمع عربي معاصر.
أوّل الأقنعة الّتي عرفتها تونس كانت مصنوعة من فخّار على شاكلة وجوه بشريّة تُستعمل في الطّقوس الجنائزيّة، أصلها يعود للعصور القديمة، لقرون عدّة قبل الميلاد، وُجدت ضمن آثار قرطاج بالإضافة إلى أقنعة صغيرة الحجم، تمثّل تمائم على شكل وجه يحدّه شعر ولحية، كانت تستعمل كتعويذة تحمي حاملها من الشّرور.
سقطت قرطاج وتحوّلت تونس لمستعمرة رومانيّة، امتدّت سيطرتهم عليها من القرن الثّاني قبل الميلاد إلى القرن الرّابع بعد الميلاد، عرفت تونس خلال هذه الفترة تنوّعا في أشكال الفرجة و أماكن عرضها، أضاف الرّومان مدرّجا مختلفا عن ذاك المعهود في قرطاج، قصر ضخم دائريّ الشّكل مجهّز ليستقبل جمهورا هائلا، و ساحة تقام فيها المصارعات بين البشر(العبيد) و الحيوانات المتوحّشة، لا يعني ذلك أنّهم يؤثرون هذه الألعاب عن المسرح بل على العكس نجد في كلّ مدينة رومانيّة مسرحا ما يؤّكد على الاهتمام بهذه الفرجة خصوصا عندما نعلم أنّهم كانوا يهتمّون بإكسسواراته و ينّوّعون فيها كالأقنعة، إذ وُجدت في مدينة سوسة أثر دار فيها الكثير من الأقنعة الفخّاريّة و لوحات من الفسيفساء تتمحور مواضيعها حول القناع المستعمل في المسرح آن ذاك.
مع الإسلام انقطعت تونس عن العديد من المظاهر الفنّيّة و الفرجاويّة، ظهرت في الأثناء مظاهر احتفاليّة عقائديّة ليس للقناع فيها بمكان، ولا نتبيّن من خلال ما كتبه المؤرّخون عن تونس ذكرا لمظاهر ثقافيّة منفصلة عن العقيدة الإسلاميّة.
أحدث ظهور القناع جزعا في بلاط "علي باي" [1735-1756] سنة1741، بعد تجاهل لهذه الواجهة المزيّفة و المغالطة لقرون عديدة أدّت عودته و ظهوره من جديد إلى تهيّؤات حول هويّة هذا الوجه المسود، من خلال "رسالة ممثّل لأحد أصدقاه" نتبيّن أنّه وقع القبض على فرقة تمثيل فرنسيّة و قُدّمت لتسلية الباي من خلال عرض حاولت الفرقة أن تتألّق من خلاله علّه يكون سبيلا لإطلاق صراحهم، ولكنّ اختيارهم لاستعمال أقنعة الكوميديا الإيطاليّة لم يكن موفّقا أمام جمهور اعتاد الاحتفالات الدّينيّة أو مسارح الظل، فاعتقد الباي أنّ قناع "أرلوكا" تمثّل الشيّطان في ذات الممثّل، و ما إن زال خوفه من الأقنعة،(بعد شهور) أمر بمعاودة العرض مرّات ومرّات.
الفرجة الوحيدة الّتي يظهر فيها القناع في موروث تونس الفرجوي هي عروض بو سعديّة الّتي يخلط اليوم بينها و بين عروض الاسطمبالي، بو سعديّة الزّنجيّ القادم من وسط أفريقيا باحثا عن ابنته في كل المدن التي تطؤها قدميه متخفّيا تحت قناعه يعزف بأداة افريقيّة "الشقاشق" و مردّدا أغاني راجيا أن تسمع ابنته كلماته و تخرج للقائه، هذه هي أسطورة قناع "بو سعديّة" في تونس القناع الوحيد الّذي استمرّ في الثقافة التّونسيّة قبل عودة المسرح ضمن نشاطات البلاد الفرجويّة، حيث للقناع مكانة متواضعة من بين إكسسواراته.

