أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمل جمعة - مات أبي















المزيد.....

مات أبي


أمل جمعة
(Amal Juma)


الحوار المتمدن-العدد: 3515 - 2011 / 10 / 13 - 14:19
المحور: الادب والفن
    


مات أبي ، مزحة ثقيلة لا تليق بالفكاهة ولا يكفيها الصراخ والدموع ، تساقطت ابتسامته من صورته المعلقة في صالون بيتنا/ ديوانه المحبب.
غاب أبي عن مقاعد بيتنا الخضراء ،صوته الواثق الحازم المرتفع دوماً كإعلان بجودة عالية/ متقن الإخراج بنبرة لا تحتمل اللحن/ دخان سجائره الذي لا ينقطع/غيمة عطر (الريف دور) الفرنسي عطره الأبدي بزجاجة شفافة وغطاء أخضر وسائل بلوّن الذهب .

مات أبي ، ألقوه في باحة منزلنا جثةً بادرةً كالثلج (لا يطيق البرد أبي)
كان رجل الساعة السادسة في صباح حارتنا النائم يعتلي برشاقة قط دراجته الهوائية ويمضي كل صباح إلى دكانه وسط سوق جنين التجاري، لسبب يخص حضوره الطاغي تربع أبي ثلاثين عاماً في التواء السوق يجاوره رفاقُ قدامى غارقين على الدوام بملابس كاكية وحطات الروزا الشهيرة ،كانت الكوفية لباس المزارعين كما يقول أبي ،أما حطة الروزا فهي الأكثر وجاهة بنظر البدو ، والشباب يلبسون الشماغ الأحمر المُهدب على شكل لثام وبعقال مائل بطبقتين يكاد يلمس زره الذهبي حاجب الرجل الغاوي.
كنت أراقبه للحظات قبل أن أفاجئه بحضوري وأنا أعبر سوقه بثقة فتاة (يبطن لها والدها الحب والإعجاب ) وتعلم ويعلم/ ولكنه يمارس سطوة الأب التقليدي ولا تفيض مشاعره إلا لماماً.
لماذا اعتزلتْ باكراً يا أبي؟ لا زالت قصصنا لم تكتمل وأجوبتك لم تصل.

مات أبي ،رجالُ يحملونه في عبوره الأخير لبيتنا (دائما فتح الباب بصخب ظاهر، بقامة مشدودة وسمار عميق وحذاء ضخم ،تلفه في الشتاء كوفية مرقطة وعقال أسود ،ويتنقل في الصيف بقمصانه الكاكية (بقايا رغبة دفينة ليكون قائداً عسكرياً ) وحلم توقف هناك قبل ستين عاماً في قريته الصغيرة الكُبارة قرب حيفا حينما صرخ بشيخ الكُتّاب وترك الدراسة.
بقي يكتبُ الأحرف متشابكة وينقط حروفه كطفل في صفوفه الأولى ،ويجمع ويطرح في سرعة البرق ،كنت أجاريه على آلة الحاسبة ويتفوق عليّ في جمع وطرح وقسمة أرقام كبيرة ومعقدة ، يضحك لجدارته ويزرع بي على نحو حاسم رغبته الدفينة غير المعلنة ليكون أستاذ رياضيات .
مرة واحدة أخبرني بحزنٍ وحسرة عن رفاق الكُتّاب الذين سافروا لإكمال تعليمهم في فرنسا لم يضحك حينها مرت سحابة من ندم خجول على محياه:"كانوا من قرية عاره وعرعرة شابين من عائلة يونس درسوا معي وطاروا بحظهم الوافر لفرنسا،أتذكرهم بصورة كاملة -وأكمل كمن يداري وجعه – كانوا في بحبوبة من العيش وليسوا بدوا رحلاً مثلنا".

