أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد باسل سليمان - تجليات العولمة















المزيد.....



تجليات العولمة


محمد باسل سليمان

الحوار المتمدن-العدد: 3271 - 2011 / 2 / 8 - 12:07
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


تجليات العولمة
محمد باسل سليمان
العولمة، هي: منظومة فكرية اقتصادية سياسية واجتماعية تؤلف تفاعلات تكوينها عملية مستمرة وشديدة التعقيد بسبب تداخل مفاهيمها وتدخل الظروف والعوامل المنتجة لها في مختلف درجات تفاعلها وجميع أشكال حراكها.
وإذ يرى البعض أنها "نظام يمكن الأقوياء من فرض الديكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين، بذريعة التبادل الحر وحرية السوق(1)"، فإنها من وجهة نظر اخرى نورّث معارف المستضعفين بمفاهيم تتعلق بحقوقهم وحرياتهم وبالوطن والمواطنية ودلالتها، وعرفتهم على درجة معاناتهم من أنظمة القهر الديكتاتورية أو الأوليجاركية أو الثيوقراطية والتوتاليثارية، وجميع أشكال الاستبداديات الأخرى التي تتحكم في حياتهم ومستقبل أبنائهم. كما أرشدتهم إلى طرق التخلص والتحرر منها بوسائل الكفاح: الديمقراطية، والمطلبية، وحقوق المواطن، السلمية الإيجابية. وهذا يعني أن العولمة ليست مجرد مفهوم، وإنما هي عملية دائما الحدوث في مجالات الحياة الكونية المختلفة، ليثني البشر، وتترك بصمات لها عليها، يمكن من خلال قراءتها بدقة استظهار تجليات العولمة في حياة الناس اليومية. وتتأطر هذه التجليات بشكل رئيس في ثلاث: سياسية واقتصادية وثقافية، يعاضد كل واحد منها التجلي التكنولوجي الاتصالاتي الذي يعتبر أحد عناصر تكوينات العولمة الرئيسة. وتدعم من جانب آخر كل المظاهر التي تحقق دوراً ما في نمو وتعميق الاعتماد المتبادل بين الدول والاقتصادات القومية وتدعم وحدة الأسواق المالية وتسهل يسر وحيوية المبادلات التجارية في إطار نزعت عنه قواعد الحمائية التجارية احتراماً وتنميناً للمنجز الراهن والحيوي لإنشاء منظمة التجارة العالمية وتفاعلاتها التربيطية، وافرازاتها في مستويات حياة الشعوب والمفاهيم السياسية الجديدة لها، وأطر الحكم التي تعبر عنها وفق منظومة العلاقات الدولية الجديدة؛ حتى عندما تسمح بالشب عن طوق الهيمنة التي تسعى لفرض العولمة المؤمركة، ومواجهة العدوان على الخصوصيات الثقافية، والتمسك بالهويات في إطار المعاصرة. وربما يكون منطق الاختلاف حول العولمة هو أحد تجلياتها الرئيسة في مظاهر الحياة التي تؤسس لسيادتها في جميع المجتمعات؛ لأنه يخشى على أحادية العولمة حتى عندما تخرج من رحم الإمبريالية بصفتها أعلى مراحل الرأسمالية أن تؤول خلال عقود قليلة إلى توتاليتارية جديدة تتسلح بوعي مركب للتسلط مستورث من النظامين القديمين (الرأسمالية الأمريكية والاشتراكية السوفياتية).
وإذا كان ليس في وارد أحد من عالم اليوم معاودة إنتاج نماذج التجريب التي أرادها كل طرف لاشتراكية بلاده: الاشتراكية الآسيوية، الاشتراكية القومية، التطور اللارأسمالي، الاشتراكية الصينية،...الخ، فإن ذلك لا يمنع في عصر العولمة لاعتبارات تتعلق بالخصوصات والاستثناءات التي تغلًف بها دائماً، من أن تكون هناك أنماط أخرى للعولمة غير "الأمركة" مثل الدعوات لـ "أوربة العولمة" من قبل كثير من البلدان الأوروبية في مواجهة العولمة المؤمركة "كما أن هناك دعوات لوجود "عولمة آسيوية" للأسباب نفسها. ولو كان الشرق الأوسط شريك حقيقي في إنتاج العولمة وأحد أعمدة دعمها، لجازت المطالبة بأن يكون هناك "عولمة شرق أوسطية".
وتحقق هذه الجوازية بكل دلالة التفسيرات والأسئلة المطروحة عن أسباب مقاومة العديد من المجتمعات للعولمة بشكل عام، حتى عندما تغطى اعتراضاتها وأشكال رفضها المختلفة بتمسكها بمطلب "الاستثناء" الهوياتي والثقافي.
إن توالف التجليات في آلية دفع تفاعلية وذات دينامية في جميع جوانب حياة الناس تجعل توجهها العام ينتزع بشكل واضح وصريح إلى الديمقراطية والتعددية الآخروية، وتقديس الحق العام، واحترام حقوق الإنسان في سياق يوفر الإجابة على التساؤلات التي تطرحها أشكال التطبيق المباشر في مختلف المجالات، خصوصاً لجهة وجود نمط واحد من العولمة أم أنماط متعددة ومختلفة. وكذلك التساؤلات حول الأولوية والأفضلية لاحترام مواثيق الإنسان العالمية أم للاستثناءات والخصوصيات التي تمنع تطبيق هذه القوانين .
وفي ظل الاستخدام البشع والمخيف للتدخل الأدبي السافر، هل هناك معيار واحد أم ازدواجية معايير لتطبيق هذه القوانين؟.
بكل تأكيد هناك عيوب وثغرات ونواقص وأحياناً (جرائم) قد ارتكبت في أيلولات انتقال العالم المتعددة نحو العولمة، بما يجعل الإجابة على الاستفسارات والأسئلة التي طرحت سلبية. ولكن ما دامت العولمة تتسع قدرات تأثيرها وفعالياتها في أنماط ومجالات الحياة المختلفة بما يعني أن لها تجليات خلاقة. وهذه هي التي ستحسن في نهاية الأمر مستقبل العولمة ومصير البشرية ليس على الكوكب الأرضي وإنما على خارجه أيضاً.

