أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غسان ديبة - ما بعد الحطام: الآثار العميقة لأزمة الرأسمالية















المزيد.....


ما بعد الحطام: الآثار العميقة لأزمة الرأسمالية


غسان ديبة

الحوار المتمدن-العدد: 4252 - 2013 / 10 / 21 - 06:57
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


في 15 أيلول 2008 يوم انهيار العملاق الأميركي المالي "ليمان براذرز" استفاق العالم على مرحلة جديدة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي. فبعد أكثر من عشرين عاماً على سيطرة "توافق واشنطن" وما سمّي بـ "الاعتدال الكبير" بدا أن الرأسمالية تعود الى مرحلة ظنَّ الكثيرون انها ولّت من دون رجعة، إذ بدأ شبح 1929 يسيطر على عقول ومخيّلة العالم، فالتسارع في ديناميكية انهيار الأسواق العالمية والاقتصادات الرأسمالية المتقدمة والتجارة العالمية كان أكبر بكثير من أزمة 1929- 1933 أو ما عُرف بـ"الكساد العظيم" الذي هز أسس الرأسمالية.
بعد ذلك اليوم تدخّلت الدولة في الولايات المتحدة، مركز الزلزال الاقتصادي، سريعاً لإنقاذ الأسواق المالية من الانهيار عبر أكبر عملية ضخ أموال حكومية في التاريخ لشراء الأصول والسندات المتهالكة في هذه الأسواق، بالإضافة الى سياسات مالية توسعيّة بلغت أوجها في خطة أوباما للتحفيز الاقتصادي في أوائل 2009. وكان هذا التدخل حاسماً في إنقاذ الاقتصاد الأميركي من الانهيار.
في شهادته أمام مجلس الشيوخ قال أحد مساعدي وزير الخزانة الأميركي:"إن التدخل الذي نُفّذ في خريف عام 2008.. نجح في إنقاذ نظامنا المالي من الانهيار الكارثي... وفي كانون الثاني 2009 لم نعد نواجه فقط أزمة مالية بل أصبحت الأزمة أزمة اقتصادية مفتوحة...في غضون ثلاثة أشهر خسر الأميركيون 5 تريليون دولار من ثرواتهم. باختصار فإن الاقتصاد كان في حالة سقوط حر، وكان هناك قلق متزايد من كوننا نتجه نحو كساد عظيم ثان. إن إدارة أوباما واجهت هذه الحالة باتخاذ إجراءات على جبهات متعددة.. وكانت النتيجة أننا تراجعنا عن شفير الهاوية".
كان التدخل عالمياً خصوصاً في بريطانيا ودول منطقة اليورو، وانضمت المصارف المركزية الى هذه القافلة والتي كانت حتى ذلك الوقت تحدّد دورها في محاربة التضخم، وحتى الصين التي ربما استمعت على مضض الى مقولة جورج سوروس بأن "الشيوعية في الصين ستنتهي في أزمة رأسمالية" تدخلت بشكل كبير من ناحية دعم الطلب الكلي وفي الأسواق المالية العالمية ولاحقاً في أزمة منطقة اليورو.
كانت النتيجة الأساسية لهذه التدخلات أن الاقتصاد العالمي أُنقذ من كساد عظيم آخر وأُبعد شبح انكماش الأسعار الذي هدد الولايات المتحدة وأوروبا لكن على الرغم من هذا الخروج من الأزمة الذي كان خروجاً مترنحاً وضعيفاً، فالولايات المتحدة لا تزال تعاني من بطالة مرتفعة ونمو ضعيف وبيّنت الأزمة مقدار الخلل البنيوي الذي أصاب الاقتصاد الأميركي بعد ثلاثين عاماً من السياسات الليبرالية التي عمقت من فوارق الدخل وأضعفت القاعدة الصناعية للاقتصاد، وأوروبا التي ظنت أن اتباعها نقداً موحداً ضمن شبه وحدة إدارية واقتصادية، استفاقت على أزمة عميقة تهدد وحدتها النقدية وتدفع بمعدلات البطالة في الكثير من دولها الى مستويات لم تشهدها من قبل. وفي هذا الإطار تبدو اليونان اليوم مركز التجربة في سياسات تقشّفية – ركودية أسوأ من كل ما وضعته وصفات صندوق النقد الدولي في العالم الثالث، إذ تتضمن خفضاً للأجور الاسمية، وتعيد الى الواجهة ما حذر منه كينز منذ أكثر من 85 عاماً في مواجهة محاولة العودة الى معيار الذهب في بريطانيا حين كتب:"إن الانكماش لا يخفض الأجور بشكل أوتوماتيكي. إنه يخفضها عبر استحداث بطالة. إن الاستعمال الصحيح لندرة النقد هو للسيطرة على الانتعاش. فالويل لمن يدفعهم ايمانهم الى استعمالها من أجل تعميق الكساد الاقتصادي!". وفي الإطار نفسه قال:" إن الطبقات التي ستخضع أولاً لخفض أجورها الاسمية ليس لديها ضمانات بأنه سيعوض عليها بخفض مواز في أكلاف المعيشة أو أن هذا الخفض لن يكون لمنفعة طبقة أخرى. وبالتالي فإنهم محكومون بالمقاومة قدر ما استطاعوا. وستكون حرباً حتى يتم تحطيم واخضاع هؤلاء الأضعف اقتصادياً". وهذا بالفعل ما يحصل في شوارع اليونان اليوم.
مما تقدم وعلى الرغم من الخروج وإن غير المستقر من الأزمة الكبرى، فإن هذه الأزمة، التي تركت آثاراً عميقة في الفكر والبنية الاقتصادية، أنهت بشكل تام المرحلة الليبرالية من الرأسمالية والتي سادت الاقتصاد العالمي منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي وحتى عام 2008. أولاً، تم التأكيد على أن الرأسمالية تتسم بخاصيتين أساسيتين: دورية الأزمات وحتميتها وأهمية دافع الربح كمحرك رئيسي لديناميكية رأس المال. ثانياً، تأكد دور الدولة المركزي في النظام الرأسمالي من حيث ضرورة تدخلها في المفاصل الأساسية عبر سياسات كينزية، إلا أن طبيعة النظام الرأسمالي تحدّد "نافذة زمنية" لهذا التدخل.

