أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - الطاهر وطار: الوجه الآخر















المزيد.....


الطاهر وطار: الوجه الآخر


عبد القادر أنيس

الحوار المتمدن-العدد: 3124 - 2010 / 9 / 14 - 10:16
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ما دفعني لكتابة هذه المقالة هو ما لمسته عند الكثير ممن كتب عنه في الحوار المتمدن، بمناسبة رحيله، من تغييب لوجه آخر للطاهر وطار كمثقف وكروائي خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته على الأقل.
للطاهر وطار، إذن، وجه آخر يختلف كثيرا، حد التناقض، عن الوجه الأول الذي عرفناه له من خلال مواقفه ورواياته ومجموعاته القصصية الأولى (اللاز، الزلزال، العشق والموت في الزمن الحراشي (اللاز الثانية)، عرس بغل، الشهداء يعودون هذا الأسبوع، الحوات والقصر، ...).
في أعماله الأخيرة: تجربة في العشق، الشمعة والدهاليز، الولي الصالح يعود إلى مقامه، ... وفي تدخلاته عبر وسائل الإعلام راح وطار، شيئا فشيئا، يتخلص من تركته اليسارية، حتى بلغ به الأمر حد التعبير عن الندم، خاصة مما كان ذا ميل شيوعي ومعاد للإسلاميين مثلما جاء في آخر روايته اليسارية "العشق والموت في الزمن الحراشي" (1978)، التي انتصر فيها للتوجه الاشتراكي لبومدين ولثوراته الثلاث كما استعاد فيها اللاز وعيه ووقف وطار إلى جانب الطلبة المتطوعين (الشيوعيين) ضد الطلبة الإسلاميين ومؤيديهم من القوى المعادية للاشتراكية و للثورة الزراعية.
حينذاك كان الطاهر وطار على قناعة راسخة وثقة عمياء بمسار التاريخ، وهو القائل في روايته (العشق والموت في الزمن الحراشي ص 120):
"لن يكون في الجزائر سادات. يستحيل ذلك. هذا الشعب، هو صانع الثوريين، وكل من سيأتي بعد الهواري، لن يستطيع إلا أن يكون على يساره، لكي يضمن الالتحام مع الشعب. ثم إن ظروفنا، تختلف، كل الاختلاف عن ظروف مصر. فلا الإقطاع هنا، هو الإقطاع هناك، ولا الأرستقراطية هي الأرستقراطية، ولا البرجوازية هي البرجوازية، ولا الجيش هو الجيش بالإضافة إلى الخبرة لدى لطبقة العاملة والمناضلين العماليين، المكتسبة من المعايشة المباشرة للرأسمال في أعلى أشكاله".
ولكن عندما حصلت الجزائر على "ساداتها" بعد موت بومدين تبخرت كل قناعات الطاهر وطار، وذابت كل المستحيلات، بما فيها مستحيلات وطار اليسارية. لم يكتف وطار بالتنكر لهذه القناعات بل راح يتبنى ويدافع عن أضدادها بل ويؤيد من أخرجهم سادات الجزائر من القمقم كما فعل سادات مصر مع إخوانها، حسب تعبير هيكل، فحل عباسي مدني محل بومدين وحل علي بلحاج محل لينين، وحل حزب الجبهة الإسلامية محل الحزب العمالي البروليتاري. نلمس هذا جليا في رواية الشمعة والدهاليز التي سوف أقدم للقارئ مقتطفات كثيرة منها توضيحا لما أزعم أنه سقوط محزن دراميّ ليساري ماركسي.
فماذا حدث حتى يُحدِث وطار كل هذا الانقلاب في توجهاته وقناعاته وتحالفاته؟
هنا لا بد أن أشير إلى أن وطار ظل دائما إلى غاية وفاته يزعم أنه باق على عهده في نصرة الكادحين والعمال والمظلومين ومعاداة الإمبريالية والبرجوازية مع إدراج المثقفين، خاصة المفرنسين، في الجزائر ضمن أعداء الكادحين والعمال والمظلومين.
