أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - عبدالباسط سيدا - تغييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي - أهمية الاعتراف بالواقع في تنوعه















المزيد.....


تغييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي - أهمية الاعتراف بالواقع في تنوعه


عبدالباسط سيدا

الحوار المتمدن-العدد: 1018 - 2004 / 11 / 15 - 08:23
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


إن الإشكالية المحورية التي تعاني منها مجتمعاتنا تتمثّل في محاولة الغاء الآخر فيزيائيا أو اعلاميا إن أمكن، وإلا فذهنيا وذلك أضعف الايمان. ومن الملاحظ أن هذا الموقف المهيمن على مختلف التيارات سواء القومية منها أو الدينية أو السياسية يتماهى مع المثالية الذاتية، وهي التي تقر فقط بمشروعية الواقع الموجود في ذهن الذات العارفة، وليس ذاك المفعم بالتنوع والتباين والتناقض الذي يستمد وجوده من محدداته هو، لا من تأملات الذات أو رغباتها. وهذه الإشكالية قديمة- جديدة في تاريخ منطقتنا، بل كانت - وما زالت – تفعل فعلها في مناطق أخرى من العالم حيث تسببت في تبديد الطاقات، واشعال نار الحروب سواء الاقليمية منها أو الداخلية، هذه الحروب التي تعصف بين الحين والآخر بحياة الالاف من الناس من دون باعث معقول.

إننا اذا عدنا إلى التاريخ القديم للمنطقة، سنجد أن الحروب العديدة التي شهدتها بلاد مابين النهرين وسورية وأسيا الصغرى، فضلا عن بلاد فارس وحتى مصر، كان مردها المشترك هو سعي مجموعة اقوامية من أجل بناء مجدها وقوتها على حساب الآخرين. وكانت الحصيلة باستمرار الخراب والدمار والدماء، الأمر الذي قطع الطريق على أي تراكم حقيقي للمعارف والخبرات ما زالت منطقتنا بأمس الحاجة إليه. ( هذه مسألة أخرى لن نتناولها هنا بمزيد من التفصيل على الرغم من أهميتها القصوى). والمنطقة - كما نعلم – لم تكن تعاني في المراحل المشار اليها - أي قبل الميلاد بعشرات القرون - من تدخلات خارجية حتى نفسر الموضوع برمته استنادا إليها. بل كانت تتصارع عبر قواها الاقليمية التي كانت تريد فرض منطقها على الآخرين، بصرف النظر عن طبيعة هذا الأخير الذي كان يتمثّل دينيا أو أقواميا أو ثقافيا.....الخ

لكن تاريخ المنطقة لايُختزل بالحروب والصراعات وحدها، إذ أنها شهدت في مراحل لاحقة ازدهارا عاما امتدت نتائجه إلى مختلف الميادين. ونشير هنا على سبيل المثال إلى ما تحقق في المرحلة العباسية التي عرفت - على الرغم من بعض المثالب – تمازجا حضاريا بين مختلف الأقوام التي كانت منضوية تحت لواء الدولة الواسعة. ويمكننا في هذا السياق أن نشير أيضاً إلى ما كان قد تحقق قبل ذلك في ظل الامبراطورية الرومانية، وربما إلى حد ما في المراحل الاولى من الامبراطورية العثمانية لاحقاً. ونحن إذا بحثنا في الأسباب التي أدت إلى انهيار النماذج الثلاثة ( الروماني، العباسي، العثماني)، سيتبين لنا أن العامل الأهم من بين جملة عوامل أخرى كثيرة أدت إلى التداعي والسقوط، يتشخص في محاولات الغاء خصوصية الآخر والهيمنة عليه عبرفرض اللون الواحد. بصرف النظر عن طبيعة هذا الأخير.

