أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - طلال أبو ركبة - في العلاقة بين الدين والتنمية: رؤية نظرية















المزيد.....



في العلاقة بين الدين والتنمية: رؤية نظرية


طلال أبو ركبة

الحوار المتمدن-العدد: 3616 - 2012 / 1 / 23 - 13:53
المحور: المجتمع المدني
    




يبدو واضحاً في السنوات الأخيرة مدى الاهتمام النظري الذي تحظى به مسألة الدين وفحص دوره وتأثيره في مختلف مناحي الحياة، تارةً بوصفه نظاماً للمعرفة يستمد منه الناس تفسيراتهم لواقعهم المادي، وتارة أخرى بوصفة المحدد الرئيس لسلوكهم تصرفاتهم وما يضفون عليها من تبريرات، وتارة ثالثة بوصفه مؤسسة شديدة التأثير والنفاذ في تضاعيف حياتهم الخاصة والعامة. يعود هذا الاهتمام إلى أسباب عدة، لعل أبرزها ما شهده العالم في العقد الأول من الألفية من تصاعد للأصوليات الدينية وتنامي تأثيرها والسبب الثاني، كما يرى البعض، يكمن في مآلات سيرورة "العلمنة" و"المادية" إلى عالم شديد الخواء، تتحكم فيه قوى الظلم والاستغلال، وتنتشر في ربوعه مظاهر الفقر والتفاوت، بالرغم من المنجزات التقنية والعلمية والمادية الهائلة التي حققتها البشرية. اعتقد رواد علم الاجتماع أن الدين سيحتل مرتبة هامشية في المجتمعات الحديثة، ورأوا أن سيرورة العلمنة ستمضي قدماً في الوقت الذي يصبح الناس فيه أكثر اعتماداً على العلم والتقانة في تفسير العالم الاجتماعي. غير أن التجربة الإنسانية، دللت على أن الدين لازال يمثل قوة مؤثرة في حياة المجتمع وإن كان ذلك بصورة جديدة غير مألوفة. فإذا كان استخدام وسائل العلم أتاح للناس أن يصبحوا أكثر موضوعية ومنهجية في سعيهم إلى حل المشاكل وفهم العمليات الاجتماعية، فإن الدين والميول الروحية للأفراد يوفر زخماً للتحفيز الذي يولد ويديم العمل الإيجابي. وبالتالي، إن أي تحول ذي مغزى للأوضاع المجتمعية لا يشترط اكتساب المهارات التقنية فحسب، وإنما، أيضاً، فهم القوى المعنوية التي يمكن أن تحدث تغييرات في المواقف والسلوك، وتوظيفها في إحداث التغيير المنشود. في ضوء ذلك، لم يعد من الممكن الحفاظ على الاعتقاد بأن النهج المتبع في التقدم الاجتماعي والاقتصادي، حيث التركيز على المفهوم المادي الحياة، هو القادر على قيادة البشرية إلى الهدوء والرخاء اللذين تسعى إلى تحقيقهما. إن الصعوبات التي خبرها العالم خلال ما يقرب من خمسة عقود من العمل التنموي تؤكد مدى الحاجة إلى مفاهيم جديدة في التنمية ونماذجها. وعلى الرغم من أن العاملين في مجال التنمية قد أصبحوا، تدريجياً، على بينة من العوامل الكامنة وراء العديد من التفاعلات الاجتماعية، والنهوض الاقتصادي، فإن تطوير خطاب التنمية المعاصر لا يزال تحكمه مجموعة محدودة من الافتراضات والمناهج. فمن الواضح أن مجموعة معقدة، ولكنها حيوية، من القضايا المتعلقة بالطبيعة البشرية وأهدافها تحتاج إلى أن تُدمج أو أن تؤخذ بعين الاعتبار في اتجاهات التفكير التنموي. إنها القضايا التي تدخل في صميم الهوية الإنسانية ومحفزاتها. أهملت المبادرات الاجتماعية والاقتصادية، في الغالب، قيم أصحاب المصلحة الحقيقية في العملية التنموية وتقاليدهم وتطلعاتهم، كما تجاهل جدول أعمال التنمية الدولية حقيقة أن الغالبية العظمى من شعوب العالم لا يعتبرون أنفسهم مجرد كائنات مادية تستجيب للضرورات والظروف المادية فحسب، وإنما ككائنات أخلاقية معنية بالجوانب الروحية التي تضفي على حياتهم المعنى والجدوى. لقد بات واضحاً أن المعايير الاقتصادية والمادية التي توجه الأنشطة التنموية يجب أن تتسع لتشمل تلك التطلعات الروحية التي تحرك الطبيعة البشرية. ولهذا، ربما فشلت إستراتيجيات التنمية ومنظوراتها المختلفة وبرامجها القائمة، حين فشلت في أن تأخذ بالحسبان هذه الأبعاد الهامة الروحية والاجتماعية للحياة بوصفها تشكل أساس الرفاه الإنساني.
للوهلة الأولى، قد يتخيل البعض أننا في الحالة العربية، والفلسطينية على وجه الخصوص، لا نشكو من غياب النزعة الروحية وتغلغل الدين في كافة مناحي حياتنا الخاصة والعامة، بل على العكس، نشكو من الجرعة الزائدة في هذا المضمار، من حيث تتعرض مجتمعاتنا إلى "أسلمة" شاملة وتحتل الحركات الإسلامية بأطيافها المختلفة الفضاء العام بينما تتراجع قوى العلمنة إلى الهامش وتضطر أنظمة الحكم إلى استحضار الخطاب الديني وتوظيفه للمحافظة على بقاءها في مواجهة تنامي قوى الإسلام السياسي المعارضة، من ناحية، ولتغطية عجزها وفشلها في تحقيق التنمية لشعوبها من ناحية ثانية. غير أننا في حاجة، بالرغم من ذلك، وربما بسبب ذلك، إلى إعادة موضعة الدين في سياق يكفل تجاوز حالة الاندحار والانهيار الشاملة وقطع الطريق على تلك القوى التي توظفه في خدمة أهدافها وأغراضها ملحقة به، وبمجتمعاتنا، أفدح الضرر وأوخم العواقب.
تعالج هذه الورقة الدعوات المتنامية لإدماج الدين في التنمية، باعتبار أن المنظورات التنموية كافة منيت بفشل ذريع في تحقيق غاياتها وأهدافها حيث يزداد الفقر وتتعمق الفجوة بين الشمال والجنوب وتشهد البيئة مزيداً من التدهور وتزداد حياة ملايين البشر صعوبة إلى درجة التعرض للموت والجوع. ولعل في العودة إلى الينابيع الروحية ما يجعل التنمية أكثر عدالة وإنصافاً، غير أن الحل الفعلي يكمن في مواجهة النظام الرأسمالي الذي يزداد وحشية وينطوي على وعود بعالم يبدو أكثر فأكثر شديد الخواء والوحشة. إن في إدماج الدين في التنمية أمر بالغ الأهمية، على الأقل من ناحية مراعاة الأبعاد الروحية للرفاه الإنساني، وفي إطلاق طاقات البشر الكامنة بإعادة الاعتبار لتصوراتهم ومعتقداتهم ومصادر معرفتهم في تفسير العالم وتأويله وإضفاء المعاني والقيم على ما يعتقدون في جدواه أو قدسيته أو نحو ذلك. غير أن السعي نحو عالم أفضل، أكثر إنسانية وأقل عسفاً، يتطلب بالضرورة أكثر من تصحيح مسارات التنمية بإدماج القيم والاعتبارات الدينية في عملياتها. كما تعالج الورقة، الطريقة التي استخدمت فيها قوى النظام الرأسمالي موضوعة التنمية كخطاب شبه ديني (طقوس، تصورات، كهنة،..) لضمان مزيد من سيطرتها وهيمنتها على العالم وشعوبه. ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن الدين قد يساعد على تفكيك خطاب التنمية السائد والحكم على ممارساتها ونتائجها بمعايير قيمية، بينما ليس بمقدور التنمية أن تساعد على فهم الدين وكيفية اشتغاله كمحفز للسلوك وكمرجعية معرفية وكمؤسسة نافذة. هناك من يرى أهمية الجمع بين مجالين من مجالات الاختصاص والمعرفة الأكاديمية: إنثربيولوجيا الدين وعلم اجتماع التنمية. تتضمن الورقة ثلاثة محاور، يقدم الأول معالجة نظرية ومفاهيمية لموضوع الدين، ويتوقف الثاني عند أسباب فشل المنظورات التنموية ومناهجها المعروفة حتى الآن، وأخيراً يستعرض المحور الثالث وجهات النظر الداعية إلى علاقة تكاملية بين الدين والتنمية وفحص إمكانية ذلك في موضوعات تنموية عدة: بلورة رؤية شاملة للتغيير، المعونات الإنمائية، المشاركة، تقدير الاحتياجات، أنماط الحكم وأنظمته، النشاط الاقتصادي وغير ذلك. الورقة، في جوهرها، محاولة أولية للإلمام بأبعاد هذه الأطروحة الجديدة، أكثر منها وجهة نظر خاصة بكاتبها، ولعلها تفتح آفاقاً أوسع لمزيد من القراءات والدراسات.


