أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - حسن خليل - عزف علي أوتار الثورة















المزيد.....


عزف علي أوتار الثورة


حسن خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3589 - 2011 / 12 / 27 - 15:17
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


عزف علي أوتار الثورة

هذا المقال يهدف لتسليط الضوء علي دور فقراء المدن في الثورة المصرية

يمكن فهم الثورة المصرية بدرجة أكبر من الوضوح و الدقة عن طريق معرفه القوي الاجتماعية التي شاركت فيها و الأوزان النسبية لكل منها. بل يمكن من خلال قرأة الخريطة الطبقية للثورة فهم المسار السياسي التي خطته منذ انطلاقها في 25 يناير 2011. و يمكن وصف ثورتنا المصرية بأنها ثورة فقراء المدن و المهمشين و المبطلين أكثر من أي فئة أو طبقة اجتماعية أخري. أكثر من العمال و الموظفين و غيرهم من طبقات المجتمع. تتميز ثورتنا بأنها من حيث الموقع جرت أساسا في العاصمة عكس الثورة التونسية و السورية و غيرهما. و كلما كانت مدينة مصرية أكثر تحضرا كلما مستها ريح الثورة أكثر. فبعد العاصمة تأتي الإسكندرية أو السويس و كلاهما مراكز جذب حضري رئيسي بالإضافة للعاصمة. فمدننا تحولت إلى جزر من المجتمع القديم بطبقته المتوسطة و البرجوازية محاطة بإطار هائل من العشوائيات و الأحياء الشعبية المتهالكة. مدننا الرئيسية هي مدن فقراء الحضر أساسا رغم أنها تحاول خاصة في السنوات الأخيرة عبر عمليات التجميل القبيحة أن تبدو عكس ذلك.تلك المدن و خصوصا العاصمة هي مهد الثورة و صانعتها و معقل الثوار.

رغم ذلك فثورتنا ليست ثورة جياع.ثورتنا تصدت أساسا لقضية الحكم المركزية و أطاحت بالديكتاتور و لم تبحث عن الخبز إلا كعرض جانبي. و هذا البناء المعقد للثورة يفسره تطورها التاريخي و القوي التي شاركت فيها. انطلقت شرارة الثورة من قوي الطبقة الوسطي الشبابية التي شكلت قبل الثورة حركة للحريات العامة – مناهضة الاستبداد و التعذيب و القمع و أهدار حقوق الإنسان. و رغم أن هذه القوي حاولت كثيرا أن تطلق شرارة اشتعال الثورة منذ الخروج الباسل لحركة كفاية إلا أنها لم تنجح أبدا عدا يوم الثورة. و ثورتنا انطلقت أيضا علي خلفية حركة أجتماعية واسعة ضمت مئات الألف من المحتجين العمال و الموظفين و غيرهم. حركة تسعي للدفاع عن مستوي المعيشة الذي ينقض علية النظام و يقضمه يوما بعد يوم. و لم تستطع الحركتين حركة الحريات العامة و الحركة الاحتجاجية الالتقاء بالأخري بسبب الغياب شبه المطلق لأدوات العمل السياسي و التنظيم الجماهيري. فلا الحركة الاحتجاجية تسيست و لا حركة الحريات العامة استطاعت أن تجد الأساس الاجتماعي لمطالبها.و علي هامش هاتين الحركتين جرت حركة محدودة لفقراء المدن تميزت بالاشتعال السريع و الانطفاء السريع استجابة لكوارث محددة و لم تصل إلي مستوي أيا من الحركتين المذكورتين من حيث التواتر و التبلور