التجليات السياسية
تشير الاستقراءات المدققة لحراكات الحياة السياسية على النطاق الدولي وعلاقات قوى الهيمنة السياسية بدول وتكتلات دول العالم الأخرى، وكذلك ضمن المؤسسات والاجتماعات الدولية أن السمة العامة الرئيسة لتفاعلات هذا الحراك في مراحله المختلفة هو بروز مفهومي "الهيمنة التسلطية " و"الشّمولية"، وتراجع مقولات "التعددية " و"حق الآخر" و"الديمقراطية ". وكذلك تقلص الحماس لمبادئ حقوق الإنسان، وتزايد الجرأة في التطاول على المواثيق الدولية وانتهاكها.
وأدّى ازدياد الإنتاج باعتباره أحد عناصر العولمة، والتبعية كأحد نتائجه المباشرة إلى تقلص دور الدولة القومية بعد أن أصبحت تعيش أزمة التبعية للرأسمال العالمي ولدول المركز. كما أن فكرة السيادة الوطنية بدأت تفقد من قيمتها. وأكثر من ذلك أن السلطة انتقلت من الدولة بصفتها مركزها السياسي التقليدي إلى السوق كمركز اقتصادي جديد (يتحكم بالسياسي أيضاً)، وتراجعت قوة الدولة القومية، أو الوطنية أمام قوة رجال المال، بحيث صرنا نتحدث عن الدولة الرخوة التي غيرت وظيفتها من السيادة والتحكم والمبادرة إلى التنظيم والتوجيه والمسايرة .
ونتج عن هذه الاستشرافات أن البعض أخذ يصور العولمة على أنها ظاهرة تحرر من ربقة الدولة القومية إلى أفق الإنسانية الواسع. ولكنهم لم يعوا أن الدولة كانت ولا زالت أداة الطبقات المسيطرة لفهم الطبقات الأخرى. وهي دائماً الوسيلة الناجعة للطبقات المسيطرة لتحقيق أهدافها بكل الأساليب. وحيث تتغير أشكال الخدمات وأنواع المصالح وألوان مطامع الطبقات المسيطرة بتغير الأزمان، فإن وظائف الدولة تتغير تبعاً لذلك، وتكون دائماً في خدمة تحقيق هذه المصالح. فحيث كنت وظيفة الدولة التدخل في عملية الإنتاج نفسها بتوحيد السوق القومية وإزالة العقبات القائمة أمام انتقال البضائع وتوفير الأمن، فإن هذا الدور قد تراجع بعد أن أصبحت القرارات في يد أرباب العمل. ولم تعد الدولة تحمي منتجاتها من المنافسات الخارجية أو تعيد توزيع المداخيل لصالح الطبقات الدنيا للحد من الفقر والتضخم، لأنه أصبح من مهامها خدمة المصالح الحديثة للطبقات المسيطرة والشركات المتعددة الجنسيات والرأسمال العالمي. وصار مطلوباً من الدول أن ترخى قبضتها تدريجياً عن الاقتصاد والمجتمع تحقيقاً لصالح هذه الشركات. وتحتم عليها في الوقت نفسه أن تتخلص من مركزية الدولة تدريجياً كذلك لنفسح في المجال لقيام المجتمع المدني.
ولكن العولمة في الوقت نفسه في سعيها لإجلال المجتمع المدني محل الدولة لم تترك إلا فسحة ضيقة في المجال الخاص، في الوقت الذي تبشر فيه بالديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان وحرية الفرد والحريات. والعولمة من جانب آخر تفضّ الطرف عن انتهاكات دول المركز هذه الحقوق والحريات والقيم المدنية.
وتثير تجليات هذه المظاهر العولمية دهشة بعض الباحثين الاجتماعيين عندما يرون "أن دولة الرفاه الرخوة ارتبط ظهورها في العالم المتقدم بظهور الأجهزة القوية في العالم المتخلف التي تهدم الأسوار العالية التي كانت سداً منيعاً أمام المشروع الرأسمالي العالمي. وفي العالم الثالث هذه الدولة القوية لا تبنى وإنما تفكك وتترك مهمة البناء لغيرها، أي للشركات العملاقة متعددة الجنسيات في ظل استقطاب سياسي عالمي لا مثيل له في التاريخ. هكذا تعبّر العولمة عن حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ".
ومع أنه يمكن القول أن أسباباً عديدة تقف وراء بروز هذه الأسئلة والتساؤلات وأحقيتها الوجاهية، إلا أنه يمكن القول أن أهم هذه الأسباب هو الخواتيم التي وصلت إليها حراكات السياسة العولمية عندما تكرست مفهوماً نظرياً فكرياً وأيديولوجياً اكتسب اسم "حركة عولمة السياسة " وأخذ يترسخ تدريجياً في وقائع وظواهر عديدة تتمتع بتجسيدات حسية وفاعلة على أرض الواقع؛ مثل ظاهرة إحلال المجال السياسي العالمي محل المجال السياسي المحلي، وكذلك ظاهرة ارتباط السياسة في أي مكان مع الوجود السياسي العالمي، وظاهرة الاحتضان السياسي، وظاهرة تمدد السياسة خارج نطاق الدولة القومية، وظاهرة لحظنة من لحظة السياسة، وظاهرة التدفق الحر وغير المفيد للسياسة على الصعيد الكوني، وظاهرة ازدياد الروابط السياسية بين الدول والمجتمعات والأفراد، وظاهرة وجود وصعود النموذج الفكري والسياسي الليبرالي بعدما تحقق من نجاحات في مجال لبرلة الثقافة السياسية على الصعيد الدولي، ثم ظاهرة الأمركة التي قطعت أشواطاً هامة على أرض الواقع خلال السنوات العشر الأخيرة وحقيقة الأمر، فإن وجود هذه الظواهر وتجسيداتها، توحي بتفسيرات ومعاني مختلفة للعولمة السياسية. ويتأكد هذا الأمر بشكل جليّ عندما نرى أن نتاجات حراك تفاعل العولمة السياسي في نهاية القرن العشرين تشير إلى أن حركة عولمة السياسة قد اتّسمت بعكس ما بدت عليه من تجليات سياسية في مراحل تطورها المختلفة؛ إذ كانت أبرز هذه التجليات "سقوط التوتاليتارية" و"تهشّم السلطوية" و"النزوع إلى الديمقراطية" و"احترام مفهوم الأنا والآخر" و"الالتزام بحقوق الإنسان" و"الإيمان بالتعددية السياسية " و...الخ.
ومن فرط رحابة القبول بهذه النتاجات كمعطيات جديدة لدى مجتمعات واسعة في أوروبة الشرقية وأمريكا اللاتينية والشرقين الأقصى والأدنى، وكذلك الشرق العربي وبعض البلدان الإفريقية، فإن ذلك قد خلق حراكاً جديداً يفلسف المضامين السياسية الجديدة. وتمثل مثل هذا الأمر بشكل صارخ في تداول الكثير من الأسئلة والتساؤلات، والتي كان من بين أبرزها السؤال حول ما إذا كان هنالك نظرية واحده للديمقراطية، هي الديمقراطية الغربية، أم أن هناك صياغات أخرى متأثرة بالخصوصيات السياسية والثقافية للمجتمعات في العالم؟!.
ومن بين أهم الأسئلة التي أثيرت في هذا السياق واحداً يقول: هل هناك إجماع على احترام مواثيق الإنسان؟، أم أن هناك نزعة لدى بعض الدول للدفع بالخصوصية الثقافية لمنع تطبيق مواثيق الإنسان العالمية؟!. هذا بالإضافة إلى الاشكاليات التي أخذت تظهر في نهاية القرن الماضي حول سياسة ازدواجية المعايير في تطبيق قواعد حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وكافة المكونات المؤسساتية الدولية المنبثقة عنها .
وظهرت في الوقت نفسه تساؤلات حول مدى تطابق هذه المفاهيم العولمية الجديدة مع وقائع الهيمنة الأمريكية على مؤسسات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وما نتج عنها من مظاهر عدوانية مثل الاستخدام المعيب لسياسة التدخل العسكري ضد بعض دول العالم الثالث (حتى الآن)، الذي يتحول بفعل الهيمنة من قرار عدواني أمريكي إلى قرار للشرعية الدولية صادر عن الأمم المتحدة أو مجلس الأمن.
إن ما يحدث على أرض الواقع هو تشكل مجال سياسي عالمي يكبر ويزداد حضوراً ومثولية وتأثيراً، ويتمحور حول العالم الواحد وليس حول الدولة أو الوحدات السياسية المنغلقة. وفي المجال السياسي العالمي، الدولة ليست وحدها هي مركز السياسة لإنها لم تعد تقوم بوظيفة الدولة القومية التي اضطلعت بها منذ تأسيسها في أوروبه قبل ثلاثمائة عام. وبالتالي، فهي ليست مسؤولة مسؤولية كاملة عن أفرادها وأمنها وبيئتها وحتى مصيرها ومستقبلها. وأن قيامها بمثل هذه الوظائف في عصر العولمة إدعائي ومزاعمي وفي أحسن أحواله نظري. والدولة في أوروبه التي مثلت نموذجاً صارخاً للدولة القومية على امتداد القرون الثلاثة الماضية تغيرت وظيفتها في عصر العولمة. وقد دخلت اليوم مرحلة التخلي الطوعي عن بعض في مظاهر السيادة من أجل تحقيق هدف الاندماج الاقتصادي والسياسي الأوروبي كتمثل للعولمة السياسية وارتباطها ببروز المجال السياسي العالمي الذي يستمد حضوره من مؤسسات وقضايا ومسؤوليات وقوانين وأزمات عالمية تتطلب إدارة عالمية تطرح حلولاً ومخارج مشتركة تتخطى الدول مهما كانت كبيرة أو عظيمة. وفي المجال السياسي العالمي أيضاً أصبحت المعطيات السياسية حول أي شأن في أي وحدة جغرافية من مناطق العالم جزءاً من اهتمام التداول السياسي العالمي في أي مكان على الأرض، كما لو أنه يطال إنسان الأرض أينما أقام. إن هذه الفكرة حتى عندما تؤهلها انتساباتها الكونية إلى الشيوع الاستعمالي الذي يصل إلى حدود مواصفات الظاهرة، تظل جديدة كمعطى يعولم مثلاً القرارات التي تصدر في عاصمة ما بنقلها إلى جميع أصقاع الأرض لتصبح واحدة من مكونات المتداول السياسي في كل مكان. وتتم هذه العملية وفق مفاعيل ظاهرة التدفق الحر وغير المحدود للمعلومات والأخبار والوقائع والقرارات السياسية التي تتمتع بصفة العولمية الشيوعه مستفيدة في هذه السرعة من الانتشار مما وفره ظهور حركة عولمة السياسة ومزايا "لحظنة السياسة (أي انتقال الحدث السياسي على اختلافه خلال لحظة)".
وبمعنى آخر، فإن عولمة السياسة جعل من خبر حدث سياسي في أي عاصمة في العالم حدثاً سياسياً في العالم كله يستحوذ على اهتمام كل الدول والمجتمعات ويؤثر فيها وتتأثر به. ووفق دلالات هذه الظاهرة العولمية يمكننا فهم الأسباب الحقيقية التي وقفت وراء استحواذ أحداث مثل سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1989م، وأزمة الخليج العربي عام 1990م، وهجمات الإرهاب الإسلامي الأصولي الجوية الصاعقة على واشنطن ونيويورك في أيلول (سبتمبر) 2001م، على اهتمام العالم بأسره، وانتقال أخبار وقائعها وردود الفعل عليها بسرعة الضوء من شرق الكرة الأرضية إلى غربها.
لقد جعلت حركة عولمة السياسة الأخبار والتشريعات والمعارف والكوارث والاكتشافات العلمية التي تحدث في مكان ما، أمام حالة سياسية جديدة، هي "أن السياسة هنا أصبحت مرتبطة بالسياسة هناك. والسياسة في الشرق مرتبطة بالسياسة في الغرب. والقرار السياسي الذي يتخذ في آسيا يجد صداه مباشرة في أوروبه. والتشريعات التي تصدر في واشنطن تكون ملزمة لكل العواصم في العالم. وقناعات شخص مختبئ في أحد كهوف أفغانستان تثير قلق كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين في واشنطن.
وتعليق أو مقالة صغيرة يكتبها كاتب في صحيفة نيويورك تايمز تثير اهتمام النخبة السياسية الحاكمة في أبعد منطقة في العالم ...".
إن مثل هذا الربط السياسي لم يكن معروفاً من ذي قبل إلا بقدر ضئيل جداً، وضمن حدود ضعيفة جداً. كما أن هذا الربط لم يكن يمثل هذا العمق والكثافة. وهو يحدث لأول مرة في التاريخ، ويفتح آفاقاً جديدة وغير معهودة من ذي قبل في التاريخ السياسي العالمي. كما أنه يفرض وقائع سياسية عالمية جديدة وغير تقليدية وتتجاوز المجالات المحلية والإقليمية. ويفرض على هذه المجالات أن تستبدل نفسها تدريجياً بالمجال السياسي العالمي.
ويعني هذا الأمر بثقافة العولمة ومصطلحاتها اللغوية والتعبيرية أن السياسة قد شُيّئت ثم سُلّعت، وصدرت إلى الخارج كما تصدر السلع والمنتوجات والأفكار والتقانيات. وتتم عملية التصدير بالوسائل التكنولوجية والفضائية نفسها أيضاً، مع فارق أن حجم المصدر من السياسة إلى الخارج يفوق كثيراً على ما يبقى ضمن الحدود الوطنية للسياسة. ولقد سمحت هذه التقنيات للسياسة أن تتدفق بحرية وتتمدد خارج الدولة وتتجاوز نطاقها المحلي وإطارها الجغرافي، بما في ذلك الخروج عن سيطرة الحكومات والنزوع إلى عالمية الاهتمام السياسي وعدم التقيد بقيود الزمان والمكان، والتفاعل مع الحدث وتفاصيله في أي مكان من لحظة حدوثه في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، بما يساعد على بلوغ البشرية مرحلة الزمن السياسي العالمي الواحد، حيث لم تعد هناك أزمنة سياسية مختلفة كما كان الأمر في السابق، برغم بقاء اختلاف الأمكنة ماثلاً حتى اليوم.
إن التوحد الزماني للفعل والوعي السياسي الناتج عن معرفة الفعل وتأثيراته وارتباطاته وتفاعلات كل منها، هو تحول نوعي. ويعني أن السياسة أصبحت بلا حدود والعالم على وشك أن يتحول إلى عالم بلا حدود سياسية. والحدود السياسية التقليدية المرتبطة بالدولة القومية في تراجع وفي طريقها إلى الانتهاء.
ولقد حدث تداخل شديد بين الداخل والخارج وبين الحلي والخارجي، أسس لتواصل قوي لا يسمح لإجراء أي فصل بينهما إلا بموجب قوانين نظم العلاقة بينهما.
إن المجال السياسي لم ينته ولا تظهر أية إشارات تدل على إمكانية حدوث ذلك، ولكن هناك ما يدل على وجود اشتراكات تفرض على المحلي أن يتعايش مع المجال السياسي العالمي الذي يزداد تعاظمه يوماً إثر الآخر. وهذا يعني إن المجال السياسي العالمي يتماثل مع المجال الاقتصادي العالمي في توصيف نسقه وشروطه بما يحقق له أن يكون بلا حدود سياسية كما هو النظام الاقتصادي بلا حدود اقتصادية. وذلك لأن الحدود السياسية المتبقية هي حدود افتراضية ونظرية.
وفي أحسن التقديرات هي مليئة بالفتحات والمسارب الالتفافية وقابلة دائماً للاختراق، وهذا يعزز الرأي القائل بأن لحظة لبرلة العالم قد أزفت لتجعل من الليبرالية السمة الأكثر رسوخاً من سمات عولمة السياسة في بداية القرن الحادي والعشرين.
ونظرة استطلاعية على واقع عالم اليوم ترينا أنه موحد في تأكيده على حقوق الإنسان والحريات السياسية والمدنية. وهو منجذب للنموذج الليبرالي كتعبير عنها أكثر من انجذابه لأي نموذج حياتي أو فكري آخر. وإن "الحرية الآن هي القيمة الصاعدة عالمياً بعد أن تراجعت معظم النماذج الأخرى بما فيها النموذج الاشتراكي الذي يجسد قيمة العدالة".
لقد كانت العدالة هي القيمة التي تستأثر باهتمام البشرية نتيجة للنجاحات التي حققها النموذج الاشتراكي على الصعيد العالمي منذ عشرينات القرن الماضي وحتى أواخر ثمانينياته، حيث انهار الاتحاد السوفياتي ومنظومة البلدان الاشتراكية، حيث فقدت بريقها دون أن تختفي من الوقائع اليومية في حياة الناس ومن الفكر السياسي العالمي، ويحل محلها الاهتمام بالحرية كأولوية بعد تزايد الانشداد إلى الفكر الليبرالي الحر، وتحوّل التفضيل لصالح النموذج الليبرالي؛ ليتكرس أخيراً نموذجاً لوعد الخلاص الإنساني بعد توجه قدرات وإمكانيات ونجاحات المجتمعات الصناعية والدول المتقدمة لدعمه، وتبني الدول الكبرى له وتطبيقها مبادئ الاقتصاد الحر، والالتزام بالديمقراطية بما فيها مراعاة حقوق المواطنين في التصويت والترشيح والانتخاب، والالتزام بمبدأ التداول السلمي للسلطة أيضاً، واحترام التعددية اللغوية في المجتمع الواحد.
ويتأكد اتساع حركة عولمة السياسة من النجاحات في مجال الديمقراطية التي تحققت في بلدان كثيرة من العالم خلال السنوات العشر الأخيرة. بما يعني صعود النموذج الليبرالي كتعبير عن دمقرطة العالم؛ وفق ما يستدل عليه من التزايد الملحوظ في عدد الدول الديمقراطية خلال هذه الفترة، وتراجع عدد الدول والحكومات الاستبدادية والأوليجاركية، وتلك الدول التي تكثر من انتهاكها لحقوق الإنسان والحريات على اختلاف تعددها.
وتعني هذه المتغيرات التي تزداد اتساعاً على النطاق الدولي أن بداية القرن الحادي والعشرين ستكون زمن بروز "النظام العالمي الجديد" الذي ترى سماته العقلية واضحة المعالم وتشي من الوهلة الأولى أن هذا النظام سيكون أكثر ديمقراطية وأكثر ليبرالية من "النظام العالمي القديم"، وأن السياسة ستكون فيه أكثر عولمة مما كانت عليه في أي وقت من الأوقات؛ وهذا سيؤدي في تجلياته الأهم إلى إمكانية بروز المواطنة العولمية والهوية الإنسانية التي بدأت تحل تدريجياً محل "المواطنة الوطنية" و"المواطنة القومية"، وتنافس بمعنى ما "الهوية المحلية" الراهنة.
وتشير هذه المتغيرات تأثير تفاعلات مكوناتها في عمليات حياتية متنوعة إلى أن عولمة السياسة أخذت تعني تعرف الإنسان على بعده العالمي واقترابه من هوية الإنسانية، والتي ستنمو وستصبح أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، بسبب تطور النظر إليها كضرورة.
لقد كان البعد العالمي للإنسان قائماً في وعيه وسلوكه في كل المراحل التاريخية للبشرية، غير أن هذا البعد لم يكن يمثل هذا الوضوح والدلالة والحضور الذي يبدو عليه اليوم والذي سيتطور إليه في المستقبل. ومن جانب آخر، فإن هذا البعد رغم تمتعاته الهوياتية يقف حتى الآن على حواف دلالة "المواطنة العالمية" باعتبارها حالة إنسانية عامة، ولكنها تتأهب من جانب آخر لعدم تفويت أية فرصة يمكن أن نجعلها وشيجة ترابط بينها وبين الجيل الجديد الذي سيحفز التمتعات الهوياتية على بلوغ حقيقة "المواطنة العالمية" و"الهوية الإنسانية" بتوسيع استخدامه للتكنولوجيا، وبزيادة إقباله على الثقافة الشابة المعاصرة، ولتعميق تواصله مع القضايا العالمية، وتفريع اطّلاعه على المستجدات الدولية، وتكثيف اهتمامه بمصير البشرية.
إن حركة عولمة السياسة المتناوبة تدل بشكل صارخ على أن العالم يتغير، وبأسرع مما يعتقد. والتغير الذي يجري حالياً يصب بمجمله في سياق عولمة العالم تدريجياً. وما هو محزن أن العولمة لم تعكس على الصعيد السياسي حتى الآن عوامل انتصار لشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، على أنظمة الاستبداد والقهر التي تتحكم في مصير حياتها، لا بل أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لا زالت تساند وتدعم الأنظمة الاستبدادية في هذه البلدان في مواجهة نضالات شعوبها من أجل الحرية والسلام والديمقراطية والتنمية.
وأن أقصى درجة في متغيرات السياسة الخارجية لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية العولمية لا تتجاوز الدعوة إلى محاربة الإرهاب الدولي وقيادته والتجييش ضده عسكرياً دون الأخذ بعين الاعتبار ضرورة معالجة جذور أسبابه التي لا تخرج عن دائرة القهر والحرمان والجوع والتجهل والتفرقة.
وبغض النظر عن مدى تأييد أو معارضة المفاهيم العربية السائدة للعولمة خصوصاً في جانبيها السياسي، تظل العولمة أحد أشكال الهيمنة السياسية بعد تفرد قطب واحد بالسيطرة، بما يجعلها قابلة لأيلولة مستقبلية تتلاشى فيها الدولة الوطنية المستقلة تدريجياً لتحقق تدريجياً شروط الاندماج التوافقي، أو الإكراهي مع تكتلات تتأهل للاندماج مع بعضها وفق شروط العولمة وتطوراتها لتحقيق هدف "كون العولمة " الأوحد.

