أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - في نقد العقل الثوري العربي: فولتير أولا، أم قطع رأس الملك؟















المزيد.....



في نقد العقل الثوري العربي: فولتير أولا، أم قطع رأس الملك؟


أحمد دلباني

الحوار المتمدن-العدد: 3633 - 2012 / 2 / 9 - 22:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


طرحت الانتفاضات العربية الأخيرة – أو ما سُمّي بالربيع العربي – العديد من الأسئلة المتعلقة بالدولة والدين والديمقراطية وحقوق الإنسان ومصير الثورة ذاتها. وقد كان من الطبيعي أن يعكف العقل النقديّ العربي على مراجعة مسيرته ونظام فهمه للواقع والتاريخ استنادًا إلى الأفق الذي فتحته الانتفاضات العربية وإنجازاتها السياسية بالأخص. كما كان عليه أن يُواكب الانتفاضة مُحتضنا تطلعاتها المشروعة ومُستبصرًا المعاني والدلالات التي طفت على سطح الأحداث المُتسارعة. وبعيدًا عن أي اعتبار آخر، يُمكننا أن نرى في الثورات العربية الأخيرة إنجازا تاريخيا مُهمّا جدّا حرَّر – على الأقل – الذات العربية من الحضور الطاغي لأيقونة البطريرك السياسي ونظام التقديس الذي ارتبط بثقافة ألفية لم تعرف رسوخ التقاليد الديمقراطية – بالمفهوم الثقافي الشامل – في تاريخها.
هذا يعني، أولا، أننا ننظر إلى الثورات العربية باعتبارها إنجازا سياسيا في المقام الأوَّل، أتاح الإطاحة بأنظمة حكم فاسدة ومُستبدَّة وتابعة لم تحقق التنمية الشاملة، ولم تحترم حقوق الإنسان ولم تصُن الاستقلال الوطني بكل أوجهه. لقد كانت – بمعنى ما – انقلابات مدنية شرعية جسَّدت حنق الشعوب العربية على فشل الأنظمة التي ولدتها حركات التحرير الوطني والانقلابات العسكرية، وقادت بلداننا، منذ عقود، على هدى بوصلة البناء الوطني وتحقيق الوحدة والتنمية. ولكننا نعرف أن الرُبَّان العربيّ لم يعد بإمكانه أن يمسحَ الصدأ عن بوصلته فاقدة الصلاحية في مُحيط العالم الذي شهد تغيرات جذرية على جميع المُستويات منذ بزوغ فجر العولمة. ولم يعُد بإمكانه أن يلهجَ بالخلاص التاريخيّ لأمتنا من العطب الحضاريّ، ومن حضور هيمنة الآخر الأمبريالي على مصائرنا. فلم تكن إطلالتنا على العالم المُعاصر دخولا في التاريخ وانسلاخا عن نظام المعنى المُفارق للزمنية والتغير والصيرورة. لم تكن إطلالتنا اكتشافا لمركزية الناسوت ورعب التاريخ وقد أفاق على خواء السماء الآفلة وسردياتها الخلاصية القديمة. وفي كلمة، لم تكن ولادتنا الحديثة طبيعية بل ولادة قيصرية، وتم الزجُ بنا في أتون تجربة المغامرة التاريخية ولم نمتلك أبجدياتها العقلية والإنسانية. هذا، رُبما، ما جعل منا أشباحا تفتقدُ الحضور الحقيقيّ الحيَّ على مسرح العالم حيث تلبسُ القوة تاج المعرفة وتجنحُ المعرفة إلى الهيمنة والسيطرة.
لقد كانت الثورة، إلى اليوم، حُلما بالتغيير ووعدًا بالتحرير. كانت يوتوبيا انعتاق واحتضانا للتاريخ وقد أصبح سردية بوَّأت بروميثيوس عرش التدبير مكان الآلهة الآفلة تاريخيا بفعل الحداثة واحتجاجاتها. ولكننا نعرفُ أنَّ الثورة – بوصفها حكاية تأسيسية للأزمنة الحديثة – لم تكن دائمًا سفرًا واثقا إلى إلدورادو الحرية والكرامة والتقدم. فقد أنتجت طبعات جديدة رهيبة من قصة سحق الإنسان وتدجينه ووأد تطلعاته وصبواته العميقة إلى الانعتاق الكياني الشامل وتحقيق الامتلاء الوجوديِّ في عالم فقد العلو. هذا ما أغرق الفكر الحديث في نوع من التشاؤم القاتم بشأن إمكان تحقيق الوعود الثورية وإمكان إنقاذ الوجود الإنسانيّ من تفاهته في الغبار الكونيّ. من هنا طفق الفكرُ المُعاصر – في أشكاله الأكثر طليعية – يُراجعُ مسيرتهُ وبرامجهُ ليكتشفَ جرثومة الاستبداد والشمولية والواحدية في جذورها ونوازعها الأولى التي شكلت مهدًا لميلاد الأزمنة الحديثة. ظلت شجرة العقل التاريخي تعيشُ على هواء اللامعقول، وظلت شجرة الحرية تُسقى من نهر القهر السفليّ القاتم. لم يكن هذا الأمر خصيصة ستالين وماو وكاسترو فحسب، وإنما كان إنجاز عبد الناصر وأصحاب أحلام البعث العربيّ أيضا كما نعرف.
