أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - غازي مسعود - هل كان داروين داروينيَّاً اجتماعيَّاً؟















المزيد.....


هل كان داروين داروينيَّاً اجتماعيَّاً؟


غازي مسعود

الحوار المتمدن-العدد: 3561 - 2011 / 11 / 29 - 19:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


((هذه ترجمة كاملة لمقالة دوغلاس أولشِن Douglas Allchin المعنونة Was Darwin A Social Darwinian? التي نشرت في مجلة The American Biology Teacher الفصلية الأمريكية، مجلد 69، عدد 1، 2007 التي تصدر عن The National Association of Biology Teachers. درَّس أولشن البيولوجيا للصفوف الثانوية والجامعية، ودرِّس تاريخ العلوم فيMinnesota University بمدينة Minneapolis الأمريكية.))
***
هل البشرُ مخلوقاتٌ أنانيَّةٌ بالوراثة؟ يُدينُ المُشَكِّكون بالتطور evolution ونُقَّّّادُهُ، روتينيَّاً، شبحَ المجتمع المخيف، "أحمر الأسنان والمخالب"، الذي يقود إليه، وفقهُم، مفهومُ الانتخاب الطبيعي الدارويني Natural Selection. وهم يساوون الداروينية بما يُسمَّى "الداروينية الاجتماعية،" التي تؤمن بالمنافسة الاجتماعية غير الرحيمة وبالفرديَّة الصرفة. ويبدو أيضاً أن عديد التَّطوريين – بمن فيهم حتى مدافعين حازمين عن الداروينية، من مثل توماس هكسلي Thomas Huxley ومايكل روز Mickael Ruse – يوافقون على أن تاريخ البشر الطبيعي يعاني من فجوة أخلاقيَّة. وعلى العكس من ذلك، يملكُ آخرون، منهم حتى داروين نفسه، تفسيراً متطوراً جداً لتطوّر الأخلاق (Richards, 1987). وقام آخرون، منذ ذلك الوقت، بتعميق فهمنا البيولوجي لأصول البشر وأصول ثقافتهم. وبناءً على ذلك، قد نكون جاهزين لتحدّي افتراضٍ راسخٍ في أذهان كثيرين، لتحدي هذه البقرة المقدَّسة: يعني الإيمانُ بالتطورِ عدمَ وجودِ أي أساسٍ للأخلاق!

يتنصَّلُ عديد العلماء من أي دور للبيولوجيا في الأخلاق، ويَدَّرِعون بدِرْعِ يقول بضرورة التمييز بين الحقيقة والقيمة، أو يستحضرون خرافة تهديد المذهب الطبيعي للإنسان. إلا إن الأخلاقَ، رغم ذلك، سلوكٌ يمكن مراقبته ووصفه وظاهرةٌ بيولوجيَّة (Stent, 19780). ويمكننا، طبعاً، توثيق وجود هذا السلوك الأخلاقي عند أنواع بيولوجية أخرى غير الجنس البشري. فعلى سبيل المثال، قالت مجموعة، بقيادة جيفري موجيل Jeffry Mogil، بوجود تعاطف بين الفئران*. فحين تُلاحظ فئرانٌ أن أترابها في القفص (وليس الغرباء) يعانون ألماً، يُظهِرون، هم أنفسهم، ردودَ أفعال حادَّة على الألم (Langford et al., 3006; Ganguli, 2006). وتتطلب الأخلاقٌ، بخاصةٍ، تفسيراً بيولوجياً للطلاب الذين يتساءلون عن وضع البشر في السياق التطوّري.

وطبعاً، توجد للقدرة على المراقبة والوصف حدودٌ مهمَّةٌ. ويفعل المرء حسناً إذ يستمع إلى الفلاسفة الذين يحذَّروننا بأننا لا نستطيع، بشكل يمكن تبريره، اشتقاقَ قيمٍ مُحدَّدة أو مبادئ أخلاقيَّة من مُجرَّد الوصف. وحاول عديدون فعل ذلك لكنهم فشلوا جميعاً(Bradie, 1994; Father, 1994) . فما "يجبُ" لا يَظهرُ مما "هو" (موجود). والقيمُ والحقائقُ مختلفةٌ واقعياً. ورغم ذلك، تظلُّ أسئلة من نوع: لماذا أو كيف نستطيع التعبير عن القيم بالمطلق، أو أن نمتلك دوافعَ أخلاقيَّة، أو أن ننخرط في جدال أخلاقي، مجرد أسئلة تعبِّر عن وقائع سايكولوجيّة أو اجتماعية، عُرضة للتحليل والتفسير. وبالفعل، قد يكون درسٌ عن التطور البشري غير مُكتملٍ دون التعامل مع هذه السلوكيّات الإنسانية المهمة جداً.

