أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - القرآن المنحول [1]















المزيد.....



القرآن المنحول [1]


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 3633 - 2012 / 2 / 9 - 14:40
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


القرآن المنحول [1]
جاي سميث إبراهيم جركس
2010-2011

جدول المحتويات
القسم الأول (هل القرآن هو كلام الله ؟)
مقدمة
1) إشكاليات التراث الإسلامي
1.1) المصادر
1.2) تواريخ متأخّرة
الكتابة
الزمن
المخطوطات
1.3) الموثوقية
1.4) التناقضات
1.5) التماثلات
1.6) التضخّم
1.7) الإسناد
1.8) الرّوي
2) النقد الداخلي للقرآن
2.1) صياغة القرآن
الإعجاز
الضعف البنيوي
العيوب الأدبية
العمومية
الإقحام
2.2) المصادر التلمودية للقرآن
قصّة قايين وهابيل
قصّة البطريارك إبراهيم
قصّة سليمان وسبأ
2.3) التناقضات العلميّة في القرآن
2.4) حلّ ممكن (تاريخ الخلاص)
3) النقد الخارجي للقرآن
3.1) الهجرة
3.2) القبلة
3.3) اليهود
3.4) مكّة
3.5) قبّة الصخرة
3.6) محمّد
3.7) "مسلمين" و "إسلام"
3.8) القرآن
هل بإمكاننا استخدام هذه المصادر غير الإسلامية؟
نتيجة

**************
مقدّمة
يعتقد المسلمون أنّ القرآن ليس فقط كلمة الله الأخيرة والزكيّة، بل أنه أيضاً آخر وحي يتنزّل على بني البشر، فهو الكتاب الأخير من عند الله. فهو مصدره "أمّ الكتاب" حسب الآية رقم 4 من سورة الزخرف 43 {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. ويؤكّد المسلمون باستمرار أنّ القرآن هو النسخة الأصلية والأصيلة من وحي الله الأخير المنقوش على اللوح المحفوظ الأصلي الموجود منذ الأزل في السماء. فهم يشيرون بشكل دائم إلى سورة البروج التي جاء فيها {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [85: 21-22]. ويتجادل علماء المسلمين فيما بينهم حول ما إذا كانت هذه الآية تشير إلى اللوح غير المخلوق الذي كان موجوداً منذ الأزل. فهم يعتقدون أنّ القرآن نسخة طبق الأصل عن الكتاب السماوي الأصلي، حتى في تنقيطه، عناوينه، وأقسامه حسب السور.
طبقاً للتراث الإسلامي، بدأ هذا الوحي بالنزول (أو بالتنزيل) [الإسراء 17: 85]، إلى السماء الدنيا _أي أدنى سماء من السموات السبع_ خلال شهر رمضان، وفي ليلة القدر بالتحديد. ومن هناك، جرى إنزالها على محمد بالتدريج وعلى أقسام، وحسب ما اقتضته الحاجة، عن طريق الملاك جبرائيل [الفرقان 25: 32]. ومن هنا، فإنّ كلّ حرف وكلمة نقطة وكل كلمة خالية من تأثير الأيدي البشرية، وذلك يعطي القرآن صبغة من المرجعية، الأصالة، وحتى القداسة، وفي النهاية مصداقيته.
أغلب الباحثين الغربيين تقبّلوا هذه المزاعم من المسلمين بشكل ظاهري. فهم لم يكن بمقدورهم مناقشة حججهم ومجادلتهم فيها، لأنّ تلك الحجج لا يمكن البرهنة على صحّتها أو عدم صحّتها، بما أنّ مرجعيتّهم نفسها مستوحاة من القرآن نفسه.
كما كان هناك أيضاً تحفّظ للخوض في أمور مثل أصالة القرآن ومصداقيته، بالإضافة إلى مصداقية الرسول بسبب ردّات الفعل المضادّة نحو أولئك الذين امتلكوا الشجاعة الكافية للقيام بمثل تلك المحاولات في الماضي. والحقيقة هي أنّه ولفترة طويلة من الزمن كان الغربيون في جدال لافتراض أنّ المسلمين كانت لديهم أدلّة وبراهين وبيانات تدعم مزاعمهم.
لم يحدث حتى الآونة الأخيرة حتى قام باحثون في الإسلام (يعرفون بالمستشرقين) أعادوا فحص المصادر الإسلامية ودراستها، وتمّ الكشف عن ذلك الدليل والذي يدفعنا للشكّ والتساؤل حول الكثير من الأمور التي كنا نؤمن بها فيما يتعلّق بمحمد ووحيه "القرآن".
اكتشافات هؤلاء الباحثين تشير إلى أنّ القرآن لم يكن موحى شخص واحد بحدّ عينه، بل كان عبارة عن مجموعة من التنقيحات والتحريرات قام بها مجموعة من الرجال، وعلى مدى عدّة مئات من السنوات. بمعنى آخر، القرآن الذي نقرأه اليوم ليس هو نفسه الذي كان موجوداً خلال فترة منتصف القرن السابع الميلادي، بل على الأرجح كان نتاج القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. إذ أنه كان خلال هذا الوقت، كما يقول المستشرقين، وبشكل خاص في القرن التاسع، قد تمكّن الإسلام من تكوين هويته الكلاسيكية وأصبح على الشكل الذي هو فيه اليوم. لذلك، يجادل المستشرقون أنّ المرحلة التكوينية للإسلام لم تكن خلال فترة حياة محمد، بل تطوّرت خلال فترة الـ 200 إلى 300 سنة التالية.
والحال، أنّ المادة المصدرية لهذه الفترة خفيفة ومتفرّقة. أمّا جوهرياً فالمصادر الوحيدة التي كانت متوفّرة للمؤرّخين كانت المصادر الإسلامية فقط. وأكثر من ذلك، وخارج نطاق القرآن، تعدّ المصادر متأخرة جداً. فقبل عام 750 الميلادي، نحن لا نملك أيّة وثائق إسلامية معتمدة يمكن أن تفتح لنا نافذة على الفترة التكوينية للإسلام. إذ لا يوجد شيء يدعم مادّة الأحاديث التراثية الإسلامية (والتي تعني، التاريخ الإسلامي معتمداً على تراثهم). الوثائق المتأخّرة تعتمد ببساطة على الوثائق الأبكر، التي باتت غير موجودة اليوم (هذا إذا كانت موجودة في الأصل). الفترة الكلاسيكية (حوالي عام 800 ميلادي) تصف الفترة الأبكر، لكن من وجهة نظرها فقط، أي أنها أشبه بفترة الرشد وهم يؤرّخون مرحلة طفولتهم ولا يتذكّرون إلا الأوقات السعيدة فيها. لذلك، خرجت الأخبار ملوّنة، متحيّزة، غير موضوعية، ومشوبة بصبغة ذاتية، ومثل هذه الأخبار لا يمكن اعتمادها وقبولها على أنها موثوقة وأصيلة من قبل الباحثين والمؤرّخين (إشارة إلى دراسات كرونه حول إشكالية التراث والأحاديث، وخصوصاً تلك التي كانت تعتمد على المرويّات المحلّيّة، في التجارة المكّيّة، وعبيد على ظهور الأحصنة).
لذلك، خطّ التماس بين ما سيقبله المؤرّخ وبين ما يتضمّنه التراث الإسلامي أخذ بالنمو والاتساع للأسباب التالية: الإسلام _طبقاً للباحثين الإسلاميين الأرثوذوكس_ أعطى اعتماداً ومصداقية كبيرين للتدخّل الإلهي في وحيه. فالتراث الإسلامي يؤكّد باستمرار أنّ الله قد أنزل وحيه على محمد بواسطة الروح جبرائيل على مدى اثنان وعشرين عاماً (510-632 للميلاد)، وخلال هذه الفترة تمّت صياغة العديد من القوانين والشرائع التي تميّز الإسلام كما هو معروف اليوم.
ومع أنّ هذا هو السيناريو الذي يرفضه الباحثون اليوم، كما كان مفترضاً سابقاً أنّه خلال باكورة القرن السابع، ظهر الإسلام وتشكّل _وهو دين يعتبر متطورّاً من الناحية الهيكلية، ومكوّناً من منظومة معقّدة من الشرائع والقوانين والضوابط_ في بيئة بدوية متخلّفة وأصبح قيد العمل والتطبيق خلال فترة اثنان وعشرين عاماً فقط.
كانت منطقة الحجاز قبل ذلك الوقت غير معروفة ومجهولة بالنسبة للعالم المتحضّر. وحتى التراث المتأخّر يشير إلى تلك الفترة باسم "فترة الجاهلية" (أو فترة الجهل، وما تتضمّنه من تأخّر وتخلّف). كانت الجزيرة العربية قبل محمد تفتقر لأيّة ثقافة مدنيّة، كما أنها لم تكن قادر على إظهار أي منظومة أو بنية تحتية معقّدة، ناهيك عن تأكيد السيناريو الذي رسمه المصادر التراثية المتأخّرة للفترة المبكّرة من الإسلام. إذن، كيف يمكن أن يظهر الإسلام بهذه الدقّة وبهذه السرعة؟ ليس هناك أي دليل أو سبق يؤكّد هذا السيناريو. سيتوقّع البعض مثل هذه الدرجة من التعقيد بعد مرور فترة زمنية لا تقلّ عم قرنين من الزمن، بالإضافة إلى وجود وتوفّر مصادر أخرى، كالأخبار القادمة من حضارات مجاورة قد تكون استعارت من تلك المنظومة بعض القوانين والشرائع، لكن بالتأكيد ليس ضمن بيئة صحراوية فقيرة وبسيطة، وطبعاً ليست خلال فترة لا تتجاوز اثنين وعشرين عاماً.
الباحثون والمؤرّخون لا يمكنهم القبول ببساطة الموقف المفترض من قبل المصادر التراثية اللاحقة التي يفترض أنّها ذات مصدر إلهي، وخصوصاً بما أنّ هؤلاء المؤرّخين يؤكّدون باستمرار أنّ التاريخ بكامله يجب أن يكون مثبتاً بالأدلّة التاريخية. لذا فهم مجبرون بالتراجع والتوقّف قليلاً ثمّ التساؤل: كيف لنا أن نعرف مصداقية ما نعرفه؟ من أين تأتي المعلومات؟ وهل تقوم تلك المعلومات على تحليل تاريخي موضوعي وبعيد كل البعد عن الذاتية والتحيّز؟
وهذا ما قاد المؤرخين للوقوع في إشكالية. فبسبب افتراضاتهم العلمية البعيدة كل البعد عن التحيّز الديني واللاهوتي لا يمكن لهم أن يقيموا أبحاثهم على وجود الله، ومع ذلك لا يمكنهم إدارة ظهورهم للمصادر للتراثية الإسلامية أيضاً (والذي يفترض وجود الله بشكل طبيعي)، لأنها كانت الوثائق الأفضل والوحيدة المتوفّرة.
وكان الأمر كذلك، حتى مؤخّراً.
الجيل الجديد من الخبراء والعلماء والباحثين في مجال الإسلاميات (مثل د. جون وانسبرو، مايكل كوك، باتريشيا كرونه من أوكسفورد سابقاً، والآن تحاضر في كامبردج, يهودا نيفو من جامعة القدس، أندرو ريبّين من كندا، وآخرون)، في حين أنهم يقرّون أنّ يوجد نوع الغموض فيما يتعلّق بالوحي الإلهي، يبحثون الآن عم قرب أكثر في مصادر أخرى تتعلّق بالقرآن للتحقّق من علامات وإشارات عن أصوله ومنشأه. إنها هي المصادر التي بدأت الآن الكشف عن دليل لتفسيرات جديدة عن بدايات دين يعتقد فيه حوالي خمس سكّان العالم، ويتنامى بازدياد وبوتيرة أسرع من أيّة ديانة أخرى.
لذا سألجأ لاستخدام أعمالهم لفهم أفضل لمصدر محتمل آخر للقرآن. إنّها مادّتهم، وآخرين غيرهم، والتي على علماء المسلمين وباحثيهم أن يواجهوها بشكل أكثر جدية خلال السنوات التالية، كما أنّ هذه البيانات الجديدة تسلّط أسئلةً أكثر جدية على المزاعم التي طرحها العلماء المسلمون فيما يتعلّق بكتابهم المقدّس، القرآن، ونبيّهم، محمد. دعونا إذن نبدأ تحليلنا بإلقاء نظرة على المصادر التي من خلالها نعرف ما نعرفه عن الإسلام، نبيّه وكتابه.

1) إشكاليات التراث الإسلامي

لكي نقيم نقداً موضوعياً للقرآن من المهمّ جداً أن نصمّ آذاننا عمّا يقوله الدّعاة والمفسّرين الإسلاميين اليوم, بل العودة إلى البداية، إلى المصادر المبكّرة للقرآن المتوفّرة بين أيدينا وتحت تصرّفنا، للعثور على علامات تشير إلى أصالته. سيفترض البعض أنّ ذلك سيكون سهلاً القيام به، إذ أنه قطعة أدبية جديدة نسبياً، ظهرت في المشهد منذ حوالي 1400 عام تقريباً حسب ما يقوله المسلمون.
1.1) المصادر
كانت مسألة المصادر دائماً من أكثر المناطق إثارة للجدل بالنسبة لعلماء وباحثي القرآن، وكأيّ دراسة للقرآن يجب أن تبدأ بمشكلة المصادر الأولية مقابل المصادر الثانوية. فالمصادر الأولية هي تلك المواد الأقرب، أو التي تتميّز بدخول مباشر أو صلةّ مباشرة للحدث. أمّا المصادر الثانوية فتتعلّق بأيّة مادّة تميل بأنه تكون أكثر حداثة، وبذلك، فإنها تعتمد في الأصل على المصادر الأولية. في الإسلام، المصادر الأولية التي نمتلكها تمّ وضعها بعد مرور 150-300 عاماً على حدوث الأحداث التي تصفها, ولذلك هي بعيدة بعض الشيء عن تلك الأحداث. ولهذا السبب فإنها _بالنسبة لكافة الأغراض العملية_ هي مصادر ثانوية، إذ أنها تعتمد على مواد أخرى، لم تعد موجودة في يومنا هذا. أحد أوائل وأكبر هذه المصادر هو "تراث الحديث الإسلامي". وبسبب أهمية الأحاديث التراثية الإسلامية فمن المهمّ جداً أن نتعامل معها أولاً.
التراث والأحاديث الإسلامية تشتمل على الكتابات التي تمّ جمعها من قبل المسلمين خلال أواخر القرة الثامن وباكورة القرن العاشر الميلاديين وهي تتعلّق في الأساس بأقوال النبي محمد خلال القرن السابع الميلادي، وتفسيرات للقرآن. فهي تمثّل الجسم الأكثر شمولاً وإلى أبعد حدّ للمادة المتوفّرة لدينا اليوم عن الفترة المبكّرة للإسلام. كما أنها مكتوبة بتفصيل أكبر من أي شيء آخر في حوزتنا، فهي تحتوي على تواريخ بالإضافة لتفسيرات لما حدث. فهي بمثابة تتمّة للقرآن.
القرآن بحدّ ذاته يصعب تتبّعه، إذ أنّه يترك القارئ حائراً، مرتبكاً، وضائعاً خلال قفزه من قصّة إلى أخرى، ومن آية إلى أخرى، دون أن يقدّم أيّة خلفية أو رواية أو توضيح. وهنا عند هذه النقطة يصبح الحديث في غاية الأهمية، فهو سيملأ الفراغات في التفاصيل ويساعد على توضيح أو تفسير الصورة والتي ستكون مبهمة وغير واضحة من دونها. في بعض الحالات نلاحظ أنّ الأحاديث تسدّ على القرآن، فعلى سبيل المثال، عندما يشير القرآن إلى الصلوات اليومية الثلاث في الآيات (({وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود 11: 114]، {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء 17: 78-79]، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم 30: 17-18]، ومن المحتمل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور 24: 58]))[1]، في حين أنّ الصلوات اليومية الخمسة المنصوص عليها من خلال الأحاديث اللاحقة تمّ تبنّيها من قل المسلمين منذ ذلك الوقت.
عدد كبير من الأنواع موجود ضمن هذه الأحاديث. أمّا مؤلّفوها فلم يكونوا كتبة هم أنفسهم، بل كانوا محرّريها ومنقّحيها قاموا بجمع المعلومات التي "وصلت أو نقلت إليهم" ثمّ أنتجوها. هناك العديد من المحرّرين، لكن الأربعة الذين يعتبرون بين أغلب المسلمين على أنهم الأكثر أصالة في كل نوع كلّهم عاشوا وجمعوا مادّتهم خلال الفترة مال بين 750-923 ميلادي (أو بعد مرور 120-129 سنة على وفاة محمد). وسيكون من المفيد عرض أعمالهم، بالإضافة إلى التواريخ:
1) السيرة النبوية التي تتناول حياة محمد التقليدية (ومن ضمنها معاركه وغزواته). وأكثر السير اتساعاً وشمولاً تمّ وضعها كانت من قبل ابن إسحاق (توفي سنة 765 م)، إلا أنّهلا يوجد أي جزء أو قسم منها في يومنا هذا. لذلك، فإننا نعتمد على سيرة ابن هشام (توفي سنة 833 م)، والتي من المفترض أنّها مأخوذة عن سيرة ابن إسحاق، وذلك باعترافه هو (وفق ما جاء في بحث الباحثة باتريشيا كرونه) إلا أنّه حذف واستبعد تلك المجالات التي اعتبرها مهينة (مثل أي شيء شعر بأنّه غليظ ومستهجن، قصائد غير مستشهدة في أي مكان آخر، بالإضافة إلى الأمور التي وجد أنها غير جديرة بالثقة).
2) الحديث: وهو مؤّلف من آلاف الأخبار القصيرة أو الأقوال عن أقوال وأفعال النبي والتي تمّ جمعها من قبل المسلمين خلال القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. ومن بين أشهر مجاميع الأحاديث السّتة، صحيح البخاري (توفي سنة 870 م) يعتبر أكثرها أصالة وموثوقية.
3) التاريخ: وهو عبارة عن تواريخ والتسلسل التاريخي لحياة النبي، وأشهرها ذلك الذي يعرف بتاريخ الطبري (توفي سنة 923 م) والذي وضعه خلال بواكير القرة العاشر الميلادي.
4) التفسير: وهو مجموعة تفاسير وإيضاحات للقرآن، قواعده ومضمونه، واشهر تفسير معروف في يومنا هذا هو تفسير الطبري.
1.2) تواريخ متأخّرة
طبعاً أول سؤال علينا طرحه هو: لماذا كل هذا التأخير في تدوين هذه الأحاديث، أي بعد مرور 150-300 عام على حدوثها؟ ببساطة، نحن لا نملك أيّة ((أخبار عن المجتمع الإسلامي خلال مرحلته الأولية، أو خلال المائة وخمسون سنة الأولى منه، بين غزوات العرب الأولى [حوالي باكورة القرن السابع] وظهور _مع روايات السير والمغازي_ الأدب الإسلامي المبكّر)) [نحو حوالي أواخر القرن الثامن]. يجب أن نتوقّع بأنّ نجد، خلال تلك السنوات المائة وخمسون المتخلّلة، على الأقل بقايا دليل على تطوّر ديانة عربية قديمة إلى الإسلام (بمعنى آخر، تراث إسلامي)، ومع ذلك، فنحن لا نجد شيئاً.
هناك مسلمون يخالفون هذا الرأي، مؤكّدين أنّ هناك دليل على التراث الإسلامي المبكّر، وبشكل رئيسي موطأ مالك ابن أنس (ولد سنة 712 م، وتوفي سنة 795 م). نورمان كالدر في كتابه يبحث في علم التشريع الإسلامي المبكر يختلف مع هذه التواريخ المبكّرة ويبحث فيما إذا كان من الممكن إرجاع تلك الأعمال إلى مؤّلفيها أو كتّابها المفترضين. ويقول أنّ معظم النصوص التي لدينا اليوم والتي من المفترض أنّ أولئك هم مؤلّفيها هي "نصوص مذهبية"، منقولة ومتطوّرة خلال عدّة أجيال، ومحققةً الشكل الذي نعرفها فيه أي أحدث بكثير من "المؤلّفين" المفترضين الذين تنسب إليهم عادةً. باتباع الفرضية الحالية أنّ "التشريع الشافعي" (والذي ينصّ على إرجاع كافّة الأحاديث إلى محمد) لم يتمّ تطبيقه أو العمل به حتى بعد عام 820 للميلاد، وقد توصّل إلى نتيجة أنّه ولأنّ المدوّنة لم تتناول مرجعية محمد النبوية في حين أنّ الموطأ يتناولها، لذا فالموطأ يجب أن يكون هو الوثيقة المتأخّرة. لذلك، لم يرجع كالدر تاريخ المدوّنة إلى ما قبل عام 750 م، بل لفترة ما بعد المدوّنة والتي تمّت كتابتها خلال عام 854 م. في الواقع كالدر لم يكتفِ بوضع الموطأ إلى ما بعد القرن الثامن في الجزيرة العربية، بل إلى القرن الحادي عشر في قرطبة بإسبانيا. فإذا كانت أطروحته صحيحة إذن فنحن لم يعد لدينا أدنى دليل أو برهان على التراث الذي كان سائداً خلال الفترة المبكّرة من الإسلام.
همفري بدوره ينتقد هذه الإشكالية عندما يشير إلى أنّه ((على افتراض أنّ المسلمين يجب أن يكونوا قد أعطوا اهتماماً كبيراً لمسألة تسجيل إنجازاتهم العظيمة، في حين أنّ المجتمعات المثقّفة والحضارية والعالية التمدّن التي أخضعها المسلمون لسيطرتهم من المنطقي أن تتجنّب ذكر مثل هذه الأحداث، بل وتحاول طمس التاريخ المتعلّق بالغزاة)). ومع ذلك، وحسب أطروحة همفري كل ما نجده من هذه المرحلة المبكّرة مصادر إمّا أنها عبارة عن "شظايا وشذرات أو أنها تمثّل وجهات نظر معيّنة أو لامركزية"، تبطل وتعطّل أي إمكانية لإعادة بناء القرن الأول من الإسلام الأولي بشكل كافٍ ودقيق.
السؤال، إذن، من أين جاء مؤّلفو ومحرّرو القرنين الثامن والتاسع موادهم ومصادرهم؟
الجواب، وببساطة، هو أننا لا نعلم. "أدلّتنا عن عملية التوثيق ما قبل عام 750م، تنسجم وتتوافق بشكل كامل تقريباً للأكثر الاقتباسات المريبة والمشبوهة في عملية التجميع اللاحقة". لهذا السبب، نحن لا نمتلك أي دليل أو إثبات موثوق يثبت أنّ الأحاديث تتحدّث بصدق وبإخلاص عن حياة محمد، أو حتى القرآن نفسه. يطلب من العالم الإيمان بصحّة هذه الوثائق، والتي تمّت كتابتها بعد مضيّ مئات السنوات، ومع ذلك فإننا لا نملك أي دليل على صحّتها ودقّتها _خارج نطاق الإسناد_ والذي ليس أكثر من مجرّد قوائم من الإفادات[2] لأسماء أولئك الذين تمّ تمرير الأحاديث عن طريقهم. ومع ذلك، فحتى الأسانيد تفتقر لأيّ توثيق داعم يدعم أصالتها ودقّتها! بأيّ حال، سنناقش ذلك بتفصيل أكبر خلال الدراسة.
 الكتابة
يؤكّد المسلمون بأنّ المصادر الرئيسية الأولية يمكن إرجاعها إلى حقيقة أنّ الكتابة لم تكن معتمدة ضمن تلك البيئة الصحراوية المعزولة خلال تلك الفترة. وهذا الافتراض ليس مبني على أي أساس، إذ أنّ الكتابة على الورق بدأت قبل القرن السابع الميلادي بوقت طويل جداً. فالكتابة على الورق تمّ اختراعها في القرن الرابع، واستخدمت بشكل موسّع غبر العالم المتحضّر بعد ذلك. سلالة بني أميّة كان مقرّها في سوريا المقرّ السابق للدولة البيزنطية، وليست بلاد العرب. وكانت سوريا مكوّنة من مجتمعات معقّدة ومتقدّمة تستخدم الكتبة والسكرتاريين في المحاكم، ممّا يثبت أنّ عملية الكتابة وتدوين النصوص كانت متطوّرة جداً هناك.
علاوةً على ذلك، جرى إخبارنا أنّ شبه الجزيرة العربية (والمعروفة باسم الحجاز) خلال القرن السابع وما قبل، كانت منطقة تجارية وواقعة على طريق تجاري، حيث القوافل تسافر شمالاً-جنوباً، وعلى الأرجح شرقاً وغرباً. وفي حين أنّ الدليل يثبت أنّ التجارة كانت محلية بشكل أساسي (كما سنناقش فيما بعد)، فقد كان يتمّ استخدام القوافل. كيف كانت القوافل تحتفظ بسجلاّتها إذن؟ من المؤكّد أنّهم لم يكونوا يحفظون الأرقام والحسابات الكبيرة.
وأخيراً، علينا أن نتساءل: كيف حصلنا على القرآن إذا لم يكن هناك أي أحد قادر إمساك القلم والكتابة على الورق في ذلك الوقت؟ يزعم المسلمون أنّ هناك بعض المخطوطات من القرآن المبكّر وجدت بعد وفاة النبي بقترة قصيرة كمصحف عبد الله ابن مسعود، أبو موسى، وأبَي ابن كعب. ماذا كانت تلك المخطوطات والمدوّنات إذا لم تكن وثائق مكتوبة؟ فالنصّ العثماني نفسه يجب أن يكون مكتوباً، وإلا فإنه لن يكون نصاً! فالكتابة إذن كانت موجودة، لكن لسبب ما، لم يتمّ الاحتفاظ بأيّ سجلّ عن تلك الوثائق الأولية المفترضة ما قبل عام 750 م [3].