دورية الأزمات وعامل الربح في النظام الرأسمالي
قال فاسيلي ليونتييف، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، إن كارل ماركس وضع نظرية التقلبات الاقتصادية في مقدمة التحليل الاقتصادي. وقد كان لهذا الوضع الأثر الجذري على العلم الاقتصادي في تحليله لقوانين الرأسمالية وديناميكياتها، فقبل ماركس كان التحليل الاقتصادي الكلاسيكي، ومن ثم النيوكلاسيكي بعد ماركس يرسم صورة عن الاقتصاد الرأسمالي تتسم بالتوازن وقدرة الأسواق وميكانيزم الأسعار على تحقيق العمالة الكاملة. ولقد طبع هذا التناقض بين النظريتين تاريخ الفكر الاقتصادي منذ ذلك الوقت حيث يميل في فترات الاستقرار الى جانب الكلاسيكيين وفي الأزمات الى جانب ماركس. وقد أتى كينز في فترة الثلاثينيات بعد "الكساد العظيم" ليؤكد على نظرة ماركس، وإن على أسس مختلفة، في عدم استقرار الاقتصاد الرأسمالي. لكن في الوقت نفسه، ولأول مرة في تاريخ الرأسمالية، أرسى مفاهيم تدخل الدولة عبر السياسات المالية لتثبيت الاقتصاد وتوجيهه نحو العمالة الكاملة. أسست هذه النظرية للعصر الذهبي للرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية والتي امتدت حتى بداية السبعينيات. في أزمة السبعينيات انتهى مفعول الكينزية وعادت النظرية الكلاسيكية الى الظهور والسيطرة مجدداً في الفكر الاقتصادي أولاً ومن ثم في تخلّي الكثير من الدول عن السياسات الكينزية بعد مجيء رونالد ريغان ومارغريت تاتشر الى الحكم في الثمانينيات.
في عام 2004 أطلق الحاكم المالي للمصرف المركزي الأميركي على الفترة الممتدة من منتصف الثمانينيات وحتى ذلك الوقت: فترة "الاعتدال الكبير"، وذلك بسبب انخفاض معدلات التقلبات في مستويات الناتج والتضخم في الاقتصادات المتقدمة. عزى ذلك الى نجاح السياسات النقدية عبر تقنياتها الجديدة في تثبيت الاقتصاد. هذا التوصيف أتى أيضاً بعد مرحلة نمو متواصلة غير مسبوقة في الولايات المتحدة بين 1991 و 2001 تم خلالها أيضاً إطلاق نظريات حول نهاية "دورة الأعمال" وإن الكأس المقدسة التي تؤمن نمواً غير متقطع في النظام الرأسمالي قد تم اكتشافها أخيراً!..
بدا في خضم كل هذا أن ماركس و كينز قد ذهبا من دون رجعة، ليس فقط نتيجة ذهاب الأنظمة السياسية التي بُنيت حول أفكارهما وإنما بدا أن الواقع والنظرية التوازنية قد تطابقا فأعلن روبرت لوكاس العدو اللدود للنظرية الكينزية "أن معضلة تجنّب الركود قد حُلّت".
جاءت الأزمة الحالية لتدحض كل هذه الآمال، وانهارت الاقتصادات المتقدمة والتجارة العالمية والإنتاج الصناعي بوتيرة أعلى من تلك التي سُجّلت خلال الكساد العظيم، في الأشهر الـ 15 الأولى من بداية ابريل نيسان 2008 وذلك حسب المقارنات التي أقامها الاقتصاديان الأميركيان أيكنغرين وأوروركه في دراستهم التي أسموها "حكاية كسادين". وفي هذا تأكيد نهائي على دورية وحتمية الأزمات في الاقتصاد الرأسمالي، تلك الخاصية التي اكتشفها ماركس علمياً. قال فيليب بول، الفيزيائي وكاتب العلوم، في كتابه الأخير "الكتلة الحاسمة" المنشور في عام 2004، في خضم حديثه حول تقلبات الأسواق والاقتصادات: "إن ماركس اكتشف نبض الاقتصاد الرأسمالي... إن أكثر النظريات التي طورّت منذ عهد ماركس يمكن وصفها بأنها محاولات بائسة لترويض ذلك الذي لا يمكن ترويضه".
أمام هذا المشهد بدأ الكثيرون يتساءلون عن مدى حقيقة تماهي النظريات الاقتصادية المسيطرة مع الواقع، أعلن بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في عام 2008 (عام الأزمة)، في مقال نشر له في "نيويورك تايمز"، إن نظريات الاقتصاد الكلي، التي كانت تُعلّم في الجامعات في الثلاثين سنة الماضية: "سيئة بشكل مريع في أفضل الأحوال بل ومضرة في أسوئها". المجلة الاقتصادية المحافظة "الايكونوميست" تصدّر غلاف عددها الصادر في تموز 2009 بعنوان "النظرية الاقتصادية الحديثة – كيف أخفقت وفي أي اتجاهات تغيرها الأزمة"، بل ذهب النقاش الى أبعد من ذلك نحو التفكير في مستقبل الرأسمالية التي أفردت له جريدة "الفايننشال تايمز" صفحاتها لعدة أسابيع. وهنا تجدر الملاحظة إن كلمة الرأسمالية عادت لتصبح متداولة بعد فترة طويلة إستُبدلت بكلمة الاقتصاد على أساس أن موضوع النظم الاقتصادية قد حُسم لصالح الرأسمالية.
هذا الخضمّ من الأحداث المتسارعة والمتغيرات التي هزت أسس الرأسمالية وآفاق استمرارها تبيّن أكثر إن ماركس سيستمر ما استمرت الرأسمالية (وهي رسالة كتاب إريك هوبسباوم الأخير) وما دام أفقها التاريخي لم يحسم بعد، فكما قال الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد جون هيكس "إن أكثريتنا التي تحاول وضع الأمور في سياق تاريخي سيستعملون المفاهيم الماركسية... لأن هناك شبه فراغ في البدائل".
جاءت هذه الأزمة أيضاً لتؤكد أهمية عامل الربح في ديناميكية رأس المال. هذا العامل الذي يُشكل أساس مفهوم ماركس للرأسمالية يأخذ أيضاً مكاناً هامشياً في النظريات الاقتصادية النيوكلاسيكية التوازنية. الأزمة بدأت في الولايات المتحدة الأميركية في انهيار أسواق العقارات التي شهدت فقاعة أسعار بين 1997 و 2006 حيث ارتفعت أسعار المنازل بنسبة حقيقية تساوي 85%. هذا أدى الى أزمة في الأسواق المالية نتيجة ارتباط السوق العقاري الأميركي بما يُعرف بالسندات المصنعّة التي استُنبطت كتقدم تكنولوجي في الأسواق المالية – العقارية. هذا الارتباط أدى الى تفاعل تسلسلي اخترق ميزانيات المصارف ومحفوظات الاستثمارات، مما أدى الى نقص حاد في السيولة التي بدورها دفعت المؤسسات المالية الى التخلي عن مواقعها المالية مؤدية الى مزيد من الانهيار في الأسعار وانكماش عظيم في الائتمان. هذا بدوره أدى الى أزمة في الاقتصاد الحقيقي في الولايات المتحدة وأوروبا كما رأينا سابقاً.
لقد كان دافع الربح المحرك الأساس لهذه الديناميكية التسلسلية بدءاً من أسواق العقارات مروراً بالأسواق المالية حتى وصولها الى الاقتصاد الحقيقي. فمع ازدياد أهمية الرأسمال المالي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي منذ أواسط الثمانينيات وحتى الآن، أصبح تحقيق الأرباح في هذا المجال حيوياً بالنسبة للرأسمال العالمي. بالتالي فإن دافع الربح ومستلزماته تتحكمان في ديناميكيته. ريتشارد بوكستابر، أحد كبار المحللين الماليين الذي اعتلى مناصب مهمة في كبرى الشركات المالية الأميركية مثل مورغان ستانلي وسالومون براذرز وكان عمله أساسياً في تصميم المشتقات المالية، يقول في كتابه حول الأزمة بعنوان "الشيطان الذي صممّناه" "إن كارل ماركس رأى إن النظام الرأسمالي بحاجة دائمة الى أسواق تتوسع باستمرار وذلك من أجل المحافظة على الأرباح. حتى تنجح الرأسمالية عليها أن تتقدم الى الأمام بواسطة استحداث منتجات جديدة أو فتح أسواق جديدة في المستعمرات المتخلفة. إن الابداع يخلق منتَج يتقدم في السوق على ما عداه، أما التوسع الخارجي فهو يدفع بالمنتجات الحالية الى أسواق جديدة. إن هذه النظرية الماركسية تتطابق فعلياً ومجازياً مع الميل للابداع في المنتجات المالية... إن الابداع المالي أدى الى "إستغلال" الأقسام المتخلفة بالمفهوم الماركسي في المؤسسات المالية من قبل الأقسام التي استعملت النماذج المتطورة للمشتقات المالية. إن كل ابداع أدى الى زيادة في درجة التعقيد في السوق للسبب البسيط: أن "التعقيد" هو الذي كان يُباع والذي كان يحقق أكثر الأرباح".

