أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - المولدي الأحمر - خصائص الانتقال الديمقراطي في تونس: راديكالية ناعمة قد تنتهي بالتوافق















المزيد.....



خصائص الانتقال الديمقراطي في تونس: راديكالية ناعمة قد تنتهي بالتوافق


المولدي الأحمر

الحوار المتمدن-العدد: 4012 - 2013 / 2 / 23 - 22:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدمة
في كل أنحاء العالم تقريبا يواكب المراقبون والمحللون صيرورة ما يسمى بالربيع العربي، تارة بالتدخل العسكري والدبلوماسي قصد التأثير المباشر فيه، وتارة بالحذر والاستعداد السياسيين، وتارة أخرى بالأسئلة والبحث والتنقيب. والعالم لا يقوم بذلك فقط بسبب ما تمثله المنطقة العربية من مصالح حيوية للجميع، إنما أيضا بسبب الفرادة الاجتماعية والثقافية والسياسية للربيع العربي المتمثلة في ثلاثة أشياء: الأول أنها تجري زمنيا خلال منعطف تارخي حاسم بالنسبة للبلدان الصناعية المتقدمة والأكثر تأثيرا في تاريخ الانسانية الحالي ، وهو المرور اقتصاديا وتقنيا إلى عصر ما بعد الصناعة وثقافيا إلى عصر ما بعد الحداثة. الثاني أنها تجري في مجتمعات تبدو فيها جميع المراحل التي عرفتها المجتمعات الحديثة غير مكتملة ومحتشدة في محطة واحدة: التصنيع والحداثة السياسية وإعادة بناء المرجعيات الثقافية بما يتوافق مع انتشار قيم الحرية الفردية. أما الثالث فهو أن الربيع العربي يجري في منطقة "سريعة الاشتعال" ثقافيا ونخبها مسكونة بحلم قديم-جديد موضوعه إنجاز وحدة حضارية جديدة في المنطقة تأسيسا على ماض عتيد حاضر في الوجدان باستمرار.
لكننا عندما ندقق من قريب في هذا المظهر العام الفريد للربيع العربي نكتشف أن هذه الفرادة تتضمن مستويات تفصيلية أخرى لا تقل أهمية ، ذلك أن تجارب بلدان الربيع العربي ليست نسخا متطابقة تتكرر هنا وهناك، فلكل تجربة خصائصها ومواصفاتها التي تستحق النظر والتحقيق، وسيكون من المهم البحث في تفاصيل ذلك ولو بشيء من الاختزال كي تكتمل صورة هذه التجربة الانسانية المميزة في أذهاننا. وفي هذا الإطار تكتسب التجربة التونسية أهمية خاصة، فهي مهد الشرارة الأولى للربيع العربي، والوحيدة التي اتخذت وجهة سياسية تأسيسية راديكالية، وهي ربما من أكثر التجارب التي تطرح بشكل قوي سؤال المضمون الثقافي للثورة.
انتقال ديمقراطي في سياق ثوري
سيكون مهما أن نعرض ولو باختصار شديد الموضوع الأساسي للثورة التونسية كما نطقت به شعاراتها الأولى لأن ذلك سيساعدنا على فهم نوع المشاكل التي يواجهها الانتقال الديمقراطي في تونس قياسا ببعض بلدان الربيع العربي الأخرى. فأول شعار نطقت به الجماهير التي احتشدت في سيدي بوزيد أمام مبنى الولاية، حيث أضرم محمد البوعزيزي بائع الخضار النار في نفسه احتجاجا على الإهانة التي تلقاها من موظفي الجباية، كانت "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق". والذين أطلقوا هذا الشعار كانوا شبان المدينة المتعلمين والعاطلين عن العمل. وكما نلاحظ فإن هذا الشعار يشخص مشكلة اجتماعية أصبحت لا تطاق، وينزع عن المسؤولين في الدولة الشرعية الأخلاقية التي من المفروض أن تتوفر في المسؤول السياسي. وفي الحال انضم إليها النقابيون المحليون –وبعض المثقفين اليساريين- ثم بتطور الأحداث وتوسع نطاقها انظمت إليها منظمات المجتمع المدني المستقلة وبعض أحزاب المعارضة التي لم ينجح النظام في تدجينها، لتكتسب الشعارات المرفوعة في كل مكان مضمونا سياسيا واضحا يطالب بالحرية وبالديمقراطية وبالكرامة وفي نهاية المطاف بسقوط النظام.