فهل أصبحت توجهات وبرامج ومواقف الإسلاميين تلبي قناعات وطار اليسارية؟
الإسلاميون في الجزائر لم يزعموا لأنفسهم هذا الدور أبدا، ولا يمكن أن يفعلوا. هم كانوا خليطا غير متجانس اجتماعيا وسياسيا وفكريا. خطابهم ديني قروسطي في صبغة شعبوية سطت على التراث القومي والاشتراكي بعد أسلمته وتقديمه للناس في ثوب إسلام ثوري معاد للطاغوت كما يقولون وبرامج مائعة لا تجوّع الذئب ولا تغضب الراعي كما يقول المثل الجزائري. هم يتباكون على الفقراء المساكين في الظاهر ولكن أكبر مموليهم من أثرياء السوق السوداء والتجار وحكومات البترودولار. معاداتهم للماركسية والاشتراكية والاشتراكية غير خافية، معاداتهم للمرأة وتحررها غير خافية. معاداتهم للتنظيم السياسي والنقابي العصري غير خاف أيضا. معاداتهم للديمقراطية والحرية والعلمانية والمواطنة والمساواة واضحة، ولم يحاولوا أبدا إخفاءها. كان علي بلحاج يقول دائما تجاه النساء: "لن نعطي للمرأة إلا ما أعطاها الإسلام". ولا أخال الطاهر وطار يجهل ما أعطاها الإسلام.
كان علي بلحاج، لينين الطاهر وطار في "الشمعة والدهاليز"، يقول في جريدة حزبه: "اعلموا إخوة الإسلام أننا نحن معشر المسلمين نرفض عقيدة الديمقراطية الكافرة رفضا جازما لا تردد فيه ولا تلعثم... لأنها تسوي بين الإيمان والكفر ولأن الديمقراطية تعني الحريات المطلقة والحرية من شعارات الماسونية لإفساد العالم... ولأن السيادة في الإسلام للشرع وفي الديمقراطية للشعب وللغوغاء وكل ناعق... ولأن الديمقراطية معناها حاكمية الجماهير ... ولأن الأغلبية خرافة ... بينما الديمقراطية هي حكم الأقلية لا الأغلبية كما يشاع ولأن مخالفة اليهود والنصارى من أصول ديننا كون الديمقراطية بدعة يهودية نصرانية- (مقتطفات من مقال مطول صدر في كتيب بالمملكة العربية السعودية، نشر أول مرة بجريدة المنقذ للجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر بتاريخ 23/24/25/ 1990).
لماذا تغير وطار إلى هذا الحد وهو يسمع هذا الكلام ويشاهده في تصرفات الإخوان اليومية ومواقفهم وفي كل حركاتهم وسكناتهم؟
هل هو سيف الإرهاب المسلط على الرقاب؟
هل هو الإحباط الذي أمسك بخناقه وقتل فيه حتى القدرة على الإبداع بعد موت الهواري وبداية التراجع عن خياراته اليسارية؟
هل إن قناعاته كانت مجرد قشرة سطحية سرعان ما انقشعت مع هبوب أولى الرياح المضادة؟
هل هي الغيرة والنفاق كما وصفه الروائي رشيد بوجدرة بعد أن جف عود الإبداع فيه؟
أم هل ما جرى لوطار هو شبيه بما جرى لكثير من اليساريين العرب الذين صرعتهم حركة الجماهير التي تمكن الإسلاميون من جرها وراءهم بالملايين وهي التي ظل اليساريون يؤلهون ثوريتها ونقاءها حد العبادة ....