دور الدولة والسياسات الكينزية في النظام الرأسمالي:
بينت الأزمة الأخيرة لأكثرية الاقتصاديين والحكومات وحتى المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي إن الدولة كانت العامل الحاسم، عبر تدخلها المثلث الأضلاع، في منع الانهيار الكبير والسقوط الحر للاقتصادات الرأسمالية المتقدمة. فقد سارع الكثيرون، والعديد منهم كان حتى تلك اللحظات الحاسمة في خريف عام 2008 يعتقد بأن الأسواق هي المُثلى وإن الدولة يجب أن تكف يدها عن الاقتصاد، الى تبني سياسات كينزية بل أكثر من كينزية. لقد كان التدخل المثلث الأضلاع يتركز أولاً على سياسة مالية توسعية على الطريقة الكينزية. ثانياً، اتباع سياسات نقدية توسعية عُرفت بالتيسير الكمي، بعد سنوات من السياسات النقدية الانكماشية. وثالثاً، شراء الأصول الهالكة والتأميم الكلي والجزئي للمؤسسات المالية وحتى الصناعية مثل "جنرال موتورز" في الولايات المتحدة. وفي مؤشر عن تلك السياسات فقد ارتفعت موجودات الاحتياطي الفدرالي الأميركي من حوالي أقل من تريليون دولار في خريف عام 2008 الى حوالي 3 تريليون دولار حالياً.