لم تسر الأحداث بالطريقة نفسها لا في ليبيا ولا في اليمن ولا حتى في مصر التي تشبه تونس في نمط المجتمع وشكليا في نمط النظام السياسي. ففي مصر فعلت الشرارة التونسية فعلها بسرعة وتوجه الناس الذين هيئتهم منظمات المجتمع المدني لمثل هذه الظروف مباشرة إلى ميدان التحرير مطالبين بسقوط النظام، لكن بطريقة سلمية لم ينجح النظام في القضاء عليها أو في عسكرتها. وفي ليبيا كان الشعار الأول الذي رفعه المتظاهرون هو "ليبيا حرة والقذافي على بره"، وهو شعار سياسي بامتياز غابت عنه المطالب الاجتماعية وطغى عليه جانب العداء الجماعي لشخص الدكتاتور وأعوانه. وبمثل العزم الذي انطلقت به الجماهير في بنغازي و مصراتة وطرابلس والزنتان والزاوية إلى الساحات العامة جابه النظام المظاهرات بالرصاص، ودخلت البلاد في حرب أهلية ضروس نعلم نتائجها الاجتماعية القاسية . أما في اليمن فإن المطالب الاجتماعية والسياسية والعنف والتعقيدات الجهوية والقبلية وإصرار المتظاهرين على سلمية ثورتهم قد عقد المشهد السياسي إلى أبعد الحدود وأعطى لعملية الانتقال الديمقراطي خصائص ربما لا تتوفر في غيرها.
تكمن أهمية هذه الملاحظات في شيئين: الأول أنها تدلنا على خصوصية الطريق الذي سلكته الثورة التونسية شكلا ومضمونا، وهو طريق لم يبح نهائيا بطبيعة الوجهة التي يسير فيها. أما الثاني فهو أنها تذكرنا بخصوصية مشاكل الانتقال الديمقراطي في سياق ثوري.
سنبدأ بالنقطة الثانية، فالثورة التونسية لم يكن لها نفس الوقع هنا وهناك. إذ في حين انتقلت شرارتها بسرعة إلى بلدين مجاورين شاخت النظم الدكتاتورية التي تحكمهما وبلغت مداها (مصر وليبيا)، استطاع نظام سياسي آخر أثبت مرونته في معالجة المشاكل السياسية، هو المملكة المغربية، أن يستخلص الدرس بسرعة ويجري إصلاحات بحجم إعادة كتابة دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات نيابية جديدة وقبول نتائجها التي رجحت كفة الاسلاميين، متعضا في ذلك بالمطلب الراديكالي الذي سارت فيه تونس وهو مجلس تأسيسي ودستور جديد وانتخابات جديدة. لكن شتان في موضوع الاصلاحات السياسية العميقة بين أن تجري هذه الاصلاحات في سياق يحتفظ فيه صاحب السلطة بزمام المبادرة، فيقترح الترتيبات والتغييرات التي يراها مناسبة، وينزل بها من الأعلى باتجاه الأسفل طالبا الاستفتاء عليها، حتى وإن كانت منظمات المجتمع المدني قد طالبت بهذه الاصلاحات منذ زمن، وبين أن تجري في سياق يفقد فيه صاحب السلطة زمام المبادرة والشرعية وآليات الاقتراح والمناقشة والتنفيذ.
ففي تونس التي سقطت فيها أعمدة النظام الأساسية بسرعة -ولكن دون أن تنهار الدولة- وجدت النخبة السياسية نفسها في وضعية سياسية صعبة، مفادها أن الموقف يفرض عليها ضمان استمرارية وظائف المنظمات الحكومية، لكنه يحرمها من القدرة على تقديم تصورات مستقبلية، تحدد خارطة طريق تساعد على بدء الإصلاحات التي ينادي بها المحتجون. أما في ليبيا فقد انهارت الدولة تماما وتبعثرت مؤسساتها الهشة وتشكلت هيئات وقتية بديلة عنها تفتقد إلى الشرعية القانونية رغم كفاءتها السياسية والاجتماعية المحترمة.
