أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - الطاهر وطار - الـــلاّز - رواية - الى ذكري.. جميع.. الشهداء















المزيد.....



الـــلاّز - رواية - الى ذكري.. جميع.. الشهداء


الطاهر وطار

الحوار المتمدن-العدد: 875 - 2004 / 6 / 25 - 04:40
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


اللاز –رواية
الطاهر وطار-مؤلف
الإهداء

الى ذكري.. جميع.. الشهداء.
ط.و.
- إيه إيه الله يرحمك يا السبع.
- سيد الرجال.
- عشر رصاصات، ومات واقفاً.
- يوم حضر أجله. كان المرحوم يهجم ويعيط "زغردي أمي حليمة زغردي"
إنهم كعادتهم، كلما تجمعوا في الصف الطويل، أمـام مكتب المنح، لا يتحدثون إلا عن شهدائهم، والحق إنه ليست هناك، غير هذه الفرصة، لتذكرهم، والترحم على أرواحهم، والتغني بمفاخرهم.. فهم ككل ماضي يسيرون إلى الخلف، ونحن ككل حاضر، نسير إلى الأمام.. لعل هذا اليأس المطبق من التقاء الزمانين، ما يجعلنا لا نهتم إِلا بأنفسنا، أنانيين نرضى أن يتحول شهداؤنا الأعزاء إِلي مجرد بطاقات في جيوبنا، نستظهرها أمام مكتب المنح، مرة كل ثلاثة أشهر… ثم نطويها مع دريهمات في انتظار المنحة القادمة...
علق الشيخ الربيعي في نفسه، على ما التقطت أذناه، من تأوهات شيخين يقفان أمامه، وعجوز وأرمل، تقفان إلى جنبه، ثم سرح بصره الذابل في الصف الطويل أمامه...
إننا، كما عرفنا أنفسنا، مند خلقنا، "الشيشان" على رؤوسنا تكاد تقطر وسخاً، "البرانس" مهلهلة، رثة، متداعية، والأحذية مجرد قطع من الجلد أو المطاط، تشدها أسلاك صدئة، والأوجه زرقاء جافة.. ليس لنـا من الماضي إِلا المآسي.. وليس لنا من لحاضر إِلا الانتظار.. وليس لنا من المستقبل إِلا الموت.. نتآكل كالجراثيم، وليس غير...
- إيه إيه.. الله يرحمك يا السبع.. كنت وحدك عشرة رجال.
قطع صوت عجوز خواطره. ودفعه إلى أن يهمس:
- الله يرحمك يا قدور ولدي ويوسع عليك.
ملأ صوت هادر من الخارج، القاعة:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
فراح الشيخ الربيعي يتمتم:
- هذا اللاز.. اللاز المسكين. قدور ابني استشهد معه.. استشهد في طريقه به إلى الحدود.. ثم استند إلى الجدار، وأطلق العنان لمخيلته، تتحسس الجراح...
شيء عشناه.. وشيء سمعناه.. وشيء نتخيله...
* * *

القرية، كما خلفها الرومان، تتأمل الجبال، في كآبة ما تزال، و الظلال تتطاول كلما انحنت الشمس إجهاداً ووهنا، و المارة والتجار الواقفون أمام دكاكينهم، يتفقدون عقارب ساعاتهم بين الفينة والأخرى، والحركة تقل شيئاً فشيئاً، بعد أن ملأت عربات الجيش، الطريق الرئيسي، عائدة مغبرة دكناء، من ميادين العمليات، وسط تعاليق، تتسرب من هنا وهناك:
- خسارتهم كبيرة اليوم.
- كأنهم راجعون من جنازة.
- أخبارهم وصلت بعد.. هيلولة هيلولة.. ربي يتمم.
النهار يوشك أن يمر كغيره من الأيام.. خاصة وان موعد منع الجوَلان يقترب أكثر فأكثر، لولا ضجة حادة، بدأت تنحدر من أعلى الشارع، وتملأ القرية كلها.
اندفع الربيعي إلى باب المتجر، يستجلي، ثم التفت إلى ابنه قدور، في الداخل قائلاً:
-هذا اللاز، تقوده دورية.. إن شاء الله هذه الضربة الأخيرة. تريحنا وتريح جميع خلق الله.
كان الربيعي، مثل كل سكان القرية، يبغض اللاز، ويتمنى من صميم قلبه، أن تلحقه المصيبة القاضية.. يرتكب جريمة، لن يخرج بعدها من السجن، أو يقضى عليه، سواء من طرف العسكر، أو من طرف الثورة..
هذا اللقيط الذي لا تتذكر، حتى أمه، من هو أبوه، وكأنما التقطته من الرماد مثل الدجاجة.. برز إلى الحياة يحمل كل الشرور.. كان من صباه لا يفارق أبواب وباحات المدارس يضرب هذا، ويختطف محفظة ذاك، ويهدد الآخر، إن لم يسرق له النقود من متجر أبيه، أو الطعام من مطبخ أمه، حتى إِذا جاء يوم الأحد بادر إلى الملعب، شاهراً خنجره في وجوه الصغار حتى ينزلوا عند إرادته، ويكتروه منه، تارة ب"دورو" لكل لاعب، وتارة يشتط، فيطلب عشرة..
لم يكن يجدي معه، لا تدخل الآباء، ولا تدخل "الشامبيط"، بل الويل كل الويل لمن يتجرأ، ويبلغ عنه أباه، أو أخاه.. مكابر، معاند، وقح متعنت، لا ينهزم في معركة، وإن استمرت عدة أيام، يضربه المرء حتى يعتقد أنه قتله، لكن ما أن يبتعد عنه، حتى ينهض، ويسرع إلى الحجارة، أو يرتمي على خصمه، وإن فاته ذلك في نفس اللحظة أو اليوم، أعاد الكرة، مرة، ومرات.. ما جعل الجميع، كباراً وصغاراً، يهابونه، ويتحاشون الاصطدام معه، ويتنازلون له، عن حق أو عن باطل.. اللقيط، كلما كبر، واعتقد الناس أنه سيهدأ، أو على الأقل تخف وطأته، ازداد سعاره، ونمت فيه شرور، لم تكن لتتوقع، من السطو على المتاجر ليلاً، إلى الخمر، إلى الحشيش، إلى القمار.. حتى بلغ معدل دخوله السجن، ثلاثين مرة في الشهر، أما اللعينة أمه، فيبدو أن العقاب الذي كان ينتظرها، في الآخرة قد ضوعف، شرط أن تناله، في الحياة الدنيا، وعلى يد اللاز، ابنها.. كامل يومها، تقضيه في تتبعه، تتقصى أخباره، حتى إِذا ما بلغها، أنه في غمار معركة حامية، سارعت إلى الشامبيط، لتأتي به، وتقتحم الميدان، وتصدر له الأوامر المشددة، بإِلقاء القبض عليه، والزج به في السجن، حتى إِذا ما فعل، تندم، وتركض إلى زوجته، تقبل يدها، راجية أن تتوسط في إِطلاق سراح ابنها – ثم تأتي باب مخزن قديم، جعله الشامبيط سجنا، لا يستقبل عادة إِلا اللاز وتسترسل في النواح، بينما اللاز يزمجر من الداخل:
- اسمعي يا خنزيرة بنت الخنزير.. لو أخرج ولا أجد مائة دورو، أحطم رأسك..
- لماذا يا اللاز يا ابني، لماذا.. ألست أمك؟. تسعة أشهر وأنا أعاني...
- وهل اقترحت أنا ذاك، يا عاهرة..
إلى أن يتجمهر حولها أطفال وفضوليو القرية، ويرى الشامبيط أنه من الحكمة، البت في الأمر.. فيدلف إلى الداخل، والسوط في يده، ويشرع في جلد اللاز، الذي يروح يستغيث:
- حق ربي، وحق ربي يا عمي الشامبيط.. سامحني، سامحني، إِذا رجعت اقتلني. حق ربي، وحق ربي.
وبعد المائة جلدة، يقرر الشامبيط أنه تاب، ويرق قلبه ويلين، ويطلق سراحه، ليخرج مالئاً الشوارع بالنواح إلى أن يبلغ كوخ أمه.
وحين اندلعت الحرب، استبشر كثيرون ومنهم الربيعي بدنو أجله.. الجيش لا يعرف اللعب مثل الشامبيط، وإن نجا اللاز مرة، أو اثنتين، فمائة بالمائة، أنه لن يعمر كثيراً..إِلا أنه عرف كيف يتحايل على الحياة، ويسخر من جميع أعدائه، فقد بادر إلى مصادقة العسكر، وصار يتردد على الثكنة، إلى أن اقتحم مكتب الضابط نفسه، ولم يعد يغادره...
لقد توطدت بينهما علاقة متينة، راجت حولها أقاويل كثيرة، وتضاربت فيها آراء السكان...
البعض يراها قائمة على القوادة، فاللاز بواسطة الشقية أمه، يتصل ببعض العاهرات، ويمهد لهن، سبل الاتصال بالضابط، سواء في مقره، أو في ديارهن، بينما البعض يرى أن اللاز يعمل في مخابرات الضابط يحصي حركات الناس، ويتقصى أخبارالثورة .. والبعض الآخر لا يستبعد أن يقوم اللاز بالعمليتين معاً.. فأمه ازدهرت وضعيتها الاقتصادية، وصارت تشتري السكر بالكيلو، والقهوة بالعلبة، والزيت باللتر، بل إنها من حين لآخر، تشتري علبة حلوى الترك، أو شيئا من الجور أو التمر بينما كان الدخان لا ينبعث من كوخها إِلا من سنة لأخرى.. ولا يمكن بالمرة، أن يكون دخلها من غسل ثياب العسكر، كافياً لكل هذه المصاريف، خاصة وان اللاز يتشدد معها في الحساب، ولا يترك لها إِلا ما استطاعت المهارة الفائقة أن تخيفه عنه.
هذا الازدهار، لا مبرر له إِلا أن اللعينة، تتاجر بأعراض البئيسات الفقيرات، بواسطة ابنها.. ويقين أن الضابط لن يقتنع بهذه الخدمة المتواضعة من اللاز.. ولو لم تكن هناك خيانة، ما وطئت قدماه الثكنة، بله مكتب القيادة.
إِذا كان هناك مدافعون عن اللاز، فإِنهم قلائل، ودفاعهم وقور محتشم، لا يكاد يتعداهم إلى غيرهم، ووجهة نظرهم، أن الثورة، لو رأت من اللاز خيانة، لأعدمته مثل غيره، ضعيفة جداً، فالموت مسألة أجل.. واللاز لو حضر أجله لمد رجله.. ومن يدري أن الفدائيين، لا يحاولون باستمرار إعدامه.
تبقى حجة واحدة، قوية بعض الشيء، في فائدة اللاز، هي أنه لا أحد، يستطيع نسبة خيانة واحدة معينة له.. وجميع الذين يلقى عليهم القبض، ويمكثون تحت التعذيب في الثكنة، بعد خروجهم، يثنون على اللاز للخدمات التي يقدمها لهم.. إنه لم يشهد أبداً، ضد أحد.. ولم يتردد مرة، أن يشهد لفائدة من يستشهده، كما أنه لا يتوانى عن تقديم التبغ، والماء، لكل من يطلبه.. مع أن الخونة الحقيقيين، هم الذين يقومون بتعذيب إخوانهم.
علام إِذن تقوم علاقة اللاز بالضابط؟
- هذه حرب. وهذا آخر قرن.
علق الربيعي في نفسه، بينما تساءل قدور، وهو ينحني على صندوق شاي، يفتحه.
- ما هذا الضجيج يا أبي؟
- اللاز. اللاز. إن شاء الله يا ربي...
- لا يا أبي. لا.
قال قدور، ثم رمى المطرقة والكلاَّب، ووثب إلى الباب.
كان الموكب قد اقترب من المتجر: جنديان يجران اللاز من ذراعية، وثمانية يستحثونه السير، باللكمات، والضرب بمؤخرات البنادق، بينما الدماء تتطاير، من أنفه ووجنتيه، وجبهته وشفتيه، وهو يترنح تارة، ويقاوم أخرى، صابا ًسيلاً من الألفاظ الدعرة، شاتماً لاعناً، الرب وعباده..
المنظر عاد، بالنسبة لجميع المشاهدين، عدا قدور الذي ظل، لحظة يراقب كل حركات اللاز، ويقلب كال كلمة يتفوه بها، إلى أن بلغ الموكب باب متجره...
بذل اللاز، آخر جهده، حتى تمكن من التوقف، ثم نظر إليه وبصق في وجهه مزمجراً:
- راقكم المنظر، يا خنازير. حانت ساعتكم كلكم.
أضاف بصقة أخرى، واستسلم للدورية، وقد هدأ ضجيجه، كما لو أنه أنهى مهمته كلها، وبلغ رسالته لكل سكان القرية، في شخص قدور، الذي التفت إلى أبيه قائلا في ذعر:
- أنا ذاهب، مفاتيح الدكان في مكانها.
- ماذا؟ ماذا؟.. إلى أين أنت ذاهب؟..
- ستطلع فيما بعد…
* * *

اندفع قدور، يتقاذف في الشارع، نحو المنزل، وأمواج صاخبة من الخواطر تتصارع في ذهنه.
الوقت الرابعة، ما يزال هناك بعض متسع.. لكن ينبغي أن أخرج قبل أن يسارعوا لإلقاء القبض علي.. قد يكنون الآن في أثري.. ربما سبقوني إلى المنزل، أو ربما هم في الدكان يستفسرون أبي.
وتهتز أعصابه، وتتقلص عضلاته، وتضطرب خطاه، وتتقاذف قدماه...
هذه هي الحياة، حين ينتهي شيء، يبدأ شيء آخر، تنتهي السلم لتبدأ الحرب.. الليل والنهار، ينتهي أحد هما ليخلفه الآخر.. انتهى وجودي في القرية، ليخلفه وجود آخر، في مكان آخر.. ولربما ليخلفه العدم..
ويقشعر بدنه، ويبلع ريقه، ويدفع صدره إلى الأمام..واللاز..؟ يا للاز..
إنه في التعذيب الآن.. العصبيون يمكن أن يصبروا لأي شيء، إِلا للتعذيب.. لا لا.. العصبيون أكثر الناس صبراً على التعذيب ، لأنهم يستعذبون التحدي.
يا للاز.. كل حياته قضاها في التحدي. لن يعمر كثيراً، ساعة أو اثنتان، وهذا كل ما في الأمر، سيبصق في وجهه الضابط، أو يشتم فرنسا، أو يهتف بحياة الثورة و يجهزون عليه. وتنطوي صفحة من صفحات الجرأة والتحدي.. وينتهي اللاز.. وينتهي وجودي في القرية. ربما كل وجودي، ربما كل وجودي.
وتهتز أعصابه، ويقشعر بدنه.. ويشعر بالحاجة إلى جرعة ماء.
لعلهم ينتظرونني في المنزل، أو لعلهم في هذه اللحظات بالذات في أثري.. على بعد بعض أمتار لا غير.. أو لعل القرية مطوقة بحثاً عني. إنهم سيعلمون بآمري إِن لم يكونوا قد علموا بعد، وذلك ما قصده اللاز، حين بصق في وجهي محذرا:
حاذت ساعتكم كلكم.
يا للاز.. لقد اغتر المسكين، يقيناً أنه خدع.. انخدع.. هذا هو أساس كل القضايا من البدء.. الخدع، و الانخداع.
وتوقفت قدماه عند عتبة المنزل.. الباب مغلق كالعادة، وتوانى في طرقه، وفكر كيف يواجه أمه..؟ هل يصارحها بالحقيقة..؟ أم يخدعها ويقول لها إنه متغيب في مهمة يوما أو يومين..؟ يجب أن لا يعلم أحد بأمره، حتى ولو كانت أمه، فاللسان خداع، وقليل من يستطيع السيطرة على لسانه.
الفلاحون، وأبناء الريف، والقرى الصغيرة، كلهم حذرون، وأشباه ذئاب في نظرتهم للحياة.. خاصة هذه الحياة الملأ بتناقضات الانتقال من البداوة المحضة إلى شبه التحضر والمدنية، وهم لا يهضمون، أو يتقبلون جديداً، إلا بعد عجزهم عن مقاومته.. لا يطمئنون إِلا لأنفسهم وخططهم،
وكل ما عدا ذلك لا يخلو من الخداع أو الانخداع.. وقدور الذي لم يدخل القرية، إِلا مند ثلاث سنوات، متنقلاً مباشرة من المحراث، والقمح، والشعير، و الحقول، إلى الميزان و الشاي والقهوة والسكر والتوابل، فلسفته لم يطرأ عليها أي تغيير أو تبدل بل إنها تطورت في نفس الاتجاه وعلى نفس الأسس..
لذا راحت ترن في أذنيه جمل، بعضها سمعها في الريف، وبعضها تلقنها في القرية ”أعطها بالدين، وما تلوحهاش في الطين”. ”لو كان يحرث ما يبيعوه “ “ ما ترهنه، بعه”.
احتار فيما سيقوله لأمه، وكيف يواجهها. لم يتعود الكذب، ولا يمكن أبدًا أن يكذب على أمه..
أقول لها، متغيب في مهمة وكفى.
تمتم، وهو يفكر، أن يمد يده للباب طارقًا.. بيد أن حركة خلفه، جعلته يتراجع، ويدير رأسه.. زينة بنت ”الشايب السبتي“ جارهم وصديقهم، فتحت الباب، ورمته بحجيرة.
تأملها في نهم وأسى، ثم أفسح المجال لبسمة تنبت على شفتيه وهمس:
ـ وحدك.
ـ هيا. أمي راقدة، وسيدي في الجامع.
وتقاذف . أسندها إلى الباب، وملأ بها صدره، واعتصر من شفتيها، عذوبة أيام مرت، ولن تعود.. ربما لن تعود، ربما تعود ذات يوم.. بعد سنة، بعد سنوات.. من يدري.
وتنهد.
خطر له أن يهمس في أذنها ببعض كلمات تشبه الوداع، لكن تصميمه على أن لا يخبر أحدًا ، جعل وداعة يتحول إلى قبل مستعجلة، محمومة، طائشة.. ورنت في أذنيه:
“ ما ترهته بعه “.. ولا داعي لرهن أي سر، عند أي كان، مادام ذلك غير متحتم..
ـ زينه. أنا ذاهب في مهمة عاجلة. فرصة أخرى.
ـ حالتك غير طبيعية يا قدور.
ـ ستطلعين فيما بعد.
أبعدها عن الباب، وقفز.
لقد تأخرت، تأخرت أكثر مما ينبغي، كأنني أتعمد هذا التأخر، رهبة من المستقبل المجهول، الذي يفغر فاه أمامي كالموت.. لعله يشق علي أن.. ولم يتممها، لم يشأ أن يتصور، أنه قد يشق عليه، أن يفارق قريته التي أحبها بكل جوارحه، من يوم دخلها كما يقول للناس، ومن يوم اكتشف فيها زينة، كما يعتقد في قرارة نفسه..
هذه الفتاة، الرابعة، الممتلئة، البيضاء، العذبة، التي استولت على كل مشاعره.. وعانى الكثير قبل استمالة قلبها.. طوال أشهر و أشهر، وهو يتوسل إليها.. تارة يرسل إِليها، مع البنت أختها، وتارة يجرؤ ويوصي أمه وهي ذاهبة إلى الحمام بعد أن يطوف حولها وقتا طويلاً:
-سلمي على زينة يا أمي.
وحين تعود، يبادر سائلاً عما إِذا أعانتها زينة على غسل رأسها، فتبتسم، وتملؤه بنظرة حبيبة ودود..
لقد كبرت يا قدور يا ابني، وصرت رجلاً، تسأل عن زينة، وأية زينة يا ابني.. كانت أمي، الله يرحمها، تقول لي، إن الأمهات لا يلحظن صيرورة أبنائهن رجالاً، ولا تتحول عواطفهن عنهم، كأطفال تجب رعايتهم، إِلا إِذا أنجبوا حفيداً، يصرفهن عن أبيه.. والدار في الحق، يا قدور، يا ابني، بدون صغير موحشة كالقبر.. وزواجك بات ضرورياً، وأكيداً، وإن شاء الله يصدق حلمي في زينة، بعد الاختيارات الدقيقة التي أجريها عليها، فأتقدم لخطبتها...
وتظل تحدق فيه، لحظات طويلة، وهو ينتظر، أن تنتهي من ذوبانها، لتقول له كلمات عن زينة، حتى تعيد البسمة الحبيبة، الودود، وتهمس:
ـ كل شيء بالمكتوب يا قدور يا ابني.
وذات مرة، عادت جذلى، تهتز طرباً كأنما اغتسلت في الكوثر، وقبل أن يطرح عليها أي سؤال بادرته:
ـ ملأت عينها يا ابني ملأت.
ـ ماذا تقولين يا أمي؟
زينة تسلم عليك كثيراً. وغداً آتية، لإعانتي على فتل الكسكسى.. اسمع يا قدور يا ابني.. أنا مازلت أتثبت وأتأكد.. والله ثم والله، ورأس سيدي البخاري، حتى نفسها لا بد أن أعرف رائحته.. الناس تقول، زواج ليلة..
وقاطعها:
- و ماذا قالت لك أيضاً يا أمي.
- تسلم عليك وهذا كل شيء.. ماذا تريد أن تقول لك أيضاً. ؟
واحمرت وجنتاه، وتبلل جبينه، وأطرق.. لم أكن بالمرة أتصور، أنني سأطرق مع أمي، مثل هذا الموضوع..
هكذا...
هيهْ هكذا.. بمثل هذه الجرأة والإلحاح.. لكن المسألة، مسألة زينة، وليس أقوى من أمي في إعانتي على زينة...
إنني أحب زينة..
واستدارت أمه، بعد أن وضعت بعض الثياب على الحبل، وحدقت فيه.. أبناؤنا كالجمال، حين تعمر قلوبهم تهيج وتعمى، وتنطلق إلى أبعد الحدود، ثم همست:
- وما زال رأي أبيك أيضاً يا ابني، لا تنس هذا ... يا رضا الله وطاعة الوالدين.
كان مطأطئاً، يحاول إقناع نفسه، بأنه ليس من الحماقة، أن يتحدث مع أمه عن زينة, خاصة وأنها هي التي ألحت على ذكرها أمامه أكثر من مرة.. فجاءت كلمات أمه منقذة له.. إنها تتناول، الموضوع، من جانبه الجدي..
وشعر بضرورة التظاهر بالاحتجاج:
ـ ماذا.. من يذكر زينة نقيم له العرس.
ما أشق أن تنظر إلى البداية والنهاية معاً، في نفس الوقت ومن موقع واحد.. خاصة حين تكون إحداهما، تمثل كل شيء، بالنسبة لنا.. ومع ذلك فزينة، تطغى على كل شيء، على البداية، وعلى النهاية، ولا تبقى إِلا هي، زينة، بلا بداية أو نهاية، زينة، زينة.
وخرج قدور، يزرع الفرحة بعينيه، ويحس بأن قلبه، أكبر من كل شيء، حتى من الشمس..
* * *