لكن يوم الثورة حدث أنقلاب نوعي في ديناميكية الحركة الاجتماعية المصرية. فيوم 25 يناير نزل شباب الطبقة الوسطي في حشد غير مسبوق لكن لم يكن هذا إيذانا بالثورة الشاملة التي عرفناها. الانقلاب حدث نتيجة نزول فقراء المدن بأعداد غفيرة لمؤازرة شباب الطبقة الوسطي في خطوة قلبت موازين الصراع. ففقراء المدن هم من حسم المعركة مع قوات الأمن سريعا و بفاعلية. نزلوا مسلحين بحقد طبقي ضد الشرطة و خبرة سنوات معها و مع تكتيكات حروب المدن و جسارة مذهلة. حسمت الثورة في الأحياء الشعبية قبل أن تحسم في التحرير بل أن من اقتحموا التحرير أولا هم شباب بولاق الدكرور -القريبة جدا من التحرير- بعد معركة لمدة 9 ساعات مع الأمن انتصروا فيها نصرا ساحقا ثم لم يتركوا الميدان بعدها. يكفي فقط تصور أنه في يوم واحد بالإسكندرية أحرقت كل مقار الأمن و سياراته في أنقضاض سريع صاعق لم يترك للأمن فرصة لإعادة تنظيم صفوفه. و هكذا في السويس بعد معركة قسم الأربعين المجيدة أنتزع الثوار السيطرة الفعلية علي المدينة.لم يكن لأي خبير عسكري مهما أوتي من براعة أن يحلم بمثل هذه النتائج علي مثل هذه المواجهة الواسعة.

لكن يجب أن نقول كلمة أيضا عن قوات الأمن و كيف أصبحت عاجزة لهذا الحد. القوة الأساسية في الأمن المصري هي الأمن المركزي. و هي قوة مهولة العدد لتقدر ب 450 ألف جندي من المجندين و غالبا من أكثر فئات الشعب فقرا و جهلا.تم تشكيلها عقب أنتفاضة يناير 77 لقمع حركة الشارع. و يتسلح الجندي عادة ببندقية آلية. لكن في مواجهات الشغب لا يتسلح الجنود إلا بالعصي. عكس الحال في قوي مكافحة الشغب في مجتمعات آخري حيث يتسلح الجندي بسلاحه الناري يضاف أليه أسلحة مقاومة الشغب. و السبب في هذا واضح أن جندي الأمن المصري لا يمكن الركون أليه في مواجهة مع الشعب. فمن الممكن أن يستخدم سلاحه الناري ضد ضباطه أو من الممكن أن يفقد سلاحه و الأهم هو أنه من الصعب جدا السيطرة علي جنود لهم مثل هذه المواصفات و يستخدمون أساسا كحوائط بشرية. و لذا فأن قوات الأمن لديها أيضا قوات خاصة تستخدم السلاح الناري في مواجهة الشغب حينما يكون ضروريا بالإضافة للضباط. و هذا يعني عمليا أن قوات الأمن كانت قليلة الفاعلية جدا في مواجهة تكتيكات هجومية جريئة من قبل الثوار فالعصي لا تنفع هنا. بل من المثير أن تجد أن قوات الأمن أحيانا بفضل عجزها لجاءت إلي استخدام تكتيكات الثوار -من الكر و الفر- لكن بدون الخبرة و الحذق الذي يميز فقراء المدن. أما القوات الخاصة المسلحة بالبنادق فلم تكن تكفي لمواجهات متعددة و متزامنه. و قد ارتكبت تلك القوات جرائم مروعة مثل قتل أكثر من عشرين شهيدا في المعادي بالقاهرة.يجب أيضا أن نشير إلي كما أن الجندي المجند و الفقير و الأمي غالبا و المضطهد دائما هو مكمن الضعف الخطير في جهاز الأمن. فأن جهاز الأمن نفسه هو مكمن الضعف الخطير في النظام. فكل مؤسسة يتم التحكم فيها عبر عشرات الأجهزة الأمنية من الجامعات للمصانع للأحزاب. فما أن يسقط جهاز الأمن – كما حدث – حتي تسقط مجمل المنظومة و تتهاوي كبيت من ورق. و ربما هذا هو السبب أن الثوار لم يلجؤوا إلي تتبع رموز النظام في المصالح إلا قليلا لأن كل فاعلية رسمية تهاوت مع تهاوي الأمن