بيد أنه في الوقت الذي احتاجت فيه القوى الثورية في ليبيا إلى التدخل الخارجي كي تنجز مهامها الأولية (الإطاحة بالنظام)، سارت تونس في طريق فرض خلالها الشارع (القصبة 1 والقصبة 2) تطورا أخذ منحى راديكاليا، نتجت عنه إعادة تموقع مثيرة للقوى والأحزاب في الخارطة السياسية للبلاد: تراجعت بعض الأحزاب المرخص لها في عهد بن علي والتي عارضت نظامه بإصرار وعلنية وشاركت كوادرها محليا في الثورة (الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب التجديد) ، وقفزت قوى جديدة إلى الواجهة ومنها حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل التي فازت في ما بعد في الانتخابات وشكلت ما يعرف بحكومة الترويكا.
موضوع التحول الديمقراطي في تونس
لقد رأينا أن المطالب التي نادى بها المحتجون في البداية كانت اجتماعية بامتياز، قبل أن تتطور بسرعة بفضل حيوية المجتمع المدني إلى مطالب سياسية بدأت تتجه نحو الراديكالية، وأن الأحزاب لم تشارك في اندلاع الثورة بشكل مباشر. هذه الخاصية الاجتماعية السياسية ضلت ملازمة لتطورات المسار السياسي الانتقالي في تونس إلى حد هذه الساعة. فالمطالب الاجتماعية ضلت تشكل تحد لكل الحكومات التي تعاقبت على السلطة، مغذية خطاب الأحزاب اليسارية المطالبة بالتخلي عن النموذج الاقتصادي اللبرالي (مثال: حزب العمال الشيوعي (حذف مؤخرا كلمة شيوعي من اسمه)، وحزب الوطنيين الديمقراطيين). والمطالبة بالحرية وبالكرامة فتحت الباب على مصراعيه أمام مناقشة المحتوى الثقافي للثورة التي استمرت تغلي هنا وهناك مثل المرجل. وقد برز النقاش في هذا الموضوع بحدة عندما وقع حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان في السلطة، والسبب في ذلك هو أن هذا الحزب يُعد –رغم الجرائم التي قام بها في حق الديمقراطية- سليل الحزب الحر الدستوري التونسي الذي أعطى لتونس، بالتناغم مع منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل، توجها ثقافيا انفتاحيا مميزا، استندت النخبة السياسية في تبريره إلى قراءة متحررة للإسلام والشريعة . وقد كان مؤسسو هذا الحزب وراء إصدار مجلة الأحوال الشخصية التي أعطت للمرأة التونسية أحيانا ما لم تحصل عليه المرأة حتى في دساتير البلدان المتقدمة.
وفي تونس لا يُطرح موضوع المحتوى الثقافي للثورة من أجل الترف الفكري كما يتوهم البعض، بل تُعد القضية أساسية بالنسبة لشرائح واسعة من المجتمع ميزتها أنها انخرطت منذ أكثر من نصف قرن من الزمن في تحولات ثقافية كيفية، ولدها تغير علاقاتها الاجتماعية وتبدل مرجعياتها القيمية في الأكل والكلام واللباس والمشي والجلوس والعلاقة بالذات وبالجسد و بالآخر، ومنها تحديدا علاقة الرجال بالنساء، وقد أكسبها ذلك وعيا ملموسا بقيمة الحرية الفردية دفعها إلى المطالبة بدعمها عبر القوانين الوضعية وسد باب الذرائع أمام التراجع عنها.
ولهذا السبب عرف المسار الانتقالي التونسي مبكرا جدالا حول النموذج المجتمعي الذي يتوافق مع موضوع الثورة ومطالبها، وفي الأثناء بدا تحالف حزبي المؤتمر والتكتل الحداثيين مع حزب النهضة ذي التوجه الديني أمرا مثيرا للدهشة بالنسبة للتيار الحداثي، بينما أجابت قيادة هذين الحزبين على هذا السؤال بالقول بأن مشروع حزب النهضة لا يتناقض مع المشروع الاجتماعي الحداثي في تونس، وأن حزبيهما متمسكين بالهوية العربية الاسلامية للتونسيين التي يدافع عنها شريكهما السياسي.
