أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - لؤي خزعل جبر - الجَدَل المَذهَبي : قضيّة علميّة أم قضيّة نفسيّة اجتماعيّة ؟















المزيد.....

الجَدَل المَذهَبي : قضيّة علميّة أم قضيّة نفسيّة اجتماعيّة ؟


لؤي خزعل جبر

الحوار المتمدن-العدد: 3610 - 2012 / 1 / 17 - 19:59
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تصاعدت في الآونة الأخيرة بشكل طوفاني وملفت للنظر ظاهرة " الجَدَل المذهبي " ، التي امتدتّ على طول التاريخ الإسلامي ، لكنها وجدت في الفضاء الإعلامي المفتوح مساحة جديدة لخوض الصراع بطرق جديدة ، فولدت قنوات فضائيّة مذهبيّة ، ومواقع مذهبيّة على الشبكة العالميّة ، عملت على طرح كل بؤر التوتر المذهبي عبر محاضرات ومقالات وكتب وجلسات نقاشيّة وأفلام ومسلسلات ومنتديات ، فاستطاعت بذلك أن تستقطب الآلاف إلى دائرة الصراع المحتدم المتمركز حول " المذهب " .
و" الجَدَل المذهبي " يشكّل ظاهرة خطيرة وحسّاسة ، لما له من انعكاسات مهمّة على مجالات متعددة من حياة الأفراد والجماعات في السياق الإسلامي ، بل وحتى غير الإسلامي ، إذ يمسّ قلب البنية العقائديّة للفرد المسلم والجماعة المسلمة ، فيؤثر على مدى استقرار الفرد الانفعالي واتزانه المعرفي وسلوكه الاجتماعي ، ويمتد إلى الجماعة ليصوغ معايير وقيم واتجاهات تحكم آليات التعامل بين أعضائها ، وبينهم وبين أعضاء الجماعات الأخرى ، المسلمة وغير المسلمة . ويكفي للتحقق من ذلك تأمّل بسيط وسريع في التاريخ الإسلامي ، منذ بداياته وحتى الآن ، لمشاهدة الحروب والسجون والتعذيب والتنكيل والإذلال والإعدامات والاغتيالات والمؤامرات والمِحن والانقلابات والاحتلالات والمجازر والإقصاء الاجتماعي والسحق الاقتصادي والسياسي الذي تمّ على خلفيّة مذهبيّة .
والغريب أن هذه الظاهرة ، رغم ضخامتها ووضوحها واستمراريتها ، لم تخضع لبحث تحليلي جادٍّ يعمل على استكشاف الجذور العميقة لنشوئها وديمومتها ، لتتمكّن المجتمعات بالتالي من تجنّب نواتجها المأساويّة ، فما لم تعرف الأسباب الحقيقيّة لمشكلةٍ ما ، لا يمكن التصدّي لمعالجتها . ولذلك وجد الكاتب ضرورة ملحّة للقيام بمحاولة طرح وجهة نظر تحليليّة علميّة أوليّة بخصوص أسباب هذه الظاهرة المتناميّة ، علّها تتمكن من إثارة النقاش العلمي وجذب الأنظار إلى مساحات مخفيّة من الصراع ، والتي بلا شك ستثير غضب كلّ أطراف النزاع ، لأن بحثاً كهذا لا يمكن أن يقوم به باحث مندمج بالجَدَل ، يتبنّى منظور أحد أطراف النزاع، وإنما يستدعي أن يقف الباحث فوق الجَدَل لينظر من الخارج إلى طبيعته ومساراته ، وبذلك سيتوصّل بلا شك إلى آراء تختلف مع كلّ الأطراف ، وليس من السهل قبولها في ظل التشبّع الحضاري بالمذهبيّة والانغماس المتواصل بالصراع .

أساس الجَدَل المذهبي
يمكن طرح فرضيتين تفسيريّتين لأساس الخِلاف والجَدَل المذهبي ، الأولى هي الفرضيّة الرسميّة المطروحة والمعتمدة بشكل ضمني لاشعوري عبر التاريخ من جميع الأطراف ، والثانية هي فرضيّة الباحث .