من ناحية الثوار -فقراء المدن- فقد اعتمدوا أساسا علي القوة البدنية و الأحجار و ما يعرف خطاء بالمولوتوف و هو حقيقة زجاجات من مواد سريعة الاشتعال.و لا يمكن لهذا النوع من التسليح أن يفي بالغرض لولا الجسارة الاستثنائية التي تحلي بها المقاتلون و الخبرة بالمكان و الأعداد الغفيرة – و سيفعلون نفس الشيء بعد ذلك بدون حتي الأعداد كما في معركة محمد محمود. و لم يعرف استخدام الثوار بشكل واسع للأسلحة النارية رغم أنهم غنموا منها حاجتهم و زيادة. و هذا غالبا من تأثير دعوة السلمية التي ميزت الثورة و هو خيار صحيح تماما في الظروف المحددة. بل أن الخسائر المحدودة بشريا في صفوف الأمن قياسا لحجم المواجهة و الانتصارات الشعبية توضح أن فقراء المدن تعاملوا بكرم مع أعدائهم الطبقيين.

في غضون 4 أيام مجيدة سحق فقراء المدن قوات الأمن و أصبحت المدن المنتفضة آمنه لنزول الكتلة الرئيسية من الشعب للميدان و برزت لحظة الحقيقة لحظة الحرية وسط الاستبداد و التضامن و سط الفرقة. و في الإسكندرية التي يبلغ تعداد سكانها أقل من 5 مليون مثلا جابت مظاهرات من مليون علي الأقل الشوارع أي تقريبا كل بالغ و قادر شارك في الثورة.توحدت في أرض الميدان الحركة الاحتجاجية و حركة الحريات العامة مع حركة فقراء المدن الصاعدة.

أعتمد النظام تكتيك الترويع الأمني بأن أطلق المجرمين من السجون بل قتل من رفض منهم الخروج و حتي قائد أحد السجون قتل لرفضه خطة الترويع الأمني هذه.و أطلاق المجرمين و أمدادهم بالسلاح أدي لنتيجتين متناقضتين أولهما الزعر الذي حل بالأحياء خاصة أحياء الطبقة الوسطي. أما النتيجة الأخري فهي تشكيل اللجان الشعبية التي حافظت علي الأمن و بالتالي تحول أطلاق السجناء من سبب لبث الذعر إلي دافع لزيادة التنظيم و القدرات للحركة الشعبية. أما الأحياء المهمشة تماما و العشوائيات فلم تتأثر بهذه الظاهرة كونها اعتادت الاختلالات الأمنية و اعتادت مقاومتها.

عقب نجاح الثورة و خلع المخلوع تراجعت الحركة الاحتجاجية إلي مواقع المطالبة بتحسين الأجور و أصيف لها بناء النقابات المستقلة -و هو أمر جديد نسبيا و شديد الأهمية-. و منطق الحركة الاحتجاجية هنا واضح أن الثورة أضعفت النظام و أن هذا هو وقت أنتزاع المطالب و تعوض خسارات السنوات السابقة. لا تحمل الحركة الاحتجاجية برنامجا أقتصاديا – سياسيا تدافع عنه و لا يمكنها ذلك دون تنظيم جماهيري نقابي – سياسي فعال. بقي في الميدان أساسا شباب الطبقة الوسطي و شباب فقراء المدن هؤلاء يقدمون أساسا الذراع السياسي و الآخرين الذراع العسكري أن صح التعبير. من أهم نتائج الثورة أن فجأة ظهر للحياة العامة في مصر عشرات الألف من الشباب الذين تسيسوا و اعتادوا المواجهات الأمنية و ازدادوا ثقة في النفس و جسارة. و هؤلاء هم من عمل المجلس العسكري علي تحطيم أرادتهم بمشاركه حليفه الإخواني – السلفي.فصدرت قوانين أكثر قمعية من قوانين مبارك و تم أعتقال ألألاف و يقدر عددهم حاليا بحوالي 13 ألف معتقل. و استخدمت ضدهم كل صنوف التعذيب الجسدي -الضرب المبرح الكهرباء – بل أضيف لهذا كشف العذرية للسيدات و هو أمر جديد لم يمارس في مصر من قبل. كل هذه الإجراءات لم تنجح في "تليين" الثورة و الثوار حسب الكلمة الشائعة و لم تكسر عزيمتهم. لكن أمورا أخري لعبت دورها في الفرز الطبقي و السياسي الذي لحق بالثورة.