لم تكن الثورة آنئذ، مندلعة، ولا حتى تخطر ببــال أمثال قدور، كان الجو، أشبه ما يكون بالمرآة، قبل أن تسقط وتتهشم، تبدو صافية لامعة، ولو كانت بها عشرات الخدوش، والوجود الاستعماري، لا يستشعره أحد إِلا كما يستشعر مريض، داء مزمناً، لولا أزماته من حين لآخر، لتوهم بل لاعتقد، سلامته، فثمانية ماي، لم يبق إلا يوماً يعلن فيه الحداد، بالصيام، والملاحف السود، لا يرى فيها أحد، وبالمناسبة أيضاً، إِلا أن النساء حزينات، حزناً لا يعرف له سبب، والشانبيط، لا يمثل، إِلا كيساً منتفخاً بالحرام، في جيبه مفاتيح مخزن ضيق يسميه السجن، وفي يده سوط، لا يليق إِلا للاز.
وجه المرآة في الواقع، لا تنقصه الصفاوة، وبالرغم من الخدوش.. الحرب في تونس وفي المغرب، وفي الهند الصينية..! إن ذلك سياسة، وقدور لا يهتم بالسياسة، وحتى خطب الإمام يوم الجمعة، لا يفقه منها إِلا الحث على التبرع بالمال، والحبوب، رغم أن المدرسة والمسجد، تم بناؤهما مند سنة أو يزيد..
كان الناس على الأقل، أحراراً في أن يسهروا إلى أي وقت شاءوا، وأن يسافروا في الليل أو النهار، بلا أية رقابة، أو مضايقة.. وقدور، كان يحب السهر كثيراً، السهر لا في المقاهي، يلعب الورق أو الحجر، ولا في الجامع، حتى في رمضان، إنما تحت جدران منزله، وبالقرب من باب دار زينة.. حيث يفرش كيساً، ويجلس هو وصديقه حمو الحمامجي، ساعات، وساعات، يتجاذبان أطراف حديث طويل، يبدؤه عادة حمو، بالتشكي من وضعه العائلي، ومن عمله المرهق، في كهف ضيق، وسط الزبل والأدخنة، يصارع الفرن ليسخن ماء الحمام:
- يا ابن عمي هذه والله ما هي خبزة. أربعون دورو في اليوم، وأربعة عشر فماً مفتوحة. الدقيق بعشرين دورو الكيلو.. والزيت بأربعين، والصابون بخمسة عشر القالب، وزد، وزد.. “معيشة” كلاب والله.
والحق، أن حمو يبالغ بعض الشيء حين يقول أربعة عشر فماً مفتوحة، فهي ليست سوى عشرة أفواه.. أخوه زيدان، وزوجته، وسبعة أطفال، وأمه.. أما هو، فغالباً، ما يتغدى أو يتعشى، إِما مع قدور، وإِما بطريقة سرية، خاصة به.. فالمعلم، تربض في منزله، ثلاث مصائب، كما يقول، أرملتان وبكر، يتزاحمن عليه، وتغدق عليه، كل واحدة من جانبها، العطف، والكرم، مقابل شبابه وفتوته، وبعده عن لفت الأنظار والانتباه..
كان يقوم بزيارات ليلية إلى منزلهن، ويسهر معهن بالتناوب، وكن أيضاً، يقمن بزيارات نهارية إلى كهفه، فيتمنع، ويعتذر، ويستجدي، إِلا أنه في الأخير، يضطر لإغلاق الباب الحديدي الصغير، ويخفت نار الفرن.. ويعتصر، متمرغاً في آلام الحياة وأتعابها...
ـ وأخوك زيدان، هل وجد عملاً .
ـ يا ابن عمي، زيدان مريض، ضايع. أهلكته السياسة. كل يوم في مكان. عجزت عن فهم مـا هي السياسة هذه، التي تهلك رجلاً مثل زيدان.
ثم ينتقلان، إلى الموضوع الرئيسي، الموضوع الذي لا ينتهي، مدى الليالي، ومدى الأجيال:
الأحبة والمحبة...
يروي حمو مغامراته الأخيرة، مع المصـائب الثلاث: “دايخة“، و “ مباركة “، و"خوخة".
البارحة، الموعد كان مع “خوخة“, المصيبة الصغرى الجميلة، التي أحبها وأموت في حبها، و أتمنى لو ينوب النواب وأتزوجها.
كان المفروض أن تنتظرني في السقيفة، في الموعد، لنلج بعد ذلك بيت المئونة، لكن لسبب ما، تأخرت كثيراً، ربما أختاها لم تناما بعد، ولربما غلبها النعاس..
لا علينا..
لسبب مـا، أنا أيضاً، لم أنصرف، لأستريح قليلاً ، رغم الإجهاد الذي كنت أعانيه.. اقتحمت غرفتهن.. حبوت حتى بلغت مضجعهن، واستلقيت كما صادف.. كن الثلاث، متداخلات في فرش واحد، كأنهن نساء ورق اللعب، "السوطة" أو "القراط "، وكن اللعينات، مستيقظات، لكن يتظاهرن بالنوم، الصغرى في الوسط ولا شك.. وبسهولة أستطيع تمييزها، فهي كما تعرف، أنحفهن، وتلمست بيدي صدر الوسطى، خوخة في الوسط.. وموعدي مـع خوخة التي لم تخرج إلى بيت المئونة.. ولكن، من التي بيني وبينها..؟ دايخة أكرمهن، وأكثرهن تودداً إِليّ. أم مباركة، الجريئة العصبية..؟
في القيلولة، صفيت، حساب دايخة في الكهف.. وموعدي الليلة، مع خوخة.. وأنا لا أحب أبداً أن أتخلى عن مواعيدي معها.. عندما أحتضنها في الظلمة، كثيراً ما أبكي، وكأنما أبكي على حياتي الهاربة مني...
فكرت قليلاً، وأوشكت أن أتخذ قراراً.. إنني تعب، منهك القوى، فلماذا لا أنسحب، وأكتفي غداً بالاحتجاج، معقول جداً، والليل يكاد ينتصف.. والعمل المر، يبدأ في الثالثة، قبل الآذان الأول.. الأفضل أن أنسحب.. ورحت أردد.. لأفعل, لأنسحب، فلا أحسن من الراحة.. نعم لأفعل ذلك، لأفعل.. وبين التردد والتصميم.. لست أدري، كيف داهمني النوم.. وكيف أيقظنني.. اللعينات.. وكيف وجدت نفسي في الكهف أتشمم روائح الزبل وأصارع النار في الفرن.
وبعد أن سكت حمو، قليلاً، علق:
- خبزة مرة، والعياذ بالله.
ثم أطرق يفكر في رعب، في قضية لم يشأ أن يصارح بها قدور...
خوخة أنجبت منـه ولداً جميلاً، خنقت أنفاسه، وأرسلته له مع دايخة، قبله بحرارة، ثم قذف به إلى النار.
انسكبت من عينيه دمعتان لم يلحظهما قدور في الظلمة، وغمغم:
- خبزة مرة والعياذ بالله..
- إيه، واحد محروم، وآخر كافر بنعمة الله.. أنت تتألم لعشق ثلاث، وأنا.. هذه الدنيا.
- وأنت أين وصلت مسألتك؟..
ومباشرة ينتقلان، إلى موضوع زينة.. في الليالي السابقة، كان قدور، يكتفي بزفرة، وبعض كلمات:
- ناشفة يا ابن عمي، حق ربي ناشفة.
- أنت أيضاً تحلم بحب الملوك ...
وتروق الصورة لقدور.. حب الملوك.. يا له من تشبيه رائع. حمراء.. بيضاء.. ممتلئة.. ثمينة لذيذة.. زينة...
وينطلق في الحديث عنها، عن شعرها الفاحم، عن عينيها الكبيرتين الدعجاوين.. عن شفتيها الصغيرتين الممتلئتين، عن أسنانها اللؤلئية.. عن بسمتها الملائكية.. عن عنقها البلوري.. عن حركتها، عن صدها وكبريائها، عن كل شيء في زينة.. وعن كل ما يفعله من أجل استمالة قلبها.
- حق ربي، ما تركت باباً.. خسرت أكثر من عشرين ألفا، حرز سي حمودة وما أدراك لم ينفع.. سحر سي القريشي، وما أدراك كذلك.. وحرز سي عثمان وما أدراك، كذلك.
ويستغرق قدور في سرد أسماء كل الذين استعان بهم، وكل ما بذله، حتى اشترى أخيراً، كتاب الشيخ السيوطي، الرحمة في الطب والحكمة.
- فيه حكمة جربتها ونفعت.
- نفعت! ماذا تقول؟
- قابلتها أمي اليوم في الحمام. وأرسلت لي معها السلام...
- ولم تعلمني سوى الآن.
- أسكت. أسكت.
كان باب الشايب السبتي، قد انفرج قليلاً، محدثاً حركة خفيفة، ولم تكن الظلمة لتسمح بتمييز من هناك... فلبثا برهة، صامتين، وأعينهما معلقة بالباب... اتسعت الفرجة... بلغتهما همسات نسائية، ثم رنة أساور... برز شبح يرتدي الأبيض... اتجه نحوهما. قميرة أخت زينة، تحمل صينية, عليها إبريق شاي، وكأسان... وضعتهما أمام قدور، وهمست:
- قالت لك أختي الشاي يطير النعاس.
وبخفة، تراجعت، وتدلفت، لينغلق الباب، ويسود الصمت لحظات طويلة...
"كي تجي تحبيها شعرة. وكي تروح تقطع سلاسل"... علق حمو، ثم مد يده إلى الإبريق والكأسين، وبعد أن ارتشف رشفات مسموعة، تنم عن التذاذة، واستطابة، تساءل:
- أفهمت...؟
- اسكت. اسكت. قلبي يرقص كالمصر وع... قالت لك، الشاي يطير النعاس...
- لا تهتم... غمض عينيك واغطس... أخوك شوت المحن قلبه...
وبعد ساعتين، انفرج ثانية، فنهض قدور، حسب تعليمات صديقه، وتقدم بالصينية، وركبتاه ترتجفان، وقلبه يخفق ويخفق... أمسكت زينة يده بدل الصينية، جذبته في رفق، انقاد لها كالمخدر... انغلق الباب.
سارت به إلى مخدعها...
ما أروع أن نعيش أمانينا وأحلامنا، وحقائقنا في الظلمة... ما أروع أن نسبح في عالم بلا حدود، كالملائكة...
ظل قدور، يعلق في نفسه، وهو يتذاوب في أحضان زينة، يتشمم شعرها، يلثم وجهها وعنقها، ويداعب أناملها، ويهمس من حين لآخر في أذنها:
- زينة. زينة.
لتسارع بوضع يدها اللطيفة على شفتيه.
- اس. اس.
إلى أن توضأ أبوها، وخرج لصلاة الفجر، تخلصت من ذراعيه، وأحضرت قارورة عطر، صبتها على رأسه، وقادته إلى الباب...
- بعد ما يرقد سيدي...
توادعا، ودلف قدور، وهو يثني على الشيخ السيوطي، وعلى كتابه الذي لولاه، لما انفتحت أمامه، أبواب الجنة والنعيم، أبواب دار الشايب السبتي، التي تنغلق على زينة... بل أبواب قلب زينة، الذي ينطوي، على كل هذا الحنان، وهذا الحب...
- قدور.
- حمو...!
كان حمو، ما يزال في انتظاره... عادة جميع الناس... لا يعقل أبداً التخلي عن الصديق، قبل نجاحه في مهمته، أو سلامته من مغامرته، ومن أدرى حمو، بما ينتظر قدور من مفاجآت... لا أمان في دار الأمان، قالها الأولون...
أفهم حمو قدور، بقبلة حارة، وهو يحتضنه، ويفعم قلبه بالشعور بالأخوة. ثم غادره:
- تصبح على خير... إنها الرابعة... تأخرت عن إيقاد الفرن... تخلفت على موعد دايخة... لا يهم... تصبح على خير...
- ربي يعزك. حمو. أنت أخ بحق.
لم يكن يخطر ببال قدور، أن يجد أبويه مستيقظين، فأبوه لا يصلي الصبح في الجامع، ولا يذهب إِليه إِلا يوم الجمعة، وأمه لا تنهض عادة إِلا في الساعة الخامسة، لتحلب البقرة، وتفتح الباب للراعي، وحتى إِذا ما خرج أحدهما من غرفة نومه، فإنه لا يتفقده، وليس هناك أي داعٍ في الحقيقة لهذا... لم يضطر أبداً إلى التفكير فيهما... إنهما يغطان في النوم، وهذه كل القضية... لكن، ما أن دفع الباب ودخل، حتى فوجئ بأمه تجلس على عتبة غرفة نومها، ورأسها بين يديها.
حنق لهذه البادرة التي صدرت عن أمه... وساءه كثيراً أن يكون ما يزال تحت الرقابة... إنني رجل... رجل كامل، ولست بطفل، وأمي لا تفهم هذا، لا تريد أن تفهم. رغم أنها تحدثني عن زينة، عن زواجي بزينة، وتحمل لي سلاماتها... يا للوالدين، في بعض الأحيان، يضطران المرء أن يشعر برغبة زوالهما من طريقه، وتركه حراً مسئولا رجلاً، يتمتع بحقوقه كاملة، مثلهما...
تعلم مند أمد طويل، مند سنتين، أنني أسعى وراء زينة، وتعلم أنني قد أقتحم باب منزلها ذات ليلة، وأسهر عندها حتى الفجر. لكنها مع ذلك تظل تحصي تحركاتي. شيء محرج. إنها مضايقة... لو اطمأنت إلى مصيري، لإراحتني، وأراحت نفسها.
تشممت أمه. وتنفست من أعماقها، وتبسمت في الظلمة، وفكرت أن تتمتم:
- كنت خائفة عليك. وعارفة كل شيء... اسأل مجرب لا تسأل طبيب، غير أنها، ملأت أنفها برائحة العطر، وولت إلى غرفتها.
* * *




توقع قدور، بعد أن طرق الباب، أن يجد الضابط أمامه، مصوباً نحوه المسدس، وبسمة ساخرة تلوث شفتيه، بينما أمه مغلولة، والدماء تنزف منها... يقودني إلى الثكنة بعد أن يركلني ألف ركلة... وهناك... آه.
واهتز قلبه اهتزازات ذكرته بزلزال الأصنام، الذي آلمه وقدم من أجله تبرعات ضخمة.
- آه بيني وبين الموت... شعرة... خطوة.
انفتح الباب. فتحته أمه. رمقها فراعته سحابة سوداء، تجثم على محياها... تأملته بدورها. دققت النظر في وجهه.
فهمت. أدركت كل شيء. فهمت أنه في موقف متأزم للغاية. وقرأت في عينيه أمارة معاناة، لم تبدأ من اليوم، وتساءلت:
- انكشف أمركم؟
- أي أمر؟
اسأل المجرب لا تسأل الطبيب يا قدور يا ابني. أنا عارفة كل شيء، قلب الأم هو خبيرها.
- انكشف الأمر، ولم يبق إِلا أن أهرب.
- لا تبتعد حتى تعرف مصير اللاز.
- ومن قال لك عن اللاز؟
كان الأولاد يتحدثون عنه. وكنت أعلم أن اللاز أيضاً...
ارتسمت على وجهه كل ملامح الطفولة والحيرة. وكأنما هرب منها، سارع إلى حجرته، رفع بلاطة تحت فراشه، وأخرج كيساً صغيراً، لفه جيدا تحت قميصه. ثم ارتمى على أمه، قبلها، وانقذف إلى الخارج، قاصداً اصطبل احمزي. وما أن رآه حتى بادره:
- اسمع يا عمي احمزي. اللاز ألقوا القبض عليه. لا بد أن أهرب.
- ماذا ؟ ماذا ؟.
- هل هناك من لم يغادر القرية بعد؟
- بغلة، وحصان. إنني لا أفهم ما تقول؟ ما دخل اللاز...؟
- أريد أن أخرج حالاً. لم يبق إِلا ساعة ونصف.
- ها هو سي الفرحي قادم. سيوصلك حيثما شئت.
- اجمع الاشتراكات كالمعتاد... وسيأتيك من يأخذها عنك بعد أيام.
أطرق احمزي، في انتظار سي الفرحي، الذي كان يغالب الصعدة ويحاول الإسراع في خطاه. وراح يفكر... أنا احمزي... لا تخفى عني لا صغيرة ولا كبيرة من أحوال الناس... أنا احمزي شاب رأسي في الانشغال بأمور الناس... لا أعرف من أمر اللاز شيئاً... هذا اللقيط. اللعين... اللاز ولد مريانة... يغيب عني أمره. يقين أن الأمر لا يتعدى بعض كلمات تفوه بها قدور أمامه.
بينما تثبت قدور من سي الفرحي، وفكر... كيلو سكر... نصف رطل قهوة... ونصف ليترة زيت، ليترة غازِ... كيلو ملح... أربعة دورو توابل ورأس الحانوت... قضية سي الفرحي الأسبوعية... أحضرها ليلة السوق... ويضيف عنها أحياناً... خمسين غراماً من الشاي الأخضر الجيد، وأربعة كيلو شحمة...
سي الفرحي هذا يوصلني حيثما شئت... قالها احمزي بلهجة الواثق من نفسه.
ونظر إلى ساعته... الوقت يجري بسرعة كبيرة... ساعة وربع لا غير... ثم همس في أذن احمزي ببعض الكلمات.
بادر احمزي سي الفرحي، بإصدار أوامر صارمة:
- تأخذه معك. يبيت عندك، أوصله للجماعة. المحافظة على السر. هاه... فهمت.؟
ابتسم سي الفرحي وهو يصافح قدور، وتذكر أن احمزي قد أصدر إليه مثل هذا الأمر أكثر من خمسين مرة... فكل الشبان الذين جندهم قدور، مروا على هذا الطريق، وهذه البغلة التي سيمتطيها الآن تعودت أن تحمل على ظهرها، من حين لآخر، شخصاً ثانياً، وقد جاءت اليوم خصيصاً، لتنتظر أحدهم.
وفي الطريق، بعد أن ابتعدا عن القرية بعدة كيلومترات، وأمنا عدم وقوعهما في قبضة العسكر، خاصة و أن الظلام قد بدأ يتكاثف شيئاً فشيئاً، وفي إِمكانهما، حتى إِذا ما لحق بهما العسكر، أن يتخفيا، همس سي الفرحي:
- الإخوان ينتظرونك عندي.
- ماذا؟ ينتظرونني عندك؟
كان قدور يعتقد، أن القضية لا تتعلق إِلا به وحده، ولا يعلم بها سوى اللاز أو أمه، أو احمزي، ثم سي الفرحي أخيراً... إنها لا تتجاوز ما حدث، عياط في الطريق... بصقة من اللاز... مغادرة القرية، وهذا كل ما في الأمر... ورن في أذنه صوت أمه:
- إسأل المجرب لا تسأل الطبيب.
وأعاد سؤاله في لهجة استنكار:
- ماذا؟ ينتظرونني عندك؟.
أخبره سي الفرحي، بأن الحركي الذي فر من الثكنة، في الدفعة الأخيرة، كان جاسوسياً، أرسل للإطلاع على الشبكة التي يتم بواسطتها تهـريب الجزائـريين من صفوف العسكر، بعد أن لبث أسبوعاً، فر وعاد إلى القرية ليلة أمس.
الإخوان، كانوا يعرفون جيداً مصير اللاز... ويعرفون كذلك أنك مستهدف، لأن يلقى عليك القبض بين حين وآخر.
قال سي الفرحي، ثم فكر... إذا ما كذبت عنه كذبة كبيرة، ماذا سيكون رد فعله يا ترى... أوه... يجب أن يفهم أن لي مكانة كبيرة... وأنني أتحكم في مصيره... وراقت له فكرة الكذب... فقال، بعد أن أقنع نفسه بأنه لا يكذب وإنما يبالغ بعض الشيء لا غير:
- أنا ما جئت إِلا لتهريبك... أو قتلك...
يقتلني سي الفرحي بأمر من الإخوان... أنــا عمدتهم في القرية... يقتلونني كما لو أنني أحد الخونة القذرين... تنوح أمي، تندب، يقاطع الناس أبي ومتجره، ويموت جوعاً جزاء خيانتي... يا لها من قسوة... الموت في الثورة حل صالح لجميع المشاكل، يموت الخائن، ويموت المسبل، يموت الاثنان موتة واحدة، وعلى يد واحدة... يموت الأول لتستريح منه الثورة... لكن الثاني لماذا يموت؟ ألتستريح منه الثورة أيضاً؟ يا للقسوة...
إذن قد يكون كثير من الذين ماتوا على يد الثورة غير خونة... قد يكونون مناضلين، مناضلين مسئولين مثلي. وإذن أنا نفسي... ربما أصدر في يوم من الأيام أمراً بإعدام احمزي، أو أبي، أو أي مناضل آخر من الذين كانوا يعملون معي...
يا له من منطق.
ذاك فقط مـا كان رده، وبعد أن أعيى سي الفرحي الانتظار، أضاف بلهجة لا تقبل النقاش والتساؤل:
- خسارة واحدة ولا خسارة الآلاف... الثورة كل الناس.
إِلا أن قدور استجمع كل قواه وألقى سؤالاً، توهم أن الجواب عنه سيوقفه على الحقيقة كاملة، حقيقة أن تقتل الثورة مناضليها:
- إذا كان هذا. لماذا لم يرسلوا إِلي أمر قتل اللاز؟
لاحظ سي الفرحي أن قدور لا يزال لا يعيره الأهمية التي يستحقها... يقول: يرسلوا... ولا يقول: ترسلوا... أن يرسلوا إليه... هو... ولا أتكلف أنا.
وشعر بالخيبة... وتردد... هل يصارحه بالحقيقة، يقول له: إنهم أرسلوه فقط للانتظار ببغلته في اصطبل احمزي، وإنه كان ينتظر هروب اللاز... لا قدور... أم يواصل في المبالغة... بعض المبالغة لا غير... زيدان يقول لي دائماً إنك ديماغوجي متبجح... ولكن أنا لا أفكر إِلا في المصلحة العامة...
بعض المبالغة، وما يضير:
- لم نكن متأكدين من أن الآخر جاسوسي فعلاً.
لقد ضحوا باللاز إذن؟ وبنية أن يضحوا بي أنا أيضاً... وبكل الذين يعملون معهم أيضاً.
وتراءى له اللاز، وهو يترامى بين لكمات وضربات رجال الدورية... ورن في أذنه صوت اللاز وهو ينكر ذاته، مثيراً كل ذلك العياط، لينبهه إلى الخطر الذي ينتظره هو.
يا للتضحية التي تسود كل شيء في هـذا العمل الذي نقوم به.
وخيل إليه أن الثورة ليست سوى شيء واحد... هذا الشيء هو التضحية... التضحية بكل شيء، وفي عمقها الكبير...
ليست الثورة غير التضحية... التضحية هي الثورة... هذا ما يصنع كل الأحداث...
و تشابكت المفاهيم في ذهنه... ولم يعد يفرق بين الخواطر، وبين الحقائق... ونسي كل شيء ... نسي حاضره برمته، نسي سي الفرحي والبغلة... والطريق هل هو طويل أم قصير...؟ وهل يمكن أن يصلا، أم يلقى عليهما القبض في الطريق...؟ و احمزي هل نفذ ما أوصاه به أم لا...؟ وهل أنهم ينتظرونه حقا عند سي الفرحي؟
وعاد يعيش وقائع ثمانية أشهر مرت...