مات أبي ، أراها بحزنها النبيل تبكي رفيق العمر وابن العم وتدور بمقلتيها الضعيفتين في حيطان البيت العارية تبحث عن عمرها ورفيقها مُسجى بصمت نهائي وأخير فوق البلاط البارد ،أمي تلك التي ألقمت التراب الكثير من أحبتها : والداً مشتتاً في ذهنها تذكر طوله الفارع وملامحه القاسية ،وتتجرع يتماً ذاقته وإخوتها بعد رحيله عام 48 ، وأما بكتها سنوات حتى عذلوها ،نامت بجانبها ليلة كاملة وهي جثة تنتظر صباحها لتغيب في التراب وتترك بنيتها الوحيدة/أمي.

كلما أشعلت النار بكتْ ، وكلما حركت الطعام فوق بابور الكاز النحاسي ماجت بشهقة عميقة، وكلما فردتْ ساقيها فوق لجّن الغسيل ووجدت فراغاً في باحة منزلنا غنّتْ.

مات أبي، ونحن مثل زغاليل حمام لم يتطاير زَغبٌها بعد، نصيح بفجيعة رجل الحضور الكامل وعاصفة حياتنا التي ما هدأت، اختطف من الوجود سبعين عاماً ونيف ،تقلبت يداه من مزارع يخضر الأرض لعامل بناء شديد الساعد ،يلوح على رأس صف الدبكة في أعراس مخيمنا فتنتشي النساء وتزغرد له :" اوايها يا بو شاكر يا عيني اوايها .....وأتطاول في مكاني فخراً وأقول في سري :" هذا أبي وأضمر في نفسي أمنية وقراراً سأختار رجلاً يدبك بمهارة أبي ويعطر الليل بضحكة صاخبة ولكنني أخاف أبي ....
أخاف شاربه المرتب في منطقة ضيقة بين أنفه وشفته العليا والجاهز ليكون في لحظة جزءً من صوته الغاضب إذا صرخ ،والمائل إذا ضحك، والفاضح لبقايا صحن الحمص الذي التهمة في رمضان متخفياً بمخزنه.

كان أبي رجلاً مترعاً بالصخب، في لحظات صفائه القليلة يغني مضطجعاً على ظهره مقطعاً لم أسمعْه في راديو أو تلفاز (يا ليلى خبريني يوم تكسي.يا ليلى لجيب لعرسك عشرين تكسي ) تتطاير صورة أبي وتتبعثر في مخليتي تمر دمعته النادرة كالبرق عندما تهدج صوته فألقم فمه سيجارة ودارّى وجعاً لا يليق بالرجال.

لم نفلح أنا وأبي أن نكون أباً وابنة كما نهوى ،نتحدث أكثر نسافر معاً نسير في الشارع ،وكم ركضت بعكس مساره وكم دفعني لأكون بقصد أو بلا حلمه المتسارع واجتاز قدر البدوي الذي لم تمنحه الحياة فرصة ليكون حلمه، تمهل قليلاً يا أبي لأكمل معك ما سقط مني ومنك.
مات أبي، ألقوه في باحة منزلنا جثة بادرة كالثلج (لا يطيق البرد أبي ) سيفاجئنا الرجل الحار جداً في مساء صيفي منثورين على السطح بعد انتهاء الفيلم العربي على التلفزيون الإسرائيلي :"ليش بعدكن مش جاهزات أنا بستناش حدا"، وأمي تؤخره قليلاً :"خذ البنات معك خواتك ما برضن يوخذنهن على العرس ".
كان للذهاب مع أبي للإعراس مذاقاً خاصاً (فنحن ثلاث بنات) وذكره الوحيد معوق جليس بيت، ندخل معه مجلس الرجال ونشرب القهوة السادة ويقدمنا أبي بالاسم ويقولون له مازحين عنّي :"هاي شكلك جبتها بعد ألمانيا" مشيرين للون بشرتي الفاتح قليلاً مقارنة بشقيقاتي ،يضحك أبي وتنفتح سيرة لا تنتهي وطرائف عن البلاد الأوروبية - في الستينات سافرت أعداد هائلة من بدو التركمان لألمانيا وبالكاد تجد بدوياً في عمر أبي لم يخض هذه التجربة أبي كان أكثرهم انبهاراً بالتجربة وحنيناً للعودة هناك .
لحظات ويبدأ الرجال بالاصطفاف للدبكة (الصغار أولا ثم الشباب وبعدها ينزل المحترفون أمثال أبي (لم أره في حياتي كلها إلا على طرف الصف ملوحاً وضاحكاً وعندما ينتشي تماماً ينفلت ويدور وسط الحلقة ).