الطاهر وطار صرح بعد هزيمة الإرهاب واستتباب الأمن وأفول نجم الإسلاميين أن الصراع في الجزائر هو صراع بداوة وحضارة، وهو في رأيي محق، ولكن هل إن بداوة وطار ذي الأصول والتربية البدوية الريفية التي كان يستهجنها تارة ويمجدها تارة أخرى حسب الظروف قد تغلبت في النهاية عليه في أوج أزمته النفسية والعقائدية؟
الطاهر وطار صب جام غضبه على المثقفين المفرنسين الذين حمّلهم، تقريبا، كل مآسي الجزائر، فأصبحوا عملاء وخونة ومنتحرين يصح فيهم الاغتيال والتشريد والإرهاب. فهل في هذا شيء من الصدق؟ هل هم المسؤولون عما وصفه وطار وهو يلاحظ التحولات العالمية، بـ "خيبة في كل ما تلقيناه من مبادئ ومثل وقيم فلا وحدة ولا تحرير ولا اشتراكية ولا تضامن.. (جريدة الخبر 8 جويلية 1993).
أنا أرى أن "الذنب الوحيد" الذي ارتكبه الكتاب المفرنسون وكان إلى جانبهم الكثير من الكتاب المعربون أيضا، الذين هاجمهم وطار يتمثل في وقوفهم وتحذيرهم من الخطر الأصولي ثم مطالبتهم بوقف المسار الانتخابي غير مبالين بما بلغت شعبيته ولقد جاءت الأحداث المحلية والعالمية فيما بعد لتعطيهم الحق.
الطاهر وطار قال فيما بعد "إذا كان الكاتب ذا وجدان عربي إسلامي فلا يهم ان يكتب بالعبرية أو بالإنجليزية أو بالفرنسية، لأننا بمجرد ترجمة هذا الأدب يعود إلى أصله مثلما كان الأمر بالنسبة للكاتب المغربي الطاهر بن جلون في أوائل أعماله".
إذن المسألة لم تكن مسألة لغة بل مضمون. رغم أن وطار سبق أن قال بأن اغتيال الكاتب والصحفي الطاهر جاووت "خسارة لفرنسا" لمجرد أنه كان يكتب باللغة الفرنسية.
هذا ما نلمسه من خلال قراءتنا لروايته "الشمعة والدهاليز" المعبرة حقا عن الوجه الآخر لوطار والتي هي خطاب سياسي تبريري تمجيدي في صالح الحركة الإسلامية. ولقد لمست في معظم ما كتب حول الطاهر وطار في الحوار المتمدن تغييبا متعمدا أو عن حسن نية لهذا الوجه، هذه بعض الحقائق:
لقد ظل الطاهر وطار منذ الاستقلال إطارا ساميا (مراقبا) في حزب جبهة التحرير الوطني الذي قاد البلاد إلى الاستقلال قبل أن يقودها إلى الإفلاس. وهو الحزب الذي مهد الطريق للسلفية بعد أن تغاضى عمدا عن سيطرة القوى الرجعية المتمترسة بالدين على مؤسسات تكوين الإنسان الجزائري من المدرسة إلى المسجد وإلى غاية الجامعة باسم التعريب وإحلال اللغة العربية محل الفرنسية وساهم في القضاء على القوى التقدمية في الجامعة وفي النقابة بحجة أن هذا كفيل باسترجاع مقومات الأمة التي نال منها الاستعمار ... والطاهر وطار نفسه يتعرض لدور الحزب في معارضته وعرقلته المتواصلة لتوجهات الرئيس بومدين، في حياته وبعد مماته، في روايته اليسارية الأخيرة "العشق والموت في الزمن الحراشي". ويومئذ كان التناقض عند وطار طبقيا وليس لغويا.
الغريب أن بطل روايته "الشمعة والدهاليز" التي تعتبر نموذجا لهذا التحول لدى وطار كان مثقفا مفرنسا درس في المدارس الفرنسية الجزائرية لفترة ما قبل الاستقلال وكتب بالفرنسية. فيوسف سبتي الذي يقول الطاهر وطار إنه استلهم حياته لكتابة روايته السالفة الذكر، والذي اغتالته جماعة إرهابية، هو كاتب وشاعر بالفرنسية وهو أصلا لا يحسن العربية بالقدر الكافي حتى تكون أداة تعبير له.
