أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - أبو طبر















المزيد.....

أبو طبر


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 1012 - 2004 / 11 / 9 - 07:50
المحور: الادب والفن
    


حكاية شعبية عراقية
أسوة بغيرها من مدن البلاد، نفضت مدينتنا الصغيرة عن نفسها بقايا الكابوس الذي ارعب الجميع، وبث الذعر في صفوف الناس الآمنين. فلم تمض سوي ايام منذ ان القت السلطات القبض علي عصابة السفاحين، الذين روعوا البلاد بجرائمهم الغامضة، المتوالية، البشعة، التي استهدفت بشرا وادعين ذهبوا ضحايا لنوازع شريرة اجتاحت العاصمة، وسرت اخبارها المرعبة في جميع البقاع.
بدأت وقائع الموت عندما عثرت الشرطة علي عائلة قتيلة، تلتها اخرى، ثم اخرى، واخريات. وحينما شاع الخبر شاع الذعر بين الناس، وحينما تأكدت السلطات ان القاتل، او القتلة، يمتلكون الاسلوب نفسه، ويستخدمون الوسائل عينها، اصبح الذعر غذاء يوميا للسكان. وعندما كشفت السلطات للناس ان المجرم استخدم سلاحا واحدا في جرائمه هو (الطبر)، وهو نوع من الفؤوس الحادة، يوجهها المجرم نحو رؤوس الضحايا، اصبح (ابو طبر) شبحا مرعبا يجوب البلاد من اقصاها الي ادناها.
وعلي الرغم من ان حوادث القتل لم تتجاوز كثيرا محيط العاصمة، الا ان ذلك لم يمنع الناس في اعالي الجبال من ان يروا (ابو طبر) يجوس في الظلمة بزي الاكراد، ويختفي في احد الشعاب الجبلية، وفي الاهوار انطلقت غير مرة صرخات مذعورة لبشر رأوا بأم اعينهم (ابوطبر) يمر خلسة في قارب من البردي! وقد عبرت تلك الصرخات الوهاد والسهول والجبال لتتحول الي اقاصيص وحكايات تقوي من جرثومة الخوف في نفوس الناس. ففي هدوء الليل وسكينته اضحي امرا مألوفا ان تستيقظ طفلة حالمة او امرأة خائفة وربما رجل مس الذعر اعماقه، فيجدون (ابوطبر) يقف فوق رؤوسهم، رغم انهم ينامون بين افراد عوائلهم المتعددة الأنفس، وسط بيوت متقاربة الاسطح، متلاسقة الجدران. رغم ذلك تنطلق الصرخة المنفلتة من عقالها لتدوي في الفضاء المشحون بالخوف، فتتبعها صرخة ثانية وثالثة ورابعة ويتحول الفضاء الي نسيج مرعب من الصرخات.. وحينما يحل الصباح تكون الالسن دائما جاهزة ومستعدة لوصف المعركة الرهيبة التي دارت في غير موقع بين (ابوطبر) وضحاياه الحقيقيين او الوهميين.
ولم يتنفس الناس الصعداء الا بعد ان اعلنت السلطات عن خبر يفيد بالقائها القبض علي تلك العصابة الآثمة، التي قيل انها لم تكن سوي مجموعة ضالة من البشر الفقراء، الذين تطوق بيوتهم ضواحي العاصمة، والذين يعملون خدما في البيوت.. ومن المؤكد انهم كانوا يستخدمون خبراتهم في هذا الجانب، لغرض دراسة ورصد ومهاجمة الضحايا وكانت وسيلتهم في القتل، هي الطبر علي الاغلب.
ـ لماذا الطبر، وليس غيره من الوسائل؟
سأل غازي الاعور، الذي فقد مصدر رزقه بسبب (ابوطبر), فمن سوء حظه انه كان يحمل وشما يفتخر به امام الجميع ويدعي انه صنعه كدليل علي رجولته، وكان الوشم علي هيئة طبر. وحينما قامت قيامة (ابوطبر). جر غازي الي مركز الشرطة غير مرة للتحقيق، وتوجس فيه شرا صاحب الفندق الذي يعمل فيه، لا لعلاقته بـ(ابوطبر) وانما لانه اعترف في التحقيق الذي اجري معه انه عمل هذا الوشم في السجن، حينما اودع نتيجة تهمة باطلة خبيثة اتهمه بها بعض الجبناء، مدعين انهم شاهدوه يعتدي جنسيا علي بقرة جيرانهم، الذين كادوا يموتون جوعا بعد ان كف الناس عن شراء اللبن منهم.
ـ لماذا الطبر، ها! قولوا لماذا الطبر؟
كرر غازي يسأل الناس الخائفين، وهو يتصنع صورة العالم بالامور، فأجاب الحاضرون:
ـ وما ادرانا! هل تعرف انت لماذا؟
ـ لا.
اجاب غازي واضاف وهو يرتعش من شدة الانفعال: لو كنت اعرف لما سألتكم يا بقر!
بهذه الطريقة البسيطة بدأ الناس يتحدثون عن موضوع (ابوطبر), الذي كان حتي نهار الامس يبعث في نفوسهم الرعب. وشيئا فشيئا بدا الناس يستعيدون هدوءهم المفقود، وبدأت الحياة تعود تدريجيا الي وقعها المألوف، فعاد الناس يتحدثون عن قصص جديدة, عن الذين يتزوجون ويطلقون، وعن الذين يولدون ويموتون، وعن الرابحين والخاسرين، وكاد الحديث عن اهوال (ابوطبر) وعظائمه ينقطع. وفي الاحوال الاعتيادية التي كان يجري فيها الحديث عن (ابوطبر) اخذ الحديث يكتسب طابعا غريبا لم يألفه الناس من قبل. فحينما كان ابو طبر طليقا، يمارس هواية القتل والذبح، اعتاد الناس، يوميا، على صناعة وتأليف العشرات من القصص المضحكة، والفكاهات والنوادر المسلية حول جرائم (ابوطبر) ومخاوف الاهالي منها. فالناس مثلا لم يتورعوا حتي عن اتهام حميد بن المختار بجرائم (ابو طبر). والسبب في ذلك اهتمام حميد الخاص بأخبار (ابوطبر). فقد كان يقرأ الجرائد المطبوعة في البلاد كلها، ويتابع فيها فقط ما ينشر عن (ابوطبر)، ويقوم بعد ذلك بتحليلها علي طريقته الخاصة، كخبير في الشؤون الجنائية، نظرا للخبرة الكبيرة التي يمتلكها. وامر خبرته