أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - كميل داغر - اغتيال الحريري وإطلاق الجن قراءة هادئة لشهر هائج















المزيد.....


اغتيال الحريري وإطلاق الجن قراءة هادئة لشهر هائج


كميل داغر

الحوار المتمدن-العدد: 1135 - 2005 / 3 / 12 - 12:02
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


في الرابع عشر من شباط الماضي، سقط الرئيس الأسبق للوزراء، رفيق الحريري، في عملية إجرامية بشعة حصدت، فضلاً عنه، العشرات من الضحايا الأبرياء والجرحى، عدا خسائر هائلة في الفنادق والمباني المحاذية، في انفجار توقف ضجيجه المباشر بالتأكيد، لكن تداعياته الخطيرة مستمرة في الدوي، وسيبقى دويُّها يصمُّ الآذان،على الأرجح، لأشهر طوال، وربما لسنوات أو أكثر!
وهو دويٌّ متعدد الأمكنة. في بيروت، كما في دمشق، لكن أيضاً في عواصم عديدة عبر المنطقة العربية، والعالم، ليس لأن الزعيم الراحل ذو أهمية عالمية، بالضرورة (كما تريد تصويره مساعٍ محمومة يبذلها أنصاره ومريدوه، وآخرون عديدون يسعون لضمان أقصى المنفعة لأنفسهم ولمشاريعهم من الطريقة الفاجعة لرحيله)، بل لأن موته بات مناسبة مَلَكية لمحاولة إطلاق سيرورة كبرى من التغييرات تخدم السياسة الإمبراطورية الراهنة للولايات المتحدة الأميركية.
 