الطاهر وطار لا يجهل كذلك أن المتعلمين بالفرنسية في الجزائر كانوا السباقين لتبني أفكار الحداثة والتقدم والاشتراكية والشيوعية واللبرالية وتبني التنظيم العصري للنضال السياسي والنقابي وتبني أساليب التعبير العصرية في الشعر والرواية والمقالة. بدأ ذلك باكرا بعد أن توقفت المقاومة الشعبية ضد المستعمر مع نهاية القرن التاسع عشر وتصالح رجال الزوايا الدينية الطرقية وشيوخ القبائل مع الاستعمار بعد أن كانوا مصدر هذه المقاومة والمحرضين عليها طوال هذا القرن.
الحركة السياسية والنقابية والجمعوية اليسارية مع بداية القرن العشرين بدأت على أيدي المثقفين بالفرنسية وفي فرنسا بالذات قبل أن تنتقل إلى الجزائر المستعمرة.
اللبراليون كانوا وطنيين يدافعون عن حق الجزائري في الكرامة والمساواة ومن أجل ذلك طالب بعضهم بالاندماج التام مع فرنسا لتحقيق هذا المطلب، شأن الزعيم فرحات عباس الذي تراجع فيما بعد عن هذه الفكرة ليلتحق بصفوف الثورة فترأس خلالها أول حكومة جزائرية ثم ترأس أول برلمان غداة الاستقلال.
كذلك كان جل مناضلي الحزب الشيوعي مفرنسين تعلموا النضال في صفوف الحركة النقابية والحزب الشيوعي الفرنسي قبل أن يستقلوا بحزب شيوعي جزائري كان الوحيد الذي ضم في صفوفه مناضلين من شتى الأصول العرقية واللغوية والدينية من أجل جزائر عصرية تعددية.
القوميون الجزائريون الذين كانوا المبادرين إلى طرح مطلب الاستقلال عن فرنسا منذ البداية كانوا مفرنسين وبعضهم، مثل الزعيم مصالي الحاج، تعلم النضال في النقابة الشيوعية الفرنسية قبل أن ينفصل عنها ويؤسس حزبا قوميا، كانت الغالبية الساحقة من إطاراته مفرنسين.
كذلك يرجع الفضل، بعد الاستقلال، للمتعلمين باللغة الفرنسية في إدارة شؤون البلاد بعد الفراغ الذي تركه الفرنسيون.
الطاهر وطار يعرف أيضا أن التوجهات الأيديولوجية الرجعية حملها الفكر المعرب تحت شعارات رجعية مثل الدفاع عن مقومات الأمة من إسلام وعروبة ولغة والتي تحولت إلى ثوابت لهوية قاتلة، وقفت بالمرصاد لكل توجه حداثي في عهد التوجه الاشتراكي وفي عهد التوجه الرأسمالي وفي عهد التوجه الديمقراطي. وقد تناولها في روايته اليسارية الأخيرة "العشق والموت في الزمن الحراشي".
لهذا فإن اختصار وطار للصراع في الجزائر بين معربين وطنيين وإسلاميين شعبيين عانوا من عنف المفرنسين ولجئوا اضطرارا إلى العنف المضاد وبين مفرنسين خونة وعملاء يسيطرون على مقدرات الأمة غير صحيح تماما بل العكس هو الصحيح.
يقول الروائي الجزائري أمين الزاوي وهو كاتب باللغة العربية، بهذا الصدد : "أعتقد أن مقولة العنف والعنف المضاد هي مقولة خاطئة لأن الإسلامويين كانوا دائما ضد الثقافة الديمقراطية وثقافة الحرية والاختلاف وهم يستعملون الديمقراطية حينما يكونون في موقع الضعف، ولكنهم يعتبرون الديمقراطية كفرا وضد الإسلام حينما يصلون إلى مواقع السلطة."
هذه الأوهام أوصلت وطار إلى تبني مواقف فاشية ضد المثقفين التقدميين وشن ضدهم حربا شرسة بلغت حد التخوين التحريض على الاغتيال وهو ما دفع إلى هجرة مكثفة لآلاف الإطارات في شتى التخصصات.