داروين ككائن اجتماعي

وطبعاً، قد يبدأُ المرءُ، كما يفعلُ دائماً وهو يتعامل مع موضوعات تطوريَّة، بالعودة إلى المصدر: إلى تشارلز داروين نفسه. فكيف نظر داروين إلى الثقافة؟ هل طبَّق الانتخاب الطبيعي على المجتمع؟ هل كان "داروينياً اجتماعياً،" كما يعتقد كثيرون أن هذا ما تعنيه نظريته؟

حسناً، كان لداروين عشرةُ أطفال. وبذا يكون مُنتِجاً خصباً! فهل كان، بذلك، يعرِضُ واعياً صلاحيَّته لإعادة الإنتاج؟ إذا كان الأمر كذلك (رغم أن ذلك مشكوك فيه)، فهو أمرٌ يبدو هامشياً عند من يهتمّون ببناء المجتمع على أساس مفهوم "البقاء للأصلح" survival for the fittest . فليس المهم عند هؤلاء عدد الأطفال، بل المنافسة التي تقطع الرقاب، المنافسة الساعية لتحقيق الثروة والسلطة وموارد اجتماعية أخرى. ومن هنا وصف الصحفي روبرت رايت Robert Wright المفكرَ داروين بأنه شخصٌ شديد الطموح، يطفح كارُهُ بـ"محاولات الارتقاء التي لا تلين، والمُقنَّعة، بذكاء، بالمبادئ والتواضع" (ص 310). و"فعلَ [داروين]، بشكل رائع، ما صُمِّمَت الكائنات البشرية لتفعله: استغلال التراتبيَّة الاجتماعية لتحقيق منفعة شخصية" (ص 287). ويجادل رايت بأن داروين كان حيواناً سياسياً ذكيّاً: كان "قيادياً" ناجحاً بين كائنات بشرية عادية (ص 287).

ورغم ذلك، تُقَدِّم المؤرخة وكاتبة السِّيَرٍ جانيت براون Janet Brown صورةً مختلفة تماماً لداروين. فقد كان، وفق ما تقول، رجلاً لطيفاً بقدر ما كان رجلاً نبيلاً. كان والداً مُحبَّاً وزوجاً مُخلِصَاً، وحتى شَغِفَاً. أيَّدَ حقوقَ العبيد، ودافع عن معاملة الحيوانات المُسْتَأنَسَة معاملة إنسانيّة. كتب بصراحة: "... إذا كان علينا التخلى عمداً عن الضعفاء والبائسين، فلا يمكن أن يكون ذلك إلا في وضع طارئ، يفرضه شرٌّ راهنٌ مُحدَّدٌ مستطيرٌ ." (1871، ص 169). وفي حياته الشخصية، نادراً ما أظهر داروين القسوة التي يُزْعَمُ أنها مُتأصِّلةٌ في نظرياته.

وكان داروين أيضاً مُهتمَّاً بتفسير الأخلاق الإنسانية علمياً. ففي شهر تموز/ يوليو 1838 بدأ يكتبُ، في دفتر يوميات خاصٍ امتلأ بأفكار كثيرة عن سُبُل فهم العقل والأخلاق(Barrett et al., 1987). (سُجَّلت أفكاره الأولى عن التحوّل الطبيعي في شهر أيار/ مايو من العام السابق.) وفي أقل من ثلاثة أشهر، ملأ داروين 156 صفحة ملاحظات من مثل:

"يا ليت أن لا ينشاً حِسُّنَا الأخلاقي عن قدراتنـا المُضَخَّمَة أو عن غرائزنا الجنسية الأبوية الاجتماعية القويَّة، فتنشأ، بدلاً عن ذلك، مقولاتٌ من مثل "أحبَّ لغيرك ما تحب لنفسك"، أو"أحبَّ جارك كما تحب نفسك". حَلِّلْ هذا الأمر- آخذاً بالحسبان عديد العلاقات الجديدة المأخوذة من اللغة – ترى أن الغريزة الاجتماعية أكثر من مجرد حب، أو خوف على الآخرين الذين يتصرفون بانسجام، أو من مجرد مساعدتهم بفاعليَّة ، إلخ، إلخ." (M150-151).