1.   ماذا عن "ساحة الحرية"؟
 
بين الأمكنة التي اختيرت للمشاركة في صنع هذا الدوي، وتسهيل الطريق أمام أن يمضي بعيداً، يمكن أن نذكر، للأسف، ساحة الشهداء، التي قد لا يكون صدفة أنها قائمة في قلب المشروع المشهور الذي يملك الراحل الجزء الأكبر من أسهمه، مشروع سوليدير. أما ما يمكن الجزم بأنه ليس صدفة على الإطلاق، فهو اختيار بقعة من الأرض ملاصقة لتلك الساحة، لتكون مدفناً له. بذلك يكتمل إعداد المسرح، فضلاً عن التجهيزات الصوتية الملائمة.
في تلك الساحة، التي يتجمع فيها منذ أكثر من أسبوعين، وبصورة يومية، الآلاف من الشبّان، ملوِّحين بالعلم اللبناني، ومنادين، كمطلب رئيسي، برحيل ما يعتبرونه احتلالاً سورياً، في تلك الساحة بالضبط، سيكون من المفرط في الغرابة والإذهال ألا يكتشف الحدُّ الأدنى من إعمال المنطق والعقل مفارقاتٍ مخجلةً حقاً، ومحزنة جداً، بالتأكيد! فعلى الرغم من أننا نشاطر هؤلاء الشبان والشابات، المتحمسين جداً والأبرياء، في معظمهم، أقصى الإدانة والاستنكار، كما سنبيِّن لاحقاً، لإدارة النظام السوري المخابراتية الكريهة والفاسدة، للشأن اللبناني (تماماً كما للشأن السوري)، بالتلازم مع أقصى الإدانة لصنائع هذا النظام وشركائه في الإدارة اللبنانية، نشعر كذلك بأقصى التقزز والرفض لما أظهره الكثيرون في تلك الساحة الواسعة من الكراهية للشعب السوري، عاجزين تماماً عن أن يميزوا بين جلاد وضحية، بين نظام وشعب! وهو شعب طيِّبٌ ونبيل وكريم، ربما تصل معاناته من ممارسات الأجهزة، وقمع أدوات السلطة، عينها، إلى حدود أكبر بكثير. والأكيد أن أبسط المشاعر الإنسانية تستدعي أقصى التضامن معه، بدل النبذ وإطلاق الهتافات الشوفينية الحاقدة ضده، بما يندرج عملياً في نوع من المباركة والتشجيع للعديد من حالات التنكيل البشعة التي أصابت، أخيراً، وعلى الأرض اللبنانية بالذات، عمالاً سوريين بسطاء، يكدحون ضمن شروط إذلال واستغلال تقارب أحياناً شروط المجتمع العبودي!
ثم أليس من المفارقات المخزية أيضاً أن تكون غالبية من الجموع المحتشدة في "ساحة الحرية"، وفقاً للوصف الذي تم إطلاقه أخيراً على الساحة التي نحن بصددها، وفي حين تنظر إلى الجنود السوريين كجيش احتلال تطالب، وسط مشاعر هائجة تقارب الهستيريا، بإخراجه بالكامل من لبنان، لم يسبق أن  تعاملت مع الوجود العسكري الصهيوني في الأراضي اللبنانية على أنه احتلال، ولم يحدث أن أطلقت يوماً ولو ... صيحة خافتة ضده!
أكثر من ذلك، إن غالبية، في الساحة المشار إليها، تبصم بأصابعها العشر على القرار 1559، بما هو يتضمن بنداً أساسياً هو نزع السلاح المقاوم، وبالتحديد سلاح حزب الله. وهو حزب يشكل من ضمن القوى المحسوبة الآن على الموالاة للسلطة القائمة، وعلى الرغم من طابعه المذهبي الغالب، وانحكام برنامجه بالعلاقة الوثيقة التي تشده إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، القوة الوحيدة الجماهيرية حقاً، والقادرة على فرض احترامها في الساحة السياسية، ليس فقط بسبب دورها الحاسم في تحرير الشريط الحدودي من الاحتلال الإسرائيلي، بل أيضاً لعدم انخراطها المباشر في الفساد المستشري في كامل الجسم السياسي للنظام المحلي. ناهيكم عن كونها لا تزال تشكل إحدى قوى الممانعة الأساسية في المنطقة العربية للهجمة الأميركية – الإسرائيلية المتواصلة، وتقف على رأس المستهدفين من القرار 1559.
هذا وكانت إسرائيل أعلنت على لسان مسؤولين عديدين فيها، بينهم وزير خارجيتها، ورئيس أركان جيشها، عن دورها الأساسي في استصدار القرار المذكور! علماً بان تنفيذه لن يمكن أن يتم من دون أنهار من الدم اللبناني الذي سيسيل على الأرض التي حررها السلاح المنوَّه به، وبالتالي من دون مذابح ضمن الشعب الواحد يود أن يراها بأمِّ العين، لا الصهاينة وحسب، بل المحافظون الأميركيون الجدد، ومشاريعهم التقسيمية للمنطقة، من العراق، إلى لبنان، مروراً بأكثر من بلد وأرض عربيين. وهي مذابح سوف تبيِّن إذا حصلت، مدى نفاق الشعارات، عالية الرنين، حول توحد الشعب اللبناني في "ساحة الشهداء". إذ يا لها من "وحدة وطنية" كاذبة قد تشكل غداً مدخلاً إلى الانشطار الكبير!
 