التجليات الاقتصادية
تنامت ظاهرة العولمة في مجالات الحياة المختلفة وفق الآليات والكيفيات التي أصبحت معتمدة في التطوير والإدارة والبناء التنموي عبر ما يسمى آليات العولمة، وأمكن ملاحظة هذا التنامي بوضوح في المجال الاقتصادي بدءاً من منتصف القرن العشرين الماضي من خلال تزايد اندماج الشركات الكبرى وقيام الشركات العملاقة عابرة الحدود، وكذلك من توسع نزاعات السيطرة على الأسواق بين شركة رأسمالية كبرى وأخرى، والتنافس بين الشركات والمؤسسات المالية الكبيرة على ضم شركة أو أخرى إليها وقيام ما أصبح يعرف باسم مجموعات السيطرة التجارية أو الاقتصادية على وجه العموم .
وترافقت هذه التعبيرات العملانية بتغيرات واضحة في مدلولات مفاهيم التنمية الاقتصادية وما اشتملت عليه من مضامين استحدثت لخدمة هذه التغييرات، مثل: "تطوير أوضاع الدولة الفقيرة حتى تلتحق بأي عربة في قطار العولمة؛ وإنشاء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في الستينات، ومنظومة مساعدات التنمية التي تقدمها الدول الغنية للدول الفقيرة في العالم الثالث، وبرامج قروض التنمية من البلدان الغنية والمؤسسات المتعددة الأطراف، مثل: البنك الدولي، وبنك التنمية الإفريقي، وبنك التنمية الآسيوي، وبنك التنمية للدول الأمريكية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وغيرها.
وقد ترافق ذلك، مع كل ما فيه من نوايا حسنة وبروز اتجاهات سلامية واقتصادية سياسية واجتماعية اندمجت في مفهوم "تضييق الهوة بين الشمال والجنوب"، بازدياد ترسخ مفهوم اللحاق وما يشتمل عليه من مضامين هيمنة وتبعية تجعل من بعض مظاهر النمو التي يمكن ملاحظتها في الحراك الدولي ضمن إطار حوار الشمال – الجنوب سخافة، ووظائفية تزيينية.
وتؤشر معطيات وثائق البنك الدولي عن الأربعين ستة الأخيرة (2005-1965) التي هي عمر العولمة المعاصرة الحقيقي إلى أن النتائج المباشرة للنمو الاقتصادي العولمي رسّخت مبدأ "تمركز رأس المال" في الدول التي تملكه أو توجهه في خدمة مصالحها، فبدت الدول السبع الكبرى G-7 (الولايات المتحدة، اليابان، ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا، كندا) قائدة لعالم اليوم، ومركز حركة الاقتصاد العالمي، حيث يوجد في عواصمها المقار الرئيسة القانونية لأكثر من (432) شركة من أكبر (500) شركة صناعية كبرى عملاقة متعدية الجنسيات. وإن الاجتماع السنوي الدوري لرؤساء الدول السبع الكبرى G-7 هو بمثابة اجتماع "مجلس إدارة اقتصاد العالم ".
وربما هو كما يرغب أن يسميه بعض الكتاب والمفكرين "المؤتمر السنوي للجنة التنفيذية لإدارة العالم".
ونرى في إطار ترشح مركزة رأس المال، أن هناك (58) بنكاً دولياً من أصل (69) بنك دولي تضمها قائمة الخمسمائة شركة دولية كبرى، و(5) شركات أعمال مالية و(37) شركة تأمين (من أصل 47 شركة تأمين ضمن قائمة الخمسمائة شركة) تقوم مقارها الأصلية في عاصمة أو أخرى من عواصم بلدان مجموعة السبع.
وإن من بين (4) شركات تخصيصية تعمل في مجال عمليات الاستثمار (هذه الشركات بضمن قائمة الخمسمائة) تقوم مقار (3) شركات منها في الولايات المتحدة الأمريكية، ومقر الشركة الرابعة تقوم في هونغ كونغ.
وفي السياق نفسه تجد أن هناك (22) شركة في مجال الاتصالات بضمن الخمسمائة شركة كبرى، وإن من بينها (19) شركة اتصالات تقوم مقارها في عواصم ومدن مجموعة السبع. وأن من بين (9) شركات تعمل في مجال ثورة المعلومات (من مجموع إجمالي الخمسمائة شركة عملاقة) تقوم مقار (6) شركات إنتاج الكمبيوتر وبرمجياته في الولايات المتحدة الأمريكية، وأما مقار الـ (3) شركات الأولى فتقوم في اليابان.
ويكاد موقع التواجد المقاري للشركات التي تعمل في مجال الخدمات والأغراض الأخرى محكوم بنفس العوامل والاعتبارات.
ويعتبر الفارق المذهل بين معدلات إنتاج دول العالم الثالث ومعدلات إنتاج الدول الصناعية وبالتالي معدلات إنتاج العالم هو الشكل الأمثل دلالة عن تجليات العولمة الاقتصادية. فنصيب العالم الثالث من مجموع الناتج المحلي الإجمالي للعالم في تراجع منتظم وهنا يمكن أن نشير إلى أن نسبة الإنتاج الوعي كانت 109% من الناتج المحلي الإجمالي للعام في سنة 1995م في حين أن نسبة عدد السكان العرب تعادل 4.4% من إجمالي سكان العالم.
إن هذه الحقيقة لا تتنافى مع واقع النمو الاقتصادي القوي في عدد محدود من دوله، وتراجع في معظمها، وانحدار سلبي مريع في عدد آخر. وهذه الحقيقة تفجع في مقدمة من ستفجعه دعاة "التجسير بين الشمال والجنوب" ومنظروا "المسؤولية المشتركة لتضييق الفجوة بين الشمال والجنوب"، وذلك لأن تخلي الدول الصناعية الكبرى عن بعض نصيبها لم ترصده إلى دول الجنوب، وإنما تنازلت عنه لصالح دول أوروبية صناعية وكذلك للصين.
لقد عانت دول العالم الثالث وبضمنها دول البلدان العربية كثيراً من القوانين والتشريعات الاقتصادية العولمية وعلى يد الشركات متعدية القارات بصفتها الحاكم الفعلي لعالم العولمة مباشرة، وكذلك من المؤسسات الدولية التي أنشأت كأدوات لتطبيق هذه القوانين والتشريعات كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرها، ولا زالت تعاني. وازدادت هذه المعانات بإعلان اتفاقية الغات سنة 1994 م، التي تحكم العلاقات الدولية في السلع والخدمات والأموال. ومن العسير على أي دولة من دول العالم مهما كبر حجمها أو ثقلها الاقتصادي أن تخرج عليها دون خسارة فادحة، خصوصاً بعد أن أصبحت الغات هيئة دولية لها قوانينها في المجالات المختلفة: الاستثمار الأجنبي، العمل، محكمة الغات أو هيئة التحكم، شرط الغات المولجة بالتفتيش في شؤون كل واحدة من الدول الأعضاء مرة كل خمس سنوات للتعرف على مدى التزامها بأحكام قوانين الاتفاقية وقراراتها المختلفة.
لقد وضعت الرأسمالية العولمية هذه المفاهيم كإطار لمنظومة قواعد التعامل الدولي والداخلي التي تؤسس لأيديولوجية "اقتصاد السوق ونظام المضاربة في البورصات العالمية". وقد حرص سدنة هذه الأيديولوجيا، وفق تسويغات ديمانموجية أن يفتحوا في معبد أيديولوجيا السوق الحرة أبواب نجاة تمكن بعض أشكال نشاط المضاربة من الإفلات من كل أشكال الرقابة، بما يعني اقتدار المضاربات على تجميع ثروات تقدر بالتريليونات من الدولارات في حين لا يقابلها أي إنتاج عيني.
ولا تتورع الشركات متعدية الجنسيات سيدة اقتصاد السوق من توظيف أموال المضاربات وما تستطيع أن تدعمها به من أموال القروض البنكية في صوغ منظومات قانونية بآليات تحكم معقدة من السيطرة على اقتصاد العالم وتوجيهه، وإثراء من يجب أن يفنى من دول العالم لتجعل منه شريكاً مطيعاً، وإفقار شعوب بين أغلى وأدنى عالم بلدان الجنوب، إضافة إلى أن الاختلال البيني الواسع بين أغلى وأدنى المداخيل في البلدان الصناعية نفسها والذي نتج عن هذه السياسة الاقتصادية، قد كوّن في المجتمعات الصناعية الغنية فئات من الفقراء الجدد، الذين يصعب أن نفرق في خدمة أية أغراض ستشغلهم "غولة" العولمة، إذ لا يستبعد أن تغذي التيارات السياسية العنصرية المجموعات الرجعية المعادية للديمقراطية لتسهل إيجاد فرصة لقيام فاشية جديدة يكون بعض الفقراء الجدد بعد التغرير بهم أدواتها، في الوقت الذي ربما ينضم بعضهم الآخر إلى حركات مناهضة العولمة وكذلك إلى اتجاه أممي كفاحي ينسق النضال المشترك لجميع فقراء العالم من أجل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتنوع الثقافي.
وإن من أبشع تجليات العولمة الاقتصادية اتساع ظاهرة تفقير بلدان العالم الثالث عبر توسع الاعتماد على فرض سياسات اقتصادية موظفة خصيصاً لخفض نصيب هذه البلدان من الناتج المحلي الإجمالي للعالم؛ والتمسك بهذه السياسات حتى عندما تبدو نتائج تطبيقاتها متعاكسة أو متناقضة مع أيديولوجية السوق وسياسة الليبرالية الجديدة، مثل: "مفهوم مقاومة زيادة الفقر بزيادة ثراء الأغنياء"، أو ما يسمى "مفعول التساقط" الذي يعد أحد أبرز مسلمات الليبرالية الأهم التي يستند إليها البنك الدولي في رسم سياسات برامج مكافحة الفقر.
ويعني هذا "المفهوم" أو "المفعول" بشكل مبسط وواضح أن "تزايد ثراء الأغنياء سيصفي تلقائياً وتدريجياً ظاهرة الفقر. لأن الغنى المزايد يعني زيادة الاستثمار وخلق فرص عمل متصاعدة، فتنحصر البطالة ويتراجع الفقر تدريجيا ...".
ورأى البنك الدولي أنه ما دامت الدولة لا تتحمل مسؤولية منفردة في مجالات مكافحة الفقر، فإنه لن ينأى بنفسه عن المشاركة في هذه المسؤولية، فوضع السياسات التخصصية والبرامج العديدة والمتنوعة التي يمكن أن تستفيد منها الدول الفقيرة، في الوقت الذي حرص على توجيه هذه الدول إلى أن يكون في مكونات السياسة الاقتصادية لكل دولة إجراءات تخفف من وطأة الفقر على المجتمع. وقد دفع هذا الأمر بالبنك الدولي أن يكثف نشاطاته البحثية في مجالات الفقر سواء بحصر أعداد الفقراء أو بتناول أسبابه ومسبباته مروراً بتوصيف أنواعه وتصنيف درجاته، ووصولاً إلى كيفيات وآليات معالجته.
وبرغم تقديرنا العالي لأهمية سياسات وبرامج البنك وغيره من المؤسسات المالية الدولية الأخرى في مكافحة الفقر والآثار الناتجة عنه، إلا أن المتابعات الميدانية الاستطلاعية والتحليلية في بلد جنوبي وأخر (بما فيها البلدان العربية) ترينا بأن هذه البرامج لم تستأصل أسباب الفقر حتى عندما استطاعت القضاء على مظاهره وتعبيراته، فظل شبح رجعته المرعب متوقعاً. وقد كان لهذا التوقع أثره الكبير على سيادة مفهوم "عدم الاستقرار" بكل أنواعه في مجتمعات دول الجنوب. وقد كان من أهم عناه "عدم الاستقرار" عدم التفكير بإمكانية بلوغ "التنمية المستقلة" أو "التأصيل الانتسابي" أو "التنوع الثقافي". وأكثر من ذلك تعميق مفهوم عدم الثقة بالنفس عند سكان العالم الثالث تحديداً أن بإمكانهم الوصول إلى التشارك في عمليات العولمة مهما أوغل في الحديث عن مفهوم "المشاركة ".
