أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بشرى البستاني - زمنية التشكيل الشعري .. مقاربة في ديوان خليل حاوي















المزيد.....



زمنية التشكيل الشعري .. مقاربة في ديوان خليل حاوي


بشرى البستاني

الحوار المتمدن-العدد: 3687 - 2012 / 4 / 3 - 00:35
المحور: الادب والفن
    



شكل الزمن في حياة الإنسان وما يزال تلك القوة الخارقة التي تفعل بخفائها وغيابها ما لم يستطع شيء أن يفعله بالحضور، ذلك الزمن المتجبر الذي وقف الإنسان أمام تدفقه متوجسا، طافحا بالحيرة، أنكره مرة وحاول أن يفسره مرات لكنه ظل في هذا وذلك يشعر بالإرهاق أمام هذه القوة المهيمنة التي لا يراها ، ولا يستطيع الإحساس بها، لكنه يبصر آثارها فيه وفيمن حوله، وليس من شك في سطوة الزمن إذن، كونها سطوة تحتوي ولا تُحتوى، إن كل شيء يجري فيها ومن خلالها، وفي سلطتها إلا اللغة، هذه القوة الخلاقة التي تمكنت بما أوتيت من جبروت الاحتواء وسلطة الإشارة، وإفصاح العلامة وعظمة الذاكرة من احتواء الزمن وأحداثه وأشيائه، فكان بذلك أن حفظته من الضياع والفقدان والتضليل، ليس هذا حسب، بل هي التفتت في أهم التفاتاتها خطرا إلى التعبير عن الزمن الشعوري للأديب، ملتقطة إياه في أدق حالاته سلبا وإيجابا، صدودا ووصلا، أملا ويأسا، فكان أن خلدت لحظاته وعبرت عنها أدق تعبير، ولاسيما حين كان ذلك التعبير شعرا، إذ أصبحت مهمة الشاعر هي مساعدة الإنسان على تحقيق الانسجام في ذاته وفي الكون، وهو في مهمته هذه كان يعمل على دحر خطية الزمن الموضوعي من اجل تجاوز تلك الخطية وتحويلها إلى شبكة من الأفعال القصدية التي تتضمن التوتر والاستبقاء والترقب لكن ليس بصورة تسلسل أو تصاعد او اطراد، وإنما بترابط وتواشج حيث يمتزج بعضها ببعض بصورة متشابكة ودينامية.. فالزمن الشعري هو الزمن الإبداعي الذي يخلقه التوتر الحاد ما بين زمن الذات والزمن الموضوعي (1) في حياده واستمراريته التي يخلق تكرارها الملل والانتظام الساكن في الوجود حينما يحيل على الاعتيادي النمطي، على زمن الآخرين بفعلهم الأفقي الرتيب بينما يتوهج الزمن الشعري باذخا بالق الفن ودهشة الإبداع ليخرج باللغة من أطرها المحدودة إلى غير المحدود ومن المقيد إلى المطلق. إن انفجار زمنية العصر الحديث أوجبت على إنسانها فهما خاصا للزمن، إذ أصبح كل فرد يحمل على عاتقه نظامه الزمني الخاص به، بحيث صار اخذ الزمن مأخذ الجد هو من النغمات الأساسية للحداثة، وعليه يصح القول أننا بمواجهة مشكلة الزمن نستطيع ان نفهم معنى الحياة وان يكون لدينا منظور صحيح للواقع، فمشكلة الفن لا يمكن ان تواجه الا من خلال مواجهة مشكلة الزمن ولا سيما في فنون زمنية كالشعر والموسيقى، ذلك ان العلاقات المركبة من قيم الزمن المختلفة عند القارئ والكاتب تنتج بنية شديدة التعقيد، حرجة التوازن، (2) وتلك كانت مشكلة خليل حاوي الزمنية كما هي مشكلة قارئه وهو يحاول فهم الزمنية المسيطرة على شعره والتي حركت نصوصه بعنف وحدة.

***
يكاد يجمع قراء شعر حاوي على أن المحرك الأول لخطابه الشعري هو محرك حضاري رؤيوي يحمل أعباء عصر مأزوم بواقع تتقاذفه تناقضات شتى تلعب فيها عناصر داخلية وخارجية معا لعبة استلاب خطيرة، قدر لها أن تظل في مد وجزر حتى يتفاقم أمرها، فلا يجد الشاعر خلاصه من احتدام شرورها إلا بالموت، على الرغم من مقاومة عنيدة لواقع موضوعي كانت سوداويته تمد الذات دوما بأبعاد تشاؤمية مشحونة برفض حاد لعوامل الفساد، مما جعل زمنية هذا الشعر زمنية كثيفة متداخلة عصية على الفرز والتأشير، اذ يتداخل في نصوصه الزمنان.. السلبي والايجابي، حتى في أكثر القصائد قدرة على النهوض بأحد الزمنين، وهكذا لجأ خليل حاوي الى زمن الرموز، ولجأ الى الأسطورة في محاولة بطولية لمجاهدة رتابة الزمن ورتابة التعبير والأشكال الشعرية التقليدية، فكان هذا الشاعر بحق الرائد الذي بذل جهدا خلاقا من اجل تجديد الشعر العربي وتحديث طرائق أدائه، وتحويله من مرحلة المخاض إلى مرحلة فنية أكثر تطورا وانفتاحا، فكان أداؤه الرمزي والأسطوري، وكانت القصيدة الطويلة التي نحت بشعره منحى دراميا وحاولت بنجاح أن تخرج على خطية زمن الشعر التقليدي في تلك المرحلة، متجاوزة السكونية إلى حركية تشكيلية تموج بالرؤى الواعدة والطافحة بالأمنيات من خلال وحدة عضوية ميزت شعره فقد تواشج في قصيدنه الفكر والحدس من اجل تنظيم تلك التجربة الفنية في سياق نموها الكلي، وانتشال الواقع من حدوده الضيقة لتشكيله تشكيلا رمزيا، فضلا عن أنسنة الجوامد والعناصر وإضفاء الحياة على كل مالا حياة له، واللجوء إلى الأسطورة سببا لربط الماضي بالحاضر والحقيقية بالخيال والجزئي بالمطلق، وتوسيع الافتراض في المقاصد المتناهية مع سمة اخرى مهمة في الشعر