أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - شجرة الزيتون














المزيد.....

شجرة الزيتون


محمد أيوب

الحوار المتمدن-العدد: 1108 - 2005 / 2 / 13 - 10:58
المحور: الادب والفن
    


جاء فصل الشتاء ، وتساقط الثلج ليكسو الأرض بلباس أبيض يعطيها من الوقار ما للحاج في ملابس الإحرام ... تعود الناس في مثل هذه الأيام من كل سنة أن يلزموا بيوتهم سعيا وراء الدفء المتناثر من عيون المدفأة ، لكن أبا حامد يأبى إلا أن يعلو بعزمه وهمته فوق الكسل والرغبـة في الخلود إلى الدفء والراحـة ، يخرج كل يومٍ متوجهاً إلى حقله ليمارس أحلى وأحب عمل ترتاح إليه نفسه .
أبـو حامـد هذا ينتزع السنين من فم الزمن حتى بلغ ما انتزعه من بين أنياب الزمن سبعين عاماً وبضعة شهور ، ومع ذلك فهو يعمل بكفاءة الفتيان وقوة الشباب ... يستيقظ في الصباح الباكر قبل آذان الفجـر ... يتوضأ ليصلي الصبح حاضراً في مسجد القرية الذي يبعد عن بيتـه بضع مئات من الأمتار ليعـود إلى البيت متجدد النشاط منشرح الصدر ولسانه يردد : سبحان من أصبح الصباح ... سبحان من أصبح الصباح .
الحقيقة أن أبا حامد يعـرف الكثير من التفاصيل عن قريته ... عاداتها ، تقاليدها .. حتى أسماء رجالها ونسائها وأطفالها .. كان بينه وبين قابلة القرية قاسم مشترك يشدهما إلى بعضهما من هذه الناحيـة كما إنه ملمُّ بكل معالـم قريته .. مرتفعاتها ، حجارتها ، منحنيات ومنعطفات طرقها فهو أول من يستيقظ من أهل القرية وآخر من ينام .. صحيح أن الزمن بدأ يحفر الأخاديد في وجهه كتلك التي يصنعها كل سنة حول أرضه لحمايتها من العاديات .
يركب أبو حامد دابته بعد أن تكون أم حامد قد أعدت له زاد يومه وفأسه ويتجه إلى أرضه التي طالما أحبها حتى أصبح وكأنه امتداد أبدي لها ، لا يريد أن ينتهي ، أن يفني أو يتلاشى !! ... يصل أبو حامـد إلى حقله ويعلق كيس الطعام على أحد فروع شجرةٍ من أشجار الزيتون هي من أقرب الأشجار إلى نفسه ، إنها تقف بأنفة ، لم يجدها في غيرها من الأشجار ، أمام البرد القارس ، على الرغم من تقدم الزمن وعلى الرغم من أن قشرتها بدأت تغزوها الأخاديـد والشقوق تمامـاً كوجهه المتجعد.. لكنها ما تزال شامخةً عاليةً كأنها تتناول كأسا من زيت الزيتون، تماماً كما يفعل هو كل صباح منذ أن عرف القرية وعرفته ، كيف لا تقف شامخةً والزيت يجري في عروقها يعطيها الدفء والمنعة أمام قسوة البرد وطغيانه .. ؟!
الأرض في الناحية الشرقية تحتاج إلى عزق وتقليب ، خاطب أبو حامد نفسه ثم بصق في يده ، فرك يديه إحداهما بالأخرى ، أمسك الفأس بيديه ورفعها ليضرب بها بطن الأرض وكلمة هه تنبعث من صدره بانتظام كأنها حبل العزيمة ينساب من فمه بلا انقطاع أو ملل وما أن يحين موعد صلاة الظهر حتى يتجه نحو زيتونتـه المحبوبـة ليركن برأسه إلى ساقها وكأنه أمه رحمها الله ، لقد ولدته أمه تحت هذه الزيتونة بلا قابلة كما كانت تحدثه .. لفته في قطعة من القماش ثم عادت إلى عملها مباشرة ، والفضل كله يرجع إلى زيت هذه الزيتونة ، لها عليك يا ولدي مثل ما لي عليك وربما أكثر ، تحتها نمت أحلى فترات حياتك ومن أغصانها تدلت أرجوحتك.. تحتها لعبت وتحتها سمعت منك الدنيا أول صيحة تعلن بها عن قدومك إليها وكانت أغصانها أول ما فتحت عليه عينيك ، كما كان ساقها أول شئ تداعبه يداك ... أبوك أيضا ولد تحتها يا ولدي !!
تذكر أبو حامد كلمات أمه ، كانت لا تزال حية في ذاكرته ، وكأن أمه لم تمت بعد وصدى هذه الكلمات يتردد في أذنيه.. مال بفمه ليقبل ساق الزيتونة وكأنه يقبل محبوبة افتتن بها أيما افتنان وعشقها أيما عشق .. تناول أبو حامـد طعامـه وصلى الظهر ثم وضع حذاءه تحت رأسه ، حاول أن ينام بين قطعتين صخريتين كانتا تصنعان مع الزيتونة ما يشبه أن يكون بيتا.. الأرض تهتز من تحت رأسـه وصوت هدير ضخم آت من جهة القرية .. ترى ماذا يحمل هذا الهدير من معاني؟ .. خيراً يحمل أم شراً .. بقي أبو حامد مع ذلك مستلقياً على جانبه ورأسه لا يزال فوق حذائه .
وقفت سيارة جيب بالقرب من أبي حامد ،نزل منها بعض الرجال بملابس إفرنجية ونظارات سوداء تغطي عيونهم.. انطلقوا يمينا ويسارا يقيسون ويتراطنون بلغةٍ لم يفهمها ، يدقون علاماتٍ هنا وعلامات هناك .. في الأرض ، وعلى بعض الأشجار كتبوا بالطلاء الأسود خطوطاً لا يعلم لها معني ... اعتدل أبو حامد وكأن هاجساً مخيفاً مر به .. ثم انتصب قائما كالقدر وانطلـق نحو زوار أرضـه الذين يزورونه بلا سابق معرفة أو ميعاد وصاح : ماذا تريدون وما هذه العلامات التي تدقونها في أرضي ؟
رد عليه أحدهم باستغراب : أرضك ؟!!
جن جنون أبي حامد : نعم أرضي.. ألم تسمع ؟ قلت لك أرضي .
قال الصوت المستغرب : لكن يا شيخ، هل هذه الأرض مسجلة باسمك في الطابو؟
أجاب أبو حامد بانفعال : اسأل هذه الزيتونة .. اسأل تراب الأرض .. شم رائحته .. إنه ممزوج بعرقي ، وأمسك قبضة من طين الأرض وقربها من أنف مخاطبه مردداً :
شم رائحة الطين ... اسأل عظام يدي تنبئك كم انتزعت من صخور هذه الأرض حتى أصبحت بهذه الحالة ...اسأل هذا الجلد الميت في راحة يدي من كثـرة ما ضربت بطن هذه الأرض بفأسي .
قال الصوت : أوه ... ألم تسمع كلامي ؟ لا تكثر من الكلام .
تمتم أبو حامد في سخط كلمات في سره : ملعون أبو الزمن .. قال طابو قال ، ثم تساءل : ولماذا الطابو وقبر جدي وجد جدي هناك على بعد أمتارٍ منكم ... ألا يكفي هذا ؟... هذه الزيتونة عمرها أكثر من مائة عام ... عرفت معظم أفراد أسرتي اسألوها .
أجاب الرجل : كل هذا لا يكفي .. على كل حال ستبـقى لك قطعة صغيـرة من الأرض الصخرية هناك .. يبدو أنك نسيت أن تنتزع صخورها !! أما هنا فسيكون طريق واسعة .. سنقتلع هذه الزيتونة ، هذه المائة عام التي تدعي من مخيلتك ... وستكون هناك مستوطنة كبيرة يعمل في بنائها أبناء قريتكم ، وهكذا تـرى أن ما نفعله إنما هو لخير القرية كلها يا شيخ .
بصق أبو حامد على الأرض هذه المرة وهو يتمتم : ولكن الزيتونة هي كياني .. حياتي التي كنت انتزعها انتزاعا من بين أنياب الزمن ...
انكفأ أبو حامد على ظهر دابته وصدره يتحشرج وقطرات الدم تسيل من زاوية فمه وعيناه محدقتان في الأفق البعيد .



