جوان خليل عكاش
الحوار المتمدن-العدد: 4160 - 2013 / 7 / 21 - 04:45
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
وجد غابرييل جارسيا ماركيز نَسَبَه بين خُضارِ أيارَ المهتاج, وبحرِ الريفِ الغاليسي الخصيب بأمطاره ورياحه الدائمة, حيث العالم أسطوريٌ بمُمكناتٍ غيرِ محدودة, ما هو غير منطقي شقيقٌ للواقع الفظ. فالموتى يسيرون بين العجائز ليبادلوهم الحديث المطري عن شمسٍ لا تشرقُ إلا للاعتذار الخجول, قد تغادر النكهات المشكك بها للحوم المُدخنة بخجلٍ طفولة غابرييلو لكنها مناسبة لحديثٍ بعيدٍ عن المنطقِ في علاقةِ النسبِ العائلي بالخبل الذي تُتهَم به جدةٌ غاليسية.
التقيت لآخر مرة بـ (ش.م.س.ر) في يومه الأخير في اليونان في ساحة الحرية في العاصمة أثينا, هذه الساحة تم تخصيصها لتغذية وهم الحرية في عماء الحركاتِ اليسارية في اليونان, فربما يكون الشباب اليساري قد نجح في فرض منع دخول الشرطة وقوات الأمن إلى محيط هذه المنطقة ( إكسارخي ) عبر سلسلة طويلة من الدفاع عن حق أن أكون يسارياً, إلا أنها أصبحت صورة عن الشباب الذي أفقدته النكسات الاقتصادية والهزيمة الداخلية كل معاني الثورية والحرية.
رائحة الحشيش الحارة كانت خانقة في هذه الساحة المفتوحة, وبالكاد كنت أستطيع التركيز في موضوع المقابلة وسط حالة التحشيش السلبي, (ش.م.س.ر) سيعود غداً إلى إقليمه في اسبانيا, وسط التسيس العميق للمحاكمة الجارية في اسبانيا, فالقضية التي ستحدد مستقبل الصراع السياسي والعسكري في غاليسيا, تتناول 4 شباب متهمين بالانتماء إلى حركات راديكالية, فالسلطات الاسبانية وفق (ش.م.س.ر) تحاول اثبات التورط (الإرهابي) للحركات الغاليسية, واستعمال نتائج المحاكمة كذريعة لوضع كافة الحركات الغاليسية على قائمة الارهاب الداخلية والخارجية, وتصفية النضال الغاليسي.
سيعود (ش.م.س.ر) إلى إقليمه المحكوم من اليمين ليتابع نضاله السياسي مهما كانت نتائج المحاكمة, ويقول بهذا الصدد : حتى لو تم وصفنا بالإرهابيين سأستمر في الدفاع عن حقوق الغاليسين القومية, فنحن أساساً نناضل بشكل متداخل بين النضال السري والعلني, وإذا تم منعنا من النشاط العلني و اصبحنا مطاردين لن أغادر اسبانيا وأفر خارج الإقليم أو اسبانيا سأبقى هناك وأتابع نشاطي.
للعزلة مكان في الجسد الأوربي:
2-6-2009 نشرت الجريدة النصف شهرية دياغونال (مائل) : تأسس نظام السجون (FIES) عام 1991, وهذا الأمر تم خارج الأطر القانونية ولم يمر عبر البرلمان, وقد نتج عنه حركة احتجاج داخل السجون من قبل السجناء السياسيين من حركة إيتا الكاتالونية عبر اضرابات الطعام,.
ووفق دياغونال يتيح ها الطراز من السجون احتجاز المتهمين بالانتماء إلى منظمات تصفها الحكومة الإسبانية بالإرهابية في أماكن بعيدة عن أقاليمهم, وحسب قانون مكافحة الإرهاب يسمح باحتجاز المتهمين دون محاكمة لفترات طويلة تصل إلى 18 شهراً, ووفق الاجراءات الاستثنائية يتم وضع المتهمين سجون الحراسة المشددة, حيث يحرومون من وسائل الاتصال, والرسائل تغفو في أدراج الشرطة التي تقوم بفحصها والتدقيق في محتواها, وتتعمد السلطات تأخير إرسالها وذلك في محاولةٍ منها لتأخير تبادل المعلومات وكنوع من الرقابة على تدفق المعلومات لوسائل الإعلام.