 
2.    موت مفجع وصناعة للأسطورة
 
لا شك في أن انفجار 14/2 كان حدثاً مفجعاً، يستدعي، كما حصل بالضبط، درجة عالية من الشجب والاستفظاع. ولا ريب أيضاً أن الشخصية الأساسية التي استهدفها لعبت دوراً بالغ الأهمية في العقدين الأخيرين من حياة اللبنانيين، الأمر الذي لا حاجة لتفصيله، إذ هو من البديهيات. وهو دور متناقض بالتأكيد فيه إيجابيات عديدة، وفيه السلبيات، التي كان كثراً من شددوا عليها، والمحللون لجسامتها، على امتداد حياة الرجل السياسية، ولا سيما مذ بلغ موقعه في رئاسة الوزراء، حيث بقي عشر سنوات، أي أكثر من أي ممن سبقوه في هذا المنصب، على اختلافهم، في مرحلة مصيرية حساسة جداً من حياة البلد.
بيد أن ثمة علامة استفهام كبرى بات ضرورياً، بعد أسابيع على الحادثة، أن يتم طرحها لأجل محاولة الإجابة عنها، أو على الأقل دعوة الناس للتفكير فيها. ففي بلد شهد حالات كثيرة من أعمال الاغتيال السياسي، وعلى أعلى المستويات، منذ ما بعد سنوات قليلة على استقلاله وحتى الآن، هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها، فجأة، تحويل الشخص المستهدف إلى ما يشبه الأسطورة، في تصاريح رجال السياسة، والصحافة، والفكر، وعبر مختلف وسائل الإعلام التي لم تتوقف إلى الآن عن تركيب هذه الصورة الأحادية الجانب لإنسان لم يكن عادياً بالتأكيد، في ما أُعطي وما أخذ من دور، وفي ما توفرت له من إمكانات بادر إلى استخدامهــا في حدودهــا القصوى. لكنَّ هذا المعطــى لا يبرِّر إطلاقاً ما نشهد من سيرورة تمجيد وتعظيم، تقارب التأليه، وتصل إلى حدود صناعة الأسطورة!!
هذا ومن اللافت جداً أن الجميع، تقريباً، يتناسون ما سبق أن كان يكال للرجل من اتهامات سوف نقتصر، حماية للذاكرة الجماعية للناس الذين يتعرضون منذ أكثر من عشرين يوماً لعملية غسل دماغ متواصلة، على نقل بعض منها، مما كان سياسيون وصحافيون و"رجال فكر"، غيَّر العديد منهم خطابهم الآن، يروجون لها في تواريخ سابقة. وبين أهم تلك الاتهامات المبنية على وقائع عنيدة، الاستيلاء قهراً، وظلماً، وإن تحت غطاء القانون، على البقعة الأهم من العاصمة، المعروفة بالمنطقة التجارية؛ والمشاركة في إنتاج أحد أسوأ التعديات على أبسط مقومات الديمقراطية ودولة القانون والأخلاق السياسية، متمثلاً بظاهرة المحاصصة الطائفية، وما يلازمها من نهب خطير للمال العام وتحويل الإدارة إلى مرتع للأزلام وعديمي الكفاءات، وذلك في سياق تفاهم وتشارك عميقين مع مراكز المخابرات، اللبنانية والسورية؛ ناهيكم عن ضرب الاتحاد العمالي العام والحركة النقابية إجمالاً، الذي شاركت فيه، أيضاً، وبصورة مباشرة، المراكز المشار إليها، وقوى سياسية لبنانية أخرى شديدة الالتحاق بدمشق؛ وإفشال أول مسعى جدي لتقريب الشقة بين المواطنين كان يتمثل بمشروع قانون الزواج المدني الاختياري؛ وإصدار قرار منع التظاهر الذي تم تدشينه بمجزرة جسر المطار عام 1993خلال التظاهرة ضد اتفاق أوسلو؛ وبالطبع من دون نسيان الدين العام الذي قفز، تحت غطاء سياسة الإعمار العشوائية التي يجري تقريظها الآن من دون تحفظات ، من حوالي المليار والنصف مليار دولار عام 1992 إلى قرابة الأربعين ملياراً من الدولارات! عدا ما رافق ذلك من شراء شريحة واسعة جداً من الانتليجنسيا اللبنانية كما من رجال الدولة، من أعلى الهرم السياسي إلى أدناه، في عملية إفساد شاملة لم يشهد مثيلاً لها تاريخ البلد.
في كل حال، نجدنا مضطرين أيضاً إلى طرح التساؤل التالي: هل إن بين الأهداف الأساسية لعملية إشاعة النسيان المتعمدة هذه، وما يلازمها مما سميناه صناعة الأسطورة، الوصول بسيرورة تأليب نسبة عالية من المواطنين المحليين، عدا من يمكن تأليبهم أيضاً في المحيط العربي بوجه خاص، وعبر العالم، على المتهم الوحيد إلى الآن، لا بل المشتبه به الوحيد (!) بجريمة اغتيال الرجل، إلى حدٍّ ينجح معه ذلك في تعريض دمشق لعزلة خانقة، لن تدفع وحدها ثمنها، في ما لو بلغت هذه السيرورة أهدافها، بل الشعبان السوري واللبناني أيضاً، وأبعد منهما شعوب عديدة أخرى في المنطقة، من العراق إلى فلسطين، مروراً بإيران، كما سنرى لاحقاً؟ لكننا إذ نطرح هذا السؤال، مشددين في آن على ضرورة إجراء تحقيق نزيه يكشف المسؤولية الحقيقية عن جريمة 14/2، لا نلغي إطلاقاً مسؤولية النظام السوري الكاملة عن بلوغ الأمور هذه الدرجة من التردي، بسبب طبيعة هذا النظام الديكتاتورية الممعنة في الفساد، وهيمنة الأجهزة الأمنية على الحياة السياسية (والاقتصادية والاجتماعية)، ليس فقط في سوريا بالذات، بل أيضاً داخل لبنان.
 