الجنائية شأن معروف ومؤكد فهو احد الطلاب الذين تقدموا الي كلية الشرطة، بعد نجاحه في الثانوية العامة وكاد ان ينجح في اختبار القبول لسلك ضباط الشرطة, لولا انه فشل في فحص القدم. حيث اتضح ان قدمه مسطحة، وهو امر يسيء الي مباديء الشرطة الوطنية، كما هو معروف ومؤكد. علي اية حال، فقد اتهم حميد اتهامات باطلة، بسبب ميوله القانونية تلك، المعادية لـ(ابوطبر). ولا بد هنا من الاعتراف ببعض محاسن حميد العلمية، فمن المعروف والمؤكد ان حميد هو اول من اشاع ـ في مدينتنا ـ الخبر السري الذي توصل اليه الخبير الجنائي الاجنبي, الذي استعانت به الدولة بعد ان توالت حوادث (ابوطبر). وكان الخبير قد افلح في تصوير وجه (ابوطبر), حيث وجد بقايا صورة الوجه مزروعة في حدقة عين احد القتلى. وكان رأيه ـ المكتوب في تقريره السري الي السيد وزير الداخلية ـ ان العين البشرية تستطيع الاحتفاظ بالصورة لمدة ساعة. ولما كانت الشرطة ـ كما يبدو ـ واقفة خلف باب بيت الضحية المذكور، عندما دخل وخرج مثل الشبح، المدعو (ابوطبر) فقد استدعي الخبير الاجنبي علي وجه السرعة، قبل انقضاء الساعة المقررة لبقاء الصورة المرسومة في عين القتيل، ليرسم الصورة الجنائية للمجرم الذي يدخل الي البيوت مثلما يدخل الجن، ويخرج منها مثلما تخرج الاشباح.
وقد انكر الناس الجهلاء في مدينتنا ذلك الخبر، لا لشيء، الا لانه جاء على لسان اجنبي اولا، ولانه جاء على لسان حميد بن المختار ثانيا. ومن جانبه سعي حميد بكل الوسائل الي التأكد من صحة تلك النظرية ومطابقتها للواقع. وقد اشيع عنه حينذاك، ان الشرطة اعتقلته بسبب صراخ زوجة المختار التي وجدت ملقاة علي الارض، يبرك فوق صدرها ابنها حميد، وهو يمسك بيده آلة تصوير وفأسا حديدية باترة وهو يصرخ: وجدتها !
لقد اختلط الحابل بالنابل, ولم يعد احد يعلم حقيقة الاحداث. فالناس ظلوا يمزجون الخوف بالدعابة، واضحي من العصي معرفة حدود الامرين: اين يبتديء الخوف، واين تنتهي الدعابة المخيفة؟
اما الان، فان الحديث عن (ابوطبر) اخذ مسارا اخر, فقد بدأ الناس ينظرون اليه كنوع من الكابوس الثقيل، او كشيء من الماضي المحمل بالعبر.. وفي الواقع، لا يستطيع المرء ان يعبر عن حقيقة نظرة الناس لذلك الحدث بدقة تامة، فالناس يختلفون في مداركهم ووعيهم وطرق تفسيرهم للامور، رغم انهم جميعا تحولوا من طور الحديث المرعب ـ المسلي، الي طور الحديث ذي المغازي والعبر. فعلى سبيل المثال كانت امي ترفض بشدة ان يكون القتلة من الفلاحين الفقراء الذين هاجروا من الريف الى العاصمة، ووجدوا انفسهم قد تحللوا من مشاعر القرية ومن عاداتها واخلاقها، ولم يتمكنوا من الانسجام والتأقلم مع حياة المدينة القاسية، اضافة الي الفقر الذي دفعهم كي يشرعوا طبرهم في وجوه الناس المياسير. وكان ذلك هو رأي احد علماء الاجتماع، كما قال ذات يوم حميد بن المختار. وتدعي امي انها سمعته من زوجة المختار نفسها. وكانت امي تدعي ان زوجة المختار حاقدة علي الفقراء بسبب تجريد زوجها من مهنته كمختار عند الغاء النظام القديم. اما ابي فيقول بأن امي ترفض رأي عالم الاجتماع بسبب كونها امية، اضافة الي انها هي ايضا فلاحة الاصل. وكان ابي يري ان ما حدث عقوبة من الله. فالله يسلط على عباده الشدائد ليختبر عمق ايمانهم، وهو يسلطها عليهم حينما يكثر فسادهم ويستشري طغيانهم، وما تلك الاعمال الا علامة من علامات الساعة.
وهكذا، كان لكل رأيه, حتى ان اخي الكبير, وهو معلم لمادة الاجتماعيات, قال بان (ابو طبر) شأنه شأن الحرس القومي، والانكليز، والعثمانيين، وهولاكو، وغيرهم وغيرهم، الذين يظهرون في كل عصر واوان بزي خاص يميزهم عمن سبقوهم, لكنهم في المحتوي سواء. وقد اثار رأي اخي، رغم اننا نحبه ونحترمه، ضحكاتنا, وقالت له امي: احذر ان يسمعك (ابوطبر) او ابن المختار!
بيد ان اكثر الامور غرابة كانت احوال وحيد بن عليان، وهو بعثي اعسر. كان يحب ان يسميه الناس اعسر بدلا من تسمية يساري, التي جاء بها الشيوعيون من موسكو والغرب. كان خوفه المفاجيء في تلك الفترة مثيرا للدهشة والعجب. فقد عرف الناس جميعا عنه جرأته وشجاعته، التي كان بارعا فيها الي حد التهور، كما هو معروف ومؤكد. رغم ذلك عاد وحيد في ايام (ابوطبر) ليختفي في مدينتنا الصغيرة. وقبل ان يختفي نهائيا من الوجود، تناقلت الالسن بعض وساوسه العجيبة, فقد قيل عنه انه كان يري (ابوطبر) في كل منعطف وركن. وقيل ضمن ما قيل عنه انه كان يقلب فراشه خمس مرات قبل ان ينام عليه, حتى انه قال لأمه واخوانه: اذا ذهبت ولم اعد، فان دمي برقبة (ابوطبر). ويضيف البعض الى تلك الرواية انه قال لهم ايضا: ان حملة تطهير دموية بدأت في العاصمة ضد خلايا خاصة في الحزب وجيوب حزبية يشك في انها لا تمنح ولاءها التام للقائد !
قال ذلك قبل ان يختفي بيومين فقط.
وكان ذلك أغرب ما سمعناه عن الحادث الآخذ بالضمور والتلاشي من ذاكرة الناس.