هي إحداث الدهشة بالمنطق المتماسك واكتشاف الغريب يالمفاجأة الواعية وقتل الصدفة في التداعي وإحكام تنزيلها في هندسة العمارة المتكاملة، حيث تتحد الفطرة بالتحضر بحيث لا يستسلم هذا الشعر لعامل الصوت وجرسه، وإنما يقرأ في رؤية المتقصي فلا يدرك إلا بالمعاناة (3) من خلال زمنية جديدة تخلصت من آلية التعبير القديمة واعتمدت في غوصها الوجودي على تجسيد التمزقات البشرية الموجعة (4) لكن مقومات الثقافة كالأسطورة والفنون والفلسفة والأديان يمكن ان تفهم بوصفها محاولات للنشاط المناقض لطبيعة الزمن، لأنها بحث يعتمد على الواقع غير المتلاشي وعلى وسائل اتصال الإنسان نفسه بهذا الواقع، وما يسمى علاقة الإنسان بالكون إنما يعني في المقام الأول تكيّف الإنسان مع أهم عامل من عوامل الكون كنظام متناغم مع ذاته ، ألا وهو معايشته دواخله، أي تواجد الإنسان في الزمن.. (5) لكن هذا التكييف لا يسير بالإنسان دوما على ما يرام، لان القدرة على التكيف هي الأخرى محكومة بشروط انسانية شتى لعل في مقدمتها طبيعة الإدراك الزمني للظروف المعيشة التي تشكل طبيعة الحياة النفسية للإنسان في صميم مستوياتها الداخلية في مرحلة معينة، هذه الطبيعة التي تستجيب لانفعالها الدائم بما حولها من تجارب محكومة بالتلاشي مرة وبالتجدد والاستمرار أخرى، هذا التجدد الذي لا يؤول الى التحقق الا في اللحظة الآنية المتمظهرة بين زمنين أولهما لم بعد موجودا هو الماضي، وثانيهما فراغ لم يتحقق بعد، وبين هاتين اللحظتين ينهض الحاضر، ذلك المقطع الحاد من الزمن حسب أنجاردن الذي لا يحتوي حياتنا المعاصرة حسب بل واكثر من ذلك حيث يتمركز فيه قوام انسانيتنا ... الأنا.(6)
من هنا فقد شكل الحاضر المأزوم في شعر حاوي لحظة زمنية حادة لم يستطع الفكاك من قهرها حتى في ثنايا شعره الانبعاثي وهو يتوهج إبداعا وتطلعا نحو الغد، وستحاول هذه القراءة تقسيم الزمن في النص على ايجابي حركي انبعاثي وزمن سلبي ساكن تجنبا لنمطية تقسيم الزمن تقسيما تقليدياً.
ان تجلي الشاعر في قصيدة (الجسر) يعلن عن شعر مستقبلي طافح بنشوة زمنية يتألق مطلعها بروح التفاؤل والتواصل: (7)
وكفاني أن لي أطفال أترابي
ولي في حبهم خمر وزادْ
من حصاد الحقل عندي ما كفاني
وكفاني ان لي عيد الحصاد
أنَّ لي عيدا وعيد
كلما ضوأ في القرية مصباحٌ جديد
غير اني ما حملت الحب للموتى
طيوبا، ذهبا، خمرا، كنوز
ان ما يلفت النظر في مثل هذا المقطع تلك القدرة المدهشة على اللعب الايقاعي بالتركيب اللغوي بحيث امتلك هذا اللعب الفني استراتيجية خاصة في التقديم والتأخير، حتى صار هذا الانحراف هو القاعدة التي استغرقت الأسطر بحيث لم يرد تركيب عبر المطلع إلا وفيه خروج على النسق المعياري، وفي ذلك زمنية شعرية متوهجة، تتحرك بحرية أخاذة معلنة عن فرح الإبداع بقدرته على تحريك العالم من خلال الوعي بحركية اللغة الشعرية وجدلية اسرارها، فجاء التركيب منتشيا بزمن الطفولة والخمر والحصاد واستمرارية روح الاعياد من خلال العطف المباشر. ان الخبن في تفعيلة الرمل الأولى: وكفاني في السطرين الأول والرابع بحذف الثاني الساكن وتحويلها من فاعلاتن (-ب- -) الى فعلاتن (ب ب - -) هو اختصار زمني ينسجم مع الزهد المتضمن في دلالة الفعل (كفاني)، لكن المقطع الشعري يعود إلى التفعيلة السالمة التي تأتي منبسطة بحركاتها وسكناتها التامة عبر زمن انبساطي يوحي بالفرح والطلاقة والانسجام الذاتي حتى السطر السادس حيث يعاود زحاف الخبن فعله حينما يحتاجه التعبير إذ يتحول العالم في نظر الشاعر الى قرية صغيرة، وحينها يتحول زمن هذا الواقع الأليف الصغير من ذلك الزمن الطليق الى زمن محدود في ذاته وفي اهله، فيعود الاختصار الزمني بحذف السواكن من التفعيليتن في سطر واحد
كلما ضوأ في القرية مصباح جديد
إن امتداد نصوص خليل حاوي في تشكيلات البحور الصافية يعطي إحساسا بامتداد الزمن وطلاقته، انه ينسج حركاته وسكناته في وحدة إيقاعية واحدة عبر البحور الصافية، والإحساس بإيقاعية هذا النظام الصافي اثبتُ لدى المتلقي من الأنظمة المركبة ، والنصوص إذ ترد في هذا التشكيل من البحور فإنها تشعرنا بزمن غنائي ممتد عبر صوت شعري يتسم بالحدة والصفاء ، لكن هذا الصفاء الإيقاعي لا يغفل عناصر القصيدة الأخرى في بنائها ونسيجها، وفي صورها وأخليتها ولان الإيقاع تنسجه الزمنية فان ذلك يعمق الإحساس بالزمن، فالإيقاع في الشعر ينقلنا الى زمن آخر، زمن خاص يفصله عن الزمن النثري الرتيب الذي يكابده في الحياة الى زمن مفعم باللحظات الروحية وبدرامية الحواس وحواريتها مع اشياء العالم.. (8) وهو زمن يستمد فاعليته وحركيته العارمة من تمرده على سكونية الزمن المنساب والمتسلسل ، كونه زمنا لحظويا مغايرا صوفيا متقلبا تقلب انفعالات الشاعر وأحاسيسه .
