أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - نوال السعداوى - إجهاض الثورة















المزيد.....



إجهاض الثورة


نوال السعداوى

الحوار المتمدن-العدد: 1000 - 2004 / 10 / 28 - 09:52
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


صباح السبت 15 يوليو 2000

جالسة إلى مكتبى أحاول الكتابة. أود أن أنهى هذا الجزء الأخير من قصة حياتى. القلم بين أصابعى لا يتحرك. شريف يقرأ الصحف فى الصباح. ثم يجلس إلى مكتبه يواصل كتابة روايته الجديدة. لا أعرف كيف ينتقل بهذه السهولة من قراءة الأخبار إلى كتابة الرواية. إن قرأت الصحف أتوقف عن الكتابة يوما أو يومين حتى يزول التوتر والغضب. حتى أنسى حوادث القتل والحرب، أو أخبار المفاوضات من أجل السلام، كلاهما محكوم بقوة السلاح والمال والإعلام، الثالوث الذى يحكم العلاقات بين الدول أو الجماعات والأفراد.

اصبحت أقرأ الصحف بطريقتى الخاصة، أكتشف التناقض بين السطور المكتوبة وغير المكتوبة، والصور المرسومة فى الصفحة الاولى، الإبتسامات العريضة فوق الوجه واليد تختفى وراء الظهر ممسكة بآلة القتل، هذا الصباح كانت صورة الثالوث فى كامب ديفيد الثانية، منذ واحد وعشرين عاما كانت كامب ديفيد الأولى، الوجوه الثلاثة فى الصفحة الاولى، الرئيس الامريكى والرئيس الاسرئيلى والرئيس المصرى، يبتسمون للكاميرا ويتفاوضون من أجل السلام. كلمة السلام تعنى الاستسلام أمام بطش السلاح والمال والإعلام. خرج الرئيس المصرى صفر اليدين يبتسم للكاميرا يعلن الانتصار، وفى عيد النصر 6 اكتوبر 1981 انطلقت مائة وعشرين رصاصة فى صدره، سقط قتيلا وهو يشهد موكب النصر المصنوع من البالونات والألعاب النارية الملونة. سار فى جنازته الرؤساء الأمريكيون والإسرئيليون وتخلف الشعب المصرى عن الموكب. ذلك اليوم كنت فى زنزانة داخل سجن النساء بالقناطر الخيرية. كان الرئيس المصرى القتيل هو الذى أمر باعتقالى ضمن المعارضين لمعاهدة كامب ديفيد. كان يسميها معاهدة النصر والسلام، أصبح إسمها اليوم معاهدة الهزيمة والاستسلام، لا تتكشف الأوراق السرية للمفاوضات والمعاهدات إلا بعد عشرين أو ثلاثين عاما من حدوثها. لا تعرف الشعوب شيئا عما يدور فى المداولات السرية. تنشر الصحف وأجهزة الإعلام أخبارا ملفقة، يعيش الناس فى أوهام النصر، وأوهام الثراء بعد الموت، فى قصور الجنة، يموتون والابتسامة على وجوههم وقلوبهم محروقة وفلذات أكبادهم مقتولة.

هكذا كانت صورة الرئيس الفلسطينى فى كامب ديفيد الثانية. يبتسم للكاميرا يداه وراء ظهره فارغتان، لا يملك شيئا، لا السلاح ولا المال ولا الإعلام، ظهره عاريا لا يستند إلى أية قوة، جردوه من سلاحه ومن شعبه، جروه إلى مائدة المفاوضات فى كامب ديفيد.

الرئيس الأمريكى يبتسم فى وجه الرئيس الإسرائيلى، أياديهما تتشابك من وراء الظهر، يتبادلان السلاح والمال والإعلام، حصلت إسرائيل بالأمس فقط على 2.8 مليار دولار، وحصلت مصر على 2 مليار دولار، صدر قرار الكونجرس الامريكى والمفاوضات تجرى فى كامب ديفيد، قرأت الخبر فى الصحف بالأمس، واليوم السبت 15 يوليو 2000 أرى صورة الرؤساء الثلاثة الأمريكى والإسرائيلى والفلسطينى، تحت الصورة مانشيت كبير يتألق تحت أضواء النصر: تلعب مصر دورا قياديا فى عملية السلام كامب ديفيد الثانية كما لعبت فى كامب ديفيد الاولى.

شريف يناولنى الصحيفة لأقرأ الأخبار. أختفى فى غرفتى أشعر بالعار! ما علاقة خبر المعونة الأمريكية لمصر ومعاهدة كامب ديفيد الأولى والثانية؟!

كلمة المعونة تجعل الدم يصعد إلى رأسى، كأنما شريان سينفجر حتما، ترن كلمة المعونة فى أذنى نابية، مثل البصقة أو الصفعة على الوجه، منذ عهد السادات أصبحت مصر تتلقى المعونة الأمريكية، من أجل استمرار المعونة تحدث التنازلات، قلت لشريف الدولة التى تعيش عالة على غيرها كالمرأة أو الطفل الذى يعيش عالة على غيره. منذ بلغت سن الرشد أصبحت أعول نفسى بنفسى. لكن كيف يكون الفرد مستقلا فى وطن غير مستقل؟

منذ الطفولة أهتف مع أبى، الاستقلال التام أو الموت الزؤام. لم أعرف ما هو الموت الزؤام. تصورت أننى لن أموت وإن سرت إلى الموت بقدمى. كنت أسمع أمى تقول، نرمى نوال فى النار ترجع سليمة. أصبحت أمشى داخل النار دون أن احترق. أسافر إلى جبهة التقال ثم أعود دون أن أموت.

