أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - نوال السعداوى - من مفكرتى السرية عام 1947















المزيد.....



من مفكرتى السرية عام 1947


نوال السعداوى

الحوار المتمدن-العدد: 933 - 2004 / 8 / 22 - 10:02
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


. اليوم 9 يوليو 2000، تجمعت فى بيتى أعداد من الشابات والشباب، أسسوا جمعية جديدة باسم النهضة الفكرية للمرأة المصرية، بدأت معاكسات وزارة الشئون الاجتماعية، رفضت تسجيل الجمعية فى مارس الماضى، لكن العضوات والأعضاء أصروا على مواصلة العمل، أنظر إلى وجوههم، أتذكر نفسى منذ أربعين عاما، حين كنت فى مثل هذا العمر، ربيع الشباب، يعود إلىََّ حماسى كما كنت فى العشرين أو الثلاثين، إبنتى منى وإبنى عاطف جزء من هذه النهضة الفكرية والفنية الجديدة، هذه الوجوه تشبه إبنتى وإبنى، كأنما ولدتهم جميعا فى مكان وزمان لا أدرى عنه شيئا.

لاشىء يعيد إلىَّ التفاؤل والأمل مثل العمل الجماعى ، هذه الوجوه الشابة المليئة بالتفاؤل والأمل، عيونهم يكسوها البريق، يبتسمون ويضحكون، يتحركون فى بيتى كأنما بيتهم، يدخلون إلى المطبخ، يصنعون الشاى، يقطعون فطيرة الذرة، ثم تتولى واحدة منهم إدارة الاجتماع، شابة فى الخامسة والعشرين إسمها ابتسام، تكتب الأدب والشعر، تخرج إلى المظاهرات ضد الفساد فى الدولة والعائلة، خاضت تجربة الزواج والأمومة، خرجت من التجربة برواية جديدة طويلة وطفلة عمرها ثلاثة أعوام، تحملها معها فى كل مكان، تدربها منذ الطفولة على رؤية العالم، والتحدى، تعيش وحدها مع طفلتها، تنفق عليها من راتبها الشهرى، تشتغل فى إحدى الصحف الجديدة، تحصل على ما يكفيها ويكفى طفلتها، قالت ابتسام فى الاجتماع، أنا امرأة سعيدة أستمتع بالحياة دون حاجة إلى رجل، قال أحد الشباب، ليس كل الرجال متخلفين يا ابتسام، ضحك الجميع، وقال شاب، أغلبهم متخلفين، لابد من الاعتراف أن قلة نادرة من الشباب تخلصوا من عقدة الذكورة، وقالت إحدى الشابات، لابد من الاعتراف أن قلة نادرة من الشابات تخلصن من عقدة الأنوثة.

يدور الحوار بينهم وهم جالسون فى صالة بيتى. استمع إليهم. ربما هم هؤلاء القلة النادرة، وإلا فلماذا جاءوا إلىَّ أنا بالذات ؟! وقالت ابتسام: قرأت كتبك يا دكتورة نوال وتغيرت حياتى كلها، استطعت أن أحول كل تجربة مؤلمة مررت بها إلى عمل إبداعى. هذه الكلمات ترن فى أذنى كالموسيقى. كالماء يروى الزهرة. كالهواء النقى يدخل صدرى، يطرد الغبار والحزن واليأس، أتلفت حولى وأرى الفقر يشتد، الجهل يشتد، المرض يشتد، الثالوث المزمن القديم منذ عهود الملكية والإقطاع:" الفقر، الجهل، المرض". هذا الثالوث يتجسد أمامى أينما ذهبت، كأنما لم يتحرك الزمن منذ كنت طفلة فى السابعة من العمر.

لكن هذه الوجوه الشابة تعيد إلى التفاؤل والأمل. تقول ابتسام، لسنا قلة نادرة يا دكتورة نوال، نحن أغلبية هذا الشعب، الأغلبية الصامتة التى لم يكن لها صوت، أصبح لنا صوت، ربما صوت ضعيف فى مجموعة صغيرة لكن صوتنا سوف يكبر ويكبر. تطلق ضحكة مرحة يشاركها الجميع الضحك. أضحك معهم. أسمع صوت ضحكتى بأذنى،أستعيد طفولتى وشبابى، يتسرب الألم من جسدى والحزن، انهض بحركة خفيفة كأنما فى العشرين من العمر، كأنما تلاشت أربعين سنة من عمرى. أيكون الزمن هو الوهم؟! أتكون الشيخوخة هى المرض المؤقت لا يشفيه إلا الأمل؟!

همست لشريف فى الليل، سأعيش حتى القرن الثانى والعشرين، ضحك شريف وقال، بالأمس قلتى يا نوال أنك ستموتين غداً، نعم يا شريف، كان ذلك بالأمس، لكن اليوم أنا شابة من جديد، ما رأيك فى كأس من النبيذ وقليل من الفول السودانى، وكثير من الحب؟! يضحك شريف، الساعة الآن الثالثة صباحا يا نوال، إيه يعنى يا شريف؟ وليه تبص فى الساعة؟ تعود شريف أن ينام والساعة حول معصمه، وخاتم الزواج حول إصبعه، تعودت أن أنام بدون ساعة وأصحو بدون ساعة، وليس حول إصبعى أى خاتم، ولا أعترف بأى ختم.