ولقد نحبُّ أن نشيرَ أيضا إلى أنَّ الانتفاضة – مهما كانت كبيرة – لا تُحقق بذاتها تقدّما أو عتقا للإنسان أو تحريرًا للمعنى من نظام الحقيقة السَّائد. الانتفاضة احتجاجٌ على وضع لم يعُد يُحتمل وصرخة في وجه العالم ولم يعُد بيتا كريمًا للإنسان. ونعتقدُ أنَّ الصّراخ الحانق الغاضب علامة حياة، ولكنهُ ليس برنامج عمل وليس وعيا كافيا يُتيحُ تخطي زمن الاستلاب في آلة القمع السياسيّ والفكري التي جسَّدتها الأنظمة القائمة. فلسنا في حاجة دائمة، اليوم، إلى التذكير بأنَّ السلطة لا تُختزلُ في أيقونة الحاكم أو في مُؤسَّسة الحكم. إنها أداءٌ مُعقدٌ يستندُ إلى نظام الشرعيَّة القائم. وهي نظامٌ ينهلُ من روافد تراثية ونفسيَّة، وينهلُ من المكبوت التاريخيِّ الهائل الذي ما زال خلاصيا وأسطوريّا إلى حدّ بعيد في مخيالنا الجمعيّ.
2
قد نتفقُ – انطلاقا ممَّا أتينا على ذكره – على كون السلطة ليست شخص الحاكم. ورُبما أتيحَ لنا أن نُقدّر بصيرة ميشال فوكو وهو يُعلمنا ضرورة التفكير في السلطة بمعزل عن شخص الملك. ولكنَّ الفكرُ العربيّ ظل مسكونا بهاجس التغيير الانقلابيّ ولم يلتفت إلى الأسُس التي ظلت تغذي كلَّ أشكال التسلط والقمع في تاريخنا. وكنا، في أحسن الأحوال، نحمّلُ النخب الحاكمة أو الطبقات المُسيطرة أو الغرب الأمبريالي مسؤولية فشلنا في دخول العصر والارتقاء بالإنسان العربيّ. قد يكونُ ذلك من الأسباب المُؤكدة لكبوتنا الحضارية، ولكننا لم نلتفت بصورة جدية، أيضا، إلى البنيات الفكريّة الماضوية المُضمرة وإلى سطوة تاريخنا الباطنيّ وهُو يُعيدُ إنتاجَ نفسه إلى ما لا نهاية عبر نظامنا الاجتماعيّ البطريركيّ وعبر زمننا الثقافيّ الرَّاكد. لم نلتفت بما فيه الكفاية إلى ضرورة اجتراح آفاق النقد الثقافيّ لذاتنا التاريخيّة المُنهكة، وإنما ظللنا نعتصمُ بالحديث عن الهوية المُهدّدة وعن مخاطر الطريق إلى الحداثة. كما سيطرَ علينا هاجسُ مُحاولة مسح الغبار عن مرآة الذات كي نشبعَ فضول نرجس الذي يسكننا في التملي الأبديِّ في وجهه. يلتقي في هذا الفكرُ النهضوي / القوميّ مع الفكر الأصوليِّ المُهيمن، اليوم، بأشكاله المُختلفة.
الطريقُ إلى الحداثة والتغيير جزءٌ من الذات لا من الآخر. هذه هي أبجدية التحديث الأولى. الطريقُ مسافة توسّعُ حدودَ الذات خارج شرنقتها الموروثة وتفتحها على العالم. كأنَّ فكرنا كان يريدُ اكتشافَ العالم في الذات لا ابتكار الذات من خلال المُغامرة والنقد الجذريّ للموروث. كأنَّ فكرنا ظلّ مُحاولات لا تنتهي في البحث عن أسرار هيروغليفيا الذات الخالدة، وظل صلوات مرفوعة لا تتوقفُ من أجل أن تبوحَ هذه الذات ببعض ما عندها. وما النتيجة؟ خسران الانخراط في التاريخ وتأجيل الموعد مع التقدم بشكل دائم. ورُبما لا يتجلّى هذا بصورة كارثية قدر تجليه في تأجيل لحظة ميلاد الإنسان العربيّ الحُرِّ الفاعل المُبدع لصالح إطالة أمد الأب في شكله التاريخيّ / السلطويّ.
لقد ظلَّ أولادُ حارتنا يلهجون دومًا بذكر الجبلاوي وينتظرون رجعتهُ المُظفرة. وها هي الثورات العربية الأخيرة تطرحُ علينا أسئلة كثيرة بعد أن احتفينا بها ورأينا فيها خلاصا من سلطة الوصاية والاستبداد في شكله السياسيِّ المُباشر؛ وبعدَ أن رأينا فيها إيذانا بمقدم عهد الديمقراطية والتعددية ونهاية عهد الأحادية والقهر. وها نحنُ نُسارعُ إلى الاحتكام لصناديق الاقتراع كي نُعجِّلَ بميلاد نظام حياتنا الديمقراطي الحديث. كأنَّ الديمقراطية لعبة انتخابية. أو كأنها شكلٌ فارغ دون مضمون ثقافيّ وإنساني وفلسفيّ قدِّر له أن يُدشنَ ميلاد زمن مركزية الإنسان ومرجعيته السياسية والأخلاقية خارج وصاية المُقدَّس الدِّيني التقليدي. كأنَّ الديمقراطية – بمفهومها الشامل والعميق – يُمكنها أن تزدهرَ في " مدينة الله " وتحت رقابة الجبلاوي ومُؤسَّساته العتيقة. كأنَّ الديمقراطية ستُولدُ مع قطع رأس الملك لا بعدَ مجيء فولتير وانتصار الروح التنويريَّة في الفضاء التاريخيّ في ظلّ صراع البشر الدَّائم مع سطوة المعنى السَّائد.