#محمد_أيوب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الموت المجاني
- حركة فتح على مفترق طرق
- أين وزارة المالية الفسطينية مما جرى في حي الأمل
- نعم لسيادة القانون في فلسطين
- القراءة في المجتمع الفلسطيني بين العوائق وعوامل التشجيع
- أمنيات مواطن فلسطيني غلبان
- الزمان والمكان في القصة القصيرة
- البرامج الانتخابية لمرشحي الرئاسة بين التشابه والاختلاف
- من دفتر الاجتياح
- جدار السلام هو الضمانة الأكيدة للسلام
- قراءة نقدية في ديوان - تأملات الولد الصعلوك - للشاعر : باسم ...
- العناصر الفنية في القصة القصيرة
- ملاحظات حول القانون رقم 5 / 96الخاص بانتخابات المجالس المحلي ...
- الذاكرة المثقوبة
- انتخابات الرئاسة في فلسطين والحملة الانتخابية
- الصعوبات التي تواجه المثقف الفلسطيني
- ورقة عمل حول الإصلاح الوطني والتغيير الديمقراطي
- الأزمات الداخلية في التنظيمات الفلسطينية
- ما وراء النص في ديوان - البدء ... ظل الخاتمة - للشاعر توفيق ...
- الزمن في بعض الروايات المحلية


المزيد.....




- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد أيوب - شجرة الزيتون