 الزّمن
يؤكّد علماء مسلمون آخرون أنّ غياب التوثيق المبكّر لتلك المرحلة يمكن أن يعود السبب إلى الزمن. إنهم يعتقدون أنّ المواد التي تمّ تدوين المادّة عليها بشكل أساسي قد تحلّلت وتشوّهت بفعل عامل الزمن، ولم تترك لنا إلا بضعة أمثلة اليوم، أو أنها ضعفت جرّاء المعالجة المناولة الثقيلة ودُمّرت.
إلاّ أنّ هذه الحجّة بحدّ ذاتها مشبوهة وغير دقيقة. ففي المكتبة البريطانية لدينا أمثلة غير قليلة من الوثائق كتبها أفراد من مجتمعات وديانات ليست ببعيدة عن الجزيرة العربية، حتى أنّهم يؤرّخون هذه المخطوطات بمئات السنوات. هناك مخطوطان من العهد الجديد معروضة كمخطوطة سينياتيكوس ومخطوطة ألكساندرينوس، وكلاهما وضع مخطوطه خلال القرن الرابع للميلاد، ثلاثمائة أو أربعمائة عام قبل الإسلام! لماذا لم تتحلّلا أو تفسدا عبر الزمن؟
بأي حال، يكمن الضعف في هذه الحجّة بشكل خاص عندما نسقطها على القرآن نفسه. "النصّ العثماني" للقرآن (النسخة الشرعية النهائية التي من المفترض أنّ زيد بن ثابت قد جمعها، بطلب من الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفّان) يعتبر من قبل كافة المسلمين أنّه التحفة الأدبية الأهم والأعرق في الوجود. وكما لاحظنا من قبل، فحسب ما ورد في الآيتان 2-4 من سورة الزخرف 43 {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، فإنه "أمّ الكتاب". وأهميته تكمن في حقيقة أنّه يعتبر نسخة طبق الأصل عن "اللوح المحفوظ" الموجود في السماء [سورة البروج 85: 22]. التراث الإسلامي يخبرنا أنّ كافّة النصوص الأخرى المنافسة تمّ التلاعب بها بعد عام 646-650 للميلاد. وحتى "مصحف حفصة"، الذي تمّ أخذ النصّ المنقّح النهائي منه قد أحرق. فإذا كان هذا النص العثماني بهذه الدرجة من الأهمية، فلماذا لم يتمّ تدوينه على الورق، أو أيّة مواد تدوم أكثر ليظلّ حتى يومنا هذا؟ وقطعاً، إذا شوّهت المخطوطات السابقة عن طريق الاستعمال المستمر والتناول، فلماذا لم تستبدل بأخرى مكتوبة على جلود الحيوانات لتدوم أطول، كالعديد من الوثائق الأخرى التي تمّ تدوينها على الجلود وبقيت حتى وقتنا الحالي؟
نحن لا نمتلك أي دليل على الإطلاق عن النص القرآني الأصلي. كما أننا لم نضع أيدينا بعد على أي من النسخ المزعومة الأربعة من هذا التنقيح النهائي وتمّ إرسالها إلى مكّة، المدينة، البصرة، ودمشق. وحتى إن كانت هذه النسخ قد تفسّخت وتحلّلت مع الزمن، فسيكون هناك قطعاً بعض القطع والأجزاء الباقية منها تشير إلى تلك الوثائق. فعند نهاية القرن السابع الميلادي كان الإسلام قد انتشر عبر شمال إفريقيا وصولاً إلى إسبانيا، وشرقاً تخطّى الحدود الهندية. وكان القرآن _حسب ما ورد في التراث الإسلامي_ القطعة المركزية في الإيمان. وطبعاً ضمن ذلك المناخ الكبير من التأثير القرآني كان لا بدّ أن تكون هناك بعض الوثائق أو النصوص القرآني التي بقيت موجودة حتى يومنا هذا. ومع ذلك، لم يتبقى لنا شيء من تلك الفترة.
في حين أنّ الديانة المسيحية يوجد لديها أكثر من 5300 نص ووثيقة يونانية عن العهد الجديد، وحوالي 10000 فولغاتا لاتينية، وعلى الأقل 9300 نسخة أخرى مبكّرة، وهذا يصل مجموعه إلى ما يتجاوز 24000 وثيقة ومخطوطة ما زالت موجودة، معظمها تمّ تدوينه خلال الفترة ما بين 24 إلى 400 سنة بعد وفاة المسيح (أو بالأخرى ما بين القرن الأول والخامس الميلاديين) ، أمّا الإسلام فلا يمكن البرهنة على أي من نصوصه حتى القرن الثامن. إذا كان بإمكان المسيحيين الأوائل الإبقاء والحفاظ على عدّة آلاف من النصوص والمخطوطات القديمة، وجميعها تمّت كتابتها وتأليفها قبل القرن السابع بزمنٍ طويل، في الوقت الذي لم يتمّ فيه اختراع الورق بعد، ممّا اجبر الناس على استعمال ورق البردي القابل للتحلّل والإفساد عبر الزمن، عندها جدير بنا أن نتساءل لماذا لم يكن المسلمون قادرين على تقديم مخطوطة واحدة على الأقل عن تلك الفترة الأحدث من الفترة المسيحية، وفي لحظة الوحي المفترض؟ هذا بالتأكيد يبيّن الإشكالية في الحجّة التي تقول أنّ المصادر والوثائق الأصلية والمبكّرة للقرآن قد تحلّلت وفسدت عبر الزمن، أو أنّها قد تلفت بسبب الاستعمال الطويل والكثيف.
 المخطوطات
بالمقابل، وكردّ، يجادل المسلمون أنّ يمتلكون فعلاً عدداً من هذه النصوص "العثمانية" المنقّحة، هذه النسخ الأصلية من القرن السابع ما زالت محافظة على شكلها. وأغلب المسلمين يزعمون أنّ هناك نسخاً أصليةً في مكّة، القاهرة، وعلى الأرجح في كل حاضرة إسلامية أو مستعمرة سابقة. وغالباً ما كنت أطلب منهم تزويدي بالمعلومات التي يمكن أ تدعم أصالتها وعتقها، وهو اختبار لم يتمكّن أحدٌ حتى الآن من الخوض فيه.
بأيّة حال، هناك وثيقتان قد تتضمّنان على شيء من المصداقية والأصالة، وإليهما يشير أغلب المسلمون. هناك مخطوطة سمرقند، والتي تمّ العثور عليها في المكتبة الرسمية السوفييتية، طشقند، بأوزبكستان (التي كانت تقع في الجزء الجنوبي من الاتحاد السوفييتي السابق)، ومخطوطة طوب قبو سراي، وهي موجودة في متحف طوب قبو في إسطنبول، بتركيا.
هاتان الوثيقتان قديمتان جداً، وقد أجريت الكثير من التحليلات الاشتقاقية واللغوية القديمة الكافية والوافية عليها من قبل علماء متخصّصين بالمخطوطات القديمة وتأريخها، بالإضافة إلى خبراء بالخطّ العربي دعماً لدراساتهم وأبحاثهم هنا.
● مخطوط سمرقند: مأخوذ من كتاب جيلكرايست (جمع القرآن)
مخطوطة سمرقند ليست وثيقة كاملة على الإطلاق. في الحقيقة، خارج المئة والأربعة عشر سورة الموجودة في القرآن اليوم، فإنها لا تتضمّن سوى على أجزاء من السور من السورة الثانية وحتى الثالثة والأربعين. من هذه السور، قسم كبير من النص مفقود. والكتابة الفعلية للنصّ في مخطوطة سمرقند تمثّل مشكلة فعلية، إذ يظهر أنّه نص معيوب وشاذ جداً. بعض الصفحات نظيفة وخالية من الشوائب ومنسوخة بعناية وبشكل موحّد، بينما هنا صفحات أخرى غير مرتّبة وفوضوية ومخلّة بالتوازن. في بعض الصفحات يبدو النص موسّعاً جداً، في حين أنّه في صفحات أخرى مثبّت ومكثّف بشدّة. في زمنٍ ما كان الحرف العربي (الكاف ك، كـ) مستبعداً من النصّ، في حين أنه في نصوص أخرى ليس فقط ممتدّاً وموسّعاً بل هو الحرف السائد في النص. ولأنّ العديد من صفحات المخطوطة تختلف بشدّة عن صفحات أخرى، فالافتراض الشائع اليوم هو أنّنا أمام نص مركّب، مؤلّف من إدخالات وحالات حشر من مخطوطات عديدة ومختلفة.
وأيضاً يوجد ضمن النص توضيحات وإشارات فنية بين السور، مرسومة عادةً من مجموعات من الصفوف والمربّعات، بالإضافة إلى مئة وواحد وخمسون ميدالية بالألوان الأحمر، الأخضر، الأزرق، والبرتقالي. هذه الإشارات التوضيحية هي ما دفعت الخبراء لإرجاع المخطوط إلى القرن التاسع، إذ أنه من غير الممكن أن تكون هذه الإشارات والتوضيحات متضمّنة في نسخة القرن السابع للنص العثماني وتمّ إرسالها إلى أقاليم أخرى.

● مخطوطة طوب قبو سراي:
مخطوطة طوب قبو سراي في إسطنبول بتركيا أيضاً تمّ تدوين النص فيها على رقّ، ومجرّد من التشكيل والتنقيط. وعلى غرار مخطوطة سمرقند نلاحظ أنّه تمّت زخرفتها وتزيينها بدوائر وميداليات مزيّنة وهذا إشارة إلى وقت لاحق.
يزعم المسلمون أنّ هذه المخطوطة هي إحدى المخطوطات الأصلية، لا بل إنها المخطوطة الوحيدة المكتوبة بخط زيد بن ثابت. بأي حال لا نحتاج سوى إلى إجراء مقارنة بسيطة بين هذا المخطوط ومخطوط سمرقند لندرك أنّ أياً منهما لا يمكن أن يكون من مصدر عثماني. على سبيل المثال، محطوطة طوب قبو سراي الإسطنبولية تحتوي الصفحة الواحدة منها على ثمانية عشر سطراً في حين أنّ مخطوطة سمرقند في طشقند لا تحتوي إلى نصف ذلك العدد أو أكثر بقليل، بين 8 و12 سطراً في الصفحة، مخطوطة إسطنبول مكتوبة على الرق بطريقة رسمية جداً، كتبت الكلمات والخطوط بشكل موحّد تقريباً، في حين أنّ النصّ في مخطوطة سمرقند غالباً ما يكون عشوائياً ومشوّهاً إلى حدٍ كبير. لا يمكن لأحدً أن يصدّق أنّ كلا المخطوطين منسوخان عن بعضهما وينفس الكتابة والخط.
تحليل المخطوطة
يقوم خبراء تحليل المخطوطات باستخدام ثلاث اختبارات لتقدير أعمارها. وللبدء، إنهم يختبرون عمر الورقة التي كتب عليها النص المخطوط، باستخدام مواد كيميائية كالتأريخ بالكربون-14. وهذا مناسب للوثائق الحالية كالقرآن، كتأريخ دقيق ما بين +/- 20 سنة محتملة. والحال، أنّه كان هناك تحفّظ في استخدامه، لأنّ كمّية المادة التي من الممكن تلفها خلال عملية المعالجة قد تكون (1 إلى3 غرامات) ممّا يهدّد بفقدان جزء كبير من المخطوط. طريقة أخرى أكثر دقة للتأريخ بواسطة عنصر الكربون-14، تعرف باسم AMS (مطياف مسرّع الكتلة) ويتمّ استخدامه الآن، ولا يلزم منه سوى 5.0 إلى 1.0 ملغ من المادّة للاختبار. ومع ذلك، حتى الآن لم يتمّ فحص واختبار أياً من هذه المخطوطات بهذه الوسائل المتطوّرة.
الخبراء أيضاً يدرسون حبر المخطوط ونوعيّته ويحلّلون مكوّناته وعناصره، محدّدين مكان صنعها وتركيبها، وما إذا كان قد كتب عليها لمرة واحدة أو عدّة مرّات. لكنّ عمر هذه الوثائق سيكون من الصعب الاستدلال عليه لأنّ حداثة الوثيقة. هذه المشاكل معقدّة بسبب صعوبة وصول هذه المخطوطات إلى ميدان البحث العلمي المفصّل، وذلك بسبب مخاوف أولئك الذين يحرسونها.
لهذا يجب أنّ يذهب الاختصاصيون إلى المخطوط نفسه، والقيام بالتحاليل اللازمة لمعرفة ما إذا كان المخطوط حديث أن قديم. ويعرف هذا النوع من الدراسات والأبحاث وبالباليوغرافيا Paleography أو علم ودراسة الكتابات القديمة. فأساليب رسم الحروف تتغيّر وتتبدّل عبر الزمن. وهذه التغيّرات تميل إلى أن تكون موحّدة إذ أنّ المخطوطات عادةّ ما يتمّ كتابتها على خطّاطين محترفين. وبهذا مال فنّ الخطّ إلى أسهل طريقة وهي اتباع الاتفاقيات، مع وجود تعديلات تدريجية. وعن طريق فحص خطّ اليد في كتابة نصوص معروفٌ تاريخها أصلاً ومراقبة تطوّراته عبر الزمن، يمكن لخبير الكتابات القديمة إجراء مقارنات بينه وبين نصوص أخرى مجهولة التاريخ وتحديد الفترة الزمنية التي يرجع إليها النص.
عندما نطبّق الاختبار الباليوغرافي على كلا المخطوطتين السمرقندية والطوبقابية فإننّا سنتوصّل إلى نتائج مثيرة للاهتمام تتعلّق بتواريخها. وهذا هو البرهان الذي سيكون بمثابة الحجّة الأهم والأكثر جديةً ضدّ أيّ احتمال في أن تكون أيّ من هاتان المخطوطتان يمكن أن تكون منسوخة، أو "عثمانية"، أو أنهما كانتا موجودتان أصلاً في القرن السابع.
● المخطوط الكوفي:
ما لا يعلمه أغلب المسلمون هو أنّ المخطوطتان السابقتان مكتوبتان بالخطّ الكوفي، وهذا النوع من الخطوط حسب خبراء القرآن أمثال مارتن لينغز وياسين صفدي، لم يظهر حتى أواخر القرن الثامن (من عام 790 وما بعد)، ولم يكن مستخدماً لا في مكّة ولا في المدينة خلال القرن السابع الميلادي.
وسبب ذلك بسيط جداً. أنظر: الخط الكوفي يستمدّ اسمه من مدينة الكوفة في العراق. وسيكون من الغريب جداً أن يكون هذا النوع من الخط هو الخط الرسمي للمخطوط الأصلي للقرآن بما أنّه خط يستمدّ اسمه من مدينة لم يمضي على غزو العرب لها سوى 10 إلى 14 عاماً.
من المهم جداً ملاحظة أنّ مدينة الكوفة، والتي هي في يومنا الحالي "العراق"، كانت مدينة ساسانية أو فارسية قبل ذلك الوقت (637-638 م). لذلك، في حين أنّ اللغة العربية كانت معروفة هناك، إلا أنّها لم تكن اللغة الرسمية السائدة، ناهيك عن النص العربي السائد، حتى بعد زمنٍ طويل.
نحن نعرف في الحقيقة، أنّ النصّ الكوفي قد بلغ اكتماله في أواخر القرن الثامن (أي بعد مضيّ مئة وخمسون عاماً على وفاة النبي محمد) ثمّ أصبح بعد ذلك مستخدماً على نطاقٍ واسع في جميع أصقاع العالم الإسلامي. وهذا أمر منطقي، إذ أنه وبعد عام 750، حكمت أسرة العباسيين العالم الإسلامي، وبسبب خلفيتهم الفارسية نقلوا مركز خلافتهم إلى منطقتي الكوفة وبغداد. وكانوا يريدون بذلك أن يسود نصّهم وكتابتهم الكوفية. إذ أنهم أنفسهم كانوا محكومين من قبل الأمويين (الذين كان مركز خلافتهم في دمشق) قرابة 100 عام، وسيتّضح لدينا الآن كيف أنّ خطّاً عربياً نشأ في منطقتهم، كالخطّ الكوفي، سيتطوّر إلى هذا النمط من الخطوط الذي نراه في كلا الوثيقتين المذكورتين هنا.
شكل وبنية المنظر الخارجي
عامل آخر يشير إلى تواريخ أحدث لهاتين المخطوطتين يتمثّل بالشكل الذي كتبت به كل منهما. سنلاحظ أنّه وبسبب الشكل المستطيل للخطّ الكوفي، فكلتاهما مكتوبتان على صحف أكبر بالعرض وليس بالطول. ويعرف ذلك باسم "بنية المنظر الخارجي"، وهي بنية مأخوذة من وثائق المسيحية السريانية والعراقية العائدة للقرنين الثامن والتاسع الميلاديين. والمخطوطات العربية المبكّرة جميعها مكتوبة "بشكل مستقيم وقائم".
لذلك، نستنتج من هنا أنّ كلتا المخطوطتين _السمرقندية والطوبقابية_ ولأنّهما مكتوبتان بالخطّ الكوفي، وبسبب بنية وشكل منظرهما الخارجي، فلا يمكن أن تكونا قد كتبتا قبل مضي مئة وخمسين عاماً على التنقيح العثماني المفترض، أي على أقل تقدير أواخر القرن الثامن وبدايات القرن التاسع.

● خط المشق والمائل
إذن إذا لم يكن الخطّ الكوفي هو الخط المستخدم في منطقة الحجاز، فما هو نوع الخط الذي كان سائداً في تلك المنطقة في ذلك الوقت؟ نحن نعرف أنّ هناك نوعين من الخطوط العربية المبكّرة والقديمة مألوفين لدى المسلمين المعاصرين. هذان النوعان هما: الخطّ المائل، الذي تطوّر في منطقة الحجاز، وبشكل خاص في مكّة والمدينة، وخطّ المَشَق، والذي تطوّر في المدينة بشكل خاص. تمّ استخدام الخط المائل خلال القرن السابع ويسهل تمييزه، حيث كان يكتب بزاوية مائلة بسيطة. في الواقع استمّر هذا الخط بالوجود قرابة قرنين من الزمن قبل أن يتوقّفوا عن استخدامه.
كذلك خط المشق أيضاً بدأ في القرن السابع الميلادي، لكنّ بقي قيد الاستخدام لعدّة قرون تالية. فهذا الخط أفقياً أكثر من ناحية الشكل ويمكن تمييزه بأسلوبه المتّصل والذي جرت كتابته بتروٍّ وعناية.
إذا تمّ تأليف القرآن في هذا الوقت من القرن السابع الميلادي، عندها يمكننا أن نتوقّع بأنّه تمّ كتابته إمّا بخط المشق أو بالخطّ المائل.
الملفت للانتباه، نحن لدينا قرآناً مكتوباً بالخطّ المائل، ويعتبر على أنّه أقدم نسخة من القرآن في متناولنا اليوم. كما أنه ليس موجوداً في إسطنبول أو طشقند، بل هو موجود الآن في المكتبة البريطانية بلندن. وجرى تأريخه إلى نهاية القرن الثامن، على يد مارتن لينغز، الأمين السابق على مخطوطات المكتبة البريطانية، وهو مسلم ملتزم.
لذلك، وبمساعدة التحليل الخطي، نحن متأكدين أنّه ليس هناك أي مخطوط معروف للقرآن في متناولنا اليوم يمكن إرجاع تأريخه إلى القرن السابع.
علاوةً على ذلك، عملياً كل قطع وكسرات المخطوطات القرآنية المبكّرة التي نمتلكها اليوم لا يمكن إرجاع تأريخها لأبكر من مضي مئة عام على الأقل على وفاة محمد. آن ماري شيمل في كتابها "خطّ اليد والثقافة الإسلامية" تؤكّد على هذه النقطة حيث تقول أنّه وبعيداً عن النسخة المكتشفة حالياً من [القرآن] في صنعاء، ((فالأجزاء المبيّنة الأسبق تعود إلى الربع الأول من القرن الثامن)).
الملفت للانتباه، أنّ هذه المصاحف التي تمّ العثور عليها في صنعاء مازال يلفّها الغموض، حيث أنّ الحكومة اليمنية لم تسمح للبعثة الألمانية التي اكتشفتها أن تنشر أبحاثها. هل يمكن أن يكون هذا التصرّف بمثابة محاولة للتغطية على ما قد تكشفه هذه النسخة المبكّرة من القرآن؟ كانت هناك اقتراحات تقول أنّ النصّ في هذا القرآن الذي يعود إلى باكورة القرن الثامن لا يتوافق مع النص الذي بين أيدينا اليوم؟ مازلنا ننتظر معرفة الحقيقة كاملةً.
من خلال الدليل الذي لدينا سيكون من غير المرجّح أنّ بعض الأجزاء من القرآن تمّ نسخها افتراضياً في مصحف عثمان بأمر منه وبقيت حتى وصلتنا. ما نقف أمامه الآن هو تلك الهوّة الزمنية الفاصلة التي تبلغ نحو 150 سنة والتي لا نستطيع ردمها. بأي حال، وقبل المتابعة بموضوع القرآن، دعونا نعود إلى مسألة الأحاديث والتراث الإسلامي ونتابع نقاشنا عمّا إذا كانت هذه المصادر المبكّرة للقران يمكن أن تقدّم لنا تأكيداً مناسباً لصلاحية القرآن وموثوقيته. أمّا أهم جزء من التراث والذي يستخدم على نطاق واسع في كافة أرجاء العالم الإسلامي فهو الأحاديث.


1.3) الموثوقية
هناك جدال كبير ليس فقط بين المؤرّخين العلميين، بل ضمن الأوساط الإسلامية أيضاً، حتى اليوم، حول مصداقية تصانيف الأحاديث ومجاميعها وموثوقيتها.
وكما لاحظنا سابقاً، معظم نصوصنا التاريخية عن الإسلام المبكّر تمّ جمعها بين 850-950 م. وجميع المواد اللاحقة استخدمت هذه المجاميع كمصادر قياسية لها، في حين أنّ المادّة المبكّرة وببساطة لا يمكن إثباتها أو البرهنة عليها بأي درجة من المصداقية والموثوقية والأصالة. إذ يمكن أن تكون المواد التراثية السابقة لم تعد ذات صلة، لذا تمّ تركها عرضةً للتلف، أو أنّه جرى إتلافها وتدميرها كلها. نحن لا نعلم بكل بساطة. ما نعلمه هو أنّ هؤلاء الجامعون على الأرجح أخذوا مادّتهم من مجاميع تمّ جمعها خلال العقود التي تخلّلت القرن التاسع الميلادي، وليس من وثائق مكتوبة في القرن السابع، وطبعاً ليس من شخص محمد ذاته أو أحد صحابته.
نحن نعلم أيضاً أنّ العديد من جامعيها كانوا يعيدون صياغة الأخبار الماضية (روايات وعبارات) والتي اعتبروها مقبولة، ومع ذلك بقيت معاييرهم لغزاً يصعب فكّه. الآن يبدو واضحاً أنّ "مدارس الشريعة" في القرن التاسع صادقت على أجندتها الخاصّة عن طريق التأكيد بأنّ مذاهبها قد ترجع في أصلها ومنشأها إلى صحابة النبي ثمّ من النبي نفسه.
يؤكّد شاخت على أنّ اصل هذا المأخذ كان الإمام الشافعي نفسه (توفّي عام 820 م). إنه هو الذي نصّ على أنّ كافة مصادر الشريعة يجب إرجاعها إلى محمد إذا أردنا إثبات أصالتها ومصداقيتها. وكنتيجة لذلك، الكتلة الأكبر من هذه المصادر الشرعية صنعتها المدارس الشرعية الكلاسيكية مبتهلةً سلطة ومرجعية النبي التي تمّ تأسيسها خلال زمن الشافعي وما بعد، وفي النهاية أفضت إلى المذاهب العراقية اللاحقة، وتلك المذاهب لا تعود في أصلها إلى الجزيرة العربية. وجدول أعمالها هي الأجندة التي جرى فرضها بكل كلية شريعة تتعلّق باختيار التقاليد والتراث في القرنين التاسع والعاشر والتي يعتقد الكثيرون الآن أنها تبطل وتضعف أصالة الحديث.
يوافق وانسبرو كلٌ من همفري وشاخت عندما يؤكّد أنّ تلك السجلاّت الأدبية، على الرغم من تقديم نفسها كمعاصرة للأحداث التي تصفها، تعود فعلياً إلى حقبة أحدث بكثير من تلك الأحداث، والتي تقترح أنها كتبت وفقاً لوجهات النظر التالية لكي تلائم أغراض وأجندات الفترة اللاحقة. لنأخذ مثال الشيعة. فأجندتهم شفّافة للغاية، حيث أنّهم يؤكّدون أنّه من 2000 حديث صحيح أغلبها (1750) متحدّر من عليّ، ابن عمّ النبيّ وزوج ابنته، والذي له مكانة خاصّة عند الشيعة. بالنسبة للمراقب العادي يبدو هذا الأمر مشتبهاً. إذا كانت مسلّمة الأصالة عند الشيعة سياسية بحتة، عندها لماذا لا نستدلّ نفس المسلّمة كانت تنطبق على مجموعات أخرى من التراث؟
السؤال الذي يجب أن نطرحه هو ما إذا كان هناك أو لم يكن حصيلة راسخة من الحقائق والوقائع التاريخية التي بقيت لنا لنستخدمها؟ شاخت ووانسبرو كلاهما متشكّكين حول هذه النقطة.
باتريشيا كرونه تمضي بالحجّة لبعد من ذلك حين تجادل أنّ التراث قد فقد مصداقيته وموثوقيته بسبب تحيّز كل جامع أخبار ومصنّف وانتماؤه لطرف من الأطراف. فهي تقول:
((إنّ أعمال الجامعون الأوائل كأبو مخنف، سيف بن عمر، ابن إسحاق وابن الكلبي هي وفقاً لذلك مجرّد أكوام من التقاليد التراثية المتفاوتة التي لا تعكس شخصية أحد، أو أيّة مدرسة، أو زمان، أو مكان. وكما يروي ابن إسحاق الأخبار والأحاديث لمصلحة العراق، فإنّ سيف العراقي لديه أخبار وأحاديث ضدّ العراق. وكافّة المجاميع متّسمة بإدراج مادّة مساندة لدعم القناعات الشرعية والمذهبية المتعارضة))
بمعنى آخر، مدارس الشريعة المحلية ببساطة قامت بتطوير أخبار وأحاديث مختلفة، معتمدةً على الأعراف المحلية السائدة وآراء العلماء والفقهاء المحليين. وقد أصبح العلماء والفقهاء مع الزمن مدركين لهذا التنوّع وشاهدوا بأمّ أعينهم الحاجة إلى توحيد الشريعة الإسلامية. وتمّ إيجاد الحل في مناشدة الأخبار والأحاديث النبوية، والتي لها مرجعية وسلطة أعلى من آراء الفقهاء. بدأت الأخبار والأحاديث المنسوبة للنبي بالتضاعف والتكاثر حوالي عام 820 م وما بعد.
لنأخذ مثال السيرة، والتي تعطينا أفضل مادّة متوفّرة تحكي لنا عن حياة محمد. إذ يبدو أنها تستمدّ بعض معلوماتها من القرآن. ومع أنّ "الإسناد" يتمّ اعتماده لتحديد الأصالة (والذي بتنا نعرف أنّه مشتبه، كما سنرى لاحقاً)، فإنّ أصالته تعتمد على مرجعية القرآن، الذي هو بدوره باتت مصداقيته قيد السؤال والشك أيضاً (وستتمّ مناقشته لاحقاً). فحسب أقوال جي. دي لا فيدا، في مقالته عن السيرة، إنّ مرحلة تشكّل السيرة حتى فترة تقلّصها واتخاذها وضعها الشرعي الحالي المعترف به يبدو أنّها حدثت على المراحل التالية:
((التبجيل والاحترام المتزايدين باستمرار لشخص محمد أثار عملية نمو وتضخّم حول صورته كشخصية تاريخية أسطورية ومؤلّهة مؤسّسة على ذكريات تاريخية متفاوتةً في تحريفها وتحويرها أمّا الحوادث التي عاشتها فمصاغة على أساس التراث الديني اليهودي أو المسيحي (ربما أيضاً الإيراني، إلى حدٍ ما).))
((إنه يمضي للقول بأنّ هذه المادة أصبحت، منتظمة ومنظّمة ضمن مدارس المدينة من المحدّثين، من خلال المدراش، الدقيق والمليء بالتراكيب، مؤلّفاً من آيات من القرآن، الأمر الذي أبهج المفسّرين وأسعدهم لاكتشاف تلميحات تشير إلى أحداث مؤكّدة في حياة النبي. بهذه الطريقة بالضبط تمّت صياغة تاريخ المدينة))
إذاً نحن أمام وثائق غير موثوقة وتفتقر لأصغر درجة من المصداقية. إلا أنّ المواد المبكّرة تقدّم بعض المساعدة. كتاب المغازي، وهو كتاب يتحدّث عن غزوات محمد ومعاركه، هو من الوثائق الإسلامية الأبكر والأقدم التي في متناولنا. فمن شأن هذه الوثائق أن تعطينا لمحة أفضل عن تلك الفترة، إلا أنّها لا تخبرنا سوى القليل عن حياة النبي أو تعاليمه. في الواقع، والغريب أنّه لا يوجد في أي مكان من هذه الوثائق تبجيل لمحمد أو تأليه لشخصه!.