غير أن مسألة تأصل الصراعات والخلافات لم تكن مقتصرة على منطقتنا وحدها إذا شئنا أن نكون منصفين موضوعيين. بل لقد عانت منها مختلف بقاع العالم وما زالت تعاني منها كما أسلفنا. فأوربا على سبيل المثال، واجهت عبر تاريخها الطويل صراعات متلاحقة، بلغت أوجها في القرون الآربعة أو الخمسة الأخيرة. اذ تداخلت العوامل القومية مع الدينية، بالاضافة إلى تلك التي استلزمتها الوضعية الانتقالية التي توسطت مابين النظامين الاقطاعي والرأسمالي، وأدت إلى نشوب حروب دامية تسببت في الدمار والمآسي. لكن الذي حصل لاحقا هو أن الاوربيين أدركوا بعد تجاربهم المريرة المضنية أن المدخل الأساس لبناء علاقات سليمة مع مكوّنات الداخل يتشخّص في الاقرار بوجود الآخر، والاعتراف بخصوصيته وحقوقه. هذا على الرغم من جملة نواقص هنا أو هناك. واليوم نرى أن الاتحاد الاوربي يضم 25 دولة تضم قوميات يتجاوز عددها أكثر من 50، تتباين على مستوى اللغة والثقافة والتاريخ والمذاهب الدينية. لكن القاسم المشترك الذي يجمع بينها هو اقرارها بحقوق الآخر على قدم المساواة ضمن سياق القواعد المتفق عليها ، وهي القواعد التي تنظم العلاقات وتركّز الطاقات من أجل بلوغ الأهداف التي تجسّد التطلعات العامة.

لقد تمكنت الامم الاوربية من انجاز امور أساسية مازالت تبدو في منظورنا في عداد التمنيات المستحيلة. لقد تفرغت من المسألة القومية عبر الاقرار بوجود وحقوق سائر القوميات التي تضمها دولها من دون استثناء. كما انها قد تجاوزت المعالجات الخاطئة للمسألة الدينية، وذلك باعتماد العلمانية التي قضت بالفصل بين المؤسستين السياسية والدينية، الأمر الذي انعكست آثاره ايجابيا على واقع المؤسستين المعنيتين تحديدا، وعلى المجتمع بصورة أشمل. والعلمانية لم تؤد في اوربا - كما يزعم العديد من خصومها في منطقتنا – إلى الالحاد، بل على النقيض من ذلك كان الاقبال على الدين من قبل جموع واسعة من الناس انطلاقا من حريتها، بعيدا عن أي قسر أو اكراه. كما ان المذاهب الدينية باسرها التي تضمها المسيحية وجدت متنفسا طيبا لها، وهي تمارس نشاطها الديني والتبشيري في إطار القوانين التي تحددها البرلمانات، وتنفذها الحكومات، وتراقبها السلطات القضائية التي تتدخل لدى الحاجة. والحرية الدينية المتاحة للجميع لاتقتصر على المسيحية وحدها في اوربا، بل تشمل اتباع سائر الديانات الاخرى السماوية وغيرها، المعروفة منها والمجهولة. ولعلّنا لانذيع سراً إذا قلنا ان الحرية التي تتمتع بها الجماعات والمذاهب الاسلامية في اوربا هي أوسع بكثير من تلك التي تحظى بها في الديار الاسلامية نفسها. ومع ذلك تشكو وتتململ، وتدعو إلى الجهاد ضد ’’الكفرة’’ الذين أنصفوها أكثر بما لايقارن من ابناء جلدتها أو اخوتها قي الدين. ففي هذه البلدان لايمكن للمرء أن يتخيّل مجرد الخيال وجود قانون يعاقب بالاعدام لمجرد الانتماء السياسي، مهما كانت طبيعة ذلك الانتماء. في حين أن قانون 49 مازال السيف المسلّط على رقاب أجيال من الاسلاميين في سورية، من دون أن يتبادر إلى خلد المطالبين بمحاكمة عادلة لدكتاتور العراق بضروة التوقف عند هذا الموضوع، والمطالبة بالكف عن الظلم غير المسوّغ .