الفرضيّة (1) : الخِلاف المذهبي قضيّة علميّة " صراع حول الحقيقة "
تنصّ هذه الفرضيّة على أن " هناك حقيقة يمتلكها الطرف (أ) ، ولا يمتلكها الأطراف (ب) و(ج) و(د) نتيجة نقص أو تشوّه في المعلومات ، فيأتي الجَدَل ليقدّم معلومات تامّة وغير مشوّهة ، تبيّن لأتباع (أ) قوّة ورصانة مذهبهم عبر امتلاكه الحقيقة وبطلان (ب) و(ج) و(د) ، مما يعزز ويديم انتمائهم لمذهبهم ويحصّنهم ضد الشبهات التي يثيرها (ب) و(ج) و(د) ، ويمدّهم بالسلاح المناسب لمحاربة (ب) و(ج) و(د) ، كما تبيّن لأتباع (ب) و(ج) و(د) ضعف وتهافت مذاهبهم عبر افتقارها للحقيقة ، وصحّة (أ) ، مما يجعلهم إما يتحولون إلى (أ) ويصبحون من أتباعه ، أو – لا أقل – يمتنعون عن نقده " .
فالمدار هو (الحقيقة) التي يدّعي كل طرف امتلاكها ، ويحاول إيصالها إلى أتباعه لضمان استمراريّة ولائهم له ، وإلى أتباع الطرف أو الأطراف الأخرى لضمان تحوّلهم إلى جانبه أو كفّهم عن نقده . وإذا كانت الفرضيّة صحيحة " نقص أو تشوّه المعلومات هو السبب الحقيقي للخِلاف المذهبي " ، فإن تزويد الأفراد بالمعلومات الكاملة وغير المشوّهة هو العلاج الحقيقي الكفيل بالقضاء على مشكلة الخِلاف ، ولكن إذا كانت الفرضيّة غير صحيحة " نقص أو تشوّه المعلومات ليس هو السبب الحقيقي للخِلاف المذهبي" ، فإن تزويد الأفراد بالمعلومات الكاملة وغير المشوّهة ليس هو العلاج الحقيقي الكفيل بالقضاء على مشكلة الخِلاف، بل سيكون سبب في تعقيد وتضخيم المشكلة وخلق مشكلات إضافيّة .
والباحث يعتقد بعدم صحّة هذه الفرضيّة في تشخيص السبب الحقيقي للمشكلة المذهبيّة ، وبالتالي بعدم جدوى الطريقة التي تقترحها لحل المشكلة ، والدليل الواضح على ذلك (التاريخ) ، إذ امتدّ الصراع على مدى 1400 سنة تقريباً ، ألّفت خلالها ملايين الكتب والدراسات ، وأجريت ملايين المناقشات والمناظرات ، وألقيت ملايين المحاضرات ، وبُحِثت خلالها كلّ تفاصيل الخِلاف بطرق مستفيضة ، وقدّم كل طرف ملايين الأدلة التي تثبت صحّة مذهبه وبطلان المذاهب الأخرى ، وناقش ونقد كلّ الأدلة التي قدمتها المذاهب الأخرى لإثبات صحتها وبطلان مذهبه ، فماذا حدث ؟ هل تقدّم المسلمون خطوة واحدة نحو التوحّد تحت أحد هذه المذاهب أو أسسوا مذهباً جديداً يقوم على الحقائق المشتركة ؟ أم بقي كل واحد في خندقه يزيده تعميقاً وتحصيناً ، ويجمّع الأسلحة القديمة ويبتكر الجديدة ليدكّ الخنادق الأخرى ؟ وما نسبة الأفراد الذين انتقلوا من خندق إلى آخر مقارنة بالعدد الكلّي للمسلمين خلال القرون الأربعة عشر ؟ ، فلو كانت القضيّة قضيّة علميّة وبحث عن الحقيقة ونقص أو تشوّه في المعلومات لجلس الأطراف ونقّبوا بهدوء عن الحقيقة الضائعة ، وانتهوا إلى نتيجة محددة أزالت الخِلاف ، ولكان كتاب أو كتابين كافيين لجمعهم تحت بناء عقائدي موحّد ، ولوجدنا أعداداً هائلة ممن ولدوا في بيئات مذهب معيّن ينتقلون إلى مذهب آخر ، أو – لا أقل – لتفهّم كل طرف واحترم وجهة نظر الأطراف الأخرى رغم عدم اتفاقه معها ، ولكن القضيّة لم تكن كذلك ، ولذلك نجد أن المشكلة لا زالت قائمة ومستمرة في وتيرة عدائيّة متصاعدة ، وآخذة في التعقّد ، ومولّدة لمشكلات إضافيّة لا عدّ لها ولا حصر ، وبتعبير آخر ، لم تتقدّم خطوة واحدة نحو الحل ، بل تراجعت خطوات ، مهددة الجسد الإسلامي بالموت ، إن لم تكن أماتته بالفعل !! .