1.4) التناقضات
هناك إشكالية أخرى تتخلّل التراث الإسلامي، ألا وهي مشكلة التناقضات، الخلط والتعارض بالإضافة إلى الشذوذات التي سيتمّ توضيحها هنا. على سبيل تسأل كرونه هنا: ((ماذا سنفعل بتصريحات البلاذري بأنّ جهة القبلة كانت نحو الغرب في أوّل مسجد في الكوفة... أنّ هناك عدّة فواطم [جمع اسم فاطمة]، وأنّ علياً أخا محمد في بعض الأحيان؟ هذا تراث معلوماته لا تعني شيئاً ولا تقودنا إلى أيّ شيء)).
بعض المؤلّفين كتبوا أخباراً وتقارير تناقض تقارير أخرى كتبوها هم أنفسهم. الطبري على سبيل المثال، غالباً ما يورد روايات مختلفة _ومتضاربة في بعض الأحيان_ لنفس الحادثة. والسؤال هنا إلى أي مدى قام الطبري بتحرير هذه المادة وإلى أي حدّ بقيت مفتوحة؟ هل قام بانتقاء الأخبار التي استخدمها لكي يطوّر ويزيّن السمات الرئيسية التي تميّز الدولة الإسلامية؟ نحن ببساطة لا نعلم.
يخبرنا ابن إسحاق أنّ محمداً قد ظهر ضمن بيئة يسودها الفراغ السياسي عند دخول إلى يثرب (المدينة)، لكنّه فيما بعد يخبرنا أنّه انتزع السلطة من حاكم كان يحكم المدينة. ابن إسحاق أيضاً يروي أنّ يهود الدينة كانوا مساندين وخير عون لجيرانهم العرب، ومع ذلك كان يؤذونهم. أياّ من هذه الروايات التاريخية علينا تصديقها؟ كما تشير كرونه: ((تمّ نقل هذه الروايات مع وجود إهمال تام للواقع التاريخي للمدينة خلال تلك الفترة)).
إشكالية أخرى تمثّل مرويّات متناقضة ومتعارضة منقولة عن مجاميع مختلفة. العديد منها عبارة عن أخبار مختلفة ومتضاربة حول سمّة عامّة. لنأخذ على سبيل المثال الروايات الخمس عشرة المختلفة عن لقاء محمد برجل دين من غير الإسلامي يعترف به كنبي مستقبلي. بعض الروايات تقول أنّ هذا اللقاء حدث خلال طفولة محمد، وأخرى تقول عندما كان التاسعة أو الثانية عشر من عمره، في حين أنّ هناك روايات تقول أنّه التقى براهب عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر تؤكّد بعض الأخبار والمرويّات أنّه تمّت مشاهدته من قبل رهبان مسيحيين أثيوبيين، أو يهود، في حين أنّ مصادر أخرى تؤكّد أنّ الذي رآه هو رائي أو كاهن إمّا في مكّة، أو عكاظ. تستنتج كرونه أنّ ما لدينا هنا الآن عبارة عن ((خمس عشرة نسخة خيالية مختلفة لحدث ربّما لم يحصل))
لذلك من الصعب جداً تقرير التقارير الأصلية من التي يجب استبعادها. هذه المشكلة هي التي تربك اليوم المسلمين والمستشرقين على حدٍ سواء.
1.5) التماثلات
من جهةٍ أخرى، العديد من الأخبار والتقارير التراثية تعكس نفس المادّة التي تعكسها غيرها من التقارير الأخرى، دلالة على تكرار نفس كمية البيانات خلال القرون ومن دون أيّة إشارة إلى منشأها وأصلها.
لنأخذ على سبيل المثال "تاريخ الطبري" الذي يتناول حياة محمد، وهذا العمل يشبه إلى حدٍ كبير سيرة ابن هشام، ونفس الأمر ينطبق على "تفسيره للقرآن"، والذي بدوره يشبه إلى حدٍ كبير صحيح البخاري الذي يجمع فيه أحاديث محمد. وبسبب التشابهات والتماثلات القائمة بين هذه الأعمال ذات التواريخ المتأخّرة، يبدو أنها تشير إلى مصدر واحد مبكّر يعود إلى القرن التاسع، هو نفس المصدر الذي تستمدّ كافة الكتب الأخرى مادّتها منه. هل يفترض ذلك مادّة "شرعية" أجازها العلماء؟ أمر محتمل، لكن ليس هناك أي سبيل للتأكّد.
لذلك، هذه المواد تخلق مشكلات هائلة للمؤرّخين الذين يعتبرونها أصلية إذا كانت هناك بيانات قابلة للملاحظة والتي يمكن تقييمها بموضوعية لاشتقاقها من خارج المصادر الثانوية نفسها، كالمصادر الأولية التي تمّ اقتباس منها هذه الأحاديث والأخبار. ومع ذلك لدينا القليل لنشير إليها. والسؤال هنا يجب طرحه: هل كان لتلك المصادر الأولية أي وجود ي الأصل؟ وإذا كان الأمر كذلك هل سنكون قادرين على تحديدها ومعرفتها، معتمدين على المادّة الثانوية التي في متناولنا؟



1.6) التضخّم
مشكلة أخرى نواجهها تشوب هذا التراث ألا وهي مشكلة التضخّم. كما ذكرنا من قبل، بدأت هذه الأعمال في الظهور خلال القرن الثامن وما بعده (أي من 200 إلى 300 بعد وقوع الأحداث التي تشير إليها). ثمّ تضخّمت وتزايدت حتى بلغت المئات ثمّ الآلاف. لماذا؟ وكيف يمكننا تفسير هذا التضخّم؟
لنأخذ حادثة وفاة والد عبد الله، والد محمد. فقد اتفق جامعو أخبار أواخر القرن الثامن (ابن إسحاق ومعمر) أنّ عبد الله باكراً وترك محمد يتيماً، أمّا بالنسبة لأسباب الوفاة والظروف التي مات فيها، فالله أعلم.
لكن فيما بعد، وخلال القرن التاسع، يبدو أنّ أحداً ما عرف. فالواقدي، الذي كتب بعد مرور خمسين عاماً لا يخبرنا فقط عن زمن وفاة عبد الله، بل الطريقة التي مات فيها، والمكان الذي مات فيه، وماذا كان عمره، ومكان دفنه بالضبط. وحسب ما يقول مايكل كوك: ((هذا التطوّر في مسار الأحداث خلال نصف قرن من حالة اللايقين وعدم المعرفة إلى الغزارة والوفرة في التفاصيل الدقيق يخبرنا أنّ تلك الكميّة غير القليلة من المعلومات التي عرفها الواقدي لم تكن معرفة)). وهذا أمر معروف عن الواقدي ومألوف منه، فهو لطالما كان يريد أن يعطي تواريخ دقيقة، مواقع، وأسماء بحدّ عينها حيث لم يكن يمتلكها ابن إسحاق نفسه.
تقول كرونه في كتابها: ((ليس من المستغرب أنّ الفقهاء وعلماء المسلمين كانوا مولعين بالواقدي: فأين يمكن لأي أحد أن يعثر على معلومات دقيقة وتفصيلية عن أي شيء يرغب بمعرفته؟ لكن بالنظر إلى أنّ أغلب هذه المعلومات لم يكن معروفاً لابن إسحاق قبله، فقيمتها مشكوك بها إلى أبعد حدّ. وإذا كانت المعلومات المزوّرة قد تراكمت بهذه النسبة خلال الجيلين بين ابن إسحاق والواقدي، فإنّه من الصعب جداً تجنّب النتيجة التي تفرض نفسها أمامنا أنّه لابدّ أنّ هناك المزيد جرت مراكمته خلال الأجيال الثلاثة التي تفصل بين النبي وابن إسحاق))
من هنا، ومن دون أي رقابة أو ضبط، أو الرغبة للقيام بأي توثيق، تجاوز جامعو الأخبار أنفسهم المهمّة التي يجدر بهم تأديتها.
علماء المسلمين الذين يعون عملية التضخيم هذه يبرّرونها من خلال المجادلة بأنّ الدين الإسلامي كان في بداية استقراره خلال هذه الفترة. لذلك، كان من الطبيعي أن تظهر الأعمال الأدبية المتنوّعة. فهم يقولون أنّ المادّة المكتوبة الأبكر لم تعد ذات صلة أو علاقة بالإسلام الجديد، ولذلك تمّ استبعاد المواد المبكّرة أو فقدانها.
في حين أنّ هناك تصديق واعتماد من نوع ما لهذه النظرية، يمكننا افتراض أنّ البعض من تلك الوثائق قد بقيت، قبعت منسيًة ضمن قبو مكتبة ما، أو ضمن مجموعة أحدهم من الكتب. إلا أنّه ليس هناك من شيء، وهذا أمر مثير للشك والريبة.
والأهمّ من ذلك هو ما إذا كان "النصّ القرآني العثماني" (أو التنقيح في صيغته النهائية، والذي من المفترض أنّ زيد بن ثابت هو من جمعه وصاغه خلال الفترة ما بين 646-650 م، والذي هو مصدر قرآننا الحالي) سيكون متضمناً ضمن هذا السيناريو؟ بالتأكيد كان يعتبر أنه ذات صلة، إذ أنه، وكما ذكرنا سابقاً، حسب التراث والأخبار أنّ كافّة النسخ والنصوص الأخرى جرى إحراقها وإتلافها على يد الخليفة عثمان بعد الانتهاء من عملية الجمع مباشرةً، تاركاً هذا النصّ الوحيد، مصدر كلّ النسخ التي تمّ صنعها لاحقاً. لكن أين هي تلك النسخ اليوم؟ فالكسرات والنتف من النص القرآني المبكّر التي بين أيدينا لم يتمّ تأريخها إلى ما قبل 690-750 م!. هل سيرغب هؤلاء الذين يتمسّكون بموقفهم ذاك بالاعتراف أنّ هذه النسخ الأربعة من القرآن أيضاً تمّ استبعادها أو إتلافها لأنّها لم تعد تمتّ للإسلام الجديد بأي صلة؟
علاوة على ذلك، العدد الكلّي للأحاديث التي ظهرت فجأةً خلال القرن التاسع تخلق لنا حالة من الشك والريبة. فقد قيل أنّه خلال منتصف القرن التاسع بلغ العدد الإجمالي للأحاديث 600000 حديث، أو روايات مبكّرة عن النبي. في الواقع، حسب ما جاء في التراث أنّ تلك الأحاديث كانت كثيرة جداً لدرجة أنّ الخليفة الحاكم طلب من البخاري أن يجمع الأقوال الصحيحة للنبي ويختارها بعناية من أصل 600000 حديث. من الواضح أنّه حتى في الفترة كان هناك شك يدور حول أصالة أغلب تلك الأحاديث.
لم يذكر البخاري بالمعايير التي اتبعها في الاختيار، ما عدا تصريحات مبهمة مثل "ليس بثقة" أو "غير ملائم". في النهاية، استبقى على 7397 من الأحاديث، أو بالكاد ما يعادل 1.2% من مجموع العدد الكلي. بأيّ حال، فاسحاً المجال للتكرار، بلغ المجموع الصافي 2762 ، جمعها من بين 600000. هذا يعني أنّه من بين 600000 حديث، هناك 592603 حديث مزيّف، وكان يجب استبعادها. وهذا بدوره يعني أنّ حوالي 99% من هذه الأحاديث اعتبرت مزيّفة. ألا يفقر هذا الأمر الاعتقاد بصلاحية ومصداقية التراث؟
من سخرية القدر أنّ هذا النوع من السيناريو فقط هو الذي يخلق حالة من الشك والريبة حول أصالة أياً من تلك الأحاديث. من أين جاءت هذه الأحاديث الستمائة ألف إذا كان أغلبها يعتبر أنه مزيّف؟ هل نمتلك أي دليل على وجودها قبل ذلك الوقت؟... على الإطلاق!
إنّ حقيقة أنّ هذه الأحاديث ظهرت فجأة خلال هذه الفترة (القرن التاسع، أو 250 سنة مضت على الأحداث التي تتكلّم عنها)، وتمّ رفضها بهذا الشكل الفجائي، تشير إلى أنّها تمّ اختلاقها وابتكارها ثمّ تبنّيها في ذلك الوقت، وأنّها ليست نتائج وقت أبكر. وهنا يتكرّر ما ورد في وقت أسبق على لسان شاخت يتعلّق بدافع جامعي أخبار القرن التاسع وحاجتهم لتصديق وإثبات صحّة القوانين والشرائع المستعارة من خلال إيجاد الصلة مع النبي. وفي خضمّ استعجالهم وعجلتهم تلك استعاروا الكثير من الأمور بشكل متحرّر، الأمر الذي بدوره، أجبر العلماء على المضيّ وتقديس تلك الأحاديث التي اعتبروها داعمةً لجدول أعمالهم وأجندتهم.
ذلك يتركنا أمام مشكلة أخرى: كيف قرّروا أيّاً من تلك الأحاديث كان موثوقاً وأصيلاً وأيّها يفتقر لذلك.

1.7) الإسناد
للإجابة عن هذا السؤال، يؤكّد العلماء المسلمون أنّ الوسائل الأولية للاختيار بين الأحاديث الأصيلة والمزوّرة كانت تتمثّل في عملية الإرسال الشفهي التي تعرف باسم "الإسناد". وهذا هو العلم الذي اعتمد البخاري، الطبري والعديد من جامعي أخبار القرن العاشر لتصديق أخبارهم وإضفاء المصداقية عليها. ومن أجل معرفة من هو المؤلّف الأصلي للعديد من الأحاديث التي في متناولهم، قدّم جامعو الأخبار لائحة من الأسماء تعود عبر سلسلة من العنعنات إلى المؤلّف الأصلي الذي عايش النبي نفسه. وبسبب أهميته هذا الموضوع بالنسبة لنقاشنا، علينا أن نقدّم شرحاً وافياً لهذا العلم المسمّى بالإسناد:
في سبيل إضفاء المصداقية والموثوقية على الحديث، أو الرواية، كان يتمّ إرفاق سلسلة من الأسماء قبل كل وثيقة تشير افتراضياً إلى الشخص الذي جرى نقل الحديث عنه. كان الأمر عبارة عن سلسلة من الأسماء والرواة: عن فلان قال، قال فلان بن فلان، عن فلان... عن الفلان الذي عاصر النبي... عن النبي أنه قال.
وفي حين أننا في الغرب نجد أنّ الإرسال الشفهي أمر مثير للشكوك وغير جدير بالثقة، إلا أنّه كان شائعاً في العالم العربي، بل كان بمثابة العربة التي حملت كامل تاريخهم ونقلته إلينا. ومشكلة الإرسال الشفهي هي في طبيعته، إذ أنه يفسح المجال للتحريف والتلاعب بما أنّه ليس هناك أي صيغة أو وثيقة مكتوبة للرجوع إليها. لذلك، يمكن التلاعب به بسهولة وذلك حسب أهواء وأهداف وأجندة الناقل (الأمر شبيه جداً بلعبة الأطفال "همسات صينية").
كان علم الإسناد بالنسبة للمسلمين الأوائل يعتبر جوهرياً وأساسياً، فهو يشير إلى أولئك الذين ألّفوا الوثيقة. لكن ما يهمّنا هنا هو كيف لنا أن نعرف أنّ تلك الأسماء كانت أصلية؟ هل هذا الشخص الذي ينسب إليه الإسناد صادق وينقل ما قيل بشكل صادق وموثوق؟
جامع الأخبار، من أجل إضفاء بعض المصداقية على كتاباته، سيدرج أسماء أشخاص معروفون تاريخياً في إسناده، وهذا الأمر مشابه لما نقوم به اليوم عندما نطلب من أشخاص وأفراد بارزين لكتابة تصدير لكتبنا. كلّما كانت اللائحة أكبر في السلسلة كلّما اكتسبت مصداقية وموثوقية أعظم. لكن بخلاف أولئك الذين يكتبون التصديرات لكتبنا اليوم، لم يكن جامعو أخبار القرن التاسع يملكون أيّة توثيق ليثبتوا أنّ مصادرهم كانت أصيلة وموثوقة. فهؤلاء الأشخاص الذين تمّت إضافة أسمائهم ماتوا منذ فترة طويلة جداً، ومن غير الممكن استدعاؤهم للشهادة على صدق الأقوال التي نقلوها.
والغريب أنّ ((الإسناد لديه الميل للنموّ والاتساع إلى الوراء. إذ أنه في نصوص باكرة معيّنة يمكن ملاحظة أنّ تصريح ما ينسب إلى أحد خلفاء بني أميّة، على سبيل المثال، أو قد لا ينسب، كما في حالة مبادئ وتشريعات قانونية معينة، في مكان آخر، نفس التصريحات نجدها على شكل أحاديث أو أخبار مع سلسلة طويلة من الإسناد تعود إلى محمد أو أحد صحابته))
لذلك من المرجّح أنّه جرى استخدام الإسناد لإضفاء نوع من المصداقية على أحاديث معيّنة ((من الواضح أنّها تتعلّق بأمور لها علاقة بمجتمع جاء بعد أجيال كثيرة من وفاة محمد، لكن تمّت قولبتها وتشكيلها على شكل توقعات مستقبلية تنبأ بها هو)). هذه الأسانيد والأحاديث التي تمنحها مصداقية مفترضة هي بالكاد تشهد للعقيدة والأفكار التي اختار المفسّرون الإيمان بها، فكيف إذن لما يمكن اعتباره كحقائق تاريخية، والتي بدورها تضعف تلك الأفكار والمعتقدات التي تسعى للاتصال بها.
إذاً من الواضح أنّ الأسانيد بدلاً من تدعم أو تثبت المادّة التي نجدها في التراث الإسلامي، فإنّها تسبّب بدلاً من ذلك مشاكل أعظم وأكبر. إذن نحن أمام حالة إدراك أنّه من دون وجود عملية إرسال مستمرّة وغير منقطعة بين القرن السابع والعاشر، فلا يمكن النظر إلى الأحاديث إلا باعتبارها نظرة سريعة للقرنين التاسع والعاشر الميلاديين ولا شيء أكثر.
علاوةً على ذلك، علم الإسناد بحدّ ذاته، والذي تمّ وضعه لإضفاء المصداقية على تلك الأسانيد لم يبدأ إلا في القرن العاشر الميلادي، أي بعد مضيّ فترة طويلة من جمع الأسانيد التي هي موضع السؤال، لذا فهي ليست ذات صلة كبيرة بموضوع نقاشنا. في النهاية، ولأنّه علم غير دقيق وغير مضبوط، فالطريقة الأكثر شيوعاً وانتشاراً بين مؤرّخي اليوم هي: كلّما كانت اللائحة أكبر، والتي تحتوي على أشهر الأعلام والأسماء التاريخية، كلّما ازدادت الشكّوك في أصالتها. وبناءً عليه، فنحن لن نعرف مطلقاً ما إذا كانت الأسماء الواردة في لائحة الإسناد قد قدّمت أو حتى استلمت المعلومات التي ينسب إليها تصديقها.

1.8) الرّوي
على الأرجح أنّ أكبر مشكلة تواجهنا عند استعمال التراث الإسلامي كمصادر تاريخية هي مشكلة الإرسال أو النقل. ولفهم أعمق لهذه الحجّة نحن بحاجة للنظر بشكل أعمق إلى مئات السنوات قبل ابن إسحاق (750 م)، وبعد وفاة محمّد عام (632 م)، منذ ذلك الوقت، "أحبار المسلمين الذين ندين لهم بسيرة محمد النبوية لم يكونوا هم خزّانات الذاكرة الأصلية التي حفظت تراث النبي".
طبقاً لما تقوله باتريشيا كرونه، الباحثة الدنماركية في هذا المجال من نقد المصادر، نحن لا نعرف سوى القليل عن المادّة الأصلية، إذ أنّ التراث والأخبار قد جرى إعادة قولبتها من جديد مع تعاقب الرواة خلال فترة قرن ونصف القرن. هؤلاء الرواة أطلقت عليهم تسمية "القصّاص". ويعتقد أنّهم هم من ألّفوا قصصهم ورواياتهم مستخدمين نموذج الأساطير المذكورة في الكتاب المقدّس والتي كانت شائعة آنذاك في كافة أصقاع العالم البيزنطي والمناطق المحيطة به في ذلك الوقت، بالإضافة إلى القصص ذات الأصول الفارسية. ومن قصصهم تلك نمى أدب كامل قائم بذاته ينتمي إلى أدب الرواية التاريخية أكثر من كونه تاريخاً.
ضمن هذه القصص والروايات هناك أمثلة عن مواد تمّ نقلها أو إرسالها عبر التراث الشفهي لأجيال قبل أن يتمّ تدوينها. وكانت تقسم إلى نوعين: المتواتر (مادّة تمّ تناقلها بالتتابع)، والمشهور (مادّة كانت معروفة بشكل جيد أو مشهورة).
تؤكّد باتريشيا كرونه في كتابها "طريق مكّة التجاري وظهور الإسلام" أنّ أغلب ما استلمه الجامعون المتأخّرون جاء عن طريق القصّاص الذين كانوا من الناحية التراثية بمثابة الخزّانات الحقيقية للتاريخ:
(( ... لقد كان القصّاص هم من صاغوا التراث الإسلامي. التراث التاريخي الصحيح الذي من المفترض أنّهم أضافوا إليه بعضاً من خرافاتهم وفبركاتهم لم يكن موجوداً ببساطة شديدة. وذلك لأنّ القصّاص لعبوا دوراً محورياً وحيوياً في قولبة التراث الذي لا يمتلك إلا القليل من الصحّة التاريخية أو الوقائع التاريخية التي تشير إليه. ومع تعاقب القصّاص، فقد تحوّل الماضي إلى مجموعة عادية من القصص، السمات، والمواضيع التي يمكن أن تدمج ويعاد دمجها مرةً أخرى في خضمّ وفرة الروايات الفعلية. وكل تركيبة وإعادة دمج ستولّد تفاصيل جديدة، وخلال جمع المعلومات المزوّرة الجديدة، ستضيع القديمة منها وتذهب طيّ النسيان. وفي حالة عدم وجود تراث بديل، كان الفقهاء مجبرون على الاعتماد على روايات وقصص الرّواة، كما فعل كلٌ من ابن إسحاق، والواقدي، ومؤرّخين غيرهم. وذلك لأنهم اعتمدوا على نفس الذخيرة من الروايات، ولذلك تكرّرت الأقوال والأحاديث في أعمالهم.))
لأنّ الروايات والأخبار المبكّرة والمكتوبة عن حياة محمد لم تتمّ كتابتها حتى أواخر فترة حكم السلالة الأموية (حوالي 750 م)، ترى كرونه أنّ ((التراث الديني الإسلامي تحوّل إلى نُصُبْ أدّى لدمار الإسلام المحمّدي بدلاً من الحفاظ عليه)) وأنّ ((هذا التراث بالذات معلوماته لا تعني أيّ شيء ولا تقود إلى أيّ مكان)). لذلك، من الواضح تماماً أنّ التراث الإسلامي ببساطة غير جدير بالثقة كما كان عند تطوّر وتضخّم أكثر من اللازم خلال مسيرة انتقاله من جيل لآخر. في الواقع، يمكننا أيضاً أن نكرّر ما قلناه سابقاً: التراث والأحاديث تكون ذات معنى فقط عندما تتحدّث عن الفترة التي كتبت فيها، لا أكثر ولا أقل.
هنالك الكثير من الصعوبات والمشاكل تتخلّل التراث: التواريخ المتأخّرة للمخطوطات المبكّرة، فقدان المصداقية بسبب وجود أجندات لاحقة، والتناقضات الواضحة عندما نقرأها بشكل دقيق، بالإضافة إلى عملية التضخّم والتنامي الراجعة لعملية التنقيح الشرسة على يد الرواة والقصّاص، والعلم غير المضبوط الذي يسمى بالإسناد الذي يستخدم للتحقّق والإثبات. هل لنا أن نستغرب أنّ المؤرّخين، في حين أنهم التزموا بالإشارة إلى المادّة التي قدّمها التراث الإسلامي (بسبب حجمها ومجالها)، يفضّلون أن يجدوا تفاسير بديلة لأفكار ونظريات مقبولة تقليدياً، في حين أنهم يبحثون في مكان آخر عن مادةّ مصدرية أخرى مغايرة؟ طالما أنّه تمّت الإشارة سابقاً إلى القرآن، فمن الطبيعي والمنطقي العودة إليه، كما أنّ هناك العديد من علماء المسلمين الذين يزعمون أنّه القرآن نفسه هو الذي يقدّم لنا أفضل مصدر لصالته موثوقيته، وليس التراث أو الأخبار أو الأحاديث.

2) النقد الداخلي للقرآن

في حين أنّ المسلمين ينظرون نظرة احترام وتقديس لكافة الكتب والنصوص المقدّسة، ومن ضمنها العهدين القديم والجديد، إلا أنّهم يطالبون بمنح مكانة عالية ومميّزة وخاصّة للقرآن، زاعمين أنّه مترفّع ومتفوّق على كل الكتب المقدّسة الأخرى، لأنّه _حسب زعمهم_ من الناحية المبدئية، لم يكتب من قبل البشر ولم تعكّره أفكار البشر ورغباتهم وأهوائهم. ولسبب كهذا غالباً ما كان يشار إليه على أنّه "أمّ الكتاب" [5] أو أصل جميع الكتب.