إن الاتحاد الأوربي الذي يمثّل نواة أوربا القوية القادمة يعتمد اليوم وحدة نقدية مشتركة، ويلتزم سياسات متضافرة في كافة الميادين من سياسية وعسكرية وثقافية وقضائية واقتصادية واجتماعية.... وغيرها. وقد وقّع أعضاؤه مؤخرا على الدستور المشترك. كما أن هذا الاتحاد يسعى باستمرار من أجل تحقيق المزيد من الانجازات لصالح شعوبه. وأداته الأساسية في كل ذلك تتمثّل في الذهنية الابداعية التي تستوعب سائر الطاقات بتمايزاتها الكثيرة. وتعمل من أجل تبادل الخبرات والمعارف الجديدة، فضلا عن الاستفادة من تلك القديمة المتراكمة التي تجسّد حصيلة قرون من الجهد المعرفي المنظم. أما الأمر الطريف الذي يثير السخرية والحزن في الوقت نفسه، فهو ما نسمعه هنا وهناك من قبل بعض المسؤولين السياسيين في منطقتنا، وحتى من قبل بعض مثقفي السلطان حول مشاريع أو مزاعم تدعو إلى محاكاة المراحل الأكثر رقياً في النموذج الاوربي، وذلك من دون أن يتبادر إلى أذهان هؤلاء أن ما تشهده أوربا راهنا يجسّد ثمرة نجاحات كبرى تم بلوغها بفعل جهود مضنية لم تكن بمنأى عن العذابات المريرة؛ في حين أن ساحاتنا لم تشهد سوى الاخفاقات. كما أن مفهوم الدولة يتماهى في منظور الناس عندنا مع مفاهيم التسلط والقمع والاستحواذ والفساد والافساد، فضلا عن التبديد والسرقات والرشاوى ...........والقائمة طويلة.

إن نظرية حرق المراحل لم تثبت واقعيتها في أي مجتمع من المجتمعات. فالتطور اللارأسمالي الذي طالما بشّر به المنظرون السوفييت، وتلقفه المريدون عندنا، اسفر عن كيانات هجينة تتحكم بها المؤسسة السياسية عبر امرائها غير المرئيين في الأجهزة الأمنية وأبناء الأسر الحاكمة. بل اننا اذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك، سنصل إلى نتيجة فحواها أن فكرة الرفيق لينين نفسه بخصوص امكانية انتصار الثورة الاشتراكية في الحلقة الرأسمالية الأضعف، كانت متناقضة في الأساس مع الفكرة المحورية في المشروع الماركسي بخصوص تطور المجتمعات؛ ونعني بها فكرة التناقض بين أدوات الانتاج وعلاقات الانتاج. فبوجب ماركس، لايمكن الانتقال من مرحلة محددة من التطور إلى غيرها ما لم تستنفذ الاولى كل امكانيات التقدم في اطار العلاقات الاجتماعية السائدة. لكن الذي حصل في روسيا كان النقيض تماما، إذ كانت المرحلة الانتقالية في بداياتها، ولم يكن النظام الرأسمالي قد تاصل في المجتمع. ولعل الانهيار المدوي الذي شهده المعسكر الاشتراكي، ونتائجه المتفاعلة حتى يومنا هذا، يدفعنا جميعا نحو التأمل، واعادة ترتيب الأفكار بعيدا عن القوالب الجامدة، والنزعات الصوفية المنغلقة على ذواتها، المصرة على صدقية أفكارها الذاتية بمعزل عن الواقع.... لن نسترسل طويلا في هذا الموضوع على الرغم من أهميته، لان ذلك قد يدفعنا إلى مماحكات نظرية طويلة، تبعدنا عن موضوعنا الأصلي. لذلك نعود لنؤكد مجددا أن نظرية حرق المراحل، أو القفز من مرحلة إلى أخرى من دون انجاز المهام التي تمهد وتؤدي إلى المرحلة الجديدة، لم تثبت واقعيتها ونجاحها، بل كانت باستمرار عكازة تستخدم للتهرّب من الاستحقاقات، أو لتفسير عجز بنيوي لايمكّن من مواجهة التحدّيات. وما يسوّق اليوم من قبل بعض الرسميين ومثقفيهم حول امكانية تجاوز حل المشكلة القومية أو الدينية، من خلال العمل على انجاز المهام التي تتصدّى لها اليوم مجتمعات تفصل بيننا وبينها أرقام فلكية من سنين التطور، انما هو في حقيقة الأمر أداة تسويغية تستهدف تأجيل عملية البت في ملفات الفساد، وترمي إلى تأبيد حالة الركود المتكلس التي تسود مجتمعاتنا... والتدقيق الأولي في الموضوع من جوانبه المختلفة، يبين أن العلاقة التي تربط بين الوضعية المترهلة التي نعاني منها والادارة السياسية التي تسيّر الامور، هي علاقة متضايفة بنيوية يستمد أحد طرفيها وجوده من الآخر. إن الحدود المستقيمة التي تفصل اليوم بين الدول العربية هي تلك الاستعمارية الي أقرتها اتفاقية سايكس - بيكو وملاحقها، بالاضافة إلى التعديلات التي اقتضتها تطورات الأحداث بعد الحرب العالمية الاولى. وهي حدود اعتباطية أفرزتها الذهنية المصلحية التي لم تعط أي اعتبار لحقوق وتطلعات شعوب المنطقة، سواء العربية منها أو الكردية أو غيرها.