ورغم أن هذا النظام لا يسمح باحتجاز الغير محكومين في هذا الطراز من السجون, لكن المخابرات والشرطة الاسبانية تحتجزهم في هذه السجون, كون هذا النظام يهدف في أساسه إلى عزل السجناء عن بعضهم, حيث يمكنهم الخروج بشكل مجموعات منفصلة إلى الساحة للتشمس, وذلك لمدة ساعةٍ واحدة بدون احتكاك مع سجناء يملكون نفس الولاء التنظيمي, ويمنحون كتابين فقط, ولا يمكن لهم الاحتفاظ بصور عائلاتهم وأصدقائهم و أية ثياب شخصية, هذا الأمر يستدعي ذكريات فروع المخابرات السورية التي كما كانت تخصص لمحة بصرٍ للزيارة العائلية للسجين السياسي, وتكرمت بتوجيهات بشار (حافظ الثاني) بالسماح برمشة بصر لتأمل صورة عائلية تُحْتَجَزُ في الأمانات.
العديد من الحقوقيين والمنظمات الحقوقية الدولية طعنوا في شرعية نظام السجون الخاصة أمام المحكمة العليا, ونجحوا في الحصول على حكمٍ بعدم شرعية هذا النظام, لكن النظام الاسباني في وزارة الداخلية استمر في العمل وفق هذا النظام تحت مسمياتٍ أخرى.
حسب التقرير السنوي 2013 الصادر عن هيومن رايتس ووتش ،فقد وجدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن إسبانيا انتهكت التزاماتها الخاصة بمناهضة التعذيب. وفي حكم ٍمنفصل وجدت المحكمة انتهاكاً في إطالة مدد عقوبة السجن، والحد من حالات الإفراج المشروط بالنسبة للأشخاص المدانين بجرائم الإرهاب، وانتهاك معايير المحاكمة العادلة ورغم عدم انتهاء القضية الأخيرة إلا أن مثل هذه التقارير تجعل أي انسان يفكر بتردد في زيارة تركة الامبراطور فرانكو.
ماراثون الإضراب عن الطعام
(ش.م.س.ر) تحدث بشكل موسع عن الانتهاكات التي يتعرض لها الانفصاليون المتهمون بالإرهاب, وبخاصة من حركة ايتا الكتالونية, فالقصص التي تتناول محاولات الانتحار التي أقدم عليها العديد من السجناء ربما تكون دافعاً قوياً لتصديق الروايات التي تتحدث عن حالات اغتصاب واستخدام الصعق الكهربائي والحقن بأدوية نفسية لترك السجناء مشلولي الإرادة،
المثال الذي ذكره الاستقلالي الغاليسي هو الباسكي إينياكي خوان شاووس والذي سجن لـ 25 عاماً بسبب قتله لـ 25 شخصاً في عمليات متفرقة وقد تم حرمانه من حق إطلاق السراح المشروط بسبب مقالتين قام بنشرهما, هاتان المقالتان اعتبرتا من قبل السلطات الإسبانية تحريضاً على الإرهاب وكانت سبباً في تجديد محاكمته والحكم عليه بـ 12 سنة إضافية, السجين المخضرم خاض ماراثوناً في الإضراب عن الطعام لـ 63 يوماً وقاوم قرار المحكمة القاضي بإرغامه على التغذية, أفضى الإضراب في النهاية إلى إطلاق سراحه عام 2008 ضمن برنامج إطلاق السراح المشروط, الرجل توجه إلى إيرلندا ولم يسمع عنه أحدٌ بعد ذلك سوى إشاعات متفرقة.
القضية سياسيةُ التوظيف أم أنه إدمان المؤامرة
يتوقف (ش.م.س.ر) بشكلٍ مشوش حول قضية صديقه الذي اعتقل في كمينٍ نصبَ قرب ما يفترض أنه مخزن أسلحة للمقاتلين الغاليسيين, وحسب روايته أن صديقه اعتقل بعد ترجله من حافلة نقل الركاب وعلى الطرق المؤدي على قريته وقد تم تحطيم الشاب حتى الصباح في مكان اعتقاله, ومنذ كانون الثاني 2013 لازال الشاب محتجزاً بانتظار جمع الأدلة (حجة قانون مكافحة الارهاب), ولم يفض تفتيش الشقة والكومبيوتر عن أية أدلة على تورطه في أية عمليات قتالية.