* * *


الإخوان اقتربوا، البارحة ذبحوا خمسة إخوة، وحطموا مدرسة وجسرا.
- نخشى فقط أن يعيدوا لنا " ثمانية ماي" آخر.
رد قدور على حمو الذي لم يعد يحدثه، كلما تقابلا، إِلا عن الحرب والإخوان، ونسي تماماً المصائب الثلاث: دايخة، ومباركة، وخوخة... والأفواه العشرة التي تقتات من أربعين دورو التي يكسبها من عمله المرهق الشاق... وانغمس منذ شهر في الحرب... يجمع أخبارها، يروجها بين المعارف والثقات... مبشراً بتغيير الوضع وتبديل حال بأخرى، لا يدري كنهها، ولو أنه بحدس بدائي جداً، وبغريزة غامضة كثيراً... يتصورها أفضل وكفى، خاصة وأنه لا يدري أي فارق بين الأغنياء وبين المعمرين إِلا في اللغة واللباس... وزاد حدسه هذا تأكيداً أن المذبوحين كلهم إما فرنسيون وإِما أغنياء... أعيان، وقياد، وخوج، وشنابيط...
- والله يا ابن عمي، ما يبقى في الوادي غير حجاره...
ويتساءل قدور، في سذاجة، عن حجار الوادي التي يعنيها حمو... فيجيبه:
- الصُّح. الصُّح... لا يبقى في البلاد غير الصُّح.
لكن، ما هو هذا الصُّح؟... أهو القوة. إن فرنسا قوية جداً، أقوي من أي شيء... أهو الدبابات؟... إنهم لا يملكونها... أهو المدافع؟... إنها ملك فرنسا... المال؟ مال الدنيا كله عند الفرنسيس.
حتى في "ثمانية ماي" قالوا إنه لن يبقى غير الصح... وفي الواقع لم يبق إِلا الفرنسيس...
إنه يتذكر جيداً كيف كانت الطائرات تقذف مئات القنابل تنفجر هنا وهناك وفي كل مكان، وكيف كان هو وكل أفراد دواره يتراكضون في الحصائد كالمجانين، والنيران تلتهب من تحتهم ومن فوقهم...
آه... ذلك الحمار المسكين، كان واقفاً يحاول فهم ما يجري حوله، مرت طائرة منخفضة فوقه... رشته بحبل من الرصاص... حبل أحمر كنت أراه... ظل المسكين واقفاً لحظات، ولما حاول أن يتقدم انشطر إلى اثنين...
ما هو الداعي لذلك... إخراج الفرنسيين... هاه... لقد وجدهم، أمامه، منذ وجد. صحيح أنه كان يشعر باختلافه عنهم، ولكن مع ذلك، كان يشعر بأنهم الأسياد... بكل ما يتميزون به... فهم, قوة... نظافة... جمال... جنتهم الدنيا، وجنتنا الآخرة... جدته أقنعته بذلك.
جاءنا فرنسي ذات يوم، اتفق أطفال "الدوار" كلهم على معرفة الحقيقة... ظللنا... نراقبه ونحاصره... كنا متأكدين أنه سيذهب إلى الاصطبل، أو إلى الشعبة... في المساء قصد الشعبة والورق في يده... وما إِن كاد يبتعد، حتى تسابقنا إلى مكانة.
ذاق أحدنا غائط الفرنسي وبصق... لم نصدقه، وذقناه كلنا...
الفرنسيون نخافهم، نحترمهم، نتفانى في تقديم الخدمات لهم، ولماذا نحاربهم أو نخاصمهم؟
- اسمع. أنا لم أبدأ في تتبع السياسة إِلا مند وقت قصير، لكن أخي زيدان أفهمني كل شيء.
ويبذل حمو كل ما يملك من جهد فكري، لإقناع قدور بما أقنعه به أخوه زيدان ويستعرض كل أفكاره.
الصح هو الحق... وهذه البلاد ليس فيها حق، لكن سيأتي يوم، ولا يبقى في الوادي إلا الحجارة، إِلا الصح،
إِلا الحق.
يخرج الفرنسيون، يفقر الأغنياء و ينعدمون، ينام جميع الناس علي الشبع. نقرأ كلنا. نتعلم العربية والرومية، بما فيها الإنجليزية والألمانية والروسية.
يصبح الحاكم من عندنا... الشامبيط والخوجة، والقائد، والشرطي منا...
نصير فاهمين، نظيفين، جميلين، محترمين كالفرنسيس.
لسنا وحدنا نطمح لكل هذا... هناك أيضاً المصريون، والتونسيون، والمغاربة، وحتى الكفار أيضاً... فيهم من يعاني مثل وضعنا، ففي الهند الصينية أناس مثلنا، ولو أن دينهم يختلف عن ديننا... كان يحكمهم الفرنسيون فثاروا عليهم وغلبوهم، وهربت فرنسا منهزمة...
ديان بيان فو، حتى الذين لم يخلقوا بعد، يسمعون عنها.
افهمني جيداً. كي يصير الإنسان سياسياً، ينبغي أن يفهم قبل كل شيء أن الفرنسيين بشر مثلنا، لهم بلادهم، مثلما لنا بلادنا.
أمام هذا المنطق يعجز قدور عن طرح أسئلته أخرى، ويستغرق في دوامة من التفكير.
السياسة مرض، وزيدان أعدى أخاه... ولو أن كل ما يقولانه صحيح، الفرنسيون ليسوا منا. هذا أعرفه من قبل. ولقد جاؤوا بلادنا ظلماً، وجاءوا من بلد آخر يسمى فرنسا... كان ممكناً أن نذهب إليه نحن قبل أن يفكروا هم في القدوم إلينا... وحكاية أسبانيا هذه التي يرويها حمو، صحيحة ولا شك... لقد كنا ذات زمن مثل الفرنسيس في أسبانيا... دار الزمن وأصبحنا مثل الأسبانيين يوم كنا عندهم...
كلام حمو هذا صحيح...
إِلا أن إِخراج الفرنسيس أمر مستبعد جداً، جداً... هم أقوياء، نحن ضعفاء... وحمو لم يحدث جميع الناس حتى يقنعهم.
ما يهزمني أكثر هو الهند الصينية... هذه البلاد كانت مثل بلادنا، وأهلها كانوا مثلنا، والفرنسيون كانوا عندهم بالصفة التي هم بها عندنا... مع ذلك خرجوا. مع ذلك انهزموا.
اقتنع الناس كلهم في الهند الصينية بمثل ما يقوله حمو، واستطاعوا أن يخرجوا الفرنسيس...
ترى كم من حمو كان في الهند الصينية حتى يقتنع جميع الناس؟...
ويعمق. يعمق. إلى أن تتراءى له صوَر وأخيلة تجعله يتوهم أنه مصاب بالجنون ويهمس في شبه ذهول:
- وماذا لو نبقى هكذا... كل واحدة في حاله...؟
كل واحد في حاله... هو في متجر أبيه، مع الميزان والتوابل والسكر والقهوة والزيت والشحم... وزينة. وأنا في فرن الحمام. من الثالثة، قبل الأذان الأول، وأنا أعرق وأتعب وأشقى حتى ساعة متأخرة من الليل لأواصل عملاً آخر... إِرضاء بنات المعلم، ليلة مع دايخة، وليلة مع مباركة، وليلة مع خوخة... وحين تنجب إحداهن ولداً جميلا تخنقه، وأقذف به في الفرن...
مقابل أربعين دورو، تقتات منها عشرة أفواه... كل واحد في حاله.
" ريمون" شيخ بلدية. وجان جون وموريس في ضيعاتهما وخماراتهما، والحاج الطاهر وكل الحجاج في قصورهم.
اللاز ومريانة أمه في الكوخ، والتحدي و المشاكل, والشانبيط يتسلطن، وينتفخ بالحرام.
وما في الجبل يبقى في الجبل... كل واحد في حاله.
- وراس ابن عمي، فات الحال، إما...وإما... الشامي شامي... والبغدادي بغدادي. الذبح من جهة... والرصاص من جهة.
ويخيل لقدور أنه غائص في الأعماق... أعماق الأعماق.
في بئر عميقة القرار... ينادي بالإنقاذ، ويمتد له حبلان، واحد أبيض يمثل يد ريمون أو جان جون أو الحاج الطاهر... وآخر أسود يمثل يد اللاز أو يد حمو أو يد زيدان... أو يده هو بالذات، فيحتار بأيهما يتعلق.
الذبح من جهة، والرصاص من جهة أخرى... إما وإما... ويقرر ببساطة أن يتعلق بالحبلين معاً... الأبيض والأسود... لكنه يظل كما كان، لا يتحرك، ينادي بالإنقاذ، وكلما جذب الحبلين انجذبا واستقرا تحت قدميه كوراً كوراً...
ويظل المشكل أبداً مطروحاً... بأي الحبلين يمسك؟ ويتساءل :
- وماذا لو نبقى هكذا، كل واحد في حاله...؟
ويأتيه الجواب صارماً متحدياً هادراً عنيفاً كالرعد:
- وراس ابن عمي، فات الحال. إما وإما... الشامي شامي. والبغدادي. بغدادي. الذبح من جهة والرصاص من جهة.
وينادي بالإنقاذ، ويمسك بالحبلين، ويتكوران عند قدميه، ويحتار بأيهما يحتفظ وأيهما يختار... الذبح من جهة والرصاص من جهة. ومع ذلك يجب أن يخرج من هذه البئر.
ويعاوده الاستيقاظ، فيجد نفسه تحت الجدار بجانب حمو المستغرق في فتل سيغارته...
وتتتالى الغفوات والاستيقاظات، وتتتالى الأيام سريعة... وتتتالى الحوادث، وتطغى أخبارها على كل شيء...
لم يعد الحديث يدور إِلا عن المعارك، والذبح، والحرق، وتخريب الأسلاك، والسكك الحديدية، والجسور.
اشتد حماس حمو، ولاحظ قدور أنه لم يعد يتصل به هو فقط، بل بجميع الشبان، وكل من يراه معه، لا تمر أيام قلائل حتى يختفي، والغريب حقاً في الأمر أن حمو لم يكن يعلق على هذه الاختفاءات إِلا ببعض كلمات:
- يا ابن عمي، الضيم يهيّج كل الناس.
ثم ينتقل بسرعة إلى موضوع آخر، غالباً ما يسوقه في قالب دعائي يرمي به إلى إقناع قدور بضرورة الانضمام إلى الثورة، إلى جعله يؤمن إيماناً راسخاً بأنه لا بد من الاختيار بين الثورة، وبين الفرنسيين والعملاء... وأن الحياد بحد ذاته يعتبر تحيزاً إلى العدو، وعدم تضامن مع إِخوانه. وتعاود قدور الصورة، فيرى قرار البئر العميقة، والحبلين: الأسود والأبيض، ويلحّ حمو على الخيار، ويلحّ على أن الحياد خيار أيضاً، حتى كانت ليلة انفجر فيها قدور كالطفل:
- تتكلم يا حمو عن الثورة كما لو كانت قريبة. هنا في الزقاق، وأنا أرفض الالتحاق بها.
ابتسم حمو ابتسامة طرب وانتصار، وردد:
- قريبة، قريبة جداً. متى بعدت؟ إن كنت تحب أن تعمل، فالأمر سهل.
- إذا كنت أحب. أحب. ليس هناك من يحب، كل الناس مجبرون.
- أي نعم مجبرون. وهذا ما أردت إقناعك به.
وساد بينهما صمت طويل، كانا أثناءه يفكران في الجبرية، حمو يرى أن الوضع الذي أصبح عليه الناس من فقر، وبؤس، وعري، وجهل، ومرض، وظلم، وجَور، يجبرهم على العمل من أجل التخلص منه. وهذا العمل ليس سوى الثورة، ليس سوى التمرد على الأسياد، على كل شيء على هؤلاء الأسياد الذين ـ كما يقول أخوه زيدان ـ لم يفهموا، ولا يريدون أن يفهموا إِلا أمراً واحداً، هو مصلحتهم... مصلحتهم التي تتعارض مع مصالح جميع الناس... بل تقتضي أن لا يكون لأي أحد عداهم، مصلحة ما...
هكذا خلقوا، كما يقول زيدان.
بينما قدور يرى أن الحرب تعم يوماً بعد يوم، وفرنسا يقوى تكالبها يوماً فيوماً، ولا أحد يستطيع أن يظل محايداً يواصل عمله في الدكان أو في غيره، دون أن ينجو من تهمة التعاون مع أحد الطرفين... لقد انتهت كل معالم الحياة العادية أو تكاد... بل لقد سقطت المرآة، وتطايرت شظايا...
رغم أنه لا فائدة من الالتحاق بالثورة، فإن الالتحاق بفرنسا فيه خسارة.
- إذن أنت متصل بها.
ما يزال قدور متردداً. فكّر حمو، ثم سأله:
- وأنت هل تنوي؟
يحثني ويسألني... هذا الصديق الحميم تغير، تغير تماماً، لقد سقطت المرآة فوق صخرة وتهشمت... نزع ثقته مني دفعة واحدة، لم يعد يكشف لي خبايا قلبه، كما كنا قبل أشهر بل قبل أسابيع قلائل... عجيبة حمو ينظر إلى، كما لو أنني أنا الذي تغيَّر لا هو... لقد فسد كل شيء في هذه الحياة, حتى الصداقة.
لم يبق في المرآة شيء، سقطتها كانت قوية.
حدث قدور نفسه ثم تساءل:
- يا حمو، من تغير منا؟
لا أنا ولا أنت. الظروف تغيرت. أنا فقير، فقير جداً، أقل من الفقير... وأنت متوسط الحال، بل غني. دكانكم يعمر شيئا فشيئاً، وأرضكم صرتم تفلحونها وحدكم. بعد مدة تشترون شاحنة، وبعد مدة أخرى تشترون جراراً، وتكبرون، تكبرون حتى لا يبقى في إمكانكم تمييز من تحتكم...
نحن لا شيء يربطنا بالماضي، وأنتم لا شيء يدفعكم إلى المستقبل، ولم يبق بيننا إِلا رابط واحد، هو الحاضر... هذا الحاضر الذي أتعاون وزيدان أخي، وكل الفقراء على صنعه، والذي تريدون أنتم أن تبقوا متفرجين عليه... بعضكم يتفرج والبعض الآخر يعمل على عرقلته وهدمه:
- يا ابن عمي، في حين أنا غاطس... أنت متردد.
- لابد، لابد أن أنضم إليكم... إنني معكم، واحد منكم. إذا خرجت فرنسا، أتزوج زينة وأشتري الحمام.
- وتزيد خمسة دورو في أجرتي.
أضاف حمو ساخراً، ثم استطرد:
- أنت من الآن، واحد من المجاهدين... سنتفق فيما بعد على كيفية العمل. لكن السر... يجب أن لا يعلم أحد بعملنا غير من نتفق عليه.
ومند الغد، بدأ العمل مع حمو... شراء الأدوية، والأحذية، والمواد الغذائية، وإرسالها إلى حيث لا يدري... وكم ذهل حين رأى حمو الفقير البئيس، يخرج الملايين من جيبه، بينما عائلته تتضور جوعاً، ولباسه ممزق رث كالعادة، بل و عمله الشاق لم يتغير، وشعر بعطف واحترام، لهذا الصديق العجيب... وفهم أكثر من قبل، أن الثورة، أن هذا العمل الذي يقوم به حمو، وزيدان، وكل الفقراء وحتى هو أخيراً، عمل جاد عظيم، لا بد أن يغير الأوضاع فعلاً، كما يقول حمو. أكثر من ذلك، شعر باحتقار المال الذي كان يظن أنه سر الحياة.
تواصل العمل، وتعرف على كل المنخرطين، على أغلب سكان القرية. وصار حمو لا يظهر إِلا قليلاً... كثير الأسفار، إلى حيث لا يدري أحد، بينما تنوب عنه زوج أخيه في العمل بالفرن، وهو في الباقي، حتى بقي وحده في القرية، مناضلاً مسئولا.
ودعه حمو ذات أمسية قائلاً :
- وجب أن أختفي من القرية، تخلفني أنت... إنك تعرف كل شيء عدا تهريب الجنود الجزائريين من الثكنة.
سيأتيك الأخ المناضل المكلف بهم، دورك أن تخبر احمزي بالموعد الذي يخرجون فيه. الباقي لا يهمك، كلمة السر بينك وبين المناضل المكلف هي: ما يبقى في الوادي غير حجاره يقولها ثلاث مرات.
وذات مساء فوجئ، في الدكان بما لم يكن يتوقعه أبدا.ً دخل اللاز، ثملاً قذراً، إحدى عينه زرقاء، من أثر معركة، يبدو أنه لم يخرج منها إِلا لحينه، وهو يردد، كما لو أنه يهذي، بأغنية بحار استيقظ من السكر:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
أنصت قدور جيداً، مشدوهاً مذهولاً... حتى ردد اللاز الجملة ثلاث مرات، ثم هتف:
- أنت المكلف. أنت الأخ المناضل. ماذا أسمع؟ اللاز ما بك؟
ردد اللاز هذيانه:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
ثم قال في لهجة جادة، كما لو أنه لم يذق قطرة خمر، بل كما لو أنه ليس هو اللاز ولم يكنه في لحظة من لحظات حياته، إِنما الأخ المناضل، المكلف بعملية تهريب الجنود الجزائريين من الثكنة:
- السلعة جاهزة، غداً على الساعة الخامسة، ثلاثة. اقرأ حساب حمولتهم الثقيلة...
وخرج يردد أغنيته ثملاً، قذراً، معربداً، في طريقه إلى الخمارة، ليواصل السكر مع الضابط صديقه الحميم، بينما لبث قدور يتساءل:
- ترى من يكون أبوه؟... لا شك أنه ابن جميع الأشقياء.
***