قال وطار لـ«الشرق الأوسط»: خالفت جميع المثقفين الجزائريين عندما وقفوا ضد إلغاء الانتخابات البرلمانية في 1992"
http://membres.multimania.fr/wattar/lire/tesrihat/charq_el_aousat.htm
فهل كان بهذا القول يجهل نوايا الإسلاميين، كما رأينا عينة منها في حديث علي بلحاج؟ وهل يجهل وطار أن الديمقراطية ليست الانتخابات فقط؟
طبعا لم يكل يجهل ذلك وهو القائل فيما بعد: ":" الحركة الإسلامية بما بدر عنها من بشاعة في القتل والتنكيل بالناس وعدم فهم روح العصر صارت حركة ضد الإسلام قبل أن تكون ضد الغرب أو ضد إسرائيل أو أميركا، المتضرر الأول والأخير هو الداعية المسلم الذي وجد نفسه فاقدا لكل مقومات خطابه."
هو إذن خطاب تبريري للمصالحة مع الحركة الأصولية ثم الاستسلام لها، والترويج لخطابها الظلامي من قبيل تصنيف الصراع في العالم على أنه: "اعتداء شعوب تنتسب إلى المسيحية ومتعددة الجنسيات على شعوب أخرى تنتمي إلى العالم المتخلف.." (جريدة الخبر 8 جويلية 1993).
وحول معارضته لتوقيف المسار الانتخابي الذي فاز فيه الإسلاميون يقول: "كان الخلل والخطأ من طرف وسائل الإعلام والتيارات الإسلامية التي اعتبرت هذه الانتخابات هي نهاية المطاف.. ولقد سمعت مرة بالإذاعة الوطنية في القناة الأولى من يقول إن الخلافة قامت، هذا خطأ وتغليط وجزء من السيناريو أيضا".
بعد هذا مباشرة يقول: "أنا كان رأيي أن يستمر المسار الانتخابي وتستمر اليقظة... أنا ديمقراطي حقيقي ولا أستنجد بالدبابة لأحمي النظام".
هل يمكن أن تستمر اليقظة في دولة كان يرأسها رئيس (الشاذلي) وصفه وطار في هذا الحوار بأنه "شخص يشبه السادات في تخلفه الذهني"؟ هل نسي وطار ما جناه الحزب الشيوعي الإيراني توده نتيجة تحالفه مع الإسلاميين ضد الشاه ولكن أيضا ضد القوى الديمقراطية واللبرالية؟
لا بد أن وطار هنا قد فقد البوصلة. فلا الانتخابات كانت انتخابات ولا الديمقراطية كانت ديمقراطية بعد أن استولى الإسلاميون على الساحة ومارسوا الضغط والإرهاب على الناس، ولم يكن بمقدور هذا الرئيس المتخلف ذهنيا حسب تعبير وطار ولا حكومته الإشراف على انتخابات حرة ونزيهة كما زعموا أما لو شكل الإسلاميون حكومة فسوف يسارع الجميع للدخول في دين الله أفواجا. الانقلاب الحقيقي قام به الإسلاميون وأعوانهم في السلطة للانقلاب على الديمقراطية وليس العكس.
عن سؤال: "كيف تحول وطار الثوري اليساري إلى إنسان محافظ؟" أجاب: "أنا رجل يحلل الوضع، رجل ارتبطت بالجماهير، رجل أمتلك وسائل التحليل وأنا من حسن حظي من وسط فلاحي، يعرف العربية ومن أصل أمازيغي ويساري وبالتالي فأنا أمتلك ما لا يمتلكون... أعرف أن هناك انفصالا بين المثقف ومجتمعه وبين الخطاب الحضاري للمثقف وسائر الناس... ما معنى أن يترشح أمين محمود العالم ولا ينال 50 صوتا... أعلم أن هناك انقطاعا بين النخبة المثقفة .. وبين باقي الناس... بعضهم بقي أعمي لا يتملك النظرية، ظل ماركسيا ولا يعرف الماركسية ويجهل أن استعادة اللغة العربية (يقصد الماركسيين الجزائريين) هو جزء من معركة حركة التحرر الوطني.."