سنرى في ما يأتي كيف أن المطالب الاجتماعية والمطالب الثقافية للثورة بقيت تتغذى من بعضها إلى حد هذه الساعة، وكيف أن آليات الانتقال الديمقراطي في تونس تأثرت في شكلها ومبادئها وخصائصها بهذه المسائل.
المسار الثوري وآليات الانتقال الديمقراطي في تونس
بالعودة إلى المسار الثوري الذي انخرطت فيه تونس إلى حد القصبة 2 ، أي إلى حدود شهري فيفري-مارس 2011، يمكن ملاحظة أن الجماهير ضغطت بقوة –مدعومة في ذلك ببعض الأحزاب والنقابيين والجمعيات المستقلة - كي تُفشل مشروع الحكومة الانتقالية الذي نادى به الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب التجديد والمسؤولون الحكوميون التجمعيون الذين استمروا -بحكم الدستور- في إدارة دواليب الدولة دون الحاجة إلى تدخل المؤسسة العسكرية. ومن جملة ما هدف إليه هذا المشروع هو أن يجري تشكيل لجنة من الخبراء تعيد صياغة دستور 1959 بما ينزع عنه كل الشوائب التي تضمنها إبان صدوره، و تلك التي أضيفت إليه أثناء حكم الرئيسين بورقيبة وبن علي، ثم الدعوة إلى انتخابات عامة تعيد إلى السلطة شرعيتها التي فقدتها، ما يسمح للمسؤولين الجدد بالشروع في التحقيق الفعلي لأهداف الثورة.
لكن المشروع فشل بسبب اعتماده عمليا على بعض رموز السلطة، التي ثار التونسيون ضدها، عوض أن يجري المضي في حل "ثوري" للمشكلة. وكرد على انهيار حكومة محمد الغنوشي الوزير الأول آنذاك، جرى استدعاء شخصية سياسية قديمة مجربة عملت طويلا مع بورقيبة ومدة قصيرة مع بن علي، هي السيد الباجي قايد السبسي، لتشكل حكومة تكنوقراط جديدة شبه محايدة مهمتها مساعدة التونسيين على صياغة خارطة طريق سياسية، تمكنهم من إعادة بناء الشرعية السياسية لمن سيحكم البلاد ويحقق أهداف الثورة. وفي الأثناء، وبسبب غياب الشرعية الانتخابية عن جميع ممثلي أجهزة الدولة التي حرص التونسيون على استمرارية أدائها، وغياب مجلس النواب الذي وقع حله مباشرة بعد 14 جانفي، كان من نتائج القصبة2 أن تشكلت بطريقة توافقية هشة هيئة سياسية مؤقتة تراقب عمل حكومة الباجي قايد السبسي وتقدم له المقترحات، هي الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وذلك في انتظار تحقيق أحد المطالب الرادكالية للقصبة 2 وهو تشكيل مجلس تأسيسي عبر الاقتراع العام.
وطيلة عدة شهور أدارت هذه الحكومة بمساعدة هذه الهيئة شؤون الحكم، ونجحت في تخطي محطات مهمة جدا بالنسبة للتونسيين، كالسهر على إنجاح السنة الدراسية، والتحكم في الأسعار و إلى حد ما الأمن أثناء المواسم الدينية التي يرتفع فيها نسق الاستهلاك (شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى)، وتشكيل اللجنة العليا للانتخابات وإجراء انتخابات المجلس التأسيسي في وقتها دون مشاكل كبيرة.
من الناحية الشكلية و العملية جرى تحقيق هذه المحطات الانتقالية بطريقة شبه سلسة. لكن انتخابات المجلس التأسيسي لم تساعد التونسيين على المضي قدما في هكذا مسار دون صعوبات جمة، ضلت تلقي بظلال الشك حول مدى قدرة هذا التوجه على تحقيق العملية الانتقالية بطريقة لا تخلف صراعات حادة في المجتمع، قد تلهيه مستقبلا على تدارك ما فاته في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي الذين وفرا صاعق الثورة.
