أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - يَا فَنْدُمْ أعْدَمْناهُ .. يَشْهَدُ الله!















المزيد.....



يَا فَنْدُمْ أعْدَمْناهُ .. يَشْهَدُ الله!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 3181 - 2010 / 11 / 10 - 07:09
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


رزنامة الأسبوع 1-7 نوفمبر 2010

الاثنين
القدرة على ممارسة السِّياسة تعني قدرة التأثير على مجريات الأمور العامَّة. وهي، بهذه الدلالة، أبعد من أن تكون (ظاهرة بيولوجيَّة) ترتبط بأعمار من يمارسونها كما يحاول أن يشيع بعض المتنطعين، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة إعادة التفكير في ما يقولون، أو تقليبه على وجوهه كافة! ولعل أسطع دليل عالمي حي على ذلك هو المناضل العظيم نلسون مانديلا الذي ما يزال قادراً، وهو في الثانية والتسعين، على التأثير في شئون وطنه وشعبه، بل والإنسانيَّة جمعاء، حتى لو كان ذلك عن طريق الإلهام بالآفاق الجديدة، أو بعث الإشارات الموحية بالاتجاهات الصحيحة للسَّير.
ومنذ أسابيع لا تكاد الصَّحافة العالميَّة والمواقع الأسافيريَّة تكفُّ عن تناول كتابه الأخير (حوار مع نفسي) الذي يمثل الجزء الثاني من سيرته الذاتية، والذي عرض للبيع في 22 دولة ناطقة بالانجليزيَّة، ويُتوقع أن يُترجم إلى 20 لغة، وأن تترواح مبيعاته بين نصف مليون ومليون نسخة، وقد انفردت صحيفة (صنداي تايمز) الجنوبافريقيَّة بنشر مقتطفات منه في 10/10/2010م، حتى قبل الإعلان عن تدشين صدوره رسميَّاً في 13/10/2010م.
الكتاب انصبَّ، بالأساس، على إبراز أهمِّ الجوانب الشخصيَّة في حياة هذا الرَّمز الكوني الاستثنائي الحائز على جائزة نوبل، حاوياً لمقتطفات من أحاديثه المختلفة، ورسائله التي سطرها من السِّجن، وملاحظاته التي دوَّنها عبر العقود الطوال، حيث كشف عن أنه، عقب إطلاق سراحه عام 1990م، قاوم بشدَّة فكرة توليه رئاسة جنوب أفريقيا، ولم يقبل بذلك إلا تحت ضغوط كبار قادة المؤتمر الوطني الأفريقي، ولدورة واحدة، فقط، من 1994م إلى 1999م. وإلى ذلك كشف، بكثير من الشفافيَّة، عن حماسه أحياناً، وتردُّده أحياناً أخرى، وعن الآلام العريضة التي سبَّبها له انسلاخه القسري عن عائلته إبان اعتقاله الذي استطال لسبع وعشرين سنة.
ويلقي الكتاب مزيداً من الضوء على محطات مهمَّة ومعروفة، أصلاً، في حياة مانديلا، كالحب الكبير الذي جمعه بزوجته الثانية ويني ماديكيزيلا "الشُّجاعة التي تحب شعبها من كلِّ قلبها"، على حدِّ تعبيره، والتي تزوَّجها عام 1958م، قبل أربع سنوات على دخوله السِّجن، وكتب إليها في أغسطس 1970م: "أيُّ زمن قاس نعيشه! أشعر بأن كلَّ أعضاء جسمي، من لحم ودم وعظم وروح، غارقة في المرارة! إن عجزي التام عن مساعدتك في هذه الأوقات الرَّهيبة التي تمرِّين بها يجعلني حزيناً جداً"!
ومع أنه لا يكاد يخلو جزء من الكتاب من ذكر ويني، إلا أن مانديلا لم يشأ التركيز على ملابسات انفصاله عنها، بعد مغادرته السِّجن بفترة قصيرة، رغم إلحاح الناشرين!
وتروي بعض رسائله الآلام التي ظلَّ يعانيها في سجن جزيرة روبن آيلاند، قبالة ساحل الكاب، حيث أمضى ثمانية عشر عاما من جملة سنوات سجنه السبع والعشرين. ففي إحدى تلك الرسائل إلى صديق، يصف مانديلا أهميَّة الزِّيارات التي تكسر "الرتابة القاتلة .. فالوجوه والحوارات هي نفس الوجوه والحوارات، والروائح كذلك، والجدران التي ترتفع إلى عنان السماء هي نفسها".
ومن المحطات المهمَّة، أيضاً، حركة جوهانسبيرغ في خمسينات القرن المنصرم، ثمَّ الأعوام الانتقاليَّة بُعيد إطلاق سراحه، حتى اعتلائه كرسي الرئاسة.
لكن الكتاب يضئ، أيضاً، المرحلة السَّابقة على سنوات السِّجن، والتي هي أقلُّ المراحل بروزاً في سيرته، فيكشف، ربَّما لأوَّل مرَّة، عن أن "أحد الأمور التي ظلت تقلقني في السِّجن، بشدَّة، الصُّورة الخاطئة التي عكستها، عن غير قصد، إلى العالم الخارجي؛ صورة القدِّيس .. لم أكن يوماً قدِّيساً، حتى بالمفهوم الدُّنيوي للقدِّيس باعتباره خاطئا يستمرُّ في محاولته لتحسين ذاته". وفي أحد أفضل نماذج النقد الذاتي التي يمكن للمرء أن يطالعها يقرُّ مانديلا بأن بعض خطاباته الباكرة شابتها "العجرفة"، كما شابها "التصنُّع" و"عدم الأصالة"، ويكتب قائلاً: "في شبابي، كنت أجمع بين كلِّ مواطن الضَّعف والأخطاء وأعمال الطيش التي يمكن أن يرتكبها فتى ريفي تأثرت نظرته للأمور وتجربته، بشكل خاص، بالأحداث في المنطقة التي ترعرع فيها، والمؤسَّسات التعليميَّة التي ارتادها"؛ ثمَّ يضيف بصدق تام، وصراحة متناهية: "كنت أعتمد على العجرفة لإخفاء مواطن ضعفي"!