والأمر اللافت للنظر هنا، هو أن الأنظمة المحلية العربية الوليدة التي تسلمت مقاليد السلطة في الكيانات المستجدة، تعاملت مع الشعوب والأقليات الأخرى غير العربية وفق الاسلوب عينه الذي رفضته بالنسبة إلى ذاتها، وقاتلت ضده. وهو اسلوب نفي الآخر، وطمس هويته الثقافية، وعدم الإعتراف بوجوده وحقوقه، واجباره على القبول بعملية الصهر التعسفي. هذا في حين أن المصالح الوطنية للكيانات المعنية كانت تقتضي تحقيق صيغة متقدمة من التآلف والانسجام، فضلاُ عن التكامل بين مكوّنات الدول الناشئة، وذلك كي تكون حصينة أمام التدخلات الخارجية مستقبلاً، وقادرة من ناحية ثانية على التفرغ لمهام النهوض والتنمية.

وما اسهم في تعقيد الأوضاع بصورة أكبر، هو ما تمثّل في تلك المقاربات القومية العصبوية التي استلهمت أفكارها من حركات اوربية أدت ممارساتها إلى الكوارث والمآسي، وذلك سواء بالنسبة إلى شعوبها أو بالنسبة إلى البشرية باسرها. ويُشار في هذا السياق بصورة خاصة إلى كل من النازية والفاشية.
والمثال الذي يفرض ذاته هنا أكثر من غيره هو حزب البعث العربي الاشتراكي، نظراً لكونه الحركة القومية الأهم في التاريخ العربي المعاصر. وما يمنحه هذه الصفة هو تمكّنه من استلام الحكم في كل من سورية والعراق، الأمر الذي جعله موضع استقطاب جماهيري؛ خاصة على صعيد دغدغة الأحلام الكبرى من توحيد وتحرير وتحقيق للاشتراكية. وقد بلغت الايديولوجية القومية ذروتها الاستعلائية لدى البعث مع نفيه لوجود كل القوميات والأقليات التي الحقت أرضاً وشعباً - نتيجة الاتفاقيات الاستعمارية التي يتذمر منها الجميع - بالدول العربية المعروفة بحدودها الراهنة. حتى أن المادة العشرين من دستور هذا الحزب تنص على أن الحقوق تمنح لكل من أرتضى بعملية الصهر القومي وفق التصور البعثي. وكل من يتمرد على ذلك يطرد أو يُجلى عن الوطن العربي بموجب التحديد البعثي لهذا الأخير، وذلك بناء على المادة الحادية عشرة من الدستور نفسه الذي وضعه البعث لنفسه، انطلاقا من نوازع ذاتية، لاتنسجم بأي حال من الأحوال مع المعطيات الجغرافية والتاريخية، والمقاييس المتعارف عليها لدى جموع الباحثين في مثل هذه القضايا.

وبناء على هذا التوجه غير العلمي أقدم حزب البعث بتحليلاته النظرية وممارساته العملية على وصم كل الحركات الأخرى الداعية إلى ضرورة احترام واقع التباين، والاعتراف بالحقوق الطبيعية للشعوب والأقليات، سواء القومية منها أو المذهبية، بالتمرد والانفصال والخيانة والارتباط مع الخارج. هذا في حين أن واقع التقسيم بين الدول العربية ذاتها لم يكن موضع انتقاد البعث إلا في إطار ضبابي عام، تلاشى هو الآخر لاحقا انسجاما مع مستلزمات المصلحة، ومقتضيات الاستمرارية. بل ان الأمر قد وصل - كما هو معروف لدى الجميع - بالبعث السوري إلى المشاركة مع الخارج الأمريكي تحديدا - وليس غيره - بقوات عسكرية، كان هدفها المعلن اخراج البعث العراقي من الكويت التي كانت في منظور البعثيين من الطرفين" مجرد مشروع استعماري يستهدف خيرات المنطقة، وتهديد أمنها الاستراتيجي".