المعنى السَّائد؟ يعني الشرعية الثقافية الرَّاسخة تاريخيا ومُؤسَّسيا. ويعني، أيضا، ما يمنحُ العالم السوسيو- سياسي منطقهُ ومعقوليتهُ التي تؤسِّسُ لشرعية الوضع القائم. ونعتقدُ أنَّ المعنى السَّائد عندنا يتأسَّسُ على الرمزانيَّة الدينية وسلطة الماضي المرجعيِّ بوصفه ما يضمنُ تماسك الحاضر وما يُؤمّنُ حماية قلعة الأب من مُناوشات الصَّعاليك. هذه هي الأبوية التي ما زالت تتمتعُ عندنا بهيبتها وقداستها أيضا. لقد ظلَّ فولتير مخنوقا عندنا وظلت الأنوار حلمًا مستحيلا. هذا يعني أنَّ الشروط الثقافية لانبثاق " مدينة الإنسان " لم تتوفر عندنا. فكيف نتحدَّث عن الديمقراطية؟ وكيف يُمكننا أن نُنظّر لها ونحنُ لم نخرج، بعدُ، من نظام المعنى القائم على الواحديَّة واستبداد الفكر المرجعيّ؟ كيف لنا أن نستضيف الديمقراطية في مدينتنا التي ينتعشُ فيها الحنين إلى الأب الغائب ويزدهرُ فيها تكفير الاختلاف والإبداع؟ كيف لنا أن نكونَ ديمقراطيين ونحنُ نعتبرُ الإنسانَ جرمًا صغيرًا يدورُ، طوعًا أو كرهًا، في فلك المذهبية وأصناف المرجعيَّات التي تعلو عليه؟ وها هُو الدَّليل: ألا نلاحظ أنَّ الانتخابات الأخيرة في أكثر من بلد منتفض أعادت الإسلاميين إلى الواجهة؟ ألا نلاحظ أنَّ حلم التغيير العربيّ – على المستوى الجماهيريّ – لا يرتبط بحلم الحرية والفردانية والإبداعية والتعددية والعيش المُشترك بقدر ما يرتبط برغبة " تطهير " المُجتمع من ثِقل التاريخ الحديث ومُشكلاته؟ ألا نُلاحظ أنَّ رغائبنا العميقة لا تتعلَّقُ باحتضان التاريخ والدخول في مُعتركه بقدر ما تتعلقُ بالرغبة في الخروج منه؟ ألا نُلاحظ أنَّ مرجعيَّة الإنسان ما زالت تمثلُ أكثر الأفكار استهجانا في الوعي العام عندنا؟ كأنَّنا لا نستطيعُ أن نتصوَّر الخلاص دون فكرة المُنقذ، سماويّا كان أو أرضيا.
3
لقد أصبح من الواضح أنَّ الديمقراطية ليست لعبة سياسية وليست أداءً مُؤسَّساتيا يرتبط بأجهزة الدولة المدنيَّة الحديثة فحسب، وإنما هي قبل ذلك نظامٌ فكريّ وبناءٌ اجتماعي يقومُ على قيم رسَّختها، شيئا فشيئا، تجاربُ تاريخية ومخاضٌ عسيرٌ انبثق معهُ الإنسانُ بوصفه مرجعية عليا لنظام عمل المُجتمع بعيدًا عن سطوة المُؤسَّسات التقليدية. الديمقراطية جسَّدت هزيمة اللاهوت على يد الناسوت. هذا يعني أنَّها مثلت قطيعة معرفية مع نظام المعنى الواحد ومع المُقدَّس الدينيّ، كما مثلت قطيعة سياسيَّة مع " مدينة الله " وعلاقاتها القائمة على الوصاية والإخضاع. إنها زمن فولتير لا القدِّيس أوغسطين.
الديمقراطيَّة، أيضا، ليست مذهبا فكريا أو نظريَّة ناجزة بقدر ما هي تاريخ ينضحُ بالإنسانيّ، ومسارٌ في الانعتاق من محبس المرجعيَّات التي اغتصبت الشرعيَّة في الفضاء السوسيو- سياسي وأسَّستها على المُطلق أو المُقدَّس المُفارق. الديمقراطيَّة، في كلمة، هي التاريخُ مُتأنسِنا. من هُنا نستطيعُ أن ندرك، جيّدًا، ارتباطها التاريخيَّ الوثيق بمسار الحداثة الظافرة منذ القرن السَّادس عشر في الغرب الحديث. فقد أسهمت النزعة الإنسانيَّة والعقلانية الفلسفيَّة وأفكارُ عصر التنوير النقديَّة والحقوقيَّة والسياسية في ميلاد أفكار المُساواة والحقوق الطبيعيَّة والإرادة العامَّة، ومكنت من الإجهاز على العالم القديم وأسُسِه الفكريَّة / الإيديولوجيَّة المُرتبطة باللاَّهوت السياسيِّ القائم على الحق الإلهيِّ المُطلق. لقد استردَّ الإنسانُ سيادتهُ على المجال السياسيِّ انطلاقا من احتلاله مركز دائرة القيم وتنصيب نفسه مرجعيَّة عليا لكل مبادرة تاريخيَّة. هذا يعني أنَّ الديمقراطية لم تنشأ بوصفها لعبة انتخابيَّة شكليَّة وإنما باعتبارها زمنا ثقافيا جديدًا مثل انتصارَ الإنسان، شيئا فشيئا، على آلة الاستلاب الدِّيني العملاقة، وجسَّد خروجَهُ من زمن الارتهان في المُؤسَّسة البطريركيَّة القمعيَّة.