كم مرة سافرت وعدت دون أن أفقد ذراع أو ساق. بعد هزيمة 1967 تطوعت ضمن مجموعة من الأطباء، سافرنا إلى جبهة القتال فى القنال، كان عددنا ستة أطباء متطوعين، انقسمنا إلى ثلاثة فرق، كل فرقة تتكون من طبيبين، سافرت الفرقة الأولى إلى السويس، والثانية إلىالإسماعيلية، والثالثة إلى بور سعيد، كنت ضمن الفرقة التى سافرت إلىالإسماعيلية مع زميل لى إسمه الدكتور طلعت حمودة.

كان صباحا مكفهرا ملبدا بالغيوم. تركت مكتبى فى وزارة الصحة لأركب العربة اللورى إلى مدينةالإسماعيلية جلست إلى جوار السائق فى المقعد الامامى. صعد طلعت حمودة من الخلف وجلس فوق دكة خشبية بين الصناديق المعبأة بزجاجات الدم والبلازما. كان شابا من عمرى نحيف الجسم يمكن أن يجلس بسهولة فى أى مقعد. الطريق بين القاهرة والإسماعيلية يستغرق بالسيارة حوالى الساعتين. عجلات العربة اللورى ضخمة تضرب الأسفلت بقوة. أصابع السائق طويلة سمراء مشققة، تحوط عجلة القيادة كالأم تحتضن طفلها فى صدرها. عيناه غائرتان تحت جبهة عريضة تتطلعان نحو جبهة القتال بشئ من القلق. يرتدى بدلة صفراء مهترئة، طاقية فوق رأسه لونها أصفر شاحب، شعر رأسه كثيف مجعد يتخلله الشيب. عمره خمسين عاما بدا لى عجوزا وأنا فى تلك المرحلة من الشباب. كنت أناديه عم محمد، ينادينى باسم الضكطورة، يذكرنى بلهجة دادة أم ابراهيم وأقاربى فى القرية، كان صامتا طوال الطريق، مستغرقا فى التفكير، جسده القصير الممتلئ يهتز مع اهتزازات العربة اللورى، أصوات الزجاجات تتخبط داخل الصناديق، صوت الدكتور طلعت حمودة يأتينا من الخلف.

- فاضل كام كيلو يا عم محمد علىالإسماعيلية.

- أربعة كيلو يا ضكطور.

- أنا سامع أصوات انفجارات.

- أيوه يا ضكطور.

- جايه منين دى يا عم محمد.

- عساكر إسرائيل بيضربواالإسماعيلية من البر التانى.

أتابع الحوار بين السائق والدكتور طلعت حمودة دون أن أدرك ماذا يحدث. لم أكن أعرف ما هى الحرب حتى ذلك اليوم فى نهاية عام 1967. لم أكن سمعت صوت القنابل إلا فى الافلام. لم أكن شهدت القتلى والأشلاء الممزقة إلا فى الصور.

سمعت صوتا غريبا، يشبه صوت الريح تعوى بصفارة حادة تكاد تخرق الأذن، يشبه صوت طائرة نفاثة أو جسم صلب مدبب يخترق الكون بسرعة تفوق سرعة الضوء. كانت العربة اللورى قد دخلت الإسماعيلية، ضغط السائق على دواسة البنزين، إختار الطرق الجانبية بعيدا عن شاطئ القنال، لم تكن إلا دقائق حتى وصلنا إلى المستشفى فى هذه الدقائق توقف عقلى عن التفكير. إختفى الدكتور طلعت حمودة تحت الصناديق. أخفيت رأسى بذراعى الإثنتين، سمعت عم محمد يقول: ربنا ستر يا ضكطورة، فيه دانة عدت من ورانا، ربنا ستر!

كانت المرة الأولى أسمع فيها كلمة "دانة"، إنها تلك القذيفة التى تنطلق فى الجو وتحدث ذلك الصوت الشبيه بصفارة الريح العاتية، يعقبها على الفور صوت الإنفجارات، رأيت جدرانا تسقط ونيرانا تشتعل، أغمضت عينى كأنما فى الحلم، كأنما العربة اللورى تمشى داخل النار، وصوت أمى يأتينى من تحت الأرض، نوال نرميها فى النار ترجع سليمة.

فتحت عينى على مشهد عجيب. لم أعرف حقيقة أم خيال. وجدت نفسى واقفة أمام باب المستشفى. العربة اللورى واقفة بجوار الرصيف داخلها الصناديق. مقعد السائق عم محمد خال ليس فيه أحد. فقط ذراعه اليمنى بأصابعه الخمسة السمراء المشققة قابضة على عجلة القيادة. أين ذهب جسد السائق عم محمد؟! رأيت بعض الوجوه من حولى، وصوتى يقول كأنما ليس صوتى، فين عم محمد؟ فين الدكتور طلعت حمودة؟

كان الدكتور طلعت حمودة منبطحا تحت الصناديق فوق أرض العربة اللورى. أخرجوه من الباب الخلفى شاحب الوجه يهمس بصوت متحشرج:

- حصل إيه يا دكتورة نوال؟

- مش عارفة يا دكتور طلعت.

رأيت من حولنا بعض التمورجية بالمرايل البيضاء، أصواتهم تصرخ فينا: ادخلوا المخبأ بسرعة! أخذونى والدكتور طلعت حمودة إلى المخبأ تحت المستشفى. كان هناك مدير المستشفى والأطباء والممرضات والتمورجية وعدد من الجرحى، سمعت أصواتا تقول، عم محمد راح مسكين، ضربته الدانة، وفجأة اهتز المخبأ كأنما زلزال يرج الأرض، تساقط التراب فوق راسى من السقف، تصورت أن السقف سوف يسقط، وسوف نموت كلنا تحت الانقاض.