3.   ممارسات النظام السوري في الميزان
 
لقد كان بين الأسباب الأساسية لانهيار الوحدة بين مصر وسوريا في أوائل الستينيات مساعي الهيمنة شبه المطلقة التي مارسها النظام المصري على دمشق، ولا سيما عبر أجهزة المخابرات وعناصر القمع، مع انعكاسات ذلك الكارثية على المهمة الأشد حيوية بالنسبة لمصير المنطقة العربية، مهمة الوحدة. ومع أن دخول الجيش السوري إلى لبنان لم يكن في سياق سيرورة وحدوية إلا أن ممارسات دمشق في لبنان على امتداد وجود جيشها ومخابراتها في هذه الساحة، بدلاً من أن توظف في خدمة تعميق التلاحم والتفاهم والاندماج بين الشعبين، كررت بصورة أشد فظاظة وبشاعة تلك التي سبق أن مورست على الشعب السوري بين عامي 1958 و1961، في ظل الهيمنة المصرية. وهو ما يهدد بترك ظلاله الكثيفة، لسنوات طويلة، على العلاقات بين شعبينا.
فعلى الرغم من أنه سيكون من قبيل التبسيط وسوء النية نكران الجانب الإيجابي من الدور السوري في لبنان، متمثلاً بالإسهام في وقف الاقتتال الداخلي، أو في دعم سيرورة التحرر من اتفاق 17 أيار المفروض إسرائيلياً، ومن ثم من الاحتلال الإسرائيلي، فإن ذلك لا يبرر إطلاقاً، ولا يلغي واقع سياسة الهيمنة التي مارسها النظام السوري على لبنان، مع ما لازم ذلك من ممارسات مقيتة للأجهزة الأمنية السورية ضد الشعب اللبناني ومؤسساته والحياة السياسية فيه، ناهيكم عن لعب دور أساسي في إنتاج سلطة سياسية وأمنية محلية متواطئة مع تلك الأجهزة ومتعاونة معها إلى أبعد الحدود، على أساس مصالحها الضيقة والجشعة، سلطة زيفت الحياة السياسية بالكامل وأفسدت كل جوانب العلاقات داخل مجتمعنا، وأشركت الأجهزة المشار إليها في نهب اقتصاد شعبنا وضرب مصالحه الحيوية. من دون أن ننسى أيضاً أن الاتفاقات الاقتصادية والإنمائية التي تمت بين الدولتين منذ عام 1990وحتى الآن، جاءت، أحياناً عديدة، على حساب مصالح الشعب اللبناني، بحيث تستدعي إعادة النظر فيها، لاحقاً، بما يخدم مصالح الشعبين اللبناني والسوري معاً، وبصورة متكافئة، ويعزز التكامل وحفز أكبر قدر من عوامل الانسجام والوحدة في ما بينهما.
 إن الطرف اللبناني في هذه المعادلة، المتمثل بالسلطة المحلية، التي سبق أن جاء رأسها، الضابط السابق في الجيش اللبناني، العماد إميل لحود، إلى الحكم، عام 1998، بقرار من دمشق وبضغط من الأجهزة السورية على المجلس النيابي، وجرى التمديد له ثلاث سنوات في الخريف الماضي، بقرار وضغط من القوى عينها، هذا الطرف خاضع إلى حد بعيد للإملاآت التي تصله من الجهة التي فرضته، وإن كان ذلك لا يلغي واقع أنه لا يفعل ذلك، بالضرورة، مكرهاً، بل من ضمن تقاسم للمصالح يحصل بنتيجته على نسبة وافرة جداً من مغانم هذه العلاقة. وليس من المستبعد، في كل حال، أن يرتبط مصيره، في الأشهر القليلة القادمة، وربما بعدها بفترة غير بعيدة، بمصير هذه الهيمنة، هو وجزء هام من الرموز السياسية والادارية، التي تدين ببروزها في العقدين الأخيرين إلى رضى دمشق عنها واحتضانها لها. وهي رموز مسؤولة، بالضرورة، عن تقديم الغطاء المحلي، على امتداد الخمس عشرة سنة الأخيرة للتجاوزات بالغة الأذى، وللفساد منقطع النظير، في الواقع السياسي والاقتصادي والمالي في البلد. وهو ما سهَّل إلى أبعد الحدود ما نشهده حالياً من تمرد واسع على هذا الواقع وعلى تلك الهيمنة لا شك بأنه، إذ ينطوي في جوانب عديدة منه، على الكثير من المشروعية يتسم، من جوانب أخرى، بسمات خطيرة، هي تلك المرتبطة بواقع الاستقواء بالتدخلات الخارجية، ولا سيما من جانب أميركا وحلفائها، في هذا الظرف الحاسم من الهجمة الإمبريالية على منطقتنا العربية، بوجه أخص. وهو استقواء نلاحظه، بلا ريب، في سلوك المعارضة اللبنانية الراهنة، وانطلاقاً من طبيعة القوى التي تنتظمها.
 
4.   المعارضة و"انتفاضة الاستقلال" !
 