وربما يعود ذلك إلى أن مفاعيل العولمة الاقتصادية برغم كل تكويناتها الزخرفية البراقية، لا تتمتع بأية درجة من الأهليات التنموية، وذلك لأن وظيفتها الرئيسة توفير شروط ديمومة سيطرة الشركات المتعدية الجنسيات على الاقتصاد الكوني، وكذلك، تعميق مفاهيم التهميش والتبعية الاقتصادية عند بلدان الجنوب من خلال التوسع في توظيف نفس أدوات وآليات السيطرة الرأسمالية الأمبريالية التقليدية (ضيق حجم السوق، تضييق حجم السوق الاحتمالية، التحكم في معدلات نمو الإنتاج، تعزيز سطوة الأمن لتوفير الاستقرار، و...الخ).
ويؤسف على هذا الصعيد ضرورة القول أن التحولات العولمية الاقتصادية الجبارة لم تكترث لما أخذ يبدو عليه "الاستقرار السياسي في بعض البلدان الصناعية الكبرى" من مظاهر فساد صارخة مرتبطة بالحكم والسياسيين على نطاق واسع، ولم تكن واضحة من ذي قبل إلا بدرجات متدنية وبنسب عدد ضئيلة في بلدان العالم الثالث.
ومع أن قيم مظاهر الديمقراطية توفر إلى حد كبير وسائل الكشف عن الفساد ومحاكمة الفاسدين، إلا أن العولمة وهي ترفضهم نظرياً لم تجاريهم عملياً.
ومع أنه تكثر نشاطات البحث عن الأسباب المؤدية إلى تفاقمه، فإن اجتهادات تفسير عديدة تعيد حجم الفساد السياسي في الدول الديمقراطية الغنية إلى تراجع دور الدولة وهيبة كبار المسؤولين فيها أمام النفوذ والقوة التي تملكها الشركات العملاقة متعدية الجنسيات، لاسيما وأن في عصر الكثيرين من المناصب الوزارية والحكومية الأخرى. وأصبحت مناصب الدولة وسيلة للإثراء حتى لو أدى الحصول على المال إلى فقدان المنصب السياسي.
ومصيبة الفساد في البلدان الجنوبية مفجعة أكثر مما هي عليه في البلدان الغنية إذ يقترن الفساد في العالم الثالث بانعدام الكفاءة وبجشع وجهل كبيرين يعود بأضرار بالغة على جهود التنمية. "فالمسؤول السياسي الذي يقبل رشوة من شركة يتعاقد معها، يقبل أن تدفع بلده ثمناً أعلى من المتاح في الأسواق، أو أن تقبل سلعاً أو خدمات من مستوى أدنى بكثير من المتاح ". ومع ذلك فهل يمكننا أن نقول أن الفساد في أوقاتنا المعاصرة هو أحد أبرز تجليات العولمة الاقتصادية!؟.
وبخلاصة موجزة يمكننا القول أن العولمة قد أدت إلى نشوء نمط إنتاج رئيس تلحظ عناصره بوضوح في كل بلدان العالم، له قواه المنتجة وله علاقات إنتاجه الملائمة والمتميزة، وله دائرته التبادلية التجارية. وهذا يعني بتبسيط أكثر، أن العولمة تقوم بتسليع كل شي عبر نمط معين من إنتاج الثروة وتوزيعها في أماكن الكون المختلفة. وتحقق هذا الغرض بواسطة نقل دائرة الإنتاج الرأسمالي إلى الأطراف بعد حصرها كلياً في مجتمعات المركز ودوله وذلك بعد استكمال العمليات الاقتصادية الأساس التي تتميز بها هذه الظاهرة والتي تتمثل في زيادة الاكتشافات والاختراعات العلمية وإحداث درجة عالية من تطور التكنولوجيا، ونشر عولمة الإنتاج والتبادل والتحديث، وهو ما سيؤدي إلى ارتفاع حدة المنافسة بين القوى العظمى والشركات العملاقة متعدية الجنسيات والرساميل العابرة للقارات. وهذا سيساعد على تداخل الصناعات عبر الحدود وانتشار أسواق التمويل وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول.
وتكون النتيجة لذلك زيادة درجة الارتباط المتبادل بين المجتمعات الإنسانية. كما أن التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي سيؤديان إلى عولمة النشاط المالي واندماج أسواق المال.
وهنا يصح القول أنه إذا كانت الرأسمالية هي دوماً نظاماً عالمياً، فإن العولمة التي هي أرقى من الإمبريالية (أعلى مراحل الرأسمالية) لن يتجاوز دورها تكثيف وتسريع وتثمين لعلاقات التبادل الدولية. وهذا سيعني بالضرورة وجود اختلاف جوهري وبنيوي بين عولمة دول المركز وعولمة دول الأطراف من الناحية الاقتصادية وفقاً لهذه المفاهيم.
إن مثل هذا الافتراض منطقي لأن العولمة تعمل على تحويل كل المنتجين المباشرين في التشكيلات الاجتماعية إلى العمل المأجور. وتجعل كل دخولهم تعتمد على السوق والتوزيع والتبادل، وتعمق التخلف الاقتصادي في بلدان الأطراف لاستقبال الصناعات الأكثر تلويثاً والأكثر ضرراً بالبيئة، والتي تتطلب كثافة في اليد العاملة.
وتقوم من جانب آخر على تشجيع بلدان الأطراف لاكتساب المعلومات والمعارف والاتصالات المعلوماتية والبحث العلمي للمحافظة على مواقفها في حلقات النظام العولمي. غير أن العولمة بدورها تكشف عن مفارقة على صعيد ما ذكر إذ هي تدعو إلى الاعتناء بالاقتصاديات المفتوحة بعضها على بعض وثمن شعارات الليبرالية الجديدة التي تدعو إلى تعميم الاقتصاد والتبادل الحر كنموذج مرجعي.
وتدعو أيضاً إلى قيم المنافسة الإنتاجية، وتعد العالم بالرفاه وبمزيد من التقدم، ولكنها، في الوقت الذي تكرس فيه سلطة السوق وتزيد في التبعية، وتفوض الاستعمار العسكري المباشر القديم باستعمار جديد اقتصادي غير مباشر؛ فتنتج بذلك محافل العاطلين عن العمل وتزيد من نسبة الفقر لتنتهي بالتالي إلى تكوين امبراطورية الفوضى التي تعمل على اختراق دائرة الإنتاج في الأطراف ذاتها لتقيم فيها منظومة العلاقات التي تتناسب مصالحها.
وتظهر تجليها العولمة الاقتصادية أساساً في نمو وتعمق الاقتصاد المتبادل بين الدول والاقتصادات القومية، وفي وحدة الأسواق المالية، وفي نزع قواعد الحماية التجارية في إطار الشروط التي تأسست عليها منظمة التجارة العالمية ودورها ومسؤولياتها في تعميق المبادلات التجارية.
وتبرز هذه التجليات الاقتصادية للعولمة بوجه خاص من خلال عمل التكتلات الاقتصادية العالمية، ونشاط الشركات عابرة القارات، والمؤسسات الدولية الاقتصادية، كالبنك الدولي وخلافه.
وبرغم دلالات تجليات العولمة الاقتصادية على مستقبل حياة أمم وشعوب الكون، إلا أن هناك أسئلة ظهرت وستظهر في واقع ومستقبل هذه الحياة تتعلق بمفاهيم وحقيقة استمرارية "الاقتصاد الوطني أو القومي"، خصوصاً وإن معطيات اندفاعات العولمة المتسارعة تشي بحدوث "أزمة الدولة القومية" بشكل حتمي، كما ستتأثر وربما تتغير مفاهيم وتطبيقات فكرة "السيادة الوطنية".
و"دور الدولة" تطرحه التجليات الاقتصادية للعولمة كمعطى أزماتي لم تجزم المعطيات الراهنة ولا تلك المتوقعة في القريب العاجل تأكيد قابلية استمرارية، أو تغيير صورته.
وبين ثنايا أحشاء التخمينات والتوقعات حول هذه المسائل الحيوية التي لم يتوصل الباحثون الاجتماعيون إلى استنتاجات محددة بشأنها حتى الآن، تنطرح أسئلة وتساؤلات أخرى تظل الإجابة عليها برسم جهود الباحثين ونتائج نشاط البحث الاجتماعي لمظاهر ومعطيات العولمة. وهذه الأسئلة مصيرية وخطيرة من نوع مدى صلاحية نظام حرية السوق كأساس للتنمية في مختلف دول العالم. ثم ما هي المخاطر التي يمكن أن تنجم عن التنمية الأحادية الجانب، أو التنمية الاقتصادية ذات البعد الواحد؟!.
إن استقراءً سريعاً لمعطيات تطور العولمة خصوصاً منذ بداية تسعينات القرن الماضي وحتى اليوم، ترينا أن اختلاف المواقف حول "اقتصاد العولمة" ليس جذرياً وحاسماً بما يساعد على بعث الطمأنينة على المستقبل الاقتصادي مهما تسارعت وتائر العولمة في التغيير والتطوير.
فاستعادة الرأسمالية لعولمتها كان الوجه الآخر لانتهاء الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية التي لا تتعامل بآليات الرأسمالية، ولا تسير بمنطقها حتى عندما لا تكون معادية لها أيديولوجياً. وهذه الاستعادة ما كان لها أن تتحقق لو لم تدعمها قوة التأطيرات التي تشكلت على النطاق العالمي كمؤسسات دولية وسيطة. وقد وصل هذا الدعم إلى حد أنها أصبحت ناطقة باسم النظام الرأسمالي في بعض الأحيان.
وإذا كانت فترة الثمانينات من القرن الماضي قد اتسمت بالجدل، وبالرفض أحياناً لأطروحات هذه المؤسسات وتوليفاتها، فإن دلالات ذلك الاحتجاج لتؤسس إلى ما يمكن البناء عليه في مطلب عدم الخضوع لاستحقاقات العولمة الاقتصادية عندما نفرضها اندفاعات العولمة وآلياتها، وذلك لأن تلك الاندفاعات قد بددت صورة تلك الاحتجاجات، بعد أن اتسمت السنوات اللاحقة منذ بداية عقد التسعينات من القرن الماضي بالرضوخ والقبول غير المشروط بها من دول العالم الثالث دولة بعد أخرى، وفق مسميات عديدة، وبتبريرات وتسويغات مختلفة ومتنوعة.
ومع أنه عند تفسير أسباب الرضوخ، يشار إلى تخاذل الدول الأوروبية وعجزها عن دعم معارضة الدول النامية للعولمة ولآليات الهيمنة الأمريكية لفرضها، في حين أن السبب الحقيقي هو غير ذلك ومختلف تماماً؛ وذلك لأن الدول الأوروبية شريكة بأسهم كثيرة وقوية للولايات المتحدة الأمريكية في العولمة أولاً.
ولأن مواجهة العولمة في عصر أحادية القطبية إمكانية مستحيلة. لذا، فإن مواجهة العولمة الاقتصادية لا تكون إلا بمساهمة حثيثة في أنشطة تحد من تغّول العولمة، وتسمح بالمشاركة فيها. وهذا الأمر غير ممكن أيضاً إلا بتغيير أو تطوير الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في "بلدان العالم الثالث" أو "الدول النامية" تتماشى مع روح العصر: الدولة الديمقراطية، مؤسسات المجتمع المدني، التعددية السياسية، التنوع الثقافي الديني واللغوي، سيادة "مفهوم الأنا والآخر بما في ذلك عرفياً واثنياً ...الخ.