كتب كثيرين و كاتب هذه السطور منهم عن دور اليمين الديني – الإخوان و السلفيين- في الثورة كيف قفزوا لقطارها بعدما أنطلق و نزلوا منه عند أول أشاره من النظام لهم.فهم لم يكن يعنيهم إلا نصيب من كعكة السلطة أو هي كلها. علينا الآن أن ندقق أكثر في الطبقة الوسطي التي اشعل شبابها الثورة.

في العشر سنوات الأخيرة من عمر نظام مبارك تقريبا شهدت الطبقة الوسطي في مصر تحولات مهمة. أولها التدهور الحاد لوضعية الأغلبية الساحقة من أبنائها و خاصة الشباب. فارتفعت نسبة البطالة بين خريجي الجامعات من 12% عام 2004 إلى 16% عام 2008 و بالنسبة للإناث بلغت -حسب الإحصاءات الرسمية – 51%. فإذا أخذنا في الاعتبار أن تلك الإحصاءات تدرج كل من يعمل "أي" عمل علي أساسا أنه عامل. لوجدنا أن نسبة البطالة الحقيقية ربما تبلغ 30% وسط الشباب خريجي الجامعة أو أكثر. أخذين في الاعتبار توجه الحكومات المتعاقبة لتشغيل أعداد كبيرة مقابل مكافأة هزيلة لا تقيم أود أنسان -بلغت أحيانا أقل من 100 جنية أي ما لا يكفي لشراء 3 كيلو من اللحم شهريا!!- و أشكال أخري من التشغيل بأجور شديدة الانخفاض اخترعتها الرأسمالية الحاكمة كي تضغط الأجور لحد لا يتصور و في نفس الوقت أن تخفض نسبة البطالة لأقصي ما يمكن خوفا من التفجر الشعبي. و ضمن سوق عمل مثل هذا عمد الشباب للبحث عن أي عمل حتي لو كان لا يتناسب مطلقا مع مؤهلاتهم. هذه الشريحة الكبري من الطبقة المتوسطة وجدت نفسها في عصر مبارك تنحدر طبقيا بشكل سريع ليس إلي مصاف العمال لكن إلي مصاف المهمشين و فقراء المدن.و حتي علي الصعيد الثقافي و الفني عكست الروايات و الأغاني هذه الوضعية التي أصبح فيها قطاع مهم من الطبقة الوسطي بين صفوف فقراء المدن الذين يحسدون العمال علي دخولهم و علي المميزات المرتبطة بأعمالهم الثابتة.