هذا الاعتراف التعليمي، شديد الندرة والنبل، لم يفت التقاط قيمته على الرئيس الأمريكي باراك اوباما الذي كتب مقدِّمة الكتاب قائلاً: "إن مانديلا، بتقديمه لنا هذه الصورة الكاملة، يذكرنا بأنه لم يكن رجلاً مثاليَّاً، على الإطلاق، بل كانت له أخطاؤه مثلنا جميعاً، لكن تلك العيوب، بالذات، هي التي يجب أن تلهم كلَّ واحد منا"؛ كما احتفت المقدِّمة، أيضاً، بمجموعة واسعة من أفكار مانديلا حول شتى الموضوعات، كمخاوفه من فساد المسؤولين، وحزنه على وفاة ابنه، وما إلى ذلك.

الثلاثاء
بانسجام (الفلسفة) مع (العلوم الطبيعيَّة)، في عقابيل العصر الأوربي الوسيط، صارت دلالة (الفلسفة) تنفصل، تدريجيَّاً، عن دلالة (الميتافيزيقا)، بعد قرون من تطابقهما، لتقتصر، أكثر فأكثر، على الواقع المحسوس، المجرَّب، والمرئي، بينما راحت (الميتافيزيقا) تتخذ دلالتها، في الفلسفة البرجوازيَّة بالذات، كمبحث خاص بالمبادئ المحصورة في (ما وراء الطبيعة)، والمتعالية، بالضَّرورة، على الحسِّ والتجربة والعالم المرئي.
وبالتبعيَّة راحت (الأسطورة)، كأسلوب خاص في الاستيعاب الرُّوحي للواقع، وكشكل أساسي لرؤية العالم في أقدم مراحل تطوُّر البشريَّة، تتراجع عن مكانتها العليَّة السَّابقة، وتتلاشى، تدريجيَّاً، كلما حسَّن الإنسان من أدوات العمل التي تمكِّنه من إحكام سيطرته على الطبيعة، وبالتالي صياغة الأشكال (غير الأسطوريَّة) للوعي. مع ذلك، ومهما كفت (الأسطورة) عن أن تشكل (ذِهنيَّة) المجتمع، فإنها تظلُّ مصدر إلهام لا ينضب لشتى حقول الإبداع الفني، ليس، فقط، في البلدان المتخلفة، بل حتى في البلدان الصِّناعيَّة الكبرى!
جالت هذه الخاطرة بذهني وأنا أفكر في القدر من الأعمال الإبداعيَّة التي سيفجِّرها في الغرب الإلهام الذي أطلقته، العام الماضي، وكالة الفضاء الأمريكيَّة (ناسا) لعشرات الآلاف من الرِّوائيين، والسِّينمائيين، والتشكيليين، والموسيقيين، وغيرهم، عندما أعلنت عن توصُّلها إلى التحديد الدَّقيق لتاريخ نهاية العالم والبشريَّة، وقيام السَّاعة doomsday في 21/12/2012م، رغم أنها تراجعت، لاحقاً، واصفة ذلك بأنه نتاج خطأ علمي بحت!
وكانت (ناسا) قد تحدَّثت، تفصيلاً، عن اصطدام بكوكب الأرض سيحدث من جانب كوكب جديد يعادل حجم الشَّمس، وما تحمل من قوَّة مغناطيسيَّة، وقد اكتشفته الوكالة، مؤخَّراً، واعتبرته الكوكب الثاني عشر ضمن مجموعتنا الشَّمسيَّة، وأطلقت عليه اسم (نيبيرو Nibiru). وأظهرت الدِّراسات التي أجريت عليه أنه يُتوقع أن يعترض مسار الأرض قبل نهاية هذا العام 2011م، حيث سيتمكن جميع سكان الأرض من رؤيته وكأنه شمس أخرى، وستتسبَّب قوته المغناطيسيَّة الهائلة في تغيير مواقع القطبيَّة، فيصبح القطب المغناطيسي الشَّمالي هو الجَّنوبي والعكس صحيح. وبالتالي ستستمرُّ الكرة الأرضيَّة في دورانها المعتاد حول نفسها، لكن بطريقة معكوسة، حتى يبدأ كوكب (نيبيرو Nibiru) في الابتعاد عن الأرض مكمِّلاً مسار دورانه حول الشَّمس، وهي الحركة التي ينجزها كلَّ 4100 سنة، وقد حدث وأكمل دورته السابقة قبل 4100 سنة، مِمَّا تسبَّب، وقتها، في انقراض الكائنات العملاقة كالديناصورات، فضلاً عن انفصال القارَّات عن بعضها البعض، في ما يُعرف بـ (الانفجار الكبير ـ Big Bang)، ويتهيَّأ، الآن، لإكمال 4100 سنة أخرى في 21/12/2012م، مارَّاً بالقرب من الكرة الأرضيَّة، فيُفقدها قوَّتها المغناطيسيَّة، مسبِّباً خللاً في التوازن الأرضي، وزلازل مدويَّة، وفياضانات هائلة، وتغيُّرات مناخيَّة ضخمة تقضي على 70% من سكان العالم. فإذا ما أكمل طريقه، حتى اقترب من الشَّمس، أثر على قطبيَّتها، لتقع، من ثمَّ، انفجارات هائلة في الحمم الهيدروجينيَّة على سطح الشَّمس، يصل بعضها إلى سطح الأرض، فيسبِّب كوارث بيئيَّة عظيمة.
(ناسا) لم تكن وحدها، ولا حتى الأولى، في هذا الأمر، إذ سبقها إليه علماء من مختلف الجِّنسيَّات. فعالم الفلك الفرنسي نوسترا داموس قال، عام 1890م، إن الكواكب التابعة للمجموعة الشَّمسيَّة سوف تضطرب بنهاية الألفيَّة الثانية، لتسبِّب دمار الحياة بعد 12 عاماً فقط! وقال عالم الرِّياضيَّات الياباني هايدو ايناكاوا، عام 1950م، إن كواكب المجموعة الشَّمسيَّة سوف تنتظم في خط واحد وراء الشَّمس؛ وسوف تصاحب هذه الظاهرة تغيُّرات مناخيَّة وخيمة تنهي الحياة على سطح الأرض بحلول عام 2012م! أما العلماء الصِّينيون فقد سبق أن حدَّدوا بداية نهاية العالم في 21/12/2012م، حيث يكون الكوكب المجهول في أقرب نقطة له من الأرض، ثمَّ يصل، في 2014م، إلى نقطة ينتهي فيها تأثيره على الأرض، مكمِّلاً مساره الشَّمسي حتى يعود مرة أخرى بعد 4100 سنة!