توالت القذائف والدانات فوق المكان الذى نحن فيه، انخلع قلبى وانبطح الجميع فوق الارض، تصورت أنهم ماتوا جميعا وأنا الوحيدة على قيد الحياة، ثم سمعت صوت مدير المستشفى يقول: الضرب المرة دى جامد، يظهر عاوزين يهدوا المستشفى، وقال أحد الأطباء، أصلهم بقوا قريبين أوى مننا، بقوا على الناحية التانية من القنال قصادنا على طول، وجايز شايفينا.

كان الجنود الاسرائيليون فعلا قد وصلوا إلى الضفة الاخرى من قناة السويس، بعد احتلالهم لأرض سيناء كلها بعد خمسة أيام فقط من حرب يونيو 1967، وكان التراب يتساقط فوق رأسى وأنا جالسة فوق الأرض متكورة حول نفسى، أضع يدى فوق أذنى حتى لا أسمع صوت الدانات التى تصفر وتعوى كالريح العاتية، يعم السكون لحظة ثم تدوى الصفارة فى اذنى، يعقبها صوت الانفجار ويتساقط مزيد من التراب فوق راسى، اخترقت إحدى الدانات جدار المخبأ ورأيت مدير المستشفى راكعا يصلى يقرأ الشهادة بصوت مرتعش.

يوم من الأيام السوداء فى حياتى، رأيت الموت دون أن أموت. دون أن أفقد الوعى لحظة واحدة.

غرقت تحت التراب المتساقط من السقف إلا اننى بقيت فى مكانى اتنفس. وكان هناك فى الناحية الاخرى جهاز تلفزيون فوق منضدة، كانت الصور تظهر على الشاشة رغم الدانات، لم ينقطع التيار الكهربى، ولم ينقطع الارسال لحظة واحدة، لم اعرف ماذا كان يعرض فوق الشاشة، ربما أحد الافلام القديمة، لانى رأيت راقصة تشبه سامية جمال ترقص وفريد الاطرش يغنى، كان مشهدا غريبا مذهلا، نحن فىالإسماعيلية غارقين تحت التراب تنهال علينا الدانات من الجيش الاسرائيلى المرابط على ضفة القنال، ومدينة القاهرة ترقص وتغنى.

بدا المشهد كأنما فى مسرحية عبثية، وقد تطوعت للموت من أجل وطن يرقص ويغنى بينما أنا اموت، إلا اننى نجوت وعدت إلى القاهرة بعد عدة أيام، مات زميلى الدكتور طلعت حمودة بعد أسبوع واحد بالسكتة القلبية وهو يقود سيارته فى الشارع بجوار وزارة الصحة، وقلت لشريف، تصور يا شريف كان التلفزيون نازل رقص وغنا واحنا تحت الارض بنموت؟ يظهر التلفزيون فى بلد واحنا فى بلد تانية! وكتبت قصة قصيرة بعنون بلد غير البلد، ودق جرس الباب صباح يوم، رأيت أحد الرجال يناولنى ورقة صغيرة، إستدعاء الدكتورة نوال السعداوى للحضور إلى إدارة المخابرات العامة بسراى القبة. أخذنى شريف بسيارتنا الفيات الصغيرة إلى مبنى المخابرات، إنتظرنى ما يقرب من ست ساعات، تركونى فى غرفة تشبه الزنزانة أربع ساعات، ثم جاء رجل بوليس، أخذ يحقق معى ساعتين، أول سؤال كان عجيبا: لماذا سافرت إلىالإسماعيلية؟ أدركت أننا نعيش فى دولة المخابرات، وأن النظام فى مصر لم يتغير منذ الملك فاروق، وكما طارد البوليس الفدائيين بعد أن عادوا من حرب 1951، وحرب 1956، فانه يطارد الأطباء الذين تطوعوا لبناء الطوارئ الطبية فى مدن القنال الثلاثة بعد حرب 1967، أما الدكتور طلعت حمودة فقد مات بالسكتة القلبية بعد أيام قليلة من عودتنا من الإسماعيلية، ترك وراءه زوجة شابة وطفلين صغيرين، أقاموا له فى وزارة الصحة حفل تأبين، تشبه حفل تأبين زميلى أحمد المنيسى الذى استشهد على أرض القنال فى نهاية عام 1951، حفروا إسمه على لوحة الشهداء فى فناء الوزارة، سقطت اللوحة بعد سنوات قليلة وراح إسم طلعت حمودة فى العدم، بمثل ما راح إسم أحمد المنيسى وأحمد حلمى وغيرهم من الفدائيين. أما السائق عم محمد فقد اندثر إسمه مع حسمه فى العدم، دون حفل تأبين، دون لوحة شرف يسقط فوقها إسمه.

فى صيف عام 1968 أرسلت نقابة الأطباء إلى جبهة القتال فى الأردن فريقا من الأطباء المتطوعين. كنت الطبيبة الوحيدة التى تطوعت للسفر ضمن مجموعة من خمسة أطباء. لماذا تطوعت؟ لا أعرف، كنت فى حاجة إلى السفر بعيدا عن القاهرة، بعيدا عن الصحف وشاشة التلفزيون، لم أكن أطيق رؤية تلك الوجوه التى تظهر فوق الشاشة أو الصفحة الاولى من الجرائد اليومية، لم أعد أطيق سماع الأكاذيب فى الإذاعات. سجلت إسمى ضمن الأطباء المسافرين إلى جبهة القتال فى الأردن.