في مقاربة مفهوم الدين
يشير أنطوني جيدنز في كتابه "علم الاجتماع" إلى أن الدين يوجد في جميع المجتمعات المعروفة اليوم، رغم تعدد العقائد والممارسات الدينية وتنوعها بين ثقافة وأخرى. وتنطوي جميع الديانات على منظومة من الرموز التي تستوجب الاحترام والإجلال، وترتبط بسلسلة من الشعائر الطقوسية التي تشترك فيها جماعة المؤمنين. إلى ذلك، توجد خصائص غير مشتركة بين الديانات كافة. فأولاً يجب عدم المطابقة بين الدين والوحدانية، كما يجب تجنب الربط بين الدين من ناحية والتعليمات والتوجيهات الأخلاقية التي تحدد أنماط السلوك البشري من ناحية أخرى (فبعض الديانات لا تتضمن سلوكاً أخلاقياً محدداً).
رسم آباء ومؤسسو علم الاجتماع الحديث جانباً مهماً من الملامح والخصائص العامة للدين. اعتقد كارل ماركس بأن للدين بعداً أيديولوجياً يخدم مصالح الفئات الحاكمة، ويبرر سلوكها على حساب الآخرين، ويحف التاريخ بمئات من الشواهد الصارخة على ذلك. أما ماكس فيبر فقد اعتبر أن لبعض النماذج والتيارات الدينية آثاراً ثورية في النظر إلى النظم الاجتماعية القائمة "إذ كانت بعض العقائد الدينية بمنزلة المحرك الرئيس للعديد من الحركات الاجتماعية الرامية إلى الإطاحة بأنظمة الحكم الجائرة، كما حدث في حركات الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين". بدوره شدد دركهايم على أهمية القيم الدينية وما يرتبط بها من شعائر احتفالية في تعزيز التضامن والتماسك بين أفراد الجماعات البشرية. كما سلط دركهايم الضوء على أهمية الأفكار والتصورات النظرية في دور الممارسات الشعائرية في حشد مشاعر الناس في جوانب الحياة النفسية، الاجتماعية، الدينية والسياسية.
يختلف الباحثون فيما بينهم على تعريف الدين، فمنهم من يعتبره مؤسسات تقليدية ذات بنية تنظيمية وهيكلية مرتبطة بدور العبادة المألوفة (الدين بوصفه مؤسسة)، ومنهم من يأخذ أبعاداً أخرى بالاعتبار مثل: الإيمان الروحي الشخصي، والالتزام العميق بمنظومة قيم معينة. غير أن الأمر المؤكد، لدى جميع الباحثين، أن الدين يمثل في المجتمعات البشرية محوراً مركزياً في حياة الناس (وإن بتفاوت). وكثيراً ما تندمج الرموز الدينية والطقسية وتتغلغل في تضاعيف الحياة المادية والروحية والثقافية والفنية في المجتمعات التقليدية، وإلى حد أقل في المجتمعات الحديثة. يمكن النظر إلى الدين بوصفه "نظاماً للتماسك الاجتماعي، مجموعة من المعتقدات أو المواقف، أو منظومة فكرية خارقة، ومقدسة، تُعلي الحقيقة الإلهية، وتتضمن قواعد أخلاقية، وممارسات، وقيم ومؤسسات، وطقوس مرتبطة بمثل هذه المنظومة"
يرصد جيدنز مفارقة تتعلق بالعلمنة والدين في المجتمعات الحديثة. فبالرغم من انتشار العلمنة في المجتمعات الغربية، غير أن موقع الدين في هذه المجتمعات هو أكثر تعقيداً وتشعباً. فما زالت المعتقدات الدينية والروحية تؤثر تأثيراً بالغاً في حياة الكثير من الأفراد الجماعات، وتكون منظومة واسعة من الحوافز والدوافع التي تحدد مسارات السلوك الفردي والجماعي فيما بينهم. بينما تشهد المجتمعات غير الغربية غياب العلمنة، وبالمقابل تعاظم الأصولية الدينية، على مستوى مؤسسات الدولة أحياناً، و الحركات السياسية الدينية في أغلب الأحيان. فيما يتعلق بأغراض هذه الورقة، يمكن النظر إلى الدين بوصفه أيديولوجيا (نظام شامل من المفاهيم والمعتقدات يميز سلوك ومواقف وآراء جماعة من الناس) لكنها هنا أيديولوجيا لا ترتبط بالحقيقة أو تبحث عنها، بل إنها تصنع حقيقتها لوحدها، الأمر الذي يجعلها (الدين في هذه الحالة) قابلة لنوع من سوء الاستخدام أو التوظيف. وأحد التجليات الصارخة ما يطلق عليه ظاهرة نزعة التدين، حيث تتعزز الرغبة نحو تعريف الناس والمؤسسات والأفعال والقيم والأفكار على أساس ديني، ما يؤسس لبروز الأصوليات وتناميها. يستدرك المفكر الإسلامي فهمي هويدي هنا ليشدد على ضرورة الفصل بين التعصب والتطرف من ناحية وبين التدين من ناحية ثانية. وهو يرفض المزاعم القائلة بأن التدين هو البيئة الحاضنة للتطرف والتربية المنتجة له. ويعتقد هويدي أن "التدين الصحيح" يرسي أساس النهوض بالمجتمع، بينما يخاصم التدين المغلوط والمغشوش المجتمع ويعلن الحرب عليه. طبعاً لم يوضح هويدي كيف نميز بين "التدين الصحيح" و"التدين المغلوط"، كما لم يوضح أحد بعد الفرق بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف على سبيل المثال. من المفيد الإشارة إلى اعتراف هويدي بأن ثمة ممارسات تصدر عن أتباع الدين "خصوصاً إساءات المتعصبين أو حماقات الجاهلين أو أفعال المتطرفين والإرهابيين" يجب ألا تحظى بالدفاع عنها بل إدانتها، بالمقابل يرفض دعوات إقصاء الدين عن المجال العام بوصفه محدداً للهوية والقيمة. حظي الدين الإسلامي –خصوصاً ما بعد عام 2001- بقراءات متعددة تفاوتت بين زاعمين باعتباره سبباً ومبرراً لتصرفات الملتزمين به، وأنه سبب لكل الأفعال الخاطئة، بما في ذلك إعاقة التنمية في البلدان التي تدين به. وبالطبع، ثمة من يرى العكس مستنداً إلى نتائج مسوحات ميدانية أظهرت أن الدين الإسلامي لا يختلف عن بقية الأديان من حيث يشكل نظاماً متكاملاً من الأفكار والمعتقدات تساعد على فهم العالم الخارجي والتأثير فيه وأن المجتمعات الإسلامية تشهد تقدماً وتراجعاً لمكانة وتأثير الدين فيها بحسب السياق التاريخي والظروف المتغيرة. فقد وجد بعض الباحثين أنه لا يوجد أي سند عملي (على أساس تحليل اقتصادي وطني أو إقليمي أو عالمي) لادعاء أن الإسلام يمثل عائقا أمام النمو. الإسلام ، مثله مثل جميع الأديان، يشهد تغيرات على مر الزمن والأمكنة، وأن الإسلام يعمل على مستوى الإيمان أكثر مما يعمل على المستوى العملياتي (على سبيل المثال، الأداء الاقتصادي لا يتأثر بالاعتقاد بل بالانتماء، و"الجهاديون" لا يقتلون لأسباب دينية، وإنما لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية)
إلى هنا، يمكن تسجيل بعض الملاحظات المتعلقة بوظيفة الدين. ثمة إقرار متزايد بأن الحضارات اعتمدت على العلم والدين معاً كنظامين للمعرفة، واستعانت بهما في تنمية وتثبيت قواها الفكرية والأخلاقية. فوسائل العلم أتاحت للبشرية بناء فهم متماسك للقوانين والعمليات التي تحكم الواقع المادي، وإلى درجة معينة، عمل المجتمع نفسه. ووفرت رؤى الدين وتصوراته فهماً يتعلق بمسائل أعمق للمبادرات والغايات الإنسانية. ولذلك، تخرج في هذه الآونة دعوات للأخذ بكلا جانبي الحياة البشرية الروحي والعملي، لإعادة صياغة ما يشكل الرفاه الإنساني وبناء الآليات الممكنة لتحقيقه. وفي الواقع، فإن العمل هو ثمرة المعرفة، وبالتالي فإن الدين والعلم هي أدوات أو تعبيرات عن الإرادة البشرية. تاريخياً، مثّل التنوير نقطة تحول حاسمة في الإفراج عن وعي الإنسان من أغلال العقيدة الدينية، والتعصب، ولكن في رفضه للدين، فإن التنوير أزاح أيضاً المركز الأخلاقي الذي يمثله الدين، خالقاً بذلك فجوة عميقة لا تزال قائمة بين العقلاني والمقدس. ونتائج هذا التقسيم المصطنع بين العقل والإيمان يمكن أن تُرى في الشك والعزلة والمادية التي تسود الحياة المعاصرة. هناك من يعتقد اليوم من علماء الاجتماع ومفكري التنمية أن القول بالانقسام التاريخي بين العقل والإيمان هو قول زائف، وأن الدين والعلم كليات لا يمكن الفصل بينهما. إن كلاً منهما يكملان ويساعدان على اكتشاف وفهم الواقع، بما يمكن المجتمع من امتلاك الحقيقة.
مما لاشك فيه أن الأحداث التي يشهدها العالم على أكثر من صعيد تظهر ما لدى الديانات من تأثير قوي، بالمعنى السلبي والإيجابي، على السياسة والمجتمع وحتى الاقتصاد، وبالتالي تصبح المهمة ليست عزل الدين أو إقصاءه عن الفضاء العام، وإنما محاولة تعزيز الجوانب الإيجابية فيه وقطع الطريق على قوى التعصب والتطرف والاستفادة القصوى من الينابيع الروحية والإلهامات وحتى الممارسات الطقسية الجماعية فيما يعين البشر على مكافحة الظلم والفقر والاستبعاد، مثلما فعل اللاتينيون الأمريكيون في لاهوت التحرير حين التحمت قوى الكنيسة مع الجماعات الليبرالية واليسارية في محاربة قوى الإمبريالية وصنائعها من الديكتاتوريين، وحين أعلت من قيمة الإنسان وأنسنة المسيح.