ولكننا نتساءلُ بحرقةٍ ومرارة: أين نحنُ من هذا؟ وما مكانة فكرنا الذي ظلَّ، لعقودٍ، مشغولا بالبحث عن الديمقراطية في المورُوث وفي أقبية الذات التي لا تنقضي عجائبُها؟ لماذا لم ننشغل – بدلاً من ذلك – بالتأسيس لشرُوط انبثاق الديمقراطية في حياتنا ومُجتمعاتنا نقديا وثقافيا وتربويا؟ لماذا لم نستطع أن نجعلَ من الإنسان قيمة مُطلقة في تفكيرنا وسياساتنا بدلَ الرّكون الأبديِّ إلى وصاية المرجعيَّات المُختلفة التي ما زالت – إلى اليوم - تمنحُ الشرعيَّة لأنظمةٍ تجتهدُ في إعلان قصور العقل وعجز الإنسان عن قيادة نفسه بنفسه؟ لماذا انحط مفهومُ الديمقراطية عندنا بحيث أصبح حيلة تمنحُ الشرعية السياسية – بالطرق غير المشرُوعة - للأنظمة المُستبدَّة، وأصبحَ آلية انتخابيَّة شكلية مفرغة من مضمونها الإنسانيِّ والثقافي الذي أتينا على ذكره؟
ما أردنا أن نقولَ هُو أنَّ الديمقراطية قامت على أسس ثقافية وعقلية لم تتوفر في تاريخنا. إنها أسسٌ دشنت عهدًا جديدًا أنهى زمن الوصاية الدينيَّة وحرَّر التاريخ من مُراقبة الأستاذية العقائدية؛ كما جعلَ المُجتمعَ مرجعَ ذاته في حركيَّته التاريخية. ولم يكن مخاضُ هذا الأمر سهلا كما هُو معروفٌ. لقد تزامنَ تفكك النظام المعرفيِّ القديم مع تفكك بنية المُجتمع الأبويِّ التقليدي والتراجع التدريجيِّ لعلاقات القوة القائمة على الإخضاع، وهذا لصالح بروز الفردانيَّة وازدهار المعرفة النقدية ونزعات الشك. من هُنا يُمكننا القولُ إنَّ شجرة الديمقراطيَّة تغذت تاريخيا على نسغ الانقلابات السوسيو- معرفية الكبرى التي مهَّدت لميلاد الحداثة في التاريخ الغربيِّ. ورُبما هذا ما يُتيحُ لنا أن نُقارنَ بين تجربة الغرب الحديث وبين ما حصلَ في تاريخنا الذي ظل راكدًا لقرون حتى لحظة إفاقته على " صدمة الحداثة " مع الاستعمار.
4
من المعروف أنَّ ثقافتنا – في شكلها الموروث و السَّائد / المُكرَّس – لم تكن ثقافة مُؤهَّلة لأن تحبلَ بالديمقراطية أو بنظام للمعنى يسمحُ بالنظر إلى الحقيقة باعتبارها بحثا لا ينتهي ومُغامرة في اكتناه ليل العالم. لم تكن هذه الثقافة الموروثة، في شكلها الدِّيني الطاغي المُهيمِن، لتُزحزحَ المُقدَّس المُتعالي عن المركز كي يحُلَّ محلهُ الإنسانُ بوصفه قيمة عليا ومرجعًا تتأسَّسُ عليه مشروعيَّة الوجود السياسي والاجتماعي. هذه مُشكلة الثقافة العربية الأولى. وعبثا نُحاولُ - خارجَ مدار نقد الفكر الدّيني والعقل الدِّينيّ - أن نؤصِّلَ للديمقراطية والعلمنة والحداثة، أو لقيم المُواطنة والمُساواة في حياتنا. عبثا نُحاولُ أن نُجيِّشَ آلة التبرير الكبرى في ثقافتنا المُعاصرة – من لحظة مالك بن نبي إلى محمد عابد الجابري مرُورًا بحسن حنفي – كي نكتشفَ، بضربة عصا سحريَّة، أنَّ قيمَ النهضة والحداثة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان كانت سجينة داخلَ قمقم الذات الخالدة تنتظرُ من يُحرِّرها ويُخرجُ ماردَها. هذا وهمٌ ومُغالطاتٌ وسقوط في اللاتاريخيَّة. لكل إنجاز ثقافيّ زمنه وحدودُه. ومُشكلة ثقافتنا الموروثة تكمنُ في تقليديتها وفي كونها ظلت نظامًا معرفيا يُكرِّسُ الماضوية والمرجعية وعقليَّة الطائفة الناجية والانغلاق المذهبيّ. وكلُّ هذه المُحدِّدات شكلت نظاما معرفيا كبحَ الذات العربية تاريخيا وأغلق أمامها الأبوابَ التي تُمكنُ من دخول كوميديا التاريخ الأرضيِّ والمُشاركة في صُنع أقداره. ورُبَّما أتيحَ لنا، أيضا، أن نلاحظ مع الكثير من الباحثين أنَّ دوامَ رسوخ ثقافة التقليد والإخضاع كان مُنسجمًا تماما مع البنية البطريركية للمُجتمع العربيِّ والتي لم تكن أرضية مُلائمة لانبثاق الفردانية أو ترسّخ قيم التفكير خارج المرجعيَّة المُتعالية والإبداع خارج النماذج. إنَّ هُناك أطرًا اجتماعية للمعرفة كما كان يُعلّم جورج غورفيتش. ولكنَّني أستدرك، هنا، فأقولُ إنني تحدَّثتُ، بالطبع، عن الثقافة باعتبارها مُؤسَّسة راسخة تاريخيا ظلت تتناسلُ وتُعيدُ إنتاج زمنها الرَّاكد في حياتنا، ولم أكن أشيرُ إلى الإنسان العربيِّ الهامشيِّ المُبدع. لم أتحدَّث عن فينيق العربيِّ الذي لم يُتح لهُ أن يحلقَ طائرًا ضوئيا خارج رماد مُؤسَّسة التاريخ. لم أتحدَّث عن طرفة والمُتنبي والمعرِّي. لم أتحدث عن أبي نواس أو ابن الرَّاوندي وابن رشد. لم أتحدَّث عن الشيخ الأكبر ابن عربي الذي بشَّر بدين الحب.