الربيع العربي وخصائص التجربة الانتقالية التونسية
كل هذه التطورات كانت تسير نظريا باتجاه تحقيق أحد أهم الأهداف السياسية للثورة الذي هو القطع مع الدكتاتورية تنظيميا وتشريعيا وفكريا. بيد أنها لم تكن تجري باستقلال عن موضوع المطالب الاجتماعية والثقافية –كما أشرنا أعلاه- التي تتضمن مشكل البطالة ومسألة طبيعة النموذج المجتمعي الذي سترسيه مبادئ وقوانين الدستور الجديد. وهنا برزت إحدى أهم خصائص المرحلة السياسية الانتقالية في تونس: لقد أدت انتخابات المجلس التأسيسي إلى حصول قوة سياسية (حزب النهضة الإسلامي) مناهضة للنموذج المجتمعي الذي أرسته النخب الحداثية التونسية منذ أزيد من نصف قرن من الزمن على المرتبة الأولى. لكن هشاشة النجاح الانتخابي لهذا الحزب (لم يشارك في الانتخابات إلا حوالي 54% من الناخبين ولا يمثل من أعطاها صوته من مجمل الناخبين سوى حوالي 19%) جعله يتحالف مع قوتين سياسيتين جاءتا مباشرة بعده في نتائج الانتخابات لا يشاركانه في مناهضة هذا النموذج.
وفي هذا السياق الذي برزت فيه بحدة أهمية الانتخابات التشريعية، التي ستقام مباشرة بعد إعداد الدستور والتصويت عليه بندا بندا، أصبح عمل الحكومة المنبثقة عن انتخابات المجلس التأسيسي موضوع جدال كبير، سواء في ما يخص الملفات الاجتماعية (كيف يمكن تفادي الانهيار الاقتصادي للبلاد وكيف يمكن كسب رهان التشغيل والعدالة الاجتماعية) أو في ما يخص المطالب الثقافية والحقوقية، أي صياغة الدستور بطريقة تحافظ على المكاسب وتضمن للمواطنين الأفراد حرياتهم الفردية وحقهم في اتباع السلوك الثقافي الذي يرونه مناسبا. والتهمة الموجهة لهذه الحكومة هي أنها تستغل وجودها في السلطة على أساس شرعية محدودة –لأن انتخابات المجلس التأسيسي بنيت على مبدإ كتابة الدستور وليس الشروع في تطبيق سياسة بعينها- لتهيئ أسباب نجاحها في الانتخابات التشريعية القادمة، كما أكد ذلك رئيس الحكومة في المؤتمر الأخير لحزب النهضة.
من وجهة نظر عامة تبدو هذه المشاكل غير مستعصية ولا تشكل عقبة كأداء أمام الانتقال الديمقراطي السلس نسبيا في تونس. لكن سيطرة فكرة المحاصصة الحزبية على تشكيل الحكومة، ومحاولة الحزب الفائز في الانتخابات توظيف نجاحه لفرض توجه حقوقي ونمط اجتماعي-ثقافي محدد عبر صياغة الدستور الجديد وتركيز أسس الدولة القادمة، رغم المقاومة التي يلقاها في مختلف الأوساط الاجتماعية وخاصة أوساط المثقفين، أدخل بلبلة على سير العملية الانتقالية. ذلك أن جزء كبيرا من التونسيين بدأ يتساءل بقوة عما إذا كان الدستور القادم سيفرض بطريقة من الطرق رؤية حزب واحد في فهم معاني الحرية والديمقراطية والكرامة التي نادت بها الثورة وداسها النظام السابق، خاصة بعدما أعطت الحكومة المؤقته، التي لحزب النهضة فيها الكلمة الفصل ، التأشيرة القانونية لثلاثة أحزاب إسلامية تنادي كلها بضرورة تطبيق الشريعة في مفهومها التقليدي .
والقضية المطروحة في تونس لا تتعلق بمضمون هوية التونسيين العربية الاسلامية، التي يقول الاسلاميون أن الشعب أصبح في غربة عنها، لأن الذين يتبرؤون من هذا المكون التاريخي لتونس قد لا تبلغ نسبتهم الواحد في المائة، لكن الخلاف القائم هو على مضمون هذه الهوية: هل مضمونها ثابت؟ هل آليات فهمها ثابتة؟ هل تعريف مضمون هذه الهوية اختصاص ديني؟ هل لها نفس المعنى عند مختلف شرائح وفئات المجتمع؟ وهل يحق الاختلاف على مضمون هذه الهوية؟ وكيف يعالج الخلاف عند حصوله؟
جميع هذه القضايا ذات علاقة وطيدة بما ستتمخض عنه النتائج التأسيسية للمرحلة الانتقالية الحالية. ولهذا السبب يحتدم الصراع السياسي اليوم في تونس بشكل كبير حول كيفية التعامل مع ملفات استحقاقات الثورة. وتبدو البلاد في مفترق طرق عصيب زاده تعقيدا ضغط المعارضة على الحكومة التي حمَلت وظيفتها المؤقتة والانتقالية أكثر مما تطيق -حولت نفسها إلى حكومة مشروع مجتمعي متكامل- عوضا عن أن تكون حكومة تصريف أعمال في انتظار وضع الأسس القانونية الصلبة التي ستحقق المطالب السياسية للثورة، وهي القطع مع احتكار السلطة وفرض الفكر الواحد وضمان الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات .
كل هذه الخصائص –دور المجتمع المدني في إسقاط النظام سلميا دون أن تضعف الدولة بشكل كبير أو تنهار، عدم التدخل المباشر للجيش في سير العملية الانتقالية، المنحى التأسيي الراديكالي الذي سارت فيه الثورة، البعد الثقافي للصراع الجاري على الساحة السياسية بشأن ملامح النموذج المجتمعي الذي ستتمخض عنه الأعمال التأسيسية للفترة الانتقالية- أعطت للثورة التونسية وتداعياتها الداخلية مميزات خاصة مقارنة بالتجربة الليبية واليمنية وإلى حد ما التجربة المصرية.
ففي ليبيا على سبيل المثال انهارت دولة الجماهيرية بمجرد أن ظهر أنه لم يكن لهذه الدولة جيش وطني يحميها بل كتائب مسلحة، بعضها من المرتزقة، تدين بولائها للأشخاص أكثر من المؤسسات. وقد ترتب عن ذلك أن بادرت نخبة من السياسيين الليبيين مدعومين بالقوى الدولية بتشكيل مجلس انتقالي استطاع، رغم فقدانه للسيطرة النافذة على ما كان يجري من قتال في كل مناطق البلاد، أن ينجح بشكل باهر على الصعيد الدولي في إثبات أن ليبيا ستُخلق من جديد وأنها لن تنقسم وأن قضية استرداد زمام المبادرة السياسية لم يكن إلا مسألة وقت. ولأن مشاكل ليبيا كانت سياسية بالأساس، ولأن المجلس الانتقالي كانت لديه الموارد الكافية كي لا يضيف إلى مطالب الليبيين السياسية مطالب اجتماعية ملحة، ولأن القوى الإسلامية غير المتشددة لم يكن لها ما تنتقده بخصوص النموذج الاجتماعي السائد في البلاد، فإن الجزء الأهم في العملية الانتقالية انصب على إعادة بناء الدولة الليبية، وهذا هو في رأينا العامل الحاسم الذي جعل الليبيين المتعطشين إلى بناء دولة قانون يختارون التيار الليبرالي لإنجاز هذه المرحلة المفصلية في بناء مستقبل بلادهم.
وفي المقابل استفاق المصريون الذين اجتمعوا في ميدان التحرير للإطاحة بالنظام، على حقيقة أن الجيش ليس مجرد مؤسسة أمنية استراتيجية في خدمة الدولة والشعب، بل هو الركيزة الأساسية التي كان يقوم عليها النظام الذي نخر عظام بلادهم، وأن موقفه كان مفصليا في وضع ترتيبات المرحلة الانتقالية التي من المفترض أن تضع مصر على الطريق الذي سيحقق أهداف الثورة، وهو ما لم يكن مطروحا في تونس و ليبيا. ومن ناحية أخرى خبأت الثورة المصرية للمراقبين الدوليين ظاهرة مفاجئة إلى حد ما، تمثلت في أن تجربة الانفتاح المجتمعي الكبير الذي عُرفت به مصر وتجسد في إنتاجها الفني والأدبي ذي المرجعيات الكونية لم يحميها سياسيا من الاكتساح الكبير الذي حققته التيارات الدينية في الانتخابات التشريعية. ومن المفارقات العجيبة في هذا البلد أن الجيش الذي حمى النظام السابق لفترة طويلة بدأ يتحول بشكل مثير إلى حليف غامض بالنسبة لأصحاب النهج السياسي الحداثي والأحزاب الإسلامية التي فازت في الانتخابات على حد سواء، وهذا هو المتغير الأساسي الذي سيحكم مفاصل العملية الانتقالية الجارية الآن في مصر.