في نقد المنظورات التنموية
تظهر التغيرات العميقة الجارية الآن في العالم مدى الحاجة إلى أنماط ونماذج مغايرة للحياة الإنسانية. فمن ناحية تطور مذهل في كل الميادين يطلق سراح الطاقات الإنسانية الكامنة، ومن ناحية أخرى أغلال نظام شديد الظلم والعسف تكبل هذه الطاقات وتقمعها. إن التقدم في المعرفة، وظهور آليات دولية تشجع على اتخاذ القرارات الجماعية والفعل المشترك، والقدرة المتنامية للجماهير في التعبير عن تطلعاتها واحتياجاتها، وقبل كل شيء الحاجة إلى حل التناقض المتفاقم بين التطور وقيوده النظامية، يتطلب بالضرورة، من بين أشياء أخرى، إعادة النظر في الأنماط السائدة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
إن شروط العدالة والإنصاف التي تعزز الرفاه الفردي والجماعي على حد سواء، لا تزال هدفاً بعيد المنال. فأنماط التبعية والفقر الراسخة تصاحبها خيبة أمل كبيرة من روح الحداثة.
جوهرياً، تُعنى عملية التنمية، في نهاية المطاف، بكل من تحول الأفراد والهياكل الاجتماعية. من هذا المنظور، يفهم التقدم المادي ليس بوصفه غاية في حد ذاته، وإنما كرافعة للتقدم الاجتماعي والثقافي والأخلاقي. إن الاعتراف بالعلاقة الوثقى بين الجوانب المادية والروحية للحياة يؤدي إلى نشوء مفهوم يختلف اختلافاً جوهرياً للتنمية.
تعود جذور حقل التنمية الحديثة إلى ظروف رافقت انهيار النظام الاستعماري القديم، وبروز دول الاستقلال ما بعد الحرب العالمية الثانية. في البداية تأثرت إستراتيجيات التنمية وبرامجها بالنموذج الأوروبي في إعادة الإعمار في إطار مشروع مارشال. يطرح هذا النموذج مسار التحديث، التصنيع خصوصاً، والهدف الأساسي الحصول على الحد الأقصى من النمو في اقتصادات البلدان النامية، والتي كان يعتقد، أن من شأن هذا النمو أن يولد ما يكفي من الثروة وفرص العمل تدريجياً لانخراط غالبية سكانها في النشاط الإنتاجي. تراكم رأس المال ونقل التكنولوجيا والدراية الفنية المرتبطة بها، والأخذ بالأساليب الحديثة للإدارة، ومبالغ كبيرة من المساعدات الخارجية كانت العناصر الرئيسية لهذا النهج بهدف جلب منافع الحداثة للجماهير في العالم الثالث.
أثبت نموذج التحديث في نواح كثيرة أنه وخيم العواقب (على سبيل المثال أسفرت عملية التصنيع عن هجرات كبيرة من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية وانهيار في التماسك الاجتماعي). تحول الاهتمام لدى خبراء التنمية وممارسيها نحو نهج جديد تمحور حول التكنولوجيا، والفرضية المؤسسة تقول أن الحصول على التكنولوجيا الحديثة سوف يجلب لشعوب العالم النامي الازدهار الاقتصادي (على سبيل المثال لم تحظَ الثورة الخضراء سوى بنجاح جزئي، فالإنتاج الغذائي ازداد بشكل ملحوظ جداً، وأنقذ الملايين من الموت جوعاً، غير أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء اتسعت في القرى والمدن على حد سواء). لم يسفر تحول التفكير التنموي وبرامج التنمية باتجاه تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية والتركيز على فكرة النمو مع المساواة، عن نتائج أفضل، وبقيت التنمية وأطروحاتها أحد أهم شواغل المجتمعات النامية. بحلول نهاية العقد الثالث من التنمية، فإن الآلاف من المشاريع المنفذة من جانب الحكومات والوكالات الدولية وعدد كبير من المنظمات غير الحكومية، قد جعل من الممكن إجراء تحليلات اجتماعية واقتصادية لمدى ما أحرزته التنمية ومدى جدوى منظوراتها المتعددة. جرت حوارات عميقة، وأجريت دراسات مستفيضة سلطت الضوء على موضوعات عديدة معقدة، بما في ذلك: التكنولوجيا المناسبة، دور المرأة في التنمية، تخطيط المشاريع وتنفيذها بما يعزز قدرة المجتمعات المحلية، الحفاظ على البيئة، تنظيم المجتمع، تقييم المشاريع. في النتيجة، مع الاعتراف بالأسباب المتنوعة الكامنة وراء الفقر، والإقرار بأن أعداد الفقراء تتزايد وتعم الفوضى الاجتماعية أرجاء الكون، بالرغم من كل الجهود التنموية المبذولة، برزت مدرستان تفسيريتان: ترى الأولى الحاجة إلى منهج متكامل وعضوي في التنمية، حيث أن التدابير الجزئية التي عالجت مشاكل محدودة فشلت، حتى مع زيادة التركيز على مشاركة المجتمعات المحلية وتمكين المرأة، واعتبار الإنسان محور العملية التنموية. غير أن المناهج المتبعة، مثلما يقول أتباع هذه المدرسة، ليس من المرجح أن تؤدي إلى تحسين حياة الشعوب بشكل منتظم بدون وجود رؤية موحدة للحياة والمجتمع. وأن مثل هذه الرؤية لا بد أن تعتمد على تضخيم الجذور الروحية العميقة في فهم حالة الإنسان، أي إعادة النظر في طبيعة الكائن البشري. ويرد أتباع المدرسة الثانية أسباب الفشل إلى طبيعة النظام الرأسمالي ذاته، من حيث أنه جعل من التنمية بمثابة خطاب شبه ديني لتعزيز هيمنته وليس لتحرير الشعوب وتنميتها. فقد اضطر سكان العالم الثالث للتعرف على ذواتهم عبر خبرات العالم المتطور وتحليلاته-كما هو منصوص عليه في نماذج التنمية الشائعة- فلم يحصلوا على ما يعينهم على اكتشاف مشاكلهم وسبل التغلب عليها، بل راحوا ضحية نماذج "خلاصية" تضمنت وعداً، ووصفة جاهزة تجعل هذا الوعد حقيقة، وفي الواقع حصلوا على كل ما يعزز هيمنة الشمال وعلى انعكاسات سياسية واقتصادية وثقافية أضرت بأنماط حياتهم وجعلتهم أكثر فقراً وأشد معاناة. وبالتالي، فالتنمية ليست أكثر من فكرة تبشيرية منقولة عن عصر سابق، وأن جهود القائمين عليها من خبراء الشمال مدفوعي الأجر، وزملائهم من نخب العالم الثالث، هي في الحقيقة محاولة لتوسيع نمط الإنتاج الرأسمالي، عبر الإمبريالية الثقافية التي تبدو أكثر ملائمة، لبسط هيمنة الشمال على الجنوب، من الإمبريالية المادية.
ولذلك، يبدو من الضروري في المقام الأول أن يجري تحليل المنظورات التنموية السائدة كخطاب ديني، أولاً بهدف فضحه وكشفه في انعكاساته الاقتصادية والسياسية السلبية، وثانياً في محاولة لبناء خطاب تنموي مغاير وأكثر فعالية وأكثر انتباهاً لصوت شعوب العالم الثالث، عبر استخدام الأفكار والرؤى العلمية من أجل فهم أفضل لتعبير التنمية، فضلاً عن الاستجابات المعقدة والمهملة غالباً للفئات الفقيرة والمهمشة، حيث تعبيراتها الرمزية والمشفرة تخبر، ربما أكثر من كل المسوحات والأبحاث الكمية، عن الكيفية التي يواجه الفقراء بها ظروفهم الحالية، وعن التغيير العاصف الذي يتعرضون له، وعن أي نوع من التغيير ينشدونه ويبحثون عنه.