خلال تلك الفترة، في سنة 1838، قرأ داروين أيضاً مالثوس Malthus، فكانت قراءتُه البذرةَ التي ساعدته على بلورة مفهوم الانتخاب الطبيعي. إذاً، كان داروين، منذ البداية، يُفَكِّرُ في بُعْدَيْ التطور الإنساني والاجتماعي. وفي ختام كتابه "حول أصل الأنواع" On The Origin of Species، الذي كتبه بعد أعوام كثيرة، بشَّر داروين قُرّاءَهُ، بسخرية واضحة، بأنه "سيُلقى الضوء على أصل الإنسان وتاريخه" (1859، ص 488). وفي ما يقرب من الروح نفسها (رغم أن ذلك أقلّ شهرة الآن)، تنبَّأ أيضاً بظهور أساسٍ جديدٍ لعلم النفس، فَعَرَفَ ما ظلَّ واجباً عليه قوله.

أصل المجتمع

مرَّ 12 عاماً قبل أن ينفِّذ داروين وعدَه الاستفزازي. وحين فعل ذلك، في "أصل الإنسان" The Origin of Man، لم يكترث كثيراً لعلم التشريح، لأن لنايوس Linaios كان قد قام، قبل نحو قرن، بتصنيف الكائن البشري كشمبانزي. (ولذا قد يتساءل المرء عما إذا كانت المعلومات المتوفرة عن عظام الأوسترالوبيثيسين Australopithecine [الشمبانزي شبيه الإنسان الذي عاش قبل نحو 4 ملايين عام]، بوقفته المستقيمة، وكِبَرِ دماغه، تُقنع أي شخص بالتطور.) إذاً، تخلَّص داروين بحرص من الدليل التشكيلي [المورفولوجي morphological] في فصل افتتاحي قصير نسبيَّاً. وكان تركيزه الأساس، في المجلد الأول، على نشوء قوى الإنسان العقليَّة والأخلاقية، بدلاً عن التركيز على قواه الفسيولوجيّة (الفصول 2، 3، 5).

سار داروين على نهج خطاب عصره الفلسفي، فلم يُركِّز على المبادئ الأخلاقية، بل على المشاعر والعواطف الأخلاقية، أو ما دعاه، بصراحة ووعي، "الحس الأخلاقي" (1871، ص 70). وفي أيامنا هذه، يؤكِّد لنا تركيز داروين على الشعور والحافز أهمية دور الجهاز العصبي. فمما له دلالة، أن الجينات هامشية وأنها قد تُساعِدُ على إنتاج أعصاب وبُنى تحفيزيَّة، ولكن الأجهزة العصبية قد تعمل، لذلك، بشكل مستقل. فالذاكرة والتَّعَلُّمُ بخاصة يُرشدان السلوك الغامض غير المُحدَّد جينيَّاً. وأن تستطيع العضوياتُ تطوير هذه المستويات الوظيفية "الطارئة" فأمرٌ واضحٌ لأي شخص يفهم كيف تُنْتِجُ الكُرَيَّاتُ اللمفاويةُ المناعةَ. فالعُضويات تتعلَّم فردياً، سواء عن الجينات المضادة أو المُحَفِّزات الخارجية. والمرونة الوظيفية جزء من بنية العُضوية المعدِّلَةِ لذاتها ذاتياً. وهكذا يمكن للأجهزة العصبيَّة أن تُنتجَ سلوكيّات تعمل بشكل مستقل، تقريباً، عن أكثر مصافي البقاء وإعادة الإنتاج التطورية حيويّةً. وهكذا، يقوم فهمُ الحس الأخلاقي، كما هدف داروين أن يفعل، على تعليلات سايكولوجية، وليس جينيَّة (Sober & Willson1998; Rottschaefer, 1998). ولهذا السبب، تُصبحُ معظم الدراسات الاجتماعية البيولوجية غير مفيدة نسبيَّاً، إن لم تكن غير ملائمة، في فهم الأخلاق الإنسانية. فهي لا تستطيع أن تشرح بالكامل السلوكيّات التي تفكر بها الذاكرة والتقويم العقلي. وهكذا، يكون لتركيز داروين على الحس الأخلاقي أهمية كبرى في تحديد المكان الذي يمكن فيه للمرء العثور على أجوبة مفيدة (في هذه الأيام انظر Mark Hauser s, 2005, Moral Minds).