وجدت نفسى أعيش فى خيمة بمنطقة الأغوار بالقرب من السلط، أركب عربة الاسعاف مع امرأة يداها وقدماها محروقة بالشمس، تلف رأسها بالشال الفلسطينى، يسمونها أم الفدائيين، كانت عربة الاسعاف تنطلق بنا فى الليل، تقود العربة فتاة فلسطينية فدائية، عيناها مرفوعتان إلى أعلى فيهما بريق خاطف، تتطلع نحو شاطئ نهر الأردن، إلى جوارها سلاحها، السيارة مصفحة من نوع الجيب، عجلة القيادة كبيرة تقبض عليها يد الفتاة، أصابعها طويلة عظامها قوية تشع من تحت الجلد ما يشبه الضوء، وحركة خفيفة لها إرادتها الخاصة، أصابع كالحديد لا تلين، قابضة على عجلة القيادة الحديدية كأنما هى لعبة اطفال. أرمق يدى خلسة وأنا جالسة إلى جوارها عظام أصابعى تبدو رقيقة هشة. يدى اليمنى معقودة مع يدى اليسرى فوق حجرى. يدها اليمنى تقود السيارة وحدها دون الاستعانة بيدها اليسرى.

أين يدها اليسرى؟ لم تكن هناك يد يسرى. ذراعها الأيسر مبتور عند الكوع، تستعين به حين تهتز العربة فوق مطبات الطريق.

كانت صامتة شاخصة إلى الأمام. وجهها من الجانب ثابت لا يهتز مع اهتزازات العربة، تقاطيع الوجه كأنما مصنوعة من الفولاذ أو الماس، نوع من الأحجار الكريمة المشعة، لا أستطيع أن أحرك عينى بعيدا عن هذا الأنف المرفوع الشامخ، يشق الظلمة مثل نصل السيف، أيكون لأنفى مثل هذه الارتفاعة الشامخة؟ لم تحرك رأسها ناحيتى، وأنا لا أحرك رأسى بعيدا عنها.

فى المقعد الخفلى جلست أم الفدائيين، عيناها غائرتان عميقتان تغطيهما طبقة شفافة من الدموع، تشبه اللمعة الخاطفة أو الابتسامة الدائمة، تشبه أم ابراهيم أو جدتى الفلاحة فى قريتى على ضفاف النيل. ملامح وجهها مؤكدة فى عتمة الليل. الجبهة البارزة القوية مثل النتوء الصخرى يطل على النهر. يناديها الفدائييون أمنا. كما ينادون الأرض، الضفة الأخرى من النهر، حيث الوطن والأهل. هى تناديهم أطفالى كما تنادى الأرض نبتها الأخضر. لم يكن لها بيت لا رجل ولا أب ولا أم. البيوت كلها بيتها. الرجال كلهم رجالها. النساء نساؤها. فى ذاكرتها منذ ثلاثين عاما قصة حب، وجنين فى أحشائها لم تلده أبدا، أو ولدته ثم ضاع منها فى الأغوار.

الظلام مكتمل والقمر والنجوم غابت. العربة المصفحة تشق الليل كالسهم المارق. الجنود الإسرائيليون يطلون علينا من أبراج المراقبة. الظلمة تحوطنا تخفينا عن عيونهم. وصلنا إلى حطام مدينة إسمها الكرامة. وقعت معركة الكرامة من شهرين فقط فى 21 مارس 1968. قتل كل سكانها. توقفت العربة بجوار جدار أسود مثقوب بالرصاص والدانات مرسوم عليه وجه طفل يبتسم، عين الطفل اليمنى مثقوبة تحت الابتسامة حروف متعرجة محفورة فى الحجر: سنقاتل حتى الموت. البيوت كلها متهدمة، الشوارع والأزقة خالية من البشر، تعثرت وأنا أمشى فى شئ صغير، فردة حذاء طفل، انحنت الفتاة الفدائية بجسمها النحيف الممشوق، التقطت فردة الحذاء بأصابعها الطويلة القوية. ضمتها إلى صدرها كأنما تضم الطفل. عيناها مرفوعتان تشقان الظلمة، تتطلعان إلى الأرض وراء النهر، إلى البيت القديم الذى ولدت فيه، كانت فى العاشرة من عمرها حين استولى الاسرائيليون على البيت. ذبحوا أباها أمامها. أربعة منهم اغتصبوا أمها واحدا وراء الاخر، ثم بقر أحدهم بطنها قبل أن يقطع ثدييها بخبطة واحدة، أخوها أخذوه إلى السجن يسمونه سجن الانصار، قطعوا أصابع يده اليمنى، لم يعد قادرا على حمل السلاح، يجلدونه كلي يوم بالسياط يدخلون فى فتحة الشرج عمودا من الحديد، يطفئون السجائر فى جسده، بتروا ساقيه وذراعيه، دون جدوى، لا يمكن أن يعترف، لا ينطق إسم أحد زملائه الفدائيين أو الفدائيات. نماذج من القوة الإنسانية يعجز عنها الخيال.

عادت الفتاة إلى العربة ومعها فردة الحذاء. وضعتها إلى جوار سلاحها، وانطلقت بها فى الأغوار عند حافة النهر توقفت. كان هناك الجريح راقدا داخل العشب. حوطته أم الفدائيين بذراعيها كالأم تعثر على إبنها. تناديه بإسم طفلها الغائب. لم تعد الأسماء تهم. غسان أو يوسف أو فتحى أو زياد، كلهم هذا الجسد الجريح ينزف الدم. فقد ذراعيه وساقيه يئن بصوت مكتوم. يناديها أمى، وهى تغرقه بدموعها وتناديه إبنى.

حملنا الفدائى الجريح إلى الخيمة فى معسكر السلط. شفى بعد ثلاثة شهور، أصبح يمشى داخل مقعد يتحرك فوق العجلات. جسد ورأس بلا أطراف. عيناه زرقاوتان عميقتان تشعان ما يشبه اللهب الأزرق. ابتسامته عريضة أسنانه بيضاء تلمع مثل فصوص من اللؤلؤ.