التجليات التكنولوجية
فرضت معطيات تطور الحياة على النطاق الكوني، وإن بنسب مختلفة، على أن تهتم الحكومات بمتابعة التنمية الصناعية من أجل تأسيس بيئة مؤاتية لنمو وتطور النشاطات العلمية والتكنولوجية، تمكن هذه الحكومات تدريجياً من التأهل لتبنّي هياكل المؤسساتية تعزز قبول التكنولوجيا وتطبيقها وانتقالها واكتسابها وتراكمها، وتقيم منظومة وطنية للعلوم والتكنولوجيا كأداة تؤكد من خلالها على بلوغ درجة "الدولة المنتج اقتصاديا"، فتتمكن بذلك من الدخول في النادي الاقتصادي العالمي.
وكما تشير المعطيات على هذا الصعيد، فإن العلوم والتكنولوجيا هما متغير ذاتي أصيل لأنهما المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي. كما أنهما المنبت الفعلي لكل النشاطات المتصلة بظواهر التنمية والتصنيع وعمليات الإنتاج التجاري والاقتصادي البيني. أي بمعنى أن امتلاك التكنولوجيا والتملك من العلوم وتأهيلها لتحقق درجة "المنتج الوطني" هو الشرط الرئيسي، هما شرط القبول في عضوية نادي الاقتصاد الدولي.
إن التطور الاقتصادي المذهل الذي يشهده العالم اليوم، وتتفرد في امتلاكه وآليات إنتاجه وكيفيات وشروط توزيعه فئة محدودة جداً من الدول، وفئة أقل من المؤسسات والشركات المشكلة من عدد ضئيل من البلدان، يقوم على الجهود والنشاطات الواسعة والمذهلة والمتصلة في البحث والاستقراء العلمي وفي تطبيقات ذلك في المجال التكنولوجي وفي العمل على تطوير كل منهما، بشكل مضطرد وفي خدمة الأهداف نفسها وما يمكن أن ينبعث منها ما وما يتطور عنها وكذلك ما يترتب عليها من استحقاقات.
إن بلوغ غايات التقدم العلمي والتطور التكنولوجي لا يمكن تحقيقها على أي مستوى إلا باعتماد ديناميات النمو الاقتصادي التي تكرست مع الزمن وعبر توظيف العبر المستمدة من التجارب المتراكمة التي شكلت تكويناتها البنيوية، في النشاطات المبذولة من أجل تحقيق غاية النمو. ويستفاد من تجارب الدول على هذا الصعيد أن هذه النجاحات كان من المتعذر تحقيقها في مثل السرعة التي أنجزت بها لو لم يجر تأسيس الآليات المتخصصة للنمو وإقامة المؤسسات التي تسهل تحويل الكفاءة العلمية إلى نشاطات اقتصادية منتجة ومبتكرة، تسهم بفعالية في نقل المجتمعات من مرحلة إنتاجية إلى أخرى، ونحفظ جذوة القابلية للتطور متقدة ومتحفزة للانتقال من طور اقتصادي إلى طور أرقى وأغنى؛ ومتأهلة في الوقت نفسه لاحتضان وتطوير المفاعلات التحديثية المستخرجة من عملية التطوير نفسها وتوظيفها بشكل دقيق في متطلبات التقدم العلمي والتطور التكنولوجي بما في ذلك العمل على تأمين التحسن في الأداء الاقتصادي (حتى ولو كان دراماتيكياً) عن طريق التطبيق الصارم للقدرات المتوفرة محلياً في مجالي العلوم والتكنولوجيا وخلق المنظومات الوطنية اللازمة على هذا الصعيد.
إن الاهتمام إلى هذه المسألة هو أمر جوهري يفتح الباب أمام فرص مهمة تستفيد منها الدول الساعية نحو تحقيق النمو الاقتصادي والسير بنية الالتحاق بركب الاقتصاد العالمي، وربما يكون في أولوية هذه الفرص الإقتداء بالتجربة الدولية وتبني سياسات إيجابية تجاه عمليات المصدر الخارجي نظراً لما ستوفره من مساهمات دراماتيكية في تنمية الترابطات، وتسهيل انتقال التكنولوجيا، ويلغي الحاجة إلى اكتساب قدرات تكنولوجية كبيرة دفعة واحدة. ويخفض حجم متطلبات التمويل العالية.
لقد حققت الدول الكبرى لقبها في مجالات القوة المختلفة (السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والثقافية والاجتماعية، وغيرها) لأنها استلهمت ومنذ وقت مبكر في مسيرتها التنموية الشروط اللازمة للعملية التنموية ومفاعيل الدفع التنموي وميكانيزمات تحريكها وتوجيهها والسيطرة عليها. كما أنها سارت في طريق تطورها الاقتصادي وتقدمها العلمي والتكنولوجي على إيقاعات ما استرشدته كطرائق عمل من المفاهيم النظرية التي أشرنا إليها.
إن الدول الغربية قد عمدت إلى انتهاج هذا الأسلوب منذ أن عرفت أن شرط نمو قوتها الاقتصادية لا يمكن تحقيقه بدون نفوذ حربي في خارج أوروبه الجغرافي. وكان التمدد الأوروبي المطلوب لا مجال له على الصعيد الاقتصادي إلا محيط الجغرافيا العربية ودفاع التجارة العربية في هذا المحيط، حيث كانت الأكثر تطوراً في ذلك الزمان.
وشرع البرتغاليون في إطار هذا التوجه في تخطيط برنامج بحث وتطوير الوسائل التي تمكنهم من تحقيق هذا الهدف. فعملوا على بناء أسطول بحري حديث ومتطور يمكنهم من تحدي "نظام المتاجرة الدولي" المسيطر عليه من قبل العرب. ويذكر في هذا السياق أن جزيرة هرمز في بحر العرب في منطقة الخليج كانت مركز هذا النظام، وإنها كانت واحدة من أهم مدن العالم في ذلك الزمان.
عبر الأميرال فاسكو داغاما بأسطوله بحر العرب سنة 1498م، ودمر مركز التجارة العربية وأقام نظام حكم استبدادي أرعب التجار العرب والمسلمين، فأذعنوا إلى قانون سلطانة. ولأسباب ذاتية وموضوعية أيضاً لم يستطع البرتغاليون إلا تدمير مركز النظام التجاري العربي الدولي، في حين اضطلع بمهمة تفكيك النظام التجاري العربي الدولي واستطاع ذلك: الهولنديون والفرنسيون والبريطانيون.
وإذا كان البرتغاليون بتمكنهم من تطوير التكنولوجيا البحرية في القرن الخامس عشر ونجاحهم في الوصول إلى بحر العرب قد بشروا ببدء عصر الاكتشاف الجديد، فإن القوى الأوروبية الأطلسية (الهولنديون، الفرنسيون، البريطانيون) قد فككوا النظام التجاري العربي الدولي في القرن السابع عشر بتطوير مفاهيم السيطرة المالية التي تضافرت مع التطور الذي بلغته مفاهيم السيطرة العسكرية، إلى جانب اختراع اقتصادي جديد هو "شركات شرق الهند". وبحلول عام 1635م قضي على بقايا مظاهر التجارة العربية الخارجية، ولم يعد للعرب أي حصة في التجارة الدولية.
حققت أوروبه في عام 1500م تعادلاً تكنولوجياً مع العرب بما يعنونه بشكل مباشر، وكذلك بما يعنونه كأكبر كتلة متطورة تقنياً في العالم (حيث بلدان ما رف بعد ذلك بالمتخلفة أو النامية أو العالم الثالث تغط في سبات البدائية الموغلة). ولكن هذا التعادل لم يكن مؤهلاً للحفاظ على ديمومة التوازن. وأخذ يتقوض بسرعة بسبب التطورات التكنولوجية التي أخذت تحققها أوروبه في الثورة الصناعية الأولى منذ بداية القرن السادس عشر، وخصوصاً بعد: اكتشاف الطاقة القوة البخارية، واختراع وتطوير وسائل آلية للنقل، واكتشاف الطاقة الكهربائية ومعرفة كيفية توليدها، وظهور الطبيعيات الجديدة في ضوء الدراسات والأبحاث الكهرومغناطيسية، واكتشاف الأسمدة والأدوية الزراعية والآليات الزراعية واستخدامها الواسع في الزراعة، والتعرف على الكيمياء الجديدة، وتوظيفها في إنتاج منتوجات كيماوية أساسية في مجالات الحياة المختلفة، وكذلك إدخال بعض هذه المنتوجات الكيماوية الجديدة محل الصباغات والغزول الطبيعية، وتقدم العلوم الطبية.
لقد كان للتغيرات الناتجة عن الثورة الصناعية الأولى أثر ضخم في البنية التحتية لنقل البضائع وأنظمة التجارة. في حين أدخلت الثورة الصناعية الثانية زيادة ملحوظة في مجال المنتوجات والخدمات وكثرة واستمرار توفرها، مما جعلها معروفة ومشهورة ومطلوبة في مختلف أرجاء العالم.
وكان من أبرز ما حققته الثورة الصناعية أنها فكت ارتباط الاقتصاد بشكل تدريجي مع المادة. وأن المهارات البشرية والإبداع كانت في عام 1800م أكثر أهمية من المواد الخام. وأن هذه الحقيقة وحدها ستنخفض تدريجياً أهمية المواد الخام والعمالة غير الماهرة في الاقتصاد. وتسارعت عملية فك الارتباط مع المادة كثيراً. وخلال القرن العشرين كانت شبه مكتملة. فإجمالي الناتج الوطني العام في البلدان الصناعية الرئيسة مرتكز على العلوم. والمواد الخام لا تشكل أكثر من خمسة إلى عشرة بالمئة من إجمالي الناتج الوطني. وعلى العكس من ذلك، فإن اقتصادات البلدان العربية (ومثلها معظم البلدان النامية تقريباً) لا تزال مرتكزة كلياً على تصدير المواد الخام. ولا تشكل المتوجات المعتمدة على المهارة والقيمة المضافة سوى نسبة صغيرة من إجمالي الناتج القومي ...(2)".
وتشير معطيات المصادر الاقتصادية إلى أن جهود البحث العلمي التي بذلت بشكل كبير وواسع في البلدان الصناعية الكبرى قد أنتجت السلسلة المتصلة من الإنجازات في تكنولوجيا الصناعات الثقيلة والمتخصصة في مجالات الاقتصاد، وكذلك تقنيات الخدمات والصحة العامة والاتصالات والصناعات الدقيقة المختلفة.
وأسست من جانب آخر لقاعدة مادية ضخمة لديمومة تطور في المجال الاقتصادي وإدارته أيضاً بجميع فروعه، وكذلك الأمر في المجالات: العسكرية، والتجارية، والخدماتية، والاتصالاتية، وغيرها، بما يجعل "الثورة الصناعية" مؤهلة للانتقال بسهولة ويسر من مرحلة إلى أخرى أرقى منها.
والمؤسف أن هذه المنجزات الصناعية الأوروبية والغربية الكبرى لم تكن في خدمة تكريس أحقية الأمم بالمساواة وبالعدالة وبالتطور المتكافئ، ولتحقيق الرفاه الإنساني الشامل والدعوة لنظام دولي إنساني، وذلك لأن الدول الرأسمالية الكبرى فرضت هذا التوجه المفاهيمي ومنجزاته نظاماً استغلالياً ونهبياً وهيمنياً على شعوب العالم الأخرى واستعمرت العديد من بلدانها بشكل مباشر، وعدد كبير أيضاً بشكل غير مباشر.
وانصبت جهود الدول الصناعية الكبرى وحلفائها في دول المعسكر الرأسمالي على ضرب أي محاوله لأي دولة من دول محور (تحت الهيمنة) الإفلات من قبضتها أو المبادرة في مجالات التنمية لرسم سياسة أو توجه يمكن أن يؤدي إلى تغيير الوظيفة التي رسمها المستعمرون لها خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالسعي نحو المشاركة في الإنتاج الصناعي مع الدول المهيمنة بشكل مباشر كدولة أو ضمن الإطارات التي صنفت بها الدول غير الغربية.
وظلت هذه السياسة الأمريكية والأوروبية معتمدة مع البلدان الأخرى في مراحل الثورة الصناعية الثلاث. وكان من نتائجها المباشرة على الصعيد العربي أن البلدان العربية تعرضت منذ عام 1498م لسلسلة طويلة من تغييرات تقانية، وكانت نتائجها بشكل عام ليست إيجابية خصوصاً قد فككت روابط (الوحدة) والأساس الاقتصادي الذي كان قائماً بينها وقضت على كيفياته. كما خسر العرب تدريجياً حريتهم بين عامي 1635م و1945م، وذلك؛ نتيجة فقدانهم اقتصادهم القومي.
وأسفرت الثورة الصناعية الثالثة بدءاً من عام 1945م عن معطيات مذهلة في مجالات البحث العلمي أشارت إلى حتمية بلوغ وقائع مذهلة وفائقة التصور في علم السيبرنية تتمثل في التقدمات التكنولوجية الحديثة خصوصاً في مجالات الاتصالات وتجارب القضاء بكل دوافعها وأغراضها ومجالات اختصاصاتها المختلفة.
وكذلك في وفرة وتنوع المعلومات وإمكانيات توصيلها وفرص وصولها بسرعة متطورة بتسارع بما يصعب مقارنتها مع حقائق وآليات الماضي، والأهمية المذهلة لنتائج عمليات توظيف هذه التقدمات ومستخرجاتها في مجال الإنتاج الصناعي وفي التشغيل الزراعي واستحثاثات تطويره.
ويذكر في هذا السياق الدور المذهل الذي أخذت تلعبه التكنولوجيا المعلوماتية في مجالات: تخفيض نسبة اليد العاملة، ومفاهيم جديدة في الإدارة، اكتشاف الكمبيوتر ودوره الوظائفي المتعدد بما في الإحلال محل دور الإنسان في العمل وفي الرقابة وفي الإدارة لعمليات خدماتية مختلفة كالعمليات الحسابية، وحجز مقاعد السفر بالطائرات وأشكال الحجوزات الأخرى، وإدارة الشركات، وإنجاز بعض العمليات الثقافية والطبية وكانت أوسع استخدامات التقانية الجديدة قد ظهرت في قطاعات الاتصالات والبث الراديوي والتلفزيوني والبحث العلمي.
ووضعت البلدان الصناعية الكبرى سياسات حداثية جديدة في مجالات الحياة المختلفة تتناسب مع متطلبات التطور التي أحدثتها الثورة الصناعية الثالثة، فطورت أنظمة استمرارية التعليم لمساعدة قواتها العاملة على التكيف مع آثار التغيير التكنولوجي السريع.
وعملت من جانب آخر خصوصاً في مجالات لاستثمارات الخارجية للبلدان الصناعية على عدم الميل لجذب الأيدي العاملة الرخيصة، وخفض عدد العمال في التصنيع وفي صناعات الخدمات، والتخلص من مفهوم العمل التقليدي بوضع تعريف آخر جديد له ينطلق من معطيات وميكانيزمات الإنتاج الصناعي والزراعي المتطور والحديث.
فحيث أصبح العمل يقوم على التكنولوجيا فقد ازدادت نسب الاستغناء عن العمال في الشركات الصناعية الكبرى لأنه أخذ يحل محلها مشغلو الآلات البرمجية، فاندثرت البروليتاريا وحل محلها العمال المهرة.
وفي مجال الزراعة تغيرت سياسات التشغيل ومفاهيمها بشكل ألغى مع الزمن وتدريجياً فرص عمل الفلاح في الزراعة بعد أن حل محله شركات الاستثمار الزراعية الكبرى واستخدامات التكنولوجيا الزراعية في مراحل الإنتاج الزراعي، فغادر الفلاحون القرى نحو التجمعات السكانية الكبرى، وتدريجياً تحول الريف إلى مزارع كبرى وبلا سكان، اندثرت القرى (في أمريكيا أنجز هذا الاستحقاق وهو في طريقه إلى ذلك في أوروبه).
وكان جل ما عملته الرأسمالية بالإصرار على تعميم نموذجها الاقتصادي العولمي أنها أخذت تنقل البطالة وتصدرها إلى البلدان ذات المستويات المنخفضة في الاستثمار.
ووظفت الرأسمالية التحولات العميقة التي استطاعت إحداثها في "أشكال الإنتاج غير الرأسمالية" و"أشكال الإنتاج قبل الرأسمالية" و"أشكال إنتاجها الراهنة" في منظومة "أهمية رأس المال" المعبر عنه بالعولمة بما تعنيه من تسليع لكل شيء بصورة أو بأخرى وفي كل مكان؛ والانتصار من حيث المبدأ لنمط معين من أنماط الملكية ولنمط معين من السيطرة على وسائل الإنتاج، ولنمط معين من التحكم يقوي الإنتاج ولعلاقات الإنتاج، ولتبادليته وتوزيعه.
وفي ضوء ذلك أصبحت المهمة الرئيسة للعولمة انطلاقاً من اعتبارها تجلياً تطبيقياً لأهمية رأس المال، هي: تسهيل انتقال وانتشار المعلومات، بحيث تصبح مشاعية للجميع. وتذويب الحدود بين الدول والبلدان. وزيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات.
ورأى منظرو وساسة العولمة أنه ليس بالضرورة أن تتغير هذه الوظيفة الهدف حتى عندما يستقرئ من تطبيقها على أرض الواقع ما يمكن أن يوصفها بأنها شكل جديد من أشكال الهيمنة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
وذلك لأن دول المركز هي التي تقوم بعمليات التحول الرأسمالي العميق للإنسانية وتقوده بمفاعيل أيديولوجيتها في اتجاهات وآفاق تضمن لها استمرارية السيطرة وتوفير متطلبات الحماية الدائمة لسيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ. وتحقيق شروط فرض نمط معين وتصميمه بحيث يشمل الجميع في العالم كله، وهذا يعني أن النظام المنشور ليس اقتصادياً فحسب، وإنما هو ثقافي أيضاً، وبالتالي فهو أيديولوجي جداً.
وأن أيديولوجية العولمة كنظام تقوم على ركائز ثلاث، هي: تفتيت العالم عبر شل الدولة الوطنية لتتمكن الشبكات الرأسمالية الجديدة والشركات العملاقة متعددة الجنسيات من الهيمنة عليه. وتوظيف الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة في عملية الاختراق الثقافي. والتعامل مع ناس العالم وفق مدلول نظرية "البقاء للأصلح".
وحرصت الدول الصناعية الكبرى وهي تدير عمليات منجزاتها التاريخية بما في ذلك تطوير "الامبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية" إلى العولمة والنظام العولمي ذي البعد الواحد، لمنع دول العالم الثالث (بما في ذلك بعض الدول الأوروبية غير المنظورة في أواسط النصف الثاني من القرن العشرين) من النجاح في أية محاولة بذلتها أي دولة أو تجمع دول منها لتطوير واقعها الإنتاجي باتجاه "الاقتصاد غير المادي" وتوظيف بعض عائدات المواد الخام في البحث العلمي، وتطوير الاقتصاد السياسي الريعي ويكفي أن نستذكر على هذا الصعيد مبادرة الجزائر في الدعوة لعقد قمة لملوك ورؤساء الدول الأعضاء في منظمة أوبك واستضافتها ذلك المؤتمر في الجزائر في آذار (مارس) 1975م؛ من أجل مناقشة اعتماد سياسة التأميم وتعميمها، والتفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية لوضع نظام اقتصادي دولي جديد مع البلدان الرأسمالية، يراد منه التحرك خارج الاقتصاد السياسي الريعي وتأسيس أنظمة وطنية للعلوم والتكنولوجيا. وقد أحبطت هذه المحاولة وتفرق عن تبنيها دول أوبك وخصوصاً الأمريكية اللاتينية والآسيوية. وبرغم ظهور بعض المؤشرات الجديدة المختلفة، إلا أنها كانت أعجز من المواجهة الرأسمالية الأوروبية، فأجهضت وهي في المهد.
ولكي لا يفهم من هذا العرض والتناول الواضح أية تأويلات تبشير بالعدمية أو التيئيس تقتضي الضرورة القول أن عجز بلدان العالم الثالث عن المواجهة لم يكن كلياً. وإن محاولات عديدة ومتنوعة بذلتها هذه البلدان في اتجاه تطوير مستوياتها التكنولوجية في المجالات المختلفة. وأن بعضها في آسيا قد تقدم بخطوات ملموسة في اتجاه تطوير واقعه التصنيفي. وأنه قد حقق نجاحاً ملحوظاً على هذا الصعيد وفر له أحقية المشاركة في الاقتصاد العولمي، وكان له تأثير إيجابي وبيّن في بعض البلدان الآسيوية الأخرى (وتضمنها الدول العربية).