الدين والتنمية: هل يمكن تحقيق منظور تكاملي؟
ولكن، كيف يبرر الداعون إلى تطوير منظور تكاملي لعلاقة الدين بالتنمية، دعواهم؟ فهل حقاً المنظورات التنموية المتبعة لم تأخذ بعين الحسبان الأبعاد الاجتماعية والروحية في تدخلاتها السابقة؟ وهل يعزى فشلها إلى عدم اتخاذ الدين مقاربة أساسية في تصميم مبادراتها ومساراتها العملية؟ أم أن الأمر، في نهاية المطاف، لا يعدو عن كونه تجديداً لخطاب التنمية بوصفها ديناً، بما يمكن الشمال من احتواء تنامي نزعات التدين وتحولها إلى قوة احتجاج سياسية فاعلة من شأنها تعطيل فرصه في ضمان هيمنته؟
يواجه أصحاب الدعوة للمنظور التكاملي نقداً من اتجاهين: الاتجاه الأول يرى أن الدين قوة محافظة، تدفع نحو التعصب والعنف. فعلى سبيل المثال، يرى بعض الخبراء الغربيين أن ثمة أسباب تحول دون التعامل مع الدين الإسلامي كمرجعية للتنمية وأساس للعلاقة بين المانحين وبين متلقي الدعم من المجتمعات الإسلامية: (1) تعدد التأويلات من ناحية، واستخدام الخطاب الإسلامي مفاهيم مختلفة من ناحية ثانية يقود حتماً نحو سوء الفهم (2) هيمنة نموذج (نحن/هم) على نظرة الكثير من المسلمين تجاه الغرب، وخصوصاً في ظل الوضع السياسي الحرج بينهما. يُنظر للإسلام اليوم، في الكثير من البلدان، كمحدد للهوية، التي تتخذ موقفاً دفاعياً ضد الغرب، واعتباره- أي الغرب- قوة إمبريالية في كل النواحي، ثقافياً، سياسياً، اقتصادياً، عسكرياً وخصوصاً أخلاقياً. إلى ذلك، يعتقد البعض أن من شأن المنظور التكاملي أن يعلي المعايير الدينية على المعايير الفنية الموضوعية، وبالتالي الاستغناء بالطقوس الدينية الشكلية عن المقومات الحقيقية للنهوض والتقدم. الاتجاه الثاني، مثلما أسلفنا، يرى أن هذه الإضافة ليست أكثر من محاولة لاحتواء النزعات الدينية الراديكالية أكثر منها معالجة لأوجه القصور الفعلية في التدخلات التنموية السابقة. ولعل في شعار "نتحدث إليهم، ولكن لا نتحدث حديثهم" ما يشي بذلك ويفضح النوايا الحقيقية لمثل هذا التوجه. فالكثير من المجتمعات الإسلامية باتت تخشى تلقي المعونات الخارجية بعد أحداث سبتمبر 2001، نظراً لشعورها أن هذه المعونات ليست لتلبية احتياجاتها الفعلية وإنما رشوة لمحاولة تغيير أنماط حياتها (دعوات الإصلاح وبرامج تعزيز الديمقراطية،...)
حسناً، ومع ذلك، فالمنظور التكاملي المقترح يستحق منا الاهتمام. فأصحابه والداعين إليه يلقون بحجر في بركة التنمية الراكدة، ويدفعون بأسئلة جوهرية تتطلب تقديم إجابات، هذا علاوة على بديهة تكامل الجانب الروحي والمادي في حياة الإنسان، وبديهة أخرى تتعلق بالأثر النافذ للدين وفقاً للتجربة الإنسانية ذاتها. فثمة حاجة دوماً لاستنفار الينابيع الروحية للدوافع الإنسانية، جنباً إلى جنب مع استخدام الوسائل العلمية. ومن المحتمل جداً، حين تندمج المبادئ الروحية تماماً في أنشطة التنمية المجتمعية (الأفكار والرؤى، والتدابير العملية) أن يتعزز الاعتماد على الذات، وأن يُقضى على ظروف التفاوت الاقتصادي، وأن يجري تطوير الحياة الداخلية للبشر فضلاً عن تنظيم المجتمع. يرى د. عبد المعطي عساف أهمية البناء المعنوي (مجموعة القيم والأفكار والتصورات) في مجال الحركة الإنمائية، وخاصة فيما يتعلق بإنماء الطاقة البشرية، وذلك باعتبار المقومات القيمية بمثابة ديناميات تتحكم في سلوك الأفراد والجماعات، وتوجهه تبعاً لمقتضاياتها، وبمثابة معيار ثقافي يمكّن من عقد المقارنات بين الاختيارات المختلفة، ما يجعل بعض الأشياء أو الإجراءات والمواقف تحظى بالقبول والموافقة والدعم، بينما يحظى البعض الآخر بمواقف معاكسة ورافضة وربما مناهضة. وأخيراً، اعتبارها بمثابة العامل الأساسي الذي يعبر عن مدى وحدة وتماسك الثقافة العامة، ومن ثم وحدة وتماسك المجتمع. إلى ذلك ينظر البعض لدور الدين بوصفه مكملاً للتنمية، أولاً من حيث يدفع الناس للسلوك واتخاذ إجراءات في اتجاه مزيد من الإنتاجية، وثانياً من حيث تعزز المعتقدات والممارسات الدينية الاعتدال والتسامح، وترسخ التعايش السلمي، الذي يعد شرطاً أساسياً لتحقيق النمو والازدهار في عالم اليوم المترابط جداً.
ومن منظور "رأس المال الاجتماعي" بوصفه التماسك الداخلي الاجتماعي والثقافي للمجتمع، المعايير والقيم التي تحكم التفاعلات بين الناس، والمؤسسات التي ينخرطون فيها. يؤمن الكثيرون بالمردود الاقتصادي له من حيث أنه تفاعل اجتماعي يولد العوامل الخارجية الايجابية ويسهل العمل الجماعي من أجل المنفعة المتبادلة خارج السوق. يشدد أصحاب هذا الرأي على أن رأس المال الاجتماعي يقلل من تكاليف الصفقات والمعلومات ويجعل من رأس المال المادي ورأس المال البشري أكثر إنتاجية. يُصّنف الدين على أنه رأس مال اجتماعي مدني، الأمر الذي يسهم في بناء الشبكات الاجتماعية بين السكان.
في الواقع، أشارت معظم الدراسات التجريبية إلى وجود علاقة إيجابية بين الدين والنمو الاقتصادي والتنمية. ومع ذلك، لا يوجد توافق في الآراء بشأن وجود علاقة سببية دقيقة (في اتجاه واحد أو في كلا الاتجاهين). وبالتالي، ثمة ضرورة لإجراء مزيد من البحوث واسعة النطاق مع مجموعات البيانات التي تغطي مجموعة واسعة من البلدان التي يتعين الاضطلاع بها قبل استخلاص نتيجة قاطعة بشأن هذه المسألة. ومع ذلك، ربما يمكننا أن نستنتج أن العلاقة بين الدين والتنمية من المرجح أن تكون مكملة طالما المعتقدات والممارسات الدينية تعزز الاعتدال بدلاً من التطرف، بالرغم من أن أي نظام معقد من الأفكار والمعتقدات يمكن أن يستغل في خدمة أهداف خاصة أو سياسية أو اجتماعية.