ولكن إذا كانت المسألة تخص الكرد أو الأمازيغ أو سكان دارفور والأقباط وغيرهم.. فحينئذ تثور ثائرة البعث، وتُطلق سائر النعوت السلبية جزافاً. وتتهالى الشعارات من كل حدب وصوب بغية تعبئة الناس في مواجهة خطرمزعوم، الأمر الذي يبيح - وفق منظر البعث الايهامي التضليلي - ارجاء سائر المهمات، واستباحة كل التجاوزات، طالما أن الوحدة القسرية مهددة. وحدة هشة تفرض بالقوة عبر أجهزة أمنية، لاحصر لأعدادها ومهامها، فضلاً عن نفقاتها. اجهزة تعصر الأوطان وأهلها إلى حد العظم، وتتصارع فيما بينها لتحقيق المزيد من المكاسب الذاتية الأنانية لأقطاب لاسقف لنوازعهم ونزواتهم المتنافية مع الحد الأدنى من ضرورات العيش الكريم للناس؛ هؤلاء الذين يُطلب منهم أن يكونوا مجرد مرددين مهللين، يطمعون في النعم الفتات التي قد تُغدق عليهم من قبل "المؤلهين" المبجلين من أصحاب السيادة والسلطان.

تقول حكمة قديمة: إن الانسان عدو ما يجهل. وذلك بفعل الرغبة في الاستمرار وفق الأطر المألوفة، والتوجّس من أي تغيير قد لاتكون تبعاته مطمئنة أو مشجعة. ولكن في حالات معينة لايكتفي المرء بجهله، بل يعمّقه بأحكام مسبقة، تفصح عن الدخائل المنغلقة على ذواتها، وتزيد من حدة التخاصم العبثي المبدّد للطاقات. إن وضعية كهذه هي التي تسود القسم الأكبر من السياسيين والاعلاميين العرب الذين يتناولون المسألة الكردية بين الحين والآخر في نتاجاتهم ووسائلهم ، وذلك سواء المكتوبة منها أو المنطوقة. فالعلامة الفارقة التي تميز مواقف هؤلاء بخصوص المسألة المعنية تفصح عن ذاتها عبر ضعف مستوى المامها بطبيعة ما تبحث فيه، وتقدّم حوله من وجهات نظر وحيدة الاتجاه ضحلة المستويات. وجهات تكتفي بشذرات مقتطعة من سياقها، تمارس معها شتى ضروب التحوير والتقويل. وذلك بهدف طمس معالم الجغرافيا، والتهرّب من مواجهة الوجود الواقعي. إن هؤلاء بدلا من الاطلاع على الوقائع من مصادرها، وعوضاً عن اتباع منهج المعاينة والمعايشة والمتابعة، يكتفون بمزاعم ساقها أحدهم جزافاُ، لتغدو خلفية لتحليلات تفتقر ملكة التحليل. وتأسيسات من دون أسس. الأمر الذي يضيف عقداُ جديدة إلى تلك القديمة التي ما زالت تنتظر الحل.....

إن التنوع الثقافي الحضاري هو القاعدة بالنسبة إلى منطقتنا، وهو يعكس واقع تعددية العناصر التي يقوم بها ومن أجلها النسيج الوطني الاجتماعي. في حين أن جهود النفي والإلغاء هي التي تصارع تيار الحياة الدافق، وتخالف كل أوجه الحق بسعيها من أجل تطويع الواقع الحيوي ليطابق قصور الحسابات الذاتية، التي تعاني من تناقضات داخلية تسلبها القوة والمصداقية.....