إن التكرار في النص وبكل مستوياته يعمل على تحريك فاعلية الزمن، فهو ينشأ من معاودة لحظة شعورية قبل ان تستأنف الذات سيرها في خط إبداعها الأفقي للزمن الشعري، وهو ينتج عن عوامل متداخلة يمكن إرجاعها أولا إلى الرغبة في تحقيق إشباع شعوري في لحظة زمنية ثابتة، ويمكن إرجاعها ثانيا إلى الرغبة في محاولة تحقيق قدر من التناغم والتآلف الموسيقي اللذين يثريان الجوانب الإيقاعية والدلالية للقصيدة..(9) لذلك نُظر اليه على انه تناظر زمني يقابله في الطبيعة توقف الحركة أمام حاجز ما ثم استئنافها من جديد، وجماله قائم في لذة الانتظار لما يستبق حدوثه…(10)
إن التكرار في الشعر يعمل على معاودة كتل زمنية ثابتة في التكرار المتماثل، وملونة في التكرار الذي يصحبه تغيير ما، وينوع حاوي تكراره عبر النص، فيكرر المفردة ويكرر الجملة، وتفصح مقاطعه عن تجمعات صوتية لحروف بعينها، وهو يبدع في اللعب بتكرار الجمل والتراكيب من خلال التلوين والحركية بحيث يعمل تكراره على توفير نوع فني من التماسك وشد أطراف النص بفتنة وجمال يفصحان عن موهبة واقتدار، انه يكرر الفعل (كفاني) في المطلع ثم يعاود تكراره في نهاية النص باعتماده بناء دائريا، ويكرر مجموعة جمل ذات اهمية دلالية عبر أكثر من سطر:
-أين من يفني ويحيي ويعيد
يتولى خلقه طفلا جديد
-أين من يفني ويحيي ويعيد
يتولى خلق فرخ النسر من نسل العبيد
فهو يكرر بتلوين وتنويع تارة، وبمماثلة أخرى حينما يريد الضرب على دلالة بعينها:
-أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
أو ينوع في التكرار تنويعا حركيا
في ليالي الثلج والأفق رماد
ورماد النار والخبز رماد
ويمكن ملاحظة تكرار صوت (الدال) في المقطع الأول وما فيه من قوة وانفجار لتأمل اهمية انبثاق الدلالي من المستوى الصوتي والايقاعي وما تتيحه التجمعات الصوتية من تماثل زمني وتغاير ادائي توجهه البيئة الصوتية التي تكتنف الحرف المكرر.
وإذ ينتهي المطلع من زخة الفرح والإطلال على المستقبل من خلال رموزه: الأطفال، الحصاد، المصباح الجديد، ينعطف النص نحو التنديد بجمود المعرضين عن زمنهم، والمستسلمين لزمنية آفلة، والمغمضين عن ضرورة البعث والحياة:
طفلهم يولد خفاشا، عجوز
أين من يفني، ويحيي ويعيد
يتولى خلقه طفلا جديد
غسله بالزيت والكبريت
من نتن الصديد
اين من يفني، ويحيي ويعيد
يتولى خلق فرخ النسر
من نسل العبيد
أنكر الطفل أباه، أمه..
ليس فيه منهما شبه بعيد..
ماله ينشق فينا البيت بيتين
ويجري البحر ما بين جديد وعتيق
ان انثيال الأفعال المضارعة ذات القدرة على التواصل والاستمرار الزمني يوحي بتمركز النص حول الحاضر وحتى الأفعال الماضية التي حضرت في النص كانت تنجذب في دلالتها نحو الحاضر او هي مؤازرة لتقنية السرد كما هي مهمة الفعل (كفاني..) إذ كان حضور المضارع في قصيدة (الجسر) (28) فعلا بينما حضر الماضي (13) مرة مما يؤكد أن هموم الحاضر هي التي جعلت زمنية الفعل المضارع مهيمنة في النص وفي معظم شعر حاوي، على أن هذه الأفعال لا تعكس زمنية أحادية بل هي تتضمن زمنية درامية لأنها تضج بصراع كامن عنيف، وتوحي برفض حاد لزمنية هذا الواقع الذي يكابد منه الشاعر ويتعذب فيه:
كيف نبقى تحت سقف واحد ..؟
وبحار بيننا، سور
وصحراء رماد وجليد
ومتى نطفر من قبو وسجن
ومتى رباه نشتد ونبني
بيتنا الحر الجديد ..؟
بهذه الاستفهامات الضاربة بالألم والمواجد من خلال (كيف) والاستفهام الإنكاري من حال زمنية الواقع، ومن خلال ظرف الزمان المستقبلي.. (متى..) الطافح بالشوق والتعجل يتطلع الشاعر الى بناء زمنه الجديد الذي يرنو الى مغادرة سكونية الرماد والجليد وظلام القبو والسجون من اجل امتلاك رؤية خلاقة تفتح طرقها الخاصة وسط الركام، وتبصر الحقيقة المطلة على غد تتحرك فيه خيول الإنسان نحو الشمس. إن الفعلين (نشتد ونبني) المسندين الى ضمير الجماعة، والدلالات المتمركزة في الدوال: بيدينا، بيتنا الحر الجديد.. تحيل كلها على عمق الرؤيا العبورية – الانبعاثية التي تكمن في النص، تلك الرؤيا التي تصل ذروتها في المقطع اللاحق:
يعبرون الجسر في الصبح خفافا
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
الى الشرق الجديد
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