يتابع (ش.م.س.ر) كلامه: مجرد كونك ناشطاً سياسياً تدعو لاستقلال غاليسيا يضعك في خانة اليك, وستحاول الشرطة حتماً تركيب قضية حولك. صديقه اتهم سابقاً في 2005 بالإعتداء على الممتلكات العامة وحرق العلم الاسباني ومهاجمة الشرطة وإهانة الملك والملكة, ولا أخفي القارئ سراً أن التهمة الأخيرة استفزتني كثيراً.
حسب تصاريح الشرطة فإن أدريام موسكيرا اتُهِمَ بحيازة ثلاثة قنابل محلية الصنع, وادعت الشرطة أن المواد المستخدمة في تصنيع هذه القنابل, هي من نفس النوع الذي استخدمته المنظمة سابقاً في هجمات أخرى, ولكن مثل هذه المعلومات المسربة أو التصريحات ليست موثوقة لأن العديد من هذه التصريحات ليست دقيقة أو مسيّسة.
محامي الشاب المعتقل ينطلق في دفاعه من كون الأدلة التي قدمتها الشرطة لم تستعمل بعد في أية عملية, ولا توجد أدلة على أن موكله قد تورط في أعمال ارهابية, ورغم اشارات غير واضحة إلى تورط الشاب في مجموعة مسلحة لكن مسار المحاكمة ليس منفصلاً بين السياسي والقضائي.
اصطلاح المقاومة بين السياسي والمسلح
مقاومة غاليسيا كما يُعرفها (ش.م.س.ر) هي اصطلاح وليست حركةً واحدة, ويمكن اعتبارها المصطلح الذي يعبر عن مظلة افتراضية لمجموع المنظمات الغاليسية التي تدعو لحق سكان الإقليم في الاستقلال, ورغم أن التفاوت واضح ٌبين المنظمات من حيث مطالبتها بحق تقرير المصير والاستقلال أو الإكتفاء بأشكال موسعة من الإدارة الذاتية, والحقوق الثقافية الشاملة.
فبعد السقوط الرمزي للدكتاتور سيء السمعة فرانكو, بدأت الشعوب الاسبانية بالبحث عن مُتَنَفس لها في ما افترض أنه ديمقراطية ناشئة, وكان الباسكيون و الكتالونيون السباقين في هذه النزعة الاستقلالية المنظمة, وربما يكون امتعاض (ش.م.س.ر) من احتكار إيتا والباسكيين للاهتمام الإعلامي والدولي جزءاً من حقيقة كون هاتين الكتلتين هما صاحبتي التاريخ الأقدم في النزعة الاستقلالية, وبالتالي العدد الأكبر من السجناء السياسيين. رغم تخلي حركة إيتا عن العمل المسلح 20 في تشرين الأول 2011 لازالت القوى السياسية في اسبانيا عاجزة عن تجاوز الماضي وتحتجز الآلاف من كوادر تلك الحركة في السجون.
رغم أن سقوط فرانكو قديم إلا أن التخلي الحقيقي عن الدكتاتورية تم عام 1978, ووفق النظام الجديد تم تقسيم اسبانيا إلى 17 منطقة إدارية بصلاحيات الحكم الذاتي, وظهرت العديد من المنظمات التي تنتمي قواعدها إلى الأقليات, وهكذا منذ السبعينيات تأسست تنظيمات معظمها ينتمي لليسار مثل منظمة (NOS-UP) التي تنتمي تعتبر نفسها منظمة لينينية-ماركسية أو (BNG – AGE) وهما منظمتان تتبنيان نهج الاشتراكية الديمقراطية وتنخرطان في العمل البرلماني, وهذا الأمر جعل هاتين الحركتين متهمتين من قِبَل المنظمات الأخرى بالإصلاحية لأنهم يطالبون باستقلالية أكبر للإقليم دون انفصال.
يعتبر (ش.م.س.ر) أن الجانب السياسي والعسكري في حركات الإقليم الاستقلالية لم يلتقيا من قبل, ولكن أوضاع السجون, والإنتهاكات التي ارتكبت بحق السجناء المنتمين لحركات الإقليم أدت إلى تلاقٍ أكبر في الأهداف, ونقلٍ أكثرَ تواتراً لقضايا الإقليم إلى المجلس التشريعي للإقليم.