لماذا اعتزلت باكراً يا أبي ؟ .
هل كنت تفضل أن أكون ولداً ؟ لقد غضبت يوم مولدي، أحياناً يغضبه السؤال ويقول:"لا أمك والداية وعماتك وجدتك غضبوا" ويبدأ جداله وأمي غير المنتهي ،يفرطون سيرة العائلة كلها وقصص مولد كل فرد بنا حتى أصبحنا نكاد نراه كفيلم سينمائي لشدة ما تتذكر أمي تفاصيل ومناكفات عائلة جدي ،نحن نهرب لمشاهدة التلفاز .
سيفقد أبي لاحقا ً ضحكته المُحببة، و سينزف أنفي لساعات وينقط الدم ملوثاً صحن الأرز بالحليب أمامي ،لاحقاً سيقيم الصمت بيننا (أنا وهو ) وسأرحل من أحلامه،وسيرث أبي عصا والده الغليظة،بعد سنوات سيرزق أبي بطفله الذكر (السليم)وسيفقده بعد ثمانية اشهر، ويرزق بطفل أخر صامت(تتكرر الإعاقة) وسيصب أبي لعناته على رحم أمي ويهددها بالزواج من أخرى لم يعطب رحمها بعد،سيموت شقيقي الأكبر شاكر ونحسبه نائماً أنا وشقيقتي بينما كان يحمل أبي وأمي شقيقي الأوسط (المعاق)لدجال يمنعهم من أكل السمك وحضور مراسيم الموتى وأكل طعامهم ..ستأتي أمي وتفجع برحيل بكرها وسأكتشف كيف يموت الصامتون(بجلال كبير وأقدام مرخية لم تلبسْ حذاءً ولم تخطُ خارج عتبة البيت ،سأرى سرباً من الحمام يحوم فوق بيتنا،وسألوّن لوحة عازف الكمنجا على الحائط بلون أسود وأسميه شاكر وألقي عليه التحية كل صباح ،وسيبتسم لي).

لاحقاً سأتعارك كثيراً مع أبي، وسأدخل لسنوات أربع في إضراب شجاع ألتهم خلاله مكتبة جنين العامة وكل كتاب في طريقي، ستمضي سنوات كثيرة قبل أن يشد أبي على يدي وأحدق بوجهه ومفعول العلاج الكيماوي يسري بدمه وأنا وإياه وحيدين على سرير أبيض في مشفى بعيد صامتيْن ،أتوسل ليبقى ويقاوم ،ويعدني بالبقاء ويحيّا لزمنٍ مفترض لأرتب وإياه سيرتنا المشتركة على نحو أجمل ،يمنحه الأمل أحد عشر عاماً لاحقة ،أرتقُ وإياه بعضاً مما فاتنا (كأب وابنة) يفيض دمه على السرير ،وأشهق وينجو أبي بأعجوبة..وأنجو
مات أبي، مات أبي مات أبي.....لا يكتملُ نصّه أبداً، أكتب وأكتب وأكتب ولا أصدق أبداً رحيل أبي.
1/10/2011



#أمل_جمعة (هاشتاغ)       Amal_Juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كوابيس بأخطاء نحوية فادحة
- في صباح حار
- أرتجلُ الحب
- كأنها قلادة من الماس
- إعتزال
- سِر الغَجرية
- تلك الأشياء الصغيرة
- الذي لا يأتي
- ندم الخميس
- الطائرة ألقت بكومة رسائلي
- نص - مملكة اليمامات
- الخوف


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمل جمعة - مات أبي