فى المدرسة الابتدائية فى منوف كانت لى زميلة إسمها حميدة مبتورة الساقين، داست عليهما عجلات عربة كارو فى يوم العيد، لم يكن فى إمكانى النظر إلى جسمها المبتور، يرتعد جسدى لمنظر الأجساد المشوهة، كأنما التشويه مرض معدى ينتقل لمجرد النظر.

فى الخيمة كنت أنام تحت رأسى قطعة حجر ناعمة دافئة تشع حرارة الشمس فى الليل. إلى جوارى أم الفدائيين نائمة عيناها نصف مفتوحتين، شفتاها نصف منفرجتين، أنفاسها عميقة مسموعة فى صمت الليل، ملايين الأصوات الخافتة الهامسة تصنع الصمت، تدوى فى أذنى بكلمة واحدة "إبنى".

تركت فى القاهرة إبنى عاطف عمره عامان ونصف، وابنتى منى عمرها عشرة أعوام، يرعاهما زوجى شريف، غبت عنهم ثلاثة شهور ونصف، الحنين إليهم يشدنى إلى القاهرة، أود العودة وأود البقاء، بدأت رواية جديدة أعطيتها عنوان: عين الحياة، بطلتها إمراة تشبه أم الفدائيين، طويلة القامة فارعة مثل جدتى الفلاحة فى القرية، هذه المرأة ظلت تتراءى لى فى النوم حتى جلست إلى مكتبى، تجسدت فوق الورق باسم عين الحياة، بعد عودتى إلى القاهرة كنت أتابع أخبارها حتى ماتت فى مدينة عمان بالأردن فى سبتمبر الأسود عام 1970 قبل موت جمال عبد الناصر بشهر واحد. لكنها بقيت حية فى روايتى عين الحياة، يقرأها الناس فى بلادنا العربية، وفى بلاد أخرى بعد أن نشرت الترجمة فيما بعد، أستعيد صورتها وهى تمشى على حافة النهر تبحث. لم يكن بحثا عاديا تعرف فيه الشئ المفقود، أو تعرف أنها قد تجده وقد لا تجده. كان بحثا غريبا عن إبن لم تلده، أو ولدته ثم ضاع منها فى زمان ومكان لا تدرى عنهما شيئا.



* * * *



الليلة الأخيرة فى معسكر السلطة قبل أن أعود إلى القاهرة. خرجت من الخيمة أتمشى فى الأغوار. كنت أرتدى بدلة الفدائيين من فوقها معطف الأطباء الأبيض. الليلل ساكن إلا من حفيف الأشجار، صوت مياه النهر من بعيد، نسمة الصيف الناعمة تتسلل بين جبال الأردن، أمشى فى الأغوار كأنما أمشى فى حلم داخل حلم. أسمع وقع حذائى على الأرض الصخرية. لونها أحمر كالدم يغطيها عشب أخضر. ريح باردة خفيفة من الشمال لها رائحة الخيال. نسمة دافئة تهب من الناحية الأخرى، حيث يرقد الشاب الفدائى بدون ذراعين ولا ساقين. إسمه غسان، كان يكتب الشعر قبل أن يفقد أطرافه. يغمض عينينه ويحلم أنه عاد إلى الضفة الغربية حيث ترقد أمه العجوز، تبحث فى النوم عن إبنها الغائب فى الضفة الشرقية، تصطك أسنانه قليلا كأنما من الرجفة، أو رعشة الخيال، الريح محملة برائحة الحلم، صوته يسرى فى أذنى فى سكون الليل:

- أراك فى معطفك الأبيض تسيرين بين الخيام. أراك بالعين فى جسدى، فى مكان غير المكان الذى توجد فيه العيون، هل عندك وقت لأكشف لك عن هذه العين؟ وأخبرك بسر قوتى فى مواجهة الموت الثانى بعد أن واجهت الموت الأول حيث فقدت ذراعى وساقى؟ لا تخافى يا دكتورة، هناك فى الضفة الأخرى وراء النهر أعداء أعتقدوا أننى مت، لكنى لم أمت، أنا فقط جريح، والجرح ليس فى محجر العين، أنا أراك هنا والآن فى ضو القمر المختفى، أشهد ما بعد الموت، لماذا أنت صامتة؟ هل أنت جريحة مثلى لا تخافى إن فقدت ذراعيك وساقيك، ما دامت قادرة على الاستماع إلى، فانت قهرت الموت، قهرت العدو داخلك قبل العدو هناك على الضفة الاخرى، وانا مثلك قادر على الاستماع اليك، ليس لأمثالنا إلا الاقتراب، أو التلامس جسدا لجسد، أعطنى يدك، ضعيها فوق صدرى العارى لألمسها وتلمسنى، انتظرى لا تبتعدى عنى، لا تخافى من شكلى المختلف، ربما فقدت أطرافى لكنى لم أفقد قلبى، لست من الرجال الذين يغتصبون النساء فى الظلمة، لم يعد لى جسد رجل أو امرأة، إنما هى الرغبة الأخرى يا دكتورة، أتعرفين الرغبة الاخرى؟

كان راقدا فوق ظهره مبتور الذراعين والساقين، حول عينه اليسرى رباط من الشاش الغارق فى الدم. بشرته بلون الطوب الأحمر. لم يكن وهما ولا خيالا. كان فدائيا فلسطينيا فى لحظات الاحتضار الأخيرة، يفتح فمه ويغلقه فى صمت، يحاول أن يكشف قبل أن يرحل عن سر خفى. إقتربت بأذنى من فمه وقلت.

تكلم أنا أسمعك يا غسان.