ولزيادة توضيح هذه الفكرة نطرح المثال المحسوس التبسيطي الآتي : شخص مريض يعاني من آلام مبرّحة في البطن (مشكلة) كانت في الحقيقة ناتجة عن (خلل في الكليتين) ، فيذهب إلى طبيب لتشخيص (سبب) مشكلته ، وإعطائه الدواء المناسب للتخلّص من المشكلة (معالجة) . لكنّ الطبيب يشخّص سبب المشكلة على أنها (خلل في المعدة) ، فيعطيه دواء لمعالجة خلل المعدة . فهل سيتخلّص من آلامه المبرّحة في البطن (المشكلة) عند تناول الدواء (العلاج) الذي وصفه له ذلك الطبيب لمعالجة المعدة (السبب غير الحقيقي) ؟ ، بالتأكيد (لا) ، بل ستتزايد الآلام لأن الخلل في الكليتين (السبب الحقيقي) سيتعاظم ، لأنه لم يعالج ، كما قد تتضرر المعدة نتيجة تناول دواء لخللها في حين هي سليمة ، فتولد آلام إضافيّة (مشكلة إضافيّة) . والسؤال المُلِحّ هنا هو أن الشخص عندما يجد بعد مدّة أن دواء المعدة الذي يتناوله لم يسهم في تخفيف آلامه (معالجة مشكلته) ، بل زادها وأفرز آلاماً أخرى (مشاكل إضافيّة) : هل عليه أن يستمر في تناول ذلك الدواء حتى الموت !! ، أم أن عليه أن يبدأ بالتشكيك في فاعليّة الدواء أو التشخيص والبحث عن تشخيص ودواء آخرَين ؟ .

الفرضيّة (2) الخِلاف المذهبي قضيّة نفسيّة اجتماعيّة " صراع حول الذات "
تنصّ هذه الفرضيّة على أن " هناك دافع أساس يهيمن – بفعل الثقافة الاجتماعيّة – على غالبيّة المنتمين إلى الأطراف (أ) و(ب) و(ج) و(د) ، هو دافع تفادي التهديد ، الذي يتجلّى على شكل أنساق اعتقاديّة مغلقة ، يجعل كل طرف ينطلق من افتراض انفعالي – لا عقلاني – مُسبَقٍ قاطعٍ بكونه الناطق الرسمي باسم الحقيقة المغيّبة ، وبكون كل الأطراف الأخرى لا تمتلك شيئاً من تلك الحقيقة ، بل تعمل – بقصد في الغالب – على تضليل أتباعه وأتباعها ، وتسعى – بقصد في الغالب – إلى التقليل من قيمته وضرب وجوده ومصالحه ، فيدخل الجَدَل لتأكيد افتراضه المسبق فقط ، لمواجهة التهديد المتوقّع الموجّه إلى صورة ذاته الايجابيّة ومكانته الاجتماعيّة " .
فالمدار هو (الذات) المعرّضة للتهديد من ثبوت بطلان معتقداتها وصحّة معتقدات الطرف المقابل . فالبحث هنا ليس عن (الحقيقة) ، بل عن كلّ ما يدعم الذات والحقيقة المفترضة بشكل مسبق ، فالانطلاق لا يكون من الأدلّة إلى الحقيقة الواقعيّة ، بل من الحقيقة المفترضة إلى الأدلّة ، أو – بتعبير آخر – أن الفرد لا يقوم بتحليل المعلومات بطريقة موضوعيّة وينتهي إلى ترجيح رأي من الآراء ، بل يرجّح رأياً بشكل مسبق – بفعل الضغوط الثقافيّة والاجتماعيّة – وينطلق للبحث عمّا يدعم ذلك الرأي ، فيجمّع الأدلّة الداعمة ويعطيها وزناً كبيراً ، ويغفل أو يرفض الأدلة المضادة ويعطيها وزناً قليلاً ، أو يعيد تأويلها لتتسق مع الرأي الذي يتبناه ، مسوق في كلّ ذلك بمعايير ذاتيّة وليس موضوعيّة . وإذا كانت الفرضيّة صحيحة " الأنساق المغلقة هي السبب الحقيقي للخِلاف المذهبي " ، فإن التخلّص من الأنساق المغلقة هو العلاج الحقيقي الكفيل بالقضاء على مشكلة الخِلاف . وليس تزويد الأفراد بالمعلومات الكاملة وغير المشوّهة ، لأن الأنساق المغلقة لا تتأثر بكميّة ونوعيّة المعلومات ، بل إن زيادة كميّة المعلومات وتحسين نوعيتها سيوسّع مدى التهديد ويعمّق ويديم الخِلاف .