يقول شريف عنها "الفوضى الضرورية لأى نظام" نحن فى حاجة إلى شىء من الفوضى لندرك النظام، شريف كان يدرس معى فى جامعة ديوك المادة الجديدة التى أطلقنا عليها إسم "التمرد والإبداع"، حين التقيت بشريف لأول مرة منذ ستة وثلاثين عاما قلت له، أنت يا شريف متمرد ومبدع، فى أعماقك حنين للفوضى رغم مظهرك الخارجى المنظم جدا.

أصبحت نظرية الفوضى فى علم الكون الجديد جزءا لا ينفصل عن النظام، وفى علم الفلسفة الجديد أصبح الشيطان جزءا من الإله، تلاشت الثنائيات الباطلة الموروثة منذ نشوء العبودية، ومنها ثنائية الذكر والأنثى والحاكم والمحكوم. ألهذا السبب لا أعترف بأى حكومة فى العالم؟ تشترك الحكومات جميعا فى بعض الصفات الأساسية، على رأسها القهر والتضليل، ما أن ترن كلمة "حكومة" فى أذنى حتى تتكور يدى فى قبضة قوية، كأنما سأضرب رأس ثعبان.

وأندهش حين يفخر أحد بمنصبه العالى فى الحكومة، أو حين ينال جائزة حكومية تحمل إسم جائزة الدولة.

- ما الفرق بين الحكومة والدولة؟

- فى الأنظمة الدكتاتورية لا يوجد فرق، لأن الشعب لا يشارك فى الحكم.

- وهل يشارك الشعب فى أى حكم فى العالم؟

- فى عالمنا الطبقى الأبوى هذا؟

- نعم.

- لا توجد ديموقراطية حقيقية فى أى بلد، العالم تحكمه القوة والأموال وليس العدل أو الحرية.

يدور الحوار فى بيتنا عام 2000 كما كان يدور منذ نصف قرن فى بيت أبى، سقط النظام الملكى وبدأ النظام الجمهورى وظلت الحكومات كما هى، لا يمكن لحكومة أن تبقى مستقرة فوق عرشها دون قهر الشعب وتضليله. كان أبى يقول لا شىء يضلل الشعب مثل نظام التعليم.

كنت فى الثامنة والعشرين من عمرى حين مات أبى. كلماته محفورة فى ذاكرتى. وزارة التعليم تلعب دورا فى تجهيل الناس بالحقيقة. المعرفة إثم منذ مدت حواء وآدم يدهما إلى شجرة المعرفة. لا تزال المعرفة إثما حتى اليوم. أصبحت عمليات التجهيل أكثر إتقانا مع تطور تكنولوجيا التعليم والإعلام الحديث وما بعد الحديث.

فى أعماقى حنين منذ الطفولة للمعرفة. شهوة المعرفة أكبر عندى من الشهوة الجنسية. لا يجذبنى الرجال ذوى الفحولة الذكورية. لقد مر بحياتى رجال كثيرون. انجذبوا إلى أنوثتى الخادعة. إلى البريق المطل من العينين. تصوروا أنه الشبق الجنسى. لم يدركوا أنها الشهوة إلى المعرفة. تصوروا أننى أبادلهم الحب. لكن سرعان ما تحدث المأساة. تصطدم الذكورة التقليدية بأنوثة مختلفة غير قابلة للاختراق.

بعد موت أبى وأمى تصورت أننى تحررت، فى طفولتى كنت أحلم أنهما ماتا لأخرج من البيت بدون إذن. أصحو من النوم مبللة بالدموع، أبكى على موتهما بمثل ما أبكى على عدم موتهما.

بعد موت أبى جاءت صديقتى بطة لتعزينى. مرت علىَّ بعيادتى فى ميدان الجيزة. كانت الساعة السابعة أول الليل. العيادة خالية من المرضى والتمورجى فى أجازة. انتهزت فرصة موت أبى لأغلق عيادتى شهرا كاملا. علقت ورقة على الباب تقول:

"العيادة مغلقة حتى يوم 21 مارس". كنت أريد أن أكتب "العيادة مغلقة إلى الأبد". لقد فتحت هذه العيادة من أجل أبى. دخلت كلية الطب من أجل أبى. وقد مات أبى وانتهت علاقتى بمهنة الطب. أما العيادة فقد أصبحت مقرا لندوات الأدب، حيث ألتقى بالأصدقاء و الصديقات.

دخلت بطة كعادتها مثل ريح تدفع الباب، تدق الأرض بكعب حذائها العالى المدبب، جسمها السمين القصير مدكوك داخل ثوب حريرى أسود علامة الحداد على موت أبى، فتحة الصدر واسعة تكشف عن عنق سمين ناعم حتى الشق العميق بين النهدين المضغوطين بالمشد، رأت وجهى الشاحب الحزين فجلست مطرقة إلى الأرض ترسم على وجهها علامات الحزن. عيناها السوداوان الواسعتان مرسومتان بالكحل، تملؤهما ضحكة مرحة مكتومة الصوت.