طبعاً هذا كله محض رجم بالغيب، بالنسبة لنا كمسلمين، وفي أفضل الأحوال مجرَّد تنبَّؤات علميَّة scientific prognosis قائمة على حسابات دنيويَّة، قد تصيب وقد تخيب، ولكنها لا يمكن أن تكون مؤكدة مقدَّماً، لأن موعد القيامة من الغيب الذى يختصُّ بعلمه سبحانه وتعالى وحده: "عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلفِهِ رَصَدَا" (الجن؛ 26 ـ 27).
مع ذلك فإن لنا كمسلمين، بل كمسلمين سودانيين، سهماً وافراً في الرَّجم بالغيب، وفي الترويج له، مِمَّا قد يرفع الحرج عن وكالة (ناسا)! فقد نشرت صحيفة (الأهرام اليوم)، الصَّادرة في الخرطوم في 4/11/2010م، توقعات المتكهِّن الأشهر بلة الغائب بهروب الفريق سلفاكير ميارديت، في التاسع من يناير 2011م، إلى دولة مجاورة لم يسمِّها! وفي السِّياق قال بلة للصَّحفي عزمي عبد الرَّازق إن الجَّنوبيين سيصوِّتون للوحدة بنسبة عالية "رغم مؤامرات الطابور الخامس" على حدِّ تعبيره، و"لن يحدث .. أذى للشَّعب السُّوداني، لا حرب مدن ولا قتال شوارع .. والخرطوم ستسلم من الدماء"! وقد كان من الممكن تصنيف العبارات الأخيرة في خانة (التحليل السِّياسي)، لولا أن بلة لم يُعرف بهذا الضَّرب من النشاط الاجتماعي! كما وأنه أضاف، بنفسه، ما يريد للقرَّاء أن يفهموا من عباراته، قائلاً: "سلفاكير يؤمن بقدراتي الرُّوحيَّة .. وقد زارني في منزلي بالخرطوم عام 2008م"! ويؤكد بلة للأستاذ عزمي أن هناك أعداداً كبيرة من الجنوبيين يزورونه لمعرفة مصيرهم، بينهم قادة من الحركة الشعبيَّة، بخلاف سلفاكير، "أنا لا أعلم مصيرهم، ولكني أطمئنهم"!
على أن المسألة لا تتوقف عند بلة وحده؛ إذ لاحظ المحرِّر، هذه الأيام، بالذات "نموَّ عرش الأسطورة في الجنوب، وسيطرتها على الخيال الشَّعبي في الشمال"، ولجوء الناس، بكثافة، إلى (العرَّافات) و(الأناطين) و(المشعوذين) و(ستات الودع)، فعَمَدَ لاستنطاق (عرَّافة) اسمها النوَّة أرنو، في أقاصي أم درمان، تقول: "بيجوني جنوبيين كتار عشان يعرفوا مصيرهم، وبقول ليهم حرب ما بتقوم، وبونسهم بالأنا شايفاه، أنا شفت جنوبيين كتار رحلوا من الشمال"!
كذلك كشف بلة عن زيارته، قبل أعوام، للرئيس البشير في القصر، لإخباره بأنه سيحكم 31 عاماً! وأن الترابي سيخرج من الحكومة!
لكن السُّؤال: إذا كانت المسألة (شغل عرَّافين)، فهل تحوَّل هذا (الشغل) من (كشف للغيب) إلى (هدهدة للزَّبائن)، و(طمأنتهم) على مصائرهم، (حاكمين) كانوا أو (محكومين)!

الأربعاء
بوجودها الغامض قرب النميري، أيَّام مجازر يوليو 1971م، ارتسمت مريم روبين، في أذهاننا، كامرأة مريبة من عجين المخابرات الشَّرقأوسطيَّة، تتآمر، ببطاقة صحفيَّة، على بلادنا وشعبنا، وتخوض في دماء شهدائنا، بنعومة فظة، والتواء خطير، فكرهناها! لكن عندما استنطقتها الأستاذة رفيدة ياسين، أخيراً، بعد صمت دام أربعين عاماً، في حوار جيِّد أجرته معها من القاهرة لصحيفة (السوداني) في 24/10/2010م، استطاعت هذه الصَّحفيَّة المصريَّة المخضرمة أن تهزَّ تلك الصُّورة القديمة شيئاً!
ومن بين كلِّ هذا الحوار المطوَّل استوقفتني، بوجه خاص، ثلاث وقائع:
أولاها تتصل بغضبة النميري المُضريَّة عندما عرضوا عليه، لأغراض التصديق، أوراق حكم كانت أصدرته، يومها، إحدى (محاكمه) العسكريَّة، على أحد رموز حركة 19 يوليو، بالسِّجن 15 عاماً، ".. فألقى بالأوراق أرضاً أمامنا، وأصر أن تكون كل الأحكام بالإعدام"!
وتواصل مريم روايتها قائلة إنها سمعت، لاحقاً، من الضابط رئيس تلك المحكمة، أنه، لمَّا أعاد إليه النميري حكم السِّجن الذي أصدره، مصرَّاً على الإعدام، رفض الاستجابة، وقدَّم استقالته! وتضيف مريم: "إحترمته؛ ولمَّا رأيته في الفندق بعدها حيَّيته، وتناقشنا في الأمر .. لا أذكر، الآن، من هو تحديداً، لكنه معروف في السودان".