يا دكتورة أتعرفين الرغبة الأخرى؟ كل الأجسام الراقدة هنا فى الخيام كانوا شبابا مثلى فقراء، لا يملكون شيئا فى الحياة إلا أجسادهم، وهذه الأجساد أيضا لا يملكونها، تملكها القيادة العسكرية، وهى قيادة لها رائحة تشمينها من البعد، أتعرفين رائحة القيادة؟! هواء ثقيل بارد يهب من هذه الناحية. أنظرى. لم أكن أعرف أن السلطة لها رائحة، ولها صوت يصطك مثل قرقعة الحديد أو ارتطام الفولاذ بالمعادن الصلبة، يتحول الصدى إلى صوت أشبه بهذا الصوت الذى نسمعه. إسمعى!

حركت راسى فى الاتجاهات الأربعة أحاول التقاط صوت الريح فلم أسمع إلا صمت الليل. ملايين الأصوات الهامسة التى تصنع الصمت. قربت أذنى من فمه.

- لا أسمع شيئا يا غسان.

- لأنك فقدت أذنيك يا دكتورة منذ زمن بعيد، منذ ولدت على هذه الارض، وأردت أن تحمى نفسك من سماع الكلمات النابية مثل كلمة "مَرَهْ"، ألم تسمعى كلمة السباب الأولى فوق هذه الارض؟ إذا أرادوا إهانة رجل يقولون له يا ابن المره، إن أعدائى قادرون على تمزيق جسدى بالألم، لكنه أخف من هذه الإهانة، وفى يوم قال لى قائدنا أو زعيمنا كما يسمونه، قال لى يا إبن المره، منذ ذلك اليوم فقدت أذنى حتى لا أسمع الكلمة مرة أخرى. لم أكن فعلت شيئا سوى أننى لم أضع قليلا من السكر فى فنجان قهوته، نست أنه يشرب القهوة ع الريحة كما تقولون فى مصر، وكان يفقد مزاجه إن لم يشرب قهوته ع الريحة فى الصباح، يصبح هائجا كالضبع، يكاد يعض من حوله بأسنانه، ومن فمه تنثال كلمات السباب، أولها هذه الكلمة يا إبن المره! وهربت من المعسكر بعد أن فقدت أذنى، وكنت قد فقدت ذراعى اليمنى فىعملية فدائية داخل الضفة الأخرى، فى قلب أرض العدو، التى كانت أرض أمى، نجحت فى تدمير معسكر العدو وبدأت أهرب لأعود إلى هنا، وأنا أزحف فوق بطنى شممت رائحة أمى فى الأرض، تمهلت قليلا، توقفت لحظة أملأ صدرى بالرائحة، وانهمرت طلقات الرصاص من حولى مثل سرائب الحمام الأبيض فى ظلمة الليل، لم أعرف أنها طلقات رصاص، كنت مستغرقا فى اللذة الطفولية، عدت طفلا أدس أنفى داخل صدر أمى وأملأ صدرى بالرائحة، أتذكرين رائحة أمك يا دكتور؟

- رائحة أمى؟

فاجأنى السؤال. ماتت أمى منذ تسع سنوات، نسيت رائحة أمى، بدأ الهواء يتحرك حاملا لى الرائحة، أوشكت الإمساك بها قبل أن تتسرب من الذاكرة، لكن الهواء تحرك بفعل الريح فهربت منى كما تهرب السمكة الصغيرة من بين أصابعى فى البحر.

جلست فوق قطعة حجر بجوار الخيمة، وهو راقد كما كان فوق ظهره، قطعة مربعة من اللحم البشرى بلا ذراعين ولا ساقين، عين مربوطة بالشاش، العين الأخرى ترمقنى فى الظلمة كالنجمة الوحيدة فى سماء سوداء، صوته يدخل مسام جسدى مع نسمة الليل كالحلم.

- هربت من المعسكر يا دكتورة أزحف فوق قطعة من الخشب لها أربعة عجلات، أدفعها بكتفى، لم أعرف ماذا أفعل بجسمى بلا أطراف ولا آذان ولا عيون، ولا شئ إلا هذا الصدر المكشوف والضلوع تحتها قلبى يخفق يمتلئ بالحنين للحب، ورأيت عيون الأطفال ترمقنى من بعيد فى خوف، يتحسسون أذرعهم وسيقانهم، يطمئنون إلى وجودها، يخشون فقدانها، كأنما يرون مستقبلهم فىَّ، وعيون الكبار ترمقنى من بعيد أيضا، يلقون إلى بقطعة من النقود من بعيد، لا يكاد يقترب منى أحدهم إلا وضاعت منه أطرافه وأذنيه وعينيه، تسقط قطعة النقود فوق بطنى، ألتقطها بلسانى، الذى أصبح يدى ألتقط به الأشياء، وصنعت لى القيادة ملفا صغيرا ضمن ملفات أصحاب العاهات أو الشحاذين، كنت التقط طعامى من فضلات الناس فى الطريق، وإذا جاء المبعوث الامريكى يزور قائدنا تنتشر عربات الجيب المصفحة فى الشوارع تلم الشحاذين، تكنس الشوارع من القمامة، تدهن سيقان الأشجار بالبوية البيضاء، ترفع الأعلام وأقواس النصر، تحولت من الفدائى وجه الوطن المشرف إلى الوجه المخزى المطلوب إخفائه كالعورة عن عيون الضيوف.

