أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فؤاد قنديل - حَدثني عن البنات















المزيد.....

حَدثني عن البنات


فؤاد قنديل

الحوار المتمدن-العدد: 4213 - 2013 / 9 / 12 - 20:32
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة



أرجأت سؤالي ، ومضيت أتأمله وهو يسوي شاربه الفضي المتهدل بيمناه ، بينما كانت يسراه تدفس كنكة القهوة في جمر الموقد. حيث كانت النار التي شاخت تمضغ القوالح بتلذذ .. قلت لجدي الذي أوشك على التسعين ، وأنا أستشعر دفء الجلوس إليه :
- حدثني عن البنات يا جدي
توقعت أن تتغير فجأة ملامحه . لكن ابتسامة رقيقة أخذت تتسلل في هدوء شديد وثقة إلى وجهه المتغضن ، ولم يمنع الجلد المكرمش نور البسمة أن يشرق على وجهه كما أشرق في أبهاء روحي.. أدركت أن البسمة الوديعة والتمهل يعنيان استدراج الذكريات والغوص بعيدا في الماضي.. قال وهو يتنهد :
- رياحين خلقن لنا
- هذا كلام الشعراء
قلب البن والسكر بملعقة عمرها يفوق عمره . سبق أن حدثتني عنها جدتي . قال :
- زين للناس حب الشهوات من النساء
- هذا كلام القرآن ..أريد كلامك
تذكرت جدتي التي رحلت منذ سنوات .. رحلت عام سقوطه من فوق الفرسة ..أذكر أنه تشاءم جدا يوم سقط ، وقال :
- هذه إشارة
هل تراه الآن يري وجهها الطيب البشوش وملامحها المنمنمة الباسمة ؟ .. هل لها نصيب في هذه الذكريات ؟.. انشغل بتجميع هشيم القوالح الحمراء الشفيفة حول كنكة القهوة التي تتأهب للغليان.. تنهد وعادت يمناه إلى شاربه كأن ثمة علاقة بين سيرة البنات وشاربه .. لعلها علاقة البنات والشباب ، ولعلها .. ولعلها .. قال :
- الله يرحمها
- جدتي ؟
- ليس في البلد غيرها
رفع رأسه وأطلق نظراته عبر النافذة التي رسمت مربعا من الضوء الأبيض وكشفت سور النخيل البعيد .. زر عينيه كمن يحاول التحديق .. كان أحد فروع التوتة يتراقص من معاكسات نسيم حيي .. كنا معا منذ ساعة نجلس تحت التوتة العامرة بالثمر ..أسقطت الريح الوديعة فوقنا ثلاث حبات من شجرة التوت . التقط جدي الحبتين اللتين سقطتا على الحرام الصوف المخطط وقدمهما إلى .. قبل أن أطبق عليهما أسناني كانا قد ذابا وتقطرت حلاوتهما في حلقي ..
مد جدي كفه المعروقة بالفنجان الأبيض المخطط رأسيا بالأزرق وتتقوس للخارج حافته لتيسر للشفاه استقبال القهوة. بلغت روحي أنفاس الزمان الذي يخرج من كل خلايا جدي ومن كل ما حوله حتى الرياح والتوتة والحرام والتنهيدة وطعم البن وحلاوة التوت والذكريات المعتقة ..الزمن يتنفس بيقين ومحبة ، ويمسح على أجسادنا وأرواحنا بحنان .ثمة ظلال كثيرة تتمدد بأعماقي تبسطها أمامي عيون جدي الرمادية .
قلت له :
- أريد أن أتزوج
قال ومازال في شروده:
- على بركة الله
لم أجد داعيا كي أحكي له عن البنت التي أميل إليها .. سألته :
- كيف أختار ؟
تمهل قليلا ، ثم قال بعد أن عاد إلىّ بكامل وعيه :
- لا تجهد نفسك في الاختيار .. سيحدث كل شيء وحده
- وما دوري ؟
- وزع الله المزايا والعيوب على العباد بالعدل
لحظة صمت ، ثم استطرد :
- ولا أحد كامل
- يا جدي
- فقط تجنب منبت السوء
بدا عاطفيا على غير ما عرفته .. أحس أنه تغير .. بدأ التغيير منذ سنوات ، ربما منذ سقوطه عن الفرسة التي أحبها جدا وأحبته ..كانت تعرف مواعيد خروجه من الدار فتتأهب ، وتنقر الأرض إذا تأخر. وكم انتظرت لمسة يديه على ظهرها ووضع جبهته على جبهتها .