- تشربى إيه يا بطة؟

- قهوة سادة سودا يا نوال، مش كده والا إيه؟

أفلتت من بين شفتيها الممتلئتين تنهيدة قصيرة، لعقت بطرف لسانها شفتها السفلى السمينة وقالت: عندك حاجة تانية؟ قلت: عندى ينسون يا بطة. هنا أطلقت ضحكتها المرحة وقالت: مش تبطلى طفولة بقه إنتى كبرتى يا نوال، عندك جين تونيك؟

كانت أول مرة فى حياتى أسمع كلمة "جين تونيك". قالت بطة إنه الشىء الوحيد الذى تشربه حين تكون حزينة. المشروب الوحيد الذى يبدد الكآبة وتبدو الحياة تحت أضواء جديدة. فى أعماقى حنين لأذوق كل ما تشتهى الأنفس، وكان وجود أبى فى حياتى كاللوح الزجاجى السميك الشفاف، أرى من خلاله الحياة وإن مددت يدى نحوها يعترضنى حاجز لا أراه.

دق جرس التليفون فوق مكتبى. جاءنى الصوت يقول، البقية فى حياتك يا نوال، سأمر عليك بعد ساعة، لمعت عينا بطة وتساءلت: مين هو؟ قلت لها رجاء الشاعر. مطت بوزها وقالت، يعنى! وهى كلمة شاعت على ألسن الناس فى مصر منذ الوحدة مع سوريا، وهى تعنى الموافقة وعدم الموافقة فى وقت واحد. بعد فشل الوحدة وأنفصال سوريا عن مصر بقيت الكلمة تتردد على الألسن، وتعنى اللامبالاة أو عدم الاهتمام، يهز الواحد منهم كتفه ويقول "يعنى"، أو تمط الواحدة منهن شفتيها وتقول "يعنى"، فندرك ماذا تعنى. بدأت الكلمة أول ما بدأت على لسان جمال عبد الناصر فى الأيام الأولى للوحدة مع سوريا، دخلت الكلمة القاموس المصرى بقرار شفهى شبه جمهورى، تشبها بالسوريين، ثم انتقلت إلى المصريين تشبها بالرئيس عبد الناصر، وأعقب ذلك الإمساك بالسبحة بين الأصابع، ودخلت كلمة أخرى إلى القاموس المصرى مع تحريك حبات السبحة، وهى كلمة "والَّلا"، تضحك بطة وهى تردد كلمة "والَّلا" بصوت عبد الناصر، تعقبها بكلمة "يعنى"، ثم تطرقع أصابعها القصيرة البضة وتمط شفتيها وتقول:

عارفة يا نوال أنا باعرف بتوع الاتحاد الاشتراكى من طريقة كلامهم. وكان الاتحاد الاشتراكى قد تكوَّن بعد صدور القرارات الاشتراكية عام 1961، وعقد المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية عام 1962، وخرج الميثاق إلى الوجود وصديقتى بطة تسخر من كل ذلك، تمط بوزها وتقول يعنى!

لم يكن صديقى رجاء الشاعر يعجب صديقتى بطة. تقول عنه "إشتراكى غارق لأذنيه فى عشق البرجوازية". وهو نحيف الجسم قصير القامة قدماه صغيرتان. وهى لا تطيق القدم الصغيرة فى الرجل، كما لا تطيق القدم الكبيرة فى المرأة. ترمق بإعجاب قدمها الصغيرة البضة المقوسة داخل الحذاء ذى الكعب العالى، تقارنها بقدمى الكبيرة داخل حذائى بدون كعب، وتمط شفتيها: مش عارفة يا نوال إيه اللى عاجبك فى جزم الرجالة دى اللى بتلبسيها! كانت بطة تتولى مهمة تحويلى إلى أنثى مثلها، ترمق بشرتى السمراء بشىء من الامتعاض وتقول:

عارفة إيه اللى ناقصك يا نوال عشان تبقى ملكة جمال، شوية بودرة وروج وتصبغى شعرك الأبيض ده!

كأنما كانت النقيضة لى، رغم اختلافى معها فى كل شىء كان هناك شىء غامض يجمعنا. تلازمنى فى كل مكان أذهب إليه كظلى. تطلبنى كل يوم فى التلفون وتأتى لزيارتى فى البيت أو العيادة. أصمم فى كل مرة ألا أرد عليها، لكن ما أن يرن الجرس وأعرف صوتها حتى أقول: أهلا بطة. كانت تملأ حياتى الحزينة بشىء من المرح. تملأ حياتى الجادة بشىء من الاستهتار، إلى جوارها أحس بالنقاء، كأنما يحتاج النقاء دائما إلى شىء من الفساد ليرى نفسه. كالضوء لا نراه إلا فى الظلمة.

حين قالت بطة "يعنى" ومطت بوزها قلت لصديقى رجاء الشاعر أننى متعبة وحزينة لموت أبى ولا أقابل أحدا من الناس. أحسست فى صوته خيبة الأمل. كان يريد أن يرانى فى تلك الليلة. وكانت معى صديقتى بطة. وهى قادرة على تسليتى أكثر منه. تجعلنى أضحك من أعماق قلبى. لا تحدثنى عن الإشتراكية أو الوحدة أو النظام، لا تحدثنى عن سوريا أو العراق أو مصر أو الإيمان بالله أو الوطن، تخرج من حقيبتها زجاجة الجين، وتسألنى، عندك ثلج يا نوال؟ لا تنتظر منى الإجابة. تنهض وتفتح الثلاجة فى البيت أو العيادة. تضع قطع الثلج فى صحن صغير. تفتح زجاجة ماء التونيك. تخلط الجين بالتونيك مع الثلج وقطعة من الليمون على شكل الدائرة، تغمسها فى الكأس بطرف إصبعها ثم تمصه وتقول: يا ترى مين العبقرى ده اللى اكتشف الجين تونيك؟ تعرفى أنا باحسدك ليه يا نوال لأنك قدرتى تطلقى جوزك ولأن أمك وأبوكى ماتوا وبقيتى إنسانة حرة!