(مقطع من قصة بعنوان اللصوص من مجموعة (العودة الى آل ازيرج #



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النهلستي الأخير! دفاع مع سبق الإصرار عن سعدي يوسف, دفاع عن ذ ...
- زهرة الرازقي: رواية عن الحرس القومي
- أطفال الحرب
- ليس مباحًا أن يكون المرء طويلا في بغداد
- رحل فدائيو صدام, جاء فدائيو بوش!
- الاحتلال العراقي لأميركا
- ســقـط صــدام هــل يـســقـط الـحـزب؟
- مــوســيـقــيـو الـحــدائــق
- أيـفــنـد يـونـســون الـحــلـم الاوروبــي فـي الادب الاســوج ...
- القيادة الكردية العراقية الحاكمة بين خياري الفيدرالية والحرب ...
- صرخة من أجل العراق
- صـدام عـمـيــلاً تـمـحــيـص الـمــصطلـح
- منابع الديكتاتورية.. صدام نموذجاً هل صنعته الطفولة أم صنعه ح ...
- عــلّــوكــي
- ظاهرة مقتدى الصدر: الجذور, الأسباب, النتائج
- مـن الـثــــورة الـى الـدولـــة
- يـوميات عربـيـة في أسـوج مـن الثورة الـمؤدبة الى الثورة الخج ...
- الـشــاعـرة الأســـوجـيــة اديـث ســودرغــران تـكـســر جــلـ ...
- مــن يـكـون -الـروائـــي- صـــدام حـســــيـن؟ عـن -زبــيــبـ ...
- إعــادة إعـمـــار الـثــقـــافـــة فـي الـعــــراق الـبــعــ ...


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام عبود - أبو طبر