- وصلنا .
قطع سي الفرحي حبل الصمت الذي امتد كامل الطريق ، فانتفض قدور، ومد بصره في الظلمة، ثم تحسس بقدميه بطن البغلة، وتلمس بيديه كتفي سي الفرحي، وتذكر موقعه وهدفه، بعد أن هم أن يسأله:
- أين؟
توقفت البغلة، ووثب سي الفرحي إلى الأرض. انبطح، وأمره أن يفعل مثله. وبعد هنيهة، حاول أثناءها أن يفهم سر هذه العملية، راح يرهف سمعه، عله يلتقط حركة، لكن لا شيء... الظلمة جاثمة موحشة رهيبة. السكون ثقيل مرعب.
الأخبار الأولى التي بلغتنا عن الثورة هي أخبار الكلاب. بدأ ذبحها أولاً ثم تلاها ذبح الخونة... في السلم تحمينا، وفي الحرب تكون هي الضحية الأولى.
فكر قدور.
- اوو... أو...
انبعث صوت سي الفرحي، يمزق السكون، وكأنه عواء ذئب جائع، نغص الثلج حياته... وما إن رددت البهمة نفس العواء، حتى نهض، وتبعه قدور، وواصلا السير.
- تفضل. ادخل.
أمام كوخ، حيث انفرج باب صغير على ضوء قنديل يدخن في بطء حمار يصعد الجبل بكيس طحين. قال سي الفرحي ويده تربت على كتف قدور، الذي رغم شعوره ببعض الهيبة والرهبة، راح يسأل نفسه عمن يكون في انتظاره من الإخوان...
استعرض أسماء كثيرة ووجوهاً عديدة ممن جندهم بنفسه، أو التحقوا بالجبل قبل انخراطه، على يد حمو.
تذكر الكثيرين، وتشخصوا له، واحداً واحداً.
هذا ببسمته التي لا تفارق محياه، ومرحه الذي لا يؤثر فيه حتى الجوع، في البرد القارس، حين تتغطى القرية بثلج أبيض يعطل كل حركة، عدا حركة المقاهي، حيث يلتجئ كل الناس للعب الحجر والورق... "قجوح" مسكين.
وذاك بتنهداته المتواصلة، وعبوسه المستمر، وتساؤله المسترسل، لماذا خلقه الله في هذه البلاد، ولماذا هو أخ لستة وعشرين ذكراً لا عمل لهم إلا انتظار الغداء والعشاء، والليل والنهار... والدهم يرفض أن يتنازل لأي منهم عن المساهمة في العمل في مزرعته خشية أن يسرقوه... لا ينفك يتضرع إلى الله أن يخفف وطأتهم عليه، بأن يحمل إلى جنته أو ناره، كما يشاء، حتى نصفهم أو ثلاثة أرباعهم... ويفشي غيظه في زوجاته العديدات، دون أن يرحم حتى الصغرى التي لم تنجب له سوى أربعة إخوة في دفعتين لم تستغرقا سنتين كاملتين... كلما أراد أن يتزوج من جديد، طلق الكبرى بالثلاث، وتركها في زاوية مهملة، دون أن يسمح لها بالالتحاق بأبيها أو أحد أقاربها... أبو القاسم مسكين.
وذاك بحيويته المتدفقة، ولباسه العصري الأنيق، صندوق الحلوى أو الكعك أو غيره، حسب الفصول والمناسبات، في صدره، والسيغارة بين شفتيه، تثب يمنه ويسرة. وهو كالفراشة، يثب من مكان لآخر، من حي إلى حي، ومن زقاق إلى آخر، ومن مقهى إلى آخر، ومن جماعة لغيرها...
اليوم هنا، غداً في قرية أخرى، بتابع الأسواق والقطارات... حديثه لا يدور إلا عن المودات، خاصة النظارات التي تطورت حتى أصبحت تعوض ضعف الأبصار، بل حتى أصبح في إمكان المرء، أن ينظر بواسطتها إلى الخلف، دون أن يلتفت.
أما مغامراته في القطار، فالحديث عنها لا ينتهي، لأنها تتجدد يومياً، إنه لا يدفع ثمن التذكرة ككل البسطاء، لأنه يعرف جل المراقبين، يعرفهم جيداً، مراقباً فمراقباً، ويعرف مواعيد عمل كل واحد ورقم قطاره... ويعد لكل واحد ما يلزمه... علبة تبغ من النوع الجيد لهذا، وعلبة شوينقوم للآخر، وقارورة جعة في هذه المحطة أو تلك لثالث. إلى غير ذلك مما لا يكلفه سوى ربع ثمن التذكرة... والمهم قبل كل شيء، والذي يدعو فعلاً إلى الافتخار و التبجح، هو الصداقة والمودة. ومعظم المراقبين الصغار والكبار أصدقاء له... الناصر المسكين.
في أحلامنا، لا تعيد مخيلاتنا، في الغالب، إلا الأشخاص البعيدين عن حياتنا الواقعية، أما أولئك الذين يعيشون معنا يومياً، ويؤثرون في حياتنا، فإننا لا نراهم إلا نادراً، كما لو أننا سئمناهم.
خطر لقدور، وعجب كيف تذكر بسرعة فائقة أشخاصاً كانوا بعيدين عنه كل البعد، لم تكن تربطه بهم أية علاقة، كان يرقبهم من بعيد لا غير، وحتى إذا ما جمعته بأحدهم فرصة، فإنه يظل يتحاشى التحدث معه... كلهم من عالم آخر. لباسهم أوروبي، ورؤوسهم حاسرة، حديثهم في الغالب بالفرنسية.
- ادخل ما بك؟
أضاف سي الفرحي، ويده تضغط على كتف قدور، الذي انحنى بعد تردد، واقتحم الباب الصغير، وردد مشدوها ًويده تستقبل يداً صلبة جافة ضخمة:
- زيدان. سي زيدان، أنت؟
وحدق فيه جيداً... لم يتغير سوى لباسه... هو هو، بطوله الفارع، إنه ينحني حتى لا يلامس السقف... هو هو بوجهه الأسمر المائل إلى الزرقة، وذقنه الطويلة، وجبهته العريضة المخددة، وأنفه الطويل الحاد، وفمه المستطيل كأنه بدون شفتين، وعينيه السوداوين العميقتين، الجادتين، الرهيبتين، كأنها سجن أو سور روماني هزم بعناده الدهر.
- على سلامتك يا الغول.
قال زيدان، وسحبه إليه واحتضنه بحرارة، ثم قدمه إلى باقي الجماعة. وما إن جلسا، حتى بادر قدور:
- وحمو؟
- بخير قد تراه الليلة.
- هل هو مدني، أم... مثلكم؟
- لسنا في عرس حتى نغرق في الأحاديث عن الأحوال الخاصة...
رد زيدان، وابتسامة خفيفة تطل من شفتيه ثم تختفي بينما عيناه ظلتا تشعّان الجدية والرهبة والوقار.
خجل قدور، و أحنى رأسه، وأغمض عينيه وهمس:
- حمو أكثر من صديق. حمو أخ.
وبحركة مضطربة، أخرج الكيس من تحت قميصه. فتحه وأخرج ورقة بالية، عليها بعض رموز وأرقام، وحزمة مالية، ورفع بصره نحو زيدان.
ذهن التاجر لا يبتعد عن مصالحه وخواصه أو المحاسبة. أفق ضيق جداً، كأفق الفأر... لكن هذا نشأ ريفياً فلاحاً...أوف، ذهن الفلاح أيضاً مغلق... عندما تجود عليه الأرض بالصوب ، لا يفكر في إنفاقه إلا في الأعراس أو الخصومات.
فكر زيدان، ثم شعر بالإشفاق على قدور، فأضاف في نفسه، الثورة تحول الإنسان، وما دامت عميقة، فإن التحول يحدث بسرعة. يجب أن يتحول قدور، إلى مناضل ثوري، متطهر من العقد والرواسب... يجب أن يرتفع ويرتفع إلى أن يصل مستوى الثورة.
في تلك الأثناء، كان المسئول المالي يحاسب قدور ويفك معه الرموز والأرقام... عشر ملايين، حاضرة نقداً... مليون وصل ألبسه وأحذية... خمسمائة ألف صرفت لعوائل الشهداء والجنود المعوزة... مائة ألف أرسلت أدوية، حساب الشهر الأخير...
- الحساب صحيح.
قال المسئول المالي. فأضاف المسئول الإخباري وهو يقترب من قدور...
- والحالة السياسية؟
- المعنويات مرتفعة، خاصة بعد المعركة الأخيرة، وبعد اغتيال الخائن "السبتي", الإنذارات وصلت إلى كل الموظفين وقد استقال أغلبهم بصفة جماعية، لكن السلطات لحد الآن ترفض القبول، وتدفع لهم الأجر، فرار الجنود و"القومية " أحدث اضطراباً كبيراً في صفوف العدو. يقال إن فرقة كبيرة من اللفيف الأجنبي في طريقها إلى القرية. على العموم، الأمور كلها حسنة، باستثناء حادثة اليوم... واللاز مسكين،
- اللاز المسكين.
ردد أيضاً زيدان، ثم أسند كتفه إلى الجدار، ووضع يده على جبينه، كأنه يستغرق إغفاءة واستسلم لمخيلته.
***

السماء صحو، عدا بعض سحابات تلتوي يمنه ويسرة، متخذة أشكالاً مختلفة، مرة تبدو في شكل أسد، ومرة في شكل شيخ معمم يجلس القرفصاء، لحيته البيضاء تتدلى. ومرة في شكل ديك مذبوح... وأشعة الشمس الواهنة تغالب الجليد الذي بدأ ينفث سمومه مع الريح الفاترة... وهو متكئ على مقعد حجري بالمحطة، في انتظار قطار الرابعة. فكر كثيراً، في أشياء مختلفة، وتأمل طويلاً حركة السحابات المتواصلة، ثم فتل سيغارة بدقة وإمعان، ووضعها بين شفتيه. لم يكن يشعر بالظمإ إلى التبغ، ولكن اقتراب موعد القطار الذي سيقله ويغادر به القرية، ربما للمرة الأخيرة، دفعه إلى هذه الحركة...
تلمس جيوبه بحثاً عن الوقود، ولما لم يجده، امتص نفساً من السيغارة المنطفئة، وأغمض عينيه. وما إن فتحهما حتى فوجئ بيد تقدم إلى فمه عقب سيغارة مبتل.
التفت في تثاقل متعمد، وقلبه يخفق، فإذا باللاز يجلس خلفه فرحاً على غير عادته.
- أخيراً أمسكتك يا عم زيدان.
- أكنت تبحث عني؟
- منذ البارحة.
- خير.
- حتى تقول لي أولاً.
- ماذا؟
- هل تشتري لي معك تذكرة إلى المدينة ذهاباً وإيابا، أم تضطرني لسرقة القطار.
- لكنك تعلم أنني فقيرة عاطل.
- مع ذلك أعرف انك غير محتاج للدراهم في الوقت الراهن:
- كيف؟
- حين نكون في القطار، أحدثك عن أشياء كثيرة أتسافر إلى المدينة؟
- حسناً.
أخرج ورقة نقدية قدمها له، ليدفع ثمن التذكرة، ذهاباً وإياباً، إلى حيث يشاء.
في المرة السابقة، فاجأني مثل هذه المفاجأة، في هذا المكان بالذات، يعرف أين وكيف يجدني دائماً، كأنما يتشمم رائحة قنصه، لم يطلبني يوم ذاك في ثمن التذكرة، كان مستعجلاً للعودة إلى الثكنة، إلا أنه ما إن حل القطار، حتى سبقني قافزاً، وبادرني:
- عمي زيدان، أريد أن أسألك.
- خير.
- هل تعرف "الفلاقة "؟
- ولماذا هذا السؤال؟
- حتى أنت لا تثق بي؟
طأطأ رأسه في خجل. لأول مرة أراه خجلاً، وتركني مع حيرتي، لماذا يسأل؟ ماذا تحرك في ضميره؟ هل له ضمير؟ ولم لا؟ هل أصارحه بالحقيقة الكبرى، ليس حقيقة "الفلاقة” ولكن الحقيقة الأخرى، المرة، ربما, والعذبة ربما، حسبما يتلقاها. وقبل أن أقرر مع نفسي، رفع رأسه:
- إذا كنت تعرفهم اسألهم هل يريدون موت القبطان؟ وهل يقبلونني معهم إذا ما قتلته؟
- ماذا تقول يا اللاز.
- أريد أن أتخلص من اللاز ولد مريانة.
- هكذا إذن
- نعم.
قبل أن أسألهم، أقول لك إنهم ربما يفضلون منك خدمة أكثر من قتل القبطان.
- ما هي؟
- حتى أجدهم وأتمكن من إلقاء السؤال عليهم .
- أعرف. أعرف أنك واحد منهم.
وقبل أن أرد عليه، ربت على كتفي، ووثب نازلاً مؤكداً:
- المراقب قادم. إلى اللقاء، سأتصل بك قريباً ... يا عمي زيدان.
وها هو يتصل بي، لأول عودتي إلى القرية، رغم أنني لم أظهر بالمرة في شوارعها... ترى ماذا يريد مني؟
ما إن عاد اللاز، حتى كان القطار قد حل لينطلق بسرعة، مرسلاً زفرته الطويلة الكئيبة، التي يترجمها كل واحد من سكان القرية بهذه الجملة: " وداعاً. لقد ارتحلت. انتظر دورك أنت".
وثب اللاز وزيدان، وما إن ارتميا في مقعد خشبي من مقاعد الدرجة الثالثة، حتى بادر زيدان:
- وأمك، كيف حالها؟
- أتعطف علينا يا عم زيدان.
هل أصارحه بالحقيقة الكبرى؟ يقين أنه حان أوان مصارحته... ألا تكون أمه قد سبقتني. لا. لا أعتقد ذلك، فهو خالي الذهن على ما يبدو. آه. كيف أبادره؟ كيف أبرر صمت كل السنين الطوال؟ هل يفهم؟ هل يعذرني؟ قبل أن أودعه، الوداع الذي قد يكون الأخير، لا بد أن أعلمه. نعم لا بد من ذلك. لقد حان أن يسترد اعتباره. نعم حان. رغم أنه فعله قبل اليوم، يوم قرر قتل القبطان.
ودون أن يدري، وجد زيدان نفسه يتمم:
- نعم. نعم. كثيراً جداً يا ولدي العزيز.
- ولدك العزيز؟
- نعم نعم.
غمغم زيدان، في أسى، وأغمض عينيه، وراح يقص بصوت خافت:
هذه خمس وعشرون سنة. كنا في الدوار. كان عرشنا كبيراً. كنا نسكن أرضاً خصبة غنّاء. قتل في دوارنا "قايد"، لا أذكر بالضبط سبب موته، هل كان سياسياً، أم لا. خرج العسكر. خرب كل الدوار. تشردنا هنا وهناك. كان عمري ثماني عشرة سنة. وكانت أمك مريم، مسكينة ابنة عمي تكبرني بعدة سنوات. هربت و إياها إلى الغابة. لبثنا شهراً ثم ألقي القبض عليّ وجندت للخدمة العسكرية...
- أنت يا اللاز... أنت يا اللاز. أمك مريم ابنة عمي، وأنت يا اللاز...
- عمي زيدان، أنت أبي؟ أنت... أنت... عندي أب إذن!
كان يهذي، بينما انحنى زيدان بكتفيه الغليظتين، واحتضنه بشدة، وقد اغرورقت عيناه:
- هذه المرة الأولى التي أُقبلك يا ابني. إننا أشقياء كالكلاب.
- أنت. عم زيدان أنت. لي أب أيضاً... عم زيدان أنت.
ثم ارتمى عليه، وراح يقبله في كامل وجهه. وفجأة تخلص من ذراعيه وراح يقهقه، بينما الدموع تنهمر من عينيه... اللاز عنده أب، ها ها... اللاز، أنا... مريانة أمي كانت تسمى مريم... ها ها...
كان اللاز يهذي كالمجنون، بينما أبوه زيدان يبكي في صمت.
وشيئاً فشيئاً، جفت الدموع من عيني زيدان.، وهدأت قهقهات اللاز، وأخذ الصمت يسود بينهما، وأحنى كل منهما رأسه، كأنما يفكر.
أخيراً تساءل زيدان:
- لماذا تبحث عني؟
- أُريد أولاً أن أعرف لماذا يقال إِنك أحمر... مع أنك أسمر؟...
- من يقول إِنني أحمر؟
- الضابط. سمعته البارحة يتحدث عنك ويضعك في رأس القائمة. سيلقون عليك القبض خلال هذا الأسبوع. لهذا السبب كنت أبحث عنك. كنت دائماً أحبك يا عم زيدان، يا أبي... هأ هأ لأنك الوحيد الذي لم يؤذني، ولم يشتم أُمي، ولأنك الوحيد الذي يحتقر الأغنياء ويسبّهم... الوحيد بعدي طبعاً.
- أشكرك كثيراً يا اللاز. لقد كنت دائماً أعلق عليك آمالاً كبيرة، وكنت أثق في انك لن تخون أبداً، لأنك لا تطمع في شيء ولا تخشى ضياع شيء. أما ما تقوم به من التحدي بالضجيج والصخب، فإنني أقوم به بدوري في صمت ومخاتلة. يجب أن نغير الحياة يا اللاز يا ابني. عليك الآن أن تعمل في خط واضح ومن أجل هدف واضح... سأتركك بعد قليل، لألتحق بالجبل، سلّم على أمك، واتصل بعمك حمو لتعمل معه... اعرف كيف تتصل. كلمة السر ليثق بك هي هذه: ما يبقى الوادي غير حجاره... رددها أمامه ثلاث مرات...
- هيا قبلني فسأنزل بالمحطة القادمة.
- أفهمني أولاً كيف أنت أحمر؟
- قد نلقي مرة أخرى وتكون قد نضجت... إِذ ذاك ستفهم، سأُفهمك.
- والأشخاص الذين معك في القائمة، هل نتركهم يقبض عليهم؟
- قل لحمو أن يخبر الهامين، ويدع من لا يعرفون أي سر. يجب أن يفهم الناس أن فرنسا ليست خطراً على المقاومين في الجبال فقط، بل على جميع الناس. ويجب أن ندفع ثمن هذا يا اللاز، هل فهمت؟
- فهمت.
وقبله بعنف وحرارة. وتردد في قبول ورقة مالية ذات مبلغ متواضع، وأجهش يبكي. وأرسل القطار زفرته.
"وداعاً لقد ارتحت، انتظر دورك أنت ".
* * *

مسكين اللاز...
كرر زيدان، واستوى في جلسته، مبتعداً عن الجدار.
تأمل الجماعة برهة، ثم تلمّس جيوبه عدة مرات... لا أستطيع نسيانه... حرّموه في وقت غير مناسب. منذ خمس وعشرين سنة وأنا أدخن. ثم رفع صوته وقال بلهجة بطيئة، تبدو فاترة، ولكنها لا تخلو من صرامة:
- هل أنهيتم عملكم؟
- نعم.
- حسناً، هل تريدون أن يرحل قدور معنا، أم يبقى هنا حتى تأتيه الأوامر بعد أن يظهر ما سيسفر عنه استنطاق اللاز؟
- إن الخائن الذي كشف اللاز، لحسن الحظ، لم يعرف الكثير من أسرارنا. لقد جاءنا مباشرة، دون أن ينزل بدوار، أو يعرف أحداً، عدا المسبل الذي أوصله، وهو يعيش في الخفاء، ولا يمكن أن يهتدي إليه في مدة وجيزة، ربما نتمكن من إعدامه قبل ذلك.
- لذا أفضل أن ينتظر قدور، هنا، أياماً، حتى تتضح الأمور، فقد لا يعترف اللاز.
هكذا قال مسئول المالية، فرد عليه المسئول الإخباري بأنه يمكن أن يعترف اللاز، ومع ذلك يكتم الضابط الأمر بنيّة إلقاء القبض على مجموعة كبرى ممن يعملون مع اللاز... بقاء قدور في القرية أصبح خطراً، بل مغامرة تضر أكثر مما تنفع... يجب أن يتعين من يخلفه، ممن لا يلفتون الانتباه.
"من أجل ذلك إذن استخلفني حمو... لم أكن ألفت أي انتباه".
قال قدور في سره، ثم رفع صوته:
- نعم نعم، يجب أن لا أرجع إلى القرية، أريد أن ألتحق بالجبل معكم، أريد أن أكون جندياً... ببندقيتي, أقتل العسكر، وأقوم بعمليات، وأدافع عن نفسي، لقد انتهى كل أمل في القرية، ويجب أن لا أعود إليها.
كان مندفعاً، يتحدث على غير عادته، بسرعة و بانفعال، ومع ذلك صمت فجأة... وأغمض عينيه.
كل أمل، كل أمل. بالنسبة لمن؟
زينة، الربعة، الممتلئة، البيضاء، العذبة، حب الملوك... أم البيع والشراء، والتوسع في التجارة، وشراء عربة شحن كبيرة، وفتح مخزن للجملة، أم جمع الاشتراكات والتبرعات وتوزيع المناشير وشراء الأدوية والألبسة والأغذية وتهريب الجنود الجزائريين من الثكنة وتجنيد الشباب أم ماذا؟
فتح عينيه، ووجد زيدان يغمره ببسمة عريضة وبنظرة جادة وقور، وخيل إليه أنه سمعه يخاطبه هازئاً:
- أيها التاجر الحقير. أيها الفلاح الأعمى، يجب أن أحوّلك بسرعة
أضاف بلهجة استسلام:
- كما ترون، كما تريد يا سي زيدان.
ربت زيدان على كتفه، وهمَّ أن يطمئنه:
- تبقى معنا يا الغول. تبقى معنا.
لو لم ينفتح الباب، ويقتحمه شاب ملثم، تلفّ قامته القصيرة "قشابية" سوداء وعلى كتفه رشاش صغير.
- حمو.
ما أن قال زيدان، وقبل أن يزيح حمو اللثام عن وجهه، حتى قفز قدور وارتمى عليه يعانقه بشوق وحرارة:
- كنت أسال عنك.
- يسأل عليك الخير. كيف الحال؟
ثم تهالك وبادر كما لو أنه يقرأ برقية:
- العسكر يطوقون القرية، الأضواء الكشافة حوّلت الليل نهاراً، قبل ذلك بخمس دقائق شوهدت سيارة مدنية تغادر القرية في سرعة جنونية، المصدر: الحصان الأخير في اصطبل احمزي.
- ماذا تظن، أيكون اللاز قد اعترف؟ لكن السيارة المدينة لمن؟
- اللاز جِنّ، فكرت في ذلك أيضاً، لكن لا أعتقد أن يكون قد تمكن من الفرار بمثل هذه السرعة. ربما بعض مسبلينا تمكنوا في اللحظة الأخيرة من اغتيال بعطوش وفروا. المؤكد أن الحصار من أجل البحث عن شخص ما، ربما قدور، ربما غيره، ممن تلفّظ اللاز بأسمائهم ربحاً للوقت حتى يتمكن قدور من الفرار، ولربما اعترف.
رد حمو، فانبرى قدور:
- لقد حذرني اللاز المسكين قبل أن يستسلم للدورية ، أنا بدوري أوصيت احمزي بإشاعة خبر فراري.
- وتسكت حتى الآن عن مثل هذا الخبر؟ كيف تبيح لنفسك. آه.
انفجر زيدان، ثم تمالك وهو يضيف:
- مهما يكن الأمر، فالظروف تغّيرت، يجب أن نضع خطة جديدة ألى أن تنضج الأمور. المهم الآن أن نرحل من هذا المكان, فقد تأخرنا.
ونهض ليتبعه الجميع، ويرتموا في أحضان البهمة، تاركين سي الفرحي يعيد على نفسه التعليمات التي يجب أن ينفذها غداً.
* * *