-وكيف عدت إلى معسكر الفدائيين يا غسان؟

- آه يا دكتور، هذا سؤال مهم، جاءنى مندوب من القيادة وسألنى، أيهما تفضل أن تعيش شحاذا محتقرا أم تموت شهيدا مكرما؟ قلت على الفور أموت! كنت أنشد الموت دون جدوى. أريد أن أمسك بيدى مسدسا أو موس حلاقة لأقتل نفسى، لم تكن لى يد أمسك بها آلة القتل، ربطوا حول صدرى وبطنى حزاما من القنابل الموقوتة، حملونى مثل طرد من الديناميت إلى معسكر الأعداء، لسوء الحظ لم تنفجر القنابل، كانت كلها مغشوشة، صفقات الأسلحة الفاسدة تجارة دولية، تقتسم القيادات الربح فيما بينها، سقطت أسيرا بين أيدى الأعداء، تشاءموا من منظرى فأعادونى إلى قيادتى كنوع من العقاب لها، وضعونى فى هذه الخيمة فى معسكر السلط، كلما أرادوا تفجير معسكر فى الضفة الأخرى ربطوا حزام القنابل حول صدرى وبطنى، أنطلق فى مهمتى سعيدا وعندى أمل وحيد، ألا تكون القنابل مغشوشة لأموت شهيدا وأدخل الجنة مع الأنبياء، ويحصل أبى بعد موتى على المعاش. كان أبى ينشد موتى فهو رجل فقير يعول أسرة كبيرة. أحيانا أصدق أن هناك جنة بعد الموت، وأحيانا تبدو لى الجنة مجرد خدعة من اختراع القيادة، أتعرفين أحدا فى هذه القيادة يا دكتورة؟ القيادة هى القيادة فى أى بلد فى العالم، هل وقعت فى حب أحدهم؟ هل وقع أحدهم فى حبك؟

- أنا يا غسان؟!

- أيوه! إنت! كيف جئت إلى هنا يا دكتورة؟ لا أحد يأتى إلى هنا دون أن يمر على القيادة، دون أن تفحصه القيادة، إنهم رغم قبح الملامح فيهم شئ من الجاذبية، وتشتد الجاذبية بارتفاع المكانة، لهذا يحظى القائد بنصيب أكبر من النساء، هل أغراك احدهم بالتطوع والموت فى سبيله؟ نعم فى سبيله وليس فى سبيل الله أو الوطن، فالمرأة أكثر ذكاء من الرجل، لا يمكن أن تموت المرأة من أجل كلمة مجردة. بل من أجل شئ ملموس حقيقى مثل جسد رجل له ذراعان يضمانها فى الليل، وأنا رجل بلا ذراعين ولا ساقين، لم تعد هناك امرأة ترغب فى الموت من أجلى.

الساعة تنقضى وراء الساعة وأنا جالسة فوق قطعة الحجر بجوار الخيمة، وهو راقد فوق ظهره، صدره يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة، تعلوه طبقة من التراب والدم، عينه الوحيدة لا تزال مفتوحة ترمقنى فى الظلمة، تومض مثل ذؤابة ضوء توشك على الانطفاء، صوته ينخفض قليلا يتقطع، أكاد لا أسمعه، أقرب أذنى من فمه.

- استمر أنا اسمعك يا غسان.

- صوتك الحنون يكشف أنك عرفت فى حياتك رجالا كثيرين، أن صدرك مثل صدر الأم رقدت فوقه رؤوس كثيرة متعبة، لكنك كنت تطردين الرجال الأطفال الباحثين عن الأم، كنت تبحثين عن رجل مكتمل الرجولة يحمل السلاح ويقتل العدو، تريدين فدائيا شجاعا لا يخاف الموت، تضعين رأسك فوق صدره كأنما هو صدر أمك. ألهذا جئت إلى هنا يا دكتورة؟

- لا يا غسان أنا لا أبحث عن صدر أضع عليه رأسى لكنى بعد الهزيمة لم أعد أطيق الحياة فى مدينة القاهرة، الهواء هناك أصبح مشبعا بالدخان والهزيمة، العيون منكسرة حزينة، حتى جمال عبد الناصر نفسه تهدلت ملامحه وانكسرت عيناه مثل الأسد الجريح.

- سمعت من الزملاء أنك كاتبة، هل جئت إلى هنا بحثا عن رواية جديدة؟ كنت فى طفولتى أكتب الشعر وكانت هناك طفلة فى العاشرة من عمرها، تطل من النافذة وتسمعنى، طفلة لها عينان سوداوتان مملوءتان بالأمل والحلم مثل شعاع الشمس، عيناك أراهما بعينى الواحدة تشبهان هذه الطفلة.

- هل ترانى يا غسان؟

- لا يا دكتورة، لا أراك لأن العين الباقية لم تعد ترى، لكنى أراك بقلبى، صوتك يذركنى بصوت أمى، أحلم كل ليلة أننى عدت إلى حضن الأم فى الوطن القريب البعيد، أحلم بامرأة لها صدر الأم وجسد الأنثى، لكن الأمومة والأنوثة لا يجتمعان فى امرأة واحدة، وأنت طبيبة وكاتبة لا يمكن لرجل أن يلمسك إلا إذا كان جريحا أو موضوع رواية جديدة، أتحلمين مثلى بالموت ودخول جنة عدن؟ لكن الجنة خلقت لنا نحن الذكور وليس فيها للإناث دور إلا دور الجوارى الحوريات، اتعرفين هذه الحقيقة يا دكتورة؟

- نعم أعرفها يا غسان، لذلك لم أحلم أبدا بدخول الجنة.