ان حركية الزمن الكامنة في الفعل المستمر (يعبرون..) الممتد من زمن ساكن داكن لانه زمن (مستنقع..) إلى زمن الرؤى الجديدة، ما تلبث الشعرية ان تحولها إلى تزامنية كثيفة في مفردتي (جسرا وطيد..) حيث يتمظهر الزمن الثوري في قوة جبارة متمركزة في المكان والزمان وقادرة على التحويل والنهوض بمهمة العبور. ان كل مفردة في هذا المقطع استطاعت ان تحقق علاميتها بفاعلية قصوى، ان في الدال (يعبرون) دلالة كامنة على فضاء مكاني مطلق، يمارس عبوره على الجسر الذي يشكل علامة تواصل شاملة يضفي عليها دال (الصبح) زمنية مشرقة، ان هذا التماسك التشكيلي في شعر حاوي ليس سوى تأليف إبداعي للزمن، تأليف يستخرج من تشعب التجارب كلا زمنيا موحدا إذا جاز لنا استعارة كلام ريكور عن الخيال الإبداعي، إذ ليست قدرة الخيال على تصوير الزمن في رأيه بالفن الخفي المخبوء في أعماق الروح، لان الإنسان وحده من بين الموجودات يصر على تحقيق الترابط مع الحياة، ويبحث عن التماسك فيها.. (11) وفي الانعطافة ما بين يعبرون – وأضلعي، ما بين ضمير الجماعة وضمير المتكلم – الشاعر المؤثر المخلص، يكمن زمنان لا يلبثان ان يلتقيا في نهاية المطاف لأنهما يحملان معا هاجس الوصول نحو هدف واحد: الشرق الجديد،لكن قصيدة (الجسر..) لا تنتهي عند هذا الحد المتوهج لان مونولوجا حزينا يداهم النص، مونولوجا يفاجئ انسيابية الزمن بهواجس طافحة بالانكفاء ومشاعر الإحباط، إذ يتداخل الزمن السلبي المشبع بسوداويته بزمن الانبعاث:
سوف يمضون وتبقى
صنما خلفه الكهان للريح
التي توسعه جلدا وحرقا
فارغ الكفين مصلوبا وحيد
اذ تتحول الحركة الى سكون، والطلاقة الى جمود، والشاعر المشتعل بأحلامه الى صنم تتقاذفه الريح، والريح صورة للزمن القاهر المتسلط، وحيث يصير دفء الليالي ثلجا وتفقد كل الاشياء الدافئة جدلها مع الحياة، يتحول الزمن الى بطء قاتل ورتابة ونمطية اذ تسير اللحظات سيرا افقيا:
جامد الدمعة في ليل السهاد
ويوافيك مع الصبح البريد
صفحة الأخبار كم تجترُّ ما فيها
تفليها.. تعيد
تلك هي سوداوية خليل حاوي التي لم تستطع دهشة الفن ولا جماليته أن تدحرها لينعم الإنسان / الشاعر بفرح الإبداع ، ان الأفعال: تجتر، تفلي، تعيد ، يؤازرها جمود الدمعة، وليل السهاد تعمل جميعها على الإفصاح عن بلادة الزمن وعجزه وثبوت اللحظات وثقلها المأساوي الذي تكمن فيه سوداوية نفسية عميقة تنحسر أمامها روح المقاومة التي تشيع في النص، كما تنسحب بذور الخصب الى الوراء، لكن الشاعر ما يلبث ان يفطن لهذا الانحسار فيستدعي طاقته على النهوض بوجه عوامل الإفقار صارخا بتصميم :
إخرسي يا بومة تقرع صدري
بومة التاريخ مني ما تريد..
ذلك لان الشاعر يعي ان جمود الزمن في الحاضر وانغلاقه عليه انما يعني تغييب المستقبل وتعطيل حضوره وحتى الماضي الحركي الذي يعد فرارا من حجرية الحاضر لم تكن العودة اليه او استعادته امرا سهلا ، لان سكونية الزمن الحاضر قد أوصدت كل طرق الخلاص. ان الداخل في زمنية شعر حاوي يجد انه زمن كثيف عصي، لكنه يدرك بوضوح كذلك ان ذلك الزمن حتى في حالات سلبه انما هو زمن لا يكفُّ عن التوهج بإبداعه التشكيلي،هذا الإبداع الذي تنهض به لغة مقتدرة واعية بأدواتها المعرفية وبأسرارها الجمالية وبروح فنها الرفيع، فزمن قصيدته في ابسط تشكلاته زمنان: زمن الذات الخاص وهو زمن شعري يتداخل فيه أكثر من زمن ويلعب في أكثر الاتجاهات مكابدة ولوعة، وهذه الاتجاهات تستأثر بالشخصي – الذاتي في أكثر الأحيان، وهذا الشخصي كثيرا ما يضمر بعدا قوميا يحاور قهر الأمة وأوجاعها وانكساراتها، وهكذا يظل التشكيل متألقا بإبداعه ، محولا اليأس والقبح الموضوعي الواقعي الى جمال فني وهو يتشكل شعرا ، لكن زمن خليل الانسان يظلُّ يلعب على شرط كثيرا ما يبدو فيه الموضوعي منكسرا ومنكفئا ولذلك يتشكل خطابا معلنا عن إحباط إنساني، تمتزج فيه أزمنة متباينة متوترة، ومأزومة بملامحها وأساطيرها ورموزها وأساها، وبتراث ديني إنساني يموج داخلها فتشكيلة الابداع إذ تتوهج بادواتها فانها تتضمن انكسار الواقع وتلهج به، وتبث إحباطه، وإلا فكيف عاد لعازر هذه العودة الأسطورية المفارقة لحقيقة البعث: (12)
يرتمي خلف مدار الشمس
ليلا من رماد
وبقايا نجمة مدفونة خلف المدار
صلوات الحب والفصح المغني
في دموع الناصري
أترى تبعث ميتا
حجرته شهوة الموت
ترى هل تستطيع
ان تزيح الصخر عني
والظلام اليابسَ المركومَ
في القبر المنيع
رحمة ملعونة أوجع من حمى الربيع
وهكذا يفارق لعازر طبيعة بعثه الحقيقي حينما يتحول البعث في النص إلى موت مرعب يخلق إشكالية زمنية أبشع من اشكالية الموت ذاته، فالأشياء والظواهر تبدأ هي الأخرى بالانحراف عن طبائعها، فالبرق والشوارع والشمس والثمار كلها دوال لها طرق اشتغالها التفاؤلية في اللغة، لكن زمنية الذات المأزومة بمحنة الواقع حولتها جميعا إلى زمنية غارقة بالسلب والانفصال والعذاب الطافح بالمرارة:
كيف يحييني ليجلو..