في هذا الإطار قام الاقتصاديان آلان بلايندر (وهو نائب حاكم الاحتياطي الفدرالي الأميركي سابقاً) و مارك زاندي (كبير اقتصاديي مؤسسة موديز للتحليل) بمحاكاة قياسية لتأثير السياسات التوسعية المالية والنقدية في الولايات المتحدة نشرت في منتصف عام 2010، حيث تبين أهمية هذه السياسات في تجنب كساد عظيم آخر. ففي شكل محدد أكثر كان الناتج المحلي في الولايات المتحدة سينخفض بمقدار 7.4% في عام 2009 من دون هذه السياسات في مقابل انخفاض بلغ 2.4%. وكان هذا المعدل السلبي سيستمر في عام 2010 بحيث يسجل الاقتصاد انكماشاً بمقدار 3.7%. وفي معدلات البطالة بيّن النموذج أن المعدل كان سيبلغ 15.2%، 16.3%، و 15.0% على التوالي في أعوام 2010, 2011 و2012.
على الرغم من أن هذه الأرقام المقارنة تؤشر لنجاح باهر لسياسات الدولة إلا أنه على الأرجح أن هذا النجاح هو أكبر بكثير. إذ أن النموذج القياسي لـ "موديز للتحليل"، هو نموذج توازني ولا يأخذ بعين الاعتبار أمرين حاسمين كان لو حصلا لشهدنا معدلات تقلص أكبر بكثير في الناتج المحلي ومعدلات بطالة أكبر وكان تدخّل الدولة حاسماً في عدم حصولهما. الأول، هو انكماش الأسعار أي أن تُسجل معدلات تضخم سلبية كما حصل خلال الكساد العظيم وهذه الظاهرة هي أخطر ما يمكن أن يواجهه الاقتصاد الرأسمالي إذ تؤدي الى انخفاض متسارع في الطلب الكلي من استهلاك واستثمار من الصعب ايقافه. يقول لورانس كلاين الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد حول ديناميكية انكماش الأسعار "إن هذه الديناميكية يجب ايقافها... (أو) إن سبيل ايقافها يكون بالإطاحة بالنظام الرأسمالي". في معرض نقاشه للثورة الكينزية في كتابه الصادر عام 1947. أما الأمر الثاني، فهو تأثير الانهيار المتسارع للمصارف والنظام المصرفي والمالي برمته على معدلات تقلص الناتج المحلي والبطالة والذي كان سيكون كارثياً لولا تدخل الدولة في انقاذ هذه الأنظمة.
على الرغم من النجاح الباهر للسياسات الكينزية في انقاذ النظام الرأسمالي إلا أن أكثر الدول بدأت بالتخلي عن هذه السياسات الآن وعادت أعزوفة التقشف المالي الى الواجهة السياسية في الولايات المتحدة بشكل جزئي مع المعركة التي خيضت ضد أوباما حول سقوف الدين العام في منتصف عام 2011. أما في أوروبا فإن الاتفاق المالي الذي وقع في 2 آذار 2012 يضع قيوداً حازمة على عجز الخزينة والدين العام مما يتناقض مع الحاجة الى المرونة طبقاً لحاجات السياسة الكينزية. وفي هذا الإطار تأخذ هذه السياسات التقشفية وجهها الأبشع في السياسات المفروضة على اليونان كما ذكر سابقاً.
إن هذا التخلي السريع عن الكينزية يعيد طرح السؤال الأساسي حول مدى كونية و"لا زمنية" الحل الكينزي للأزمات الرأسمالية. فهذا الحل يصطدم بكون الاقتصاد الرأسمالي اقتصاداً طبقياً، للربح ولمعدلاته دور أساسي في نظم عمله. فعندما تتوافق الكينزية مع هذه المُحددّات كما حصل في الفترة الواقعة بين 1945 وبداية السبعينيات حيث أدى تدخل الدولة عبر السياسات المالية والنقدية الى تثبيت الطلب الكلي مترافقاً مع علاقة ايجابية بين الأجور والأرباح، فإن الرأسمالية تستوعبها بل تصبح جزءاً أساسياً من إطارها التنظيمي. لكن في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات أدى الانفصال بين معدل نمو الأجور ومعدلات نمو الإنتاجية الى تراجع حصة الأرباح في الاقتصادات المتقدمة وأطلق موجة من التضخم هددّت مصادر الربح الريعية فباتت السياسات الكينزية متعارضة مع الرأسمالية وتم التخلي عنها.
في الأزمة الحالية ضاقت هذه "النافذة الزمنية" لتماهي الكينزية مع الرأسمالية لسببين أساسيين: أولاً، أدت هذه السياسات الى نمو سريع للدين العام بدءاً من حالة دين مرتفعة أصلاً في ظلّ تحكم للأسواق المالية في تحديد الفوائد والمخاطر دفاعاً عن المصالح الرأسمالية الريعية، وبلغت قدرة هذه الأسواق الى حد الإطاحة بحكومات اليونان وإيطاليا. ثانياً، إن السياسات الكينزية لا تنجح إلا من خلال تنسيق عالمي على اتباع هذه السياسات، فلا "كينزية في بلد واحد"، كما تعلمت فرنسا هذا الدرس القاسي في بداية عهد فرانسوا ميتران حيث أدى اتباعها لهذه السياسات في ظلّ تراجع عالمي عنها الى أزمة مدفوعات اضطرتها الى الدخول في ركب النيوليبرالية آنذاك، وهذا التوافق لا يزال مفقوداً.