لكن من ناحية آخري حدث صعود طبقي أيضا لشريحة محدودة من الطبقة الوسطي تلك التي اندمجت في سوق العمل المعولم الذي فتح أبوابه في مصر مع أندماج مصر في السوق الرأسمالي العالمي. هذه الشريحة التي عملت ككوادر وسطي في شركات الاستثمار و حازت أجورا مجزية و عرف نمط حياتها صعودا ملموسا.علي أن هذه الشريحة أيضا عانت من أنسداد الأفق السياسي لصعودها و مكانتها الاجتماعية الجديدة في نظام قائم علي الاستبداد المطلق.و تميزت هذه الشريحة بحيويتها وعلو صوتها المستمد من وجودها وسط عالم التكنولوجيا الحديثة و صلاتها العائلية.و مثل هذه الشريحة موجودة بكثرة وسط المنظمات الحقوقية العديدة التي وقفت ضد الطغمة الحاكمة.فالنسبة لهذه الشريحة أيضا كان هناك سببا للنقمة علي النظام القائم. خاصة و أن مبارك كان شخص شديد المحافظة فيما يتعلق باستخدام عناصر جديدة في هياكل دولته و وزراؤه بقوا في وزارتهم أحيانا أكثر من 20 سنة. فأخذ الانسداد السياسي هذا شكل صراع الأجيال.

من هم فقراء الحضر؟ و هل هم طبقة أجتماعية أم لا؟ و ما الذي يجمعهم؟ تتحدد الطبقة في الماركسية وفقا لعلاقتها بعملية الإنتاج.فالطبقة مفهوم اجتماعي تاريخي.و المجال لا يتسع للاستفاضة هنا. فقراء المدن يتميزون باضطراب علاقتهم بعملية الإنتاج. أما بسبب البطالة أو العمل المؤقت أو العمل الدائم لكن غير المنتج – مثل كثير من الموظفين-و هذا يجعل تصنيفهم كطبقة صعبا. لكن الطبقة الاجتماعية أيضا تتحدد بباقي الطبقات الاجتماعية أي أن طبقة العمال تتحدد بأنها الطبقة التي تستغلها طبقة الرأسماليين. و هذا مغزي الطابع الاجتماعي للتعريف. و هنا يمكن تصنيف فقراء الحضر باعتبارهم طبقة حيث كونهم خارج المجتمع.حيث كونهم مهمشين. و هم نتاج لعملية تحلل أو انحطاط أجتماعي. يبدو فقراء المدن كقوة عمل ذائدة عن حاجة المجتمع. لكنها أوسع من جيش العمل الاحتياطي في حالتنا فهم أكبر عددا بكثير من هذا. و تتميز هذه الطبقة بالفقر و ضعف المستوي التعليمي لكنه ليس شرطا فحرفيين مهرة كثيرين ينحدرون لصفوف هذه الطبقة بغياب تواتر العمل المتاح لهم.كما يوجد مهندسين متعلمين من فقراء المدن الخ. طبقة فقراء المدن في مصر هي نتاج هجوم كاسح بربري من الطبقة الحاكمة علي الطبقات الشعبية مدعوما خارجيا و مؤيدا بغياب كامل للمقاومة المنظمة بفضل الاستبداد السياسي المتصل.

بالنسبة لفقراء المدن كانت الثورة هي بمثابة عودة لهم إلى قلب المجتمع الذي اضطهدهم كثيرا. و علي عكس الطبقة العاملة التي لن تخسر من الثورة إلا أغلالها أي العمل المأجور فطبقة فقراء المدن لن تخسر أغلالها فحسب بل تكسب وجودها الاجتماعي أيضا.و لذا فأن مستوي الحقد الطبقي و مستوي فدائية هذه الطبقة يصل حدا بعيدا. حد أن لا تفرق الحياة مع الموت حقا.و علي عكس الشائع من صعوبة تنظيم هذه الطبقة فأن طبقة فقراء المدن-خاصة الشرائح المتدنية منها- شديدة التنظيم في أشكالها الخاصة فبدون تلك الأشكال التنظيمية البدائية -المعلمين و الصبيان و مواثيق الشرف الخ- تصبح حياة هذه الطبقة مستحيلة خاصة و هي في مواجهة مستمرة مع قوات القمع و مع باقي المجتمع. لكن من ناحية أخري بينما تمتلك الطبقة العاملة برنامجا واقعيا و هو الإطاحة بالطبقة الاستغلالية لا يملك فقراء المدن مثل هذا البرنامج. هم في حاجة لتبني برنامج الطبقة العاملة التي هي في وضع ممتاز بالنسبة لهم.فقراء المدن يجدون في وضع الثورة نفسه برنامجهم.