وضع داروين أربعة شروط لظهور حسٍّ أخلاقي. وعكست هذه الشروط أيضاً مراحل ممكنة للتطور. أولاً، تُبدي الحيوانات الاجتماعية غرائز اجتماعية ذات فائدة عامة. ثانياً، تُشكِّل الذاكرة أساساً للوعي. ثالثاً، تسمح اللغة بتوصيل الحاجات بفاعليّة أكبر. وأخيراً، تُرسّخ العادة استجابات فوريَّة أكثر. أكثر من ذلك، أصرّ داروين بقوة على أن:
"... أية حيوانات، مهما كانـت تمتلك من غرائز اجتماعية واضحة، سوف تحصل حتماً على حسٍّ أخلاقي أو وعي، حالما تصبح قواها الفكرية متطورة، أو ما يقرب من متطورة، كما في حال الانسان." (1871، ص ص 71-72).

وزعم داروين أن الفضيلة ليست ممكنة فحسب، بل وحتمية في ظل ظروف معيّنة! وهنا صوَّرَ السببيَّة التطوريَّة كما لو أنها قانونٌ عام، آخذاً بالاعتبار كل ملمح من ملامحه بشكل شامل. وأكد على دور الاجتماع نفسه. ومنذ داروين، طبعاً، تم توثيق تطور التنظيم الاجتماعي عند حيوانات أخرى بثراء كبير – ووَضِّحَ في معظم كتب البيولوجيا المدرسيّة التمهيدية. فالارتباط بعضويّات أخرى يمكن أن يكون تكيُّفيَّاً، حتى حين يتحمَّل الفرد بعض "الثمن." ورغم ذلك، حالما تتطور المجتمعات، قد تصبح أيضاً بُعداً إضافياً من أبعاد التطور. فعضويات أخرى تخلق بيئة اجتماعية. ويُمكنها أن تُشكِّل انتخاباً طبيعياً، وبالمثل سلوكاً مُتَعَلَّماً. ولذا يؤكد داروين على كيفية تأثير القيم الجماعية على الأفراد. فالعضويات تزدهر اجتماعياً بـ"طاعة رغبات الجماعة وأحكامها" (1871، ص.73). ولاحظ أن التضحية بالذات وتقييدها يحملان، في سياق اجتماعي، قيماً أعلى وأصحّ. (ص 97). وبالتالي، كتب، "سيكون لرغبات الجماعة العلنية تأثيرٌ طبيعي، وإلى حد كبير، على سلوك كل عضو من أعضائها" (ص 98). وأكذ داروين على دوافع متنوِّعة، مُلاحظاً أن بعض الأفراد قد يتصرفون "لخوف من العقوبة، وعن إيمان بأنه، في المدى البعيد، سيكون من مصلحتهم الذاتية الأنانية أن يُفضِّلوا خير الآخرين على خيرهم" (ص 92). (لنظرات حديثة انظر Clutton-Brock & Parker, 1995). وكمثال على تلك الجزاءات الاجتماعية، استشهد داروين ببغاوات أمريكية تصرخُ مُحتجَّةً على أمها حين تغادر عشَّها (ص 76) وبقِردة بابون تصفعُ صغاراً منها، لفرض الصمت وهم يسرقون حديقةً (ص 79). فالانتخاب الطبيعي يأخذ شكلاً مختلفاً تماماً في بيئة اجتمـاعية. وحين يُعرَّف الأصلحُ جزئياً من قبل أعضاء آخرين في المجموعة، يميل "البقاء للأصلح"، أيضاً، الى دعم المساهمات في رفاه المجموعة وليس المساهمات الأنانية فقط. ولذا، يتماثل تحليل داروين للاجتماع، على نحو فضفاض، مع إجماع الفلاسفة الذي لا يكلّ على المبادئ الأخلاقية الأساس، من مثل القاعدة الذهبية Golden Rule (التي تجد صدىً لها في دراسات راهنة كثيرة؛ فوغل، 2004). ورغم ذلك، وأكثر عُمقاً مما سبق، وبالتأكيد على الاجتماع، ألمع داروين بشكل مهم إلى أن دور التقويم الأخلاقي ظهر على مستوى المجتمع أو المجموعة، وليس على مستوى قرارات الفرد. فالسلوك الإنساني سيتم اختياره على أساس"رغبات أبناء جنس الفرد وموافقتهم ومسؤوليتهم" (ص 85). ولاحظ أن الأخلاق مرتبطة بالاجتماع بشكل جوهري.