استوى الضابط على المقعد، خلف مكتبه الحديدي، ثم أمر رئيس الدورية بفكّ السلسلة من ساعدي اللاز، وتقديم مقعد له، ومغادرة المكتب. وبعد أن أطرق لحظات متنهداً كما لو أنه يفكر في أمر مؤسف، ركز النظر في عيني اللاز لحظات، ثم قال بلهجة متوددة لينة:
- اللاز، مرت أشهر على صداقتنا التي يجب أن تستمر، وأعترف لك أنني لا أطيق الحياة في هذه القرية الصغيرة بدونك... إنني أُحبك لأشياء عديدة. أنت لا تسكر مهما شربت، وتحسن لعب الحجر والورق، وتتقن الشتم بالفرنسية والعربية معاً... وفوق هذا وذاك...
كلا. كلا، اللاز لن أستغني عنك... لا أستطيع.
احمرت وجنتاه عندما بلغ هذا الحد، وشعر بضحالته. صمت برهة. صب بانفعال الكحول في كأس أمامه، وتجرع، ثم واصل مستدركاً:
- إنني مريض كما أفهمتك قبلاً... لست مخنثاً... لقد أوجب الطبيب... إنه شيء ضروري لحياتي... إنه علاج لا غير... اللاز، ألفتك، وكل الشروط تتوفر فيك. لا أستطيع الاستغناء عنك، ويجب أن تساعدني وتساعد نفسك أيضاً.
كل الدلائل والوثائق، تؤكد أنك تهرب الجنود من سريتي إلى الأعداء... أعرف أنك واسطة لا غير، وأعتقد أنك تقوم بهذا العمل خشية أن يقتلك المتمردون بسبب صداقتنا... إنني أفهم وضعك وأعذرك... فقط، أطلعني على الشخص الذي تعمل لفائدته... أعدك أنني لن ألقي عليه القبض، حتى يتأكد الجميع من أنك لم تفش سراً... أريد... أريد إنقاذك... أريد إنقاذك بكل ثمن... اللاز، إنني احبك من أعماق قلبي... اللاز، اللاز، آه، ماْ بك؟
كان اللاز مطرقاً يفكر بأعصاب مضطربة، والدماء تسيل من أنفه، وجراح وجهه ما تزال ممتزجة بدموع باردة، ويداه لا تزالان على الوضع الذي كانتا عليه بالسلسلة... من أين عرف "المأبون" ما أقوم به... قد تكون خدعة، أكيد أنها كذلك. قدور... هل فر بعد؟ يقيناً أنه فهمني...
الخنزير. يتحدث عن الصداقة والحب, كما لو أنه عاهرة وقحة...
هو أيضاً لا يراني جاداً فيما أقوم به من عمل... كالآخرين، ككل الآخرين، عدا عمي زيدان. أبي زيدان، وعمي حمو... يعتقدون أنه لا دور جاداً يمكن أن أؤديه في الحياة... يرونني دودة زائدة، لا عمل لها إلا تنغيص حياتهم... هذا المخنث يوشك أن يبكي. شيء مخز.
أنا لم أهرّب أحداً ولا أعمل مع أحد.
نطق اللاز أخيراً، رافعاً رأسه في تحدّي متخاذل. التقت عيناه بعيني الضابط الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة متداعية تقزز لها اللاز، وود لو كان في يده مطرقة ليهوي بها على تلك الأسنان البيضاء التي تطل من فمه.
ظلت أعينهما ملتقية لحظات، في نظرة مضببة، وعندما خفض الضابط بصره، مد يده إلى زر بطرف المكتب، قائلاً:
- لم أصدق من وشى بك أول مرة، حتى هرب على يدك، وعاد... ستراه بعد قليل، ولن تجد ما تواجهه به... دخل الملازم المكلف بالحراسة، حيىّ مفرقعاً قدميه، ثم خرج ليعود بعد لحظات، بالحركي، الذي كان التحق بالجبل منذ أيام، بعطوش، ابن عم قدور...
تأمله اللاز جيداً، ثم نهض مقترباً منه، ويداه ما تزالان على وضع القيد. وقبل أن يتراجع إلى الخلف، فاجأه ببصقة ضخمة ملوثة بالدم، ثم هوى عليه برأسه، فطرحه أرضاً، والتفت إلى الضابط وزمجر في هستيريا دون أن يغير من وضع يديه:
- مجاهد، مجاهد. مسبل، مناضل. فلاق، خدعتك أيها المأبون القذر.
وقهقه مكشراً عن أسنانه السود... نهض بعطوش بسرعة وأخرج الملازم غدارته، وراح ينظر إلى الضابط منتظراً الأمر...
كان الضابط قد نهض من مقعده، وظل واقفاً خلف المكتب يقاوم الانفعال الذي اعتراه...
الكلب، رصاصة واحدة في تلك الجبهة العريضة تنزع منه التحدي إلى الأبد... لأية كرامة يثأر اللقيط... الدنيء يبالغ في إهانتي... ليفعل، فأنا الذي أتحت له الفرصة... إنه غير واعي للخطر الذي يحدق به... بل إنه يستهين بي.
وفكر أن يخرج غدارته، ويصوبها نحو جبهة اللاز ويفرغ فيها رصاصة... إنه لا يستحق أكثر من واحدة... إلا أنه تهالك على المقعد ووضع يده على جبهته وتململ عدة مرات، ثم تناول سيغارة أشعلها وألقى نظرة خاطفة على اللاز... ماتت القهقهة في فمه... إنه في وضع الانتظار... لقد أدرك شيئاً ما... الدموع تسيل من عينيه، ما يزال يكشر... إنه في وضع المفجع... الأبله، كنت أفضل ألا يعترف أمام أحد غيري حتى أتمكن من إنقاذه، لكن... المجنون، الغبي. يستدير بأكمله كالخنزير... سيدفع الثمن... سيدفعه باهظاً...
- مع من تعمل؟ انطق. انطق.
انفجر فجأة ويده تقذف بالمنفضة النحاسية لترتطم بالخزانة الحديدية وتحدث صوتاً بدّد السكون الذي خيم منذ لحظات... وانتظر أن يجيبه اللاز، أن يقول شيئاً على الأقل... أن يقهقه، أن يضرب بعطوش مرة أخرى إن لم يجد غير ذلك... إلا أنه لم يغّير وضعه... الدموع تنهمر من عينيه, والقهقهة ميتة في فمه، ويداه في وضعهما.
- خذوه.
لم ينتظر اللاز أن تخرجه الدورية عنوة، بل وبدون أي تفكير مسبق، اتجه إلى الباب ويداه ما تزالان على وضعهما، وراح يحث الخطى نحو قاعة التعذيب، الأمر الذي اضطر الملازم إلى أن يخاطبه ساخراً:
- لا عليك، لن يفوتك نصيبك، وإن أثقلت خطاك.
وعندما ولج القاعة، وباغتته الظلمة، فكر... منذ ألقي عليّ القبض وأنا أشعر بأنني هنا...
في هذه القاعة بداية ونهاية كل شيء.
ما إن أُنيرت الأضواء حتى جردوه من الثياب و أوثقوه بأسلاك نحاسية وقذفوا به فوق منضدة خشبية ثبتت على سطحها مسامير حادة وانهمكوا يجلدونه...
هذه العملية الأولى، إن لم أعترف أثناءها، تلتها مباشرة العملية الثانية... الغطس في الماء مع الكهرباء. وإن لم أعترف أثناءها، جاءت العملية الشاقة... اقتلاع الأظافر.
تلوى متألماً، وزأر من أعماقه:
- آي... آي.
و خُيل إليه أن ما يؤلمه أكثر هو اقتلاع الأظافر، تصوَّر هذه العملية البشعة وحاول أن يصمت ن وأغمض عينيه وأجهد نفسه ليفكر في أمر آخر... أي أمر.
عندما قتل القايد في دوارنا وهرب عمي زيدان... أبي زيدان مع أمي إلى الغابة، أين هربت جدتي؟ وعمي حمو مع مَن هرب يا ترى؟
وكاد يستغرق في التفكير، لولا تسارع الجلدات العنيفة بالسياط المبتلة... لماذا لا يغيرون مواقع سياطهم، وحاول أن يتململ، فشعر بالمسامير تنفذ إلى عظامه...
آه، هذه المسامير اللعينة، لولاها لتحملت... فجسدي لم يعد يحس بالضربات من كثرة ما تلقاها...
آي... آي.
لا. الصراخ لا يخفف الوطأة... يحرضهم أكثر... لأتحمل... لأفكر في أمور أبعد.
ترى من قتل القائد في دوارنا؟...
آه... أم أم...
لا شك أن قدور فر... لقد فهمني على ما يبدو... يجب أن أربح الوقت أثناء العملية الأولى حتى يبتعد عن القرية.
- آي... آي...
يستحيل أن أقاوم. لقد قاوم كثيرون قبلي...
آي...آي...
مع مَن تعمل؟ هل تتكلم أم نواصل؟
قال الملازم ففكر اللاز... لقد شجعه صراخي... لن أصرخ مرة أخرى، لأفكر في أمر آخر...
الذين تحملوا العذاب في هذه القاعة، لم تكن هناك أدلة ضدهم، كانوا يتحملون لأنهم يدافعون عن الكل... أما أنا فقد خسرت كل شيء...
آي... آي...
مع من تعمل؟ هل تتكلم أم نواصل؟
ليواصلوا ... لن أتكلم مهما كان الأمر... إذا لم أتحرك فلن تؤذيني المسامير... وإذا لم أصرخ فلن يسألوني... يجب أن تستقر في رأسي فكرة تشغلني.
الذين تحملوا العذاب في هذه القاعة كانوا يجهلون مراحل التعذيب... وكان التحمل يربحهم قطع أشواط... أما أنا.
آي... آي.
- مع مَن تعمل؟ هل تتكلم أم نواصل؟
سأنتهي، اعترفت أم لم أعترف. لأن هناك أدلة قاطعة ضدي... الخائن... الحركي اللعين... هذه المسامير... لم يصبوا الماء المالح بعد... لو لم أكن أعرف المراحل... هذه المسامير... لم أعد أطيق...
آي... آي.
- مع من تعمل؟ تكلم.
عندما أعدتُ على أمي ما أخبرني به عمي زيدان في القطار، طأطأت رأسها وتمتمت. "دعاوى الوالدين تنفذ في الضناية ”.
آه، إنهم يصبون الملح.
آي... آي.
- هل تعترف؟ تكلم.
- كفوا كفوا. سأعترف. سأعترف.
- تكلم. مع من تعمل؟
أسرع الملازم إلى منضدة وتناول قلماً وورقة، وراح ينتظر الاعتراف، وهو يفكر في أنه كان متأكداً من أن اللاز لن يصبر طويلاً، وأنه كلف نفسه مشقة جلدات كان في إمكانه أن يتفاداها... لو كنت مكانه لما ترددت في الاعتراف بعد الحجة الدامغة التي تواجهني... ليست له روح رياضية... لكنه أدرك في الأخير.
- هيا انطق.
- لا أتكلم إلا أمام الضابط.
وثب الملازم مسرعاً إلى الضابط، وبعد لحظة قصيرة عاد به ورجع إلى المنضدة واعتدل في وضع الكتابة.
- تكلم.
قال الضابط في نشوة الظافر المنتصر، وبسمة انتقام تتراقص خلف زجاج نظارته، وسيغارة أمريكية تترنح بين شفتيه الرقيقتين الحمراوين... تعرفت عليه في اليوم الثاني من حلولي بهذه القرية اللعينة... لعبت معه الورق وسقيته طيلة أربع ساعات، وسكرت قبله... أغلقت عليه الباب وأخرجت الغدارة و أمرته بنزع ثيابه... كان مشدوهاً لا يدري لماذا... عندما تعرى أجبرته على احتساء قارورة كاملة، وسبقته إلى الفراش عارياً... كان يهوي عليّ بالضرب كلما فرغ من مهمته، حتى تعود...
لم يكن في ذلك أية إهانة لو ظل اللاز لازاً فحسب... أما وأنه فلاق يستغل مرضي واستسلامي له كالعاهرة البئيسة ليؤدي دوره ويقدم الخدمات لإخوانه، فهذه هي الإهانة بعينها...
وعبس، وقطّب جبينه، وزمجر:
- تكلم. مع من تعمل؟
فتح اللاز عينيه، في بطء من يستفيق من إغماءة، وراح يتأمله من خلال الدموع في احتقار واشمئزاز، ثم تمتم:
- ليس في هذا الوضع، لن أتكلم على هذه الحال.
- أنزلوه.
أصدر الضابط الأمر دون أي تردد، وسار خطوات إلى الأمام ثم التفت إلى الخلف في حركة عسكرية صرفة، وتقدم يضع خطوات ثم أعاد العملية عدة مرات، وكأنه يستلهم أفكاراً وحلولاً...
هذا اللعين، ماذا سأفعل به؟ لقد احترق... جريمته تستحق الإعدام الفوري. إنه فلاق وسط الثكنة، وسط الثكنة بالذات... الجريمة. الإعدام رمياً بالرصاص، وكلب مات... جرذ ناقص من الحساب.
لكن من يخسر؟ أنا... أوف أية خسارة؟ غيره كثيرون. إنهم يقولون في لغتهم: النخالة تجلب الكلاب... أنتدبُ واحداً من الجنود لخدمتي وكفى...
اللعين يحس القيام بدوره، يشرب كثيراً، ولا تعتريه ذرة خجل...
أُعدم مسئوله، وأرمي به هو في السجن، في غرفة بجوار غرفتي طبعاً، فترة شهرين أو ثلاثة ثم أُعيده إلى الحياة الطبيعية. سأكثر له الخمور والمأكولات وأمنعه من مغادرة الثكنة. ويوم يتقرر رحيلي من هذه القرية البغيضة، أعدمه... وهذا كل ما في الأمر... فكرة رائعة جداً!
كيف لم يفكر اللعين في اغتيالي؟ لا شك أنه قدم هذا المشروع لمسؤوليه أكثر من مرة، وأنهم أجابوه بأن تهريب جندي بسلاحه أفضل من اغتيال ضابط أرعن مثلي...
لقد برهنوا عن حكمتهم وعمق تخطيطهم... على كل حال، إنهم يدركون جيداً ما يريدون...
يقين أن الأحمر اللعين هو الذي يخطط لهم... تدرب في صفوفنا وتثقف في مدارسنا وسبقتنا إليه موسكو...
- مع من تعمل؟
قال فجأة، وهو يستدير بخفة، ضارباً عقبي حذائه بعنف، فأجابه اللاز في برودة وتألم للجراح التي ضاعف الملح لسعها:
- ليس أمام هؤلاء.
قبل مشروعي إذن... لكن متأخراً، بعد أن حطم في مكتبي كل أمل في مساعدته... الخنزير رغم ذكائه الشديد فإنه لا يدرك الأشياء، إلا بعد الفوات...
تردد الضابط قليلاً، ثم التفت إلى الملازم ومن معه وأشار لهم برأسه أن يغادروا القاعة. وتقدم إلى المقعد، اعتدل فيه، وواجه اللاز، وظل ينتظر... بينما هو مطأطئ في شبه ذهول، كما تراءى للضابط.
لو أتمكن من معرفة أخبار قدور، هل غادر القرية أم ما يزال؟ قد ينتظر الغدَ اعتماداً على أنني لن أعترف بسرعة... ولربما لن أعترف بالمرة.
كان المفروض أن لا أعترف... الأوامر تمنع الاعتراف، والثورة تحكم بالخيانة على المعترف.
المفروض أن لا أعترف.
لكن هذا العذاب... لم تنته العملية الأولى بعد... وقد تنتهي دون أن أعترف... كما قد تنتهي العملية الثانية ولا أعترف أيضاً. لكن اقتلاع الأظافر... آي... لا أطيق ذلك أبدا. أنني ضعيف النفس، منذ ألقي عليّ القبض وأنا أعيش وسط هذه القاعة، وكل ألوان العذاب... كنت أعيشها بنيّة الاعتراف.
لقد أنذرت قدور، وهذا ما يطمئنني ليتني لم أنذره... لا، لقد قمت بواجبي... قمت به حتى آخر لحظة.
التعذيب هنا يختلف بين واحد وآخر، فمن يشكّون فيه مجرد الشك سرعان ما ييأسون منه، بمجرد انتهاء العمليات الثلاث... أما من يكونون على يقين من أمره، مثلي، أو مثل من يأسرونه في المعركة، فلن يملوّا تعذيبه، حتى يعترف أو يموت... وغالباً ما يعترف قبل أن يموت، إلا القلة النادرة.
يجب أن أعترف اعترافاً كاذباً حتى أمهل قدور الوقت الكافي... الليلة وجزءاً من صباح الغد... ثم...
أقضي ما يحتمه عليّ الواجب... والمسؤولية بعد ذلك تعود إليه. بمن أبدأ يا ترى؟
يجب أن أبدأ بالخونة, حتى أذيقهم مرّ العذاب.
اللاز... إننا وحدنا، كما رغبت... هيا تكلم... أنت تعيش في الثكنة، في مقر القيادة إن شئنا التدقيق. تتصل بالمجندين المسلمين وتسلم لهم رسائل من الخارجين عن القانون، أو تقنعهم بالفرار، بدون رسائل، وحين تتفق مع ثلاثة أو أربعة تحدد لهم المكان والوقت بعد أن تتصل بالشخص الذي يتولى نقلهم أو إرسالهم أو تهريبهم, سمه كما شئت. كل هذا عرفناه بوسائلنا الخاصة التي تعلمها. بقي أن تقول لي مَن هو الشخص أو الأشخاص أو رئيسهم الذي تتصل به أنت. هذا فقط ما أريد معرفته.
سأضمن سلامتك إن اعترفت.
- بمن أبدا؟
فكرة رائعة... رائعة جداً... الشامبيط. الخنزير.
لشد ما عذبني بسوطه... الخائن... أكبر خائن على الإطلاق... هو الذي يشي بكل الناس... أربع محاولات اغتيال ينجو منها.
سيساعدني ذلك على اتهامه... سأعلن للضابط أن محاولات اغتياله كانت تمثيلاً لا غير، المقصود منها التمويه عنك.
سأراه منبطحاً على هذه المنضدة كالثور، عارياً تخزه المسامير الحادة، وتلسع جلده اللدن السياطُ المبتلة، والجراح المملحة.
يا له من منظر!
وانفرجت شفتاه المتورمتان عن أسنانه الصدئة السوداء.
لماذا تبتسم يا اللاز؟
- تصورت أنك تأمر بإحضار كأس نبيذ.
- ولم لا. ستشرب قارورة كاملة بعد أن تعترف.
- أرجو أن تسقيني أولاً... اطمئن إلى أن النتيجة ستكون أحسن.
- يبدو أنك تعمل على ربح الوقت. حذار من هذه اللعبة.
- كلا، إنني أشعر بتردد كبير، وأريد أن أتقيأ كل شيء دفعة واحدة.
يا له من لقيط, يحسن التعبير، كأنه أديب من أدباء ما بعد الحرب الكبرى.
قال الضابط في نفسه، وهو يتذكر سارتر، والحي اللاتيني، وشبابه الصاخب عندما كان طالباً بكلية الآداب.
- قبل أن ألتحق بالجيش لم أكن أعيش في التابوت.
ورفع بصره نحو اللاز المنتصب أمامه في شبه انحناءة:
- حسناً، ستشرب كأس خمر.
ضغط على زر في الجدار. انفتح الباب عن الملازم يؤدي التحية.
- أحضر من مكتبي كأس خمر.
- أوامركم... واسمحوا لي أن أعلمكم بأن الشامبيط يطلب مقابلتكم.
- فلينتظر.
- يقول إن معه أخباراً هامة لا يمكن تأجيلها.
- أدخله إذن، وسارع بكأس الخمر.
- الشامبيط اللعين هنا بأخبار مستعجلة. ما وراءه؟ سيفسد خطتي ويحرمني من منظر رائع.
ترى ما هي هذه الأخبار التي لا يمكن تأجيلها؟
أياً ما كان الأمر، فبوسعي أن أتشبث باتهامه، حتى ينال القسط الوافر من التعذيب... ثم أوف، في إمكاني أن أتمادى في اتهامه عدة أيام على الأقل، حتى تقتلع أظافره ويشوه، بحيث لا يعود لممارسة عمله إلا بعد مدة طويلة جداً... وقد لا يطيق الآلام فيعترف كذباً أنه يعمل مع الثورة، ويتهم بدوره خبيثاً آخر، وتكون نهايته على الأقل.
دخل الملازم بكأس الخمر، ووراءه الشامبيط يلهث، وقبل أن يؤدي التحية أمره الضابط بإحالة الكأس إلى اللاز، والتفت إلى الشامبيط:
- ما وراءك؟
نظر الشامبيط إلى اللاز يتلذذ الخمر ويحدق فيه بشراهة... وهو عار لا يسترد عورته إلا تبانة متسخة، ثم أعاد النظر إلى الضابط كأنما يستفسر هل يجوز البوح بأسرار هامة أمام هذا اللقيط التعيس، فبادره بانفعال:
- أيجوز لك أن تعلمني ما يجب فعله؟ أنا أحضرتك إلى هنا. ما وراءك؟
همّ اللاز أن يثب ويمسك بخناقه صارخاً:
- هو، هو. هذا هو أعمل معه هو. لقد هددني يا حضرة الضابط. هو مهرب الجنود.
بيد أن الشامبيط لم يمهله، فقد أسرع يقدم تقريره التلغرافي:
- ما أن أُلقي القبض على اللاز، حتى بلغني خبر اختفاء التاجر قدور بن الربيعي البركاتي.
تنهد اللاز من أعماق قلبه، وكأنما انزاح عن كاهله عبء جد ثقيل.
واعتدل في وقفته، وقرر في نفسه: إن كل حركة من حركاتنا تؤدي دوراً إيجابياً... حين داهمتني الدورية في كوخنا، لم أكن أفكر إلا فيه, وها أنني أنقذه. كانت لعبة، مجرد لعبة... راقكم المنظر... جاء دوركم كلكم أيها الخنازير... وتم كل شيء على ما يرام.
وابتسم. ظل يبتسم، وحين التفت الضابط نحوه وجده يومئ برأسه... هو. نعم هو. قدور بن الربيعي البركاتي.
- هل غادر القرية؟
تساءل الضابط في يأس، فانبرى الشامبيط:
- كان ذلك همي، إلا أنني لم أتأكد، لقد مرّت ساعة على اعتقال اللاز, والخبر لم يبلغني إلا منذ قليل. طفت بعدّة متاجر وأحياء أتثبت، لكن...
- يجب أن تحاصر القرية، وتفتش بيتاً بيتاً . الملازم ستيفان، الملازم ستيفان.
وما أن دخل الملازم حتى بادره:
- استدع لمكتبي حالاً الضابط المساعد... أما هذا فاحرسوه دون أن تعذبوه. إذا ما طلب الخمر فاسقه.
- أفهمت؟
- أوامركم سيدي الضابط.
قدور المسكين، أشفقَ عليّ من العذاب، فكلف مَن يخبر الشامبيط بفراره... مسكين قدور، لم ينسني، هذا هو الواجب. هذه هي الروابط... نعم، ما أن فاجأتني الدورية حتى فكرت في طريقة إنقاذه.
ما إن خلت القاعة حتى تمتم اللاز متنهداً من أعماقه للمرة العاشرة، وقد نسي جراحه وآلامه، وشعر بنوع من التفتح لمواجهة ما يحيط به... كل شيء, كل ما ينتظرني، أو ما تبقى لي من الحياة، يبتدئ من هنا، من هذه اللحظة... يا لقدور المسكين، عرف كيف يغزل الخيط، ويفتل الحبل، وينقذني... لست وحدي... وهذا هو الأهم.
وانحنى يلتقط ثيابه، ويرتديها قطعة قطعة، حذراً من أن تحتك بجراحه. قابله المقعد الخشبي الذي كان يتربع عليه الضابط، فأسرع إليه وترامى متأوهاً من الآلام، وقال بلهجة آمرة للملازم الذي عاد بجندي لحراسته:
- لا تنس ما أوصاك به حضرة الضابط، الخمر، الخمر، حتى الصباح، أفهمت؟ لا تكفيني قارورة واحدة، أسرع أيها اللعين، فآلام جراح سوطك تشتد.
- لست أدري لماذا يبالغ حضرة الضابط في تدليلك، حتى في أسوأ الظروف؟
قال الملازم وهو يتأهب للخروج. فرد عليه اللاز ساخراً:
- لا تتدخل في الشؤون السياسية العليا، واسرعْ لتنفيذ أوامري. الخمر، ثم الخمر. المقطرات أعني. الويسكي، أو الكونياك، أو الروم. هل فهمت, وإلا شكوتك. أريد أيضاً شرائح أو أي شيء من الكوامخ، فإنني جائع.
- لكن كيف؟ إنه لم يوصني سوى بالشراب. أما الأكل فلا...
- وهل يشرب بدون أكل أيها المغفل؟ أضف إذن أنه لم يوصك بالكأس، وبهذا أشرب من القارورة مباشرة.
وبينما غادر الملازم القاعة وهو يبتسم لهذا المنطق، ألقى اللاز رأسه إلى الخلف واستغرق في التفكير.
المؤكد أن القبطان ما يزال يرغب في الاحتفاظ بي. لن يقتلني على الأقل... يجب أن أفكر في مثل هذا الموضوع، فأنا في آخر المطاف، في مفترق الطرق بل في المنطلق ... إما وإما... ليس بيني وبين أية انعراجة، سوى خطوة واحدة، وعليّ أن أكون حذراً.
لم أعد أملك أية مبادرة... وكما شاءت الظروف تتجه الدفة... هذا ما يجب أن أقتنع به. انتهيت الآن تماماً، وكل ما تبقى مني أو ما سيتبقى مني، فبفعل المصادفة لا غير... لقد بلغت النهاية، نهاية النهاية. عندما يكتمل القمر يبدأ في النقصان، وعندما ينتهي يستأنف وجوده من جديد. كانت أمي تكرر لي ذلك كل ليلة، وتسألني هل اكتملت، أو هل انتهيت...
لقد انتهيت، نعم، وإذا ما استأنفت حياة جديدة فيقيناً أنني سأكون لازاً جديداً... لا أعرف نفسي، ولا يعرفني أحد حتى القبطان المأبون.
آه. قدور المسكين، رَدَّ لي ورقتي واختفى.
هل يقتنع القبطان بقدور فقط، وهل يصدق أنني لا أعرف إلا إياه؟ أم يصمم على انتزاع أسماء أخرى مني؟
سيحاول معي مرة ومرات. خاصة وقد عرف نقطة ضعفي... لحسن الحظ، أنني لا أعرف غير قدور.
لكن الشامبيط الخبيث... لماذا أحجمت عن اتهامه؟ لقد جرت الأمور بأسرع مما أتوقع، وفي إمكاني أن أتهمه لدى أول استنطاق، وسأصر على أنه هو الواسطة بيني وبين قدور، وأنه هو الذي مكَّن له فرصة الفرار، ثم جاء يقدّم الخدمات ليبعد التهمة عن نفسه.
شيء رائع.
سيتعذب، سينال قسطاً وافراً يعادل ضخامة جسمه... يتذاوب شحمه على هذه المنضدة ويسيل مع المسامير، ممزوجاً بالدم الأسود.
شيء رائع جداً.
لكن هذا شرف يلحقه، يُكسبه عطف السكان والثورة، ولربما أكون قد مت قبل أن أكشف الحقيقة.
لا. لا.
سيربح أكثر مما يخسر، لن أمكّنه من هذا الشرف.
لن أتهمه.
هذه السياط، وهذه المسامير والآلات شريفة، لأنها لا تجلد ولا تؤلم وتلسع إلا المجاهدين، إلا الأحرار، ولن أدعها تلامس جسد خبيث خائن أبداً.
هاه لقد حُلت كل المشاكل، ولم يبق إلا انطلاق لاز جديد في حياة جديدة قد تكون وقد تكون, حتى ترجع الأمور إلى نصابها.
قرر اللاز، واعتدل في جلسته، مرتاح الضمير، وقد بدأت الخمرة تلعب برأسه على غير عادتها... إلا أنه ما أن فتح عينيه وحدق في الأنوار التي تغمر القاعة، حتى قفز كأنما صدم بتيار كهربائي قوي...
البضاعة الجديدة... كيف يكون مصيرها؟ الإخوان الذين اتفقت معهم على الفرار، ماذا سيفعلون؟ هل يعدلون ويستسلمون؟ أم يتصل بهم غيري؟
لا شك أنهم ينتظرون أن أعترف بهم فيعتقلون… آه، ليتني لم أتذكرهم ونسيتهم... فقد أضطر للاعتراف مرة ثانية ويكونون الضحية.
مازلت اللاز الحقيقي. لم ينته اللاز الأول بعد... يبدو أنه لن ينتهي أبداً.
لا. لا. لن أعترف وإن اقتضى موتي تحت التعذيب، لن أسلم اللاز الحقيقي مهما كان الثمن. لا أستطيع ذلك.
لن أعترف مهما كان الأمر. تصميم. تصميم فعلي. مع ذلك يجب أن أنبههم، أن أطمئنهم إلى أنني لن أعترف حتى لا يقدموا على ارتكاب حماقة ما... فقد يضطرون للارتجال، وتكون الكارثة علينا كلنا...
حين يعود الملازم بالخمر، أحاول معه, علّه يمكنني من الاتصال بهم بعنوان أو بآخر... سأجد كيف أحتال عليه.
وحاول أن يهدأ قليلاّ، أن يتخلص من كل ما يعانيه من أفكار مضطربة مشوشة، وآلام حادة موجعة، إلا أنه ليس يدري كيف تنهد، وهو يهوي برأسه على حافة المنضدة.
إيه، إيه يا اللاز المسكين، طوال حياتك وأنت تصارع في صخب وحدة وشقاوة لتنتهي إلى هذا المصير...
ليتك الآن في الجبل تمسك رشاشاً وتنبطح وراء صخرة كبيرة وتضغط بإصبعك لتلهب النهار، تحصد أعداءك الذين يحاولون عبثاً التقدم من موقعك.
تضغط وتضغط، حتى يحمر الرشاش، ولا تبالي... وإذا ما جاءت قذيفة مدفع أو طائرة تهوي عليك، تردد في ارتياح: نلت حقي، نلته كاملاً، أفرغت شحن حقدي وحقد الأشقياء البؤساء... وتستسلم لأحضان زيدان، يقبلك القبلات الأخيرة... وهو يناغيك: وداعاً بني العزيز، لقد أديت رسالتك، وسيخلفك إخوانك الصغار وأنا وعمك حمو وكل التعساء الأشقياء.
آه. زيدان، أبي المسكين، كم أنا مشتاق إليه، هذا الأب الذي حرمتني منه الحياة، كما حرمته مني... طيلة حياتي، وهو يرقبني من بعيد، دون أن يجرؤ على الاقتراب مني.
ربما كنت بمثابة شرارة انطلقت منه لتؤدي بعض الدور الذي لا يستطيع تأديته هو...
آه، زيدان أبي. عزيزي أبي، آه.
وخيل إلى اللاز أنه في قطار بين أحضان أبيه، وهمد يتلذذ لسماع صوته: هذه المرة الأولى أقبّلك يا اللاز يا ابني... إننا أشقياء كالكلاب... كنت دائماً أعلق عليك آمالاً كبرىْ، وكنت أثق في أنك لن تخون أبداً، لأنك لا تطمع في شيء، ولا تخشى ضياع شيء... أما ما تقوم به من التحدي بالصخب والضجيج، فإنني أقوم به بدوري في صمت ومخاتلة.
يجب أن نغيّر الحياة يا اللاز يا ابني. عليك الآن أن تعمل في خط واضح، ومن أجل هدف واضح.
هيا قبّلني، فسأنزل بالمحطة القادمة.
وصفر القطار: وداعاً لقد ارتحلت... انتظر دورك أنت.
وتململ اللاز، واعتصر قلبه لآلام الملح.
بؤسه يفوق بؤسنا، قالت أمي... عشرة أفواه تقتات من أربعين دورو يتقاضاها عمك حمو من فرن الحمام... ومع ذلك يشتري لي في كل عيد ثوباً ورطلي لحم.
أبي المسكين... الأحمر.
ترى لماذا هو أحمر؟ ألأنه يشتغل بالسياسة ويحقد على الأغنياء؟ إذن فأنا بدوري أحمر... رغم عدم معرفتي للسياسة، فإنني أبغض الأغنياء وأبناءهم المأبونين وبناتهم العاهرات.
آه. لو كنت أُحسن القراءة مثل أبي، لكنت أحمر بحق.
قطع تفكيره... وقع أقدام تقترب من الباب... فانتفض متأملاً القاعة وحدق في الجندي الذي يحرسه، وعجب لعدم انتباهه إلى أنه جزائري، بل وأحد الذين اتفق معهم على الفرار.
ابتسم الجندي في إشفاق، وقال بصوت خافت:
- احترنا فيما يمكن أن نفعله من أجلك.
- يبدو أن العاصفة مرت بسلام. صاحبنا هرب. اعترفت بعد أن بلغني الخبر. الضابط ما يزال على ما يبدو يتشبث بي... إنك على علم... اطمئنوا وانتظروا.
ابتسم الجندي مرة ثانية وقال:
- القذر. القذر.
ثم استطرد:
- الإخوان على كل حال تركتهم يفكرون في حل... وقد يجدونه الليلة.
- ماذا تقول؟
انفتح الباب ودخل الملازم يطنطن ثملاً، بعد أن احتسى عدة كؤوس في مكتب الضابط، قبل أن يأتي بقارورة اللاز:
- دن دن...فرنسا أجمل من ايزيس... دن دن... الحرب أقذر من التيفيس... دن دن... سأشرب معك أيضاً يا اللاز.
دن دن... رغم أنني مستعد لجلدك في كل وقت... دن دن... لأنك فلاق تعيس!
وما أن اقترب بقارورة الكونياك ليختطفها منه اللاز، حتى انتفض مذعوراً لحركة أقدام صاخبة في القاعة. التفت، فإذا بأربعة جنود جزائريين، على رأسهم كابران يصوبون أسلحتهم نحوه.
- يداك. ارفعهما جيداً، دون أية محاولة، أسرع.
قال أحدهم. بينما أردف ثان:
- انزع ثيابك، أسرع. أسرع.
وتقدم منه يجرده بعنف من بدلته، ويقذف بقطعها نحو اللاز، في حين أضاف الثالث:
- هيا. هيا يا اللاز، البس، البس بسرعة، الوقت ضيق.
- ماذا تفعلون؟
- ستعلم فيها، هيا أسرع.
رد عليه الكابران رمضان، بينما يده تهوي في حركة رشيقة على صدر الملازم ستيفان بخنجر، ليسقط دون ضجيج أو صراخ.
* * *