خــاتـمة
يبد المعنى الإيتيمولوجي لكلمة قناع " كلغز" يمثّل حاجة عميقة في الإنسان للتّمظهر، " ينتمي للموروث الحرفي الأكثر قدما في المجال المقدّس كما في المجال المدنّس" ، يحمل إشكاليّات عدّة، يُزيّف المظهر لكنّه لا يُخفي، فهو أداة إظهار بالدّرجة الأولى، فالقناع " يخادع، يخفي هويّة حامله... ما وراء المواربة هناك التّحويل و المسخ" ، القناع واجهة ثانية هويّة ثانية و بالضّرورة شخصيّة أخرى غير تلك لحامله أو بالأصحّ غير الشّخصيّة الّتي كان يلعبها فالقناع في بعض الأحيان يكون كعمليّة إسقاط للأقنعة الاجتماعيّة.
يوضع القناع على الواجهة الأكثر قداسة في الإنسان، فوق المحيّا يفقد حامله هويّته الاجتماعيّة و ربّما البشريّة، تحت القناع نتحوّل لآخر لإنسان حيوان شبح... لا يحرم القناع مُرتديه هويّته فحسب بل و أيضا أهمّ وسيلة تعبيريّة، فالوجه مرآة الرّوح يحمل لسّطح ما يختلج في الأعماق، يتحدّث عن المشاعر بملامح لا تكاد تظهر حتّى تتغيّر من جديد ما يجعل منه أقنعة متتالية تخفي الدّوافع الأكثر عمقا.
القناع وجه مجمّد الملامح يحمل تعبيرا دائما، غير قادر عن التّعبير و الإيحاء إلاّ من خلال حركة حامله، تتمثّل شخصيّته في جسد حامله الّذي يتحوّل لوجه معبّر، فالمقنّع مُدركا لجمود قناعه و لغياب " لغة عالميّة" لغة الوجه الأكثر مباشرة، يعمد إلى الحركة و التّعبير ببقيّة أعضاء الجسد موليا أهمّية للغة أكثر تعقيدا يستعدّ لها المتفرّج.
الوجه قناع للممثّل على خشبة المسرح يوحي من خلاله بلغة صامتة، يغني عن الحركة و الكلام أحيانا، لكن في حال وضع الإكسسوار السّحري للمسرح ينفصل المؤدّي بكلّ ما يحمله من ترسّبات اجتماعيّة عن جمهوره تاركا المجال لبعد خيالي يلعب فيه القناع دور هويّة الشّخصيّة يصبح جسد حامله لغته صوته و تعبيره، لكن ليست كلّ الأقنعة الّتي تتيح لصوت الممثّل أن يكون واقعيّا فتشكيلته التي تغطّي كامل الوجه في أغلب الأحيان تمنع الصوت من الوصول للجمهور أو تضخّمه مثل القناع الإغريقي، قناع كوميديا دل أرت يختلف في شكله الّذي لا يغطي سوى نصف الوجه فتختلف تباعا خصائصه و تأثيراته المسرحيّة.
" المسرح إذا يصبح مرآة" اجتماعيّة يعكس كلّ مظاهره و ليس القناع سوى تذكير لظاهرة متعمّقة في الذّات البشريّة يُحوّل بشيء من السّحر واقعيّة الأداء إلى خيال، أقلّ تفاصيله معنى يستمتع الجمهور باستنتاجه.

























المراجع

- محمّد المديوني، إشكالية تأصيل المسرح العربي، تونس قرطاج، بيت الحكمة،1993
- غلان ويلسون، سيكولوجيا فنون الأداء، ترجمة: د. شاكر عبد الحميد، مراجعة: د. محمّد عناني، الكويت، عالم المعرفة.
- Dictionnaire Général des théâtres, Impr de Hénée, chez Babault, Publié 1810, Original issu de Université d’oxford, Numérisé le 8 jan 2007
-ASLAN Odette et BABLET Denis, Le Masque du rite au théâtre, France, CNRS
Edition, 2005,310 pages.
- AZIZA Mouhamed, Les formes traditionnelles du spectacle, Tunis, Société Tunisienne De Diffusion, 1975.
- CHEVALIER Jean -GHEERBRANT Alin , Dictionnaire des symboles, Paris, Editions Robert Laffout, S.A et Editions Jupiter, 1969.
- CHARFEDDINE Moncef, Deux siècles de théâtre en Tunisie,Tunis , Ed. Ebn Charaf, 2004
- DOQUET Anne, Les Masque de Dogon Ethnologie savante et Ethnologie autochtone, Paris, Karthala édition, 1999.
-GOUÊ-;-LLE Colombe, Le cabinet du curiosités mélanges offerts à Claude Wanquet, Paris, L’Harmattan, 2000.
- HEYNDELS Ralph et R. WOSHINSKY Barbara, L’autre au XVII ème siècle actes du 4ème colloque du centre international de rencontres sur le XVIIe siècle University of Miami 23 au 25 avril 1998, Allemagne, Gunter Narr Verlag Tübingen, 1999, 451pages.
- JOLIBERT Bernard, La commedia dell arte et son influance en France de XVIe et au XVIIIe siècle. Paris L’Harmattan, 1999.
- KOCHTCHOUK Oleg et KOCHETKOV Oleg, « Les masques », CARNAVAL rites, fêtes et traditions, Suisse, Cabedita, 2001,143 pages.
- PERRET Herman, La voix et son temps, France, De Boeck Université, 2002.
- SOURIAU Etienne , Vocabulaire d’esthétique, Publié sous la -dir-ection de Anne SOURIAU, France, Quadrige/ puf, 2004.

- SAND Maurice et MANCEAU Alexandre, Masques et bouffons (comédie italienne), 1860, original issu de l’Université de Havard, Numérisé le 24 jan 2006
- http://www.chroniques-nippones.net



#هندة_بن_سالم_بوشناق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثقافة
- الوجه بين الإدلاء و التّضليل


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هندة بن سالم بوشناق - القناع بين القدسيّة و اللّعب