التنمية بوصفها عملية بناء قدرات
لم يأل الفكر التنموي يوماً جهداً في مواجهة القضايا ذات الصلة بالقيم والمعتقدات. غير أن الأمر يأخذ هذه الآونة طابعاً جدياً أكثر منذ أن أقر الجميع بمحورية دور الإنسان في العملية التنموية، ومنذ أن بات الأفراد والمجتمعات المحلية فاعلين رئيسيين في تعزيز رفاهتهم الاجتماعية والمادية. ولأن الأمر كذلك بشكل من الأشكال، إذا ما أخذ بالحسبان الدور المركزي والمقرر الذي تلعبه وكالات المعونة الإنمائية، فإن الاستفادة من المعتقدات الروحية والنظم العقائدية لبلورة رؤية للتغيير المنشود تشكل حجر الزاوية في كل الممارسات التنموية. وغني عن البيان، أن هذه الرؤية لا تتأتى من داخل العملية التنموية ذاتها، وإنما من استمرار الموروث الروحي، من تطلعات البشر المعنوية والمادية على حد سواء. واشتقاق الرؤية وبلورتها يتطلب بالضرورة تطوير قدرات الناس وتحسينها بما يمكنهم من تحديد احتياجاتهم وتحليلها وتلبيتها. التنمية في أحد تعريفاتها الحديثة ليست أكثر من عملية بناء قدرات مستمرة تتضمن إلى جانب بناء الشخصية التغيير المؤسسي والتطوير المجتمعي. إذن، التنمية تعنى في المقام الأول بإبداع المعرفة وتطبيقها ونشرها والاستفادة من منجزاتها. من هنا، بمقدور الأساليب العلمية الصارمة والموضوعية والرؤى الدينية الخلاقة أن توفرا معاً الأدوات الأساسية لإقامة نظم اجتماعية أكثر انسجاماً وأفضل إنصافاً، عبر توليد نهج تنموي موحد للتعامل مع التغيير الاجتماعي على مستوى القواعد الشعبية.
إن عملية بناء القدرات على هذا النحو تنطوي على ثلاثة أبعاد: (1) تمكين قوى الفرد المتأصلة بصورة خلاقة ومنهجية، (2) تشكيل المؤسسات لممارسة السلطة وتوزيعها، (3) تنمية المجتمع بحيث يصبح بيئة مواتية لإطلاق الإمكانات الفردية وإثراء الثقافة. والتحدي الذي يواجه هذه الأبعاد يكمن في تعلم كيفية استخدام الموارد المادية والمواهب الفكرية الروحية لتحقيق التقدم والازدهار الإنسانيين. ولنأخذ بعض المجالات حيث يمكن، ويجب البدء في بناء القدرات وفقاً لمنهج تكاملي: شكّل التعليم السمة البارزة لإستراتيجية التنمية على مدى العقود الماضية. في البداية، ركزت الجهود على البنية التحتية المادية وتطوير المناهج الدراسية، والإدارة، والتدريب التربوي والتقنيات التربوية، والعلاقة بين المدارس والمجتمعات المحيطة، غير أن الأساليب التعليمية، بصفة رئيسية، قصرت عن إطلاق الإمكانات البشرية وصقلها ورعايتها. ولذلك، يجب أن يكون هدف التعليم تطوير مجموعة متكاملة من القدرات: الفنية والاجتماعية والأخلاقية والروحية، بحيث يمكن للأفراد أن يعيشوا حياة ذات معنى، وتصبح قدراتهم عوامل للتغيير الاجتماعي الإيجابي. وفيما يتعلق بالنشاط الاقتصادي، فثمة من يرى أن الخلل الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي على نطاق واسع في العالم بمثابة نتيجة مباشرة لعدم وضع المسائل الاقتصادية في السياق الأوسع للوجود البشري الاجتماعي والروحي. فالترتيبات الاقتصادية ينبغي أن تخدم احتياجات الناس؛ كما لا يجوز تشكيل المجتمعات لتناسب نماذج اقتصادية محددة، أي تلك التي تعزز النزعات الاستهلاكية. ففي نهاية المطاف، لا بد للمجتمع من تطوير نماذج اقتصادية جديدة تنبع وتتشكل من الرؤى المتولدة عن تجربته المشتركة، ومن رؤية أعضاءه في علاقاتهم بعضهم ببعض، ومن الإقرار بالدور المحوري الذي تؤديه الأسرة والمجتمع في المجالات الاجتماعية والروحية. كما يجب توجيه الموارد بعيداً عن تلك الأنشطة والبرامج التي تضر الأفراد والمجتمعات والبيئة، وتوجيهها نحو خلق أنظمة اجتماعية قوية تنمي طاقات البشر اللامحدودة. وفي مضمار الحكم، يمكن القول أن الحكم الفعال ضروري لحفاظ الجماعة على توازنها، توجيه ذاتها عبر الصعوبات ومواجهة التحديات. باتت السمات الأساسية للحكم الصالح معروفة: الديمقراطية، سيادة القانون، الشفافية، المساءلة، مشاركة المجتمع المدني. ولكن، في الحقيقة المؤسسات الحكومية تكون صالحة عندما تخلو من مظاهر الفساد، وحين تحظى بثقة الجمهور، وهو ما لا يحدث بدون أن تكون عمليات اتخاذ القرار الجماعي والفعل الجماعي موجهة بالمبادئ الأخلاقية والروحية. إن تطوير ميكانيزمات الحكم لتلبية هذه المعايير يقتضي تدريباً أخلاقياً وعملياً. وبخصوص العدالة، بوصفها أسمى متطلبات التنمية، ينظر إليها ليس كمثال مجرد، وإنما قدرة كامنة يمكن إطلاقها وتنميتها. يعتمد تحقيق العدالة على المشاركة والفعل الجماعيين من قبل كل الفاعلين وأعضاء المجتمع. إن خلق ثقافة العدالة، وبصورة أدق، حقوق الإنسان، شرط أساسي في التنمية الروحية والأخلاقية. وبمجرد أن هذه الثقافة تأخذ في النشوء، فإنه يمكن العمل حينئذ على القضايا العملية من قبيل التدريب على المسائل الإدارية والتوزيع العادل للموارد، ونهوض الأفراد والمجموعات المحرومة تاريخياً من الفرص والمنافع والخدمات.