ثانياً، قد يأخذ المرءُ بالاعتبار الذاكرة. فعند داروين، تواجه العضويات صراعات بين غرائز اجتماعية وغرائز أخرى. وعنده، تُمَكِّنُ الذاكرة المرء من إجراء تحليل استعادي، حيث تسود في النهاية، كما تصوَّر، الغرائز الاجتماعية الأكثر ديمومة. فالذاكرةُ تسمح باندماج المصالح الآنية والمصالح الدائمة. وتسمح أيضاً بالتعلّم. ويكون ذاك حاسماً، على سبيل المثال، في العضوية التي تتوائم مع سلوكيّات عكست قيم المجموعة – إما من خلال تعليمات رسمية، أو (كما يمكن أن نقول اليوم) من خلال تعزيز إيجابي أو سلبي. ومع التعلّم، تُصبح التربية الأخلاقية ممكنة، كما لمّح داروين إلى ذلك في حالتي الببغاء الأمريكية وقِرد البابون. فالقيم الاجتماعية يمكن أن تُغرس ثقافياً وتُورَّث، ويمكن وأن تُشكِّل السلوك، ومرة أخرى بعيداً عن الجينات والغرائز.

ثالثاً، أعطى داروين اللغةَ دوراً. فقد لاحظ أن العضويات، كي تستجيب لحاجات الآخرين، تحتاج أن تكون قادرة على تفسير رغباتهم أو آلامهم أو حالات عقلية أخرى. فلا غرابة إذاً أن الحلقة اللاحقة لعمله "أصل الإنسان" كانت عمله الموسوم "التعبير عن المشاعر لدى الإنسان والحيوانات" The Expression of the Emotions in Man and Animals (Darwin 1872,1965). وفيه قدَّم داروين تحليلاً لمجموعة من الأوضاع الجسدية والتعبيرات الوَجْهِيَّة facial مُظهِراً كيف يمكن حتى للعضويات غير البشرية أن يُفَسِّرَ مزاجُ بعضُها مزاجَ بعضَها الآخر، أو حالاته الذهنية، دون كلمات. ويبدو أن حتى الفئران قادرة على الشعور بألم فئران أخرى (Langford et al, 2006). فالأخلاق مُتجذِّرةٌ في السلوك، وليس مجرد تفاهم لفظي أو جدال فلسفي، ورغم ذلك، تعتمد القدرةُ على التعبير عن الأفكار، بكل وضوح، على إمكانية التفاعل الفعَّال بين الناس.