2.1) صياغة القرآن
يزعم المسلمون أنّ تفوّق القرآن على كافة الكتب مردّه إلى بنيته المعقّدة وأسلوبه الأدبي البليغ. وهم يقتبسون آيات من سورة يونس التي تقول {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [10: 37-38]، ومن سورة الإسراء {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [17: 88] ويتردّد صدى ذلك في كتب التفسير التي تقول: ((هذا بيان لإعجاز القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة والغريزة النافعة في الدنيا والآخرة لا تكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ولهذا قال تعالى (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ) أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر)) [6].
 الإعجاز
يستدلّ المسلمون أنّ بما أنّ ليس هناك أي مكافئ أدبي في الوجود، فهذا يثبت أنّ القرآن معجزة منزلة من عند الله، وليس مكتوباً بيد البشر. هذا الأمر هو مصدر فرادته، إعجازه، والذي يظنّ المسلمون أنّه يثبت أصله الإلهي ويضعه في مصاف المعجزات الإلهية، ويؤكّد دور محمد بالإضافة إلى أصالة الإسلام ومصداقيته.
ومع ذلك، فالقرآن نفسه يثير في أنفسنا شكوكاً بالنسبة إلى صياغته المبكّرة، وبالتـأكيد يخلق لدينا شكوكاً تتعلّق بإعجازه ومعجزته. في الواقع نحن نعلم أنّه حتى نهاية القرن العاشر الميلادي ظهرت فكرة الإعجاز وأخذت شكلها النهائي وصيغتها النهائية، وبشكل خاص كردّ فعل تجاه الكتابات الجدلية المسيحية التي نبشت تلك العيوب في ذلك الوقت.
هناك بعض المسلمين الذين يتساءلون عمّا إذا كان التشكيك في الإعجاز أمر ملائم للقرآن. سي. جي. فاندر، الباحث في الإسلام، أشار عام 1835 أنّ ((من دون شك أنّ الرأي العالمي للعلماء المسلمين غير المتحيّزين أنّ الأسلوب الأدبي للقرآن أرفع وأرقى من كل الكتب الأخرى باللغة العربية. البعض يشكّ يفوق معلّقات امرؤ القيس من ناحية الشعر والفصاحة والبلاغة، أو مقامات الحريري، إلا أنّه في العالم الإسلامي لا يملك سوى البعض القليل الشجاعة للتعبير عن آرائهم هذه)).
يتوسّع فاندر بدراسته المقارنة بين القرآن والتوراة. فيقول: ((عندما نقرأ العهد القديم باللغة العبرية الأصلية، يرى العديد من الباحثين أنّ الفصاحة والبلاغة في سفر إشعيا، سفر التثنية، والعديد من المزامير الأخرى _على سبيل المثال_ أرقى وأعمق وأعظم من أي جزء أو سورة في القرآن. بالكاد ستجد أي أحد _باستثناء من المسلمين_ سينكر هذا الأمر، وعلى الأرجح أي مسلم ملمّ باللغتين العربية والعبرية بشكل جيد سينكر ذلك)).
 الضعف البنيوي
مقارنة بسيطة مع الكتاب المقدّس ستسلّط الضوء على بعض المشكلات الأخرى. إذا بدأ أي شخص يعرف الكتاب المقدّس بشكل جيد بقراءة القرآن سيتبيّن له مباشرةً أنّ القرآن هو من نوع أدبي مختلف تمام الاختلاف، بكافة مزاياه الشعرية.
حيث أنّ الكتاب المقدّس يحتوي الكثير من الروايات التاريخية، فالقرآن يحتوي القليل منها. حيثما الكتاب المقدّس يتجاوز سياقه لتوضيح ألفاظ أو مجالات مبهمة، نرى أنّ القرآن يقف صامتاً. في الواقع، بنية الكتاب المقدّس نفسها، مكوّنة من مكتبة تتضمّن ستاً وستين كتاباً، مكتوبةً على مدى 1500 سنة وتظهر أنّها مرتّبة حسب تسلسل زمني، بالمواضيع والسمات.
القرآن، من ناحية أخرى، يُقرأ كمجموعة مختلطة وغير منتظمة من التصريحات والأفكار، الكثير منها ليس له صلة أو علاقة بالآيات والسور اللاحقة. العديد من العلماء يعترفون أنّ القرآن عشوائي جداً وفوضوي للغاية في تركيبه حتى أنه يستلزم أعلى مستوى من الحس بالواجب عند أي شخص يريد الخوض فيه.
الباحث الألماني سالمون ريناخ يقول في تحليله الجاد:
((من وجهة نظر أدبية بحتة، القرآن لا يمتلك أيّة ميّزات أو مزايا. كلام خطابي، تكرار، عبارات طفولية، افتقار تام للمنطق والتناسق يصدم القارئ عند كل منعطف فيه. من الغريب والمهين جداً للذكاء والفطنة البشرية الاعتقاد أنّ هذا النوع من الأدب العادي كان موضوع تفسيرات وأبحاث وتأويلات لا تحصى، وأنّ ملايين البشر ما زالوا يهدرون وقتهم بالاستغراق فيه))
في سياق مماثل، نصّت موسوعة مكلينتوك وسترونغ أنّ:
((إنّ مسألة القرآن هي مسألة معقّدة ومفكّكة جداً وشمولية، إذ من الواضح أنّ الكتاب كان من دون أي ترتيب أو فكر منطقي سواء ككلّ أو كأجزاء كل جزء على حدة. وهذا يوافق الأسلوب المفكّك والعرضي والاستطرادي الذي قيل أنّه تمّ استلامه به))


 العيوب الأدبية
حتى المسلم السابق علي الدشتي عوّل على العيوب اللغوية في القرآن، قائلاً: ((والحال، أنّ لغة القرآن تشتمل على جمل غير مكتملة تظلّ مستغلقة تماماً وبعيدة عن الإفهام لولا شروح المفسّرين، وعلى كلمات غريبة ليست من كلام العرب، وكلمات عربية غير مألوفة، وكلمات مستخدمة بغير معانيها المعتادة، وعلى نعوت وأفعال تصرّف دوم التزام بمقتضيات الجنس والعدد، وعلى ضمائر تستخدم على نحو غير منطقي ودون التزام بالقواعد ودون أن يكون لها مرجع أو إحالة في بعض الأحيان، وعلى ضروبٍ من المفعول به غالباً ما تكون في المقاطع الموقّعة بعيدةً عن فاعليها. ومثل هذه الضروب من الزيغ في اللغة هي ما أفسح المجال للنقّاد الذين ينكرون بلاغة القرآن. بل إنّ هذه المشكلة قد شغلت أيضاً عقول المسلمين الأتقياء أنفسهم. فقد اضطرّت إلى السعي وراء التعليلات ولعلّها كانت واحداً من أسباب الخلاف على القراءات))
خلال قراءة سور القرآن سرعان ما يلاحظ الفرد أنّها تفتقر إلى التسلسل التاريخي. فحسب التراث الإسلامي، السور الأطول التي في بداية القرآن هي السور التي نزلت لاحقاً، وأنّ السور الأقصر التي يختتم بها القرآن كانت تعتبر أنها الأقدم والأبكر. ومع ذلك هذه المصادر نفسها تخبرنا أنّ هناك سوراً معينة تشتمل على آيات مكّيّة ومدنيّة معاً، أي آيات مبكّرة ومتأخّرة. لذلك من الصعب جداً معرفة أيّ التصريحات في القرآن في المبكّرة وأيّ منها المتأخّرة.
مشكلة أخرى وهي مشكلة التكرار. فقد أخبرونا أنّ القرآن قد جرى حفظه في صدور أشخاص أمّيين غير مثقفين أو متعلّمين. لذا فهو يغرق في مبدأ التكرار اللانهائي لنفس المادة. هذا كله يقود إلى نوع من الارتباك والحيرة عند القارئ العادي، ويبدو أنّه يشير إلى تصميم حافل بالذكريات للرواة والقصّاص الذين ذكرتهم سابقاً.
القرآن يحتوي على عيوب وأخطاء أدبية أخرى. ((المادّة ضمن سور فردية تقفز من موضوع لآخر، بمضاعفات وتضاربات ظاهرة في القواعد اللغوية، التشريع واللاهوت)). اللغة نصف شعرية، بينما قواعدها، بسبب التعديل والحذف، فبيضاوية للغاية وغالباً ما تكون غامضة ومبهمة وملتبسة في بعض الأحيان. هنالك تعارض قواعدي (كاستخدام الضمائر في صيغة الجمع مع أمور مفردة)، وتغيّرات في التعامل مع أسماء الجنس (على سبيل المثال أنظر سورة البقرة 2: 177، آل عمران 3: 59، النساء 4: 162، المائدة 5: 69، الأعراف 7: 160، والمنافقون 63: 10). في الكثير من الأوقات تترك الجمل من دون أفعال، على افتراض أنّ القارئ حسن الاطلاع. وهي لا تمتلك سوى بضعة تفسيرات ولذلك من الصعب جداً قرائتها.
ولكن هذه الأمور ليست هي المشكلات البنيوية الوحيدة. إذ تشير باتريشيا كرونه إلى أنّه ((داخل بنى الآيات هناك عملية إزاحة مبتذلة تحدث بشكل مفاجئ ومتكرّر. فقد يظهر الله في الشخص الأول أو الثالث في الجملة نفسها. قد يكون هناك بعض حالات الإسقاط والإغفال، والتي إن لم يتمّ تفسيرها بشكل جيدّ ووافٍ، فستكون مبهمة وخالية من المعنى)).
وكاستجابة على هذه الاتهامات، النحوي اللاهوتي "الروماني" [توفي سنة 996م] يقول أنّ الحذوفات والمخالفات القواعدية كانت أدوات بلاغية إيجابية جداً بدل أن تكون دليلاً على التسرع أو الإهمال في الكتابة. هذه الحجّة من المستحيل تقييمها، وذلك مردّه إلى الافتقار إلى أي أدب دنيوي معاصر يمكن إجراء المقارنة معه. فهذا من شأنه أن ((يجعل من الحجّة حجّة دوغمائية... لكنّها ستكون فعّالة (على غرار العديد من الحجج الدينية الأخرى) ضمن إطار الإسلام وحده)).
ومع ذلك كانت هناك محاولات من قبل علماء غير مسلمين لنقض المزاعم الواردة أعلاه بالتعرّض للسبب الحقيقي لهذه المخالفات. الكندي، فيلسوف وخبير جدلي مسيحي كان موظّفاً في محكمة الخليفة، خاض نقاشات مع مسلمين حوالي عام 830 م (هذا مباشرةً بعد إعلان قداسة القرآن). بدأ أنّه كان يعي دوافع المسلمين وأجندتهم في ذلك الوقت. متوقعاً المزاعم التي قدّمها المسلمون أنّ القرآن نفسه كان برهاناً على مصدره ووحيه الإلهي فقد كتب يقول:
((إنّ نتيجة كل هذا [العملية التي ظهر فيها القرآن إلى حيّز الوجود] واضح بالنسبة إليك يا من تقرأ الكتاب المقدس وترى كيف أنّ التواريخ، في كتابك، تمّ جمعها سويةً وخلطها ببعضها البعض، وهذا دليل على أنّ هناك أيادٍ كثيرة عملت فيه، وسبّبت كل هذه التعارضات التناقضات، مضيفة ومسقطة كل ما تراه مناسباً أو غير مناسب في نظر أصحابها. فهل مثل هذا الكتاب الآن هو نتيجة وحي أنزل من السماء؟))
الملفت للانتباه، هذا التصريح الذي صرّحه الكندي في باكورة القرن التاسع يتوافق وينسجم بشكل كبير مع النتيجة التي توصّل إليها وانسبرو بعده بقرنٍ ومئة عام، وكلاهما يؤكّد أنّ القرآن هو نتيجة عملية تجميع عشوائية قام بها منقّحون متأخّرين جاؤوا بعد مضيّ قرنٍ كامل على الأحداث.
 العمومية
إشكالية أخرى تتخلّل القرآن وهي مجاله. بعض السور تنصّ أنّه كتاب مخصّص فقط للعرب (أنظر الآيات {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم 14: 4]، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [الشورى 42: 7]، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف 43: 3]، و{لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف 46: 12])، في حين أنّ سوراً أخرى تشير إلى أنّه كتاب أنزل لجميع الناس ولكل زمان ومكان (أنظر الآية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ 34:: 28]). هل هذا الاستعمال العمومي والشامل قد جاء فيما بعد، تمّت إضافته لاحقاً بعد توسّع رقعة العالم الإسلامي ودخول أمم أجنبية وأعجمية فيه، وبين الناس الأجانب؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن شأنه أن يضيف شكوكاً إضافية على مصداقيته وموثوقيته كمصدر مبكّر.
 الإقحام
في القرآن نفسه هناك حالات واضحة وجليّة من الاستكمال الذاتي. يشير مايكل كوك إلى مثال يمكن ملاحظته في السورة الثالثة والخمسون [سورة النجم]، حيث أنّ (( النصّ الأساسي يتألّف من آيات قصيرة متسقة ومتماثلة بأسلوب روحاني وملهم، لكن نلاحظ في موضعين أنّ هناك مقاطع تقاطع ذلك الإنسياب وتتميّز بأنّها مملّة [فقيرة وضعيفة الخيال] ومسهبة [مضجرة، فارغة] وهي في المكان غير الملائم)). هل هذه الآيات من ذات المصدر، وهل هي في الأصل تنتمي إلى نفس السورة؟
هناك ميزة أخرى في غاية الأهمية تتمثل في التكرار، إذ أننا نجد نسخاً بديلة لنفس الآية ضمن أجزاء أخرى مختلفة من القرآن. نفس القصّة يمكن إيجادها مكرّرة مع وجود تغييرات طفيفة ضمن سور أخرى. وعند وضعها بجانب بعضها البعض غالباً ما تظهر هذه النسخ المتنوّعة نفس نوع الاختلاف الذي يمكننا إيجاده بين النسخ المتماثلة من الأحاديث الشفهية. من جديد نحن أمام مثال آخر عن كتاب لم يكتبه كاتب وحيد، بل قام بجمعه لاحقاً عدد من الأفراد.
تصبح هذه المشكلة أكثر وضوحاً عندما نلقي نظرة على بعض الأفكار والبيانات الإنجيلية المفترضة والتي نجدها في القرآن.

2.2) المصادر التلمودية للقرآن
من المحتمل أنّ الحيرة الأكبر التي تصيب المسيحيين الذين يلتقطون القرآن ويقرؤون فيه هي القصص التوراتية الواضحة والعديدة والتي تتضمّن على بعض التماثلات الصغيرة مع الروايات التوراتية. القصص القرآنية تحتوي الكثير من الإبهام، حالات التنقيح والتعديل، وبعض الإضافات الغريبة التي تمّت إضافتها إلى قصص مألوفة ومعروفة كنا قد عرفناها وتعلّمناها. إذن، من أين جاءت تلك القصص، إذا لم تكن مقتبسة من الكتب المقدّسة السابقة؟
لحسن الحظ، نحن لدينا الكثير من الأدب اليهودي المنحول والمشكوك في صحّته (أغلبه من التلمود)، يعود تاريخه إلى القرن الثاني للميلاد، والذي يمكننا مقارنته مع الكثير من القصص والروايات. وعندما نقوم بذلك، عندها فقط نجد تماثلات وتشابهات هائلة بين هذه الفبركات أو القصص الفولكلورية، والقصص التي تمّ سردها في القرآن [7].
الكتابات التلمودية تمّ جمعها خلال القرن الثاني للميلاد من الشريعة الشفهية (المشناه) وتراث تلك الشرائع (غيمارا), هذه الشرائع والأحاديث التراثية تمّ خلقها لتعديل شريعة موسى (التوراة) مع تغيّر الزمن. كما أنّها تشتمل على تفسيرات ونقاشات حول الشريعة (الهاغادا والهالاخا وغيرها). أغلب اليهود لا يعتقدون بأصالة الكتابات التلمودية، إلا أنّهم يقرأونها رغم ذلك باهتمام لإلقاء نظرة على الزمن أو الحقبة التي كتبت فيها.
إذاً من أين جاءت كل هذه الكتابات اليهودية غير الأصيلة ودخلت القرآن؟ خلال الفترة المتخلّلة بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين كانت هناك عدّة مجتمعات يهودية تقطن شبه الجزيرة العربية (وكانت معروفة باسم الحجاز). هم كانوا جزءاً أو شتاتاً هربوا من فلسطين بعد دمار القدس عام 70 للميلاد. عددّ ضخم من هؤلاء اليهود كانوا يتبعون تلك الكتابات التلمودية التي تمّ نقلها غليهم شفهياً من الآباء إلى الأبناء وعلى مدى أجيال. كل جيل نمّق ونقّح الروايات، أو قام بدمع أفكار ومعتقدات فولكلورية محلية فيها، لذا كان من الصعب جداً معرفة ما الذي كانت تتضمّنه الروايات القديمة والأصلية. وكان هناك أيضاً بين هؤلاء اليهود من آمن أنّ هذه الكتابات التلمودية كانت قد أضيفت إلى "الألواح المحفوظة" (بمعنى آخر، الوصايا العشر، والتوراة التي كانت محفوظة في فلك العهد)، وكان يعتقد أنّها نسخ طبق الأصل عن الكتاب السماوي.
يعتقد بعض الباحثون أنّه عندما ظهر جامعو الأخبار المسلمون المتأخّرون في المشهد، خلال القرن الثامن والتاسع الميلاديين، قاموا بإضافة هذا النوع من الأدب إلى المادّة القرآنية الناشئة. لذلك لا يجب أن نفاجأ أنّ عدداً من هذه المعتقدات التراثية قادم من اليهودية قد تمّ قبولها عن غير قصد من قبل المنقّحين والمحرّرين اللاحقين، ودمجها في الكتابات المقدّسة الإسلامية.
هناك عدّة قصص وروايات نجد لها جذوراً ضمن الأدب الديني اليهودي في القرن الثاني للميلاد. وسأورد ثلاثة أمثلة فقط، ثمّ سأذكر أخرى عند نهاية هذا القسم.
 قصّة قايين وهابيل
تبدأ القصّة في القرآن [المائدة 5: 30-32] بنفس الشكل الذي تبدأ به في الرواية التوراتية عندما يقوم قايين بقتل أخيه هابيل (مع أنّ إسميهما لم يردا في الرواية القرآنية). ففي الآية رقم 31، بعد أن يقدم قايين على قتل هابيل، تتغيّر الرواية ولا تتخذ لها مسار الرواية التوراتية. من أين جاءت هذه الرواية القرآنية؟ هل يعتبر ذلك بمثابة سجلّ تاريخي لم يكن معروفاً بالنسبة لمؤلّفي التوراة؟
بالطبع لم يكن كذلك، إذ أنّ مصدر هذه الرواية قد تمّت صياغته بعد فترة طويلة جداً من إعلان العهد القديم، وبعد كتابة العهد الجديد أيضاً. في الواقع هناك ثلاثة مصادر قد تكون هذه الرواية قد أخذت منها: ترجوم يوناثان بن عوزيا، ترجوم أورشليم، وكتاب آخر يدعى كتاب فرقي دي رابي أليعازر. جميع هذه الوثائق الثلاث هي كتابات يهودية من التلمود، وكانت عبارة عن تراث شفهي بين الأعوام 150-200 بعد الميلاد. هذه القصص هي تفسير وتعليق على شرائع التوراة، مع أنها معروفة بأنها لا تحتوي أي شيء آخر أكثر من مجرّد أساطير وفبركات عبرية.
مع قرائتنا لهذه القصّة في القرآن، يمكننا مقارنتها مع القصّة كما وردت في التلمود:
القرآن التلمود
{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة 5: 31] {جلس آدم ومرافقه [حوّاء] يبكيان وفي حداد عليه [هابيل]، ولم يعرفا ماذا يفعلان به، إذ ما كانا يعرفان الدفن. جاء غراب قد مات صاحبه، وأخذ جثّته، وحفر في الأرض، وأخفاه عن عينيهما، فقال آدم: سأفعل مثلما فعل هذا الغراب، فأخذ جثّة هابيل، وحفر في الأرض، ودفنه} [سفر فرقي دي ربي إليعازر:٢١]
بعيداً عن التباين والاختلاف حول من قام بدفن من، فالروايتين متماثلتين بطريقة مذهلة. ولا يسعنا إلا أن نستنتج أنّه ومن هنا قام محمد، أو المحرّرون اللاحقون، بأخذ هذه القصّة. لذا نجد أنّ هذه القصّة الفولكلورية، والأسطورة اليهودية، قد تكرّرت كحقيقة تاريخية في القرآن.
ومع ذلك فهذا ليس كل شيء، إذ أننا عندما نستمرّ بالقراءة في سورة المائدة، الآية 32، نجد أنّ هناك دليل آخر على عملية الانتحال من الأدب اليهودي المنحول، وهذه المرّة من مشناه سنهدرين.
القرآن مشناه سنهدرين
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة 5: 32] {وجدنا أنّه قيل في حالة قايين الذي قتل أخاه: "صوت دماء أخيك تصرخ". ولم تأتي كلمة دم بصيغة المفرد ولكن دماء بصيغة الجمع. بمعنى دمه ودم ذرّيّته. خلق الإنسان... مفرداً لكي يعرف أنّ بالنسبة لمن يقتل شخصاً واحداً يكون معلوماً أنه قد ذبح أمّةً بأسرها، لكن بالنسبة لمن أبقى على حياة شخصٍ واحدٍ فسيحسب كما لو أنّه قد أبقى على حياة أمّةٍ بأسرها} [مشناه سنهدرين 4: 5]
ليس هناك أيّة علاقة بين الآية رقم 31 والآية 32 المذكورة في الأعلى. فما علاقة قتل قايين أخيه هابيل بذبح الجنس البشري كلّه؟ لا شيء على الإطلاق. لسخرية القدر، الآية 32، في الواقع، تدعم أساس وقاعدة أمل العهد القديم لمهمّة المسيح، والتي كانت تلخيص البشرية من خطاياها وآثامها [8]. ومع ذلك فإنها لا تتبع الآية التي سبقتها. إذا لماذا هي في هذا المكان؟
إذا كان علينا الرجوع إلى التلمود اليهودي مرةً أخرى، هذه المرة إلى المشناه سنهدرين الجزء الرابع، المقطع الخامس، سنجد عندئذٍ من أين حصل الكاتب على مادّته، ولماذا وضعها هنا.
في هذه المادّة نقرأ تعليق الرابي [الحاخام أو رجل الدين اليهودي]، حيث أن يفسّر كلمة "دم" بمعنى: "دمه ودم سلالته أو ذرّيته". تذكّر عزيزي القارئ، هذا الأمر بالذات ما هو إلا تفسير أو تعليق الرابي. هذا تفسيره الخاص، وهو تفسير تخميني محض.
لذلك، من المثير أنّه من ثمّ يتابع في تعليقه على المعنى الجمعي لكلمة "دم". ومع ذلك نرى أنّ تعليق هذا الرابي قد ورد كلمة بكلمة في القرآن، الآية 32 من سورة المائدة. كيف حدث وأن تحوّل تعليق رابي يهودي على نصّ توراتي إلى نصّ قرآني مقدّس، ونسب إلى الله؟
النتيجة الوحيدة التي يمكن أن نصل إليها هي أنّ المحرّرين المتأخّرين قد تعلّموا هذه النصيحة أو التحذير من كتابات الرابي، لأنّه ليس هناك أيّة علاقة تربط بين رواية قتل قايين لأخيه هابيل (الآية 31) والآية التالية عن الناس جميعاً (الآية 32).
لكن عندما نقرأ المشناه سنهدرين 4: 5 عندها فقط نفهم العلاقة بين هاتين القصتين: تفسير الرابي لآية من التوراة وتعليقه على كلمة رئيسية. وسبب فقدان هذه الصّلة في القرآن بات من السهل معرفته وفهمه. فكاتب سورة المائدة لم يكن يعرف السياق الذي كان يتكلّم فيه الرابي،، ولذلك لم يكن مدركاً أنّ هذا الكلام كان مجرّد تعليق أو تفسير على النص التوراتي وليس من التوراة نفسها. لقد أضافها ببساطة إلى القرآن وحشرها في النص القرآني حشراً، مكرّراً ما كان قد سمعه بدون استيعاب النتائج أو العواقب المترتبة.