- أنت إنسانة ذكية كشفت زيف الذكورة والأنوثة تجتازين المحيط الواسع بينهما بخطوة واحدة من قدمك. وأنا أريد منك طفلا يرث ذكاءك قبل أن أموت، أتحققين رغبة إنسان فقد كل شئ من أجل الوطن إلا القدرة على الإنجاب؟

رأيته يضغط على أسنانه كأنما يكتم ألما عميقا فى الجسد، يمر بلسانه على صدره المملوء بالجروح والكدمات. كان يتحرك فوق المقعد ذى العجلات بصعوبة، يريد أن يبول، يخجل أن يبول أمامى، تحت الشعر الأسود الكثيف أسفل بطنه كانت المثانة منتفخة ممتلئة حتى الحافة. يجز على أسنانه من شدة الالم. أسمع صوت اصطكاك الفكين القويين، وأقدام حديدية تصطك بالأرض. شباب فدائيون استيقظوا من النوم بدأوا يؤدون التدريبات. ينظفون بنادقهم. يملأونها بالرصاص. يطلقونها فى الجو. الفجر لم يطلع بعد، وأنا متكورة حول نفسى أمام باب الخيمة، أرتدى المعطف الابيض فوق بدلة الحرب، فى جيبى قلم رصاص جاف، فى الجيب الآخر مفكرتى اليومية، قد أنزع منها ورقة غير مكتوبة لأكتب عليها إسم دواء، أو كلمة غسان، صوته أصبح ممزوجا بالعرق والدم، الآن لم يعد جسده يفزعنى، لم أعد أراه مشوها، أحوطه بذراعى كأنما هو طفلى، حملت به وولدته فى مكان وزمان لا أدرى عنهما شيئا، إنه يموت بين ذراعى، وأنا أحقق له رغبته الأخيرة قبل أن يموت.

مات غسان تلك الليلة قبل أن يطلع الفجر. وضعوه داخل حفرة فى الارض وأهالوا التراب فوقه عدت إلى القاهرة صباح اليوم التالى. كان شريف ينتظرنى بالمطار. رآنى شاحبة الوجه معفرة الملابس، سألنى ماذا حدث فى الاردن، قلت مات غسان يا شريف، قال من هو غسان يا نوال؟ قلت شاعر مجهول ربما ينجب طفلا ذكيا فى جنة عدن يرجم إبليس بالحجارة، ضحك شريف وقال، أهى رواية جديدة؟

كان ذلك فى نهاية صيف عام 1968، لم أكن أعرف أنه بعد عشرة أعوام بالضبط، سوف يبلغ المواليد فى فلسطين العاشرة من عمرهم، أطفال من الأولاد والبنات يشبهون غسان، ملامحهم فدائية منحوتة فى الصخر، عيونههم يكسوها البريق، أصابعهم قوية، أعدادهم كثيرة أكثر من الأعداء، قلوبهم شجاعة لا تهاب النار ولا تطمع فى الجنة، قلوب أطفال ولدوا بلا أب ولا أم، يمسك الواحد منهم أو الواحدة منهن حجرا، قامت ثورة الأطفال عام 1978، عرفت باسم ثورة الحجارة، انتصر الأطفال على الجنود المسلحين، أصبحت ثورتهم حديث العالم. كادت موازين القوى تنقلب ضد إسرائيل لولا عملية الإجهاض السرية المؤامرة الجديدة تحت إسم المفاوضات فى أوسلو ومدريد، وكامب ديفيد الأولى والثانية، ولا نكاد نعرف متى تكون الثالثة والرابعة، ربما بعد الموت فى يوم القيامة.



#نوال_السعداوى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ورقة لم تقدم في مؤتمر المرآة والإبداع
- الباحثة عن الحب - أوراقى حياتى : الجزء الثالث
- من مفكرتى السرية عام 1947
- تضامن النساء
- نوال السعداوي في أكثر حواراتها اثارة تقول لـ- ايلاف-:أنا اهم ...
- قضايا المرأة إذ تتجلى في النهاية شأناً سياسياً
- تحرير المرأة ما بين مسلسل قاسم أمين وخطاب كولن باول... حداثة ...
- كاتبة مصرية في نيويورك : عن بوش وبلير والرومانسية والفساد وا ...
- عالم جديد ممكن . علي منصة القضاء في المحكمة الشعبية العالمية ...
- نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير ج2
- نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير
- نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير ج1


المزيد.....




- “احلى اغاني الاطفال” تردد قناة كراميش 2024 على النايل سات ka ...
- إدانة امرأة سورية بالضلوع في تفجير وسط إسطنبول
- الأمم المتحدة تندد بتشديد القيود على غير المحجبات في إيران
- الاعتداء على المحامية سوزي بو حمدان أمام مبنى المحكمة الجعفر ...
- عداد الجرائم.. مقتل 3 نساء بين 19 و26 نيسان/أبريل
- هل تشارك السعودية للمرة الأولى في مسابقة ملكة جمال الكون؟
- “أغاني الأطفال الجميلة طول اليوم“ اسعدي أولادك بتنزيل تردد ق ...
- استشهاد الصحافية والشاعرة الغزيّة آمنة حميد
- موضة: هل ستشارك السعودية في مسابقة ملكة جمال الكون للمرة الأ ...
- “مش حيقوموا من قدامها” جميع ترددات قنوات الاطفال على النايل ...


المزيد.....

- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم
- قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق / بلسم مصطفى
- مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية / رابطة المرأة العراقية
- اضطهاد النساء مقاربة نقدية / رضا الظاهر
- تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل ... / رابطة المرأة العراقية
- وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن ... / أنس رحيمي
- الطريق الطويل نحو التحرّر: الأرشفة وصناعة التاريخ ومكانة الم ... / سلمى وجيران
- المخيال النسوي المعادي للاستعمار: نضالات الماضي ومآلات المست ... / ألينا ساجد
- اوضاع النساء والحراك النسوي العراقي من 2003-2019 / طيبة علي
- الانتفاضات العربية من رؤية جندرية[1] / إلهام مانع


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - نوال السعداوى - إجهاض الثورة