ولكون هذه الفرضيّة تقوم على مفاهيم تخصصيّة دقيقة ، يرى الباحث ضرورة تقديم توضيح عام ومجمل – بمقدار الممكن – لتلك المفاهيم ، ليتسنى للقارئ غير المتخصص فهم واستيعاب مضمونها النظري والتحليلي ، وتحديداً مفهوم أنساق المعتقدات ، الذي يشكّل استيعابه مهمّة صعبة على الذهنيّة العامّة غير التخصصيّة ، وهو ما لمسه الباحث بالتجربة ، ويحيل المهتمين بالاطلاع على تفاصيل أكثر وأعمق إلى كتاب The Open and Closed Mind : Investigations into The Nature of Belief Systems and Personality Systems ، لعالِم النفس الاجتماعي Milton Rokeach ، الصادر عن دار Basic Books ، في New York ، عام 1960 .

أنساق المعتقدات : المفتوحة / المغلقة
لا تتواجد المعتقداتBeliefs في العقل البشري بشكل مبعثر ، بل تنتظم عادة في نسق أساس Basic Systems (النسق هو مجموعة من العلاقات المنتظمة المستقرة بين أجزاء وعناصر كل معين) هو : (نسق المعتقدات-اللامعتقدات) يمثل تنظيماً للمعتقدات واللامعتقدات اللفظية وغير اللفظية ، الصريحة والضمنية ، ويكون على شكل خط متّصل يقع على طرفه الأول نسق معتقدات يقبلها الفرد (معتقدات المذهب أ مثلاً) ، وعلى الطرف الآخر تقع سلسلة أنساق لامعتقدات ، بمعنى معتقدات يرفضها الفرد (معتقدات المذهب ب / ج / د مثلاً) ، أو بتعبير آخر، تقع على الطرف الأول (كل المعتقدات والتوقعات والافتراضات-الشعورية واللاشعوريّة- التي يقبلها الفرد في زمن ما على أنها حقيقة) ، بينما يضم الطرف الآخر(كل المعتقدات والتوقعات والافتراضات-الشعورية واللاشعورية- التي يرفضها الفرد في زمن ما ويعدّها خاطئة) ، ومدى أو شدّة رفض كل واحد من أنساق اللامعتقدات (ب / ج / د) يعتمد على مدى تشابه كل واحد منها مع ما يعتقد به الفرد (قد يرفض الفرد معتقدات ب أكثر من ج لأنها تختلف بشكل أكبر من ج عن معتقداته مثلاً) ، ولا يمكن عدّ نسق اللامعتقدات مجرّد (صورة مرآتيه) Mirror-image لنسق المعتقدات ، فكل منهما له كيانه الخاص .
ونسق المعتقدات- اللامعتقدات يمثّل بنية Structure التنظيم الاعتقادي وليس محتواه Content ، بمعنى كونه يتعلّق ببناء المعتقدات أو صورتها أو شكلها أكثر من مضمونها ، فهناك فرق بين المعتقد الذي (يحمله) الفرد (المحتوى) ، و(كيفية حمله) لهذا المعتقد (البنية) ، إذ قد يحمل الفرد معتقدات ذات مضامين متسامحة بطريقة متشددة وغير متسامحة ، فنجده منغلق في أسلوب تفكيره وغير متسامح مع الذين يخالفونه ولا يستطيع أن يتقبّل ويتفهّم أفكار المخالفين ، وبالعكس ، إذ قد يحمل الفرد معتقدات ذات مضامين متشددة بطريقة متسامحة وغير متشددة ، فنجده منفتح في أسلوب تفكيره ومتسامح مع الذين يخالفونه ويستطيع أن يتقبّل ويتفهّم أفكار المخالفين ، وقد يجتمع محتوى متسامح ببنية متسامحة أو محتوى متشدد مع بنية متشددة . كما أن هناك نمطين من التغيّر: تغيّر المعتقد Belief Change وتغيّر النسق System Change ، فقد يمكن تغيير معتقد معيّن أو أكثر ، دون أن يمس ذلك التغيير طبيعة النسق ، وقد يتغيّر النسق دون تغيير في المعتقد المعيّن .