 قصّة البطريارك إبراهيم
في سورة الأنبياء 21: 51-71، نجد قصّة إبراهيم. في الرواية القرآنية يواجه إبراهيم قومه ووالده بسبب الأوثان الكثيرة التي كانوا يعبدونها. وبعد جدال طويل بين إبراهيم وقومه، ينفضّ القوم، فيقوم إبراهيم بتحطيم الأصنام الأصغر، تاركاً الأصنام الكبيرة منها سليمة.وعندما شاهد قومه ذلك نادوا إبراهيم وسألوه إن كان هو من فعل ذلك، فأجابهم أنّ الأصنام الأكبر هي التي دمّرت كل الأصنام الصغيرة. ثمّ يتحدّاهم بأن يسالوا الأصنام الكبرى لتجيب عن أسئلتهم، فأجابوه بقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ [الأصنام] يَنْطِقُونَ} [الآية 65]. ثمّ يعنّفهم برد سريع وقاس، وجرّاء ذلك يقلونه في النار. لكن في الآية 69 نرى أنّ الله يأمر النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم، فيخرج منها سليماً دون أن يمسسه أي ضرر منها.
ليس هناك أي رواية مماثلة أو مشابهة لهذه الرواية في الكتاب المقدّس. إلا أنّ هناك مثل لها في كتاب يهودي فولكلوري يعود بتاريخه إلى القرن الثاني الميلادي يسمّى مدراش رابا. في هذه الرواية يقوم إبراهيم بتحطيم كل الأصنام ما عدا الصنم الأكبر. يقوم والده والآخرون بتحدّيه، وبطريقة مسلية تمّ خذفها من القرآن يجيبهم إبراهيم أنّه قدّم للصنم الأكبر ثوراً ليأكله، لكن لأنّ الأصنام الصغرى سارعت إلى الأكل وشاركت الصنم الأكبر طعامه، دون أن تظهر له أي احترام، فقام بتحطيمها كلها. الأب الغاضب لم يصدّق كلام ابنه، فأخذه إلى رجل اسمه نمرود، قام بإلقائه في النار ببساطة. لكنّ الله جعلها برداً وخرج منها سالماً.
التشابه بين هاتين القصّتين لا مجال للخطأ فيه. رواية يهودية من القرن الثاني، فولكلور، وأسطورة تتكرّر في "القرآن الكريم". من الواضح أنّ محرّر هذه القصّة كان قد سمع مقتطفات من المرويّات التوراتية من اليهود الزائرين وافترض أنّ تلك المرويّات قادمة من نفس المصدر وأدخل هذا التراث اليهودي في القرآن من غير عمد.
بعض المسلمون يزعمون أنّ هذه الأسطورة هي كلمة الله الحقيقية، وليست الرواية التوراتية. إنّهم يؤكّدون أنّ اليهود قاموا بحذفها ببساطة حتى لا تتطابق مع الرواية القرآنية اللاحقة. ومن دون معرفة كيف يمكن لليهود أن يحذفوا هذه الرواية بالذات، بما أنّ القرآن لم يكن ليظهر إلا بعد مضي العديد من القرون، نحن مع ذلك يجب أن نتساءل من أين جاء هذا الفولكلور؟
الكتاب المقدّس نفسه يقدّم لنا الجواب على سؤالنا. في سفر التكوين 15: 7 ((أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هذِهِ الأَرْضَ لِتَرِثَهَا)) إذ يخبر الرب إبراهيم أنّه هو الذي أخرجه من مدينة أور الكلدانية. أمّا مدينة أور، فجاء ذكرها في مكان آخر، ((فَخَرَجُوا مَعًا مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيَذْهَبُوا إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ)) [تكوين 11: 13]. ولدينا دليل على أنّ سفراً يهودياً اسمه "يوناثان بن عزيل" قد أخطأ في استخدام أو فهم كلمة "أور Ur" العبرية والتي تعني "النار". لذا وخلال تفسيره لهذا المقطع يكتب قائلاً: ((أنا الرّبّ إلهك الذي خلّصك من فرن الكلدانيين الناري)).
إذن، وبسبب هذا الخلط والخطأ في قراءة وترجمة الآيات التوراتية تحوّلت هذه القصّة الفولكلورية إلى رواية معروفة ومشهورة خلال هذه الفترة، والتي تحكي كيف أنّ الرّبّ خلّص إبراهيم وأخرجه من النار.
بوجود هذه المعلومات في متناولنا، يمكننا عندئذٍ معرفة من أين جاءت هذه القصّة اليهودية: عن طريق سوء فهم لكلمة واحدة ضمن أحد آيات التوراة من قبل رابي صاحب سفر منحول. ومع ذلك، وجدت هذه الرواية المفبركة الناتجة عن سوء فهم لها طريقاً إلى القرآن.
يتّضح من هذه الأمثلة أنّ محرّر القرآن قام بكل بساطة بتكرار ما قد سمعه، ولم يكن قادراً على التمييز والتفريق بين ما قد سمعه وبين ما جاء فعلياً في التوراة، فقام بتقديمهما كلاهما في القرآن جنباً إلى جنب.
 قصّة سليمان وسبأ
نقرأ في سورة الأعراف 27: 17-44 قصّة تتعلّق بسليمان، طائر الهدهد وملكة سبأ. وبعد قراءة الرواية القرآنية عن سليمان، سيكون من المفيد جداً مقارنتها مع الرواية المأخوذة من الفولكلور اليهودي، الترجوم الثاني لإستير، الذي كتب خلال القرن الثاني للميلاد، أي حوالي خمسمائة عام قبل صياغة القرآن.
القرآن [سورة الأعراف 27: 17-44] الترجوم الثاني لإستير
17: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
20: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ
21: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ
22: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [فتقدّم] فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
23: إِنِّي وَجَدْتُ [هناك] امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
27: قَالَ [سليمان] سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
28: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
29: قَالَتْ [الملكة] يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ
30: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
32: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ
33: قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
35: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
42: فَلَمَّا جَاءَتْ...
44: قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ وفي وقت آخر، عندما ابتهج قلب سليمان من الخمر، أمر الحيوانات والطيور والجان أن ترقص أمامه حتى يرى الملوك (الحاضرون) عظمته. وكان الجميع حاضرا إلا المسجونين والسجانين. ولكنه لاحظ غياب الديك الأحمر (بدلا من الهدهد)، فطلب القبض عليه حتى يذبحه. ولكن الطائر ظهر معلنا اكتشافه مملة سبأ الغنية التي تحكمها ملكة، فأرسل لها سليمان رسالة مع نفس الطائر مرغبا الملكة في زيارته مثل سائر ملوك أركان الأرض الأربع، ولو فعلت لوضعها في مرتبة فوق هؤلاء الملوك، أما لو رفضت فسوف يسلط عليها وحوش الأرض وطيور السماء، وسوف تكون الشياطين والجان من أعدائها يطلبون القبض عليها، وسجنها، بل وأكلها. وعندما قرأت هذا الكلام أرسلت لمجلس نبلائها تستشيرهم، ولكنهم لم يكونوا يعرفوا سليمان، فنصحوها بأن ترسل له سفنا ضخمة محملة بالهدايا القيمة والعبيد. وعندما وصلت أرسل لها سليمان رسولا يلبس ملابس براقة، عندما رأته قالت: هل أنت سليمان؟ فقال لها: بل أنا عبد من عبيده. وقد استقبلها سليمان في قصر من زجاج حتى أنها حسبته ماءاً لأنه كان على البحر، ورفعت ثيابها ورأى سليمان أن ساقيها عليها شعر، فقال لها الشعر جيد في الرجال ولكنه ليس كذلك للنساء. فقالت: يا سيدي عندي لك ثلاثة ألغاز، لو عرفت إجاباتها سوف أعرف أنك حكيم، أما لو لم تعرف، سوف تكون مثل بقية من حولك. ولما أجاب سليمان على أسئلتها قالت بدهشة: تبارك الرب إلهك الذي وضعك على العرش لتحكم بالعدل والقسطاس .
وأهدت سليمان الكثير من الذهب والفضة، وأعطاها هو كل ما اشتهت .
إذاً بات من الواضح أنّك ما أن تقرأ الروايتين اللتان في الأعلى وتقارن بينهما، حتى تكتشف من فورك المصدر الذي أخذ منه محرّر القرآن قصّة سليمان وملكة سبأ. من ناحيتي الشكل والمضمون تبدو القصّة القرآنية شبيهة بالقصّة المأخوذة من الترجوم اليهودي، والذي كتب خلال القرن الثاني للميلاد، أي قبل حوالي خمسمائة سنة من صياغة القرآن. القصّتين متماثلتين بطريقة غير معقولة، الجنّ، الطيور، وبشكل خاص الطير المرسل، الذي لم يستطع سليمان العثور عليه في البداية، لكنّه استخدم وسيطاً بينه وبين ملكة سبأ، بالإضافة إلى الرسالة والأرضية الزجاجية المرمرية، وهذا أمر فريد بالنسبة للروايتين. لن نجد مثل هذه التماثلات والتطابقات في آيات التوراة مطلقاً. مرةً أخرى علينا أن نتساءل كيف لهذا الفولكلور اليهودي من القرن الثاني للميلاد أن يجد طريقه إلى القرآن؟
هناك أمثلة أخرى حيث يمكننا إيجاد أدب مسيحي وأدب يهودي منحول ضمن النص القرآني. في قصّة جبل سيناء الذي رفعه الله فوق رؤوس اليهود كتهديد لهم لرفضهم شريعة موسى {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف 7: 171] جاءت من كتاب يهودي منحول يعود تاريخه إلى القرن الميلادي الثاني، يسمى عابودا زاره. القصص الغريبة عن الطفولة المبكرة للمسيح في القرآن يمكن تتبّعها إلى عدد من الكتابات المسيحية المنحولة: شجرة النخيل التي تقدّم ملجأ لمريم عندما جاءها المحيض [سورة مريم 19:: 22-26] هذه الفكرة مأخوذة من الكتب المفقودة من التوراة، في حين أنّ قصّة يسوع الطفل وهو يخلق طيوراً من الصلصال {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران 3: 49] مأخوذة من كتاب القديس توماس "كتاب توما" الذي يتحدّث فيه عن فترة طفولة يسوع المسيح. قصّة يسوع الطفل يتكلّم وهو في المهد [مريم 19: 29-33] يمكن تتبّع أصلها إلى الأسطورة العربية المنحولة من مصر والتي كانت تسمّى "الإنجيل الأول عن طفولة يسوع المسيح".
سورة الإسراء 17: 1 {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} تتحدّث رحلة محمد في الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. من خلال الأحاديث اللاحقة والتفاسير نجد أنّ هذه الآية تشير إلى صعود محمد إلى السماء السابعة، بعد رحلة ليلية معجزة (معراج) من مكّة إلى القدس، على ظهر دابّة تسمى "البراق". تفاصيل أكثر يمكننا إيجادها في كتاب "مشكاة الأنوار". وترجع هذه القصّة إلى كتاب خيالي من الأدب المنحول يسمى "عهد إبراهيم"، تمّ تأليفه بمائتي سنة قبل الميلاد في مصر، ثمّ ترجم فيما بعد إلى اللغتين اليونانية والعربية. رواية أخرى مشابهة هي "سرّ إدريس" (الفصل 1: 4-10 و 2: 1)، والتي تسبق القرآن بأربعة قرون. إلا أنّ هناك رواية مماثلة تماماً حتى أنها تشتمل على ذات التفاصيل موجودة ضمن كتاب فارسي بعنوان "آرتاي فيرات نامك"، حيث يقصّ ذلك الكتاب علينا قصّة شاب زرادشتي ورع وتقي يصعد إلى السماوات، وعند عودته، يقصّ كل ما رآه، أو يعترف بما رآه.
الوصف القرآني للجحيم يشابه ويماثل إلى حدٍ بعيد وصف النار في مواعظ إفراييم، راهب نسطوري من القرن السادس الميلادي.
على الأرجح أنّ مؤلّف القرآن قام في الأماكن التالية {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى 42: 17]، و{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة 101: 6-9] قد استخدم كتاب "عهد إبراهيم" واقتبس منه التعاليم التي تقول أنّ هناك ميزان سيستخدمه الله في يوم القيامة ليقيس به الحسنات والسيئات وبذلك يحدّد إذا ما كان هذا الشخص سيذهب إلى الجنّة أم النار.
وصف الجنّة في الآيات: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن 55: 56-58] {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة 56: 22-24]، والتي تتحدّث عن كيفية مكافأة الصالحين والأتقياء بحور عين عيونهنّ باللؤلؤ، وهذا يتطابق ويتماثل تماماً مع مفهوم الجنّة في الدين الزرادشتي في بلاد فارس، إلا أنّ اسم الجواري اللواتي في الجنّة ليس "حورِ"، بل "باريس".
من المهم جداً تذكّر أنّ الروايات التلمودية لم تكن لها تلك الأصالة بالنسبة لليهود المتشدّدين خلال تلك الفترة ولسبب واحد وبسيط: أنّها لم تكن موجودة في مجمّع يفنه Jamnia عام 80 للميلاد. حين تمّ إقرار نسخة العهد القديم. كما أنّ المادّة الأبوكريفية المسيحية لم تعتبر شرعية أو قانونية، إذ لم يتمّ الشهود لها ككتابات موثوقة وأصيلة قبل وبعد انعقاد مجلس نيقيا عام 325 م. لذلك هذه الروايات دائماً جرى فهمها ككتابات ضلالية وهرطوقية من قبل المؤمنين المتشدّدين اليهود والمسيحيين والمثقّفين. لهذا السبب نجد أنّه أمر مثير للريبة والشكّ والشبهة أن نجد كتابات أبوكريفية منحولة وجدت طريقاً لها إلى كتاب يزعم أنّه الوحي الأخير والنهائي من الله إلى إبراهيم، إسحاق ويعقوب.
2.3) التناقضات العلمية في القرآن
وصلنا الآن إلى المجال الأخير للصعوبات التي نلحظها عندما نقرأ في القرآن، وهي الصعوبات والتناقضات العلمية. من نقطة مراقبة علمية متقدّمة يمكننا الآن ملاحظة ما يبدو أنّه أشبه بأخطاء علمية فادحة تتخلّل النص القرآني. بعضها بالكاد يمكن اعتبار تناقضات وتعارضات مع روايات الكتاب المقدّس المبكّرة، على سبيل المثال:

القرآن الكتاب المقدّس
تبنّي زوجة فرعون لموسى الصغير: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص 28: 9] أمّا الكتاب المقدّس فيقول أنّ تلك كانت ابنته: {وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْنًا، وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: «إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ»} [الخروج 2: 10]
الزعم الذي ورد في القرآن أنّ اسم يحيى كان أوّل اسم يطلق على ولد زكريا {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم 19: 7] لكن نجد أنّ هذا الاسم قد ورد قبل ذلك بزمن طويل {وَيُوحَنَانُ بْنُ قَارِيحَ} [سفر الملوك الثاني 25: 23]
اشتمال تعريف الثالوث المسيحي على اسم مريم {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة 5: 116] وهذا لا يتعارض فقط مع الكتاب المقدّس، بل مع معتقدات أغلب المسيحيين التي ترسّخت منذ أكثر من 2000 سنة.
الملفت للانتباه، أنّه كانت هناك طائفة صغيرة هرطوقية تبنّت هذه النظرة، وكانت تقطن منطقة الشرق الأوسط في زمن جمع القرآن وتحريره. هل يمكن أن يكون هذا هو مصدر هذا الخطأ والتعارض الفادح؟ بالتأكيد الإله العالم والعارف بكل شيء كان سيعلم أنّ هذه الفكرة هي بمثابة عقيدة محورية للدين المسيحي.
هناك تعارض داخلي صارخ أيضاً، وهو الخلط الحاصل حول شخصية مريم، إذ جاء في القرآن أنّها أخت هارون وابنة آل عمران (العائلة المذكورة في الكتاب المقدّس) بالإضافة إلى أنها والدة يسوع، مع أنّ الفترة الزمنية التي تفصل بين مريم آل عمران وأخت هارون وبين مريم والدة يسوع أكثر من 1570 سنة {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم 66: 12]، {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم 19: 27-29]
إذن، هل هارون أخو موسى آل عمران هو الخال المباشر ليسوع؟؟!!!!
إشكاليّة أخرى تتخلّل آية معروفة بشكلٍ جيد تتعلّق بهامان. في القرآن يشار إلى هامان كخادم لفرعون، والذي شيّد برجاً عالياً ليصعد من خلاله إلى إله موسى ({وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص 28: 6، 38]، {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} [غافر 40: 24، 36])، إلا أنّ برج بابل قد تمّ بناؤه قبل ذلك بسبعمائةٍ وخمسين عاماً {وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ»} [تكوين 11: 4]، أمّا اسم هامان فقد ورد في قصة إستير البابلية، أي بعد 1100 سنة على فرعون. يعتقد المفسّرون أنّ الآيات تشير هناك إلى هامان آخر، ومع ذلك فإسم هامان ليس اسماً مصرياً، بل بابلياً بامتياز.
في حين أنّ هذه الأمثلة قد لا يكون من الممكن إخضاعها لعملية البحث والعلمي، إلا أنها تشير إلى وجود جهل بالكتاب المقدّس. وهذا يشير إلى نوع من الحالة الإنعزالية الأكيدة، والتي يمكننا توقّعها إذا كانت الروايات قد انتقلت شفهياً ضمن بيئة بعيدة جداً عن بيئتها الأصلية التي ولدت فيها.
صعوبة أكثر جدية مثبتة بتلك السور التي تناقض البيانات التاريخية والعلمية والعيانية القابلة للملاحظة. وهنالك عدد منها موجود في القرآن، لكن ومن أجل الإيجاز والاختصار سأشير إلى بعضاً منها.
حسب القرآن ({قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ}، {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه 20: 85-87، 95-97]) نجد أنّه السامرائي هو الذي صنع الثور ووضعه على جبل حوريب، إلا أنّ لفظة "سامرائي" لم تظهر إلى الوجود حتى بعد هذه الحادثة بعدّة مئات من السنوات، في عام 722 قبل الميلاد.
اسم عيسى يطلق بشكل خاطئ على يسوع، حيث أنّ الاسم العربي الصحيح من يسوه هو "يشوع". إلا أنّ هناك تصريح أكثر غرابة ومغالطةً ورد في الآيات التالية يقول أنّ الجبال كالأوتاد تبقي الأرض ثابتة وتحفظها من الحركة {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل 16: 15]، {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء 21: 31]، {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان 31: 10]، {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ 78: 7]، {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية 88: 19]، لكننّا نعلم الآن من دراسات وأبحاث في علم الجيولوجيا أنّ الجبال هي نتيجة النشاطات البركانية أو جرّاء اصطدام صفيحتين تكتونيتين مع بعضهما البعض. الأمر المثير للسخرية، أنّ هذان السببان أثبتا أنّ وجود الجبال هو دليل على عدم ثبات أو استقرار القشرة الأرضية، والعكس ليس صحيحاً
في سورة الأعراف 7: 127 {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} فرعون يحذّر سحرته ويهدّدهم بأنه سيقطع أيديهم وأرجلهم ويتركهم يموتون على الصليب. في سورة يوسف 12: 41 {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} تخبرنا القصّة أنّ يوسف هُدّد أنه سيصلب. بأي حال، لم يكن هناك أي وجود للصلبان في تلك الأيام (دعونا لا نخلط هنا الأمر مع عنخ المصري الذي كان مصدر الخصب والحياة، وليس أداةً للعذاب والموت). تمّت ممارسة الصّلب للمرة الأولى من قبل الفينيقيين والقرطاجيين ثمّ تمّت استعارته من قبل الرومان حتى مجيء المسيح، أي 1700 بعد فرعون.
هناك مغالطة علمية أخرى قابلة للمعاينة والملاحظة، كالمغالطة التي وردت في سورة فصّلت 41: 11 {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} فهل صحيح أنّ السماء مخلوقة من الدخان؟ الفيزيائيان الشهيران نيومان وإيكلمان يؤكّدان أنّ الدخّان، المكوّن، من جزيئات عضويّة لم يكن موجوداً خلال المرحلة البدائية.
الشهب والمذنّبات، وحتى النجوم، حسب القرآن يقذف بها الله الجن والشياطين الذي يسترقون السمع على كلام الله في السماء قبل أن ينزل على البشر ({وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر 15: 16-18]، {زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات 37: 6-10]، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن 55: 33-35]، {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك 67: 5]، {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن 72: 8-9]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق 86: 2-3]). كيف لنا أن نفهم هذه السور؟ هل لنا أن نصدّق أنّ الله يرمي الشهب والنيازك (أشياء مادية) مصنوعة من أكسيد الكربون أو نيكل حديدي، ليرجم بها شياطين أو جان (أشياء غير مادية) يسترقون السمع على المجمع السماوي؟ وكيف نفسّر حقيقة أنّ الشهب الأرضية تسطع كالمطر في سماء الأرض والتي تتحرّك معها ضمن مسار موازٍ لها؟ هل نفهم أنّ هذه المسارات المتوازية تشير إلى أنّ الشياطين تصطف في طوابير طويلة وفي نفس اللحظة؟
مثال آخر معروف بين مسلمي اليوم يتعلّق بمراحل تشكّل الجنين ({وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة 2: 259]، {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحجّ 22: 5]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون 23: 12-14]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر 40: 67]، {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة 75: 37-39]، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق 96: 1-2]) فوفق ما جاء في هذه الآيات يمرّ الجنين بأربعة مراحل، بدءاً بالنطفة التي تصبح علقة. إلا أنّ لا أحد يعلم معنى هذه الكلمة بالضبط، فقد حاول البعض، مجادلين أنّ أنّها كل شيء يعلق، إلى العَلَقة، أو التصاق، أو كتلة جنينية، ولحم ممضوغ، وإلى ما هنالك... ثمّ تصبح العلقة عظماً وتتحوّل أخيراً إلى لحم.
والحال، أنّ هناك الكثير من الصعوبات في هذه السور. أولاً، ليس هناك ما يسمى بمرحلة العلقة خلال مراحل تشكّل الجنين. علاوةً على ذلك، النطفة لا تتحوّل إلى شيء ملتصق أو لاصق أو بويضة ملقّحة من دون وجود بويضة غير ملقّحة. فالنطفة تحتاج إلى البويضة، والبويضة بدورها بحاجة إلى نطفة. ثانياً، "الشيء الذي يتعلّق أو يلتصق" لا يتوقف عن الالتصاق ليتحوّل إلى "مضغة"، بل يبقى ملتصقاً لمدّة ثمانية اشهر ونصف الشهر! وأخيراً، الهيكل العظمي لا يتشكّل قبل اللحم (أو العضلات)، فالعضلات وبوادر نموّ الغضاريف تشير إلى بداية تشكّل العظام في المرحلة التالية. في الواقع، وحسب د. سادلر _مؤلّف معجم لانغمان لعلم الأجنة الطبّي (Dr. T.W. Sadler Phd., the author of Langman s Medical Embryology)_ في رسالة شخصية إلى د. كامبل عام 1987، أثبتت الأبحاث أنّ العضلات تتشكّل قبل عدّة أسابيع من تشكّل العظام، وليس كما جاء في القرآن.
كم من المضحك سماع الآيات السابقة عندما يوردها المسلمون والعلماء المعاصرون كأدلّة وبراهين على علمية القرآن، في حين أنّه في الواقع، ما أن تصبح الحقيقة معروفة فإنّ العلم نفسه والذي يرغبون بأن يسخّروه لقضيتهم، يثبت خطأهم وزيفهم.

2.4) حلّ ممكن (تاريخ الخلاص)
لا ينفكّ المسلمون وهم يخبروننا أنّ وحي القرآن قد نزل على محمد وتمّ جمعه في صحف أخيراً على يد زيد بن ثابت، بين 646-650 للميلاد، تحت إشراف الخليفة الثالث عثمان. أمّا المؤرّخين فيتّخذون موقفين كاستجابة لهذا التأكيد الذي يقدّمه التراث الإسلامي.
الفريق الأول، المدعوم من قبل المؤرّخ جون بورتون، يوافق بعض الشيء ما جاء في التراث الإسلامي، قائلين أنّ القرآن خلال فترة حياة النبي أو بعد وفاته مباشرةً أو بفترة قصيرة جداً. بورتون، في دفاعه يستخدم نصوص شرعية وقانونية لتأريخ القرآن إلى فترة حياة النبي. وهناك البعض في الغرب من الذين يوافقون بورتون. أمّا الأغلبية فتجد أنّ نظريته غير منطقية إذ ليس هناك سوى القليل من النصوص المكتوبة والتي يمكن أن نبني على أساسها نتائج وفرضيات مؤكّدة.
الفريق الثاني يواجه التراث الإسلامي، ومن أفضل مناصريه جون وانسبرو، من SOAS (جامعة لندن). فهو يستخدم التحليل التاريخي نفسه الذي تمّ تطبيقه خلال نقد الكتاب المقدّس ليصل إلى نتائجه. يؤكّد وانسبرو أنّ القرآن، كما نعرفه بكافة مشاكله وعيوبه الأدبية والبنيوية، لم يظهر إلى حتى عام 800 للميلاد. فهو يقول أنّ القرآن ليس نصاً تمّ نقله إلى العالم على يد رجل واحد، بل عملت فيه أيادٍ كثيرة لعدّة مؤلّفين من القرن التاسع.
يمضي وانسبرو بعيداً في أقواله بالتأكيد أنّ كافة الوثائق والمدوّنات الإسلامية المبكّرة يجب أن تعرض بصفتها "تاريخ للخلاص"، تاريخ ((ليس عبارة عن روايات لأحداث محفوظة، ومفتوح أمام المؤرّخين لدراسته، إذ أنّ تاريخ الخلاص لم يحدث، كما هو في شكله وصيغته الأدبية والتي لها سياقها وإطارها التاريخي الخاص)). بمعنى آخر أنّه كان مكتوباً بوجود أجندة معيّنة في عقول كتبته. لذلك، السجلاّت الأدبية لتاريخ الخلاص، مع أنها تقدّم نفسها على أنها معاصرة للأحداث التي تصفها، كما سبق وذكرنا، تنتمي فعلياً لحقبة أحدث بكثير من تلك الأحداث، وهذا يدلّ على أنّها كتبت حسب تفسير وتأويل لاحق للأحداث وذلك لكي يتلائم ويتناسب مع أخلاقية تلك الفترة المتأخّرة. التاريخ الحقيقي والفعلي في سياق عبارة "ما الذي حدث فعلاً" قد أصبح مضمّناً ضمن تفسير لاحق وعملياً، إن لم يكن بشكل كلّي، ممتزج به، ومتشابك معه بشكل معقّد.
والسؤال يبقى ما إذا كان هناك أي مقدار من "الحقيقة التاريخية" هنا. وحتى إن اعترفنا أنّ هناك بعض لبّ من الحقيقة التاريخية، فمن المستحيل تحديدها ومعرفتها.
يجادل وانسبرو أنّ القرآن، التفسير، والسيرة هي مكوّنات قائمة تاريخ الخلاص الإسلامي، والتي يقترح أنها مكتوبة لتشير إلى دور الله في إدارة شؤون العالم والبشر، وخصوصاً خلال فترة حياة محمد.
يناقش وانسبرو أننّا لا نعلم، وعلى الأرجح لن نعلم أبداً ما الذي حدث فعلاً. كل ما لدينا من أخبار عن تلك الفترة هي ما قاله لنا أشخاص متأخّرين جاء بعد تلك الفترة بزمن طويل واعتقدوا أنّ هذا الذي حدث آنذاك، فكتبوا تاريخ الخلاص. يقول وانسبرو أنّ نقطة تاريخ الخلاص الإسلامي كانت لتشكيل هوية دينية عربية محدّدة. وتمّ تحقيق ذلك بعد تبنّي أفكار ومعتقدات وروايات كانوا قد اقتبسوها من مستنقع طويل عريض من المعتقدات والأساطير اليهودية-المسيحية، وهي نقطة البدء هذه يمكن وضعها في شبه جزيرة العرب خلال القرن السابع الميلادي. يشير وانسبرو إلى دليل على ذلك مذكور في القرآن يدلّ على استنباطها من سياق يهودي-مسيحي: على سبيل المثال، الخط النبوي الذي ينتهي بختم النبوّة، سلسلة الكتابات المقدّسة، فكرة تدمير الحضارات والمدن، والمواضيع القصصية المشتركة.
تحليل وانسبرو صحيح، إذ يصبح من الصعب جداً إبقاء القرآن كمصدر حقيقي ودقيق للإسلام، أو مصدر للتراث الإسلامي، وخصوصاً في ضوء حقيقة أنّه من الممكن تحديد تواريخ التراث نفسه. في حين أنّ تاريخ القرآن نفسه يشكّل رادعاً وعقبة كبير أمام تقرير أصالة القرآن وموثوقيته، إنه من دون شكّ العقبة الوحيدة.
بالمقابل، هناك العديد من الفقهاء المسلمون الذين يجادلون أنّ الوجود المستمر لعدد الرجال الذي يحفظون القرآن كلّه في مجموعه هو الأمر الذي يحفظ مصداقيته وأصالته. هؤلاء الرجال كان يطلق عليهم اسم "الحفظة". فهم كانوا بمثابة مستودعات لحفظ القرآن والذين تمّ الرجوع إليهم لاحقاً من قبل السلف إذا ما طرأ أي شيء أو ظهرت مشكلة ما.
اليوم نلاحظ وجود أعداد كبيرة من حفظة القرآن في منطقتي الشرق الأوسط وآسيا. ونحن يمكننا أن نعلم ما إذا كانوا يحفظون القرآن جيداً وبشكلٍ صحيح، إذ أنّ هناك نص مكتوب موجود بين أيدينا يمكننا التحقّق منه حول صحّة قرائتهم أو تلاوتهم. ما الذي رجع إليه جامعو الأخبار المتأخّرون للتحقّق من صحّة ما حفظه الحفظة في أيامهم؟ أين هو النص المكتوب والوثائق المدوّنة؟
جوهرياً عدنا إلى نفس المشكلة التي ناقشناها خلال الفصل السابق. الحفظة الأوائل كان يجب أن تكون لديهم وثائق ليحفظوا منها، إذ أنّ مصداقية كل حافظ نابعة من تطابق تلاوته مع ما جاء في الوثيقة، وليس أي شيء آخر. هل هناك أي وجود لمثل هذه الوثائق؟ أمّا إذا كانوا يحفظون ما قد سمعوه من أشخاص آخرين منوع من التراث الشفهي عندئذٍ يصبح سماعهم وتلاوتهم عرضةً للشك والريبة بما أنّ التراث الشفهي، وبشكل خاص التراث الشفهي الديني، هو بطبيعته عرضة للمبالغة، الزيادة والنقصان، الزينة والإفساد، وفي النهاية، التحريف والتحوير.
ماذا سنفعل عندئذٍ بالمشكلات الداخلية التي تتخلّل القرآن؟ كيف نفسّر العيوب والإشكالات البنيوية والأدبية، بالإضافة إلى الروايات المزوّرة والمنحولة والتناقضات العلمية والتاريخية التي وجدت طريقاً لها إلى صفحاته؟ هذه الصعوبات والإشكالات يبدو أنّها تشير بعيداً عن التأليف القدسي والمصدر الإلهي للقرآن إلى مصدر أكثر معقولية ومنطقية، وهو أنّ القرآن ليس أكثر من مجرّد مجموعة من المصادر المتباينة والمختلفة المستعارة من أجزاء متفرّقة ومتنوّعة من الأدب المحيط، القصص الفولكلورية، أو التقاليد الشفهية التي تجول في الأنحاء وتنتقل عبر الأجواء طوال الوقت، وبالصدفة يتمّ تطعيمها في ثقافة المجتمعات الأميّة والجاهلة.
بسبب التأريخ المشكوك فيه للقرآن، و حقيقة أنّه ليس هناك أي توثيق رئيسي وموثوق له قبل عام 750 م، والمصادر المختلفة والمتفاوتة التي استقي منها، بالإضافة إلى استعماله المقتصر بأغلبه على العرب، فليس من الملائم بالنسبة إلينا استخدامه كمصدر في التحقق من أصالته الخاصّة ومصداقيته الكاملة. أساساً نحن لا نملك سوى القليل من المواد الإسلامية المبكّرة التي يمكننا من خلال تحديد أي تاريخ أو وجود للقرآن، أو حتى مصادر الإسلام.
إذن أين لنا أن نعثر على المصادر الفعلية للإسلام والتي جاء منها، إذا كانت الشكوك والإشكالات تتخلّل كلاً التراث والقرآن؟