إستوقفتني هذه الرواية لأنني كنت وقفت، في وقت ما، على جوانب من تفاصيلها. فمن ناحية كان قد قدِّر لي أن استمع إلى المقدَّم (م) تاج السِّر المقبول، وهو الضابط الذي أشارت إليه مريم، يروي نفس هذه الحكاية لهدى، إبنة الشَّهيد المقدَّم بابكر النور، وهو الرمز الذي حاكمه المقبول بالسِّجن، بينما أصرَّ النميري على إعدامه، وكان ذلك حوالي 1985م ـ 1986م، في بيت صديقي المؤرِّخ العسكري الرَّاحل عصمت زلفو. ومن ناحية أخرى كنت قد استمعت إلى ظروف وملابسات تلك المحاكمة من صديقي عبد العظيم سرور، أركان حرب حركة يوليو، قبل ذلك بنحو من عشر سنوات. كنا ضمن مجموعة سجناء سياسيين بسجن كوبر، من بينهم العم المرحوم عبد الرحيم محمد خير شنان/ وصديقي المرحوم عبد العظيم حسنين، بالإضافة إلى أصدقاء أحياء من ضباط يوليو، أطال الله أعمارهم ومتعهم بالصحَّة، من بينهم عثمان عبد القادر، وود الحسين، وصلاح بشير. وقد روى لنا سرور الذي يقيم،الآن، بكندا، كيف جرت مساومته، أيَّام المحاكمات، من جانب الرَّائد مامون عوض ابو زيد، مسئول أمن النظام وقتها، كي يؤمِّن له إطلاق سراحه مقابل أن يشهد بأن المقدم صلاح عبد العال مبروك التحق بالحركة بعد نجاحها. لكن سرور لم يستجب للمساومة عملاً بآخر وصايا الشَّهيد المقدَّم محجوب طلقة للضباط المقبوض عليهم، وهو في طريقه إلى ساحة الإعدام، بألا يأتي أحد منهم على ذكر أحد، أو يدلي بأيَّة معلومة مهما كانت قليلة الأهميَّة. وربَّما تفسِّر هذه الواقعة لماذا تكاد حركة 19 يوليو تكون الوحيدة في تاريخ الانقلابات التي لم تنجح، ولكن قادتها مضوا إلى (الدّروة)، وغرف المشانق، وزنازين السُّجون، دون أن ينبس أحدهم بحرف واحد من أسرارها، أو اسم أيٍّ مِمَّن لم يُقبض عليه من رجالها!
الشاهد أنه، ولمَّا كان مامون يرغب في إقناع النميري بأن صلاحاً قد شارك في الحركة، فقد اقترح عليه، إزاء رفض المقبول الحكم على بابكر بالإعدام، أن يعيد تشكيل المحكمة لتكون برئاسة صلاح، كنوع من الاختبار له! وقد كان، حيث جرت الأمور على النحو المعروف، وانتهت بإعدام بابكر! ويمكن لمن شاء استفاضة حول هذه المسألة أن يلتمسها ضمن كتاب د. حسن الجزولي (عنف البادية).
أما الواقعة الثانية فتتصل برد فعل مريم التلقائي إزاء هيجان النميري، وإصراره على أن تكون جميع الأحكام بالإعدام، حيث "تدخَّلت، دون أن أشعر، وقلت له: يا سيادة الرئيس كله إعدام .. كله إعدام؟! فنظر إليَّ وقال لأحد عساكره: خذها لتريها لماذا أنا مصرٌّ على الإعدام! إرتبكت، وتملكني الخوف، لكنني لا أعرف لماذا قلت ذلك! وبالفعل أخذني الرَّجل إلى قصر الضيافة الذي كان الشيوعيون يعتقلون فيه ضباط نميري. عمري ما حانسى هذا المنظر، كان الجو ساخناً وكنت أرتدي صندلاً ، فتصورت أنني أسير على طين، كانت الأرض مثل حقل مليء بالمياه ورجلي تغرس فيه، وثمَّة سرير كبير يتسع لأربعة أفراد، وآخر لاثنين أو ثلاثة، وقطر المرتبة بعرض السرير أسود، والدَّم نازل ناشف للأسفل، وكان النميري قال لي إن الذين أصدر بحقهم حكم الإعدام هم الذين قتلوا هؤلاء بهذه الطريقة البشعة .. كان منظر الدَّم مثل الكبدة، والموكيت في الغرفة امتصَّ هذا الدَّم وأصبح شيئاً صعباً للغاية"!
رغم ذلك كله لم تقل مريم إن ذلك المنظر كان كافياً وحده لإقناعها بعدالة تلك الأحكام، بل قالت بلباقة: "تأثرت جدَّاً، لكن ما اقتنعت به هو أن تدخُّلي كان خاطئاً لأنني مجرَّد صحفيَّة مهمتي تغطية الحدث إعلاميَّاً"! مع ذلك لا يصعب استنتاج رأيها في تلك الإعدامات من قولها إن "النميري كان كالأسد الجريح، والمحكمة كانت انتقاميَّة .. نميري كان .. فاقداً للتوازن من هول ما جرى"!
وأما الواقعة الثالثة التي استوقفتني في رواية مريم لذكرياتها فتتصل بإعدام الشَّهيد الشَّفيع أحمد الشيخ، حيث قالت: "الشَّفيع قصة تانية خالص، رأيته من (ضهره) وسألت .. فقالوا لي هذا هو الشَّفيع .. طويل وعريض ويرتدي عمَّة وجلابيَّة. كان واقفاً في الخارج وراء شجرة ينتظر مصيره الذي كان مجهولاً .. وسمعت النميري يتحدث في الهاتف .. ويقول: يا فندم أنا ما أقدر أرفض لك طلب، لكن الحكم اتنفذ وقضي الأمر .. وواصل النميري المكالمة: ياريت، لكن الموضوع انتهى! وبعد أن أنهى المكالمة سألني: عارفة مين اللي بيكلمني؟! وأردف: إنه الرئيس أنور السَّادات بيطلب ألا يُعدم الشَّفيع، وقلت له قضي الأمر .. فتدخلت قائلة: لكن الشَّفيع ما زال في الخارج لم يُعدم بعد! غير أن النميري لم يستجب لطلب السَّادات، وأكد له قائلاً: يشهد الله أنه تمَّ إعدامه! وقال السَّادات للنميري إن القيادة السُّوفيتية اتصلت به، وطلبت منه أن يتصل بالنميري لإيقاف إعدام الشَّفيع، لكن مثلما سمعتم الآن أكدت له أن تنفيذ الإعدام تم منذ دقائق! لقد أصرَّ النميري أن يعدم الشَّفيع رغم كلِّ هذه الضغوط".
و .. لا تعليق!