جمع زيدان وحدته على بعد بضع مئات أمتار من كوخ سي الفرحي، ثم قسمها إلى أربع فرق صغيرة، ثلاث تتكوّن كل واحدة منها من سبعة جنود.
الأولى تذهب إلى الناحية الشمالية، لتحطم المركز الكهربائي، وخزان الماء، والجسر رقم 17. والثانية تتولى تنفيذ حكم الذبح في الخونة العشرة، في الدواوير الثلاثة، بالناحية الوسطى. أما الثالثة فستقوم في الناحية الغربية بعملية قطع الأعمدة الهاتفية، وزرع الألغام على المسالك الجبلية، وإحراق ضيعة المعمر شيخ بلدية القرية.
تبقى الفرقة الرابعة، والمتكونة من عشرين جندياً، فإنه يقودها بنفسه لشن هجوم في الناحية الشرقية على المركز العسكري بمحطة القطار، حتى تتمكن قافلة السلاح القادمة من الحدود ، من المرور، دون أن يتفطن إليها العدو.
- أتمنى لعملكم النجاح، ولكم السلامة.
قال زيدان، ثم أضاف:
يبقى رئيس المسبلين، حمو، فقد نتمكن من الاستيلاء على المركز، ونحتاج إلى بغال, نحمل عليها الذخيرة، وقد يجرح أحدنا فنحتاج إلى نقله.
وصمت برهة وفكر... قد يجرح بعضنا، قد يجرح أكثرنا، قد تقع خسائر في جانبنا. إنهم يعرفون طبيعة العمل على أية حال، ثم رفع صوته:
- قدور يساعد المسئول المالي في عمله، حتى نرى ما نفعل به. التحق بالفرقة الثالثة يا قدور.
أنهى زيدان إصدار آخر التعليمات ثم ودع الفرَق الثلاث، وهمس لمسئوليها:
- اللقاء قبل مطلع الشمس في مركز السبعة شهداء... ينبغي أن نبتعد قدر الإمكان، فستشهد ولا شك, المنطقةُ، نهار الغد، تفتيشاً واسعاً بعد هذه الليلة الدسمة.
ثم امتطى بغلة، ووثب حمو خلفه، ولحقه بقية أفراد الفرقة. وقال في نفسه:
- اليوم نجد دابة لكل جنديين، وعما قريب قد لا نجد إلا واحدة لعشرة... إنها تقلُّ شيئاً فشيئاً... العدو تفطن لها، والناس في شغل عن تربيتها بل في عجز... البوادي أخذت تفرغ من السكان، طبيعة حرب العصابات أيضاً تقتضي التقليل منها... ينبغي المحافظة على دوابنا هذه بقدر الإمكان فقد أضحت تعرف كل المسالك والدروب، وصارت متدربة على الحرب، تنبطح لدى انطلاق أول رصاصة، وتحسن التسرب مع الشعاب نحو الغابة... إنها فعلاً جزء منا...
- خسارة كبيرة اللاز مسكين.
تمتم حمو، وهو يفكر في أيام القرية الهادئة التي لم يكن يظن أبداً أنها ستنتهي بهذه السرعة، والتي لا يخطر بباله بالمرّة أن تعود على شكلها في المستقبل مهما كان بعيداً، ليس لأن الحرب لا يعرف أحد ما إذا كانت ستنتهي في يوم من الأيام، وإنما لأن الأيام الماضية، بهدوئها ورتابتها وبساطتها وبؤسها أيضاً، أشبه ما تكون بالمستنقعات المتعفنة...
تنهد زيدان من أغوار صدره وراح يردد:
- اللاز المسكين، اللاز المسكين... إيه، إيه يا اللاز... لو تعرف يا أخي حمو ماذا يمثل اللاز بالنسبة لأخيك، بالنسبة لنا معاً.
- أعرف أنه يمثل اللاز لا غير... لازاً مناضلاً.
- وهل تعرف أنه ابن أخيك وأنك عمه؟
- ماذا، ماذا... اللاز ابن من؟
- ابني، ابني يا حمو يا ابن أُمي...
وبعد أن أعاد زيدان باختصار مشوب قصة اغتيال القائد، والهروب إلى الغابات والتشتت في الأصقاع، وكل ظروف وجود اللاز، أردف وكأنما يناجي نفسه:
- ولو لم يكن شرعياً، ولو لم يكن شرعياً... ابني، ابن كامل الدوار... ابن جميع الناس، ابن ذلك الزمن، ابن ماضينا كله يا حمو يا ولد أمي.
سكت زيدان فجأة وشعر حمو بهزات في قلبه، وبحرارة في عينيه، وفكر بما ذا يمكنه أن يعلق، أن يصدَّ به على الأقل غيمة الصمت السوداء التي تداهمهما... ودون أن يشعر، وجد نفسه يردد:
- سبحان الله العظيم... اللاز منا... اللاز منا... سبحان الله العظيم، لهذا كان منذ انخراطه معنا، ينفق كل فرنك يسقط في يده على دارنا، ويناديني بتودد، عمي. لقد أطلعتموه على السر إذن.
- يوم ودعني في القطار.
بادر زيدان، فلاحظ حمو مبلغ اهتمام أخيه باللاز، وازدادت دقات قلبه.
- لا تتصور يا ابن أمي مبلغ حبي له... إنه ثمرة حب اندلع في غمار مأساة. كان شبحه من يوم علمت بوجوده يخنقني، ويدفعني إلى التعمق في إدراك الحياة. وكأنما بدوره كان يدرك أنه روحي الحقيقية، فراح يعبّر عن كل ما في قلبي من حقد وتمرد. كان دمي يغلي، وكان الموسيقى الصاخبةَ التي أعزفها في ضميري منذ تفتح وعيي ووقفت على الحقيقة.
وفجأة، توقف زيدان عن الكلام مرة أخرى، فضمه حمو بحنان إلى صدره، عندما لم يجد ما يعلق به، ورفع عينيه إلى السماء، يحدق في النجوم المتلألئة في الفضاء البعيد.
كل شيء حقيقي ولامع ومؤثر، لا يوجد إلا في البعد، البعد البعيد، هكذا كالحلم، كالنجوم، حتى الحزن الحقيقي اللامع المؤثر... لا تلمسه الأيدي القصيرة... الطفل الجميل، الذي أنجبته خوخة العزيزة التهمته نيران الفرن، ولم يطلق عليه اسم... إنه هناك، هناك وراء تلك النجوم المتلألئة في الفضاء البعيد، ولن يعرف اسماً أبداً، كالحقيقة اللامعة المؤثرة.
وامتلأت عينا حمّو بالدموع، فأغمضهما، وأسند رأسه إلى ظهر أخيه الذي كان بدوره يعيش خواطر من نوع آخر.
آلامنا لن تنمحي بسرعة... حتى المحيطات لن تغسل قلوبنا، حتى السماوات لن تحتوي نفَسَنا... إذا ما استقامت انطلاقتنا هذه، فسنكون عمالقة العمالقة، كالسوفيتيين، كالصينيين، سنبقى وحدنا، لأننا الكثرة، وسنعمل حتى النهاية على محو آلامنا، ولن نمحوها أبداً... لن يكفينا برلمان، ولن تكفينا جمهورية، ولن تكفينا الاشتراكية، حتى الشيوعية ستكون قليلة علينا.
آه.
وعندما سقط رأس حمو على ظهره، انتفض، وأنصت قليلاً إلى نشيجه، ثم رفع صوته، وكأنما يخاطب نفسه:
- المسئول الكبير سألني في المرة الأخيرة هل ما زلت شيوعياً أحمر... أفهمته بأن الشيوعية ليست رداء ننزعه في الوقت الذي نشاء، وأنها عقيدة تقوم أول ما تقوم على الاقتناع المدرك للحياة... رأيته يتقزز مشمئزاً حين حاولت إفهامه في بعض المبادئ، فما كان مني إلا أن بادلته السكوت... وبعد لحظات قال إنه سيرفع تقريراً إلى القيادة في الخارج وينتظر موقفهم... وضعي خاص، ولو كنت أي شيوعي آخر، لقضى عليّ دون استشارة أحد... أكد على ذلك مراراً، و كأنما يهددني، ولست أدري ما إذا أثرت فيه بتأكيدي أن العمل العاجل أمامنا هو القضاء على العدو المستعمر أولاً، وبعد ذلك ننصرف إلى شؤوننا.
- وماذا يهم، أحمر كنت أم أبيض، مادمت تحارب العدو مثلما يحاربه، الناس، بل وأكثر؟
لم يجبه، وانفسح المجال لصمت طويل استغرق كلاهما أثناءه في تفكير مشوش مضطرب.
حمو يتساءل عن الفرق بينه وبين أخيه، ويرفع بصره إلى النجوم المتلألئة في الفضاء البعيد...
لا فرق... نقاتل جنباً إلى جنب، ونتحمل نفس المشاق... ننظر إلى العدو نظرة واحدة... فقط زيدان يفكر أحسن مني، أحسن منا جميعاً... آراؤه دائماً صائبة، وأحكامه سليمة، وتنبؤاته صادقة... ربما السبب في ذلك أنه متعلم بينما أنا أمي. معنا بعض المتعلمين مثله، ولكنه يفكر أحسن منهم.
إذا كان لأنه أحمر، فيجب أن نحمرّ كلنا، يجب أن تحمر الثورة كلها لتفكر تفكيراً سليماً، وتصدر أحكاماً صحيحة... ترى، هل الشيوعية شيء محرم مثل الخمر والزنى والسرقة والخيانة؟
حسبما أكده المسئول الكبير، فإنها أكثر من كل هذه المحرمات... ما هي يا تري؟ إنهم يتحدثون عنها كما لو أنها جنية تسكن الإنسان... حتى الجنيات فيها الكافرات وفيها المسلمات.
يقول زيدان إنها لائقة بالفقراء والمساكين، وضد الأغنياء وكبار الملاَّك. المجاهدون كلهم من الفقراء والمساكين، وكل ليلة نذبح عدداً كبيراً من الأغنياء لأنهم ضدنا، ضد الثورة... لا يكتفون بمنع الإعانة عنا، بل يشون بنا للعدو... إذن ماذا؟
لا أعرف فرقاً بيننا وبين زيدان، غير أنه لا يستعمل لفظة الأخ، وإذا ما اضطر لنعت أحد، استعمل لفظة الرفيق... حتى هذه لا يستعملها إلا مع أحب الناس إليه... لم يقلها لتاجر أو لثري صغير... أنا نفسي يكثر معي استعمال عبارة يا ابن أُمي بدل يا أخي.
عندما سألته ابتسم وأجابني بأن حرف الخاء ثقيل على حلقه، ثم قطب وأضاف: لسنا في حروب صليبية...
هذا ليس منطقاً على كل حال، وليس ضرورياً استعمال عبارة معينة لم يأت في شأنها أي أمر.
ماذا إذن؟
زيدان يفرق بين الناس، وينظر إليهم نظرات مختلفة، ويعاملهم معاملات خاصة، ولكن لا يؤذي ولا يسيء لأحد، بل هو أكثر الناس اتقاء لجرح العواطف.
حاول مرة أن يُفهمني، فقال: في الحياة نوعان من الناس، نوع يعرق مثلك ومثل كل العمال والعاطلين، ونوع يستفيد من هذا العرق... وما لم يتحطم النوع الثاني، فإن عرق الإنسانية يظل يسيل هدرا، مصلحة كل نوع تتعارض مع مصلحة النوع الآخر، ولهذا فهما عدوّان لدودان. اقتنع أولاً بهذا وتأمل فيه، وسأفهمك في أمور أخرى.
هذا ما قال، وضحكت في سرّي لأنه لم يفدْني بأي جديد... كل هذا أعرفه من قبل، منذ خلقت وأنا أعيشه.
الأمر بسيط على كل حال، وسيردّ القادة من الخارج بأنه لا فرق بين أحد، أحمر أم أبيض أم أزرق، ما ليس بخائن أسود، وقد يكون القادة أيضاً حمراً... فزيدان بدأ قبلنا جميعاً الاشتغال بالسياسة والتمرد على العدو، مثل القادة بدون شك، ولا بد أنهم أيضاً حمر.
وإذا ما كانوا أغنياء؟
لا... لا.
ما دخل الأغنياء في هذه القضية؟
قد يكونون، لكن لا... لا. كيف يتسنى لهم أن يصلوا إلى ذلك؟ لأسأل زيدان.
ولم يسأله، وتابع نجمه هوَت... وتذكَّر... إذا ما هوى نجم فمن أجل رجم شيطان، وإذا ما خسف القمر فسيموت عظيم... قايد، أو غني شهير.
كل شيء حقيقي، ولامع ومؤثر، لا يوجد إلا في البعد... البعد البعيد.
ظل حمو يهذي متسائلاً ومعلقاً، بينما استغرق زيدان في تفكير آخر، ولا يدري ما إذا كان بصدد مناجاة نفسه أم توبيخها.
آه، لم يحنْ أواننا بعد... سابقون لزمننا... تفصلنا عنه مسافات، مسافة جيلين أو ثلاثة على الأقل... قرن وقرابة النصف من الاستعمار المباشر... ومجتمع أشد تخلفاً من مجتمعات القرون الوسطى... مجتمع تطمسه البداوة... مجتمع رعوي ضارب في التأخر والانغلاق.
هذا الوليد، آه. الجزائر. هذا الوليد لا يزال في المهد.
بل لا يزال جنيناً، نطفة في أحشاء التاريخ، يكتمل نموه، ويولد، ويرضع، ويحبو، ويسقط مرات ومرات، ثم ينهض على قدميه، يمشي على الجدران، يقف معتدلاً، يسقط وينهض، وُيجرح من جبهته ويسيل الدم من أنفه، وتتورم شفتاه، حتى تشتد عضلاته... إذ ذاك يثب ويجري. وسيظل طيلة سنوات طفلاً صغيراً، سيظل بلا منطق زمناً طويلاً... من يدري أي عذاب يلحقه أثناء مرحلة المراهقة.
آه. في هذه المرحلة يجب أن نكون نحن.
أما الآن... كبراعم نبتت فجأة في سبخة، سرعان ما يأتي الصيف وتجف المياه وتتحول إلى ملح أبيض، ملوث بالصفرة، بالطين والوحل، وبقايا براعم جافة.
كالطين يتحمل عبء الأملاح، ثم يصير عبئاً على الأملاح. كبراعم السبخة، تلوثها الأملاح، ثم تلوث بدورها الأملاح.
لم يحن وقتنا... سابقون لزمننا.
لا، لا. السبخة تصلح لكل شيء. لا يمكن إخراج الطين والأتربة لإخلاء المكان للأملاح.
وهذه النطفة، هذا الجنين، يجب أن يرث كل الخلايا، البيض والحمر، وحتى السود، نعم، سيرث كل الخلايا، حتى السود. ويجب أن يرضع اللبن الطبيعي، لبن أمه، لا اللبن الاصطناعي، وأن يحبو وينهض ويسقط ويمشي على أرضية طبيعية عادية غير مكنوسة.
لأنه سيولد بدون قابلة.
ولأنه سينشأ بدون مربية.
الفصول تتعاقب وتتتالى، والسبخة تظل تفرز الأملاح والبراعم والأوحال حتى تتحول إلى أرض خصبة غناء تعانق فيها البراعم والزهور الربيعَ والصيف معاً، لأنها لم تعد طفيليات تنغص الملح، ولأن الملح انتهى، لعقه الوليد في صباه وعندما اشتد عوده جمعه واختزنه في أكياس، لأنه في حاجة إلى الأرض يمرح عليها ويزهو، لأنه يحب البراعم والزهور، لأنه في حاجة إلى الأرض النقية الصافية، الأرض المثمرة... لأنه اكتسب المنطق.
- فيم تفكر يا زيدان؟
همس حمو في أذن أخيه، وقد أشفق من أن يظل ذهنه عالقاً باللاز ابنه وبما يتعرض له من تعذيب داخل الثكنة.
انتفض زيدان، وأجال بصره في الظلمة، ثم همس متنهداً:
- لم أفكر في شيء يا حمو يا ابن أمي.
وعاد إلى الصمت مخاطباً نفسه:
- كنت أحلم، كنت في غار حِراء أشحذ.
ولسبب ما، وجد زيدان نفسه يفكر في النبي محمد، وشعر نحوه بعطف كبير وهو يتصوره، متسللاً في البهمة إلى غار حراء، ثم في الغار الموحش، والعرق يتصبب من كامل بدنه، ثم يستمع إلى الصوت ويستعيد صوَر الواقع الاجتماعي المحيط به.
مد بصره في الظلمة، وحاول أن يرسم صورة دقيقة للموقف في غار حراء وفي أعماق الرسول، تراءت له أشكال هندسية متناسقة مختلفة. واستقر في ذهنه شكل راح يحاول تحديده: خطان متوازيان، متعاكسا الاتجاه، يواصلان انطلاقهما في دائرة مغلقة، تدور على نفسها ذات الآن في اتجاهين، واحد من اليمين إلى الشمال، وثان من الأسفل إلى الفوق، في حركة بطيئة هادئة، إلى درجة يصعب معها تمييز الدوران من الخارج.
الخطان في شكل سهمين، و الدائرة مشحونة بذرّات صلبة التماسك.
تراءت الصورة لزيدان، وحاول أن يحتفظ بها في ذهنه، إلا أنه سرعان ما رآها تتلاشى، وقال في نفسه: صورة رائعة، صورة ذهنية، تحتاج إلى تأمل أشياء عديدة في الآن الواحد، وتحتاج إلى العيش من الداخل لإدراك مدى عمقها...
حاول مرة أخرى استعادة الصورة، إلا أنه وجد نفسه يحدق في البهمة، ففكر: المعاناة لا ترسم إلا بإحساس مزدوج فكري وعاطفي... ثم ما معنى كل هذا الشعر الذي يتدفق في خواطري.
آه، إنني أهرب من مواجهة الحقيقة... أهرب منها بالدوران حولها.
- ماذا هناك يا زيدان؟
تساءل حمو، وهو يثب إلى الأرض عندما توقفت البغلة وراحت تستعد للانبطاح، فطن زيدان وتبع أخاه واستلقى على بطنه، وهمس:
- لقد وقعنا في كمين، إنها لا تنبطح إلا حين تشم رائحة البارود.
ثم التفت إلى الخلف فقابله الجنود يتسارعون للوثوب إلى الأرض, همس:
- وضع المعركة. أسرعوا.
راح الأمر ينتقل بين الجنود من واحد لآخر، فتوزعوا في شكل هلال بين الواحد والآخر حوالي الثلاثين متراً، بينما سارع أحدهم إلى البغال واختفى بها بعيداً
- أيكون كميناً حقاً؟
تساءل حمو، فردَّ عليه زيدان وهو يجول ببصره علّه يستشف ما هناك:
- أعرف جيداً هذه البغلة... تقف عندما تلتقط أُذناها أية حركة، وتنبطح كلّما كان هناك سلاح.
- إنهم لم يطلقوا النار بعد؟
- لعلهم يحاولون محاصرتنا.
- ما العمل؟ هل نتراجع؟
- اس... اس...
ماذا؟ هل أبصرت شيئاً؟
- ألا تسمح حركة؟ وقع أقدام، إِنه يتميز أكثر.
- آه. أسمعه.
- لا تسير نحونا، وليست كثيرة، إنهم يسرعون على كل حال.
- سأذهب للاستطلاع.
- نذهب معاً.
قال زيدان في لهجة آمرة، ثم قفز إلى الخلف وهمس:
- لازموا أماكنكم.
وعاد إلى حمو آمراً:
- هيا.
تردّد الهمس في الظلمة: لازموا أماكنكم. لازموا أماكنكم. وكل من ينقله إلى جاره، يتنهد من أعماقه:
- آه، لو كانت لدينا أجهزة اللاسلكي.
و يتذكر قول زيدان، إن نقطة الضعف الكبيرة في صفنّا هي عدم امتلاكنا لوسائل التخابر العصرية.
كان زيدان وحمو قد انبطحا، بعد أن تقدما في اتجاهين متباعدين علّ ذاك يمكنّهما من محاصرة الخصم، وما إن عثر زيدان على صخرة، خبأ خلفها رأسه، حتى زأر بصوت قوي صارم:
- قف.
وأعقب صوته قرقرة حادة من بندقيته الرشاشة، وبعد لحظة انتظار لرد الفعل، تساءل بنفس الصوت:
- مَن؟
* * *


