أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - المصطفى الشادلي - الله من التعالي إلى المحايثة: بين ديكارت وسبينوزا















المزيد.....

الله من التعالي إلى المحايثة: بين ديكارت وسبينوزا


المصطفى الشادلي

الحوار المتمدن-العدد: 3797 - 2012 / 7 / 23 - 21:39
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


من الحقائق التي تشهد لنفسها بغير تكلف أن اللحظة الديكارتية تشكل منعطفا كبيرا في تاريخ الفلسفة؛ إذ هي تمثل، أجل تمثيل، لحظة قطيعة مع الفكر السكولائي القائم على خلفية دينية تحكمت في بناء تصوره للوجود، حيث عملت على ربط الفلسفة بالفيزياء الغاليلية، و الاندماج في القطيعة التي دشنها غاليلي مع الفيزياء الأرسطية، و إعادة بناء نظرة جديدة للوجود والطبيعة تقوم على أساس رياضي ينفصل كليا عن الميتافيزيقا الأرسطية والأفلاطونية، حيث الكون مؤسس على التناغم والانسجام، و على تراتبية قيمية؛ لكن بمجيء غاليلي سيقام الوجود على مدماك مبدئي " سقوط الأجسام" و " القصور الذاتي" الذي ظهر حين صارت الأرسطية عاجزة عن تفسير الظواهر.
لقد حول غاليلي المكان إلى سطح هندسي مجرد، عكس التصور الأخلاقي القائم على التناغم في الميتافيزيقا الأرسطية، وانطلاقا من هاته التحولات التي عرفها تصور العالم من تصور قائم على الأخلاق إلى حديث مؤسس على الرياضيات انصرف ديكارت إلى التفكير في هاته التحولات ومحاولة عكسها على المستوى الفلسفي، لذلك ليس من باب المبالغة القول إن الفكر الديكارتي يجد نفسه في الثورة الغاليلية كحدث أعلن انفصال العالم الحديث عن العالم القديم.
تجد إذن الديكارتية نقطة انطلاقها في إدراك العالم إدراكا هندسيا وتؤسس بذلك لطريقة ومنهج جديد في التفكير والنظر تعلن بداية الفكر الأوروبي الحديث، سيتجلى هذا الأمر من خلال " مقال في المنهج" الذي يضع فيه أسس جديدة تنتج العلم وتتحرر من الخطأ. إن هذا المنهج وضع في خدمة الذات المفكرة التي تريد بناء الحقيقة على أساس "الوضوح والبداهة" بوصفه معيارا تعرف به الذات الحقيقة من الخطأ. وأنموذج هذه الحقيقة هو الحقيقة الرياضية لذلك لسنا نتزيد في الكلام إن قلنا إنه لا يمكن أن نفصل " مقال في المنهج" عن الثورة الغاليلية التي قامت بترييض الطبيعة وتحويلها إلى كتاب يقرأ بلغة رياضية؛ بل تعبير جهري عن ضرورة عكس هذا التصور الجديد على مستوى المنهج. وسينبني الوجود عند ديكارت على أساس المادة والحركة فقط، حيث ستخضع الحركة باعتبارها نظاما للعالم إلى مبدأ القصور الذاتي" . .
إن الطبيعة وجود معقول يمكن إخضاعه للعقل بعد أن كانت موجودا حسيا في الفيزياء الأرسطية.
لقد انتقلنا من المنطق السكولائي إلى الاستدلال الرياضي، فتصير بذلك الرياضيات نظاما للعالم، والعملية التي تصير بها الحقيقة أمرا ممكنا. لكن ما هي الضمانة التي يقدمها ديكارت للحقيقة أو لليقين ؟