فنسق المعتقدات-اللامعتقدات يمكن أن يكون مفتوحاً (بنية متسامحة وقابلة للتغيير ، سواء كان المحتوى متشدد أم متسامح) ، ويمكن أن يكون مغلقاً (بنية متشددة ومقاومة للتغيير ، سواء كان المحتوى متشدد أم متسامح) . وذلك يرجع إلى الدافع الأساس الكامن خلف كلّ نسق منهما ، فالدافع الكامن خلف النسق المفتوح هو (الدافع للمعرفة) الذي يحفّز ويوجّه الفرد للبحث بموضوعيّة عن الحقيقة ، ويمكّنه من التمييز بين المعلومات العقلانيّة واللاعقلانيّة في كل موقف ، بينما الدافع الكامن خلف النسق المغلق هو (الدافع لتفادي التهديد) الذي يحفّز ويوجّه الفرد للبحث عما يدعم وجهة نظره ، تحت ضغط عوامل داخليّة (العادات والحاجة للقوّة وتخفيف القلق وحماية الذات) وعوامل خارجيّة (المكافأة والعقوبة المنبثقة من السلطة الخارجيّة : الآباء والأقران والزعماء والمعايير المؤسساتيّة والاجتماعيّة والحضاريّة والجماعات المرجعيّة) ، وبالتالي لن يتمكّن من التمييز بين المعلومات العقلانيّة واللاعقلانيّة ، فيرى كل ما يوافقه عقلاني ، وكل ما يخالفه لاعقلاني ، كما لا يميّز بين المعلومة ومصدر تلك المعلومة ، فعندما يكون المصدر مقبولاً (من المذهب أ مثلاً) تقبل المعلومات ، وعندما يكون المصدر مرفوضاً (من المذهب ب / ج/ د مثلاً) ترفض المعلومات بغضّ النظر عن مضمونها ، فهو يركّز على (مَن قال) وليس على (ما قيل) .
فنجد أن النسق المفتوح يتصف بـ : الانخفاض النسبي لمقدار رفض الأنساق الفرعية للامعتقدات (معتقدات ب / ج / د) ، ووجود اتصال بين العناصر الجزئية ضمن وبين أنساق المعتقدات واللامعتقدات (وجود علاقة بين معتقدات أ من الداخل ، وبين معتقدات أ ومعتقدات ب / ج / د ، وبين معتقدات ب / ج / د) ، والتفاوت القليل في درجة التمايز بين أنساق المعتقدات واللامعتقدات (الفرق قليل بين أ من جهة وب / ج / د من جهة أخرى) ، والتمايز المرتفع نسبياً داخل أنساق اللامعتقدات (ب يختلف عن ج وكلاهما يختلفان عن د) ، والنظر إلى العالم بوصفه حميمي وإنساني ومحلّ للحب والألفة والتعاون والثقة ، والتعامل مع السلطة (الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة) بوصفها غير المطلقة ، وإنما قابلة للنقد والاعتراض والمناقشة ، وعدم تقييم الناس طبقاً لاتفاقهم أو اختلافهم مع هذه السلطة ، وإنما على أساس قيمتهم الذاتية ومدى تمتّعهم بالكفاءة والأخلاقيّة والإنسانيّة ، والانفتاح على الماضي والحاضر والمستقبل ، وإدراك الترابط بين هذه الأزمنة الثلاثة . بينما يتصف النسق المغلق بـ : الارتفاع النسبي لمقدار رفض الأنساق الفرعية للامعتقدات (معتقدات ب / ج / د باطلة بشكل قطعي لا يقبل النقاش) ، ووجود إنعزال بين العناصر الجزئية ضمن وبين أنساق المعتقدات واللامعتقدات (لا ترابط وثيق بين معتقدات أ المتعددة ، وبين معتقدات أ ومعتقدات ب / ج / د ، وبين معتقدات ب / ج / د) ، والتفاوت الكبير في درجة التمايز بين أنساق المعتقدات واللامعتقدات (الفرق كبير بين المذهب أ من