الخميس
صديقي الأستاذ فايز الشيخ السِّليك كتب يدعو إلى مساومة تاريخيَّة قبل خراب سوبا، على حدِّ تعبيره، وذلك عبر مؤتمر لكلِّ السُّودانيين يتمُّ التفاوض فيه بقلب وذهن مفتوحين، على الحقيقة والمصالحة، والاعتراف والاعتذار، والتصافي والمعافاة، منبِّهاً إلى الفرص الضائعة التي تسرَّبت من بين الأيدي، ومحذراً من الفرصة الأخيرة التي تكاد تفلت، والرصاصة الأخيرة التي تكاد تنطلق، "وأخشى بعد عشر سنوات، أن نعود ونقبل ما رفضناه اليوم" (سودانايل ـ أجراس الحُرِّيَّة، 4/11/10),
دعوة نبيلة ما في ذلك شكٌّ، ولكنني أفتقد فيها (العدالة) كعنصر أصيل لا غنى عنه، يتوسَّط بين (الحقيقة) و(المصالحة)! وأعتقد أن السِّليك يوافقني الرَّأي، فما من مظلوم في بلادنا، اليوم، إلا وأشواقه معلقة بـ (العدالة). لقد أمست (العدالة) بمثابة الحدِّ الأدنى لأيَّة (تسوية تاريخيَّة). وهذا، بالنسبة لدارفور على الأقل، هو درس المفاوضات، من أبوجا إلى الدَّوحة!

الجمعة
رغم الأناقة الكاملة، والملامح الجَّذابة، والصَّوت الرَّخيم، يعجز مذيع قناة (الجَّزيرة) غسَّان بن جدُّو، في كثير من برامجه، عن الإقناع بحياديَّته الإعلاميَّة المزعومة، أو ستر شئ ولو يسير من تحيُّزاته الإسلاموسياسيَّة، حتى حين يقتضي الموقف ذلك.
آخر نماذج هذا العجز عندما رتب، مساء السَّبت 6/11/2010م، لقاءً تليفزيونيَّاً في بيروت، جمع بين د. أليدا جيفارا، الإبنة الكبرى للبطل الأرجنتيني ـ الكوبي ـ الأممي، وأيقونة الثورة العالميَّة أرنستو تشي جيفارا، والتي كانت في زيارة إلى لبنان، الأسبوع الماضي، للمشاركة في إحياء الذكرى الثالثة والأربعين لاستشهاده، والتضامن مع قضيَّة الكوبيين الخمسة المعتقلين، سياسيَّاً، في السُّجون الأمريكيَّة، وبين مجموعة من شباب اليسار اللبناني. ومن المعلوم أنه لم يعُد خافياً أن استراتيجيَّة حركة الإسلام السِّياسي، في المنطقة وفي العالم، قائمة، إزاء كوبا، في التركيز على مواقفها المعادية للامبرياليَّة، وفي ذات الوقت طمر إنجازاتها على صعيد الرَّفاه المادِّي لشعوبها!
هذا النظر، بالتحديد، هو ما عجز بن جدُّو عن إخفاء انحيازه إليه في تلك الأمسية. ففي بعض منعرجات ذلك اللقاء حاول بعض أولئك الشباب إخراج الحوار من حالة السِّيولة الإنشائيَّة التي كان واضحاً أن بن جدُّو يتعمَّد إغراقه فيها، وإثارة قضيَّة عربيَّة حقيقيَّة، وإن تكن شائكة، تتعلق بمدى جدوى تحرير الأرض وطنيَّاً، بدون تحرير الشعب اقتصاديَّاً واجتماعيَّاً! وخاض ممثل اتحاد الشَّباب الديموقراطي اللبناني، على وجه الخصوص، في مناطق أوضح وعورة بمحاولته عقد مقارنة بين ما أنجزت كوبا، رغم الحصار الاقتصادي الأمريكي عليها منذ 1962م، بعد أن تمرَّدت على وضعيَّتها السابقة كإحدى (جمهوريَّات الموز)، وبين ما عجزت دولنا (جمهوريَّات البترول ومصادره الرئيسة لأمريكا) عن إنجازه، بكلِّ انقلاباتنا العسكريَّة، وأنظمتنا الشُّموليَّة. ومضى الشَّاب يحصي أن متوسط العمر عندنا 65 سنة، بينما بلغ في كوبا 85 سنة؛ وأننا ما نزال نرزح تحت نسبة أمِّيَّة تبلغ 55%، بينما نسبة الأمِّيَّة في كوبا (صفر فاصل صفر)، حيث نجحت، ليس فقط في محو الأمِّيَّة الأبجديَّة، بل وحتى الأمِّيَّة الكومبيوتريَّة، و ..
عند ذلك الحد قاطعه بن جدُّو طالباً منه، بصلف واستعلاء مفضوح، ألا يشغل نفسه بمثل هذه المقارنات "الظالمة لكوبا!"، وأن يتحدَّث، فقط، "إذا أراد!"، عن كوبا "باعتبارها نموذجاً لمواجهة الإمبرياليَّة، والهيمنة، والاحتلال"؛ ثمَّ ما لبث أن حوَّل الفرصة منه إلى آخر!

السبت
لم تفهم الأستاذة عبير عبد الله مقصدي، للأسف الشديد، في (البروفايل) الذي أعدَّته للبروفيسير محمد إبراهيم خليل، حيث اعتبرت أنني (أدليت) لها بـ (إفادة) لتنشرها مع (إخفاء) إسمي، أو كما قالت في المادَّة المنشورة (الأحداث، 6/11/2010م)، بينما الحقيقة أنني، عندما هاتفتني طالبة رأيي حول الرَّجل ووقائع نزاعه المعروف، داخل مفوضيَّة الاستفتاء، مع الأستاذ جمال محمد إبراهيم، اعتذرت لها، ابتداءً، بأنني كاتب مشارك في صحيفة يوميَّة، وأن الموضوع الذي تريد رأيي فيه هو أحد موضوعاتي للأسبوع القادم، فيصعب أن أهبها إياه لتنشره بالسبت، قبل يومين من نشر الرزنامة. بعد ذلك استمرَّت تتجاذب معي أطراف الحديث حول المشكلة، فلم استنكف من أن أحدِّثها حول الجوانب التي سأتناولها في كتابتي، اعتقاداً مني أنها فهمتني على الوجه الصَّحيح، فلن تأتي، ضمن كتابتها، على شئ مِمَّا قلت، حتى لا (تحرق) مادَّتي القادمة، فأكدت لي بأنها، قطعاً، لن تفعل. ورغم أن تلك كانت المرَّة الأولى التي أتعامل فيها معها، إلا أنني ما كنت محتاجاً لأكثر من كلمتها كي أصدِّقها، فجيلنا من كتاب وصحفيين، يتعامل، على أيَّة حال، بمثل هذه الأخلاقيَّات (العويرة) .. لكنها خذلتني، هذه المرَّة، سامحها الله!