هذا ما أردنا أن نقولهُ من خلال نموذج فولتير الوارد في عنوان مقالنا. فلقد كانت الثورة الفرنسيَّة الكبرى سنة 1789 تتويجًا لمخاض عسير وطويل من النضالات المعرفيَّة والفتوحات الفكرية والمطامح الناشئة للطبقات المُتقدِّمة في المُجتمع. لقد كانت الثورة السياسيَّة تعبيرًا عن الرغبة في التغيير الشامل المُعبِّر عن مطامح مُجتمع بورجوازي ديناميكي يُطالبُ بحقه في المُساواة وفي إدارة الشأن العام استنادًا إلى قيم جديدة تتجاوز قيمَ العهد القديم الآفل. وهذه هي الثورة تحديدًا: حركة نقد وتجاوز واحتضان للتاريخ مفهومًا على أنهُ مسيرة انعتاق من اغتراب الإنسان التاريخيّ. وهذا النموذجُ الفرنسيّ يُبيِّنُ أنَّ فولتير سبق روبسبيير، وأنَّ " الأنوار " سبقت الثورة السياسية. فهل كانت ثوراتنا، أيضا، تتويجًا لمسار نضاليّ وتقدم معرفيّ ورغبة في النقد الذاتيّ لمُجتمع لم يعُد مُؤسَّسة تكفلُ لأبنائها جميعًا الحياة الكريمة الحُرَّة؟ هل كانت ثوراتنا، فعلا، نُشدانا للديمقراطية بوصفها نظامَ عمل مُجتمع يقومُ على مركزية الإنسان والمُساواة الحقوقية بين الأفراد بعيدًا عن أشكال العصبيَّات والانتماءات الطائفيَّة والمذهبيَّة السَّائدة؟ هل كانت ثوراتُنا مُحاولة في تأسيس " عقد اجتماعيّ " جديد يتجاوز منطق العلاقات القائمة عندنا، إلى اليوم، بين " الرَّاعي والرَّعية"؟ هل كانت انتفاضاتنا ثورات حقا بالمعنى التجاوزيِّ / النقديّ أم كانت حنقا مُعبِّرًا عن رفض تحديث فاشل وقع تحت سحر نموذج الدولة الأمنية ولم يُتح لهُ تحقيق التنمية البشريَّة؟ وما تفسيرُنا، بالتالي، لنوستالجيا العودة إلى البدايات ورفض منطق الأنسنة والتقدم من خلال الحلم بنموذج الخلافة القروسطي والرغبة في " تطبيق الشريعة "؟ ما تفسيرُ ذلك الحنينَ الذي لا ينتهي إلى " تطبيق الشريعة " - عند من ينتفضُ ضدَّ نظام الحكم العربيّ - سوى بوصفه ردَّ فعل المُجتمع التقليديّ / الذكوريّ على تحديث مُتوحش لم ينجح في بناء مُجتمع المُساواة الحديث على أنقاض مُجتمع الفحولة والوصاية والإخضاع؟ ثمَّ كيف يُمكننا أن نفهمَ " ثورة " تُطالبُ بالرّجوع إلى ما قبل الحداثة الحقوقيّة والسياسية؟ كيف يُمكننا أن نكونَ ثوَّارًا ونحنُ لم ننجز، بعدُ، ثورتنا الثقافيَّة والفكرية / النقدية لمورُوثنا من خلال نقد الذات ومُراجعة نظام عمل ثقافتنا التي لم تعُد على موعدٍ مع التاريخ؟ هل تمَّ نقد الشريعة الإسلاميَّة في شكلها الموروث باعتبارها منظومة قانونية جسَّدت عقلا فقهيا طائفيا مُتمركزا حول حقوق الله لا البشر؟ هل يُمكنُ أن يكونَ ديمقراطيّا من لا تكونُ مرجعية حقوق البشر – بمعزل عن انتماءاتهم الدينيّة – في قلب نضاله ومُمارساته السياسيَّة؟
نقولُ هذا ونحنُ نشهدُ عودة الإسلاميّين إلى ساحة العمل السياسيِّ في البلدان العربيَّة المُنتفضة من خلال صناديق الاقتراع. هذا ما يدعُونا بإلحاح إلى مُمارسة ما سمَّيناه " نقد العقل الثوريّ العربيّ ". لقد هلَّل هذا العقلُ لقطع رأس الملك قبل أن يشهدَ ميلادَ حركة النقد الجذريِّ الشامل للثقافة العربيَّة والمُجتمع العربيِّ. لم نتجرَّأ على نقد المُجتمع العربيِّ، إلى اليوم، بوصفه مُؤسَّسة قمعيَّة تعيشُ زمنا ثقافيا راكدًا ولا تنتجُ إلا الآلهة وثقافة " الحنين إلى كل ما يسقط " كما يُعبّر أحد المفكرين. لم ننجح في بناء مُجتمع مُحصَّن ضدَّ كل أشكال النكوص المُمكنة. هذا يعني أنَّ الثورة لا معنى لها بوصفها انتفاضة إن لم يقُدها عقلٌ جديدٌ وعملٌ صبورٌ طويل النَّفَس تربويا وثقافيا وإبداعيّا.