من الضروري جداً، قبل التطرق إلى تحليل هذه المعارضة، ولو باقتضاب، أن نشدد على واقع أنها جزء لا يتجزأ من الشريحة السياسية عينها، التي تنتمي إليها غالبية الموالاة أيضاً، المنتظمة في لقاء عين التينة، وعلى ضفافه. وسبق أن تشارك جزء أساسي منها مع تلك الموالاة – على امتداد سنوات، قبل تبدل وجهة الرياح الإقليمية والدولية، في الفترة الأخيرة – في مغانم الوجود العسكري والسياسي السوري في لبنان، لا بل أيضاً في سلسلة القرارات والمواقف والممارسات التي أفضت بالبلد ومؤسساته إلى الانحطاط الشامل الذي يعانيه الآن.
إن المعارضة الراهنة، التي تقود ما تسميه، تجاوزاً، "انتفاضة الاستقلال"، تنقسم، في الواقع، من حيث قواها الفاعلة[1] إلى قسمين أساسيين:
·   أحدهما يتألف من القوى الأكثر انشداداً طائفياً، وارتباطاً بالخارج الإمبريالي، وحتى في جانب منها، بإسرائيل، ضمن الرجعية المسيحية. ونحن نقصد بوجه خاص كلاً من القوى التالية: القوات اللبنانية، والمعارضة الكتائبية المستظلة بآل الجميل، وكذلك العونيين، أو جماعة "التيار الوطني الحر". وهي القوى التي تعرضت، وإن بصورة متفاوتة، إلى الإبعاد والعزل، وحتى التنكيل أحياناً، في المرحلة التي تلت إقرار اتفاقات الطائف، والبدء بترجمتها على الأرض.
·   والثاني من قوى كانت سابقاً جزءاً لا يتجزأ من السلطة القائمة، ومن ضمنها– على سبيل إبراز المكونات الأهم، وليس على سبيل الحصر – الكتلة المستظلة لما يمثله رئيس الوزراء الراحل، رفيق الحريري، والتي تشكل استمراراً لخطه وما يرتبط به من مصالح وتوجهات. لكن أيضاً، وبوجه خاص، السيد وليد جنبلاط وحزبه وكتلته النيابية. علماً بأن الزعيم المذكور كان قد اعترف قبل سنوات، وقبل أن ينضج أخيراً انفكاكه عن السلطة القائمة، المرتبطة بدمشق، بأنه أحد "حيتانها" (التعبير له)، والمستفيدين الأساسيين مما يشوبها من فساد. وقد كشف في المحاضرة التي ألقاها قبل أسابيع قليلة في الجامعة اليسوعية ببيروت أنه لم يتجرأ من قبل على اتخاذ هذا الموقف بسبب أن وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسينجر، كان عام 1974 قد أعطى دمشق تفويضاً كاملاً بالسيطرة على لبنان. أما الآن فقد شجعه على التمرد التبدل المستجد في موقف واشنطن. هذا ولقد وصل به هذا "التمرد" في الفترة الأخيرة إلى المطالبة بحماية دولية للبنان، لا بل بنوع من "الانتداب" عليه. أكثر من ذلك، طالعتنا وسائل الإعلام أخيراً بمواقف إيجابية لديه تجاه اجتياح أميركا للعراق، و"الديمقراطية" الآتية، في تحليله، على رؤوس الحراب الأميركية!
وبالطبع، وعلى الرغم من أن الحركة التي تقودها هذه المعارضة – المتنافرة بالتأكيد والمشدودة إلى طوائفها ومذاهبها قبل كل شيء، وبوجه خاص إلى مصالحها الطبقية، بما هي تنتمي إجمالاً إلى البرجوازية المحلية التابعة وفلول الإقطاع الانتخابي –  تلعب دوراً فعلياً في رفع مطالب شعبية، كالخلاص من هيمنة الأجهزة الأمنية، ومن الوصاية السلطوية للنظام السوري، فهي في الوقت نفسه تنخرط، على الأقل في جزء أساسي منها۲، في مشاريع إجمالية لا يمكن فصلهاعن السياق العام للهجمة الأميركية – الإسرائيلية الراهنة في المنطقة ككل.
 