هاتفتني مساء اليوم السبت الذي نشرت فيه مادَّتها، وعندما وجدتني غاضباً أحدِّثها عن الفرق بين أن أطلب منها نشر كلامي مع (إخفاء!) اسمي، وبين أن أطلب منها عدم إقحامي، أصلاً، أو نشر كلامي، لئلا (يحترق)، حيث أنني أنوي نشره بنفسي في رزنامتي القادمة، إعتذرت بشدَّة، ثمَّ عاودت الاعتذار، لاحقاً، عبر رسالة هاتفيَّة رقيقة تقول فيها: "أستاذي .. أشعر بحزن عميق بسبب ما حدث مني دون قصد .. رغم رقتك معي في إبلاغي بأنك غاضب، وبجانب غفرانك لي، إلا أن الألم يحاصرني .. ولا أدري كيف أكفر عن ذنب اقترفته دونما قصد".
لست حجراً حتى لا أسامحها، إذ يكفيني أن ثقتي بلا حدود في أن قرائي يدركون، عبر عُشرة هذا القلم معهم لأكثر من أربعين عاماً، أنني، على الأقل، لست من صنف الكتاب أو السِّياسيين الذين يفصلون أسماءهم عن آرائهم!
ولأن عبير كانت حدَّثتني عن تصريح أدلى به إليها، حول جانب من المسألة، الأستاذ يوسف حسين، الناطق الرَّسمي باسم الحزب الشِّيوعي، مِمَّا أثار اهتمامي، أكثر من أيِّ شئ آخر، بتناوله ضمن كتابتي آخر الأسبوع، فقد اتصلت بها، مساء أمس الجمعة، لمعرفة اليوم الذي ستنشر فيه مادَّتها، حرصاً مني على عدم استباقها بالتعليق على شئ وارد في كتابتها قبل نشره. وعندما علمت منها أن (البروفايل) سينشر بتاريخ السبت، خصَّصت هذا اليوم السبت، كما قد يلاحظ القارئ، للتعليق على هذه المسألة.
وبعد، ما حدث قد حدث، ومعظم ما كنت عزمت على تناوله أحرقته الأستاذة العزيزة .. غفر الله لها! على أن رأيي حول الدَّور الذي لعبه البروفيسير محمد إبراهيم خليل في حلِّ الحزب الشِّيوعي، في عقابيل ثورة أكتوبر 1964م، ما يزال يحتاج إلى إجلاء. فقد ورد، ضمن (البروفايل) المشار إليه، أن رأي "أصحاب الوجعة أنفسهم جاء على شئ من الغرابة .. عندما قال الأستاذ يوسف حسين، الناطق الرَّسمي باسم الحزب الشِّيوعي، لـ (الأحداث)، إنهم ليس لديهم (مأخذ) على خليل بشأن توليه منصب رئيس مفوَّضيَّة الاستفتاء، مؤكداً أنهم لا ينظرون للأمور في صيغة الأفراد، ومشيراً إلى أن اتفاقيَّة نيفاشا بنيت على الثنائيَّة، وكذلك مفوَّضيَّة الانتخابات، ثمَّ الاستفتاء، وأن الأمر إذا كان تمَّ طرحه على كلِّ القوى السِّياسيَّة، فلربَّما وقع اختيارها بالإجماع على خليل ليترأس مفوَّضيَّة الاستفتاء، مؤكداً بأنه ليس هناك شئ شخصي ضدَّه، وعن دور خليل في طردهم من الجَّمعيَّة التأسيسيَّة قال يوسف إن خليل غير معفى من المسئوليَّة بحكم موقعه أثناء تلك الحادثة، لكنه عاد ليؤكد على (أنهم!) لا يحاسبون الناس على الأدوار التاريخيَّة"!
وإذن، فعلام نحاسبهم؟! على مأكلهم، ومشربهم، وملبسهم؟! لقد استغربت جدَّاً مثل هذا القول يصدر عن يوسف حسين بالذات. فمعرفتي الجيِّدة بمبدئيَّته، وهي معرفة مبنيَّة على رفقة زنازين موحشة تحت ظلال سيوف مشرعة، جعلتني أعيد البصر في النصِّ، كرَّتين، كي أستوثق من أن العبارات صدرت، بالفعل، عن يوسف، بهذه الصِّيغة. ولقد تأكد لي في الكرَّتين، للأسف الشَّديد، بأن ذلك كذلك!
الشَّاهد أنني ما كنت لأعتقد أننا يمكن أن نختلف، إلى هذا الحدِّ، حتى في تقييمنا للوقائع التاريخيَّة الأسطع من شمس رائعة النهار، والشخوص الذين لعبوا فيها أدوار لا يُعقل أن تنتطح في تقييمها عنزان، خصوصاً ما استقرَّ منها كجزء لا يتجزَّأ من سيرة الحزب، ومن ذاكرته الجَّمعيَّة، وبالأخص ذلك الاعتداء البشع الذي وقع، خلال تلك الفترة، ليس عليه وحده، بل على الوطن بأسره، على "حاضره" الذي اغتصب آنذاك، وعلى "مستقبله" الذي استلب من يومها، وحتى الآن؛ فمن يملك (صكوك غفران!) يوزِّعها، يا يوسف، يميناً ويساراً، كما شاء، ولصالح من؟! بل وباسم من؟!