كما أن حكومات هذا البعض الآسيوي (كوريا الجنوبية، تايوان، هونغ كونغ، سنغافورة، تايلندا، الصين، الهند، ماليزيا، وكذلك حكومة المكسيك) قد دعت القطاع الخاص باستثمارات في البحث والتطوير والتدريب المهني. وكذلك تبني سياسات مالية وسياسات نقل تكنولوجيا ملائمة.
وعرفت هذه البلدان (وأخرى مماثلة لها) باسم البلدان الصناعية الجديدة وتمكنت من المشاركة في الإنتاج العالمي، وأصبحت من تجار سوق العولمة خصوصاً في مجال الإلكترونيات.
ومع أنه يقال أن نصف حجم الإنفاق يذهب على معدات البنى التحتية من الأجهزة الإلكترونية: أنظمة الاتصالات اللاسلكية، وشؤون الطيران، والمؤسسات الصناعية، فإن النصف الآخر من الإنفاق يذهب إلى الإلكترونيات الاستهلاكية. وإن الأغلبية من النصفين هي من إنتاج غير عربي (خصوصاً السلع التي تحمل علامات تجارية شهيرة)، لأسباب كثيرة في مقدمتها أن الإنتاج المحلي لم يتأهل بعد للمنافسة مع الأجنبي على أي صعيد. كما أن معظمه كان يتمركز في صناعة تجميع الأجهزة الإلكترونية: التليفزيون، الراديو، والتليفون، وغيرها. إلا أن صناعات التجميع هذه لم يكن في مقدورها مراعاة التغيير التكنولوجي السريع(3).
وفي مجال إنتاج وتكنولوجيا البرمجيات لا يختلف الأمر كثيراً، وذلك للسبب الرئيسي نفسه، والذي هو عدم وجود نظام علم وتكنولوجيا وطني. ومع أن جهوداً محلية كثيرة بذلتها القطاعات الخاصة والعامة في بلدان العالم الثالث (وبضمنها البلدان العربية) من أجل البلوغ إلا أنها قد فشلت. وعلى سبيل المثال، فإن معظم البرمجيات المبيعة في الأسواق العربية تعود في منشئها إلى شركات دولية؛ لأن تطبيق تقانية المعلوماتية في البلدان العربية لا يزال حتى الآن في مرحلة الطفولة برغم أن هناك بنية تحتية فكرية كبيرة في هذا المجال يمكن أن يبنى عليها. وكذلك لعدم وجود "منظومة العلوم والثقافة" في أي بلد عربي.