5
الديمقراطيَّة أنسنة. وأعتقدُ، شخصيّا، أنَّ العقلَ الدّينيَّ، عندنا، لم ينجح في التأنسُن بشكل كافٍ يُتيحُ له أن يكونَ ديمقراطيّا. هذه مُشكلة العقل العربيّ – الإسلامي بامتياز في ظل ثقافة لم تشتغل نقديّا على موروثها الخاص منذ قرون. لقد ظلَّ الأشعري مُفكرنا الأعظم وبقي ابن تيميّة مُشرِّعنا الأهم. و مازال المجالُ العام والحيز الفردي الخاص مُخترَقين، بصفة كلية، من طرف التشريع الدّيني التقليدي ونظام الوصاية والرقابة. هذا يعني أنَّ دائرة القيم، عندنا، ما زالت واقعة تحت سطوة المُقدَّس الديني ولم تُحدث قطيعتها المعرفية والتاريخيَّة باسم الإنسان وحقوقه. إنَّ مُجتمعنا، في كلمة، ما زال زنزانة للإنسان المُعتبَر قاصرًا بصورة أبديَّة. وأعتقدُ أنَّ هذا الأمر يجبُ أن يشكل مدار التفكير الجديّ والعميق في مُشكلة وضع الإنسان ثقافيا وكيانيا في المُجتمعات العربية. فلا فائدة للتفكير في الديمقراطيَّة سياسيا بمعزل عن الثورة الثقافية والحقوقيَّة التي يجبُ أن تسبقها. الديمقراطيَّة تحريرٌ من الوصاية المُتعالية وتدريبٌ على العيش المُشترك في ظل التعدد والاختلاف، وهي ليست، أبدًا، حيلة في اعتقال المُجتمع من جديد وتهديد حُرياته ومُكتسباته باسم صناديق الاقتراع.
لقد رأينا في الجزائر، مثلا، بين الإسلاميّين من جهر بالقول " إن الديمقراطية كفر " بداية التسعينيات، ولم يتورَّع عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع للإجهاز على الديمقراطيَّة التعددية الناشئة آنذاك ضمن مُغامرةٍ كلفتنا الكثير. لم يكن الأمرُ مُستغربا من مُناضل إسلاميّ بارز في الحركة الإسلاميّة التي أرادت " إنقاذ المُجتمع " وتحقيق سعادته واستقامته وخلاصه بواسطة فرض الفكر الواحد وتكفير الدولة والمُجتمع وقمع الحرّيات وإدانة الإبداع ووأد مُكتسبات المرأة في ظل الدولة الوطنيّة. كان مجانينُ الله يحلمون بعودة فردوس الفحولة الجريحة في زمن التحديث المُتوحِّش. كانوا يُعبِّرون عن مكبوت تاريخي هائل يمثلُ ردَّ فعل على تدهور قيم المُجتمع التقليدي وعلاقات القوة فيه؛ كما كانوا يُعبِّرون، جيِّدًا، عن أزمة التحديث لأنهم كانوا من ضحاياه ومن مُهمَّشيه ثقافيا وتربويّا واجتماعيا وسياسيا في الجزائر إبَّان حكم الحزب الواحد. هذا هُو الوضعُ المأساوي الذي رأى فيه مشايخ الإسلام التقليديّ "صحوة إسلاميَّة". فكيف لوضع مُماثل أن يكونَ أساسًا تُبنى عليه الديمقراطيَّة التعددية؟ كيف لهذا الخواء الثقافيّ والكبت الاجتماعي والتدهور الفكري أن يشكل مُنطلقا لعمل سياسيّ يُمكنه الارتقاء بالإنسان والمُجتمع نحو آفاق الحرية والعدالة والعيش المُشترك؟ كيف لهذا العنف المُضمَر إزاءَ الحداثة الفكرية والحقوقية والسياسية أن يكونَ ديمقراطيا؟
رُبَّما يطرحُ هذا الأمر، اليوم، مُشكلات عدة على العقل الإسلامي والفكر الدِّيني عُمومًا من أجل التفكير، جيّدًا، في إعادة النظر الجذرية في قضايا الدولة المدنيَّة والمُجتمع المفتوح وحقوق الإنسان في ظل مُكتسبات العقل الحديث. على العقل الدّينيّ أن يتخلَّص من نزوعهِ المُضمَر إلى الهيمنة على الفضاء الاجتماعي حيثُ يجبُ أن تسودَ القيمُ المدنيَّة المُشتركة. عليه أن يُخلّصَ " شهوة المُطلق " المشروعة بكل تأكيد – بوصفها توقا إلى العلوِّ والروحانية- من رغبة السَّطو على المجال السياسي حيثُ الشراكة والتعدد والاختلاف والفضاءُ العام الذي يتجاوز الحساسيات الطائفية والمذهبية. فلا مُطلقَ في الحياة العامة والسياسية، وإنما الحوار وإعادة النظر الدائمة ومرجعية الإرادة العامة في الاستجابة لتحديات الارتقاء بالإنسان وحقوقه.