عتمة غصت بها أختي الحزينة
دون أن يمسح عن جفنيَّ
حمى الرعب والرؤيا اللعينة
لم يزل ما كان من قبل وكان
لم يزل ما كان : برقٌ فوق رأسي يتلوى أفعوانْ
شارع تعبره الغولُ
وقطعان الكهوف المعتمةْ
مارد هشم وجه الشمسِ
عرّى زهوها عن جمجمة
عتمة تنزف من وهج الثمارْ
ان هذه المقاطع تنضح بزمن يوحي عبر التشكيل بعدمية مُرة : فبعث الميت، وحجرته ، شهوة الموت، وإزاحة الصخر، وما في الصخر من مكابدة زمنية طويلة ومتراكمة ليصير صخرا، وكذلك المعاناة الكامنة في الظلام اليابس المركوم في القبر المنيع مما يعمل على مضاعفة اليأس الناجم عن اندحار مظاهر الحياة بتحولها إلى أضداد مفاجئة، فالبرق الذي هو لحظة نور ومبعث خصب يتحول إلى..... افعوان
والشارع رمز العبور الانساني يتحول ناسه إلى ..... غول وقطعان كهوف معتمة ولحدة شعور حاوي ببشاعة الزمن الذي يعيشه وبهيمنته القاسية عليه وشموليته فأن التصوير الشعري يتشكل بحدة مرعبة حينما يتحول الناس إلى كتل زمنية مجوفة بدلالة الحضور الزمني في الوصف (معتمة) يقابله تصوير يؤكده إذ يجهز مارد الزمن السلبي على مصدر الضوء وزمن الإشراق فتتحول الشمس من مخلّصة ومطهّرة إلى جمجمة في زمنية طويلة محتدمة و معقدة، ففي دال (جمجمة) تندثر حياة مضت، وتنهض رموز الموت والإهمال والوحشة، بينما يفارق الثمر حالة النضج والبهجة والإيناع ليصير مصدرا للظلمة، كل شيء جميل يتحول إلى ضده في زمنية تشتغل في حالة سلب وانفصام تجاه الآخر، لكنها تبقى في حالتها الإبداعية محافظة وعلى تشكيل بارع، وإذ تتوحد الذات بالأمة وجعا وفقدانا، فأن الذات الشعرية تصرخ:
سوف احكي وأعري جوع صحرائي وعاري
سوف أحكي قبل أن يطرده ديكُ الصباح
وتمل الخيبة والمعلف أفراس الرياح
جئتني الليلة ممسوخا رماديا
وطيفا يتراءى عبر وهج الحس حينا ويتيه
كنت طيفا قبل أن يمتصك القبر السفيه
إذ تتوهج الإرادة الإبداعية لتشيع اللوعة ومرارة الرفض، وإذا كان الامر كذلك فان الزمن الإبداعي (استمرار فن الشعر وتواصل إبداعه..) يأمر الزمن السلبي بمواصلة انهياراته إمعانا بعملية الفضح والتعرية لزمنية سكونية شاملة في حياة الأمة ليس لان فضيحة الشر والعنف والمكابدات هي بداية هزيمتها وخسرانها حسب، بل لان الشاعر وصل في طريقه المسدود الى باب مغلق.
إن زوجة لعازر تتحول في القصيدة الى معادل لرؤى الشاعر الطافحة بإرادة البعث والتواصل والخصب، هذه الروح التي تنهض بزمن انبعاثي محرض على الحياة، لكنها تجابه بواقع مقهور لا يقوى على تحقيق أي شيء من المهمات الكبيرة المطلوبة ليظل الخصب معطلا والأمنيات مشروعا لا يقوى على الحركة:
كان ظلا اسودا يغفو على مرآة صدري
زورقا ميتا على زوبعة
من وهج نهدي وشعري
كان في عينيه ليل الحفرة الطينيّ يدوي ويموج
عبر صحراء تغطيها الثلوج
عبثا فتشت فيها
عن صدى صوتي وعن وجهي
وعيني وعمري
فالنص يشير بوضوح إلى زمنين الأول: ساكن، معَّطل ومعِّطل يركن في غيبوبة الانفصال عن الوعي بدلالة (يغفو) والسقوط في الموت والعدم، كل تلك المثبطات تجثم على مشروع الخصب والنهوض الطافح بالحركة، والمتمثل بالزمن الثاني: نداء الأنوثة المتوهجة بومضات الصدر والنهد والشعر وأصداء العيون والوجه والعمر، لكن كل نداءات الحياة لا تجدي في دفع ذلك الزمن المغلوب إلى التوهج، ولذلك يظل مشروع الخصب مستلبا ومعطلا يمتصه شحوب اليأس والموت في الحياة:
ولماذا لم يعد يشتفُّ ما في
صدريَ الريان من حب تصفى واختمرْ
غيمة تزهرُ في ضوء القمر
وسريرٌ مارج بالموج
من خمر وطيب
جنة الفلك على حمى الدوار
طالما عاد إلى صدري مرار
عاد مغلوبا، جريحا، لن يطيب
يقول الشاعر خليل الحاوي عن قصيدة (لعازر 1962): "كنت أود ان يكون العالم العربي في حالة انبعاث، ولكن الشعور بأن الانبعاث لم يكن صحيحا هو الذي تغلب علي ونظمت القصيدة، وقلت: إن الانبعاث لم يكن صحيحا ومعافى وصالحا.." (13) وهكذا كان لعازر رمز الإنسان العربي الذي توهم أنه تجاوز عصر الانحطاط إلى النهضة فيما هو ما يزال غارقا بظلمة التخلف، فلعازر هو رمز الحياة ورمز الموت في الحياة لأنه حي في المظهر وليس في الجوهر، وهو لا يمتلك أي رغبة بالحياة، بل على العكس من ذلك تتملكه شهوة جامحة إلى الموت والعدم، ذلك هو لعازر حاوي الذي عدَّ رحمة المسيح ملعونة لأنه أعاده إلى حياة هي أوجع من الموت، أما لعازر الإنجيل فهو لم يغضب على المسيح لأنه أقامه من الموت، فالمضامين التي يتفتق عنها رمز لعازر غنية، متداخلة، متشعبة، فلعازر هو رمز الواقع والعجز عن تغيير الواقع في آن معا، إن انبعاثه المشوه يرمز إلى واقع الإنسان والحضارة في الوطن العربي، هذا الواقع الذي ما برح متخلفا ميتا بالرغم من مظاهر العمران الخارجية المستوردة من حضارة أخرى والتي ظلت بعيدة عن تحريك دواخل الإنسان مما يحيل المظاهر الخارجية إلى زيف وخداع (14) ذلك أن انبعاث لعازر هو انبعاث مجاني لم يحدث نتيجة معاناة صلب ولم تفرضه إرادة داخلية ملحة، وهكذا كان واقع الإنسان العربي الذي استعار مظاهر حضارة ليست له وحاول سدى ان يعيش زمنية لم يصنعها مما يشعره بالانتماء إليها ولذلك فضل الموت الحقيقي عليها..