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها لا بد من العودة بذاكرات أجيال الشِّيوعيين، والوطنيين الديموقراطيين، إلى ملمح من تلك الأحداث يكفي للكشف عن الدَّور المخزي لمن وقفوا يشحذون سيوفهم، ويقرعون طبولهم، ويشنونها حرباً شعواء على الحزب، وما دروا أنهم إنما يشنونها على الدِّيموقراطيَّة، وفيهم البروفيسير محمد إبراهيم خليل، وذلكم هو، بالتحديد، المصدر الرئيس لاعتقادي بعدم صلاحيَّة الرَّجل لأداء أيَّة مهمَّة ديموقراطيَّة، كبرت أم صغرت، بل ولارتيابي في نوايا من اختاروه لمثل هذه المهمَّة الآن، وما يضمرونه للاستفتاء! وعلى أيَّة حال كيف جرى ما جرى أصلاً بشأن حلِّ الحزب؟!
نستأذن القرَّاء كي نعود، ربَّما للمرَّة الألف، كي نذكِّر بأن القوى التقليديَّة لم يهدأ لها بال، عقب ثورة أكتوبر، حتى قطعت أمرها في ما بينها للإجهاز على حكومة الثورة الأولى. ثم سرعان ما أعدَّت كامل عدَّتها لتنقضَّ على الحزب، بين عامي 1965م ـ 1966م، تحرِّمه، وتدبِّر حله، وتطرد نوَّابه من الجَّمعيَّة التأسيسيَّة، بالاستناد إلى محض الأغلبيَّة الميكانيكيَّة داخلها، والمشاعر البدائيَّة المنفعلة بالتحريض الغوغائي خارجها، مِمَّا أسماه عبد الخالق (عنف البادية)، مستغلة، وقتها، حادثة معهد المعلمين الشَّهيرة، المشكوك في أمرها، والتي أريد لها أن تفجِّر الفتنة بحديثٍ مجترئ على الدِّين، لطالب مجهول الهُويَّة، جرت نسبته إلى الحزب في هستيريا من الغوغائيَّة، والعجلة، واللهوجة، وعدم الرَّغبة في التثبُّت، حتى أن وزير (العدل) ونائب حزب الأمَّة، أيَّامها، محمد إبراهيم خليل لم يتورَّع، أو يجد في نفسه حرجاً، والغلُّ يمضغ صدره على التقدُّم والتقدُّميين، من أن يدعو إلى عدم إضاعة الوقت في أيَّة محاولة للتحقق مِمَّا إذا كان الطالب صاحب الحديث شيوعيَّاً أم لا، معلناً بملء فيه، وعلى رءوس الأشهاد، ودون ذرَّة من حياء، وهو، بعدُ، أستاذ القانون، أنه "ليس من المهم إنْ كان (ذلك) الطالب شيوعيَّاً أم غير شيوعي!" (مضابط الجمعيَّة ـ ضمن القدَّال؛ معالم ..، ص 155). ومن عجب أن تكون تلك لحظة (صدق!) نادرة وكافية لفضح المسكوت عنه في مهرجان التباكي على الدِّين الذي تمَّ نصبه في جلسة البرلمان بتاريخ 15/11/1965م، وهو ما عبَّر عنه الشَّاعر الشِّيوعي الرَّاحل علي عبد القيوم، متسائلاً، بغضب حرَّاق، في إنشاده الرَّائع: "هَلْ رَأيْتمْ يَا قطيعَ الضَّأن يَوْمَاً/ كَفَّ عَجْز زَيَّفتْ تاريخَ أمَّة"؟!
تمَّ ذلك كله، للمفارقة، تحت عنوان (الدُّستور) المغلوب على أمره، و(الدِّيموقراطيَّة) المفترى عليها، حيث تمَّ تحميل الحزب الشِّيوعي وحده أسباب معضلات ما بعد ثورة أكتوبر، ومصاعب إعادة بناء ما خرَّبته الديكتاتوريَّة العسكريَّة على كلِّ الأصعدة الاقتصاديَّة، والسِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة، وجبهة الحرب فى الجنوب، وجبهة العلاقات الخارجيَّة! وبحله وطرد نوَّابه من البرلمان سوف تستقيم الأمور كلها، وتتوطد تجربة الحكم (الدِّيموقراطي!)، وتكتسب المناعة المفقودة، واللازمة لنموها وتطورها!
في الجَّلسة المذكورة انبرى خطباء المؤسَّسة التقليديَّة يهرفون بما لا يعرفون، ويفرغون سموم كرههم للحزب، ويكيلون له تهماً إنشائيَّة لم يستشعر أيٌّ منهم، بما فيهم محمد إبراهيم خليل، وازعاً من ضمير كى يكلف نفسه بتقصِّي حقيقتها، ولو بالحدِّ الأدنى من قيم القسط والعدل مما يحضُّ عليه الاسلام الذي ما انفكوا يتحشَّدون باسمه، دَعْ أيَّ مستوى من المسئوليَّة تجاه الشَّعب والوطن.