يؤسس ديكارت تصوره للعالم على مبدأ الحركة، ومبدأ القصور الذاتي، وتقوم الحركة عند ديكارت شأن غاليلي على الفراغ الذي أزاحه أرسطو في تصوره للطبيعة؛ ويضمن هذه الحركة ودوامها وجود " كائن كامل مطلق خالد لامتناهي"، ومرد هذا الأمر إلى أن ديكارت انصرف إلى وضع أسس ميتافيزيقية للفيزياء الغاليلية من خلال فكرة الكائن الكامل خارج هذا العالم (التعالي) الذي يضمن استمرار الحركة وثبات نظام العالم، كما يضمن اليقين. لكن لماذا وضع ديكارت "الله" بعد أن رُيض العالم ؟
إن الله هو فكرة توجد في النفس، تدركها بشكل واضح ومتميز، وتصير هاته الحقيقة هي الضامنة لكل الحقائق التي تنتج عبر عملية الاستدلال الرياضي. لكن الجديد في طرح مسألة وجود الإله هو أن ديكارت لا يتوقف عند فكرة الإيمان بوجود الله؛ بل ينصرف إلى تقديم البراهين على وجود الله. وهي أدلة تتجاوز التراث السكولائي. إن ديكارت يريد أن يلائم فكرة الله الجديدة مع تصور العالم الجديد، بعد أن قُطع مع الأدلة القديمة التي صارت مُتجاوزة. ويكون البدء في إثبات وجود الله من نقطة الكوجيطو كأول حقيقة حدسية تملك اليقين في ذاتها، حيث يؤسس لفكرة وجود كائن كامل لامتناهي انطلاقا من كائن ناقص متناهي، لذلك فإن تحديد الذات المفكرة التي تضم التناهي في جوهرها يحمل حقيقة وجود الله ككائن كامل أزلي، وبهذا ينفصل ديكارت عن الميتافيزيقا الأرسطية التي تلجأ إلى التسلسل العلي اللامتناهي للوصول إلى " المحرك الأول"؛ بل ينطلق من الذات لكي ينتقل إلى كائن مطلق يحمل دليل وجوده في ذاته أي في كماله، لأن الكامل لا يمكن إلا يكون غير موجود (الدليل الانطولوجي). وبوضع كائن كامل لامتناه غير مخادع، يكون ديكارت قد وضع المبدأ الأول لكل معرفة يقينية، بل وضع أيضا أساس اليقين الذي احتاجته الفيزياء الغاليلية. لكن الإله الفلسفي الذي وضع ديكارت يوجد خارج العالم؛ إنه متعالي يمتلك إرادة مطلقة تجعله يخلق متى شاء وأراد من أجل غاية معينة (الغائية)، ويتدخل باستمرار من أجل الحفاظ على الحركة بوصفها نظام العالم(العناية)، وهنا نقطة الاختلاف بينه وبين سبينوزا، الذي ينتقد فكرة التعالي ويذهب مذهب وحدة الوجود، حيث لا يفصل بين الطبيعة والله؛ بل إنه محايث للطبيعة وليس خالقا أو صانعا لها كما يذهب إلى ذلك ديكارت بل إنها عينها الله(الجوهر الواحد).
لم يتخلص ديكارت من الفكر اللاهوتي؛ بل ظل حاضرا في تصوره للوجود حين أعاد تأسيسه على التراتبية والتعالي التي هدمت كل إمكانية لوحدة الوجود؛ بل إن حضور الفكر اللاهوتي في الفكر الديكارتي يتجلى خصوصا في التمييز بين جوهريين(التعدد): النفس(الفكر)، الجسد(الامتداد)، حيث ينقسم الوجود إلى فكر و امتداد؛ والى الله و الطبيعة، و هو ما يتجاوزه سبينوزا في " الإتيقا" بتقديمه لتصور جديد يقوم على فكرة مقتضاها أن هناك جوهرا واحدا هو الله أو الطبيعة، له صفات لامتناهية تعبر عن هذا الجوهر الواحد، ولها أحوال لا متناهية، التي لا تفسد وحدة الوجود رغم تعددها. إننا نجد مفاهيم الجوهر والله والطبيعة تفيد ذات المعنى؛ تفيد الوحدة التي تذوب فيها الاختلافات المعبرة عن الله باعتباره علة محايثة لمعلولاتها. فالمعلولات تنتج بالضرورة من عللها، وهو نفس الشأن بالنسبة للفكرة التي تصدر لزاما من فكرة سابقة بعملية استدلالية. وهنا لا يخرج تصور سبينوزا للطبيعة عن تصوره للحقيقة، التي لم تعد تمثل شيئا خارجيا أو تحيل عليه، بل هي تمثل الفكرة؛ وحدها تملك اليقين في بداهتها ووضوحها التام؛ مستقلة بذاتها، وهو ما يمكن أن نقوله على الصفات التي لا تحتاج إلى شاهد خارجي.