تطلق بطة ضحكتها المرحة المعدية مثل المرض، فأضحك مثلها بقوة لا إرادية، أود أن أشعر أننى إنسانة حرة، لكن القيود تلفنى كخيوط من الحرير، ذراعاى مشبوكتان حول صدرى، لا أستطيع أن أطلق هذه الضحكة العالية المرحة التى تطلقها وتكاد تخرق الحوائط الأربعة.

- يا بختك يا بطة بتقدرى تضحكى من كل قلبك.

تتوقف بطة عن الضحك فجأة. يسقط وجهها كأنما فى قاع مجهول. تكسو عينيها سحابة حزن كثيفة. ترشف الجين تونيك فى صمت، تمصمص شفتيها وتقول: أنا باضحك معاكى بس يا نوال، باحاول افضفض عن نفسى، وسرعان ما تنقشع السحابة، تلمع عيناها من جديد، يطل منهما بريق مشع متأجج بالرغبة المكبوتة، يشتعل رأسها بالخيال الجامح، تبدأ فى الإعتراف بشىء لا تنطق به وهى فى كامل الوعى، تعرفى يا نوال أنا نفسى فيه إيه دولوقتى؟ تصمت لحظة مترددة ثم تهمس، نفسى أخرج وأمشى فى الشارع وأصطاد أول راجل يقابلنى، راجل لا يعرفنى ولا أعرفه، متهيأ لى يا نوال إن هو ده الراجل اللى ممكن يقدر يحقق المعجزة، ممكن يحقق المستحيل، اللذة المستحيلة يا نوال!

كانت بطة تؤمن أن هناك تناقض بين الحب والجنس، لا يمكن أن تتحقق اللذة الجنسية إلا مع رجل فاسد لا يؤمن بالثالوث المقدس: "الله الوطن الحب". وكانت تقول أنها حين تحب الرجل لا تمارس معه الجنس حتى يحتفظ بصورتها الملائكية حتى الموت، ثم تطلق ضحكتها وأنطلق أضحك كأنما بالعدوى.



* * * *



كنت وحدى بالبيت، مات أبى ليلة الخميس 19 فبراير 1959. مضت سنة كاملة على موته وخمسين يوما. الليلة هى أول أبريل عام 1960، لم يكن بيتنا يخلو إلا نادرا، تلك اللحظات يتسع الأفق فجأة، وأكاد أرى الإله رع وراء السحابة البعيدة. يصمت الكون وأكاد أسمع دبة النملة، وحفيف أوراق الأشجار البعيدة، نسمة الليل تصبح رقيقة ناعمة كحرارة الجسم. ?ستشعر اللذة حين أفرد جسمى حتى النهاية، أمد عنقى حتى النهاية، يصبح رأسى عاليا قريبا من رأس الإله رع فى السماء. لم تكن هذه الحركة مباحة للنساء. والمفروض ألا يعلو رأس المرأة عن رأس أبيها أو زوجها فما بال من هو أعلى منهما فى الكون. كانت قامتى شامخة وعنقى طويلا، وكان لابد من علاج هذا العيب.

أصبحت أمشى بقامة منحنية قليلا، لا أستطيع أن أفرد جسدى حتى نهايته فى اليقظة أو فى النوم. الانحناءة تنمو كالصنم فوق ظهرى دون أن أدرى، كالعضو الغريب ينمو خلسة ويصبح جزءا من الجسم، كالخوف من عقاب الله يتسلل إلى العقل ويكمن فيه، كالمرض المزمن. كانت أسرتنا كبيرة العدد، يسميها أبى "الفاميليا" ينطق الكلمة بسخرية، ينفث الهواء مع الياء الأخيرة، والألف الممدودة يمدها مع زفير طويل، مملوء بالضجر والزهو الخفى، يشير إلينا بإصبعه الطويل ونحن متراصون حول المائدة:

"الفاميليا الكريمة‍ تسعة من العيال وأمهم"

عرفت منذ الطفولة أن الفاميليا هى أسرة أبى فقط، أمى مثلنا نحن الأطفال واحدة من العيال، كلمة العيال ترن فى أذنى مهينة تنم عن الاحتقار، العيال هو من يعيشون عالة على غيرهم.