رابعاً، أضاف داروين العادةَ كعامل مهم. فقد رأى أن بعض السلوك الذي تتبناه عضويةٌ ما أثناء حياتها يمكن أن يُصبحَ، تقريباً، أوتوماتيكياً، فيبدو، لذلك، كأنه غريزة. (وحتى في هذه الأيام، يُشوِّشُ الاستخدام الغامض لتعبير "غريزي" معاني الفطري وغير القَصْدِي.) وهنا أشير إلى أن داروين تصوَّر، مُخطئاً، أن العادة (وبالتحديد التكرار) سوف تُحوِّل وظائف جديدة إلى غريزة وراثيَّة. ففي عصره، طبعاً، كانت معرفة مسائل التعلّم والوراثة ما زالت محدودة. واعترفَ داروين أيضاً بأن ظهور "الغرائز الاجتماعية،" أو التعاون، قد يكون إشكاليّاً في ظل ظروف الانتخا ب الطبيعي الفردي. وانجذب داروين إلى الانتخاب الطبيعي على مستوى المجموعة، وهي فكرة ما زالت خلافيَّة (Sober & Wilson, 1998. وفي كلا الحالين، يبدو أن داروين قد أكدَّ على الغريزة و(مرة أخرى) قلَّل من إمكانية التعلم وانتشار السلوك الثقافي. ومن دون شك، ما كان لداروين إلاّ أن يندهش للأعمال اللاحقة من مثل أعمال إيفان بافتوف Ivan Pavtov وبي إف سكنر B.F. Skinner وآخرين، ممن ساعدوا في معرفة كيفية تعلّم العضويات – وليس البشر فقط. وعلى سبيل المثال، صدرت مؤخراً تقاريرُ تتحدث عن تعليم صريح عند الحيوانات: فقِردة الميركات توفر لصغارها طريدة حيَّة تتعلم عليها اكتساب مهارات الصيد (Thornton & McAuliffe, 2006; Milius, 2006). فليس كل سلوك غريزياً. وليس كل وراثة جينيَّة. ولا تحتاج الآخلاق أن تكون "في جيناتنا" (انظر Sacred Bovines, April, 2005). فمن خلال التعلّم، كما قال داروين، يمكن للشعور الأخلاقي أن يُصبح، في النهاية، عادةً أو "طبيعة ثانية".

من داروين إلى غرفة الصف

إذاً، كان لداروين نظرية متطوِّرة جداً عن المجتمع الأخلاقي، حتى وإن كانت غير كاملة و، بمقاييس اليوم، بحاجة إلى تنقيح (لمعرفة آخر تطورات هذا الموضوع انظر De Waal, 2006,1996; Ridley, 1996; Allchin 1999). فتقريباً، لم يدعم داروين أبداً فكرة العالم الذي يأكلُ الكلبُ فيه الكلبَ التي يعتقد عديدون أنها ما تعنيه نظريته. على النقيض من ذلك، وضّح كيف أن الاجتماع والبيئة الاجتماعية سيقيدان أية فردية ويُصحِّحانها. لم يكن داروين "داروينياً اجتماعياً". وفي الحقيقة، قد يتساءل المرء كيف أصبح هذا الاسم لصيقاً بمنظور غير دارويني – وهذه أحجية أخرى سنعالجها في عدد الشهر القادم من "البقرات المقدسة".