***
إن تقنية التناص التي تعدّ تقنية زمنية بالدرجة الاولى كونها تداخل نصوص بأزمان ووقائع تتخذ لها استراتيجية خاصة في شعر حاوي حيث تتغلغل أزمنة متعددة ومتنوعة في نصه من خلال تداخل نصوص متباينة وشخوص شتى ورموز آتية من عصور بعيدة، تثري النص الجديد وتمنحه أبعادا درامية تدفعه إلى ابتكار لحظته الزمنية الخاصة المنبثقة من التوتر والجدل القائمين بين العناصر المستدعاة وبين عناصر النص المكتوب، كما تفصح عن درامية عارمة بين الذات الشاعرة، والذوات التراثية المستحضرة، فضلا عن إضافة أبعاد تقنية تصويرية إلى النص، تقنية حركية تتمثل في تقديم إيحاءات جديدة، وفي نسج أسلوبي للعبارة، حيث يتم القران بين ما هو ماض وما هو حاضر، وحيث يتم الإسقاط الرمزي على العصر الحاضر عبر المفارقة والتضاد والتداعي الجمالي من خلال التراتب الزمني للنص (15) حيث يؤدي التفاعل النصي إلى تواشج الأزمنة الثلاثة وتحاورها فيتجاوز النص ما هو ذاتي او خاص الى الأفق التاريخي العام، مما يحيل على التوسع المعرفي في مجال الصورة والمخيلة، كما يحيل على الوعي بمكنونات الذات الإنسانية عبر التاريخ، لان تداخل النصوص يتم عبر ذوات كابدت ولوّنت الحياة ، والتناص يجمع هذه الذوات في لحظة آنية وممتدة في الزمن نفسه مما يمنح الماضي حتمية حضوره وتجدده في الحاضر والمستقبل.. (16) ولقد تم التداخل الزمني في نصوص حاوي من خلال رموز فاعلة مستحضرة من عصور متباينة منها ما هو مستمد من الميثولوجيا كبعل وتموز وديونيزوس وبروفينوس، أو الاساطير التراثية الشعبية كالسندباد، أو من الأديان اسلامية ومسيحية ويهودية، على ان التناص مع الرموز المسيحية كان هو الاثير في شعره إذ يعد حضور المسيح حضورا بنائيا في نصوصه وكذلك السيدة مريم ولعازر، حتى انه كثيرا ما يتحد برمز المسيح: (17)
وفدى الزنبق في تلك الجباه
اتحدي محنة الصلب
أعاني الموت في حب الحياة
وتناص حاوي ينهض أكثر الأحيان على مبدأ الخلاف مع النصوص الأصلية انه لا يقلدها ولا يشكل معها تماساً تركيبيا، ولا يأتي بها حيادية، ولا يستحضرها لمجرد التحفيز النصي، بل هو يحاور ويجادل وينقض ويخالف، حتى في رموزه المسيحية كان يتوسل الطرق المسيحية للوصول إلى هدف ليس بالضرورة أن يكون مسيحيا ولا غيبيا، بل غالبا ما يكون دنيويا لان تجربته الشعرية لا تنحو منحى ميتافيزيقيا بل حياتيا..(18) فمسيح الإنجيل هو الجسر الذي يربط الإنسان بالإله، لكن مسيح حاوي هو الجسر الذي يربط الإنسان بمستقبل أفضل، وحاوي ركز في شعره على تجريد رمز المسيح من مدلولاته الغيبية مؤكداً دلالة الخلاص الدنيوي فردياً وجماعياً، خلاص الإنسان والأمة من كل أنواع الاستلاب بإرادة إنسانية خالصة وليس بمعجزات سماوية (19) وتناص قصيدته المهمة (لعازر 1962) يؤكد كما أكدت كل تناصات رموزه قدرته على تكييف الزمن الماضي ليوائم زمنه المعاصر، بل وليتناغم معه من أجل خلق زمنية النص المنشودة، وهكذا كان رمز الأم الحزينة في ديوان (الرعد الجريح) فالأم مريم لم تعد تلك الأم التي كابدت فقد مسيحها لأنها صارت آلاف الأمهات العربيات اللواتي قدمن ملايين الشهداء على مذابح الحرية، بل هي صارت الأرض العربية الفاقدة، المعذبة، المنهوبة عبر أرجاء الوطن الجريح من المحيط إلى الخليج: (20)
الحياة انطفأت وانطفأ السيف
واضواء البروج
ليس في الأفق سوى دخنة فحم
من محيط لخليج
وفي تناصه مع (السندباد في رحلته الثامنة) تستبدل التجارة بالبحث والكشف والاستشراف حيث كان الأمل بالانبعاث ما يزال يراود الشاعر بربيع قادم: (21)
داري التي تحطمت
تنهض من انقاضها
تختلج الاعشاب
تلتم وتحيا قبة خضراء في الربيع

كان الكفن الأبيض درعا
تحته يختمر الربيع
اعشب قلبي
نبض الزنبق فيه
والشراع الغض والجناح..