الأقسام الثلاثة الرئيسية التي عرضنا لها حتي الآن هي من جعل الثورة المصرية تأخذ الطابع السياسي العام. و تأخذ من "الوطن" و مصر عنوانا لها. مع أختلاف دوافع كل طبقة. فالشريحة العليا من الطبقة المتوسطة تسعي أساسا للتمثيل السياسي. تسعي للتعبير عن صعودها الاجتماعي. و الشريحة الواسعة من الطبقة الوسطي الهابطة لا تتبني برنامجا أجتماعيا مستقلا. هدفها الأساسي هو أن تعود لمجتمع ناهض تنموي يعيدها لمنزلتها التي تفقدها يوما بعد يوم. أما فقراء المدن فيريدون التواجد في المجتمع ككل.لذا أخذت ثورتنا هذه الطبيعة السياسية و تراجع فيها البعد الاجتماعي لان الطبقات المنتجة حقا -العمال و الفلاحين أساسا- بعيدة لحد ما عن العملية الثورية.

و مع نجاح الثورة و خلع مبارك كان من الطبيعي أن يتراجع دور الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة التي حازت فورا علي وجود سياسي ملموس بفضل فعل الثورة ذاته.و هي الشريحة التي كانت الأعلى صوتا و الأكثر حضورا سياسيا قبيل و أثناء الثورة.و الشريحة الكبري من الطبقة المتوسطة التي عرفت تدهورا انقسمت إلى من تطلع للحاق بهذه الشريحة العليا و من أستمر في مواقع الثورة. و لذا غلب علي الثورة تدريجيا منذ خلع مبارك سيادة فقراء المدن علي تركيب القوي الثورية.

و بسبب هذا الفرز الطبقي أصبحت الثورة تركز علي قضايا يمكن النظر أليها باعتبارها قضايا هامشية مثل محاكمة مبارك و حقوق الشهداء و المصابين الخ. و رغم أن هذه القضايا مهمة في حد ذاتها إلا أنها لا ترقي في أهميتها لشكل المجتمع الجديد الذي يريد الثوار بناؤه علي أنقاض مجتمع الاستبداد و الاستغلال القائم.فلن يفيد الثوار كثير لو أعدم مبارك و تمت رعاية الشهداء لكن بقي نفس النظام الاستبدادي قائما و هو أمر ممكن جدا من الزاوية النظرية علي الأقل.

و قوي اليسار المصري المتنوعة للأسف لا تمتلك منظورا واضحا عن الثورة. فرغم مشاركتها المتزايدة فيها و جسارة مناضليها و شهدائها و تضحياتهم الكثيرة إلا أنها لا تعطي الجانب الفكري السياسي ما يستحقه من الاهتمام أو لا تستطيع. و الأغلبية الكاسحة من الأدبيات اليسارية هي أما مرتبطة بأمور عملية أو ترديد لمقولات منقوله دون كثير من التفكير في مدي ملائمتها للواقع المصري. و رغم ذلك فقوي اليسار هي المهيئة لان تقدم بديلا و تقدم منظورا سياسيا فكريا يجمع قوي الثورة حوله و يصوغ لها برنامجا واضحا.و ما زال أمامنا وقتا حتي تتبني هذه القوي برنامجا ثوريا يلائم الواقع و يخاطبه من منطلق رؤية جدلية لما يجري. و أعتقد أن برنامج الجمهورية الديمقراطية الشعبية هو البرنامج الملائم لهذه المرحلة و قد فصلت عن هذا البرنامج في مقالات سابقة