ربما يكون انتصار الاستقلاليين في انتخابات الباسك وكاتالونيا هو الداعم الأكبر لشعبية الجناح السياسي في الصراع الدائر في غاليسيا, فالصراع الطويل يميل إلى الروتينية ولا يحقق غالباً -بسبب التكرار- الدافع الشغفي لدى الشباب للحاق بركب العصيان, فالراديكالية الداخلية لمطالب التغيير الجذري ورفض كل ما يتم خارج الانضمام الطوعي وأحاسيس الانجاز جذّابةٌ أكثر من الاقتصار على الراديكالية المسلحة والعمليات العسكرية الدعائية, فالنتائج الملموسة ستحرك الشباب للانخراط في الحركات السياسية والاجتماعية, لأن الاحساس بالإنجاز وارتباطه بمفهوم الأمل ضروريٌ لإبقاء العصيان متقداً.
المكنة الطاحنة للانهيار الاقتصادي
يعتبر (ش.م.س.ر) بأن تَشَكُل التنظيمات الغاليسية قد طور الحالة القومية للغاليسيين وتغيير مفهوم الانتماء, ورغم كون هذه التنظيمات قد وضعت ثقلها على موضوع اللغة الغاليسية إلا أن حالة الانحلال الثقافي والانصهار لا تزال مستمرة, فالاجيال السابقة بأغلبها كانت تتحدث اللغة الغاليسية, إلا أن الجيل الجديد بمعظمه انصهر في البوتقة الإسبانية وتعرضت لغتهم للصهر واللغة المحلية تم تشويهها, وعندما كتب (ش.م.س.ر) عن اضراب الطعام للاجئين الكرد في معسكر لافريو قرب أثينا, استعمل اللغة الغاليسية التي لم يتجاوب معها مترجم الغوغل سوى بعباراتٍ مبهمة.
يتابع (ش.م.س.ر) في هذا السياق: جدايّ استعملا لغةً أكثر نقاءً, ولكن لغتهما تكاد تندثر, لذا نحن نحاول بناء لغةٍ أكثر نقاءً, وذلك عبر المراكز التعليمية غير المرخصة التي تعمل في المناطق والقرى الغاليسية, اللغة التي كتبتُ بها مقالي عن إضراب الطعام في معسكر لافريو تُستعمل من قبل الحركات الغاليسية الأكثر راديكالية وهي نفسها اللغة القديمة, وهي أكثر قرباً للبرتغالية منها للإسبانية, ولكن غالبيتنا لا يفكرون في فرض لهجة محددة بل نريد ترك الحرية للناس في استعمال لغة محكية منتمية للحياة اليومية.
عملية حماية اللغة الأم التي تقوم بها الحركات الغاليسية, لا تخضع فقط للظروف الذاتية للحراك السياسي الاستقلالي أو القومي, فهجرة الشباب من غاليسيا وغيرها من الأقاليم الاسبانية تركت المجتمع عجوزاً غير قادر على الابداع والتطور, فالمطحنة الاقتصادية للأزمة الاسبانية قلبت كل آية التاريخ, فالآباء الذين هاجروا من افريقيا وأمريكا اللاتينية نحو اسبانيا, يخالفهم الأبناء ويعكسون الآية في الهجرة المعاكسة, هرباً من بلدٍ الأمل فيه شبه مفقود, والانتعاش والخروج من الأزمة الاقتصادية حلمٌ يائس للأحزاب في السلطة.
وربما تكون الصور والقصص التي حملها الجيل القادم من أمريكا اللاتينية عن الموت في المناجم وصراعات آلهة المافيا وآلام المعدة الخاوية للأناس العاديين والعيون المشرعة للموت, المذابح والتعذيب في السجون, والصراعات المسلحة, هي شبيهة القصص التي ستحملها الطالبة الاسبانية لاورا لأبنائها وهي تتأبط حقيبة سفرٍ مع شهادتها الجامعية, مع حقيقة امتزاج جذورها الأرجنتينية بالنشأة الإسبانية, لتعود إلى نفس المكان الذي خُطِفَ فيهِ والدها وعذّب ونُكلَ به, لتَقُصَّ عليهم روايةً جديدة عن أوربا: الثدي الرأسمالي الذي ترهل وفقد نداء الشهوة والأمومة.
#جوان_خليل_عكاش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