وتقتنع الدول العربية جميعها بأهمية وضرورة وجود مثل هذه المنظومة باعتبارها شرطاً رئيساً للتطور وللحاق باقتصاد العولمة وللانضواء في كنفها. وحيث نبهت الأمم المتحدة لمثل هذه الأهمية منذ وقت مبكر جداً، فأسست المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ودعت دول العالم المختلفة لإنشاء منظمات وطنية مشابهة تضطلع بهذا الدور التنموي البنيوي، فإن أي من الدول العربية لم ينجح في إنشاء "منظومة العلوم والتكنولوجيا الوطنية لاعتبارات تتعلق بالإمكانات والمهارات. وقد عملت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليسكو) عام 1989م على إيجاد إطار تعاون إقليمي لتطوير منظومات وطنية للعلوم والثقافة ولكن تجليات الاستجابة له في كل بلد عربي اقتصر حتى الآن على جهود وأنشطة في مجالات التعليم والثقافة وعلى نسبة أقل في مجال العلوم، ونسبة لا تذكر في مجال التكنولوجيا.

إن العلوم والتكنولوجيا تلعب دوراً بالغ الأهمية في المجتمع. وأن سياسات العلوم هي أداة إدارة النشاطات الاقتصادية والتكنولوجية. ولذا، فإنه سيكون من الصعب على أي من بلدان العالم البقاء حيّاً في اقتصاد العولمة من دون الاستفادة من سياسات وطنية للعلوم موضوعه لتوجيه "منظومة علوم وتكنولوجيا" وطنية وفعاله.
إنه طرف قوي لجدران خزان البلدان العربية أولاً وأغلبية بلدان العالم الثالث بهدف التذكير بالاستحقاق المطلوب لكي لا تقوم قيامتهم وحدهم دون أي بلد في مناطق العولمة الأخرى.

وهناك ملاحظة أخيرة ولكنها ربما من الأهم في هذا الاتجاه، وهو أنه علينا أن نعرف أن التقدم التكنولوجي هو المصدر الأهم للنمو الاقتصادي في البلدان المصنعة. وأن هذا التقدم يكون دائماً مصاحباً للتكوين الرأسمالي، وليس محايداً أو حافزاً لزيادة البطالة. وإن مزايا التقدم التكنولوجي تزداد بازدياد مستوى الرصيد الرأسمالي للمجتمع. وهذا يجعل التطور التكنولوجي ورأس المال في حالة تكامل أزلي.


التجليات الثقافية
تتمتع مظاهر العولمة بهوية أيديولوجية تقوم على ثلاث ركائز، أولاها شل الدولة الوطنية وتفتيت العالم لتمكين الشركات العملاقة المتعدية الجنسيات، والشبكات الرأسمالية الجديدة من الهيمنة عليه. وأما الركيزة الثانية، فهي تسخير إعلام ووسائل الاتصال الحديثة لانجاز مهمة الاختراق الثقافي لمجتمعات مناطق العالم، وتوصيل المفاهيم الجديدة لها، وإحلال الأفكار العولمية في البلدان المخترقة محل أفكار شعوبها التقليدية. وأما الركيزة الثالثة، فهي التعامل مع إنسان العالم وفق مندرجات نظرية "البقاء للأصلح"؛ أي بما يعمق المفهوم الجيوبوليتيكي وما يعنيه من دلالات تؤكد على أن مراقبة السلطة اللامادية (سلطة تكنولوجيا الإعلام) هي التي ترسم حدود الفضاء السيبرنيتي (أي حدود المجال لاقتصادي والسياسي التي ترسمها وسائل الاتصال الإلكترونية المتطورة).
وهذا يشير بوضوح إلى تبدل الحدود الوطنية أو القومية من مرئية إلى لا مرئية بفعل العولمة، لأنها ترسم بواسطة شبكات الهيمنة العالمية على الأسواق والثقافة والأذواق.
وهذا الأمر يمكن مفهوم العولمة من الانتشار بما يجعله يغطي أشد أنواع النظريات والمصالح الاجتماعية تبايناً بما في ذلك الطيف السياسي من اليمين إلى اليسار؛ ويكون مقبولاً وضرورياً في شتى أنواع العلوم.
وعند توظيف تفاعل معطيات الركائز الثلاث في استخدام منظومة معارفية جديدة ذات تأثير في الأفكار الراكنة والتقليدية، وذات قدرة على تحويلها إلى أفكار معاصرة تلبي ضرورة أن يصبح التطور تحولاً في الوعي، كانت هذه الثورة المعلوماتية والمعارفية التي خلقت قبولاً عاماً لمجموعة من الأفكار والقواعد الثقافية الكبرى، رسمت ملامح صورة الوعي الكوني المنشود الذي بدت فيه "الرأسمالية كتطور ثقافي، هي ديانة الإنسانية الأبدية". كما رأى هذا الوعي أن "النسبية قد انتصرت على الإطلاقية وعلى أيديولوجيا الجنّات الموعودة". ووفق هذا الوعي "لا غضاضة من تساكن القيم الروحية مع القيم المادية إذا قبلت بديمومة التصالح التاريخي معها". وتنص مكونات هذا الوعي على "إطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في فضاء من التنافس والإنتاج" وكذلك على تجيع حوار الحضارات والانفتاح بين الثقافات في ظل عالم متغير، تم التقريب بين المسافات فيه، والتوحيد تحت راية تصور ثقافي موحد للكون"؛ وذلك بما يعني "اندماج الثقافات المحلية المتنوعة في ثقافة عولمية واحدة" لها قيمها ودينامياتها واتجاهات تطورها البناءة بما في ذلك عندما تعني "ضبط سلوك الشعوب والدول تحت تأثير عولمة اتصالية (الأقمار الصناعية)، تبرز من خلال البث التليفزيوني الذي يدخل كل بيت في أي مكان في منطقة من الكون، وكذلك من خلال شبكة الانترنت التي تربط البشر بعضهم ببعض في كل أنحاء المعمورة.
وهنا يبرز سؤال هام تمليه السهولة والتعددية في المثاقفة التي وفرها تطور تكنولوجيا الاتصالات العولمية، وهو: هل ستتوج المثاقفة الكونية بقيام ثقافة إنسانية واحدة هي "ثقافة العولمة"؟!. ثم هل سيكون بمقدور هذه الثقافة القضاء على الخصوصيات الثقافية لشعوب العالم؟! وهل سيكون مصير الهويات على اختلافها الذوبان والإنتاج في الثقافة العولمية؟!.
وهل الثقافة العولمية هي الثقافة الأمريكية؟!.
لقد طالت إمكانية المثاقفة التي وفرتها التطورات التكنولوجية المذهلة في وسائل الاتصال الجماهيري وآليات عملها، جميع جوانب حياة المجتمعات وكذلك ثقافاتها المتنوعة. وحيث أن الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر قوة في الاقتصاد والتكنولوجيا بين دول العالم المختلفة، وبالتالي لا غرابة في أن تكون منتجاتها هي الأكثر حضوراً وكذلك رواجاً في السوق العالمية.
وهذا يعني من جانب آخر أن يكون انتشار الثقافة الشعبية الأمريكية طبيعياً، مهما بدا عليه حضورها في هذه الأسواق وقبولها من هذه الأذواق، واسعاً وقبولاً بدرجة تفوق ما عداها من ثقافات شعوب العالم الأخرى. وهنا يطرح السؤال الذي يكتنف على مكونات الإجابة عليه: لماذا تنتشر الموسيقى الأمريكية أغاني الأمريكية في مختلف أنحاء العالم!؟، ثم لماذا هذا الانتشار الواسع لأنماط اللباس والأطعمة السريعة وغيرها من السلع الاستهلاكية الأمريكية، خصوصاً بين الشباب في جميع أرجاء العالم!؟!.
ثم لماذا تتحول اللغة الانكليزية (باللهجة الأمريكية) إلى لغة عالمية!؟!.
إن هذا الحضور للثقافة الشعبية الأدبية قد يبدو نفوذاً ويمكن أن يوصف بالهيمنة لمن يريد ذلك، ولكنه ليس البرنامج العشري البديل لثقافات العالم في عصر العولمة، وذلك لأسباب عديدة من بينها تفوق الاقتصاد الأمريكي في السوق وبضمنه هيمنة شركات الإعلان الأمريكية على التشويق العالمي. وهذا ما وفر ضرورة عالمية الاتساع لأساليب الدعاية والإعلام والتسويق الأمريكية. وأدى الإعلان والتسويق إلى قولبة الأذواق والأزياء في العالم الرأسمالي الحالي على المذاق والطراز الأمريكي، وإلى تنميط الثقافة الناشئة بمواصفات نمط الثقافة الأمريكية.
ويدعم هذه المسوغات في الاتجاه نفسه أيضاً تفوق الولايات المتحدة في صناعتي الأفلام والموسيقى وما يتصل بكل منها في الثقافة الشعبية الأمريكية. وقد نتج هذا التفوق عن اتساع سوق منتجات هاتين الصناعتين داخل الولايات المتحدة وفي بلدان العالم الخارجي أيضاً. وقد تعززت أهمية هذه السوق بتزامن تطورها مع ازدياد انتشار التليفزيون في مختلف أنحاء العالم، فضلاً عن أن البث التليفزيوني تطورات آلياته إلى بث بواسطة الأقمار الصناعية. وقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية بفعل ذلك من الدخول إلى كل بيت على وجه الكرة الأرضية، وأحدثت بعض الآثار في كل فرد من سكانه.
وأقام حقيقة الحضور الثقافي الأمريكي بمثل هذا التوسع، ألا يجوز أن يطرح سؤال عن سبب ذلك، وعن سبب الإقبال الشديد على الصادرات الثقافية الأمريكية في كل أنحاء العالم، ثم هل تتمتع الصادرات الثقافية الأمريكية ببعض عناصر الجذب التي لا توجد في الصناعات الثقافية لبلدان العالم الأخرى، مما يجعلها ذات جاذبية خاصة لدى جمهور المستمعين والمشاهدين العالمي!؟!.
إن الإجابة على هذا السؤال لا تنطلق من معيار الجودة والأصالة.
لأن المنتجات الأمريكية العالمية الرواج الأوسع ليست من نتاج الشعراء والروائيين والمخرجين السينمائيين الذين يعتبرون من أعلى المستويات في العالم، وذلك لأن هؤلاء لا يتمتعون بميزة من لهم "أفضلية اقتصادية"، مثل: "رامبو، وشوار زينغر، ومادونا، ومايكل جاكسون".
إن النخبة الثقافية موجودة عالية المستوى في الولايات المتحدة الأمريكية وتلاقي دعماً معقولاً من الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، ولكنها نخبة محدودة ومحصورة في المحافل الفكرية، وترفض أن يكون إنتاجها من فئة "أفضلية اقتصادية"، ولا تقبل أبداً أي عرض من عروض تجارة الثقافة المتدنية مهما كانت تتمتع بمدى انتشار واسع في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم الخارجي أيضاً، لأنه لا يبقى من الثقافة إلا "الثقافة الراقية". إن موقف أرباب "الثقافة الراقية" تأصيلياً وبنيوياً، ويتنافى مع متطلبات اقتصاد السوق وشروط السوق أيضاً.
ولذلك تركت الولايات المتحدة أمر تحديد نوع ثقافة العصر إلى هوليوود وإلى شركات الإعلان العالمية الكبرى في نيويورك لتقرر ما هي المنتوجات الثقافية الأكثر قابلية للتسويق في العالم، لأن الحضارة الرفيعة سوقها محدود. فكانت بالنهاية الثقافية الأمريكية التي تساكن قطاعات الناس الواسعة القابلة لها والرافضة لها في مختلف أرجاء العالم. فهي الثقافة التي بلا منافس، لأن ذوي الأهلية الفعلية للمنافسة هم الجانب الآخر من المثقفين الأمريكيين أتباع "الثقافة الراقية" وكذلك الأوروبيون الذين يتمسكون بمبدأ الحضارة الرفيعة. فكانت الوزارات تنفق الأموال الباهظة لدعم أفضل الفنانين والموسيقيين والشعراء والروائيين والمترجمين والسينمائيين.
ويضاف إلى هذا وذاك بعض الأسباب التي يوفرها مجتمع تعدد الأعراق والإثنيات وإنتاجها المتأثر بقدر ما بضرورة أخذ هذا التعدد بعين الاعتبار. وهذا بدوره يشكل عاملاً مساعداً للتسويق، إذ أن لدى أنواع التعدد أشباهه في معظم بلدان العالم.
وربما ساعد على هذا الانتشار أيضاً اهتمام وكالات الإعلان الدولية الكبرى وشركات صناعة الأفلام والموسيقى في نيويورك بالانتباه إلى ضرورة تلبية الاحتياجات الثقافية للشباب التي ربما تختلف عن احتياجات الفئات العمرية الأخرى. وكذلك المقتضيات السياسية الأمريكية وخدمة المصالح الأمريكية على النطاق الدولي ربما كانت سبباً حيوياً لتصدير الثقافة الأمريكية الشعبية والاهتمام بترويجها وخلق أسواق واسعة دائمة لها في جميع أرجاء العالم.
إن معطيات الواقع المعاش لم تبلور حتى الآن ما يستند إليه في إثبات أن العولمة تعادل الأمركة أو تعينها على المستوى الثقافي وأكثر من ذلك أنه لا يجوز استدعاء هذه الفرضية في أي مناقشة لأي قضية من قضايا الثقافة، وأسئلة ثقافية العولمة، لاسيما وإن المطلوب (ومن العرب تحديداً) أن يتذكروا دائماً أن الإنسان لا يقرر اختيار العالم الذي يولد فيه. وبما أن العالم يسير نحو تقلص حدود تقسيماته السياسية الدولية لحساب توسع مديات انسياباته نحو التوحد، فإن علينا أن نجد فيه مكاناً ودوراً يمكننا من الاستمرار وفق اشتراطات تطور العصر الجديد، لأن الانتقاء هو الذي ينتظر إصرارنا على التمسك باشتراطات "يعرب بن قحطان" أو بتعاليم كنيسة يعقوب بن يوسف النجار، أو بواجبات "إسلام محمد والخلفاء".
إن تمكنتا من وصول المكان وبلوغ الدور المشارك في صنع وقائع حياة عصر العولمة هو الذي يوفر لنا إمكانية البقاء بانتساب هوياتي ذو خصوصية ثقافية عربية ومسيحية شرقية وإسلامية معاصرة.
ويلاحظ إنسان اليوم أن مفاعيل العولمة قد طالت ثقافات الشعوب وقيمها وعاداتها وتقاليدها وأذواقها وربما أشواقها أيضاً. فكسرت بذلك تابوات عوالمها التي كانت تكتنفها إلى عهد قريب هالات من الغرابة والقداسة والمثل والخصوصيات والرموز والمطلقات. وأسست بذلك وتدريجياً إلى العولمة الثقافية التي تدعو إلى "فتح العالم على بعضه البعض"، فبدأ كما لو أن ما حققه الإنسان في العشرين سنة الأخيرة ليتفوق على منجزاته جميعها عبر آلاف السنين. وخاصة عندما يروج البعض إمكانية توحيد القيم حول المرأة والأسرة، وحول الرغبة والحاجة وأنماط الاستهلاك في الذوق والمأكل والملبس(4).
إن الثقافة التي تدعو العولمة إلى توحيدها لتصبح "ثقافة العولمة"، هي طريقة التفكير، والنظر إلى الذات وإلى الآخر، وإلى القيم، إلى كل ما يعبر عنه السلوك. وهذا يعني أن العولمة، إضافة إلى كل ما توصف به وكل ما تعرّف به أيضاً، هي "ما يجلب الأفضل وما يجلب الأسوأ". والأفضل هو أن المعرفة وخطابها ونماذجها يتم نقلها بسهولة وفي وجه أسرع وأفضل. وهنا تتاح للديمقراطية فرصة الوجود...(5)". كما تبدو العولمة على أنها ليست مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي، بل تعكس مظهراً أساسياً من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا وتدعو إلى تبنيه وتعميمه على العالم.
وفي إطار هذا التطور تطرح العولمة معنى مادياً جديداً للثقافة غير مألوف ينبع من وظيفة العولمة التي تقوم على تشيئ التجسيدات وتسليعها "حتى يتم حصر مدلولها فيما يصبغها به المنتوج الاقتصادي من خصائصه هو". فأصبحنا نتحدث عن الثقافة التكنولوجية، وثقافة الإنترنت.
وبدأت تترسخ في الأذهان ما يسمى بثقافة اقتصاد السوق، وقاموس العصر. وبدأ اللبس ينجم عن المفاهيم والمصطلحات، وطفق المعنى يشهد انخفاضاً خطيراً في الأسهم وبورصة العلامات المنقولة والمدلولات المحمولة ... فكلمة "معاصرة" أو "حداثة" أصبحتا تعنيان "التبادل الحر".
وكلمة "تفتح" أو "انفتاح" أصبحتا تحيلان على الانخراط في الليبرالية الاقتصادية، وإزالة الحواجز القومية وفتح الأسواق والحدود.
وأصبح من الصعب تحديد المعنى المقصود بالسياق. دون إحالات مطولة تحكي تاريخ نشأة الكلمات، وتطورها، ووظائفها ومدلولاتها لاختيار أحد سياقات استعمالاتها، نظراً لسلطان المعنى الاقتصادي الأوحد ...(6)".
إن مفهوم العولمة بلغ من الانتشار مبلغاً بجعله يغطي أشد أنواع النظريات الفكرية والفلسفية والثقافية والاجتماعية، وقبلها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية وجميع أنواع العلوم، هي لا تزال الآن في طور تشكلها النهائي لأنها غير مكتملة الملامح، كما أن القوانين الخفية التي تحكم مسيرتها غير معروفة جميعها، كما أنها غير ممكنة الاستكشاف بالكامل.
وهنا تبدو إباحة لطرح الأسئلة عن هذه الثقافة الموعودة، بما فيها التساؤل عن إمكانية وجود ثقافة عولمية.
وكذلك جواز الافتراض بتجاوز ثقافة العولمة، حتى يمكن الحكم على مسيرتها بالاستهجان أم بالقبول أم بالاستحسان أم بالرفض أم بالاستحسان؛ وكذلك عندما تبدو التساؤلات تتناول عدم اليقينية، وتصورها على اعتبار أنها المشكلة المطروحة المكرسة كاتجاه لصياغة ثقافة عالمية، لها قيمها ومعاييرها، ويكون الغرض منها ضبط سلوك الدول والشعوب. والسؤال هنا: هل ستؤدي هذه الثقافة (الموعودة) إلى العدوان على الخصوصيات الثقافية مما يهدد هويات المجتمعات المعاصرة؟!.
تشير حقائق الحياة البديهية إلى أن الناس تعيش في مجموعات هي بالضرورة مجتمعات متفاوتة في مستويات تطورها الاقتصادي والفكري والاجتماعي والثقافي. أي أنها تعيش في إطار ثقافي معين لاخلاف بين الثقافة فيه والثقافات الأخرى في غيره. وذلك لأن ما يمكن أن يرى أو حتى تتخيل، هو في اختلاف في الطبيعة لا غير، وبالتالي، فإنه لا غلوية لثقافة ما على ثقافة أخرى إلا لدى دعاة المذاهب الكيانية، وكذلك لدى منظري أيديولوجيا التمييز بكل أنواعه، أي لدى أولئك الذين نظّروا و"مهدوا لقيام نظم الفاشية بالأمس، وكذلك لإعادة ظهور وتنامي ظاهرة النزعات القومية المتطرفة مؤخراً بعد نهاية الحرب الباردة، رغم أن نوبات لهذه النزعات قد وجدت قبل ذلك في كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا والنمسا وإسبانيا ... وغيرها.
وإن اختلاف الاجتهادات في تفسير وتحليل بعض المعطيات النتائجية التي تفرضها التفاعلات المتسارعة في حقائق تشكيل بناء العولمة، هي التي تدخل لتعقيدات على مختلف المفاهيم الثقافية وتسمح بتعدد تأويلاتها من جهة، كما توجد اختلافات في تعيين وتحديد تعريف الثقافة نفسها، على الأخص الثقافة ذات تعددية المنشأ، وكذلك معرفة الأسباب التي أودت إلى تلاشيها السريع بعد زوال الأسباب والدوافع التي كانت قد فرضت قيامها وتشكلها (كما حدث في الثقافة العربية – الإسلامية بعد انهيار دولتها في دمشق وبغداد بعد ذلك. وكما حدث في يوغوسلافيا وفي الاتحاد السوفياتي في عالم اليوم).
إن ظاهرة العولمة حداثية انقلابية جارفة، لا مجال للبقاء والاستمرار، أو حتى الصمود في كل المجالات، خصوصاً في المجال الثقافي، إلا للثقافة القومية أو الوطنية التي تمتلك قابليات تكيف عالمية تجعلها جزءاً مندمجاً في ثقافة العولمة، ولكنها تحتفظ بخصوصيتها ذات التفتحات الإنسانية على تكوينات ثقافية عولمية أخرى، في إطار يمكن تشكيله ليس لمعارضة أو معاداة العولمة أو رفض استحقاقاتها، إنما في سياق الدعوة للتشارك البشري في العمل على ألسنة العولمة بما يجعل العولمة الثقافية تنوعاً ثقافية، ويجعل للثقافة معنى آخر جديداً يظل فيه الانتماء بقدر ما قائماً، ولكنه يتسم بالتفتح والاطلاع والتمثل لجزء أو كل من ثقافة أو أكثر، في إطار التفاعل مع الحضارة الإنسانية.
إن هذا التوجه من الفهم الإنساني والثقافي التي يمكن أن يعينها، من المفروض أن يكون هو الوضع الطبيعي السائد الذي تعيشه الأمم أو الشعوب المنسجمة مع نفسها ومحيطاتها القريب والبعيد والأبعد ...الخ. وأن هذا الفهم وكل تجلياته لا يعني نفياً للاختلاف والخصوصية ضمن الثقافة الواحدة، وذلك لأسباب كثيرة لعل في مقدمتها التمتعات التي يحتفل بها جوهر الثقافة باعتبارها مراوحة بين الثبات والتغير، والتماثل والتنوع، والمحافظة والتجدد، والانحسار والانتشار، والتأثير والإفادة، وغيرها .
وإن هذا الفهم لا يخص ثقافة دون أخرى لأنه يعود يقوم على مداول ارتباط الثقافة بالحيّز الجغرافي باعتباره أحد العناصر الأساسية في تحديد الهوية والانتماء إلى أرض، ووطن، وحدود، وموقع، وامتداد في خارطة الكون، ويصلح هذا المدلول للاستعانة به عند تناولنا للثقافة في فلسطين أو أي كيان في حيز جغرافي أصغر، وكذلك لتناولنا للثقافة في الصين، والولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك للنظام الذي تدعو له العولمة وفق حيّزه الجغرافي على امتداد الكوكب الأرضي، أي "النظام الليبرالي الموعود على امتداد مساحة الكون".