مثلت مجزرة ماسبيرو التي دهست فيها الشرطة العسكرية بالمدرعات و أغتلت بالرصاص مباشرة علي الأقل 27 شهيدا من ضمنهم مينا دانيال -المناضل اليساري-. مثلت هذه المجزرة نقطة تحول في مستوي هجومية المجلس العسكري علي الثورة و الثوار. فاصبح القتل هو الاساس و ليس مجرد التعذيب و الاعتقال. و لان المجزرة لم تجد ردا مناسبا من الثوار فقام المجلس العسكري بهجوم مضاد أوسع في معركة محمد محمود.في هذه المعركة استخدمت أسلحة كيميائية ضد الثوار. و هي غازات أعصاب سامة ألقيت بكثافة شديدة بالإضافة للرصاص و الأسلحة الأخري. و مجدد أثبت أبناء فقراء المدن جدارتهم بالقب الثوار. فخاضوا معركة دفاعية غير مبالين بالخسائر التي بلغت 45 شهيدا و مئات المصابين منهم ما يقرب من 300 مصابين بفقد العين نتيجة لتعمد قوات المجلس العسكري أطلاق الرصاص المطاطي و الخرطوش بمستوي الرأس. و أثبت فقراء المدن بما فيهم الأطفال تفوقهم في معارك الدفاع كما في معارك الهجوم. فأتبعوا تكتيكات الانهاك مع قوات الأمن و المناورة لمهاجمتها من الخلف و في نفس الوقت عملوا علي الدفاع عن مراكزهم الرئيسية خاصة المستشفي الميداني الذي استهدفته قوات الأمن لحرمان الثوار المصابين من العودة للمعركة. ثم تكررت المعركة ثانية أمام اعتصام مجلس الوزراء. و بدون شك تدرك قوات الأمن حجم الخسائر التي منيت بها و تدرك أن الأعداد الصغيرة التي خاضت حرب محمد محمود و رائها ملايين يمكن أن تنزل في أي لحظة لو تطورت الأمور عن نقطة معينة. و هذا هو الرادع الرئيسي الذي تملكه الثورة الآن. أن أتساع المعارك لابد و أن يؤدي بمئات الآلاف من الشباب لنزول الميدان.

أدي ذياده الوزن النسبي لفقراء المدن في أعتصام التحرير و في قوي الثورة عموما لتطور له جانب إيجابي و جانب سلبي و هو ظاهرة تشرذم القوي الثورية و ظاهرة رفض الانخراط في أحزاب سياسية. و الإيجابي هنا هو الثوار اصبحوا أنضج من أن تحتويهم القوي السياسية القائمة و السلبي هو أنهم لم يبنوا منظومة سياسية يمكن من خلالها أستشفاف مواقف الثوار و توجهاتهم. و يقول المناضل كمال خليل -أحد مؤسسي حزب العمال الديمقراطي- أنه.برغم ما يتمتع به من أحترام فائق وسط الثوار، يخجل من ذكر حزبه وسط الثوار نتيجة للعداء الشديد للحزبية.أن دور القوي اليسارية أن تبني وجودها وسط الثوار و تقدم لهم نموذج جديد للحزبية مع برنامجا جذريا للثورة.

كتبت هذه المقالة بناء علي حوارات مع مناضلات و مناضلين أفخر بالتعرف لهم و الحديث اليهم.



#حسن_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدول المصرية
- ستنتصر ثورتنا رغما عن المجلس العسكري
- دعوة لعقد مؤتمر وطني للقوي الثورية
- معضلات الثورة المصرية في حلقتها الجديدة
- 18 نوفمبر و تكرار خطاء 11 فبراير
- بالصلاة علي النبي
- ماذا ما بعد؟ مقدمة لخريطة طريق لانتصار الثورة
- بين الانتخابات المصرية و الحرب الإمبريالية الأولي
- مرة ثانية الإسلاميين
- تكتيك النظام و تكتيك الثورة
- التمييز الديني والعولمة


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - حسن خليل - عزف علي أوتار الثورة