لم تكن أمى تواظب على الصلاة أو تلاوة القرآن. يسألها أبى كل يوم: ليه يا زينب مش بتصلى؟ تضحك أمى ضحكتها المرحة الساخرة وتقول، أنت بتصلى بالنيابة عنى يا سيد.‍ يندهش أبى ويقول، بالنيابة عنك إزاى يا زينب؟ تواصل أمى السخرية، أنت بتنوب عنى فى كل حاجة حسب القانون والشرع، يبقى لازم تنوب عنى فى الصلاة كمان وإلا إيه؟

فى طفولتى لم أفهم كلام أمى، أدركت بالفطرة أنها لا تؤمن بالله، تزمجر أحيانا بغضب مكتوم وتخاطب السماء قائلة: يعنى كل حاجة من حق الرجالة دنيا وآخره واحنا مافيش حاجة؟! تتراجع بعد لحظة وتهمس: استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.

بعد موت ابى ادركت أن الفاميليا ماتت. ألم يكن عمودها وعميدها؟ ألا يسقط البناء بسقوط العمود؟ الفرح الخفى يهزنى وأنا أرى البناء يسقط. يبدو لى منذ الطفولة واهيا، مصنوعا من الوهم، أو مجرد الإسم. كانت أمى تضحك حين يشير أبى إلينا نحن التسعة ويقول بزهو: أولادى!

تضحك أمى وتسأله: من قال أنهم أولادك؟! يضحك أبى مدركا الفكاهة، ثم سرعان ما ينتابه سعال جاف ويصمت فجأة كأنما يسقط فى بئر عميق بغير قاع.

كان أبى يؤمن بالحياة الاخرى بعد الموت، يحكى لنا كيف يعاقب الله المذنبين، كيف تلقى أجسادهم فى النار لتحترق. نختفى نحن الاطفال تحت السرير من شدة الخوف. تقول أختى الصغرى أن الميت لا يمكن أن يحس شيئا. كان الموت فى نظرنا نحن الأطفال هو الموت. هو نهاية الألم ونهاية الإحساس. لم نصدق فى طفولتنا ما يقوله الكبار. كانت أختى الصغرى تشاركنى اللعب تحت السرير، وتقول لى أن الأطفال يعرفون ما لا يعرفه الكبار، وأسألها ليه؟ تقول، لأن الكبار عقلهم صغير، وننفجر بالضحك المكتوم حتى لا يسمعنا أبى أو أمى الجالسين فى الصالة.

كان البيت خاليا تلك الليلة، دادة أم ابراهيم أخذت إبنتى الطفلة وأخواتى الأربعة الصغيرات فى رحلة إلى القرية. ربما كانت إجازة شم النسيم أو عيد الربيع، أو الاحتفال بعيد العمال أو أحد المشاريع الاشتراكية الجديدة. أصبحت أم ابراهيم تتغنى بالاشتراكية مثل وزير الصحة. بعد موت أمى أصبحت هى بديل الأم. تطبخ وتغسل الصحون وتدعك المرحاض. بعد موت أبى أصبحت أنا بديل الأب، أتولى الإنفاق على الفاميليا الكبيرة، ورثتها عنه ضمن أشياء أخرى منها أثاث البيت وإسمه الكريم ودينه الحنيف ونصف فدان من الأرض الزراعية فى كفر طحلة، إستولى عليها الحاج محمد إبن عمه.

أول كل شهر أناول أم ابراهيم مرتبها مثل الموظفين فى الدولة. أوراق البنكنوت تمسكها فى يدها لحظة قبل أن تدسها فى جيبها. عيناها يكسوهما البريق القديم، كشعاع من الضوء ينفذ من قاع عظام الرأس. ترتعش أطراف أصابعها قليلا كأنما تلامس سلكا كهربيا عاريا، تمسك الجنيهات تعدها واحدا وراء الآخر، صدرها يعلو ويهبط، أنفاسها تلهث قليلا كأنما تجرى وهى واقفة، ثم تطلق ضحكتها المرحة وتقول "أصل الفلوس يا ضكطورة راكبها عفريت اللهم إحفظنا يارب من شرهم!"

كان الليل هادئا وأنا راقدة فوق الكنبة فى الشرفة البحرية، أستمتع بالوحدة وغياب الأسرة عن البيت، لم تكن الاصوات تنقطع فى بيتنا الا فى منتصف الليل، حينئذ يسرى من خلال الجدران أصوات الجيران. كانت غرفة نومى ملاصقة لغرفة نوم جارتنا الست حمدية وزوجها السيد احمد عبد التواب، يسرى أنينها فى الليل وانا غارقة فى النوم، أو صوت أم كلثوم تغنى قرب الفجر، "هو صحيح الهوى غلاب ما عرفش انا"، أو صوت جمال عبد الناصر يخطب فى أحد المناسبات الوطنية، يضغط على مخارج الألفاظ بقوة، "الاشتراكية! أيها الإخوة والأخوات!، علينا جميعا أن نبنى المجتمع الاشتراكى الجديد!".

تلك الليلة أول الربيع كان الكون هادئا وأنا وحدى فى البيت بلا أسرة ولا صوت يسرى من عند الجيران، إلا شيئا خافتا يشبه حفيف الشجر من بعيد، ربما هو صوت أم كلثوم تغنى فى راديو الجيران بمناسبة عيد الربيع، أو صوت جمال عبد الناصر يخطب فى عيد العمال، حروف الكلمات لم تعد مسموعة والصوت لم يعد صوتا، بل شيئا مسحوقا يتسلل من وراء الجدار الحجرى كالرماد الناعم، كحفيف أوراق الأشجار فى الأفق البعيد، إلا كلمة واحدة ظلت متماسكة الحروف، تقاوم الانسحاق داخل الجدار، تحملها نسمة الليل إلى أذنى وأنا راقدة فوق الكنبة فى الشرفة، ترن فى الجو بصوت أنثوى يشبه صوت سامية، زميلتى منذ المدرسة الثانوية، أصبحت الدكتورة سامية عضو اللجنة القيادية فى الاتحاد الاشتراكى، تقف فوق المنصة وراء الميكرفون وتنطق بصوت جمال عبد الناصر كلمة الإشتراكية! الإشتراكية أيها الإخوة والأخوات.