فرغ اللاز بسرعة من ارتداء ثياب السارجان، وتردَّد قليلاً قبل أن يخرج وهو ينظر إلى قارورة الكحول، ثم وثب نحوها واختطفها، وبسرعة ورشاقة قذف بها في جيب سرواله وتبع الجماعة التي انتظمت في صف كما لو أنها إحدى دوريات التفقُّد، ولو أن خطوات أصحابها تبدو أسرع بعض الشيء من المعتاد، ومضطربة إلى حد ما.
كانت المسافة بين قاعة التعذيب وبين المخرج الفرعي غير طويلة لحسن الحظ، وكانت الثكنة تعجُّ بحركة مضطربة، محركات السيارات تدور وتتوقف، والدبابات المصفحة تتقدم وتتأخر، والجنود يتسابقون بين العربات والدبابات وبين قاعات النوم ومخازن العتاد، والضباط وضباط الصف يتصايحون بأوامر مختلفة:
- السرعة، السرعة. القنابل اليدوية، مزيداً من الذخيرة.
- انزع الغطاء عن الدبابات يا خنزير... تفقد البنزين يا ابن الكلبة.
حالة طوارئ وفزع حقيقية، كما لو أن الأمر يتعلق بالتصدّي لسرب كثيفة من طائرات مغيرة كشفته أجهزة الرادار, أو لهجوم شامل يدبَّر ضد الثكنة بلَّغت عنه معلومات دقيقة.
لذلك شعر أفراد الدورية ببعض الاطمئنان إلى أن أحداً لن يتفطَّن إليهم في مثل هذه الظروف مهما كانت خطواتهم سريعة أو مضطربة، ومهما كان مظهرهم مريباً, خاصة اللاز الذي لم يفتأ يحاول التماسك رغم الآلام الحادّة التي يعانيها، و يحاول أن يبعد عن ذهنه كل الاحتمالات السيئة مركِّزاً انتباهه كله في المخرج الفرعي للثكنة الذي يقترب إثر كل خطوة، مردّداً في قلبه المثل الذي كانت تردّده أُمه كلما تحدّثت عن فقير أو بئيس: مذبوح للعيد والا لعاشوراء.
حين بدأت الدورية تقترب من الباب راحت خطوات أفرادها تتثاقل تلقائياً، وكما لو أن كل واحد يحاول أن يبدو بقدر الإمكان في حالة طبيعية أمام الحارس الذي أعارهم نصف التفاتة، ثم ولّى يتابع حركة الحشرات المتداخلة حول أنبوبة النور المتدلية فوق رأسه.
تخلَّف قائد الدورية بعض الشيء... خرج الأول، خرج الثاني... جاء دور اللاز، أدار وجهه إلى اليسار قليلاً حتى لا يتعرَّف عليه الحارس، وخطا خطوتين إلى الأمام... وجد نفسه خارج الثكنة، وبقدر ما كان يشعر بتلاحمه مع باقي زملائه، فإن المهم إذ ذاك بالنسبة إِليه أن يجد نفسه، هو، اللاز ولد مريانة، خارج الثكنة.
تنفس من أعماق قلبه: حظ كبير يحالفني الليلة... كي تجي، تجيبها شعرة، وكي تروح تقطع سلاسل.
لفت انتباه الحارس لباس اللاز وتساءل في نفسه بسخرية:
- مَن يكون هذا البهلوان؟ إن كان حقاً جندياً فرنسياً، فلن أكون أنا إلا فلاقاً يحرس هذه الثكنة.
كانت بدلة السارجان التي يرتديها اللاز تبدو فضفاضة، وكان اللاز بحق يبدو في وسطها مثيراً للسخرية، كجندي، يخرج في دورية.
دقق الحارس النظر بعد ذلك في كامل أفراد الدورية، وعجب كيف يكون قائدهم جزائرياً.
التفت إلى الخلف، فقد يكون القائد الفعلي متخلفاً، ثم أصدر الأمر:
- ق... ف.
لم يكد يلفظ العبارة حتى اختطف قائد الدورية البندقية من يده ووخز ظهره بخنجر، وأمره بهدوء:
- انتظم بدون ضجيج وسط الدورية، وإلا أسقطتك...
وثب أحد الجنود إلى مكان الحارس، وخرج آخر، ليتولى القيادة، بينما انتظم الحارس أمام الكابران رمضان الذي أعاد إليه البندقية بعد أن انتزع منها العبّاءَة، وتواصَل السير بخطوات جد مستعجلة.
لم يكن اللاز يفكر في شيء معيَّن، ولا حتى في مَن خلفه... كان يشعر بالحركة من حوله، ولم يتساءل أبداً عن سببها، ويبدو أنه مستعد لأن يظل في نفس الهيئة يسير بخطوات مستعجلة إلى الأمام، إلى ما لا نهاية له... الشعور الوحيد الذي ظل يميّزه، هو هذا الالتذاذ الذي يغمره وكأنما هو في حلم جميل.
انعطفت الدورية، التي اختلط أفرادها، إلى اليمين أولاً، وبعد مسافة قصيرة إلى اليسار. وإن هي إلا خطوات حتى تراءت في الظلمة، السيارات، رابضة في ساحة صغيرة.
تفرَّق الجنود يجسّون أبوابها الواحدة بعد الأخرى في حين هوى الكابران رمضان بخنجره على الحارس، بينما ظلَّ اللاز يتابع المشهد بلا مبالاة.
- مغلقة كلها.
- وهل كنتم تنتظرون غير ذلك؟
علَّق الكابران رمضان، وهو يدفع باللاز بعيداً عن جثة الحارس التي تدفقت منها الدماء:
لا بد من سيارة نهرب بها... يا للقضية. كان المفروض أن تسند لي وحدي كل هذه المهمة.
قال اللاز في نفسه، وكأنما استعاد وعيه، ثم تقدَّم هامساً:
جاء دوري الآن. أعطوني حديداً حادّا، مسماراً أو موسى، أو أي شيء من هذا القبيل، وتأهبوا للركوب... القضية تخصّني وحدي الآن.
ناوله أحدهم موسى صغيرة، فألقى نظرة متفحّصة على السيارات الرابضة، وكأنه تاجر أغنام في سوق، ثم تقدَّم نحو إحداها... سيارة الحاج... حجَّ تسع مرات، وفي كل مرة يزيد ثراؤه من كميات اللؤلؤ التي يستوردها... آه، ما تزال ببكارتها... ما تزال بَرَكة اللؤلؤ تشعُّ منها...
فكّر، وهو ينحني يعالج فتح الباب، وإن هي إلا لحظات قلائل حتى انتصب معتدلاً، وكأنه نادل مقهى فخم، قال:
- تفضلوا، قلت لكم إن القضية قضيتي وحدي.
ارتمى الأربعة كالسكارى داخل السيارة، وتولى هو مقعد القيادة وراح بموساه يحاول إيصال الكهرباء لإدارة المحرك.
هذه المهنة مهنتي... سرقة السيارات، وفتح الأبواب، والمنغلقات, وإيصال الأمور ببعضها، أتقنها منذ الصبا... وسرقة السيارات على ما أعرف، أيسر سرقة على الإطلاق.
ظلَّ اللاز يتمتم، وهو يحاول بموساه إيصال الكهرباء... ولم يخطر بباله أبداً أن يتصوَّر أن الليلة ليست كغيرها من الليالي...
لقد شرب عن ظمأ أكثر مما ينبغي، بل لقد شرب بنيَّة أن يسكر، أن يفقد وعيه، لكي تتضاءل أمامه كل الأشياء، وتتلاشى من ضميره كل القيم... ثم إن جراح السياط التي تؤلمه، ووخزات المسامير التي ما فتئت تنزف دماً يلتصق بثيابه، تعوقه عن الحركة المنطلقة وتركيز الذهن الهادف... وهذه المغامرة الغامضة... هذا الشعور القوي بها... إنها فوق أية سرقة، بل وأية جريمة... هكذا بدون سابق تفكير أو تحضير، ودون أي توقُّع مسبق، تأخذ الأمور كل هذه الصبغة الجدّية... إنه حتى وهو منبطح فوق المسامير يتلقىلسعات السياط المبتلة وينتظر الصدمات الكهربية واقتلاع الأظافر، لم يكن يعي حق الوعي، جدّية الموقف.
كانت الأمور تمرُّ في يسر وسهولة... أُلقي عليه القبض... هذا كل ما الأمر... وتلقىّ لكلمات، وصفعات، وضربات بمؤخرات البنادق، ومرَّ على حانوت الربيعي، وأنذر قدور، بل ورجاه أن يهرب، أن يركن إلى الهرب، ليعترف بعمله معه، ويدلي باسمه قبل أن يعترض للعذاب الأليم... وكالطفل الصغير، فكَّر في إلقاء تبعة المسؤولية على عاتق غيره، على الشامبيط الخائن... وطلب من القبطان أن يسقيه خمراً وكحولاً، في انتظار الاعتراف، وحين سمع اسم قدور يُلفَظ أمامه، أحنى رأسه كالعذراء الآثمة، يشي به قبل أن يعلم ما إذا كان غادر القرية أم لا...
يا للحقارة...
لقد مرًّت الأمور بسرعة فائقة، وكأنها أبواب سجن الشامبيط، تنغلق وتنفتح، دون أية ضجة، خالية من أية بطولة... كعادته... ما يزال طفلاً، يتدلل على كل مَن في القرية...
في السابق كان يعرف أسوأ العواقب التي تنتظره... انهزام شنيع أمام عدّة خصوم، أو أمام سوط الشامبيط، ثم نواح ونحيب، كالكلب، ولعنات من هنا وهناك، وهذا كل شيء، كل ما في الأمر.
أما الآن... آه. ما أبشع أن يفقد المرء كل سيطرة على الأحداث...
لم يكن يخطر ببال اللاز كل ذلك، وإنما كانت أصابعه المضطربة تعبَّر عن مشاعر غامضة، باهتة، مضبّبة، تعتريه... حتى استطاعت عيناه أن تلمحا النور الأحمر يشتعل مشيراً إلى أن الكهرباء انطلقت... مدَّ يداً مرتجفة نحو زر صغير وضغط... استدار المحرك، ثم توقف... أعاد الضغط ثانية، زأر المحرك يعلن عن استسلامه التام، وخضوعه المطلق لكل رغبة يتلقاها... شدَّ اللاز المقود بكلتا يديه، يديره إلى اليسار، ثم عالج حوَّال السرعة رافعاً رجله اليسرى ببطء وانتظام.
وانبعثت الزفرات:
- آه. آه...
- قلت لكم إن القضية قضيتي وحدي.
- أوقد الأنوار.
قال الكابران رمضان ثم أشار إلى باقي زملائه بتعرية رؤوسهم وتأهيب رشاشاتهم للعمل...
- حاضر يا سيدي. حاضر.
قال اللاز، في إنتشاءة، وهو يبذل آخر جهده لانتشال السيارة من بين السيارات، دون أي اصطدام... وما إن وجد نفسه في عرض الطريق، متخلصاً من كل عقبة، حتى حوَّل السرعة وأطلق العنان للسيارة تثب كأنها خطيئة تتخلص من ضمير متردِّد. ودون أن يتساءل عن الاتجاه، أو ينتظر أمراً من زملائه، استدار بالعربة يساراً...
في هذه الناحية الغابات الجمة والجبال الشاهقة والمدينة الكبرى التي يتسوَّق إليها سكان القرية، وفي هذه الناحية أيضاً، نزل عمي... أبي زيدان، يوم التحق بالثورة.
واهتزَّ قلب اللاز وهو يخاتل نفسه بسؤال: هل أراه مرة أخرى؟ هل نتمكن من الوصول إلى هناك؟
آه.
وتطلع إلى الساعة... السادسة وخمس وعشرين... الوقت نهاراً ما يزال. ومع ذلك، فلا أثر لبشر في أنهج القرية... ليس هناك سوى كلاب هرمة جرباء... لقد تعوَّد السكان اللجوء إلى منازلهم قبل موعد منع التجول ببضع دقائق، لكن يبدو أنهم أسرعوا الليلة أكثر من العادة ... حتى أن الجو يبدو وكأنه جو رمضان، حيث تخلو الشوارع في الدقيقة الأولى قبل الأذان من كل أثر للحياة... إنهم يبيّتون أمراً، بل إنهم متفقون على حدث كبير، على كارثة عظمى.
لعل اعتقادهم الجازم بأنني شرير لا يهمني سوى الانتقام من الناس و التنكيل بهم، هو الذي جعلهم يسارعون إلى الاختفاء.
يقين، إنهم يتصوّرون أنني سأخرج إلى الشوارع محاطاً بالضابط والشامبيط والعسكر، وأهتف في وجه كل مَن يصادفني:
- هذا يخدم مع الفلاقة. خذوه.
هذا هو السبب الرئيسي في اختفائهم الليلة قبل الأوان دون شك... إنني مشكل مطروح عليهم منذ أمد بعيد.
منذ ثلاثٍ وعشرين سنة... منذ حلّت أُمي بهذه القرية... خضت مع كل واحد منهم... تقريباً، معركة وهزمته... حتى مَن تحاشى الاصطدام بي، شتمته... أذللت جميع أبنائهم وبناتهم. واعترضت طريق نسائهم وهن يذهبن إلى الحمّام أو يعدن منه...
كانوا يجدون اللاز في طريقهم، في كل مكان وكنت أجدهم أيضاً حيثما اتجهت.
لم يفكروا، وهم يرونني بين مخالب الدورية أنوح وأشتم، إلا في أنفسهم، في الشر الذي يمكن أن أُلحقه بهم... لم يتصوروني، ولن يتصوروني أبداً، واحداً منهم. قد أعمل ذات يوم من أجل صالحهم العام.
منبوذ من طرفهم. منبوذ، إنني لاز، وليس غير لاز، ولو وجدوا جثتي ملقاة في الشارع، مخربة برصاصات العسكر، لتركوها في مكانها تتعفن، بل قد يبصق عليَّ الكثيرون...
فكَّر اللاز، بعد أن أجال بصره على ساعة السيارة، وألقى نظرة خاطفة على أنهج القرية، ثم ضعف بقدمه على السرّاع، فأنّت السيارة، وانطلقت في سرعة جنونية، وراح يستوي في المقعد، ناسياً جراحه.
- هل نخرج قبل موعد منع الجولان؟
- لا بد أن نخرج.
- وإذا اعترض لنا مركز الرقابة في مدخل القرية؟
- يقيناً أن المركز أيضاً في حالة طوارئ.
لاح المركز في المنحني قرب مقبرة "بني مزاب" وخفق قلب اللاز بقوة وعنف، واضطربت رجله اليمنى، ثم راحت ترتفع شيئاً فشيئاً عن السرّاع، واسترق نظرة إلى الساعة.
- ما زالت ثلاث دقائق.
قال بصوت خافت لزملائه، الذين كانوا بدورهم في حالة اضطراب، ومع ذلك ما فتئوا يتفقدون أسلحتهم، ويتبادلون النظرات مع الكابران رمضان الذي علًّق في سخرية:
- وهل هي مسألة دقائق يا رجل؟