النقد الخارجي للقرآن

لحسن الحظّ أننّا لا نعتمد ملياً على المصادر الإسلامية أو القرآن نفسه من أجل بياناتنا عن أصل القرآن، والإسلام. كان هناك أناس آخرون موجودون في ذلك الزمن، عاشوا على مقربة من المسلمين وتركوا لنا مواد يمكننا استعمالها والاعتماد عليها. والدليل من عند غير المسلمين يمكن إيجاده ضمن كمّيات غير قليلة من مواد من الأدب اليوناني، السرياني، الأرميني، العبري، الآرامي، والقبطي منذ زمن الفتوحات (القرن السابع) وما بعده. كما أنّنا بين أيدينا كمية ضخمة من الكتابات والنقوش العربية، والتي تعود في تاريخها إلى ما قبل التاريخ الإسلامي. إلا أنه يبدو أنّ هذه المواد تتعارض وتتنافى مع أغلب ما جاء في القرآن والتراث. وهذه هي المادّة بالذات التي أثبت أنّها الأكثر فائدةً في تقييم وتخمين ما إذا كان القرآن كلمة الله الحقيقية والنهائية فعلاً أم لا. إنهّا هي هذه المادّة التي سيحتاج المسلمون إلى الانتباه إليها مستقبلاً، وهي المادّة التي يجب أن يوجّهوا حججهم ضدّها ويبنوا دفاعاتهم عليها. دعونا إذن نلقي نظرة على ما جاء في تلك المواد.
3.1) الهجرة
تمّ اكتشاف ورقة بردي يعود تاريخها إلى عام 643 م تحكي عن السنة الثانية والعشرون، تقول أنّ شيئاً ما حدث عام 622 بين العرب يتطابق تاريخ ذلك الحدث مع تاريخ الهجرة. لكن ما الذي حدث فعلاً فنحن لا نعلم ذلك لأنّ ورقة البردي لا تخبرنا شيئاً عن ذلك. هل يمكن أنّها تشير إلى التاريخ الذي تحرّك فيه محمد وانتقل فيه من مكّة إلى المدينة، وليس شيئاً آخر، أم أنّه التاريخ الذي انطلقت فيه الفتوحات العربية؟ في حين أنّ التراث والتاريخ الإسلامي ينسب هذه الهجرة من مكّة إلى المدينة، إلا أنّهما لا يقدّمان أيّة مصادر مبكّرة (بمعنى آخر نصدر تاريخي يعود إلى القرن السابع) يمكن أن تشهد على تاريخية هذا النزوح الجماعي. المخطوطة الأبكر التي نملكها هي سيرة ذاتية داخلية عربية للنبي مدوّنة على ورق البردي تعود إلى الفترة الأموية المتأخّرة، وتمّ تدوينها حوالي عام 750 م، أي بعد مئة عام.
المادّة العربية التي في متناولنا (عملات، ورق بردي، مخطوطات ونقوش) جميعها تعكف عن تسمية العصر أو الفترة (شاهدة القبر التي تمّ تأريخها إلى السنة التاسعة والعشرون للهجرة، والتي يستشهد بها الكثير من المسلمين، لم تعرف إلا من مصادر أدبية لاحقة). المواد اليونانية والسريانية تشير إلى تلك الفترة كما أشار إليها العرب، إلا أنّ هناك وثيقتان من الوثائق الكنسية النسطورية تعودان إلى عام 676 م و680 م تقدّمان لنا نقطة انطلاق محدّدة كهجرة الإسماعيليين ليس فقط من داخل بلاد العرب، بل من بلاد العرب إلى الأرض الموعودة، على الأرجح خارج بلاد العرب.
وما هي هذه الأرض الموعودة؟ هناك تراث إسلامي قام بجمعه أبو داؤود يعطينا فكرة عن ذلك. يقول: ((ستكون هناك هجرة بعد هجرة، إلا أنّ أفضل الرجال وأحسنهم هم أولئك الذين سيتبعون هجرة إبراهيم)) في حين أنّ بعض المسلمين يؤكّدون أنّه يجب أن يؤخذ ذلك في إطار لاهوتي ديني كإشارة إلى انتقال إبراهيم من الوثنية إلى التوحيد، ونحن نعتقد أنّه من الأفضل استبقاء الفهم التوراتي واليهودي لخروج إبراهيم الذي كان من أور الكلدانية إلى أرض كنعان، مع هاران [تكوين 11: 31- 12: 5]. لذا فإنّه من المرجّح أن تكون الأرض الموعودة التي كان يهاجر إليها العرب ليست شيئاً آخر سوى حظ الساحل الفلسطيني السرياني: من صيدا إلى غزّة ونحو الداخل إلى مدن البحر الميت كسدوم وعمورة. باتريشيا كرونه في مقالتها التي تحمل عنوان: "مفهوم الهجرة في القرن الأول"، تتحدّث عن دليل داعم لحدوث هجرة خارج جزيرة العرب. في مقالتها حول الهجرة، تدرج قائمة بـ 57 شهادة أو استشهاد مقتبس من داخل التراث الإسلامي وخارجه، نشير كافة الاستشهادات إلى حدوث عملية هجرة، أو نزوج، ليس من مكّة إلى المدينة، بل من الجزيرة العربية نحو الشمال، أو إلى المدن والمواقع العسكرية الحدودية المحيطة. وهذا أمر ملفت للانتباه فعلاً، فأغلب ما سنتعلّمه من هنا سيوافق _وعلى الأرجح سيؤكّد_ هذه النتائج أيضاً.
هذه المعلومات عن الهجرة تمنحنا أوّل دليل أو إثبات محتمل يشير إلى أنّ أغلب البيانات التي وردت في القرآن والتراث الإسلامي ببساطة لا تتطابق أو تنسجم مع البيانات الخارجية الموجودة، وأنّه ربما هناك أجندة أخرى مغايرة قيد العمل هنا. لننتقل إذن إلى الفقرات التالية لمعرفة ما هي هذه الأجندة.
3.2) القبلة
حسب ما جاء في القرآن، فوجهة الصلاة (أو القبلة)، قد اكتملت وشُرّعَت نحو مكّة لجميع المسلمين بعد الهجرة مباشرةً. فالتاريخ 624 للميلاد، تصوّر ممتاز لهذا الحدث [أنظر الآيات: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة 2: 144، 149-150]
ومع ذلك، الدليل المبكّر القادم من خارج المصادر الإسلامية التراثية بخصوص الاتجاه التي كان يتّجه إليه المسلمون لأداء صلواتهم، وضمناً مكانهم المقدّس، تشير إلى منطقة أبعد بكثير من مكّة، إلى الشمال منها، في الواقع في مكان ما في شمال _ شرق جزيرة العرب. مع اعتبار الدليل الأركيولوجي الذي تمّ اكتشافه وقيد الدراسة حتى الآن من أول مسجد تمّ بناءه خلال القرن السابع:
طبقاً لأبحاث ودراسات أركيولوجية قام بها كل من كريسويل Creswell وفيهيرفاري Fehervari على المسجد القديم في الشرق الأوسط، مسجدان أمويّان من طابقين في العراق، أحدهما بناه الحجّاج في واسط (والذي أشار إليه كريسويل أنّه "المسجد الأقدم في الإسلام الذي بقي لنا من تلك الفترة")، والآخر منسوب إلى نفس الفترة تقريباً في بغداد (الجهة التي تواجهها هذه المساجد) فهي لا تواجه مكّة، بل موجّهة إلى الشمال البعيد. مسجد واسط بـ 33 درجة، ومسجد بغداد بـ 30 درجة.
وهذا يوافق ما جاء في شهادة البلاذي في كتابه (فتوح البلدان) أنّ قبلة أوّل مسجد هي في الكوفة، بالعراق، والذي بني حوالي عام 670 للميلادي، كما أنها تقبع أيضاً نحو الغرب، في حين أنّها يجب أن تشير غالباً مباشرةً نحو الشمال.
التصميم الأساسي والأصلي لمسجد عمر بن العاص يقع في الفسطاط، حامية عسكرية تقع خارج القاهرة بمصر، يشير إلى أنّ القبلة كانت تتّجه مرةً أخرى بعيداً نحو الشمال وتمّ تصحيحها فيما بعد على يد الحاكم قرّة ابن شرِيك. وبشكل ملفت للانتباه يتطابق ذلك مع ما جاء في التراث الإسلامي اللاحق الذي صنّفه أحمد ابن المقريزي أنّ عمر صلّى متوجّهاً بعض الشيء نحو جهة جنوب _شرق، وليس نحو الجنوب.
إذا أخذنا خريطة سنجد إلى أين تشير تلك المساجد. هذه الأمثلة الأربعة السابقة تشير إلى أنّ موقع القبلة لم يكن نحو مكّة، نحو أبعد نحو الشمال، في الواقع قريباً من القدس. فإذا، كما سيقول بعض المسلمين الآن، ليس علينا أنّ نأخذ هذه المكتشفات على محمل الجدّ، فالعديد من المساجد في يومنا هذا تخطئ القبلة، عندها علينا أن نتساءل لماذا، إذا كان المسلمون آنذاك غير قادرين على تحديد الاتجاهات، جميعها تشير إلى جهة واحدة غير مكّة، نحو مكان ما في شمال بلاد العرب، أو من المحتمل أنّها القدس؟
يمكننا إيجاد تشابهات أخرى لهذه الجهة للصلاة عند الكاتب والرحّالة المسيحي يعقوب الإيديسي Jacob of Edessa، الذي، يكتب في أواخر عام 705 للميلاد، كان شاهد عيان في مصر. فقد أكّد أنّ المهجرية في مصري صلّوا باتجاه الشرق الذي كان نحو الكعبة. رسالته (التي يمكن إيجادها في المتحف البريطاني) تكشف لنا الكثير في الحقيقة. مكتوبة بالسريانية، يشير إلى المهجرية قائلاً: ((إذن يتضح من كل ذلك أنّ الجنوب ليست الجهة التي يتجّه إليها اليهود والمهجرية هنا في سوريا، بل نحو أورشليم أو الكعبة، الأماكن البطرياركية الأساسية والمقدّسة لأعراقهم)).
تنبيه: ذكر الكعبة هنا لا يعني بالضرورة كعبة مكّة (كما سيشير العديد من المسلمين من فورهم)، إذ أنّه في ذلك الوقت كان هناك العديد من الكعبات، وعادةً ما كانت توجد في المدن التجارية. كريسويل، في ملاحظات عن كتابه في "فنّ العمارة الإسلامية" صـ 17 يشير إلى مقالة فينستر " Kunst des Orients"، مشيراً إلى أنّ فينستر: ((... يلفت الانتباه إلى أبنية أخرى مكعّبة الشكل في جزيرة العرب، ورد ذكرها في المصادر العربية التراثية المبكّرة، ويقترح أنّ الكعبة كانت تمثّل جزءاً من التراث العمراني العربي في ذلك الوقت))
فقد كان من المفيد والمربح بناء كعبة في هذه المدن التجارية المليئة بالأسواق لكي يحجّ إليها الناس القادمون إلى المدينة للتسوّق أو للتضرّع للأصنام التي تحتويها. الكعبة التي أشار إليها يعقوب الإيديسي تقع في "الأماكن الأبوية المقدّس للأعراق"، والتي أكّد أيضاً أنها لا تقع في الجنوب. فاليهود والعرب (المهجرية) يؤكّد أنهم من نسل إبراهيم الذي عُرِفَ عنه أنّه عاش في ومات في فلسطين. وهذا ما أكّدته الاكتشافات الأركيولوجية الأخيرة (انظر النقاش حول ألواح إيبلا وماري، بالإضافة إلى الإشارات التوراتية الإضافية التي تعود إلى القرن العاشر إلى إبراهيم). هذا الهبوط المشترك من إبراهيم تمّ تأكيده أيضاً من قبل مؤرّخ ارمني حوالي العام 660 للميلاد.
لذلك، وحسب أقوال يعقوب الإيديسي، في أواخر عام 705 للميلاد، إنّ جهة الصلاة نحو مكّة لم تكن مشروعةً بعد. د. كرونه، في مقالتها 1994 "مفهوم القرن الأول للهجرة" تضيف اكتشافاً جديداً قد يشير إلى أنّ القدس أو أورشليم كانت أوّل وجهة للقبلة المبكّرة. دراسة جديدة قامت بها باتريشيا كارلاير على قصور الخلفاء الأمويين الصيفية تقول أنّ المساجد في هذه القصور لديها قبلة موجّهة نحو القدس أيضاً.
وفق أبحاث ودراسات د. هاوتينغ، الذي يدرّس مناهج عن مصادر الإسلام في معهد الدراسات الاستشراقية والإفريقية (SOAS) بلندن، لم يتمّ اكتشاف أيّة مساجد تعود لهذه الفترة (القرن السابع الميلادي) مواجهة لمكّة. والحال، أنّ هاوتينغ ينبّهنا أنّ ليس كافة المساجد تتّخذ القدس قبلةً لها. فبعض المساجد الأردنية تتوجّه نحو الشمال، في حين أنّ هناك مساجد شمال أفريقية محدّدة تتوجّه نحو الجنوب، ممّا يدلّ على أنّه كان هناك حالة من الارتباك والحيرة حول المكان المقدّس واتجاهه. ومع ذلك يؤكّد القرآن أنّ القبلة تمّ توجيهها نحو مكّة قرابة عام 624 للميلاد وبقيت هكذا حتى وقتنا الحاضر.
إذن، حسب كرونه، كوك، كارلاير، وهاوتينغ، مجموعة الأدلّة الأثرية من العراق بالإضافة إلى الدليل الأدبي من سوريا ومصر جميعها تشير بوضوح إلى حَرَمْ [يعني وجهة للصلاة] لكن ليس في الجنوب، بل في مكان ما في شمال _غرب جزيرة العرب (أو حتى الشمال الأقصى) على الأقل حتى نهاية القرن السابع الميلادي.
ماذا يحصل هنا؟ لماذا لا تتوجّه المساجد المبكّرة نحو مكّة؟ لماذا هذا التناقض بين القرآن وما يكشفه لنا علم الآثار بالإضافة إلى الوثائق التي تعود إلى عام 705 للميلاد؟
يجادل بعض المسلمين أنّ ذلك مردّه إلى أنّ المسلمين الأوائل لم يكونوا يعرفون جهة مكّة. ومع ذلك كان هناك طرقات تجارية في الصحراء، قوافل! إذ أنّ نمط حياتهم كان يعتمد على الترحال والسفر في الصحراء، الفقيرة بالمعالم الجغرافية _وبسبب العواصف الرملية_ والطرقات. والأهمّ من ذلك أنّهم كانوا يعرفون طرق الاستدلال بالنجوم. فحياتهم كانت تعتمد على ذلك. بالتأكيد كانوا يعرفون الفرق بين الشمال والجنوب.
علاوةً على ذلك، المساجد في العراق ومصر كانت تبنى داخل مناطق متحضّرة ومنظّمة، بين أناس مثقّفين وأذكياء بارعين في تحديد الاتجاهات. من غير المحتمل أنّهم قد أخطؤوا في تحديد وحساب قبلهم بعدّة درجات. إذ كيف كان لهم أن يؤدّوا فريضة الحجّ الملزمة والمفروضة عليهم، والتي كما قيل لنا كانت مشروعة في ذلك الوقت؟ ولماذا كل هذا العدد من المساجد التي تتوجّه نحو شمال جزيرة العرب، أو ربّما القدس؟
الجواب قد يكمن في مكان آخر. إلا أني سأفترض أنّ هناك سببين على الأرجح لهذا التعارض:
1) أنّ العلاقة كانت ما تزال جيّدة بين المسلمين (الذين كانوا يسمّون بالهاجريّين، العرب المسلمين أو المهجريين) وبين اليهود، وفي النهاية، لم تكن هناك أيّة حاجة لتغيير جهة القبلة (حتى القرآن نفسه يعترف أنّ القبلة كانت في الأصل نحو القدس: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة 2: 143] [9] ، {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة 2: 144] [10]
2) أنّ مكّة لم تكن معروفةً بعد جيداً.
3.3) اليهود
يقول القرآن أنّ محمداً قطع علاقته باليهود عام 624 للميلاد (أو مباشرةً بعد الهجرة عام 622 م)، وبذلك نقل القبلة في تلك الفترة [البقرة2: 144، 149-150]. والحال، أنّ المصادر غير الإسلامية المبكّرة تصف العلاقة الجيدّة التي كانت بين المسلمين واليهود في زمن الفتوحات الأولى (أواخر عام 620 م)، وحتى بعد ذلك.
دوكترينا ياكوبي
على سبيل المثال الشهادة الأبكر عن محمد و"تحرّكه" موجودة خارج إطار التراث الإسلامي، كرّاسة يونانية معادية لليهود تسمّى (Doctrina Iacobi) تمّت كتابتها في فلسطين خلال الفترة ما بين 634 و640 للميلاد. تتضمّن الدوكترينا تحذيراً من اليهود الذين يختلطون بالعرب المسلمين، وخطر السقوط في أيدي هؤلاء اليهود والعرب المسلمين. في الواقع، يبدو من هذه العلاقة أنّها لإضفاء طابع الحق على الغزو الذي جرى ذكره في المصدر الأرميني المبكّر أنّ حاكم مدينة القدس بعد الغزو كان يهودياً.
المهم هنا هو احتمال أن يكون اليهود والعرب كانوا في حالة تحالف زمن غزو فلسطين واستمرّ تخالفهم لفترة ليست بالقصيرة فيما بعد.
تثبت حالة الألفة التي جمعت اليهود والعرب، والتي تمّ ذكرها في وثيقة دوكترينا، إشارات إلى حالة العداء للمسيحية من جهة الغزاة المتحالفين. فحسب بونفيتش، فهي تذكر تحوّل أحد اليهود والذي يحتجّ أنّه لن ينكر المسيح كابن للرب حتى وإن أمسك به اليهود والمسلمون وقطّعوه إلى قطع وأشلاء. من الواضح تماماً أنّ الكاتب كان يؤمن أنّ العرب واليهود كانوا أحلافاً مع بعضهم حتى زمن الفتح.
إنّ أصالة ومصداقية هذا الخبر مؤكّدة من قبل المصنّف الكبير محمد ابن إسحاق، واضع سيرة محمد، في وثيقة موسومة بعنوان "ميثاق المدينة". في هذه الوثيقة يظهر اليهود كمجتمع مكوّن واحدة (أمّة واحدة) مع مؤمنين بدينهم لهم دينهم الخاص وموزّعين بلا أسماء بين عدد من القبائل العربية. وبما أنّه من المحتمل أنّ هذه الوثيقة _طبقاً لكلٍ من كرونه وكوك_ هي من أقدم وثائق التراث الإسلامي، فانسجامها وتوافقها مع الروايات والأخبار الخارجية الأسبق عن أصل الإسلام ونشأته على درجة كبيرة من الأهمية.
إذا كانت هذه الشهادات حقيقية وصحيحة عندها علينا أن نسأل كيف حدث وأن أصبح اليهود والعرب المسلمين حلفاء أواخر عام 640 م، في حين أنّ محمداً _حسبما جاء في القرآن_ قطع علاقاته باليهود خلال عام 624، أي قبل هذه الأحداث بخمسة عشر عاماً؟
المؤرّخ الأرمني عام 660 م
للإجابة عن ذلك نحن بحاجة للإشارة إلى خبر أبكر ذو صلة بسيرة النبي، ورد الخبر ضمن سجلّ أرمني يعود تاريخه إلى 660 م، والذي تمّ نسبه من قبل البعض إلى الأسقف سيبيوس Bishop Sebeos. يصف المؤرّخ كيف أنّ محمداً أسّس جالية جمعت كلاً من الإسماعيليين[11] (أي العرب) والعرب، وأنّ أرضيتهم المشتركة كانت تتمثّل بانحدارهم جميعاً من نسل إبراهيم، العرب من إسماعيل، واليهود من إسحاق ، كان المؤرّخ يرى أنّ محمداً وهب كلا المجتمعين الحق بالأرض المقدّسة والموعودة، في حين أنّه يقدّم لهم آنياً نسباً توحيدياً موحّداً. وهذا كلام ليس من دون سابقة إذ أنّ فكرة حق ولادة إسماعيلي في أرض الميعاد قد تمّت مناقشتها قبل ذلك ورفضها ضمن سفر رابّاه (61: 7)، في التلمود البابلي وكتاب يوبيل (التهليل).
وهكذا فإنّ رؤية محمد لم تكن جزيرة العرب، بل كانت موجهة نحو فلسطين، بالمرافقة مع اليهود، وهي ميزة، طبقاً للبحث الذي أجراه جي. بي. كابوت مثبتة بشكل مستقلّ ضمن التراث التاريخي اليعقوبي.
الملفت للانتباه، وطبقاً لبحث مشترك قام به كل من كرونه وكوك، بقي التوجّه نحو فلسطين حتى في التراث والتقاليد الإسلامية، مع تمويه فلسطين على أنّها سوريا. ونحن لا نحتاج سوى إلى الرجوع لكتابات داؤود سليمان بن الأشعث السجستاني، وأحمد بن محمد ابن حنبل لنجد أنّ النبي أوصى بسوريا على أنها الأرض التي اختارها الله للمختارين من عباده. هذه الاستنتاجات ستتناسب أيضاً بشكلٍ جيد مع التأكيد المذكور سابقاً من قبل كرونه عن هجرة العرب، أو النزوح، من الجزيرة العربية نحو الشمال، وببساطة أكبر بين مدن الجزيرة العربية.
الانفصال بين اليهود والعرب، حسب ما أورده المؤرّخ الأرمني عام 660 م، جاء بعد فتح القدس عام 640 م.
مرّةً أخرى نجد عدداً من المصادر غير الإسلامية التي تعارض القرآن، مؤكّدةً أنّه كانت هناك علاقة طيبّة بين العرب واليهود دامت على الأقل أكثر من خمسة عشر عاماً أي تتجاوز الفترة التي حدّدها القرآن.
إذا كانت فلسطين مركز اهتمام العرب، عندها ينبغي علينا نبحث عن دور مدينة مكّة.