ان الصراع الزمني وجدلية الحركة – السكون في المقطع تبدو في الزمنية الكامنة في التشكيل: ففي الدار نشأة، وبناء يكمن زمن ايجابي، وفي تحطمت يكمن زمن سلبي، وفي جملة (تنهض من أنقاضها..) يكمن زمن الفاعلية المستمرة المتواصلة في الأفعال المضارعة: تختلج ويلتم وتحيا، حتى يصل الانبعاث قمته في (قبة خضراء في الربيع) حيث يستكمل زمن النهوض زهوه وتألقه من خلال عنفوان اللون الذي بدا عنصرا مهما من عناصر التعبير عن فعل الزمن ليس في هذا النص حسب بل وعبر نصوص ديوان حاوي جميعها، مما يؤكد ان شعره من اكثر نماذج عصره احتفاء باللون، واهتماما بتشكيلاته، أو توغلا في قيمه التعبيرية عن أنماط زمنية مختلفة من خلال معطياته التي اقتحمت بوقت مبكر حدودها الاجناسية من اجل توظيف آليات الفن التشكيلي في الشعر والإفادة من طاقته العالية على رسم الصورة المنفعلة بالوان مباشرة مرة، وموحية اخرى مما أدى الى تشكيل مشاهد زمنية كان اللون عاملا مهما في توجيه دلالتها: الكفن الأبيض، الصقيع، الدم، النار، الربيع، الكبريت، وغير ذلك كثير.
ان حاوي في تناصه مع سندباد ألف ليلة وليلة لم يستعر من ملامح السندباد سوى اسمه ودلالته العامة المتمثلة في النزوع الى المغامرة والاكتشاف، وفي إطار هذه الدلالة ابتدع نموذجا سندباديا معاصرا، له ملامحه وسماته الفكرية والنفسية والحضارية المعاصرة ولكن في ذلك الإطار العام لملامح السندباد التراثية، فجاء النموذج المعاصر حاملا سمات تراثية ومعاصرة خاصة بتجربة الشاعر وحاملة همومه ورؤاه (22) و يتلون التناص الزمني في هذه القصيدة نشطا ومحركا: إشارات اسلامية، مسيحية، يهودية.. موسى والوصايا العشر، البعل، المعري، ديك الجن، لوركا، وعرس الدم، النيل، الاردن، الفرات، فعندما تلتمع العلامة التناصية تنهض الأحداث والوقائع، والأحداث والوقائع هي زمنها الحاوي والفاعل، ان الشاعر يوحد او يعمل على توحيد الأزمنة في تداخل درامي من اجل وحدة كلية تدحر الحدود والمحدود نازعة الى الأشمل والأكثر طلاقة وصولا إلى الزمن – الحلم (23)
وسوف يأتي زمن أحتضن
الأرض وأجلو صدرها
وأمسح الحدود
لكن هذا المستقبل الذي يشكله حرف الاستقبال (سوف) لا يأتي، ولذلك تتواصل مواجع الشاعر ومأساته.
ان التداخل الزمني في الشعر، وقدرة الشاعر على اللعب البارع بالإشارات لم يكن له ان يتحقق إلا من خلال وعي أصيل بجوهر الشعرية وبأسرار عملية الكتابة، وإدراك لأهمية العنصر الحواري فيها..
ان طبيعة مثل هذه الدراسة لا يمكن ان تفي بموضوع ثري معقد ومتشابك كموضوع الزمن في شعر التحم - كثافة وتواشجا - فيه العامل الوجودي النابع من مكابدة الموت والحياة وبؤس المصير مع العامل النضالي من خلال رؤية شعرية تنتصر لكفاح الإنسان، وتدين عوامل الانفصال والسلب والإفقار، ان مثل هذا الموضوع لابد ان يمتد ليشمل تقنيات زمنية كالاسترجاع والاستباق والحذف والكشف عن بعض الآليات الحديثة في التعبير كمدى الحركية التي تحكم التصوير الشعري من خلال اللقطات السريعة والمونتاج والسيناريو، وغير ذلك من الفنون البصرية والتصويرية بأنواعها، ولذلك اكتفت بإشارات يمكن ان ترسم الإطار العام لزمنية حاوي من خلال زمن الإيقاع والفعل والتشكيل والتناص وهي تصور رعب إحساسه بوطأة الزمن وثقله وعتمته التي تحجب عنه وجه الحياة الحقيقي: (24)
وإذا الليل على صدري جلاميد
جدار الليل في وجهي
وفي قلبي دخان واشتعال
تلك هي إشكالية حاوي الوجودية عاشها سجينا في قطار مغلق، آلة صنعتها يد غريبة، وكابد مرارتها وحيدا برغم الزحام من حوله: (25)
مُرةٌ ليلته الأولى
ومرُّ يومه الأولُ
في ارض غريبة
مُرةٌ كانت لياليه الرتيبة
طالما عضَّ على الجوع
على الشهوة حرى
وانطوى يعلك ذكرى
يمسح الغبرة عن أمتعة ملء الحقيبة
حجرٌ تحمله الدوامة الحرى
سجين في قطار
ما درى ما نكهة الشمس وما طيب الغبار
وهذا الإحساس المرير بثقل الزمن ومرارته هو الذي حجَّر كل شيء في نظره: (26)
وجهه من حجرٍ
بين وجوه من حجر
تلك هي زمنية حياة حاوي، زمن صعب وفضاء ضيق اسود رتيب يعلك فيه ذكرياته، وحاوي إذ يكرر الفعل المضارع (يعلك) في اكثر من نص فانما هو يؤكد دلالة العذاب البطيء، ففي (علك) معنى المضغ البطيء واللزوجة والمطاطية، وإذ يعلك الإنسان زمنه الماضي فذلك يعني خواء الحاضر وفراغه وافتقاده القدرة على النهوض بأي معنى من معاني الحياة، وهكذا تصير الحياة سجنا آليا أليما، تصير (قطارا) مسخ الإنسان وعطل إرادته وأوقعه في الاستلاب.
أترى حملت من صدق الرؤى
ما لا تطيق
خلني ماتت بعيني
منارات الطريق
خلني امضي الى ما لست ادري
لن تغاويني المواني النائياتْ..