لم تكن سامية أقرب الزميلات إلىَّ فى عنبر الداخلية. كانت تكبرنى بعامين اثنين، بدت فى ذلك الوقت كأنما تكبرنى بقرن أو قرنين. تعرف قواميس لغات لا نعرفها، تفك طلاسم كلمات غامضة على عقولنا نحن التلميذات الصغيرات، ومنها كلمة الشيوعية والمادية الدياليكتيكية، وعلى رأسها إسم "ماركس"، وهو إسم يختلط فى آذاننا مع إسم "مركس" بصوت زميلتنا "بطة"، حين كانت تقلب حرف القاف الخشن إلى حرف الكاف الرقيق، تشبها بالطبقة الراقية والأجانب، ويصعد الدم إلى وجه صفية حين ترن فى الجو كلمة "مركس" أو "مرقس"، فهو الاسم الذى تعلقه داخل القلب الذهبى فوق صدرها، يحتقن خداها البيضاوان بلون الدم، ترمقنى بعين حمراء كأنما أنا أفشيت السر، وكانت هى تحكى قصة حبها للزميلات فى عنبر الداخلية، أو لأى زميلة تسهر معها بعد أن يدق جرس النوم، تقفان معا فى النافذة تطلان على القمر والنجوم فى غياب أبلة عزيزة ضابطة الداخلية.

لم تكن "بطة" معنا فى حلوان الثانوية، أصبحت زميلة لنا فى كلية الطب. كان الحديث بين الزميلات موصولا على الدوام، لا يفصل المدرسة عن الجامعة أو الطفولة عن المراهقة عن الشباب، لا يقطعه زواج أو طلاق أو موت الزوج أو أى حادث آخر يعترض حياة البنات والنساء. كأنما عطش الحب لا يرتوى ابدا حتى تبلغ المرأة مائة عام.

كنت منذ الطفولة أخفى عن أبى وأمى كثيرا من المحرمات التى تتردد فى عقولنا نحن الأطفال، أغلبها يتعلق بالحب أو الموت، ومنها فكرة أن الموت نهاية الألم، أى أن الجسد الميت لا يحس شيئا إن وضع فى النار. كانت هذه الفكرة واضحة لعقلى منذ الطفولة الأولى قبل أن أبلغ السابعة من العمر، لكنها بدأت تختفى كلما كبرت ودخلت المدرسة. كانت صفية أقرب الزميلات إلىَّ فى عنبر الداخلية. تكبرنى بعام واحد، وتبدو كأنما هى امرأة ناضجة، ثدياها ممتلئان باللحم مثل أمى، كأنما تزوجت وانجبت، أو خاضت تجارب فى عالم الحب لا نعرفها، حول عنقها سلسلة ذهبية يتدلى منها قلب مصنوع من الذهب، تفتحه بأطراف أصابعها الناعمة البضة كأصابع أمى، تلثمه بشفتيها وصدرها يعلو ويهبط مع أنفاسها، تلتقط خصلة شعر رفيعة ملفوفة داخل تجويف القلب، تقربها من أنفها تشمها، تأخذ شهيقا عميقا مع تنهيدة طويلة، ثم تفتح جفونها رموشها ترتعش، وتقول بصوت يتقطع مع أنفاسها، "باحبه يا نوال باموت فيه!" تكرر هذه العبارة الليلة وراء الليلة، كلما وقفت معها فى النافذة بعد أن يدق جرس النوم. حين يغلبنى النعاس أتركها وحدها واقفة فى النافذة تناجى القمر. وفى الحلم أراها ممدودة فوق السيخ المحمى فى النار، يحرقها الله المرة وراء المرة. إن إثمها ليس واحدا بل اثنين. الإثم الأول هو الحب. كان الحب محرما على البنات إلا فى الأغانى والأفلام. الإثم الثانى هو "مرقس" حبيبها القبطى وهى مسلمة. كنت أهمس فى أذنها "الحب ده حرام ربنا حيحرقك فى النار يا صفية"، تهز كتفيها تمط شفتيها إلى الامام وتهمس "بعد ما أموت يا نوال مش حاحس بحاجة". يسرى صوتها فى هدوء الليل كحفيف الاشجار تتراءى من بعيد فى الظلمة كالأشباح أو أرواح الجان. يتسلل الحفيف إلى اذنى فى الليل مخيفا مثل فحيح الشيطان. يرتعد جسدى وانا واقفة فى النافذة إلى جوارها، تسرى القشعريرة من قمة رأسى إلى بطن القدمين، أحس البرودة تصعد من بلاط العنبر إلى منابت الشعر تحت الجلد، والشعيرات الدموية تنتصب فوق ذراعى العاريتين كرؤوس الإبر، أقرب شفتى المرتعشتين من أذنها وأهمس، "يعنى مش حانحس بالنار بعد ما نموت يا صفية؟" وتفلت من بين شفتيها ضحكة مكتومة وهى تخفى فمها بيدها الناعمة البضة "نار الحب يا نوال بس نحس بيها". أتركها وحدها واقفة فى النافذة وأختفى تحت الغطاء، كل شئ فى كيانى يرتج، والسرير من تحتى يرتج فى صرير مسموع يكاد يوقظ بنات العنبر، وأنتفض تحت الأغطية كالفرخة المذبوحة، إلا خلية واحدة فى رأسى تظل هادئة وقورة لا ترتج ولا تهتز. كأنما هى تعرف هذه الحقيقة منذ ولدت. أو كأنما هى الخلية الوحيدة فى عقلى التى عاشت منذ الطفولة.