صب لي من جديد في الفنجان البيشة أبيض القلب.. صعدت الرائحة المميزة إلى أنفي ، ومضت حثيثا إلى رأسي. ظل شاردا يحدق في جمر النار وعلى وجهه آثار ابتسامة .. نبض الذكريات يدغدغ روحه المحلقة .. أنا معه مغمور بالدفء والطمأنينة .. تشملنا عذوبة الصمت الجميل .
بعد قليل جاء أبي . قبل يدي جدي، وجلس إلى جواره . عاد يقبل يده ورأسه . مد له جدي فنجان القهوة .. قال أبي وهو يكاد يحتضن الفنجان ويتهلل له وجهه :
- من يد ما نعدمها
أبي يرفض زواجي من فتاتي .. برقت في رأسي فكرة الاستعانة بجدي .. أخذت وقتا طويلا حتى أقرر مصارحة جدي ..أخيرا استجمعت بأسي وعزيمتي :
- يا جدي ..أبي يرفض زواجي ممن أحب
رمقني أبي مندهشا .. سألني بعينيه المفتوحتين إلى أقصاهما عن سبب إشراك جدي في الموضوع .. قال جدي وهو يعيد الكنكة إلى النار :
- زوجه يا محمود ممن يحب
حار أبي وتنهد ، ثم قال :
- يا أبي ..إن
- زوجه يا ولد
ظهرت حيرة أبي في أصابعه المتوترة ، ثم نطق على مضض
- حاضر يا أبي
لقد طرقت على الحديد وهو ساخن .. كانت فكرة جيدة إذ استعنت بالجد الرائع الذي لا ترد له كلمة ..انحنيت بسرعة على يد جدي فقبلتها .. عاد يعبث بشاربه المتهدل ، بينما أبي يتململ .
سأل جدي بعد أن أعاد الطاقية الوبر إلى الوراء، وحرث بأظفاره الطرية رأسه الجرداء
- لماذا لا توافق يا محمود ؟
حاول أبي أن يرتشف القهوة ، لكن الفنجان اهتز وتساقطت على صدره بعض القطرات .. وجه إلىّ نظرات عاتبة . ربما أكثر من ذلك .. تعجله جدي ليرد .. ألقى أبي عبارته القاسية بسرعة :
- والدها شرّيب ومنفلت اللسان
خفق قلبي ..أدركت على الفور أني سأفقد الموافقة الملكية .. لقد وجه أبي لي ضربة قاصمة . . تحول جدي إلى النافذة كأنه يسأل السماء الصافية عما يجري . . حطت عتمة مفاجئة علي ملامحه .. بدا بالضبط كما كان منذ قليل عندما كنا على المصطبة أمام الدار، وظهر الحمار القادم من الحارة المجاورة وقد أزعج جدي أن الشاب الراكب لم ينزل عندما مر بنا واكتفي بالسلام . كاد يبصق .
نكست رأسي .. سحب ورقة " بفرة "من علبته النحاسية الصدئة ذات القلب الأصفر البراق .. حشى الورقة بالتبغ وحاول أبي أن يشعلها له فرفض .. كان أبي قد أشعل الموقف ..
أخذ جدي نفسا وعاد ينظر عبر النافذة .. لمح غصنا من الشجرة يهتز تحت جسدي عصفورين يختطفان القبلات ويطيران في دورات قصيرة نزقة .. تطلع إليّ وقد بدا أنه لا يجد الكلام ، وأنه شاخ قليلا عما كان .. أحسست بغصة في حلقي ، وبأني على وشك البكاء فقد أكون قد تسببت في أساه .. أحب جدي جدا ويحبني . ترقرق الدمع في عيني .. عندئذ قال جدي:
- زوجه يا محمود ممن يحب
نط قلبي بين ضلوعي ورقص. أعادني إلى الحياة بينما اختطف أبي فنجان القهوة فتجرعه دفعة واحدة كأنها الدواء المر ، وانحنى على يد جدي فقبلها ، كان وجهه محتقنا . يود لو انشقت الأرض وابتلعته . أشفقت عليه .. حاولت الكلام ، لكنه أسرع بالخروج.
شملت القاعة سكينة قلقة وحائرة .. تسببت في مشكلة حتى تلبد الجو .. حاولت إقناع نفسي بأن أمورا كثيرة تمضي على هواها مهما حرصنا على التحكم فيها .. ما انتهينا إليه لم نبدأه