المراجع العربية:
(1) جيدنز، أنتوني، 2005. علم الاجتماع، ترجمة فايز الصباغ، ط4 بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية
(2) عساف، عبد المعطي محمد، 1988. إدارة التنمية: دراسة تحليلية مقارنة. الكويت: مطابع القبس التجارية.
(3) الحروب، خالد، 2010، جدل الدين والمجتمع في البلدان العربية، صفحة العربية، 18 فبراير ، على الرابط: http://www.alarabiya.net/views/2008/10/29/59101.html
(4) الكندي، عبد الله، 2009، الايدولوجيا: المصطلح الشائك بين حقيقة الاصطلاح وتعسف الاستخدام، مجلة نزوى الإلكترونية، على الرابط:
http://www.nizwa.com/articles.php?id=777
(5) هويدي، فهمي، 2010، مكافحة للتعصب أم نبذ للتدين؟ الجزيرة نت، المعرفة-وجهات نظر، على الرابط:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/1CD69849-02DE-4769-AA8E-039498C7E24B.htm
المراجع الإنجليزية:
(1) Religion and Development: Are they Complementary? Habibullah Khan, Omar K. M. R. Bashar, working paper, Okt.2008, at: http://www.u21global.com/PartnerAdmin/ViewContent?module=DOCUMENTLIBRARY&oid=157451