5.  الهجمة الأميركية – الإسرائيلية وأهدافها
 
من الواضح أن المشروع الأساسي للمحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، بالنسبة للمنطقة العربية، وجوارها إلى حد ما (إيران بوجه خاص)، يتضمن بين ما يتضمن، في إطار ما باتوا يسمّونه الشرق الأوسط الأكبر منذ حرب العراق الأخيرة، إحكام السيطرة على ثروات هذه البقعة، الاستراتيجية جداً بالنسبة لمصالح الإمبريالية الأميركية. وهم لايستبعدون، لأجل ذلك، استخدام كل الوسائل التي تسهِّل ذلك، ولا سيما تقسيم البلدان الواقعة ضمنها، وتمزيقها على أساس التمايز الإتني والديني والطائفي والقومي، وما إلى ذلك. وهذا يشمل بين ما يشمل العديد من البلدان العربية، ومن ضمنها العراق وسوريا ولبنان، وربما السعودية ومصر وغيرها. وليس ثمة ما يستبعد أن يشمل ذلك إيران بالذات، المهددة الآن، بحجة مشاريعها النووية، سواء من أميركا بالذات، أو من إسرائيل.
ضمن هذا السياق العام يمكن النظر إلى القرار 1559 الذي لا يمر يوم تقريباً من دون أن نسمع مسؤولين أميركيين، من ضمنهم الرئيس بوش في أحيان كثيرة، وإسرائيليين أيضاً، يشددون على ضرورة تنفيذه على الفور، من دون أن يستبعد بوش "الخيار العسكري"، وإن كان يتركه كخيار أخير. وضمن هذا السياق أيضاً، يجب أن يكون الموقف من الهجمة الراهنة على الساحة اللبنانية، التي تستهدف في ما تستهدف، ليس فقط الوجود العسكري السوري على أي من أنحائها، بل أيضاً السلاح الفلسطيني في المخيمات، وسلاح حزب الله. علماً بأن ذلك لا ينفصل أيضاً عن الصورة التي تتخيلها الإدارة الأميركية لفرض حل للقضية الفلسطينية ككل لا يستجيب إطلاقاً لحقوق الشعب الفلسطيني، بل يتم على حسابها بالكامل، بما فيه بخصوص مسألة حق العودة المرفوض إسرائيلياً، والذي يراد الاستعاضة عنه بتوطين الفلسطينيين في أماكن تواجدهم الراهنة، ومن ضمن ذلك في لبنان.
 
6.  هل يمكن تحديد موقف؟
 
من المؤسف جداً أن يكون الشيوعيون اللبنانيون، واليسار المحلي بشكل عام، لا يزالون على هامش الحراك الجماهيري الكبير الراهن، وسط أزمة وطنية ربما تكون الأخطر في تاريخ البلد، وأن يكونوا، وسط هذه الصورة المعقدة جداً، والمفتوحة على كل الاحتمالات، عاجزين عن إنتاج برنامجهم الخاص، الذي يضمن وحدة الشعب ونجاحه في هزيمة الهجمة التي يتعرض لها الآن، ويستقطب مع الوقت أوسع الجماهير من المعسكرين المتصارعين، على أساس مصالح هذا الشعب، الوطنية والطبقية، في آن معاً، وضد القرار 1559، لكن أيضاً ضد الشريحة السياسية الفاسدة المسيطرة، في كل من معسكري الصراع.