هذه القطيعة المعرفيَّة والسياسيّة لم تعرفها المدينة العربية – الإسلاميَّة ولم يتنطح لها الفكر العربيّ – الإسلامي لأسباب تاريخية مُعقدة، ما يُفسِّرُ بقاءهُ أسيرًا لنظام الحقيقة الواحدة المُتعالية وللرغبة في بناء المدينة الأرضيَّة بوصفها انعكاسًا للمدينة السَّماوية. وإذا كانت الحداثة - في مدلولها العميق - تمثلُ تحريرًا للأرض من سيادة السماء وهيمنتها، فإنَّ ثقافتنا لم تعرف الحداثة بهذا المعنى وإنما بقيت خاضعة لسيف السَّماء المُسلط. هذا ما يُفسِّرُ عوائق انبثاق الأنسنة في ثقافتنا وعوائق البحث عن الديمقراطية في تراثٍ قام – في عمُومه وفي شكله المُؤسَّسي / السَّائد - على الأحادية وعلى المُطلق ومركزية المُقدَّس الدينيّ. فلم تحدث الثورة الكوبرنيكية التي تحلّ شمسَ الإنسان في مركز دائرة القيم، ولم يحصل فك الارتباط التقليديّ بين الحقيقة الأنطولوجيّة وشؤون السياسة المدنية وإنما بقيت مدينتنا قائمة على ميثاق تُحدّدهُ السَّماءُ وترعاهُ المُؤسَّسة السياسية. رُبَّما كانت هذه خصيصة العصور الوسطى الأساسيّة شرقا وغربا؛ ولكنَّ فكرنا يرفضُ، إلى اليوم، مُواجهة الموروث بصورة جذريَّة تُعيدُ النظر في الحياة العربية خارج مُسلَّمات الوعي القروسطي الذي لم يتمَّ على يديه تدشينُ زمن مركزية الإنسان وبناءُ الرابطة السياسيَّة على أساس من التعاقد الاجتماعيّ.
6
الديمقراطيَّة في أساسها زمنٌ ثقافيّ جديدٌ كما أسلفنا القول. إنها انبثاقُ مرجعيَّة الإنسان فكريا وسياسيا، وهي قطيعة مع الزمن الثقافيّ التقليديّ الذي ظلَّ يعيشُ في كنف المرجعيَّة المُتعالية. هذا هُو مفهومُها العميقُ وجذرها الانقلابيّ على الوصاية بكلِّ أشكالها. من هُنا نفهمُ تحرّجَ الفكر الإسلاميّ المُعاصر من مسائل الديمقراطيَّة وحقوق الإنسان والعلمنة وكلِّ ما يتعلَّقُ بالفكر الفلسفيّ السياسيّ الحديث: إذ لم يستطع هذا الفكرُ الإسلاميّ أن يُحدثَ ثورتهُ الإنسانيَّة أو أن يُعيدَ ترتيبَ العلاقة بين اللاهوت والناسوت في ضوء الانقلابات المعرفيَّة الحديثة والثورات التي رسَّخت مركزية الإنسان. لقد ظلَّ فكرًا يعيشُ على هامش صيرُورات التاريخ، ويجتهدُ في تبرير منطقهِ باسم الدفاع عن الهُويَّة والتميّز تارة، وباسم ضرورة عدم السُّقوط في أحبولة المركزية الغربية التي أعلت من شأن الإنسان بعد أن أزاحت مرجعيَّة الألوهة والتعالي تارة أخرى. كأنَّ الدعوة إلى الأنسنة واحترام حقوق الإنسان بعيدًا عن الوصاية الدينية التقليديَّة تجَرجرٌ وراء سِحر الغرب ولا يُمثل رغبة أخلاقية في الخروج بالإنسان العربيّ والمُسلم من قصوره الذي لا يخدمُ إلا أنظمة الاستبداد والتخلف والتبعيَّة. وهل نحتاجُ إلى أمثلة في ذلك؟ ألسنا نمثلُ – في العالم اليوم - البلدانَ الوحيدة التي ما زال بعضها يَسجنُ الصّحفيَّ ويكفّرُ المفكرَ النقديّ وما زال بعضها الآخر يُحاكمُ من يعتنقُ دينا جديدًا غير دين آبائه؟ ألسنا البلدانَ الوحيدة التي تعتبرُ المرأة كائنا قاصرًا وناقصَ الحقوق إلى الحدِّ الذي يمنعُها من المُشاركة السياسيَّة والثقافيَّة أو حتى قيادة السيارة؟ ألسنا البلدانَ الوحيدة التي يمتلكُ فيها الماضي سحرًا خاصّا يجعلهُ يسحقُ الحاضرَ والإنسانَ باسم الأصالة والشريعة وقيم المُجتمع البطريركي؟ ألسنا المُجتمعاتِ الوحيدة التي تنبذ السّؤالَ وتحبُّ أن تعيشَ في ظلّ الأجوبة النهائية كطحالب سعيدةٍ بخدَرها في بركة التاريخ الرَّاكد؟
يحتاجُ الفكرُ الإسلاميّ إلى إحداث ثورته وانتفاضته ضدَّ سيادة التقليد وسلطة الماضي المعرفيّ المُؤسِّس. يحتاجُ إلى الانفتاح على العالم برحابة عقل وصدر، وإلى التفكير في الألوهيَّة بوصفها وعدًا تاريخيا بانعتاق الإنسان من كلّ أشكال العبوديات لا باعتبارها استقباحًا لمُغامرة البشر في الإبداع وابتكار الحياة في أفق البحث الدَّائم عن الحرية والكرامة. كما يحتاجُ المُجتمعُ العربيّ إلى الانتفاض ضدَّ مُؤسَّساته العتيقة ونظام العلاقات الذي يسودُه. يحتاجُ إلى عتق الفرد وتحرير تطلّعاته وصبواته من هيمنة قيم الأبوية. كلّ هذا لم يحدث ونتحدَّثُ، مع ذلك، عن الثورات العربية وعن التغيير. كأننا لا نرى في التغيير سوى الانقلاب على الحاكم الذي خرج من رحم ثقافتنا ومُؤسَّستنا الاجتماعية القائمة على القهر والإخضاع.