وأظن أن معظم مُدرِّسي البيولوجيا يعرفون أكثر عن رحلة داروين على ظهر السفينة بيغل أكثر مما يعرفون عن مفاهيمه حول مَلكات الإنسان العقلية والأخلاقية. وقد يكون ذلك بحاجة إلى أن يتغير إذا كان لدروس التطور أن تكون كاملة وذات معنى للطلاب. فنظرات داروين توفر لنا مرجعاً مهماً لإعطاء جواب عن "لغز الألغاز" العظيم ذاك: كيف يمكن لمجتمع أخلاقي أن يتطور من خلال الانتخاب الطبيعي. فالتطور، نقيضاً لافتراضات واسعة الانتشار، لا يؤدي إلى عدميّة أخلاقية. وقد ساعد داروين، بالفعل، في إلقاء ضوء على إرثنا، فاتحاً أمامنا حقلاً من البحث يُنتج دائماً وباستمرار نظراتٍ أعمق.
ـــــــــــــــــــــ
المراجع
* For news article on empathy in mice, see Ganguli (2006) below. On teaching in meerkats, see Milius (2006).
Allchin. D. (1999). Teaching Darwin seriously. The American Biology Teacher, 61(5), 350-55. Also available online at: http://ships.umn. edu/religion/ev-ethic.htm.
Allchin, D. (2005). Genes "R" us. Sacred Bovines. The American Biology Teacher, 67(4), 244-246.
Barrett, P., Gautrey, P.J., Herbert. S., Kohn D. & Smith. S. (1987). Charles Darwin s Notebooks (1836-1844). Ithaca, NY: Cornell University Press.
Bradie, M. (1994). The Secret Chain. Albany, NY: State University of New York Press.
Browne, J. (1996). Charles Darwin: Voyaging. Princeton, NJ: Princeton University Press.
Browne, J. (2003). Charles Darwin: The Power of Place. Princeton, NJ: Princeton University Press.
Clutton-Brock. T.H. & Parker. G.A. (1995). Punishment in animal societies. Nature, 37, 209-216.
Darwin. C. (1859). On the Origin of Species. London: John Murray.
Darwin. C. (1871). The Descent of Man. London: John Murray.
Darwin, C. (1872/1965). The Expression of the Emotions in Man and Animals. Chicago, IL: University of Chicago Press.
de Waal, F. (1996). Good Natured. Cambridge, MA: Harvard University Press.
de Waal, F. (2006). Primates and Philosophers: How Morality Evolved. Princeton. NJ: Princeton University Press.
Farber, P. (1994). The Temptations of Evolutionary. Ethics. Berkeley, CA: University of California Press.
Ganguli, I. (2006). Mice show evidence of empathy. The Scientist. Available online at: http://www.the-scientist.com/news/display/23764.
Hauser, M.D. (2006). Moral Minds. New York. NY: Ecco (Harper Collins).
Huxley, T.H. (1894/1989). Evolution and Ethics. Princeton, NJ: Princeton University Press.
Langford, D.J., Crager, S.E., Shehzad, Z., Smith. S.B., Sotocinal. S.G., Levenstadt, J.S., Chanda, M.L., Levitin, D.J. & Mogil, J.S. (2006). Social modulation of pain as evidence for empathy in mice. Science. 312, 1967-1970.
Milius. S. (2006). Live prey for dummies: Meerkats coach pups on hunting. Science News Online. Available online at: http://www.sciencenews.org/articles/20060715/fob3.asp.
Richards, R. (1987). Darwin and the Emergence of Evolutionary Theories of Mind and Behavior. Chicago, IL: University of Chicago Press.
Ridley, M. (1996). The Origins of Virtue. New York. NY: Penguin Books.
Rottschaefer, W.A. (1998). The Biology and Psychology of Moral Agent. Cambridge, UK: Cambridge University Press.
Ruse, M. (1986). Taking Darwin Seriously. New York, NY: Basil Blackwell.
Sober, E. & Wilson, D.S. (1998). Unto Others. Cambridge, MA: Harvard University Press.
Stent, G. (Editor). (1978). Morality as a Biological Phenomenon. Berkeley: University of California Press.
Thornton. A. & McAuliffe, K. (2006). Teaching in wild meerkats. Science, 313, 227-229.
Vogel, G. (2004). The evolution of the Golden Rule. Science, 303, 1128-1130.
Wright, R. (1994). The Moral Animal. New York, NY: Vintage Books.



#غازي_مسعود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فيروسات العقل
- حديث الله (2-2)
- حديث الله (1-2)
- ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة وا ...
- نقد ماركس للسماء ونقد الأرض
- مفهومان للعلمانية: دور الدين في المجتمع الأمريكي المعاصر
- العولمة والإمبراطورية
- بي بي سي: ماركس أعظم فيلسوف في التاريخ


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف بيّاض بليدا والراهب والرا ...
- الاحتلال يقيد وصول المسيحيين لكنيسة القيامة بالقدس في -سبت ا ...
- الجبهة اللبنانية واحتمالات الحرب الشاملة مع الاحتلال.. وقمة ...
- جامعة الدول العربية تشارك فى أعمال القمة الاسلامية بجامبيا
- البطريرك كيريل يهنئ المؤمنين الأرثوذكس بعيد قيامة المسيح
- اجعل أطفالك يمرحون… مع دخول الإجازة اضبط تردد قناة طيور الجن ...
- ما سبب الاختلاف بين الطوائف المسيحية في الاحتفال بعيد الفصح؟ ...
- الرئيس الصيني يؤكد استعداد بلاده لتعزيز التعاون مع الدول الإ ...
- الاحتلال يشدد إجراءات دخول المسيحيين إلى القدس لإحياء شعائر ...
- “أحلى أغاني البيبي الصغير” ضبط الآن تردد قناة طيور الجنة بيب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - غازي مسعود - هل كان داروين داروينيَّاً اجتماعيَّاً؟