لقد فهم سبينوزا الطبيعة كفكرة رياضية مستقلة تملك الحقيقة في جوهرها، فنفي بذلك كل تعالي يوجد خارج الطبيعة يملك إرادة مطلقة تدفعه إلى الخلق بحرية. لكن وجب الإلماع هاهنا أن فكرة الله رغم اختلاف تحديدها فان الفيلسوفين يؤسسان المعرفة ونظام الوجود على فكرة الكائن اللامتناهي؛ غير أن هذا الكائن ليس بمكن الذات أن تدركه عند ديكارت في مقابل سبينوزا الذي يعترف بأنها الفكرة الأكثر معقولية، لأن كل ما هو موجود قابل لأن يعقل ويدرك.
يريد إذن سبينوزا ضرب التعالي الديني من خلال فكرة وحدة الوجود، التي تقول بوجود جوهر واحد في هذا العالم، المجرد من صفة الخلق المطلق، حين صار ضرورة نابعة من طبيعة الله، لأن لا شيء يوجد عرضيا؛ بل كله يسير وفق نظام يخضع إلى الضرورة الإلهية، ويوجد من خلال الله، وبذلك يتلافى الحديث عن الاختلاف والتنوع؛ بل هناك وحدة(الجوهر)، تتبعها كل الموجودات ضرورة ولزاما وليس اعتباطا أو عرضا.
لقد ربط سبينوزا بين الضرورة والطبيعة الإلهية، وجعل ماهية الطبيعة هي الضرورة، ويفيد هذا أن للطبيعة نظاما ثابتا ليس فيه مجال للصدفة أو العرضية؛ و إنما العقل البشري عليه أن ينظر إلى الوجود من خلال هاته الضرورة. ومعنى هذا أن لا وجود لشيء أو قوى ميتافيزيقية تتحكم في الطبيعة تكون خارجة عنها؛ بل إن قوانينها متضمنة فيها. ولعل هذا أجل تمثيل للعلم الحديث الذي يقوم على فكرة الحتمية حيث لا مجال للصدفة أو الأمور الشاذة الخارجة عن الطبيعة بل إنها مسيرة من طرف قوانين معقولة يمكن للعقل كشفها.



#المصطفى_الشادلي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الديمقراطية كنظام للحرية عند سبينوزا
- الدولة والدين عند سبينوزا


المزيد.....




- ولاية أمريكية تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة
- الملك السعودي يغادر المستشفى
- بعد فتح تحقيق ضد زوجته.. رئيس وزراء إسبانيا يفكر في تقديم اس ...
- بعد هدف يامين جمال الملغى في مرمى الريال.. برشلونة يلجأ إلى ...
- النظر إلى وجهك أثناء مكالمات الفيديو يؤدي إلى الإرهاق العقلي ...
- غالانت: قتلنا نصف قادة حزب الله والنصف الآخر مختبئ
- بايدن يوقع قانون مساعدات كبيرة لأوكرانيا والمساعدات تبدأ بال ...
- موقع أمريكي ينشر تقريرا عن اجتماع لكبار المسؤولين الإسرائيلي ...
- واشنطن.. التربح على حساب أمن العالم
- السفارة الروسية لدى سويسرا: موسكو لن تفاوض برن بشأن أصول روس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - المصطفى الشادلي - الله من التعالي إلى المحايثة: بين ديكارت وسبينوزا