لم تنقطع صداقتى بصفية حتى اليوم. أصبحت زوجة الداعية الاسلامى الكبير الدكتور مصطفى الزهيرى. تلف رأسها بحجاب أنيق يتمشى مع الأصالة ولا يتعارض مع الحداثة، يسمونه "البونيه"، كلمة فرنسية تنطقها بصوت قوى يشبه صوت زوجها، تضغط على أسنانها وهى تقول "البونيه" بلهجة رجولية تتناقض مع وجهها السمين البض يفيض أنوثة، وشفتاها الممتلئتان الناعمتان، ضغطت عليهما بإصبع الروج الأحمر قبل أن تخرج من البيت، وبعد أن ارتدت البونيه وأحكمته حول رأسها، لا يظهر من شعرها الأسود المصبوغ إلا خصلة نافرة رفيعة تتدلى فوق جبهتها العريضة من الأمام، أو فوق عنقها القصير السمين من الخلف.

فى النوم يتكرر الحلم القديم رغم مرور السنين، وأراها تشوى فى النار كخروف العيد، دون أن تشعر بالألم. تنطلق ضحكتها فى سكون الليل، وصوتها يسرى فى أذنى كالسيخ الحامى "نار الحب يا نوال بس نحس بيها". كنت أحكى لها الحلم وهى واقفة إلى جوارى فى النافذة، عيناها تشتعلان بالضوء فى الظلمة كأنما بنار خفية، تسرى حرارتها إلى رأسى وعنقى وأنا واقفة إلى جوارها، دون أن تلامسنى أو ألامسها، كأنما هى شعلة مختبئة فى الأعماق، لا أعرف من أين تتدفق هذه السخونة وتسرى من قمة رأسى إلى أسفل الكعبين، يصبح البلاط ساخنا تحت قدمى الحافيتين، والبنات غارقات فى النوم داخل العنبر، وأبلة عزيزة ضابطة الداخلية غائبة فى أجازة، ولا أحد يطل علينا من السماء إلا القمر المكتمل بدرا، يتألق نوره فوق رمال الصحراء الممدودة تحت عيوننا حتى الأفق، بحر من الفضة السائلة تشع موجاته ومضات من الضوء الأبيض تبدو فى الظلمة كفصوص اللؤلؤ.

هذه الصورة محفورة فى عقلى رغم مرور خمسة وأربعين عاما، وقصيدة من الشعر كتبتها فى مفكرتى السرية قرب الفجر، بعد أن سهرت الليل واقفة عند النافذة مع صديقتى صفية، هى تحكى عن نار الحب وتحلم بالزواج من مرقس بعد أن يعتنق الإسلام، وأنا أحلم بأن أكون كاتبة أو شاعرة أو ممثلة فوق المسرح أو راقصة أو أى شئ آخر إلا الزواج.

كان الشفق الأحمر بلون الدماء يسبق ضوء الفجر إلى السماء، وكنت أشعر كأنما تورمت قدماى من طول الوقوف، ثمانية أو تسعة ساعات منذ دق جرس النوم ونحن واقفتان نطلان على القمر والنجوم، تركتنى صفية قبل الفجر بقليل ونامت، كان النوم قد هجرنى كأنما إلى الأبد، ولن يعرف جسدى التعب أو الألم، كأنما ينبوع ينفجر فى أعماقى باشياء لا أعرفها. أمسكت القلم وأنا واقفة، الورقة البيضاء فوق حافة النافذة، وبدأت أكتب. كان القلم يمشى وحده كأنما بقوة خارج جسدى وعقلى. خارج الزمان والمكان. كلمات من الشعر أو النثر تكتب نفسها بنفسها.