جهة والمذاهب ب / ج / د من جهة أخرى) ، والتمايز الضئيل نسبياً داخل أنساق اللامعتقدات (معتقدات ب وج ود متشابهة) ، والنظر إلى العالم بوصفه مهدد وغابة يأكل فيها القوي الضعيف والبقاء فيها للأقوى وللمحتمي بالأقوى ومحلّ للصراع والتنافس والشك والتآمر والعدائيّة ، والتعامل مع السلطة (الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة) بوصفها مطلقة غير قابلة للنقد والاعتراض والمناقشة ، وتقييم الناس ورفضهم وقبولهم على أساس اتفاقهم أو اختلافهم مع هذه السلطة وليس على أساس قيمتهم الذاتيّة ، والتركيز على بعد زماني واحد ، كالماضي ، والانغماس فيه ، وإغفال البعدين الآخرين .
ومن الواضح أن النسق المهيمن ثقافياً في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة - في مجال الجَدَل المذهبي ومجالات عديدة أخرى - هو النسق المغلق ، فغالبيّة الأفراد بفعل البيئة الاجتماعيّة التسلّطية القامعة والمهددة ، يتركز في بنيتهم النفسيّة دافع تفادي التهديد وليس دافع المعرفة ، ولذلك تجدهم (علماء وعامّة) – في المجال المذهبي – يقبلون مسبقاً صحّة مذهبهم ، ويبحثون عما يدعمه ، ويرفضون مسبقاً المذاهب الأخرى ، ويبحثون عما يدحضها ، لا لكونها خاطئة موضوعياً ، بل لأن ثبوت كونها صحيحة يهدد أمنهم واستقرارهم النفسي ومكانتهم الاجتماعيّة ومصالحهم الخاصة والعامّة ، فهم ليسوا باحثين عن الحقيقة بل هاربين من الحقيقة .
فحل المشكلة لا يكمن في كشف الحقيقة وتوسيع المعلومات ، وإنما في تغيير الأنساق من مغلقة إلى مفتوحة . ولذلك يقترح الباحث : الكف عن طرح واجترار وتضخيم بؤر التوتر المذهبي وتضييع الجهود الفكريّة والإمكانات الماديّة والبشريّة في جَدَل غير منتج ، بل مُضر على المستوى الفردي والمجتمعي ، والعودة الجادّة إلى المتخصصين في علم النفس وعلم الاجتماع لأجل الدراسة المكثّفة للأبعاد المتعددة للظاهرة وتصميم برامج علاجيّة جمعيّة لتغيير الأنساق المغلقة ، لتحرير المجتمعات المسلمة من سجن " سقيفة بني ساعدة " .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الوشاح يتربع على عرش صيحات إكسسوارات النجمات هذا الصيف
- صاعقة تضرب عائلة وتسقطها أرضًا في حادث مرعب.. إليكم ما حدث
- لبنان: هل ينجح الأمريكيون بالإطاحة بسايكس - بيكو؟
- سوريا.. تهديد إسرائيلي مباشر: ضربة -عنيفة- قريبة على قوات ال ...
- المبادرة المصرية تطالب بإخلاء سبيل نرمين حسين بعد أكثر من 19 ...
- من يملك الأسلحة النووية وكيف حصل عليها؟
- قطاع الطيران يدق ناقوس الخطر.. ألمانيا عاجزة عن صد هجمات الم ...
- وليد جنبلاط: أدين الانتهاكات، ولابد من تثبيت وقف إطلاق النار ...
- سوريا…شاب عشريني يعود من ألمانيا إلى بلاده على متن دراجة هوا ...
- السويداء: إهانة شيخ تؤجج الغضب.. ووزير إسرائيلي يدعو إلى -قت ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - لؤي خزعل جبر - الجَدَل المَذهَبي : قضيّة علميّة أم قضيّة نفسيّة اجتماعيّة ؟