هذا ما يدعونا، دائمًا، إلى القول إنَّ الشلل الذي نعانيه حضاريّا لا يرجعُ إلى نظام الحكم السياسيّ بقدر ما يرجعُ إلى المُجتمع والثقافة. فما نظامُ الحكم عندنا إلا الجزء الظاهر من الجبل الجليديّ الذي يقومُ على قاعدة عمل المُجتمع البطريركي وقيمه وعلاقات القوة الرَّاسخة فيه. لذا قد يرحلُ المُستبدّ العربيّ ولا يتغيَّر المُجتمعُ العربيّ نحو الأفضل والأرقى إنسانيّا وسياسيّا، وهذا لأنَّ العنفَ بنيويّ في مُجتمعاتنا التي لم تعرف انبثاقَ الحرية الفردية واحترام الاختلاف. وإنها لمُفارقة تستدعي التأمل العميق في مصير الانتفاضات العربيّة أن يجتاحَ الخوفُ على حرية التعبير وعلى بعض مكاسب المرأة قطاعاتٍ واسعة من المُثقفين والمُناضلين كما نُشاهد اليوم في تونس ومصر على الأخص. والشيءُ الجديدُ هُنا، فعلا، هو أنَّ الخوف غيَّر مواقعهُ فلم يعُد خوفا على الثورة وإنما خوفا منها أو من بعض نتائجها. أصبحنا نخشى أن يلتهمنا الماردُ الكامن فينا بعد أن حرَّرناهُ من قمقم القمع والكبت. ولكن ما دلالة ذلك؟ هُو أنَّ المُنتفض العربيَّ، رُبَّما، لم يكن فولتير.
تجبُ الإشارة هُنا، بالطبع، إلى أننا لا نقولُ إنَّ الثورات جميعَها يجبُ أن تستنسخَ التجربة الفرنسية الكبرى في القرن الثامن عشر، وإنما أردنا أن نُشيرَ إلى احتمال سقوط الانتفاضة وانتكاسها بعيدًا عن أهدافها في التحرير ما لم يرفدها وعيٌ ومشروعٌ ثقافيّ / إنسانيّ شاملٌ يتجاوز قطعَ رأس الملك. إننا نتفهَّمُ جيّدًا الانفجار الاجتماعيَّ ضدَّ التعسف والفساد والإفقار المُبرمج في النظام الأمنيّ العربيّ؛ ونتفهَّمُ الغضب الشعبيّ الكبير على نظام القهر واللامُساواة؛ وكان علينا أن نقفَ مع ذلك انتصارًا للمطالب الشعبية المشروعة في الحرية والكرامة. إلا أنَّ التجربة بيَّنت أنَّ المخاطرَ والشكوك بقيت تحومُ حول الثورة بعد أن رأيناها تقعُ في شرك بناء تجربة ديمقراطيَّة شكليَّة لم تحقق شرطها في الأنسنة والعلمنة واعتماد مرجعيَّة حقوق الإنسان وقيم المُواطنة الحديثة بعيدًا عن الانتماءات والعصبيات التقليدية الموروثة عن الماضي. فالهاجسُ الديمقراطيّ ليس هاجسًا شكليا أو عدديّا وإنما هُو قيمٌ حديثة ترتكز على الحقوق المُتساوية والحق في المُشاركة في الشأن العام والحق في النقد. وليس هذا الأمرُ واردًا في برنامج الأصوليّين الحركيّين الذين أتت بهم الانتخابات الأخيرة في أكثر من بلد عربيّ. على الديمقراطيَّة، بالتالي، أن تحميَ نفسها قانونيّا ودستوريّا أولا قبلَ أن تكونَ سلاحًا في يد غير الديمقراطيّين الذين يُهدِّدون المكاسب الحقوقيَّة والسياسية للإنسان العربيّ بشكل دائم.



#أحمد_دلباني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ألبير كامي بعد أكثر من نصف قرن: الأفق الفلسفي وتراجيديا الهو ...
- أدونيس ناقدا ثقافيا
- في الذكرى الثالثة لغيابه: محمود درويش عدميا
- حول مشروع البروفيسور الراحل محمد أركون: الفكر النقدي سبيلا إ ...
- ميتافيزيقا الجلاد - أدونيس منتقدا الرؤية الوحدانية
- فصل عن العرب سقط من فصول - كتاب الموتى-
- متى ينتهي نشيد البجعة؟
- الكتاب الأسود
- الشرعية السياسية والزمن الثقافي
- في الطوطمية السياسية وحضور الوصاية: الحقيقة والسياسة
- رسالة إلى مستبد عربي
- في مشكلة السلطة العربية واللاشعور السياسي الجمعي: خريف البطر ...
- عن الثورة العربية وأسئلة العقد الاجتماعي الجديد: قد يعود الب ...
- قداس السقوط
- احتفاءً بالكوجيتو العربي الجديد: - أنا أثور، إذن أنا موجود -
- المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد: التفكير بوصفه قطفا للثمرة ال ...


المزيد.....




- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد دلباني - في نقد العقل الثوري العربي: فولتير أولا، أم قطع رأس الملك؟