قرأتها على صفية فى الليلة التالية، وفى الليلة التى بعدها، والتى بعدها، تلمع الدموع فى عينيها وأنا اقرأها، أتوقف لحظة لابتلع دموعى، أطوى الورقة وأخفيها تحت مرتبة السرير، تشدها من تحت المرتبة وتقرأها، فى ليلة وهى تعيد قراءتها بدت الكلمات قديمة كأنما راحت شحنتها الأولى المتوهجة، أمسكت الورقة ومزقتها، وفى يوم كنت وحدى بالعنبر، خرجت كل البنات فى رحلة إلى الحديقة اليابانية، فتحت مفكرتى السرية وأعدت كتابة القصيدة، بقيت فى ذاكرتى حتى اليوم، أعطيتها عنوان: "لن أموت" أردد بعض أبياتها أحيانا حين يفيض بى الشجن أو الحنين. لا أعرف من أين ينبعث الشجن ولمن يكون الحنين. ربما هو الحب الغائب الحاضر. الطيف الذى لا يتجسد أبدا فى الواقع والحقيقة. ربما هو الوهم أو الحزن أو الخوف من الموت. أقول لنفسى حين تتأزم الأمور وأوشك على الهلاك "لن أموت، سأتحدى القضاء والقدر، ولا لن أموت"

فى خريف عام 1981 حين كان التشاؤم يسود المسجونات معى فى الزنزانة، ويحوم شبح الموت حول رؤوسنا، إذا بالقصيدة تهب منتصبة داخلى كالمارد، تقاوم اليأس تتحدى الموت، وأسمع صوتى الغاضب يقول: لن نموت، وإن متنا فلن نموت ساكتات، لن نمضى فى الظلمة دون ضجة، لابد أن نغضب ونغضب، نضرب الأرض ونرج السماء، لن نموت دون أن نكسر قضبان الحديد، وإن متنا لن نموت صامتات.

- مذكراتى فى سجن النساء 1981 –



* * * *



وفى مفكرتى السرية عام 1947، وأنا تلميذة فى المدرسة الداخلية فى حلوان الثانوية، ظلت هذه القصيدة مكتوبة بالحبر الأسود، محفورة فى ذاكرتى وفوق الورق:

قبل أن أغيب فى النوم كل ليلة، أقول لنفسى:

سيأتى الصبح حتما ولن أموت، وإن مت.

فلن يؤلمنى شئ بعد الموت.

لا السقوط فى الامتحان، ولا الضرب.

على أطراف الأصابع بالمسطرة.

ولا زمهرير البرد ولا لهيب الشمس ولا نار الجحيم.

لم أجد إلا صديقتى فى العنبر لأسألها، هل نموت.

وإن متنا هل يؤلمنا أن نموت؟ أين نحن

الآن فى عنبر الموتى، فى اللامكان واللازمان.

ولا وجود للحب إلا بعد أن نحترق فى الحريق.

ونصير كالرماد، كرمال الصحراء فى حلوان.

كأننا يا صديقتى متنا قبل الأوان.

رأيت المشهد فى الحلم، وعرفت أننا نمضى.

إلى حيث لا ندرى، فهل أكون فى الغد ما أريد أن اكون؟

شاعرة أو ناثرة أو حتى آثمة؟

هل أرى إسمى فوق كتاب ممنوع؟ وأشق السماء

بقلمى، وأجعل المطر رهن مشيئتى؟

والنهار والشعر والنثر

ينثال من خطيئتى، فليحرقنى الله فى نار جهنم

ولتشرب الأرض دمائى لكنى أبدا لن أموت.

- حلوان الثانوية 1947 -



#نوال_السعداوى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تضامن النساء
- نوال السعداوي في أكثر حواراتها اثارة تقول لـ- ايلاف-:أنا اهم ...
- قضايا المرأة إذ تتجلى في النهاية شأناً سياسياً
- تحرير المرأة ما بين مسلسل قاسم أمين وخطاب كولن باول... حداثة ...
- كاتبة مصرية في نيويورك : عن بوش وبلير والرومانسية والفساد وا ...
- عالم جديد ممكن . علي منصة القضاء في المحكمة الشعبية العالمية ...
- نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير ج2
- نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير
- نحو فلسفة إنسانية لإحياء الضمير ج1


المزيد.....




- “احلى اغاني الاطفال” تردد قناة كراميش 2024 على النايل سات ka ...
- إدانة امرأة سورية بالضلوع في تفجير وسط إسطنبول
- الأمم المتحدة تندد بتشديد القيود على غير المحجبات في إيران
- الاعتداء على المحامية سوزي بو حمدان أمام مبنى المحكمة الجعفر ...
- عداد الجرائم.. مقتل 3 نساء بين 19 و26 نيسان/أبريل
- هل تشارك السعودية للمرة الأولى في مسابقة ملكة جمال الكون؟
- “أغاني الأطفال الجميلة طول اليوم“ اسعدي أولادك بتنزيل تردد ق ...
- استشهاد الصحافية والشاعرة الغزيّة آمنة حميد
- موضة: هل ستشارك السعودية في مسابقة ملكة جمال الكون للمرة الأ ...
- “مش حيقوموا من قدامها” جميع ترددات قنوات الاطفال على النايل ...


المزيد.....

- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم
- قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق / بلسم مصطفى
- مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية / رابطة المرأة العراقية
- اضطهاد النساء مقاربة نقدية / رضا الظاهر
- تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل ... / رابطة المرأة العراقية
- وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن ... / أنس رحيمي
- الطريق الطويل نحو التحرّر: الأرشفة وصناعة التاريخ ومكانة الم ... / سلمى وجيران
- المخيال النسوي المعادي للاستعمار: نضالات الماضي ومآلات المست ... / ألينا ساجد
- اوضاع النساء والحراك النسوي العراقي من 2003-2019 / طيبة علي
- الانتفاضات العربية من رؤية جندرية[1] / إلهام مانع


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - نوال السعداوى - من مفكرتى السرية عام 1947