(2) RELIGION AND DEVELOPMENT: reflexions on the work by Philip Quarles van Ufford and Matthew Schoffeleers, by Wim van Binsbergen. at: http://www.shikanda.net/african_religion/reldev.htm

(3) Science, Religion and Development: Some Initial Considerations
Prepared by the Institute for Studies in Global Prosperity. At: http://www.globalprosperity.org/initial_considerations.html

ِ



#طلال_أبو_ركبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بانوراما المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وجذور الأزمة


المزيد.....




- الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة الغربية
- الرئيس الايراني: ادعياء حقوق الانسان يقمعون المدافعين عن مظل ...
- -التعاون الإسلامي- تدعو جميع الدول لدعم تقرير بشأن -الأونروا ...
- نادي الأسير الفلسطيني: عمليات الإفراج محدودة مقابل استمرار ح ...
- 8 شهداء بقصف فلسطينيين غرب غزة، واعتقال معلمة بمخيم الجلزون ...
- مسؤول في برنامج الأغذية: شمال غزة يتجه نحو المجاعة
- بعد حملة اعتقالات.. مظاهرات جامعة تكساس المؤيدة لفلسطين تستم ...
- طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة
- تعرف على أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023
- مدون فرنسي: الغرب يسعى للحصول على رخصة لـ-تصدير المهاجرين-


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - طلال أبو ركبة - في العلاقة بين الدين والتنمية: رؤية نظرية