هذا، ومن الجدير بالذكر أن الرئيس السوري كان قد أعلن، قبل أيام، في خطابه أمام مجلس الشعب عن الاستعداد للتعامل بإيجابية مع القرار 1559، واستعداده بالتالي للانسحاب فوراً إلى البقاع، ومن ثم إلى الحدود اللبنانية – السورية، على أساس اتفاق الطائف.
بالمقابل، فإن المعارضة اللبنانية، في بياناتهاالمشتركة (إذ يحتفظ جزء منها بتصوره الخاص به، المتفق تماماً مع المنظور الأميركي – الإسرائيلي)، تطالب بتنفيذ اتفاق الطائف، بخصوص التواجد السوري، وتزعم حرصها على المقاومة الاسلامية ورفضها المساس بها.
على أساس ذلك، إن الموقف الأكثر منطقاً وعقلانية وإقناعاً، في مواجهة الهجمة الراهنة، يفترض، بالنسبة لكل القوى الوطنية والتقدمية، وبوجه خاص قوى اليسار، المفترض أن تكون حريصة على خوض هذه المواجهة بنجاح، أن يتضمن التوجهات الواضحة التالية:
?أ)   تشكيل هيئة تحقيق قضائية من القضاة المعروفين بنزاهتهم واستقلالهم، ينتخبها الجسم القضائي ككل، وتتولى السعي لكشف الجريمة، مع الاستعانة بمن تشاء من الخبراء الجنائيين المحليين والأجانب، ولتحديد المسؤوليات على ضوء ذلك كله.
?ب) الرفض الجازم للقرار 1559، وفي أسوأ الأحوال، ربط إمكانية تنفيذه بتنفيذ باقي القرارات الدولية بخصوص الصراع العربي – الإسرائيلي، وفقاً للترتيب الزمني، ولا سيما القرار 194، الذي يدعو إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مدنهم وقراهم التي هُجِّروا منها عام 1948 وما بعده.
?ج)   حماية المقاومة ورفض تجريدها من السلاح.
?د)  تطبيق اتفاق الطائف بصورة متكاملة، أي سواء من حيث ما يتناول فيه انسحاب الجيش السوري ومخابراته التدريجي من لبنان، أو من حيث الجانب المتعلق بإلغاء الطائفية السياسية ناهيكم عن نسج أفضل علاقات الأخوة والتضامن مع سوريا، على شتى الأصعدة، بما فيها العسكري بمواجهة إسرائيل والهجمة الإمبريالية.
?ه)   إقرار قانون انتخاب على أساس الدائرة الواحدة والتمثيل النسبي غير الطائفي، على أن يتحول المجلس المنتخب على هذا الأساس إلى جمعية تأسيسية تعيد النظر في الدستور الحالي، باتجاه إنضاج مقدمات وضع البلد على طريق العلمنة الشاملة.
?و)  إقرار قوانين تعطي الفلسطينيين في لبنان حقوقهم المدنية الكاملة، بما في ذلك حقهم في التملك والعمل والوظيفة، والضمانات الاجتماعية، وذلك كخطوة على طريق نضج ظروف ممارستهم لحقهم في العودة إلى وطنهم، فلسطين.
?ز)  السعي لتقديم الحلول المناسبة للأزمة المعيشية الخانقة للجماهير المحلية الكادحة، من رفع الأجور بما يتناسب مع عملها وحاجاتها الأساسية، إلى استعادة استقلال الحركة النقابية وحيويتها، إلى تعزيز الضمانات والخدمات الاجتماعية التي تقهقرت جداً في العقدين الأخيرين، ولا سيما على صعيد الصحة والتعليم وفرص العمل.
 