مستقبل المرحلة الانتقالية في تونس
حينما جرى حل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، الذي حكم البلاد طيلة عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، لم يكن أحد من المراقبين الموضوعيين يعتقد بأن القوى الاجتماعية التي كانت وراءه ستلقي المنديل سياسيا وتترك الساحة فارغة لخصوم الأمس. وفي المقابل لم يكن حزب النهضة الفائز في الانتخابات واهما بخصوص نوع المعركة التي سيخوضها حينما يتحصل على السلطة. فالمجتمع الذي كان يحكمه الحزب المنهار اكتسب مرجعيات ثقافية جديدة لها صفة الكونية، وهي لم تقطع المجتمع عن مرجعياته العربية الإسلامية، كما يقول غلاة الإسلاميين، لأن الدين الإسلامي شريك في تلك المرجعيات عندما يؤول بمنهجية ومقتضيات العصر الحديث. وهذه الخاصية الثقافية التونسية جذرها الحزب الحر الدستوري ثم التجمعي والقوى النقابية والحقوقية لتصبح ذهنية منتشرة بين أغلب أفراد المجتمع تشترك فيها القوى السياسية الحداثية في المعارضة وفي السلطة السابقة.
من هنا تأتي أهمية إعادة التشكل الجارية الآن على قدم وساق لبقايا الدستوريين القدامى، وبعض نخب الحزب المنحل، وجملة من الشخصيات المتمسكة بالمشروع الحداثي التونسي القديم، وربما بعض أحزاب اليسار التقليدي الوسطية، لتشكيل كتلة سياسية مقابلة لتلك التي يقوم حزب النهضة حاليا بتشكيلها من مختلف مشارب التيار الإسلامي، حتى المتعصبين منهم (حزب جبهة الإصلاح التونسية، حزب التحرير، حزب الرحمة). وفيما يعتقد البعض بأن أم المعارك تجري الآن في المجلس التأسيسي الذي سيسن الدستور والقوانين المنظمة للعملية الانتخابية المقبلة، فإن مستقبل تونس السياسي لا يجري هناك –على الرغم من أهمية ما يحدث داخل تلك المؤسسة- إنما على ميدان العمل التنظيمي والتعبوي في الأحياء والقرى والأرياف لفائدة هذا التوجه أو ذاك. وبحسب طبيعة القوى التي سيكون لها شرف الحصول على المرتبة الأولى والثانية سيتحدد مصير تونس نحو المحطة الانتقالية المقبلة التي سيكون موضوعها إرساء خيارات ما بعد الثورة في المؤسسات والممارسات والعقول: فإما تأكيد للنموذج المجتمعي السائد وتصحيح للسياسة (مؤسسات وقيم)، وإما نقض لمرتكزات ذلك النموذج وفرض لمعايير ومقولات جماعوية على حساب معايير ومرجعيات الحرية والحقوق الفردية، وإما لقاء في منتصف الطريق يُستبعد منه كل المتطرفين. وفي انتظار يوم الحسم تستمر الحياة السياسية التونسية في الشد والجذب على وقع المطالب الاجتماعية والثقافية التي تحرك الاحتجاجات والإضرابات في كل مكان، ويستغلها السياسيون من جميع المشارب.
خاتمة
لقد حاولنا في هذه الدراسة المختصرة أن نبرز ملامح المرحلة الانتقالية التي تعيشها تونس منذ 14 جانفي 2011. وقد بين البحث أن خصوصية التجربة التونسية، إذا ما قارناها بما تعيشه بلدان الربيع العربي الأخرى وخاصة ليبيا ومصر، تنبع من راديكاليتها النسبية. وتعود هذه الراديكالية في رأينا إلى نقطة انطلاق الثورة التونسية في حد ذاتها و إلى مقومات تجربة التحديث التي عرفها المجتمع التونسي منذ أكثر من قرن ونصف.