.. أم ترانا عندما اختلطت الخيوط نتملص من المسئولية .
أخرجنا من الصمت المختنق صهيل حصان .. تسلل الابتسام من جديد إلى وجه جدي ،ما أجمله عندما يبتسم !.. تحول إلى النافذة .. كان الصهيل لفرسته التي أصر عمي على امتلاكها بعد أن أسقطت جدي قبل عشر سنوات في حادث أليم لا ينساه أحد من أهل البلد .
يومها كان متعجلا لحضور جنازة أحد أصدقائه القدامى في القرية المجاورة .
مضي يدعوها للإسراع، وكانت كعادتها تستجيب دون أن ينبهها لذلك، إلى أن التقت فرسها الأثير .. توقفت تبادله النظرات الحالمة وتتلقي منه الوعود الناعمة .. لكزها جدي عدة مرات لتنطلق .. أحس بجسدها يتوتر ، لكنه كان مشغولا بالجنازة التي أوشكت على الخروج .. لكزها عدة لكزات أشد مما تعودت منه ..فجأة ارتفعت بمقدمتيها عاليا وألقته على الأرض .
تحطمت عظام الرجل ذي الثمانين .. احتوته غيبوبة . بعدها لم يستطع النهوض وقد شمله الذهول .. لم يقدر على تصور الحالة التي أصابت فرسته بالجنون .. كان على الأرض يأكله الألم ولا يكاد يحس بعظامه .. بالكاد تنفس وبالكاد فتح عيني لحظة ربع فتحة ..لمحها تضرب ساقها الخلفية اليسري في اتجاه صديقها الفرس، بما يعني :
- امش الآن .. لقد تسببت في مشكلة
انحنت علي جدي تلعقه وتعتذر ، وما لبثت وهي تراه على هذا الوضع المتردي أن فاضت عيناها بدمعتين ساخنتين سقطتا على وجهه. . حاولت أن تساعده على النهوض فما استطاعت .. جاء المارة فأعانوه على الركوب .. توجهت في هدوء وحرص إلى الطريق نحو القرية المجاورة ، لكنه أشار لها أن تعود .. أدرك جدي أن قدميه لن تحمله لعدة أيام إذا أراد الله له عمرا .. سمع همس القدر.. غلبه التشاؤم وما لبثت جدتي أن رحلت .
طلب عمي أن يأخذ الفرسة الحزينة وقد تعذرعليه أن يلمسها لعدة أشهر ، فصبر عليها حتى لانت . كان عمي برهام قد حاول منع عمي من الاستحواذ على الفرسة حتى لا يحزن جدي.. قال عمي لكل أفراد العائلة :
- أنا غير طامع في الفرسة ولكني خشيت أن نفقدها لأن الوالد عزم على أن يبيعها لمعاطي صاحب الفرس الذي تحبه فرستنا ، فذهبت إلى معاطي وطلبت منه أن يبيعنا فرسه، فرفض.. ولم يكن من سبيل إلا إبعادها عن جدي إشفاقا عليه وعليها .

لقد أصبحت مع الأيام على يقين بأن الفرسة غيرت من طباع جدي كما فعلت به جدتي، لابد أنهما سربا إلى روحه قدرا كبيرا من الرقة بعد أن كان خشنا وعصبيا وجبارا في بعض الأحيان .. لا أظنه العمر ما فعل هذا .



#فؤاد_قنديل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتابة من الوضع راقدا
- نزهة في حدائق الألم
- خطأ السيسي الفادح
- مصر في قبضة الشياطين
- جمهورية -رابعة -
- لا تصالح
- العلاقات الشائكة بين أمريكا والعرب ( 2 )
- العلاقات الشائكة بين أمريكا والعرب (1)
- خذوا مرسي وهاتوا أردوغان
- زيارة لسجن طرة
- هل قامت في مصر ثورة؟
- صندوق الحرية الأسود
- هُوية مصر ليست إسلامية فقط
- تعود سيناء أو يذهب مرسي
- مرسي المالك الوحيد لقناة السويس
- محاكمة النظام أو المواجهة
- التحرك الحاسم ولو بالقوة العسكرية
- جرح مفتوح
- ابحثوا معنا عن .. الرئيس
- لماذا قبلت ؟


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فؤاد قنديل - حَدثني عن البنات