فهل كان أمين العامل يجهل العربية والماركسية عندما عجز عن الحصول عن 50 صوتا في الانتخابات أما كان عليه أن يتبنى خطابا شعبويا إسلاميا حتى ينال رضا العامة؟ أم أن هناك أسبابا أخرى لها علاقة بفشل المشروع الحداثي لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية في بلداننا وبمستوى وعي الجماهير وبالتحولات العالمية وغيرها.
يواصل وطار حملته المقدسة ضد المثقفين الذين عارضوا تسليم السلطة للإسلاميين، فوصف الروائي رشيد ميموني الذي عارض هذه المهزلة وصدرت في حقه فتوى لاغتياله، بأنه: "كاتب فرنكوفوني يشبه بين ما يجري هنا بالنازية أو يشبه الإسلاميين بالنازيين، إنه يتكلم وكأنه يهودي فرنسي من الأرض المحتلة... وعندما أقول هذا لا يعني المساس بالمؤسسة العسكرية، حاشا، لكنها قضية مبدئية".
هنا أيضا يضيع وطار بوصلته. ففرنسا اليسارية، يومئذ، في عهد ميتران، كانت تؤيد وصول الإسلاميين للحكم وليس العكس، بينما القوى اللبرالية فيها كانت ضد. أما بالنسبة لموقفه من ميموني ثم موقفه من العسكر، فما أصدق الشاعر العربي عندما قال:
أسد علي وفر الحروب نعامة...
يواصل وطار: "أنا ضد العنف، بالنسبة إلي العنف واحد، والقتيل واحد، والجزائري واحد، المثقف الذي يموت يساوي الشرطي، وهذا الأخير أو الأول يساوي الإرهابي الذي يموت، فبائع الزيتون يموت في القضية على أنه إرهابي هو جزائري. إني أتألم عندما يموت كل هؤلاء... بل أتألم عندما يموت واحد في نقوسيا أو في سراييفو أو في أي مكان آخر".
هكذا يتساوى الإرهابي القاتل مع المثقف الذي يعبر عن أفكاره بقلمه. ويتساوي الشرطي الذي يدافع عن حفظ النظام مع الإرهابي الذي يسعى لإقامة الدولة الإسلامية الفاشية بالقتل والدمار.
بعد هذا يقول متنكرا بسرعة لهذا الكلام: "بالنسبة للمثقفين الجزائريين، نتهمهم بالعدوانية، نتهمهم بالجور، نتهمهم بعدم احترام شعبهم، لقد قلت هذا الكلام في باريس، وفي بلجيكا، قلت لهم إما أن تفهموا شعبكم وتنسجموا معه، وإما أن ترحلوا".
صحيح، فأغلب المثقفين الجزائر باختلاف لغاتهم وقفوا ضد تسليم السلطة للإسلاميين، وضحايا الإسلاميين من المثقفين كانوا من جميع الفئات. بالنسبة للإسلاميين، فمن ليس معهم فهو ضدهم. والطاهر وطار يتبنى هذه الرؤية الفاشية كما رأينا وكما هو واضح من قوله:
"أنا مستاء لموت الطاهر جاووت، ويوخبزة ولجميع من ماتوا، لكن يجب ألا نخلط الأمور وألا يستعمل باطل بحق. ألا تقول لي إن المثقف المفرنس هو كل المثقفين الجزائريين، لا .. بيني وبينهم خط أحمر. فموته غير موتي أصلا. موقفي وتضامني معه مشروط، أنا متضامن معه على شرط أن يعيد النظر في آرائه، في ثقافته، في انتمائه وفي أسلوبه... أنا لا أتمنى الموت لأحد لكن العيب جاء من عندهم، فكل مثقف معرب عند هؤلاء هو نازي فاشي، أصولي، بعثي، أي صدامي، إن جزائريتي وثقافتي في خانة، أما جزائريتهم وثقافتهم ففي خانة أخرى".
ويقول: "الخلاصة أن هؤلاء الفرنكفونيين ينتحرون وأننا سنبقى على خلاف مع الفرنكفونيين أحياء أم أمواتا".
