سها السباعي
الحوار المتمدن-العدد: 4021 - 2013 / 3 / 4 - 22:01
المحور:
الادب والفن
"روح جبران خليل جبران ترفرف على هذا النص، فسلامًا لها، سلامًا"
سألت مُعلمي حين قرأتُ لمن يصف كُتابًا مثل أناتول فرانس ويوسف السباعي وغيرهم بالتقليدية، عن معنى التقليدية! فأخبرني أن الأدب ليس منبر خطابة، وليس محراب وعظ، ولا يعني هذا معاداته لما اصطلح عليه كثيرٌ من الناس أنه من الفضائل، ولكن الأديب لا يكون أديبًا إلا إذا أوصل لقارئه ما يريد أن يخبره به من تحت غطاءٍ ومن وراء حجاب .
وأضاف معلمي أن الأديب لا بد أن يكون واعياً لما يكتب، ملمًّا بالاقتصاد والسياسة والعلوم. لقد مضى عهد الحكايات، ولم يعد الأديب مجرد راوٍ يكتب الحكاية بأسلوب جميل وتشبيهات بلاغية وفقط.. الأديب الآن عالمٌ، وفيلسوف، وكاتبٌ ماهر، ممسكٌ بلغته التي يكتب بها من أطرافها ومدركٌ لأعماقها في آن ..
وسألته: ماذا إذاً عن القارئ؟ فقال: القارئ إما أن تقف ذاكرته عند عينيه فكأنه لم يقرأ شيئًا بمجرد أن يرفعهما عن النص، وإما أن تصل إلى عقله فيتذكر الذي قرأه إلى حين، وإما أن تتعمق إلى وجدانه فيستقر فيه ما قرأ حتى تفارق الروح الجسد. والقارئ الفطن مثل قصاص الأثر، يبحث بين الأسطر وفي زوايا الحروف، ويخرج من النص بأكثر مما أراد الكاتب أن يقول، فهو بارع في التأويل، مجتهد في الاكتشاف، وبهذا تتضاعف متعته، وتتراكم خبراته، ويثرى فكره. ولا يجب أن ينزعج كاتبٌ من اختلاف قارئه مع ما كتب، ولا أن يتضايق قارئٌ من أن كاتبه قد ابتعد عن خطٍّ يهواه، فكما تُظهر المرايا المختلفة الشكلَ الواحد بأبعادٍ متباينة، كذلك تتعدد وتتباين صور الحقيقة بين العقول المختلفة. ربما كان للنسبية دخل في الأمر، ربما كان لزاوية الرؤية تأثير على مدى الإدراك، لكن المُسَلَّم به أن المطلق لا يصل إليه أحد، وأنه لا يقدر الكثيرون على التجريد. فالصورة التي تعجبنا هي التي تعلق في الذهن، والتفسير الذي يريحنا هو الذي نغلق عليه جفوننا وننام. وكل هذا يرجع للطبيعة البشرية، التي كان الأصل فيها الاختلاف. فيجب أن يستخدم القارئ عقله وتتعدد في رأسه التفاسير، يجب أن يخرج من قراءته بفكرةٍ لم يكن يدركها ومعلومةٍ لم يكن يعرفها، وإلا فقد أضاع وقته فيما لا يفيد، واستهلك طاقته في ما هو معلوم من الحكي بالضرورة....
ومس طيف الغائب روحي فسألتُ مُعلمي: أيجتمع انفصالٌ واتصال؟
فقال: نعم؛ الانفصال قد يكون في المكان وفي الزمان، والبعد في المسافات لا يكون إلا بين الماديات. أما اتصال الأرواح وإن انفصلت الأجساد فلا يقطعه إنسان، وهكذا يجتمعان.
وسألته أيضًا: ماذا تقول في الغضب؟
قال مُعلمي: الغضب نارٌ تحرق النفس وتكويها، وتقتطع منها أجزاءً تنقص من قدرتها على التفاعل مع الحياة في كل مرة تشب فيها النار حتى تنطفئ. وحتى إن خمدت تلك النار، فإنها تترك في تلك النفس ندوبًا وتشوهاتٍ تظل مرئيةً واضحةً إلا إذا اختار الإنسان التعامي عنها. فكيف نلوم على الغاضب، الذي ألقى نفسه وسريرته الهانئة إلى ذلك الوحش المشتعل، فإنه لم يفعل إلا لأن ما دفعه كان جحيمًا أشد استعارًا وأعظم لهبًا.
وسألته: وماذا ترى في الحزن؟
قال مُعلمي: الحزن قاتلٌ متسلسل، يختار ضحاياه ممن تنطبق عليهم رهافة المشاعر ورقة القلب ، ممن لا يزال في وجدانهم مكانٌ فارغٌ لملاحظة ما يجري حولهم - وإن لم يمسهم - فيتأثروا له. فما بالك لو جرى لهم ؟ يكون قاضيًا عليهم ولكن ببطء. يتسلل إلى أرواحهم فيخمدها شيئًا فشيئًا حتى يتوقفوا عن الملاحظة وعن التأثر، فلا يحزنهم شيء بعد، وإن حاول شيء من الفرح أو الانشغال أن يلهيهم عما هم فيه من خمود الروح وانكسارها، فإنها رفرفةٌ ضعيفة، لا تحملهم إلى أي مكان، ولا ترفعهم عن مرقدهم إلا همسة، فيما ندعوه: حلاوة الروح!
ثم قلتُ له: حدثني عن الفرح؟
قال مُعلمي: أما الفرح فكائنٌ نادر، عزيزُ المنال، خفيفُ الزيارة. لكنه إن حَلَّ ضيفًا، وَدَدْتَ لو استبدلته بأحدٍ من أهل الدار! فلَمْسَتُهُ نعيم، وكلمتُه أغاريد الجنة، وبحضوره تتمنى لو توقف الزمن. ما يُقرضك إياه من ضحكاتٍ تَربو ذاتيًّا وتتعاظم، فإن ردََدت له ما أعطاك، لم يأخذ إلا أصلها، وترك لك فوائدها المُرَكَّبة في صورة بسمات، ترتسم على شفتيك كلما تذكرْتَها حتى آخر العمر!
وسألت مُعلمي: وماذا ترى في الفقْد؟
فقال:الفقد هو الزوال، زوال ما تعلقت به النفس، وبما أنها تعلقت أي أنها اتصلت بما تعلقت به وأصبح منها وأصبحت منه، فإن فقدَتْه فكأنما اقتطع منها ، فزال منها جزء، فأصبحت ناقصةً بعد اكتمال، وواهنةً بعد جلدٍ واحتمال، فصعب عليها استئناف ما اعتادت عليه وقد زال منها ما اتصلت به. فالحزن على المفقود في معظمه حزن الفاقد على ذاته بعده، والخوف من الفقد هو جزع الفاقد على كيفية مواصلة حياته بدون ما فقد. وأحيانًا يمحو الاعتياد ألم الافتقاد، وأحيانًا يكون الفقد كالبتر، فيظل الفاقد في حالة عدم اتزان كمن فقد ساقه، أو يعجز عن رؤية نصف الدنيا كمن فقد عينه، أو تنسحب منه الحياة كمن فقد بعضًا من روحه. ولا يتساوى عند الافتقاد كون المفقود إنسانٌ أو جماد، وتُقاس مصيبة الفقد بمدى قرب المقفود من الفاقد . ومهما يكن من أمر، فالذكرى سلوى المحزون، والنسيان طبيب المكلوم.
وانتهى إلى هنا حديثي مع مُعلمي، إلى حين.
#سها_السباعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