تشأوم شومبيتر
إن الرأسمالية العالمية قد استطاعت تجاوز أكبر تحدي لبقائها منذ فترة "الكساد العظيم" في 1929 – 1933. لكن الأزمة قد تركت آثاراً عميقة تؤشر لدخول الرأسمالية في أزمة بنيوية طويلة الأمد يشوبها عدم الاستقرار واحتمال تجدد الأزمة، خصوصاً إن أسبابها الكامنة في الأسواق المالية لم يتم معالجتها بشكل جذري. إن عدم الاستقرار يزداد بسبب التدخل الكينزي المفرط هذه المرة إذ أن الدول ترزح تحت دين كبير ومحافظ المصارف المركزية ترزح تحت انتفاخ نقدي لها. وهذا يطرح السؤال: إذا عاودت الأسواق المالية الكرّة قريباً، من منَ الدول سيستطيع أن يتدخل بالشكل المطلوب لمنع الانهيار؟ فهي إن تدخلت ستطلق عجلة التضخم وتقضي على الرأسمال الريعي والأسواق المالية، وبالتالي على هذا الشكل من الرأسمالية، وإن لم تتدخل فإنها ستواجه كساداً عظيماً جديداً. هذا المشهد يُذّكر بالجواب التشاوءمي للاقتصادي جوزيف شومبيتر وهو من محبذي الرأسمالية على السؤال الذي طرحه "هل ستستمر الرأسمالية؟" في كتابه "الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية" عندما قال "كلا، لا اظن انها ستستطيع". هذا الرهان سيشكل الدافع الاساسي لمشروع اشتراكي لزمن رأسمالية ألوفرة والأزمات.