3.4) مكّة
يؤكّد المسلمون أنّ "مكّة هي مركز العالم الإسلامي، ومركز التاريخ". حسب القرآن، {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ [مكّة] مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران 3: 96]. وفي الآيات {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام 6: 92] و{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى 42: 5] هنا نجد أنّ مكّة هي "أمّ القرى".
حسب التراث الإسلامي، آدم هو من وضع الحجر الأسود في المكان الأصلي للكعبة الحالية، في حين أنّ القرآن [سورة البقرة2: 125-127] يقول أنّه إبراهيم من ابنه إسماعيل قاما بترميم الكعبة وإعادة بناءها بعد ذلك بعدّة سنوات. وهكذا بالنتيجة، تعتبر مكّة من قبل المسلمين بأنّها أول وأهمّ مدينة في العالم.
باستثناء الصعوبة البالغة والواضحة في إيجاد أي دليل وثائقي أو أثري يدلّ على أنّ إبراهيم ذهب إلى مكّة وعاش بها، الإشكالية الأصعب تكمن في العثور على أي دليل أو إشارة إلى هذه المدينة قبل ظهور الإسلام. من بحث قام به كل كوك وكرونه، الإشارة المفترضة الأولى والوحيدة ما قبل الإسلامية إلى مكّة مجرّد تخمين لمدينة كان يطلق عليها اسم "مكربة" من قبل الجغرافي اليوناني المصري بطليموس Ptolemy منتصف القرن الثاني للميلاد، إلا أنّنا لا نعرف حقّ المعرفة ما إذا كانت هذه الإشارة التي ضمّنها بطليموس تشير إلى مكّة، إذ أنّه لا يذكّر سوى الاسم ولا شيء آخر. علاوة على ذلك، حسب ما تقول د. كرونه، الجذر الثلاثي العربي لكلمة مكّة (مكّ) لا تتطابق على الإطلاق مع الجذر الثلاثي لكلمة مكربة "كرب" (حيث أنّ الحرفين "مكـ" اللذين يسبقان "ربة" يعنينان: مكان). إذن، ليس هناك أي خبر على الإطلاق عن مكّة أو كعبتها ضمن أيّ وثيقة تاريخية قديمة أو عتيقة، هذا حتى حوالي نهاية القرن السابع. في الواقع، يقول كل من كوك وكرونه ((الإشارات الأبكر هي تلك التي تمّ العثور عليها في النسخة السريانية لأبوكاليبس سيودو-ميثوديوس)).
بأي حال، وبالرغم من أنّ الأبوكاليبس نفسها يعود تاريخها إلى أواخر القرن السابع للميلاد، فالإشارة إلى مكّة غير موجودة إلا في النسخ المتأخّرة، ولا يتمّ تقديمها في التراث الأوروبي أو السوري المتأخّر، كما أنّها لا تظهر في نصّ الفاتيكان، الذي يعتبر من قبل العديد من الاشتقاقيين بأنّه النصّ الأقدم.
الإشارة التالية إلى مكّة، حسب كوك وكرونه، جاءت من مصدر يعود تاريخه إلى الفترة المبكّرة من حكم الخليفة هشام، الذي حكم بين 724-743م.
لذلك، فالدليل الإثباتي الأسبق لدينا عن وجود مكّة يبعد مئة عام كاملة عن التاريخ الذي حدّده كل من القرآن والتراث الإسلامي. لماذا؟ طبعاً، إذا كانت مكّة مدينة على هذه الدرجة من الأهمية، فلا أن يكون أحدٌ ما، في مكانٍ ما، قد ذكرها، إلا أنّنا لا نجد شيئاً ما عدا إشارة صغيرة ومقتضبة من بطليموس قبل ذلك بخمسمئة عام، وهذه التصريحات المبدئية في الجزء الأخير من القرن السابع وبواكير القرن الثامن.
وهذا ليس كل شيء، إذ أنّ المسلمين يؤكّدون أنّ مكّة لم فقط مدينة عريقة وعظيمة، بل أنّها كانت مركز الطرق التجارية في جزيرة العرب خلال القرن السابع وما قبله.
رغم ذلك، وطبقاً للدراسة الشاملة التي أجراها بوليي Bulliet على تاريخ التجارة في منطقة الشرق الأوسط القديم، هذه المزاعم التي يطلقها المسلمون خاطئة تماماً، إذ أنّ مكّة وببساطة شديدة لم تكن تقع في مركز الطريق التجاري الرئيسي. والسبب هو أنّ "مكّة تقع على حافّة شبه الجزيرة العربية. ولا يمكن ملاحظتها إلا بواسطة قراءة مضنية للخريطة، ومن الصعب وصفها بأنها تقاطع طريق طبيعي بين الشرق والغرب، أو الشمال والجنوب".
وهذا يتوافق مع بحث آخر قام به كل من غروم Groom وموللر Muller، والذي جاء فيه أنّ مكّة من غير الممكن أنّها كانت تقع على طريق تجاري، إذ أنّها كانت تستلزم انعطافاً غير مجدي عن الطريق الطبيعي. في الواقع، هما يؤكّدان أنّ الطريق التجاري كان يتخطّى مكّة ويتجاوزها بأكثر من مئة ميل.
تضيف باتريشيا كرونه في كتابها "التجارة المكّية وظهور الإسلام" سبباً عملياً غالباً ما تمّ إغفاله من قبل المؤرّخين السابقين. فهي تشير إلى أنّ ((مكّة كانت مكاناً مقفراً ومجدباً، والمكان المقفر لا يسوى أن يكون محطّة، إذ أنّ تلك المناطق المقفرة تصلح لأن تكون محطّات على أقلّ تقدير عندما تكون على مسافات قصيرة ليست ببعيدة عن بيئات خضراء وغنية. ما حاجة أن تقوم القوافل بالهبوط إلى الوادي القاحل لمكّة في حين أنّها بإمكانها التوقّف في الطائف. طبعاً كان يوجد في مكّة بئر ومقام، لكن هذان الشيئان موجودان هناك في الطائف أيضاً، بالإضافة إلى الغذاء والمؤن أيضاً)).
علاوةً على ذلك، تقول باتريشيا كرونه متسائلةً: ((لنا أن نتساءل ما هي نوعية السلع والبضائع التي كانت متوافرة في الجزيرة العربية يمكن نقلها كلّ هذه المسافة، داخل مثل هذه البيئة المقفرة وغير المضيافة، ويمكن بيعها بربح كبير كافٍ لأن يدعم عملية نموّ وازدهار مدينة تقبع في موقع حدودي محروم من أيّة مصادر طبيعية؟)). لم يكن البخّور طبعاً، أو التوابع أو أيّة سلع غريبة أخرى، كما أعلن العديد من الكتّاب والمصنّفين الأوائل الذي يفتقرون للمصداقية والموثوقية.
تشير د. كرونه في كتابها عن التجارة المكية إلى أنّه من بين الخمسة عشر نوعاً من التوابل التي تمّ نسبها إلى مكّة: ستةً منها صارت قديمة واندثرت قبل القرن السادس، نوعان كانا يستوردان عن طريق البحر، نوعان كانا من شرق إفريقيا حصراً، نوعان كانا من الأنواع الرديئة دون المستوى وهكذا لم تتمّ المتاجرة بهما، نوع هويّته كانت تشكّل إشكالية كبيرة، ونوعان لا يمكن تمييزهما مطلقاً. وبذلك، ولا نوع من الأنواع الخمسة عشر للتوابل يمكن نسبه إلى مكّة. إذن ما هو الطريق التجاري الذي كانت تشتهر به مكّة؟ يؤكّد بعض المسلمين أنّه للإيداع أو لجمع الجمال، ومع ذلك لنا أن نتعجّب: أفي هذا المكان المقفر والبيئة الفقيرة؟
حسب دراسة أحدث أثر موثوقية لكل كيستر وشبرينغر، نلاحظ أنّ العرب انخرطوا في تجارة أبسط وأقل تعقيداً، تتضمّن كلاً من الجلد واللباس، ومن غير المعقول أن تكون تجارة قائمة على مثل هذه المواد أن تؤسّس إمبراطورية تجارية كبيرة ذات أبعاد دولية.
والحال، أنّ المشكلة الفعلية بمكّة هي أنّ شبه جزيرة العرب كانت تفتقر لطريق تجارة عالمي، ناهيك عن مكّة، قبل ولادة محمد بقرن. يبدو أنّ أغلب بياناتنا في هذا الحقل كانت مزوّرة ومنحولة منذ البداية، وذلك مردّه إلى البحث السطحي وغير الموضوعي للمصادر الأصلية، الذي نفّذه لامينز، "باحث غير جدير بالثقة"، وتمّ ترديده من قبل العديد من المستشرقين العظماء كواتس، شعبان، رودنسون، هيتي، لويس، وشهيد. لامينز، مستخدماً مصارد تعود إلى القرن الأول (مثل بيريبلوس 50م، وبليني 79م) كان عليه أن يرجع على مؤرّخين ومصادر تاريخية يونانية وبيزنطية ومصرية تعود إلى القرن السادس الميلادي، وذلك لأنّها قريبة من تلك الأحداث (مثل كوسماس، بركوبيوس وتيودريتوس). ولأنّهم لم يكونوا فقط تجاراً، رحّالةً، جغرافيين، بل مؤرّخين أيضاً، فهم كانوا يعرفون المنطقة والمرحلة الزمنية، وبذلك سيكونون هم الأقدر على تقديم صورة أكثر دقّةً ومعقوليةً لنا.
لو أشار إلى هؤلاء المؤرّخين المتأخّرين لوجد أنّ الطريق التجاري اليوناني بين الهند والبحر الأبيض المتوسّط كان طريقاً بحرياً ملاحياً بالكامل بعد القرن الميلادي الأول. ولسنا بحاجة إلا لإلقاء نظرة سريعة على الخريطة لنعرف السبب. فمن غير المجدي نقل البضائع عبر هذه المسافات عن طريق البرّ حيث المياه قريبة وتقدّم طرقاً أسهل وأسرع. تشير باتريشيا كرونه إلى أنّه في روما الديوقليطية كان من الأرخص نقل القمح 1250 ميل عن طريق البحر أكثر من نقله خمسين ميلاً عبر البرّ. المسافة من نجران، اليمن في الجنوب، إلى غزّة في الشمال كانت ما يقارب حوالي 1250 ميل. لماذا سيقوم التجّار بنقل بضائعهم من الهند عن طريق البحر، ثمّ إنزال الحمولة في عَدِن، حيث سيتمّ تحميلها على ظهور الجمال الأبطأ والأكثر تكلفةً لتعبر بجهدٍ الصحراء العربية القاحلة والعدائية إلى غزّة، في حين أنّ بإمكانهم وببساطة شديدة ترك الحمولة على ظهر السفن والعبور بها من مضيق هرمز ثمّ دخول البحر الأحمر والوصول إلى غزّة بشكل أسرع وأرخص ومريح أكثر؟
هناك مشكلة أخرى أيضاً. لو أنّ لامينز درس مصادره بشكل أفضل وأعمق، لوجد أيضاً أنّ التجارة اليونانية _ الرومانية قد انهارت خلال القرن الثالث الميلادي، لذا وخلال فترة حياة محمد لم يكن هناك أي طريق بري، ولا أيّة أسواق رومانية تؤدّي إليها الطريق. ولوجد أيضاً أنّ ما بقي من التجارة وقع تحت سيطرة الأثيوبيين وليس العرب، وأنّ مدينة أدوليس على الساحل الأثيوبي للبحر الأحمر كانت مركز الطريق التجاري في تلك المنطقة وليس مكّة.
والأهمّ من ذلك، هل أمضى لامينز وقتاً كافياً في دراسة المصادر اليونانية المبكّرة؟ لو فعل ذلك لوجد أنّ الإغريق أو اليونانيين الذين كانت تذهب البضائع التجارية إليهم لم يسمعوا مطلقاً عن مدينة اسمها مكّة. لو كانت مكّة على هذه الدرجة من الأهمية كمّا يزعم المسلمون وأغلب المستشرقين اليوم، فلا بدّ أنّه سيلاحظ وجودها تلك الشعوب المثقّفة والمتطوّرة التي تذهب البضائع التجارية إليها. إلا أنّنا لا نجد شيئاً. تشير كرونه في عملها أنّه ورد اسم مدينة الطائف في المعاملات والوثائق التجارية اليونانية (وهي مدينة قريبة من مكّة في وقتنا الحاضر)، ومدينة يثرب، بالإضافة إلى خيبر في الشمال، دون ذكر أي شيء عن مكّة. وحتى الساسانيين الفرس، الذين توغّلوا في أراض من شبه الجزيرة خلال الفترة ما بين 309 و 570 للميلاد وردت في معاملاتهم ووثائقهم أسماء مدن يثرب، تهامة، ولكن ليس مكّة. وهذه إشكالية فعلاً.
لو أنّ المستشرقين اللاحقين أتعبوا أنفسهم قليلاً ودرسوا المصادر التي اعتمد عليها لامينز وسلطوا عليها ضوء البحث الدقيق والمسائَلة الجادّة، لأدركوا أنّه منذ أن ألغي خط البر التجاري خلال القرن الميلادي الأول، فمن المؤكّد أنّه لم يتمّ استخدامه خلال القرنين الخامس أو السادس الميلاديين، وكل ما كتب من وثائق ومعاملات تتعلّق بمكّة لجرى تصحيحها قبل الآن بزمنٍ طويلٍ.
أخيراً، مشكلة تحديد موقع مكّة في المصادر اللادينية المبكّرة ليست مشكلة فريدة، إذ أنّ هناك بعض الحيرة والخلط ضمن المصادر التراثية الإسلامية حول الموقع الأصلي الذي ظهرت فيه مكّة بالضبط [12]. حسب دراسة قام بها جي. فان إيس، على الحربين الأهليتين الأولى والثانية، هناك عدد من الناس ساروا من المدينة إلى العراق عن طريق مكّة. إلا أنّ مكّة تقع جنوب غرب المدينة، أمّا العراق فتقع شمال شرق المدينة. لذا نجد أنّ المقام والقبلة في الإسلام، حسب هذه الأخبار كانا في وقت ما نحو شمال المدينة، وهو اتجاه معاكس ومخالف تماماً لاتجاه مكّة اليوم!
ما زلنا أمام معضلة. إذا لم تكن مكّة ذلك المركز التجاري العظيم المزعوم من قبل المسلمين، إذا لم تكن معروفة لأولئك الذين عاشوا وكتبوا من تلك الفترة، و، إذا لم يكن باستطاعتنا تصنيفها على أنها "مدينة كاملة" خلال فترة حياة محمد، فمن المؤكّد أنّها لم تكن مركز العالم الإسلامي في ذلك الوقت. إذن، من أي نوع من المدن كانت؟...
الجواب ليس من الصعب تخمينه، فقد سبق وأجبنا عليه. من الواضح أنّ أورشليم أو القدس هي التي كانت مركز العالم الإسلامي ومقام وقبلة الهاجريين، أو المغربيين (تسمية قديمة كانت تطلق على العرب) حتى حوالي عام 700 للميلادي.
نقاشنا السابق فيما عن الهجرة والقبلة واليهود كانت نحو الشمال، من المحتمل أنّ فلسطين كانت مقصد الهجرة، التي كانت في الشمال الغربي للجزيرة العربية والتي كانت الهاجريون يتّجهون صوبها للصلاة، وأنّ عملية غزوها تمّت جنباً إلى جنب مع اليهود. أضِف إلى ذلك حقيقة أخرى قد تساعدنا في استيعاب الأمر بشكل أوضح:
3.5) قبّة الصخرة
في قلب القدس هناك هيكل جليل ومقدّس (حتى يومنا هذا) يطلق عليه اسم قبّة الصخرة، بناها عبد الملك بن مروان عام 691 م. بأي حال، سنلاحظ أنّ قبّة الصخرة ليست مسجداً، كما أنّها ليست قبلة. فهي مبنية كمثمّن بثمانية أعمدة، ممّا يدلّ على أنّها كانت تستخدم للطواف حولها. لذلك يبدو أنّها تمّ بنائها كمقام. وفي وقتنا الحاضر تعتبر قبّة الصخرة أنّها ثالث أقدس مكان في الإسلام، بعد مكّة والمدينة. يزعم المسلمون أنّها بنيت لتخليد ذكرى الليلة التي صعد فيها محمد إلى السماء وتحدّث مع موسى والله فيما يتعلّق بعدد الصلوات المفروضة على المسلمين (وتعرف بليلة المعراج).
مع أنّ _حسب دراسة على النقوش نفّذها كل من فان بيركيم ونيفو، النقوش ذات التواريخ الأبكر المنقوشة على المبنى لا تذكر أي شيء عن حادثة المعراج، بل تتعلّق تلك النقوش باقتباسات قرآنية مثيرة للجدل، إذ أنّها تستهدف المسيحيين في المقام الأول.
يسارع العديد من المسلمين للإشارة إلى أنّ كلا السورتين [الإسراء 17: 1] و[البقرة 2: 143-145]، اللتان تتحدّثان عن "المكان المبارك" و"تغيير جهة القبلة"، يمكن إيجادهما منقوشتان على ظهر القبّة والمدخل المتّجه نحو الجنوب. سيقومون بكل ما في وسعهم لدراسة تاريخ تلك النقوش. أمّا الذي سيجدونه هو أنّ هذه النقوش ليست أصلية ومزيّفة، كما أنها ليست عتيقة بل جديدة. فقبّة الصخرة بأكملها تمّت إعادة بنائها على يد الظاهر لإعزاز دين الله عام 1022 م بسبب هزّة أرضية حدثت عام 1016 م. ثمّ أعيد بناء ظهر القبّة عام 1318م. لكنّ النقوش (السورة السفلى 36 والسورة العليا 17) لم تتمّ إضافتهما حتى عام 1876 على يد عبد الحميد الثاني. الأبواب الحالية (حيث توجد الآية رقم 144 من سورة البقرة) لم يتمّ وضعها حتى عام 1545م. الثغرة الجنوبية حيث تمّ نقش الآيتان 143-145 من سورة البقرة لم تبنى حتى عام 1817م على يد السلطان محمود. لذا، ما أن نقرأ تاريخ القبّة، نجد ولا آية من هاتان السورتان الاتهاميتان تعودان إلى القبّة الأصلية عندما بنيت في عهد عبد الملك بن مروان عام 691م.
النقوش السابقة الأصلية التي نتحدّث عنها تشير إلى المكانة والحالة المسيحية ليسوع، الإيمان بجميع الأنبياء، تلقّي محمد الوحي، واستعمال ألفاظ مثل "الإسلام" و"مسلم". يجب أن نلاحظ أنّه حتى تلك التواريخ المبكّرة يمكن أن تنتابنا الشكوك حولها وذلك مردّه إلى التصميم المختلف الذي تمّ إضافته إلى الأعمدة الداعمة وهذا خبر يورده لنا الشاعر والأديب الفارسي ناصر خسرو[13] عام 1047 م.
إذا كان الغرض من بناء القبّة تخليد هذا الحدث الهام في تاريخ حياة الرسول (حادثة المعراج)، فلماذا لا توجد أيّة إشارة إلى هذه الحادثة في النقوش المبكّرة؟ إذ لا يوجد في أي مكان من تلك النقوش إي ذكر لليلة صعود محمد إلى السماء، على ظهر دابّة مجنّحة تسمّى البراق، كما لا يوجد ذكر للحدث الذي دار بين محمد وموسى أولاً ثمّ بينه وبين الله، ولا الصلوات المفروضة الخمس، والتي كانت هي الغرض من هذه الرحلة المزعومة.
كيف يمكننا تفسير ذلك؟ هنالك تفسير محتمل وهو أنّ رواية المعراج ببساطة لم تحدث في ذلك الوقت، بل تمّت صياغتها وتنقيحها فيما بعد خلال الفترة العباسية (بعد عام 750م). فليس من الصعب فهم ذلك عندما ندرك أنّ فكرة الصلوات الخمسة في الأصل تمّ تلفيقها وحشرها فيما بعد. الإشارة الوحيدة التي وردت في القرآن إلى الصلاة كانت في الآيات التالية:
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود 11: 114]
{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء 17: 78-79]
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه 20: 130]
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم 30: 17-18] مع أنّ هناك بعض الشك والارتباك فيما إذا كانت هذه الآيات تتحدّث عن الصلاة بمعناها الحرفي، أم عن الحمد والتسبيح.
ما نراه في هذه الإشارات أنّ المطلوب ثلاث صلوات فقط. ولا يوجد أيّة إشارة إلى خمس صلوات (ولو أنّ العديد من المفسّرين والفقهاء المسلمين حاولوا جهدهم _من خلال اللف والدوران وليّ عنق الكلمات_ إضافة الصلاتان المفقودتان إمّا في الصّباح أو في المساء).
هذه الرواية عن المعراج من المفروض أنها حدثت عندما كان محمد يعيش في المدينة (على الأغلب حوالي عام 624م). ومع ذلك نجد أنفسنا ملزمين للرجوع إلى مجاميع الأحاديث التي جمعت وصنّفت بعد مضي 200-250 سنة لنجد كيف أنّ الصلوات الخمس تمّ اشتراطها، وماذا كانت تسمّى. إذا كان القرآن كلام الله، فلماذا لم يكن مشترطاً لهذا العدد من الصلوات التي تمّ فرضها على المسلمين؟ وعلاوةً على ذلك، إذا كانت قبّة الصخرة قد بنيت لتخليد هذا الحدث المعجز والهام جداً، فلماذا لم تقل شيئاً عن هذا الحدث حتى مضي ألف عام على حدوثه؟ من الواضح أنّ هذا البناء كان مبنياً لأعراض وأهداف أخرى مغايرة تماماً، وليس لتخليد ذكرى المعراج. حقيقة أنّ مثل هذا البناء قد بني أبكر بكثير من الحادثة المزعومة تشير إلى أنّه كان مقاماً ومركزاً للعالم الإسلامي على الأقل حتى أواخر القرن السابع الميلادي، وليس مكّة.
نستنتج مّما قرأناه سابقاً عن نيّة محمد بأن ينفّذ حقّه وحقّ الهاجريين بالولادة والاستقرار في أرض إبراهيم، أو فلسطين، من المعقول أن يقوم عبد الملك ابن مروان ببناء هذا الهيكل كنصب تذكاري وفخري لهذا الحق. عندئذٍ ليس علينا أن نستغرب أنه عندما قام عبد الملك ببناء القبّة في المكان الذي أعلن فيه الرحلة النبوية لمحمد، فإنّه قد بناه فوق معبد الصخرة نفسه.
حسب التراث الإسلامي، الخليفة سليمان، الذي حكم خلال لفترة ما بين 715-717م، ذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحجّ. إلا أنّه لم يكن راضياً للاستجابة التي لقيها هناك، لذا اختار أن يسير على خطا عبد الملك (أي أنّه سافر ليحجّ إلى قبّة الصخرة)[14]، هذه الحقيقة لوحدها، حسب د. هاوتينغ من معهد الدراسات الإستشراقية والإفريقية، تدلّ أنّه بقي هناك بعض الشكّ والارتباك حول تحديد مكان المقام، واستمرّ هذا الارتباك حتى أوائل القرن التاسع. يبدو أنّ مكّة لم تأخذ حتى عهدٍ قريب دور المركز الديني الرئيسي للعالم الإسلامي. لذا بإمكاننا أن نفهم لماذا قام الوليد الأول الذي حكم كخليفة خلال الفترة ما بين 705 و715، حسب التراث الإسلامي، بالكتابة لكافة الأقاليم والمناطق آمراٍ بتدمير وتوسيع كافة المساجد [15]. هل يعقل أنّه وخلال هذه الفترة تمّ تشريع مكّة كقبلة مشتركة لجميع المسلمين؟ إذا كان الأمر كذلك، فإنه يشير إلى تناقض آخر مع القرآن الذي وضع مكّة كمركز وقبلة للمسلمين، خلال فترة حياة محمد منذ 80 إلى 90 سنة قبل هذا حادثة تدمير المساجد وتوسيعها [16].
وهذا ليس كل شيء، إذا أنّنا نمتلك مخطوطة ودليلاً أركيولوجياً آخر يبيّن الخلافات والفروقات مع ما نقرأه في القرآن:
3.6) محمّد
كتابات المؤرّخ الأرميني التي تعود إلى عام 660م (أشرنا إليه سابقاً) تقدّم لنا أقدم خبر مروي عن سيرة محمد حتى الآن، مؤكّدةً أنّ محمد كان تاجراً وكان يتحدّث كثيراً عن إبراهيم، ممّا يقدّم لنا دليلاً تاريخيا مبكّراً يثبت لنا وجود شخص اسمه محمد. إلا أنّ هذا المؤرّخ لا يقول شيئاً عن نبوّة محمد الكلّية والعالمية، بل أشار أنّه كان مجرّد نبي محلّي.
وحتى الوثائق الإسلامية القديمة، حسب د. جون وانسبرو، لا تقول أي شيء عن رسالته ونبوّته العالمية. كتاب المغازي، الذي يشير إليه وانسبرو هو عبارة عن معارك النبي وغزواته، وهذه الوثيقة من أقدم وأبكر الوثائق الإسلامية التي في متناولنا اليوم. لذا يجب أن تقدّم لنا أفضل لمحة عن تلك الفترة، إلا أنّها لا تخبرنا سوى القليل فيما يتعلّق بحياة محمد أو تعاليمه. في الواقع، لا يوجد في أيّة وثقة من تلك الوثائق ذكر لمحمد على أنه نبيّ! فإذا _كما تدّعيه المصادر التراثية الإسلامية والقرآن نفسه_ كان يعرف محمد بأنّه خاتم الأنبياء كما جاء في سورة الأحزاب، آية رقم 40 {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}، عندئذٍ لماذا تبقى هذه الوثائق صامتة، ولا تقول شيئاً عن هذا الأمر الغاية في الأهمية؟
النقوش الحجرية التي درسها نيفو
لكي نعرف من كان محمد، وما الذي قام به، يجب علينا أن نعود بالزمن إلى الفترة التي عاش فيها، والنظر إلى الدليل الذي كان موجوداً آنذاك، وما زال موجوداً حتى الآن، لنرى ما الذي سيخبرنا به فيا يتعلّق بهذه الشخصية المثيرة للجدل. وانسبرو، الذي أجرى أبحاثاً كثيرة على التقاليد والمصادر التاريخية والقرآن يرى أنّه، ولأنّ المصادر الإسلامية تعتبر متأخّرة جداً، منذ 150 عاماً على سيرة المغازي، بالإضافة إلى القرآن المبكّر، من الأنسب اعتبارها غير موثوقة وغير أصلية. عندما ننظر إلى المصادر التاريخية غير الإسلامية، عندها فقط نجد صورة أوضح وأكثر جلاءً عن هوية محمد والرجل الذي كان.
من أفضل المصادر غير الإسلامية الموجودة في جزيرة العرب خلال القرن السابع الميلادي هي تلك النقوش العربية المنقوشة على الصخور والمنتشرة في كافة أرجاء الصحراء السورية الأردنية، وأجزاء من شبه الجزيرة العربية، وبشكلٍ خاص صحراء النقب. والرجل الذي قام بأغلب الأبحاث على هذه النقوش الحجرية هو الباحث يهودا نيفو، من الجامعة العبرية في القدس. وسأشير إلى بحثه التي يحمل العنوان: "نحو تاريخ ما قبل الإسلام"، والذي تمّ نشره عام 1994.
وجد نيفو في النصوص الدينية العربية، التي يعود تاريخها إلى القرن الأول ونصف القرن من الحكم العربي، بقايا عقيدة توحيدية. والحال، توصّل إلى نتيجة مفادها أنّ هذه العقيدة ((ليست هي الإسلام قطعاً، بل [عقيدة] تطوّر منها الإسلام)).
وجد نيفو أيضاً أنّه ((ضمن كافة المؤسّسات العربية الدينية خلال العهد السفياني [661-684م] هناك غياب تام لأي إشارة أدو دليل على محمد)). في الواقع، لا وجود ذكر لإسم محمد ولا حتى لأي صيغة إسمية محمدية (أي أنه رسول أو نبيّ الله) في أيٍ من النقوش التي يعود تاريخها إلى ما قبل عام 691م. وهذا حقيقي وواقع سواءً إذا كان الغرض من النقوش دينياً، كالتلاوات والابتهالات، أو سواءً كان الغرض تذكارياً متضمّناً تأكيداً دينياً، كالكتابة المنقوشة على السّدّ بالقرب من مدينة الطائف، الذي بناه الخليفة معاوية عام 660 للميلاد.
إنّ حقيقة أنّ اسم محمد غائب وغير مذكور في كافة النقوش المبكّرة، وبشكل خاص النقوش ذات الطابع الديني، هو أمر بالغ الأهمية والخطورة. الكثير من المصادر التراث الإسلامية المتأخّرة (أي السيرة والأحاديث، والتي يفترض أنّها أقدم المصادر الأدبية الإسلامية التي نمتلكها) جميعها تتألّف من روايات وأخبار تخصّ حياة النبي بأدقّ تفاصيلها. فهو المثال والقدوة التي يتخذها جميع المسلمين أسوةً لهم. لماذا إذن لا نجد نفس الأخبار والروايات عن محمد ضمن هذه النقوش العربية المبكّرة والمعاصرة للفترة التي عاش فيها؟ وهناك إشكالية أكثر صعوبة وإلحاحاً، لماذا ليس هناك أي ذكر أو إشارة إليه؟ فلم يتمّ العثور على اسمه إلا ضمن النقوش العربية التي ترجع في تاريخها إلى ما بعد عام 690م.
علاوةً على ذلك، أوّل ظهور لعبارة (محمّد رسول الله) كانت منقوشة على عملة ساسانية عربية في زمن الحاكم خالد بن عبد الله عام 690م، وتمّ صكّها في مدينة دمشق.
والأهمّ من ذلك، أنّ الظهور الأول لما يطلق عليه نيفو تسمية "الاعتراف الثلاثي بالإيمان" والذي يحمل معنى 1) التوحيد، عبارة، 2) محمد رسول الله، 3) والطبيعة البشرية ليسوع "رسول الله وعبده"، موجودة في نقش عبد الملك بن مروان على قبّة الصخرة في القدس، يعود تاريخها إلى عام 691م! قبل هذه النقوش، لا نجد أي ذكر للاعتراف الثلاثي بالإيمان في أيّ مكان. ويجب أن نلاحظ أنّ تاريخ هذه النقوش متأخّر جداً، على الأرجح تمّت إضافتها على يد الزاهر لإعزاز عندما أعاد بناء النواقل الداخلية والخارجية فوق مكان النقوش، وذلك عام 1022م.
كقاعدة عامّة، وبعد عام 691م، وخلال كافّة أفراد السلالة المروانية [أيّ حتى عام 750م]، يظهر اسم محمد عادةً حين يتمّ استعمال الصيغ دينية: على العملات مثلاً، الجدران، المعالم، والبروتوكولات على ورق البردي.
قد يقول البعض أنّ سبب هذه التواريخ المتأخّرة على الأرجح هو حقيقة أنّ أيّة أفكار أو معتقدات دينية تستغرق فترة زمنية معينّة لتخترق النقوش العربية. ومع ذلك، كما يقول نيفو، ورقة البردي العربية الأولى، معاملة مصرية، والتي كانت بمثابة إيصال لدفع الضرائب، يعود تاريخها لعام 642م، ومكتوبة بكلا اللغتين اليونانية والعربية تبدأ بالبسملة، إلا أنّها لا تحمل لا الطائع المسيحي ولا الإسلامي.
المضمون الديني للنقوش الحجرية لم يصبح معلناً إلا بعد عام 661م. بأي حال، مع أنّها تحمل نصوصاً دينية، إلا أنّها لا تذكر النبي أو أيّة صيغة محمدية. يقول نيفو: ((وهذا يعني أنّ الاعتراف الديني العربي الرسمي لم يشتمل على اسم محمد أو أيّة صيغة محمدية ضمن ذخيرته الفنية من مجموعات العبارات التي كانت شائعة في تلك الفترة))، أي بعد مضي 60 عاماً أو أكثر على وفاة محمد. تلك النقوش كانت تحتوي شكلاً أو صيغة معيّنة لعقيدة توحيدية، تنتمي إلى نوع من الآداب المذهبية أو الطائفية مع العديد من المفاهيم اليهودية والمسيحية الممتزجة بها بأسلوب أدبي خاص، إلا أنّها لا تتضمّن أيّة خصائص محدّدة يمكن أن تنسب لأيّ ديانة توحيدية بعينها [17].
أمر آخر في غاية الأهمية، تظهر هذه النقوش أنّه عندما تمّ إنتاج الصيغة المحمدية، خلال الفترة المروانية [بعد عام 684م] فقد تمّ إنتاجها وتنفيذها فجأةً "وخلال ليلةٍ وضحاها". فجأةً أصبحت هذه الصيغة هي الصيغة الدينية الرسمية والوحيدة للدولة، وجرى استخدامها بشكل حصري ضمن المعاملات والنقوش الرسمية، كمعاملات واتفاقيات ورق البردي.
ومع ذلك وحتى عندما أصبحت النصوص المحمدية رسمية، لم تكن مقبولة عند الأغلبية العامة على الفور. فبعد سنوات عديدة من ظهورها في الإعلانات والاتفاقات الحكومية، استمرّ الناس في تضمين حكايات وأساطير غير محمدية في كتاباتهم ونقوشهم الشخصية، بالإضافة إلى كتابات المحكمة العليا الروتينية. ومن هنا، على سبيل المثال، وجد نيفو كاتباً معيّناً لم يكن يستخدم الصيغ المحمّدية في مراسلاته باللغتين العربية واليونانية، مع أنّه كان يستخدمها في معاملاته على ورق البردي التي تحمل اسمه وعنوانه.
في الواقع، وحسب ما يورده نيفو، لم يبدأ استخدام الصيغة المحمدية في النقوش الحجرية العامّة في وسط صحراء النقب بعد حوالي ثلاثين عاماً (أو بعد جيل كامل) من إنتاج عبد الملك لتلك الصيغ، في فترة ما خلال فترة حكم الخليفة هشام (ما بين 724-743). وحتى هذه النقوش مع أنها تحمل صيغاً محمدية، إلا أنها ليست إسلامية. فهو يرى أنّ النصوص الإسلامية لم تظهر إلى الوجود إلا في بداية القرن التاسع الميلادي (أي حوالي عام 822م)، وهذا التاريخ يتصادف مع كتابة أول نسخة من القرآن، بالإضافة إلى أول أخبار وأحاديث مكتوبة من التراث الإسلامي.
لذا يبدو من الواضح تماماً من هذه النقوش أنّها كانت خلال عصر السلالة المروانية (بعد عام 684م)، كما أنّ محمداً خلال فترة حياته لم يكن مرفوعاً لمرتبة نبي عالمي، وحتى حينذاك، الصيغة المحمدية التي تمّ إنتاجها لم تكن مكافئةً للصيغة التي نعرفها اليوم.
للتوسّع في هذا الموضوع، وبشكل خاص في التصنيفات الستة للفترات الزمنية التي تنتمي إليها النقوش الحجرية، ومضمونها، أنصح بالرجوع إلى مقالة نيفو نفسها (صـ 111-112)
3.7) "مسلمين" و"إسلام"
وصلنا الآن إلى كلمَتَي ""مسلم" و"إسلام". فاتباع محمد للخطّ الإبراهيمي يمكن أن يوضّح سبب عدم ورود ذكر لقب "مسلم" حتى السنوات الأخيرة للقرن السابع الميلادي. في الواقع الظهور المؤرّخ الأبكر لهذه اللفظة لا يمكن إيجاده إلا ضمن النقوش المحفورة على جدران قبّة الصخرة التي نعرف أنّها بنيت عام 691م، أي يعد ستين عاماً من وفاة محمد.
قبل ذلك الوقت كان يشار إلى العرب بكلمة Magaritai، التي تم العثور عليها في ورقة بردي يونانية تعود إلى عام 642م. وبالحرف السرياني عند الراهب إيشوعيب الثالث بحدود عام 640م، كانت تطلق عليهم تسمية مهجريين أو مهجريّة.
إنّ ظهور هذه الألفاظ أمر ليس نادر أو غريب، لكن عثر عليها في أماكن بعيدة كمصر والعراق، وهذا أمر في غاية الأهمية. اللفظ العربي المطابق هو "المهاجرون"، وهذا أمر له أهمية جينيالوجية (علم الأنساب) بصفتهم أنهم من سلالة إبراهيم وهاجر، وأهمية تاريخية، إذ أنهم كانوا جزءاً من الهجرة، أو الخروج. والحديث السابق عن الهجرة الذي أشرنا إليها سابقاً أنّها كانت باتجاه (حسب مصادر تاريخية خارجية) فلسطين وليس باتجاه المدينة.
أثاناسيوس عام 684م، يكتب باللغة السريانية مستخدماً تسمية المهجرية للإشارة إلى العرب. يعقوب الإيديسي عام 705م، يشير إليهم بالهاجريين. وثيقة دوكترينا ياكوبي تشير إليهم باسم "العرب المسلمين Saracens". لذا، وعلى النقيض لما ورد في القرآن الذي يقول في سورة الأحزاب 33 الآية رقم 35 {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ}، يبدو أنّ لفظة "مسلم" لم تكن مستخدمة حتى نهاية القرن السابع الميلادي. إذن من أين نشأت هذه التسمية؟
حسب ما يورده كرونه وكوك إنّ لفظة "إسلام" (واللفظة المتوافقة "مسلم") بمعنى "التسليم والخضوع لله" لفظة مأخوذة من اللغة السامرّائية. يؤكّد كل من كرونه وكوك أنّ ((الفعل "أسلَمَ" له شبيه في اللغة العبرية، الآرامية والسريانية، لكن بما أنّه لا الأدب اليهودي ولا المسيحي يقدّمان دليلاً على سابقة مقنعة للاستخدام الإسلامي لهذه اللفظة، فإننا نجد مطابقات موازية تماماً في نصّ the Memar Marqah، وهو من أهمّ النصوص السامرّائية التي تعود لفترة ما قبل الإسلام)). فهما يمضيان للقول أنّ ((المعنى المنطقي والسياق المعقول للأصل للسعي وراءه هنا هو السلام "وسياق صنع السلام". فإعادة تفسير وتأويل هذا المفهوم من ناحية الإطار المهيمن والسائد للخضوع والاستسلام يمكن أن يبدو وبسهولة أنّ المقصد منه التمييز بين عهد الهاجريين وذلك العهد عند اليهودية))
مع أنّ القرآن يستخدم نفس اللفظة [سورة الأحزاب 33: 35] إلا أنّه من الواضح _من خلال الوثائق والمعاملات التي تعود إلى القرن السابع الميلادي_ أنّها لم تكن معروفة خلال فترة حياة محمد، وهذا ما يزيد من قوّة الدليل على وجود عملية تطوّر في النصّ القرآني.