الهوامش
1. روجيه غارودي، العولمة: الواقع الجذور البدائل. ترجمة د. محمد البيطلي. دار الشوكاني للنشر والتوزيع، صنعاء 1998م. ص 117.
2. انطوان زحلان، العولمة والتطور الثقافي/ كتاب العرب و العولمة. مصدر سابق. ص 81-82.
3. انظر: يزيد صايغ، الصناعة العسكرية العربية. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992. ص 153-151 وص 170-169.
4. انظر: سمير أمين، عودة لمسألة الانتقال إلى الاشتراكية. ورقة بحث. الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1998.
5. جاك دريدا، ماذا حدث في حدث 11 سبتمبر/ ترجمة صنعاء فتحي: دار توبقال للنشر، الدار البيضاء 2006م. ص 91.
6. حاتم بن عثمان، العولمة والثقافة. مؤسسة الدراسات العربية، عمان 1999م. ص 41-40.



#محمد_باسل_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وعود العولمة
- العولمة والدولة ودولة البلدان العربية
- يوم الارض بعيون -وفا-
- النقد الادبي الفلسطيني 1870-1922/الجزء الثاني
- تطور النقد الأدبي الفلسطيني 1870-1922
- سؤال الهوية بين المثاقفة والعولمة
- الصحافة في قطاع غزة
- المثاقفة، تفاعلات واستيعابات
- الصحافة حارسة اللغة العربية في فلسطين
- مقهى الصعاليك
- امهات المطابع واثرها في نشوء الثقافة الفلسطيني
- نشوء المسرح في فلسطين
- القوانين البريطانية وتطور الصحافة الفلسطينية
- العولمة والاستقلال الثقافي


المزيد.....




- وزيرة تجارة أمريكا لـCNN: نحن -أفضل شريك- لإفريقيا عن روسيا ...
- مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية
- استئناف محاكمة ترمب وسط جدل حول الحصانة الجزائية
- عقوبات أميركية وبريطانية جديدة على إيران
- بوتين يعتزم زيارة الصين الشهر المقبل
- الحوثي يعلن مهاجمة سفينة إسرائيلية وقصف أهداف في إيلات
- ترمب يقارن الاحتجاجات المؤيدة لغزة بالجامعات بمسيرة لليمين ا ...
- -بايت دانس- تفضل إغلاق -تيك توك- في أميركا إذا فشلت الخيارات ...
- الحوثيون يهاجمون سفينة بخليج عدن وأهدافا في إيلات
- سحب القوات الأميركية من تشاد والنيجر.. خشية من تمدد روسي صين ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمد باسل سليمان - تجليات العولمة