#غسان_ديبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- إصلاحُ الوزير ميراوي البيداغوجيّ تعميقٌ لأزمة الجامعة المغرب ...
- الإصلاح البيداغوجي الجامعي: نظرة تعريفية وتشخيصية للهندسة ال ...
- موسكو تطالب برلين بالاعتراف رسميا بحصار لينينغراد باعتباره ف ...
- تكية -خاصكي سلطان-.. ملاذ الفقراء والوافدين للاقصى منذ قرون ...
- المشهد الثقافي الفلسطيني في أراضي الـ 48.. (1948ـــ 1966)
- ناليدي باندور.. وريثة مانديلا وذراعه لرفع الظلم عن غزة
- ناليدي باندور.. وريثة مانديلا وذراعه لرفع الظلم عن غزة
- الجيش الإسرائيلي يعلن تنفيذ عملية بمجمع الشفاء الطبي في غزة ...
- الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع تدعو إلى تخليد ...
- النهج الديمقراطي العمالي بوجدة يعبر عن رفضه المطلق للأحكام ا ...


المزيد.....

- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي
- بصدد الفهم الماركسي للدين / مالك ابوعليا
- دفاعا عن بوب أفاكيان و الشيوعيّين الثوريّين / شادي الشماوي
- الولايات المتّحدة تستخدم الفيتو ضد قرار الأمم المتّحدة المطا ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - غسان ديبة - ما بعد الحطام: الآثار العميقة لأزمة الرأسمالية