ولأن الأشياء تتبيَّن بأضَّادها، لزمنا أن نبرز صوتاً واحداً، على الأقل، لم يكن محتاجاً لأيِّ لقب أكاديمي مجلجل كي يرتفع من وسط كلِّ (زفة) التهريج الغوغائي التى شهدتها تلك الجَّلسة، مشحوناً بكلِّ دلالات الحكمة، والشَّجاعة، وصدق المواجهة مع النفس، وأمانة النيابة عن الشَّعب. فلقد أتيح للمهندس حسن بابكر الحاج، نائب الدائرة (3) عن الوطني الاتحادي، أن يلمح وراء تلك التعبيرات الجاهلة، المخاتلة، الملتبسة، بشاعة الاتجار بالدِّين، وفساد المنطق الواقف على رأسه، فنهض ينبِّه الأذهان الغافلة، ويسدي النصح لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد، قائلاً: "إن هناك طالباً سفيهاً يقال إنه أساء للرَّسول الكريم، والدِّين الإسلامي، فقامت مظاهرات .. تطالب بحلِّ الحزب الشِّيوعى! فلنفترض أن أحد أعضاء الحزب الوطني الاتحادي تفوَّه بمثل ما تفوَّه به الطالب السَّفيه، فماذا يكون موقف الوطني الاتحادي .. رجائى أن تتركوا الحماس جانباً، وتحموا الدِّيموقراطيَّة التى عادت إلينا بعد تضحيات .. فتأكدوا أنها ستنزع برمتها منكم كما انتزعت في الماضي .. ولا أريد أن أسجَّل حرباً على الدِّيموقراطيَّة، فخير لأبنائي أن يدفنوني شهيداً من شهداء الدِّيموقراطيَّة من أن أعيش في عهد توأد فيه الدِّيموقراطيَّة" (نفسه). ثمَّ أدلى، في اليوم التالي، ببيان صحفي يدوي بصوت الحُرِّيَّة والأحرار، قال فيه: "وقفت بالأمس في الجَّمعيَّة التأسيسيَّة ضد قرار تعديل الدُّستور، وحلِّ الحزب الشِّيوعي، لا دفاعاً عن الشِّيوعيَّة، ولكن دفاعاً عن الوطني الاتحادي وجماهيره؛ وقفت دفاعاً عن الحُرِّيَّة والدِّيموقراطيَّة؛ وقفت بجانب أساتذة الجَّامعات، وهم منارات العلم، وطلابها رجال الغد المشرق؛ وقفت بجانب الصَّحفيين والمحامين، وهم الذين دافعوا عن حُرِّيَّة هذا البلد المنكوب في أحلك الظروف؛ وقفت بجانب العمَّال والمزارعين والكادحين الذين وقفوا في الماضى، وسيقفون في المستقبل، دفاعاً عن حقهم في الحياة، وهو حقُّ هذا الشَّعب؛ وقفت بجانب الموظفين، وهم الطبقة المستنيرة في هذا القطر، ولا يستطيع إلا مكابر أن ينكر دورهم العظيم في معركة الحُرِّيَّة الثانية، وسيقفون في معركة الحُرِّيَّة القادمة؛ وقفت بجانب كلِّ من له ضمير في هذا البلد بعقل لم تطمسه الأغراض، أو تحول بينه وبين الرؤية الصَّادقة؛ وقفت مع كلِّ هؤلاء لكي لا أسجِّل في تاريخ حياتي أنني كنت يوماً حرباً على الحُرِّيَّة والدِّيموقراطيَّة. عاشت الحُرِّيَّة، وعاشت الدِّيموقراطيَّة، وعاشت ذكرى شهداء أكتوبر، وعاش الأحرار في كلِّ مكان!" (الأيَّام، 23/11/1965م).
فكيف، بعد كلِّ هذا، يقول يوسف "إن الحزب ليس لديه (مأخذ) على خليل بشأن توليه منصب رئيس مفوَّضيَّة الاستفتاء"، بينما المفروض أن تكون لدينا مآخذنا الجهيرة حيثما وكلما تمَّ ترشيح خليل وأمثاله لأيِّ منصب باسم أيَّة ممارسة ديموقراطيَّة؟! ثمَّ باسم مَن يؤكد يوسف (أنهم) لا ينظرون للأمور في صيغة الأفراد (!) وأنهم لا يحاسبون الناس على الأدوار التاريخيَّة؟! كذا؟! لا نحاسب محمد إبراهيم خليل على دوره الإجرامي في تحريم فكرنا، وحلِّ حزبنا، وطرد نوابه من البرلمان، مساهماً، بذلك، في فتح الأبواب على مصاريعها أمام انقلاب النميري؟!
كان يمكننا الاتفاق مع يوسف في ما لو كان قال، مثلاً، إننا لا نحاسب الناس على أدوار لعبوها في مراحل من تواريخهم الشَّخصيَّة، ثمَّ ما لبثوا أن انتقدوها باستقامة، وتراجعوا واعتذروا عنها. لكن هأنذا على أهبة الاستعداد لأن أعلن عن خطأ تقديراتي لو، فقط، أثبت يوسف حسين أنه، وعلى كثرة من انتقدوا مواقفهم الخاطئة من ذلك الحدث، قد سمع، ولو مرَّة واحدة، طوال نصف قرن، نقداً ذاتيَّاً، أو كلمة اعتذار يتيمة في حقنا، تصدر على الملأ، من هذا الـ ... بروف!

الأحد
طرق فقير باب نحويٍّ، فقال النحويُّ:
ـ "من بالباب"؟!
فقال الفقير:
ـ "سائل"!
فقال النحويُّ:
ـ "لينصرف"!
فقال الفقير مستدركاً:
ـ "إسمي أحمد"!
(وهو اسم لا ينصرف في النحو)
فما كان من النحويِّ إلا أن أمر غلامه قائلاً:
ـ "أعطِ سيبويه هذا كسرة خبز .. لينصرف"!

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أَمَامَ كُلِّ جَنُوبٍ .. جَنُوب!
- فَصَلَ يَفْصِلُ فَصْلاً!
- الأَيْدِيُولوجِي المُضَاد!
- أَبْنَرْكَبْ الكَرْكَابَة!
- سِرِّي!
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (الحلقة الأخيرة)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (6)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (5)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (4)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (3)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (2)
- إِعْلامٌ .. أَمْ برُوبَاغَانْدَا (1)
- الأَمَازُونِيَّات!
- إِنْزِلاقَاتُ الصُّدُوع!
- عَوْلَمَةُ الشَّعْرِ الهِنْدِي!
- سَنَةُ مَوْتِ سَارَامَاغُو!
- رَطْلُ لَحْمٍ آخَر لِشَيْلُوك!
- الدَّوْحَة: أَبْوَجَةُ الذَّاكِرة!
- مَنْ تُرَى يُقنِعُ الدِّيك!
- مَوَاسيرُ الطُّفَيْليَّة!


المزيد.....




- كتائب القسام تقصف مدينة بئر السبع برشقة صاروخية
- باستخدام العصي..الشرطة الهولندية تفض اعتصام جامعة أمستردام ...
- حريق في منطقة سكنية بخاركيف إثر غارة روسية على أوكرانيا
- ألمانيا تعد بالتغلب على ظاهرة التشرد بحلول 2030.. هل هذا ممك ...
- في ألمانيا الغنية.. نحو نصف مليون مُشّرد بعضهم يفترش الشارع! ...
- -الدوما- الروسي يقبل إعادة تنصيب ميخائيل ميشوستين رئيسا للوز ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل 4 جنود إضافيين في صفوفه
- مجلس وزراء الحرب الإسرائيلي يقرر توسيع هجوم الجيش على رفح
- امنحوا الحرب فرصة في السودان
- فورين أفيرز: الرهان على تشظي المجتمع الروسي غير مُجدٍ


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - كمال الجزولي - يَا فَنْدُمْ أعْدَمْناهُ .. يَشْهَدُ الله!