وليس بعيداُ عن هذا السياق، يجري الحديث أحيانا عن اخفاق المشروع القومي شأنه في ذلك شأن المشروع اليساري، الماركسي تحديداً في الساحة العربية، وهذا ما يستوجب وفق منظور بعضهم اعتماد المشروع الاسلامي. وهكذا تتوالى الأفكار والاطروحات في إطار منطق النفي والالغاء ذاته، الأمر الذي كان الباعث الدائم على الدوران في حدود الدائرة السحرية عينها التي لا انفكاك من إسارها بموجب الآليات المتبناة. هذا في حين أن مغالطة التضحية بالكل على مذبح الجزء كانت وما زالت حجر الزاوية في جملة المقاربات والممارسات التي تحدد أبعاد اللوحة السياسية عندنا بامتداداتها النخبوية والشعبية. إن الأمر الغريب حقاً في كل ما يقدم ويناقش هو غياب المشروع الوطني، هذا المشروع الذي يُعد بمثابة الحاضنة الأم لجملة مشاريع فرعية من شأنها ابراز الخصوصيات في اطار العام الذي لايعدّ مجرد مجموع حسابي للمكونات التي يقوم بها، وانما يجسّد إلى جانب ذلك حالة التفاعل الخلاق بين المكونات المعنية، الأمر الذي من شأنه في حال بلوغه تهيئة الأرضية الموضوعية لمعالجة مختلف المشكلات، خاصة تلك المزمنة المستعصية.

إن عملية الاقرار بالواقع الفعلي في تنوعه الأصيل لن تهدد الوحدة الوطنية بشيء، ولن تكون عرّابة مشاريع الاستعمار والتآمر كما يحلو لبعضهم اجتراره تباعاً، بل ستكون الخطوة الأهم في الطريق الصحيح. فالمكوّنات القومية والدينية التي تضمها الحدود السياسية للدول العربية راهناً هي واقع قائم مهما تفننّ الاعلام العربي سواء الرسمي منه أو الخاص لنفيه أو تجاهله أو القفز من فوقه. بل ان أي فعل من هذا القبيل سيكون مآله - كما كان دائماً- التوتر والتشنج والتشدد. إن الاعتراف بالوجود الكردي والأمازيغي والقبطي والنوبي .....الخ أمر يتوافق مع طبائع الأمور، وينسجم مع التوجهات الراغبة فعلاً في تجاوز الأزمات المتواصلة، وتمهيد السبل من أجل تنمية حقيقية شمولية، تكون بإرادة الجميع ولخير الجميع.

أما سياسية "لماذا في هذا الوقت بالذات؟" التي توزع التهم جزافاً من دون أي تدقيق أو تمحيص. وتردد بطريقة ببغاوية مزاعم الدوائر الرسمية التي تدافع عن وجودها السلطوي ، تلك المزاعم التي تتمحور حول ادعاءات الاستهداف والمؤامرة والخطط المعادية وغيرها؛ ان سياسة من هذا القبيل لن تؤدي إلا إلى المزيد من التعمية وتأبيد المأزوم، وهذا ما تستفيد منه المؤسسة الرسمية، وتوظّفه في تعاملها مع الداخل لتطويعه، ومع الخارج لرفع سقف الصفقة.



#عبدالباسط_سيدا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تفييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي
- تغيييب الوعي وأسطرة المزيف في الإعلام العربي - شرعنة الإرهاب
- تغييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي
- تغييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي - 1
- الإعلام العربي: واقع... وآفاق
- لنتضامن مع الدكتور الشهم عارف دليلة وسائر النبلاء


المزيد.....




- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...
- جهاز كشف الكذب وإجابة -ولي عهد السعودية-.. رد أحد أشهر لاعبي ...
- السعودية.. فيديو ادعاء فتاة تعرضها لتهديد وضرب في الرياض يثي ...
- قيادي في حماس يوضح لـCNN موقف الحركة بشأن -نزع السلاح مقابل ...
- -يسرقون بيوت الله-.. غضب في السعودية بعد اكتشاف اختلاسات في ...
- -تايمز أوف إسرائيل-: تل أبيب مستعدة لتغيير مطلبها للإفراج عن ...
- الحرب الإسرائيلية على غزة في يومها الـ203.. تحذيرات عربية ود ...
- -بلومبيرغ-: السعودية تستعد لاستضافة اجتماع لمناقشة مستقبل غز ...
- هل تشيخ المجتمعات وتصبح عرضة للانهيار بمرور الوقت؟


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - عبدالباسط سيدا - تغييب الوعي وأسطرة المزيف في الاعلام العربي - أهمية الاعتراف بالواقع في تنوعه