بطبيعة الحال لا يجب الاعتقاد بأن ما يجري في تونس شأن داخلي بحت، فالقوى الدولية مهتمة جدا بالتجربة التونسية، البعض لعراقة علاقته التاريخية المباشرة مع هذا البلد بكل ما تتضمنه هذه العبارة من معانى، والبعض الآخر لأنه يعتبرها مخبرا جيدا لقياس مدى نجاح فكرة إشراك القوى الدينية في الحكم كحصن ضد التطرف العقائدي الذي تصرف عليه أموالا طائلة. لكن تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، وعلى عكس ما قد يعتقده البعض ممن أرعبه المثال الليبي، محفوفة بالأخطار ربما أكثر من الحالة الليبية، ويمكن إرجاع ذلك إلى أربعة أسباب: الأول افتقاد تونس للموارد المالية التي من الممكن أن تطفئ لهيب المطالب الشعبية دون أن يكون لذلك ثمنا سياسيا مجحفا. الثاني تشبث شرائح واسعة من المجتمع التونسي بالنموذج المجتمعي الذي تعودت عليه وتحفزها المستمر لرفض إعادة أسلمتها من طرف الإسلاميين المتشددين. الثالث عدم فهم التيارات الدينية للدلالة السوسيولوجية لمقولات الحرية والحقوق الفردية، التي من شروط تحققها فصل الدين عن السياسة، مع رغبتها الملحة –كما عبر عنها كبار دعاتها- في تغيير المرجعيات الثقافية السائدة وجعل ذلك هدفا استراتيجيا من أهداف الثورة. الرابع دفاع "ضحايا الثورة" عن مكاسبهم القديمة بشكل يثير الشرائح الاجتماعية والثقافية التي عانت من دكتاتوريتهم.
لكن البحث بين أيضا أن نتائج الانتخابات المقبلة ستكون محطة مفصلية كبرى في تاريخ تونس، وهو ما سيحولها إلى أهم معطى سيدخل في إعادة ترتيب مجمل المعادلات السياسية التي عرضناها، وفق رؤى جديدة قد تصيب الترويكا الحالية في المقتل وتفاجئ بتطوراتها الكثير من المراقبين.



بيليوغرافيا مختارة
- الأحمر، المولدي، الانتخابات التونسية: خفايا فشل القوى الحداثية ومشاكل نجاح حزب النهضة الإسلامي، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2011.
- الأحمر، المولدي، في الثورة من منظور علم الاجتماع السياسي، تونس، مطبعة آربرانت، 2011
- برهومي، صلاح الدين، في خضم الثورة التونسية، الشمال الغربي نموذجا، تونس، سحر للمعرفة، 2012
- بسيكري، السنوسي، انتخابات المؤتمر الوطني الليبي وخيارات الكتل السياسية الفائزة، الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، جويلية 2012
- بشارة، عزمي، الثورة التونسية المجيدة، بنية ثورة وصيرورتها من خلال يومياتها، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012
- خشانة، رشيد، خارطة سياسية في تونس تمهد لأخرى في غضون سنة، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2011
- القبي، مرشد، قراءة في قراءات الثورة التونسية، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أكتوبر 2011
- مجموعة من المؤلفين، من قبضة بن علي إلى ثورة الياسمين، الإسلام السياسي في تونس، دبي، مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2011
- مجموعة مؤلفين، ثورة تونس، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012
- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الانتخابات التونسية محطة تاريخية على طريق التحول الديمقراطي، 2011




#المولدي_الأحمر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- كيف تمكنّت -الجدة جوي- ذات الـ 94 عامًا من السفر حول العالم ...
- طالب ينقذ حافلة مدرسية من حادث مروري بعد تعرض السائقة لوعكة ...
- مصر.. اللواء عباس كامل في إسرائيل ومسؤول يوضح لـCNN السبب
- الرئيس الصيني يدعو الولايات المتحدة للشراكة لا الخصومة
- ألمانيا: -الكشف عن حالات التجسس الأخيرة بفضل تعزيز الحماية ا ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان
- انفجار هائل يكشف عن نوع نادر من النجوم لم يسبق له مثيل خارج ...
- مجموعة قوات -شمال- الروسية ستحرّر خاركوف. ما الخطة؟
- غضب الشباب المناهض لإسرائيل يعصف بجامعات أميركا
- ما مصير الجولة الثانية من اللعبة البريطانية الكبيرة؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - المولدي الأحمر - خصائص الانتقال الديمقراطي في تونس: راديكالية ناعمة قد تنتهي بالتوافق