بعضها طينٌ محمّى
بعضها طينٌ موات
آه كم أُحرقت في الطين المحمى
آه كم متُّ مع الطين الموات
إذ يتكرر فعل الموت ومشتقاته ثماني مرات في المقطع فضلا عن حضور المدلولات الدائرة في حقله الدلالي من أكفان وحرائق وريح وطين محمى وغرق مما يؤكد انسحاب الألوان والأفعال إلى منطقة السلب واليأس، يؤكد ذلك تكرار أكثر من لازمة تؤازر هذا الشعور بالاحباط:
لن تغاويني المواني النائيات
وبكوخي يستريح التوأمانِ :
الله والدهر السحيق
وارى ماذا أرى ..؟
موتا رمادا وحريق
إن الوعي باستبداد الحكام، وبظلم الطواغيت التي تجرُّ أقطار الوطن العربي الى الهاوية هو واحد من عوامل عذاب زمنية الشاعر الذي يمتلك بحسه التاريخي والنضالي رؤية معرفية بفاعلية هذه الطواغيت وسعيها الى إدامة مؤسسة التخلف التي تمحو شخصية الإنسان وتستلب إرادته كي يظل المجتمع العربي مفككا ومجروحا بكرامته الإنسانية: (27)
وان في الصبح عبد للطواغيت الكبار
وانا في الصبح شيء تافه، آه من الصبح
وجبروت النهار
وأخيرا.. هل استطاع بؤس الزمن الموضوعي الذي بقي العدو اللدود لحاوي المبدع عبر نصوصه كلها أن يبتلع زمنه الإبداعي..؟!
أن رحيل حاوي بذلك الاختيار الصعب بعيدا عن تباين التفسير والتأويل، وبقاء شعره متألقا يؤكد انتصار زمنية الفن الأصيل دوما ولو ان الإنسان – الشاعر خليل حاوي استطاع أن يواصل بإرادة الإبداع وعبقريته لاستمر متحديا وباذخا بتلك الطاقة المقتدرة، لكن ما قاله النقاد والباحثون في تعليل انتحاره ربما يصدق فيه شيء ما إذا لامس طرفا من الحقيقة، في حين يبقى إبداعه مصدرا ثرا لأسمى المواجيد والمكابدات الإنسانية العميقة في بحثها الدؤوب عن الجذور الأصيلة والينابيع الأولى، والبراءة الضائعة وسط فوضى الزيف والتشتت.





الهوامش

(1) ينظر الفيلسوف وفن الموسيقى، جوليوس بورتنوي، تر: فؤاد زكريا: 34-35، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة، 1974. ودراسات فلسفية بإشراف د. إبراهيم مدكور: 296-297، دار الثقافة، القاهرة، 1976. والزمن في الأدب، هانزميرهوف، تر: أسعد رزوق، مراجعة: العوضي الوكيل، 30، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، د.ت.
(2) الزمن والرواية، أ.أ. مندلاو، تر: بكر عباس، مراجعة: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط1، 1997: 16-22،76.
(3) ينظر: الواقع رؤيا والرؤايا واقع، د. انطون غطاس كرم، ديوان خليل حاوي: 370-371، دار العودة، بيروت، 1972.
(4) ينظر: التطور في شعر خليل حاوي من نهر الرماد الى الناي والريح، عفاف بيضون، ديوان خليل حاوي: 377.
(5) ينظر فلسفة الوعي بالزمن واثرها في العمل الادبي، لويزمير باولوزوك، تر: محمد هناء متولي، مجلة الثقافة الاجنبية، بغداد، 2/ 1982،39.
(6) المصدر نفسه.
(7) ديوان خليل حاوي، 134.
(8) ينظر: محمود درويش ومواقيت القصيدة، عبد الله السمطي، مجلة القاهرة، 151/1995: 81.
(9) ينظر: البنيات الدالة في شعر أمل دنقل، عبد السلام المساوي: 75، منشورات إتحاد الأدباء والكتاب العرب، ط1، دمشق، 1994.
(10) ينظر: عضوية الموسيقى في النص الشعري، د. عبد الفتاح صالح نافع: 59-60، مكتبة المنار، ط1، الأردن، 1985.
(11) ينظر: الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، تر: وتقديم: سعيد الغانمي: 72، المركز الثقافي العربي، بيروت- الدار البيضاء، 1999.
(12) ديوان خليل حاوي: 313.
(13) ينظر: خليل حاوي يتكلم: الشعر والنقد والحضارة، مجلة الآداب، 6/1992: 33.
(14) ينظر: البعد المسيحي في شعر خليل حاوي، د. انطون غوش، مجلة الأداب، 6/92، 70-71.
(15) (16) ينظر: محمود درويش ومواقيت القصيدة، مصدر سابق:66.د
(17) الديوان، 105.
(18) (19) ينظر: البعد المسيحي في شعر خليل حاوي، مصدر سابق:66.
(20) الرعد الجريح، خليل حاوي: 11، دار العودة، بيروت، 1979.
(21) الديوان: 244.
(22) ينظر: الرحلة الثامنة للسندباد، دراسة فنية عن شخصية السندباد في شعرنا المعاصر، د. علي عشري زايد: 105، دار ثابت، القاهرة، 1984.
(23) (24) (25) (26) (27) الديوان: 269، 101، 197، 208، 27.



#بشرى_البستاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انسجامات
- تحليل النص
- قصص قصيرة
- جيماتُ الوجد
- وعند ابن رشد فصل المقال
- عاريةً إلا من حبك ..
- هذا الضياع يدخلني في النشوة
- لئلا ينطفئ البرق
- المرأة العربية والربيع المأمول
- مواطنة المرأة العربية ، شعارٌ أم قضية ..
- النقد وإشكالية الحداثة
- إبداع المرأة بين الخصوصية والسؤال


المزيد.....




- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...
- رواية -خاتم سليمى- لريما بالي.. فصول متقلبة عن الحب وحلب


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بشرى البستاني - زمنية التشكيل الشعري .. مقاربة في ديوان خليل حاوي