إن البلد ككل عند منعطف بالغ الخطورة. وبقدر ما يتم الارتفاع إلى مستوى المهام الانقاذية التي يطرحها الواقع الراهن، أو الفشل في ذلك، على العكس، سوف يتقرر مصيره، إيجاباً أو في اتجاه الكارثة، لحقبة طويلة من الزمن.


[1] - نطلق هذه الصفة على الأطراف ذات القاعدة الجماهيرية، إلى هذا الحد أو ذاك، تمييزاً لها عن قوى أقل انغراساً جماهيرياً، كالوطنيين الأحرار، وجماعة الكتلة الوطنية، وحركة التجدد الديمقراطي، وحركة اليسار الديمقراطي، وبعض الرموز ذات القاعدة العائلية والمناطقية، كبطرس حرب، ونائلة معوض، وفارس سعيد، وغيرهم.
2-  أشارت جريدة "هآرتس" الإسرائيلية، (أنظر السفير 5 آذار الجاري) إلى أن شخصيات لبنانية أرسلت أخيراً رسائل إلى جهات في إسرائيل، ولا سيما إلى مستشار وزير الدفاع الإسرائيلي، أوري لوبراني، لأجل العمل على "تشجيع الولايات المتحدة على عدم تخفيف الضغوط التي تمارسها على سوريا من أجل سحب قواتها من لبنان".



#كميل_داغر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقدمة الترجمة العربية ل-النبي المنبوذ-، الجزء الثالث من سيرة ...
- مقدمة الجزء الأول من الترجمة العربية ل -النبي المسلح- الجزء ...
- رداً على المجلس الأعلى للثورة الإسلامية أليس من خيار غير الن ...
- كلنا معنيون بمصير الشعب العراقي
- حكومة الموت وطائر الفينيق


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - كميل داغر - اغتيال الحريري وإطلاق الجن قراءة هادئة لشهر هائج