وحول سؤال: "كيف يحلل الطاهر وطار ما سمته بعض وسائل الإعلام بالخلاف والاختلاف بين رئيس الحكومة عبد السلام ورئيس المجلس الأعلى للدولة علي كافي؟"
وهو خلاف حقيقي أدى فيما بعد إلى إقالة رئيس الحكومة، لكن بالنسبة لوطار، هي فرصة لتصفية الحسابات ولمزيد من التحريض ضد هؤلاء المثقفين المهددين أصلا بالإرهاب الإسلامي. يقول: "هؤلاء الناس تابعون لفرنسا حتى لا أقول عملاء للاستعمار. وعبد السلام بلعيد رجل وطني مثل كافي ورضا مالك... وهؤلاء الناس ضد ما هو جزائري، ضد كل ما هو معاد للغرب، ولسوء حظهم أن بلعيد عبد السلام مفرنس، ولو كان معربا لنعتوه بالإسلاموية".
ما أتذكره أنا الآن هو أن عبد السلام بلعيد، مباشرة بعد إقالته من طرف كافي انتقل إلى باريس للإقامة بها رغم أنه كان يهاجم خصومه واصفا إياهم بحزب فرنسا، وباللائكيين الشيوعيين.
وأخيرا يقول وطار في خاتمة هذا الحوار: "إنني التقيت مع عبد السلام بلعيد في السنة الماضية، 16 مارس، على ما أظن.. وراح يحدثني عن موقفي من الفرنكفونيين، فقال لي: إن حزب فرنسا موجود واحذره، إنهم لا يتورعون في اغتيالك، هؤلاء الخونة".
هذا الهذيان كله كذب. الأحداث بينت أن الإرهاب الحقيقي مارسه الإسلاميون وحدهم، وواجهتهم قوات الأمن المختلفة. ولم يحدث أن لجأت القوى الديمقراطية والعلمانية لتهديد خصومها أو اغتاليهم. أما مهاترات الطاهر وطار فكانت تخدم الإسلاميين وتعمل على تمكينهم من السلطة ولهذا ختم قائلا: "أكتفي بكلمة واحدة، وهي أن للإسلاميين مكانة في الجزائر وفي تسيير شوؤن البلاد".
فأين الباطل وأين الحق هنا؟ هل الوقوف ضد مشروع الدولة الإسلامية المعادية للحريات باطل وتأييدهم حق؟ هل يستحق توقيف مسار انتخابي كل هذه المذبحة طوال عشر سنوات ومازال؟
أليس من الفاشية أن يطالب كاتب في حجم الطاهر وطار مثقفين مختلفين فكريا معه بالرحيل من البلاد أو الانتحار أي الاغتيال.
ما هي المبررات لكل هذا السقوط الدرامي ممن كان يساريا؟
سوف نتعرف عليها من خلال قراءتنا في روايته: "الشمعة والدهاليز".
يتبع



#عبد_القادر_أنيس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رد على مقالة الدكتور طارق حجي
- هل العلمانية ضد الدستور؟ حوار مع القرضاي 10
- هل العلمانية ضد الدين؟ حوار مع القرضاوي 9
- حوار مع القرضاوي 8
- حوار مع القرضاوي 7
- حوار مع القرضاوي 6
- إلى ذكرى رفيقي النقابي ن ف.
- حوار مع القرضاوي 5
- حوار مع القرضاوي 4
- حوار مع القرضاوي 3
- حوار مع القرضاوي 2
- حوار مع القرضاوي 1
- نفاق الطبقة السياسية الجزائرية
- خرافة التوفيق بين العلم والإيمان
- قمة الخداع والانتقائية في الفكر الإسلامي (تتمة)
- قمة الخداع والكذب والانتقائية في الفكر الإسلامي
- هل للمرأة حقوق في شريعة الإسلام؟
- أيهما الأكثر إبداعا: الرجل أم المرأة؟
- الفكر الإسلامي بين التحايل والخداع والسذاجة 9: محمد الغزالي ...
- الفكر الإسلامي بين التحايل والخداع والسذاجة 8: محمد الغزالي ...


المزيد.....




- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد القادر أنيس - الطاهر وطار: الوجه الآخر