3.8) القرآن
الآن وصلنا إلى القرآن نفسه. كما ذكرنا سابقاً، مرّ القرآن بالعديد من المراحل التحوّلية خلال السنوات المئة التي تلت موت النبيّ. لقد كشفنا الآن الغطاء عن عملات منقوش عليها عبارات قرآنية مفترضة يعود تاريخها إلى عام 685م، تمّ صكّها خلال فترة حكم عبد الملك بن مروان. علاوةً على ذلك، بني هيكل قبّة الصخرة على يد عبد الملك بن مروان في القدس عام 691م. ((وهذا يشهد على وجود مواد _تعود إلى نهاية القرن السابع الميلادي_ يمكن التعرّف عليها على الفور أنّها قرآنية)) ومع ذلك، السؤال من القرآن عن كل من العملات وقبّة الصخرة يختلف في تفاصيله عمّا نجده فيه اليوم. يؤكّد كل من فان بيركيم و غرومان _عالمان اشتقاقيان أجريا أبحاثاً ودراسات موسّعة على نقوش قبّة الصخرة_ أنّ النقوش المبكّرة تتضمّن على ((أشكال لفظية متباينة، انحرافات واسعة، بالإضافة إلى أخطاء من النص الموجود لدينا اليوم)).
إذا كانت هذه النقوش مقتبسة من القرآن نفسه، مع التباينات التي تحتويها، إذن كيف أمكن وأن تمّ تشريع وتقديس القرآن قبل هذا الوقت (القرن السابع الميلادي)؟ هذا يوصلنا إلى نتيجة مفادها أنّ النص القرآني قد تغيّر وتطوّر خلال عملية تدوينه وتنقيحه مع مرور الزمن (هذا إذا كانت تلك النقوش مأخوذة فعلاً من القرآن).
يبدو أيضاً أنّ المصادر تشير إلى أنّ القرآن تمّ جمعه وإعداده بعجالة (كما سبق وذكرنا خلال القسم السابق، في النقد الداخلي للقرآن). وهذا ما أكّده د. جون وانسبرو الذي يقول أنّ ((الكتاب يفتقر بشدّة إلى التركيب العام، غالباً ما يكون مبهماً وغير مفهوم في اللغة المضمون، مملّ في ترابط مواده المتباينة، تاركاً المجال لتكرار آيات كاملة في نسخ مختلفة. على أساس هذه الفكرة يصبح من المعقول القول أنّ هذا الكتاب هو نتاج عملية تحرير وتنقيح معيوبة ومتأخّرة لمواد من مصادر تراثية وتاريخية متعدّدة))
يرى كرونه وكوك أنّه وبسبب وجود عيوب وإهمال في عملية التنقيح، فظهور القرآن لابدّ أنّه كان حدثاً فجائياً. الإشارة الأبكر المستقاة من خارج المصادر التراثية الإسلامية والتي تشير إلى كتاب اسمه القرآن تحدث في منتصف القرن الثامن الميلادي بين عربي وراهب، لكن لا أحد يعرف ما إذا كان مضمونه يختلف كثيراً عن مضمون القرآن الذي نقرأه اليوم. يستنتج كل من كرونه وكوك أنّه باستثناء هذه الإشارة الصغيرة ليس هناك أي علامة أو دليل على وجود القرآن قبل نهاية القرن السابع الميلادي.
يمضي كل من كرونه وكوك في بحثهما للتأكيد أنّه وتحت إشراف حاكم العراق الحجّاج بن يوسف الثقفي عام 705م بات لدينا سياق تاريخي منطقي بشأن الطريقة التي تمّ فيها تحرير القرآن (أو مجموع الأدب المنحول الذي تمّ الادّعاء فيما بعد بأنّه القرآن) وتنقيحه على أنّه قرآن محمد. في خبر منسوب إلى ليو Leo من قبل ليفوند Levond، يبدو أنّ الحاكم الحجّاج قد قام بجمع كافّة كتابات الهاجريّين القديمة واستبدلها بأخرى ((حسب ذوقه الخاص، ثمّ وزّعها في مختلف أرجاء أمّته)). النتيجة الطبيعية هي أنّه خلال هذه الفترة بالذات بدأ القرآن رحلة تطوّره الخاصّة، على الأرجح بدأ في المرحلة التدوينية، حتى تمّ تشريعه خلال منتصف حتى أواخر القرن الثامن الميلادي ليصبح على الشكل الذي بين أيدينا اليوم.
جميع هذه المكتشفات تعطينا سبباً جيداً للشك في أصالة القرآن وموثوقيته بصفته كلام الله. يشير علم الأركيولوجيا، بالإضافة إلى الدليل المتضمّن في الوثائق والمخطوطات القديمة أنّ معظم ما يحتويه القرآن لا يتطابق أو يتماثل مع البيانات التي حصدناها حتى الآن. نستنتج من المواد المتراكمة من المصادر الخارجية في القرنين السابع والثامن الميلاديين ما يلي:
1) أنّ عملية الهجرة لم تكن إلى المدينة، بل إلى فلسطين.
2) أنّ القبلة لم تكن نحو مكّة في بدء الأمر حتى القرن الثامن، بل نحو منطقة تقع نحو الشمال البعيد، وعلى الأرجح مدينة أورشليم/ القدس.
3) أنّ اليهود كانوا على علاقة طيّبة وسلمية مع العرب على الأقل حتى عام 640م.
4) أنّ مدينة القدس _وليست مكّة_ هي التي كانت تحتوي المقام الأصلي للإسلام، إذ أنّ مكّة لم تكن غير معروفة فحسب كمدينة مزدهرة حتى نهاية القرن السابع الميلادي، بل أنّها لم يكن لها طريق تجاري للقوافل أصلاً.
5) أنّ قبّة الصخرة كانت المقام الأول.
6) أنّ محمداً لم يكن يعتبر كنبي عالمي حتى نهاية القرن السابع الميلادي.
7) أنّ لفظتي "مسلم/ إسلام" لم تستخدما حتى نهاية القرن السابع.
8) أنّ الصلوات اليومية الخمس بالإضافة إلى فريضة الحجّ لم يتمّ تشريعها إلا بعد عام 171م.
9) أنّ أبكر مرحلة سمعنا فيها عن القرآن تعود إلى منتصف القرن الثامن الميلادي.
10) وأنّ الكتابات القرآنية المبكّرة لا تتطابق مع النص القرآني الحالي.
جميع هذه البيانات تناقض وتتعارض مع القرآن الذي في متناولنا اليوم، وتعزّز الشكوك أنّ القرآن الحالي هو ليس نفس القرآن الذي يفترض أنّه دوّن وجمع ثمّ شرّع عام 650م تحت إشراف عثمان، كما يزعم المسلمون (هذا إذا كان موجوداً فعلاً في ذلك الوقت). ليس أمامنا سوى الافتراض أنّ مراحل تطورية كثيرة طرأت على النصّ القرآني. في النهاية، الشيء الوحيد الذي يمكننا قوله هنا وبشكل مؤكّد هو أنّ الوثائق والمخطوطات التي نمتلكها الآن (من عام 790م وما بعد) متطابقة ومتجانسة مع تلك التي بين أيدينا اليوم، تمّ تدوينها وكتابتها ليس بعد مضيّ 16 سنة على وفاة محمد، بل بعد 160 سنة على وفاته، وبهذا فإنّ تاريخها لا يعود إلى 1400 سنةّ كما هو متعارف عليه، بل إلى 1200 سنة.
كم هي مدهشة ومذهلة نتائج هذا التأكيد!!!!
هل يمكننا استخدام هذه المصادر غير الإسلامية؟
طوال الوقت كان المؤرّخون الإسلاميون المعاصرون يكافحون مع التراث والتاريخ الإسلامي، إذ وفّروا لها الآداب غير الإسلامية اليونانية، الأرمنية، العبرية، الآرامية، السريانية، والقبطية المجاورة، بعضها كان عرضةً للغزو العربي. إلى حدٍ معيّن تمّ تحرير هذه المصادر وترجمتها خلال نهاية القرن التاسع عشر (1800) وبداية القرن العشرين. ومع ذلك، لم تتمّ الاستفادة منها بشيء وتركت عرضةً لتراكم الغبار على رفوف المكتبات منذ ذلك الوقت. والسؤال الذي يجب أن نطرحه هو: لماذا؟
الجواب الذي يقدّمه المسلمون هو أنّ هذه المصادر كانت معادية، وهذا صحيح إلى حدٍ ما. بأي حال، وبالنظر إلى التوزيع الجغرافي والاجتماعي للمواقع التي نشأت فيها، فهي بالكاد يمكن أن تكون قد أثارت المشاعر المعادية للمسلمين بمثل هذه النتائج المماثلة. وهذا لأنّ هناك اتفاق بين شهود العيان المستقلين والمعاصرين للعالم غير الإسلامي أنّه يجب اتخاذ شهادتهم بعين الاعتبار. مهما كانت الطريقة التي نختار فيها فهمها، فهي لا تترك أي مجال للشك أنّ القرآن كان نتيجة سلسلة طويلة من عمليات التنقيح والتطوير، وعلى الأرجح تمّ تشريعه وإعلانه خلال بداية الفترة العباسية وحتى منتصف ونهاية القرن الثامن الميلادي، في العالم الذي يعرف اليوم بالعراق وإيران أو حولهما.
نتيجة
إذن، ماذا نقول فيما يتعلّق بالقرآن؟ هل هو كلام الله فعلاً؟
يجادل المسلمون أنّنا لن نفهم أصول ونشأة القرآن إلا من خلال عيون التراث والتقليد الإسلاميين، والتي تخبرنا أنّ الله قد كشف حقيقته من خلال القرآن الذي أنزل أو أوحي إلى محمد. بأي حال، هناك الكثير من الشكوك حول هذه المزاعم، إذ أنّ المصادر الأولية للتراث والتقاليد المتأخّرة ببساطة لم تكن موجودة قبل القرن الثامن الميلادي. في الواقع، المصادر الإسلامية التي نمتلكها تعود إلى تاريخ متأخّر نسبياً، تمّ جمعها وتصنيفها بعد مرور حوالي 200-300 عاماً على وقوع الحادثة، وتعتمد في الأصل على التراث الشفهي الذي تمّ تناقله من خلال الرواة الذين من الواضح أنّ قصصهم لا يمكن تأكيدها فقط، بل يبدو أنّها انفجرت وانتشرت عند نهاية القرن الثامن الميلادي بشكل مفاجئ.
وانسبرو يتخذ الموقف الذي يقول أنّ القرآن تمّ جمعه تدوينه أبكر من تلك المصادر، وكان يستخدم كطابع أصالة لتصديق المعتقدات والأفكار والتشريعات اللاحقة من قبل أولئك الذين شرّعوا وفرضوا الشريعة الإسلامية. إذا كان وانسبرو محقاً، عندها يمكننا أن نتساءل إذا ما كان محمد سيتعرّف حقاً على القرآن الذي بين أيدينا اليوم.
ومع ذلك، القرآن نفسه كان يعتبر كمصدر أساسي للإسلام، ومن أكثر المصادر أصالة. إلا أنّه هو أيضاً يعاني من نفس المشاكل التي ذكرناها سابقاً. فعندما نفتح القرآن وتقرأه فإنّنا نقف على الفور أمام صعوبات وإشكالات بنيوية وأدبية تعزّز الشكوك حول أنّ هذا الكتاب هو كلمة الله النهائية والمعصومة. كما أنّنا نقف أمام روايات وقصص توراتية منحولة تندرج ضمن قائمة كتابات القرن الثاني المسيحية والتلمودية الهرطوقية والمنحولة. وفي حين أننا نتساءل كيف أنّ هذه الوثائق والمستندات الأبوكريفية ذات الأصل البشري وجدت طريقها إلى النص الإلهي المعصوم والمقدّس، بالإضافة إلى الأخطاء العلمية والميثات التي وجدت طريقها إلى صفحاته، عندها نصطدم بجدار من الشكوك. يصبح من الواضح أنّ هذه الإشكالات تشير بعيدا عن الأصل أو المصدر الإلهي للقرآن وتشير نحو تفسير أكثر معقولية ومنطقية، أنّ القرآن ببساطة هو مجموعة من المصادر المختلفة والمتباينة والمتفرّقة الملطوشة من الآداب المحيطة، قصص وروايات محلية، فولكلور، وتقاليد شفهية كانت شائعة ومنتشرة خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين، وبالمصادفة جرى تطعيمها على يد جامعي ومصنّفي العصر العبّاسي الجهلة.
المصادر غير الإسلامية التي نمتلكها القادمة من المجتمعات المحيطة والمتنوّعة أيضاً تؤكّد ما أوردناه من أدلّة في الأعلى. فأغلب ما وجدناه ضمن هذه المصادر الخارجية العائدة إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين يتناقض ويتعارض تماماً مع ما يخبرنا به القرآن والمصادر التقليدية والتراثية، ممّا يدفعنا للشك بأصالة الأخيرة ومصداقيتها.
في النهاية ما زال هناك القليل لنقوله. من الواضح أنّ المصادر الإسلامية مشكوك فيها، في حين أنّ المصادر غير الإسلامية تشير إلى ندرة أو انعدام وجود أي دليل فعلي على صحّة القرآن. بل أنّ هناك بالفعل الكثير من المواد المقلقلة من المتعذّر على المسلمين تأكيدها. والأمر الآن بات منوطاً بكل مسلم حين يمسك قرآنه ويعلن أنّه كلام الله، ونسخة طبق الأصل عن اللوح المحفوظ، أن يسأل نفسه سؤالاً بسيطاً _نفس السؤال الذي يطرحه المؤرّخون الآن_ ((أين الدليل على صحّة اعتقادك بأنّ القرآن هو كلام الله؟..))
والعقل وليّ التوفيق...

الكتاب بصيغة PDF على الرابط التالي، ويحتوي إضافةً إلى ذلك ترجمة لأربعة فصول من كتاب كريستوف لوكسنبرغ: قراءة سيرو-آرامية للقرآن
http://www.4shared.com/office/Zvo_VSM7/__online.html
___________________________
الهوامش
[1] ويمكننا أن نقول: أنه تندرج في هذه الحالة قصّة النبي إلياس. إذ أنه ذكر ثلاث مرات في القرآن (({وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام:85] {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123]، {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات:130])) وهذا كل ما ورد عنه. فمن هو إلياس؟ وكيف لنا أن نعرف من هو إذا لم يذكر عنه القرآن أي شيء؟ ما علينا إلا أن نعود للأحاديث.
[2] أو بالأحرى هي سلاسل طويلة من العنعنة والأسماء
[3] وخير دليل على هذه الأطروحة التي تقول أنّ الكتابة كانت موجودة في عصر النبي حتى نجده في قصّة إسلام عمر ابن الخطّاب، عندما دخل على أخته فسمعها ترتل القرآن هي وزوجها، فقام فضربها، ولمّا أدمت قال: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. ثمّ أخذها منها وقرأ قسماً من سورة طه ثمّ دخل الإسلام.[سيرة بن هشام مجلد 2 صفحة 190] إذن: صحيفة... تقرؤون... وقرأ ابن الخطّاب الصحيفة ثم أسلم.
[4] يعود الفضل للبروفيسور هيو غوداكر من مجموعة مكتب الإستشراق والهند، الذي أشار إلى هذه الحقيقة من أجل مناقشة شاوث بانك
[5] من سورة البروج 43: الآيتان 3-4
[6] تفسير القرآن لابن كثير، أنظر تفسير الآيات
[7] المادة التلمودية مقتبسة عن فاينبرغ: Feinburg 1993:1162-1163
[8] أنظر كتاب يوحنا 1: 29.
[9] يقول ابن كثير في تفسيره للآية: ((إنّما شرّعنا لك يا محمد التوجّه أولاً إلى بيت المقدس، ثمّ صرفناك عنها إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك))
[10] يورد ابن كثير في تفسيره الحديث الآتي: ((قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس, ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً, وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله {قد نرى تقلب وجهك في السماء}))
[11] نسبةً إلى إسماعيل ابن إبراهيم.
[12] راجع النقاش حول تطوّر موقع مكّة ضمن كتاب كوك وكرونه: الهاجريون.
Crone & Cook s Hagarism 1977:23,173
[13] أبو حامد معين الدين زنكي بن ناصر خسرو، قبادياني [بالفارسية] (1004-1088) شاعر وفيلسوف إسماعيلي، بالإضافة إلى أنّه كان باحث ورحّالة ومن أعظم كتّاب الأدب الفارسي، ولد في مدينة قباديان شرق خراسان
[14] تنبيه: لتفادي حدوث الخلط بين الإمام مالك ابن أنس الذي، ولأّنّه ولد عام 712م، فسيكون عندئذٍ في السنة الثالثة من عمره.
[15] إشارة لكتاب العيون والحدائق. تحرير م. كويجي، وب. دي يونغ
Kitab al- uyun wa l-hada iq, edited by M. de Goeje and P. de Jong 1869:4
[16] إرجع إلى سورة البقرة 2: 144-150
[17] نيفو: وما يدعم هذا القول حقيقة وجود التحنّف في الجزيرة العربية قديماً، أو بقايا عقيدة إبراهيمية توحيدية قديمة قبل ظهور الإسلام حتى، ونلاحظ أنّ من أهمّ مبادئهم وتعاليمهم رفض تعدّد الآلهة والقول بالتوحيد، تقديم الأضاحي، الإنعزال، والإحسان للفقراء والمساكين. ويشير بعض الباحثين إلى أنّ جدّ محمد "عبد المطّلب" كان من الأحناف. راجع كتاب هاوتينغ: فكرة الوثنية وظهور الإسلام، ترجمة إبراهيم جركس.



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التاريخ النصي للقرآن (أرثر جيفري)
- الله: فيروس عقلي مميت [2]
- الله: فيروس عقلي مميت [1]
- قفشات -أمّ المؤمنين-: هنيئاً لكم
- الفكر الحر في العالم الإسلامي ونظرية صراع الحضارات
- قصة جين الحرية: أميل إيماني
- الدين السياسي: بديل عن الدين، أم أنه دين جديد؟
- من هم مؤلفو القرآن (4)
- من هم مؤلفو القرآن (3)
- من هم مؤلفو القرآن (2)
- من هم مؤلّفو القرآن (1)
- فيروس العقل: الفيروسات العقلية الدينية
- تصوّروا عالماً بلا أديان... ريتشارد دوكينز
- ما الله؟... Ali Sina
- الأسباب الجيدة والسيئة للإيمان... ريتشارد دوكينز
- ما الفائدة من الدين؟... ريتشارد دوكينز
- أكذوبة الإصلاح الإسلامي... Ali Sina
- جدال حول القرآن... حوار مع كريستوف لوكسنبرغ
- فلسفة الإلحاد... إيما غولدمان
- هل الإسلام دين أم طائفة؟


المزيد.....




- هجوم حاد على بايدن من منظمات يهودية أميركية
- “ضحك أطفالك” نزل تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد 2024 على ج ...
- قائد الثورة الإسلامية يدلى بصوته في الجولة الثانية للانتخابا ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تقصف 6 أهداف حيوية إسرائيلية بص ...
- -أهداف حيوية وموقع عسكري-..-المقاومة الإسلامية بالعراق- تنفذ ...
- “بابا تليفون.. قوله ما هو هون” مع قناة طيور الجنة الجديد 202 ...
- المقاومة الإسلامية بالعراق تستهدف قاعدة -عوبدا- الجوية الاسر ...
- “وفري الفرحة والتسلية لأطفالك مع طيور الجنة” تردد قناة طيور ...
- “أهلا أهلا بالعيد” كم يوم باقي على عيد الاضحى 2024 .. أهم ال ...
- المفكر الفرنسي أوليفييه روا: علمانية فرنسا سيئة وأوروبا لم ت ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إبراهيم جركس - القرآن المنحول [1]