* * *


تمت الاستعدادات داخل الثكنة بعد أن ضُبطت بدقة كل تفاصيل عملية الحصار والتفتيش عن قدور... وطفقت الدبابات تتحرك الواحدة تلو الأخرى في خيلاء واعتداد، وانطلقت العربات ملأى بالعسكر. ولما خلت الثكنة إلا من جنود الحراسة والضابط والشامبيط وبعطوش وبعض مساعدين، راح الضابط ينادي بصوت مرتفع مشحون بالتوتر:
- سارجان ستيفان. سارجان ستيفان.
وتردَّد صدى صوته في الثكنة:
- ستيفان. سارجان.
فازداد حنقاً، وكرَّر النداء بانفعال أشد، ثم صرخ في بعطوش الذي كان ينتظر مع المساعدين في السيارة:
بعطوش. أسرع إلى القاعة رقم خمسة، وقل للسارجان ستيفان إنني أطلبه. أسرع.
وثب بعطوش واتجه مسرعاً نحو القاعة وهو يشعر بالغبطة لهذه الامتيازات التي أصبح يتمتع بها:
- سارجان ستيفان، سارجان ستيفان.
انتظر أن يجيبه السارجان، ولما لم يفعل، تقدَّم نحو الباب، وطرق عدة طرقات خفيفة.
لم يجبه، لا السارجان ولا غيره. فتحركت شكوكه... ماذا هناك؟ ومدَّ يده في تردُّد ليفتح الباب.
- إنه مغلق من الداخل.
قال في نفسه، ثم رفع صوته:
- سارجان ستيفان، سارجان.
تشجع بعطوش، بالأمر الذي يحمله من القبطان، والذي لابد من تنفيذه، فضرب بعنف على الباب... ومرة أخرى لم يستقبل طرقاته غير الصمت المطبق.
خفق قلبه، وعاد يركض إلى الضابط:
- باب القاعة رقم خمسة مغلق، والسارجان ستيفان لا يجيب، سيدي الضابط.
- قد يكون في مكتبي. أحضره حالاً.
ومن جديد هرول بعطوش، تهرفه الغبطة بهذه اللهجة الودّية التي يخاطبه بها حضرة القبطان.
-آه. يا بعطوش، راعي العجول، لقد صرت سيداً، سيداً معتبراً. ربي يديم الساعة...
ردَّد في قلبه، وهو يقتحم المكتب، دون إذن.
ولما لم يقابله أحد، رفع صوته هاتفاً باسم السارجان ستيفان، وسرعان ما أدرك أنه لا أثر لأحد في المكتب، فعاد مسرعاً إلى الضابط يخبره بالنتيجة بلهجة جد قلقة.
مرة أخرى أُعلنت حالة الطوارئ داخل الثكنة.
وأسرع رئيس الحراسة، بعد أن أُخبر بأن حارس المركز رقم 6 مفقود، أسرع إلى إحضار رزمة المفاتيح، وراح يجرّبها واحداً بعد آخر، بينما الضابط يزمجر هائجاً ثائراً...
اهتزت الأرض تحت قدميه، وتمايلت الجدران في بصره، وأحسَّ بشيء ثقيل يسقط على جبهته ثم على قفاه، وشعر بالتدهور حين انفتح الباب، وفوجئ بجثة السارجان ستيفان، عارية، مضرجة بالدماء... وظلَّ جامداً، بينما تقدم الشامبيط، وهو ينزع في وقار سترته ليغطي بها الجثة...
وفجأة زمجر الضابط:
- لا تمسَسْه. لا تمسَسْه أيها القذر. أَبعدْ سترتك النتنة.
- كلكم فلاقة. كلكم أعداء. لاتمسَسْه...
وسحب مسدسه وصوَّبه نحوه وهو يردَّد في هستيرية:
- لا تمسَسْه، لا تمسَسْه. ثم التفت إلى بعطوش وصرخ فيه أن يتقدم قرب الشامبيط
ظلَّت أسنانه تصطك، ويده تهتزّ متقلصة على المسدس، وعيناه تتسعان أكثر فأكثر، لتشعّ زرقتها المخيفة خلف زجاج النظارة... بينما الشامبيط يرفع يديه في ذعر، وبعطوش يتقدَّم نحوه في ذهول.
- سيدي القبطان.
همس الشامبيط في توسُّل ورجاء، فصرخ فيه القبطان:
- صه. صه. لا تستفز أعصابي أكثر. صه وإلا أرديتك.
ثم انفجر فجأة يضحك في جنون وهو ينقل بصره بين الجثة وبين بعطوش والشامبيط والمسدس.
تتالت لحظآت معاناة شاقة... الشامبيط لا يفكر إلا في شيء واحد، حاول أن يبرزه في كلمات، لكن حلقه يخونه ويزداد جفافاً: لقد خدمت في صفوف الجيش عشرين سنة، وخدمت العلم المثلث سبعة عشر عاماً... فكيف تقول، سيدي القبطان... وبعطوش يشعر بالخجل من نفسه، ويودُّ لو يتمكن من إخفاء وجهه بين يديه، أو على الأقل يغمض عينيه...
وُعدت أن أُمنح صباح الغد رتبة "كابورال” جزاء على الخدمة العظمى التي قدَّمتها... ولكن ها أنني أُذَلّ في أعزّ وأسعد لحظات حياتي... آه يا بعطوش، يا راعي العجول، "التابعة" الملتصقة بك يهودية، والعين التي أصابتك زرقاء لأصهب. آه يا بعطوش، لِمَ وُلدت عربياً في هذا البلد التعيس.
أما الضابط فلم يكن يفكر على الإطلاق. كانت الأمور مختلطة في ذهنه، والمشاعر مثلجة في صدره... السارجان ستيفان عارٍ مثلما ولدته أمه، والدم الأسود يترقرق في شكل خريطة البحر الأبيض المتوسط، وهذا الشامبيط الهرم الذي يعلِّق على صدره عدة نياشين فخرية... ما أضخم بطنه، وما أغلظ شفتيه، وما أذلّ عينيه... ثم هذا الشاب القروي الذي تلفُّه البذلة العسكرية الفرنسية الشريفة... بالأمس قدَّم خدمة كبرى لوطني، وصباح اليوم أمضيت قرار ترقيته... القذر، لو كان واعياً للبثَ مع إخوانه. الانتهازي القذر، لا يدرك تماماَ أنه ليس فرنسياً، ومع ذلك يأتي أعمالاً لا يأتيها إلا فرنسي مخلص. الخائن القذر، قد يستيقظ ضميره ذات يوم، ويهوي عليَّ بخنجر، أو يضع في مكتبي قنبلة، ثم يفرُّ نحو الغابة.
آه. أيها اللاز اللعين. أيها المتحدي الجلف. لو أعثر عليك، أُعدمك سلخاً، بل قبل ذلك أقلي الزيت في برميل، ثم أُغطسِّك فيه... أيها الفلاق, البشع.
آه. أيها اللاز، اللاز! حتى اسمك لا يحمل معنى محدوداً... في القديم كان يطلق على الجزء الأدنى من العملة النقدية، والآن يطلق على العدد المفرد في أوراق اللعب. وبينما هو في الحجر يمثل أدنى رقم, الرقم الأول في العدد، مجاوراً للبياض، يمثل في "البيلوط" الرقم الأعلى... الوحيد في البيلوط الذي يحتفظ بقيمته مهما تغيَّر اللون المنتخَب. المعنى المجازي للاز هو البطل، في غير لغة قومه، أما عندهم، فإنه اللقيط، أو كل أعور يُتشاءم منه.
آه. أيها القذر، إنك لا تمثل شيئاً، إنك لا تمثل غير هذا الشعب اللقيط، غير هذه القضية المفتعلة التي انفلتت من دبر التاريخ.
أطلق النار يا هاملت، اضغط على الزناد، يا طالب كلية الآداب. امخر هذا الصدر المدبج بالنياشين الفرنسية، أيها القبطان الفرنسي المحارب في أخطر منطقة . صدّع هذه الجبهة البليدة لهذا الشاب الريفي العربي، أيها الفرنسي المخدوع. المهان... يا هاملت هيا يا هاملت.
عاد رئيس الحراسة، بجنديين يحملان نقالة وإزاراً أبيض، فراعه منظر الضابط، يقهقه، والعرق يتصبب من كامل وجهه، والمسدس يهتزّ في يده. تقدم منه، ثم قرقر حذاءه، واستقام في حالة استعداد:
- أوامركم.
استفاق. فأعاد المسدس إلى حزامه، ثم أخرج منديلاً راح يمسح به على جبينه ويفسح المجال للجنديين ليخرجا بالجثة بعد أن وضعاها في رفق على النقالة، ورسم إشارة الصليب، وهمس:
- استراحة.
- تشجع سيدي القبطان، لقد مات من أجل العلَم.
قال الشامبيط، وهو يتقدم نحوه، وكأنما يعتذر عن خطأ فادح ارتكبه، ولعله فكَّر لحظتها في أنه كان من واجبه أن يريح الحياة من عبء هذا اللعين اللاز ولد مريانة، قبل اليوم...
رمقه الضابط بنظرة باهتة، وأمره:
- قدني إلى بيت قدور، وأحضر لي هناك أُم اللاز.
وبعد برهة أضاف:
- لن ينجو. سأخرجه حتى من بطن أمه. القرية مطوَّقة، ولن يذهب بعيداً.
ثم اتجه إلى بعطوش. تأمله لحظة، وهمس:
لن ترقى إلى رتبة كابران فحسب. أنت منذ اللحظة سارجان. هياّ بناّ.
وفي السيارة العسكرية المكشوفة، تناول سماعة جهاز اللاسلكي، وراح يزأر:
آلو. آلو، إلى كل الوحدات. إلى كل الدوريات. جمعوا كل السكان. كلهم بدون استثناء. الرجال، والنساء، والأطفال في الملعب البلدي. فتشوا جيداً عن قدور بن الربيعي البركاتي، وعن اللاز ولد مريانة، احتاطوا فإنما مسلحان. الساعة الآن السادسة وسبع وعشرون دقيقة، وأريد كل السكان في الملعب، بعد ساعة.
انطلقت السيارة في جنون، تسلك الطرقات الوعرة، وتنعرج يمنه وشمالاً حتى كانت وسط القرية، عند مفترق الطرق الرئيسي، فأشار الشامبيط:
- فوق. حتى الحمام، ثم ننعطف إلى اليسار، ثم المنعرج الأول على اليسار دائماً حتى آخر منزل في الزقاق، على اليمين.
ظلَّ الشامبيط يعيد إرشاداته هذه للسائق بصوته الأبحّ المتهدج، وكأنه يهرب من الصمت أو يستظهر مدى قوة معرفته بالقرية وشؤونها أمام الضابط، والمهم أنه كان يشعر بنشوة غربية.
اقتحمت السيارة الزقاق الذي يقطنه الربيعي والد قدور، والشائب السبتي، والد زينة، فلفظ آخر إرشاد:
- آخر منزل على اليمين، في المنعرج.
وثب الجميع، وتقدم الضابط نحو الباب، بعد أن هدر في جهاز اللاسلكي:
- إنني موجود في الزقاق رقم ثلاثين، وفي منزل رقم سبعة، س.س.ك.
تناول مسدسه، وراح يطرق بقبضته بعنف شديد، بينما تقدم الشامبيط منه وهمس في أذنه:
- الربيعي البركاتي، عم السارجان يا حضره الضابط، وزوجة الربيعي خالته أيضا. تربطه بهم وشائج قوية يا سيدي القبطان.
- جميل جداً.
ردَّ عليه، ثم التفت إلى بعطوش:
- سارجان، حطِّم الباب.
في تلك الأثناء انبعث صوت متقطع من الداخل:
- مَن هناك؟
- العسكر. افتحوا.
ردَّ بعطوش فتمتم عمه:
- الله يلعنك يا وجه الشر.
امتثل الربيعي بسرعة، ورفع يده إلى رأسه، وكأنه بصدد الصلاة، وراح يتأخر إلى الخلف حتى التصق بالجدار قرب "حيزية" زوجته، التي جمدت في مكانها دون أن تدري ما تفعل، في حين تفرَّق الجنود ومساعدا الضابط لإجراء التفتيش، ووقف بعطوش والشامبيط إلى جانب الضابط.
كان مسكن الربيعي يتكوَّن من حوش مفروش بالإسمنت ومن ثلاث حجرات متحاذية، مستقلة الأبواب، ومن كنيف في أقصى يمين الداخل، قبالة حجرة نوم الربيعي. أما المطبخ فإنه في اليسار أمام بيت المؤونة.
- ماذا تريدون يا بعطوش؟ يا ولد أختي.
- ارفعي يديك يا خالتي حيزية واسكتي.
أجاب بعطوش، وهو يمدُّ يده لإنارة ضوء الحوش، بينما راح الضابط، يتقدم في تؤدة، وعيناه مركَّزتان في الربيعي، وما أن كاد يصله حتى استدار بسرعة فزعا.
كانت البقرة تحكّ قرنها على الجدار وهي تتوجع، معانية آلام الوضع الذي كانت حيزية تترقبه بفارغ الصبر، وتعلق عليه آمالاً واسعة.
تأملها الضابط في حقد، ثم أشار بحركة من رأسه إلى بعطوش، وأصدر الأمر:
- أرِحها من الألم يل سارجان.
رمق بعطوش خالته ثم أغمض عينيه، وضغط بإصبعه لتتقيأ الرشاشة، وتئن البقرة أنيناً حزيناً، وتنهض وتسقط، والضابط ينظر إليها وإلى الربيعي وحيزية التي أغمضت عينيها وضغطت على أسنانها.
خُيل إلى الضابط أن الرصاصات تمكنت من صدر اللاز، فتنفس من أعماقه وابتسم، وشعر بحبل الغضب الذي كان يخنقه، يتلاشى فجأة، وأرسل إصبعيه لاستخراج سيغارة.
- أحسنت أيها السرجان.
ابتسم بعطوش، في حين تراجع الضابط خطوات يدقق النظر في الجنود الذين أنهوا التفتيش، وعادوا تجثم على وجوههم الخيبة، ثم خاطب الشامبيط:
- اصطحب واحداً، وأحضر لي بسرعة مريانة. أيها السائق اصطحبهما.
وعاد يتفحَّص وجهي الربيعي وحيزية. وكأنما يقرأ فيهما حروفاً مطموسة...
المرأة في سن الأربعين ما تزال تحتفظ بشبابها، وجهها مستدير جميل، رغم هذه الوشمات التي تشوهه، الدموع تنهمر من عينيها الكبيرتين غزيرة، لا شك أنها تبكي بقرتها... حسناً فعلت... أما هذا الوجه البشع، الجاف كالقاموس الطبي، المخدد كأرض الزلزال... إنه في الخمسين، ولكنه يبدو في الثمانين. ما أروع أن أقتلع أسنانه بيدي واحدة بعد أخرى، ثم أصبَّ عليه البنزين وأوقد النار... عيناه لا تنماّن عن شيء، كأنه ميت.
تفوه. وملأ وجه الربيعي ببصقة، وظلَّ يرقب عينيه، هل تتحركان، ثم أصدر الأمر:
- تعرّيا.
ولما لم يبديا حراكاً، تأخر خطوات، وأشار إلى الجنود بحركة من رأسه... تقدم بعطوش نحو عمه، مع جندي آخر، بينما تقدم آخران نحو حيزية التي فقدت كل وعيها، وبقيت تحدق باهتة، وكأنها تعيش أحداث حلم نوم ثقيل. وما أن فرغوا من تجريدهما من كل ثيابهما، حتى كان الشامبيط يبربر في مدخل الباب، وهو يركل مريانة، ويقذف بها إلى الداخل.
- سارجان بعطوش. أرح الوجود منها.
ودون تردُّد، نفّذ بعطوش الأمر. تقيأت رشاشته سيلاً من الرصاصات، سقطت مريانة دون أن تلفظ أي صوت، وتمتم الربيعي يتلو آية الكرسي، وظلت حيزية في جمود التمثال، تتنفس ببطء.
سارجان بعطوش، أريد أن تضع جنيناً في بطن هذه المرأة. هنا أمامي. هيا أسرع.
انتفض بعطوش والربيعي عمه، والشامبيط.
- خالتك يا بعطوش.
قال الربيعي في هدوء، وردَّد بعطوش بدوره:
- خالتي.
بينما نحنح الشامبيط، وطأطأ رأسه... قهقه الضابط لحظات، ثم هتف:
- سارجان بعطوش، أمر. آمرك.
فالتفت إليه بعطوش، وراح يحدق فيه ببلاهة، وحيرة.
* * *


بحركة آلية، أوقف اللاز السيارة أمام أسلاك مركز الرقابة الشائكة، وأحنى رأسه، كأنما يهرب من الواقع المرعب الذي يتجسم أمامه، قابلته الساعة، فقال في قلبه: ما تزال دقيقتان... ثم أعاد تساؤل الكابران رمضان الساخر: وهل هي مسألة دقائق يا رجل؟... حقاً إنها ليست مسألة دقائق ولا ساعات... مسألة لا يكفيها دهر كامل... ما أشد سذاجتي، تصورت أننا هكذا، باللباس العسكري، و بالبنادق والخوذات، وفي سيارة مدنية مسروقة، ينفتح أمامنا الباب، ونغادر القرية، لا لشيء، إلا لأنه ما تزال بضع دقائق عن وقف التجوُّل... حتى على فرض أنه لا توجد حالة طوارئ، فإن أي فرنسي يرانا يتبادر إلى ذهنه أننا فلاقة.
- ماذا هناك؟
قال الجندي الواقف عند الأسلاك، وهو يتفحص السيارة وركابها. ولما لم يجبه أحد، تقدم يدقق النظر.
- ماذا يا بول؟
جاء الصوت من داخل البرج حيث يتناول زملاؤه الطعام وينتظرون الأوامر الجديدة، بعد الأمر الأول بحالة الطوارئ.
- لماذا لا نقتله، ونفتح الباب ونهرب؟ إن زملاءه منشغلون.
قال أحدهم، فردَّ الكابران رمضان بصوت خافت:
- لا يعقل.
ثم قفز من السيارة، وتقدم نحو"بول" وهو يتكلف بسمة:
- جئنا لتعزيز الحراسة.
- هكذا؟ سأنادي رئيس الفرقة.
- لا داعي سأصعد إليه بنفسي.
ثم التفت إلى زملائه، وخاطبهم وهو يغمز بعينه اليمنى:
- هيا انزلوا. طابت لكم الركبة!
- وهل أنزل أنا أيضاً؟
تساءل اللاز في نفسه، دون أن يرفع رأسه، بينما وثب الجنود الأربعة في خفة ورشاقة. أحاط اثنان "ببول" في وضع يُشعره بالحصار، بينما تبع الآخران رمضان نحو البرج.
- هات رشاشتك، لا جدوى للمقاومة
وكما لو أنه لم يسمعهما، تجاهل "بول" الأمر، وراح يجيل بصره فيهما... وفكَّر..."فلاقة" داخل القرية. واعتراه نوع من الخوف، واضطرب قلبه، واقشعر بدنه، ووهنت أوصاله، وتراخت عضلاته، وأحسَّ بأنفاسه تختنق... وقرر أن يمتثل... غير أنه فاجأته خاطرة، إنه ميت لا محالة... وما أروع أن تقتل فلاقاً قبل أن تموت. قد تسبقهما فترديهما وتنجو بنفسك.
كان كالذئب المحاصَر، يتصرف بغريزة عجيبة، وأفسح له محاصراه المجال بالاطمئنان الذي كانا يبديانه واعتدادهما بوضعهما، ليقتل قبل أن يموت.
نعم، أقتل. أقتل، انك ميت لا محالة.
انحنى، بعد أن تأخر خطوتين، ومال إلى اليسار، وضغط على الزناد، فصوتت رشاشته في جنون.
حاول أن يلتفت إلى الثاني، إلا أنه خرَّ صريعاً وهذى من أعماق قلبه:
- قتلت فلاقاً قبل أن أموت.
- ماذا تفعل يا بول؟
- ارفعوا أيديكم.
أصدر الكابران رمضان الأمر، وأعقبه بقذف قنبلة يدوية صحبها انفجار مهول، وطلقة من رشاش رئيس الحراس، وأصوات استغاثة، وأنين، بينما جهاز اللاسلكي يردِّد أمر الضابط بجمع السكان في الملعب.
لم يكن يدري كم عدد جنود الحراسة. وكان مصمماً على محو كل أثر لمقاومتهم. فقذف قنبلة ثانية، وثالثة.
بينما كانت الانفجارات تتولى، أسرع الجندي الذي نجا من بول إلى إزالة الحواجز من الطريق، ثم انتصب في حالة تأهب لكل طارئ.
كانت معركة صغيرة على كل حال، ولكنها كانت معركة فعلية صاخبة، مشحونة بالموت الفجائي... ومع ذلك فإن اللاز لم يخضها بأية صفة. رأسه محنى ما يزال، وعيناه جاحظتان، ودمه يسري في شرايينه سرياناً طبيعياً.
كان في ذهول. كان في شبه سبات، يعيش حلماً غامضاً... الأرض تنشقُّ على هاوية سحيقة ملأى بأبخرة رمادية كثيفة، وهو يسقط، يقذف بنفسه، يتهاوى في هدوء واطمئنان. إنه كالطائر، بل إنه يطير إلى أسفل، وشعور جميل يعتريه... لا شك أن القرار ينطوي على أجمل شيء، لم يتعرف عليه في هذه الحياة، لطالما تاق إليه، فليهوِ... ليهو حتى يصل إلى القرار بسرعة، فما أروع ما ينتظره هناك... قد يكون أطيافاً خضراً ترقص في رشاقة، و تبتسم في عذوبة و هي تتبادل القبل... وقد يكون أكداساً من الحرير، تحجب عذارى الجنة، فيحتجب معها، هنالك في الهاوية، وإلى أبد الدهر... وقد يكون صدر أُمه، يرتمي فيه، ويخفي رأسه إلى ما لا نهاية... قد يكون ثديها، يلتقفه، وينهمك في الرضع إلى أن يجد نفسه وليداً يعيد النمو في عالم آخر...
آه. وراح يتهاوى في بط ء رائع، حتى تراءى له القرار.
أطلق صرخة حادَّة... كانت الثعابين، مئات الثعابين، ملايين الثعابين الضخمة، تفغر فاها في انتظاره.
- اللاز، ما بك؟
سأله الكابران رمضان، وهو يضغط على كتفه، فانتفض مذعوراً:
- ارفع يدك. آي الجرح. الجراح، ارفع يدك.
ثم راح يتفحصهم. كانت وجوههم مصفرة، تنضح بالعرق، وكانت أنفاسهم تتتالى في سرعة وعمق.
- والآخر؟
- الله يرحم الشهداء.
وظلًّ يتأملهم... مع ذلك السرور يغمرهم... إنهم منتشون، في أوج النشوة. نجونا إذن... وأدار رأسه نحو الحاجز، وقابلته الطريق تمتدُّ في صعود، ثم تنحني إلى اليمين. آه. تناول حوّال السرعة بانفعال، ودفعه إلى فوق، وداس السّرّاع، واعتدل في المقعد، وارتفع بصره إلى الأفق.
- قضينا على المركز، وغنمنا ست قطع وجهاز لاسلكي.
أخبره رمضان، وهو يمدُّ يده إلى الجهاز يفتحه، لينبري صوت الضابط:
- إنني في الزقاق رقم 30 وفي المنزل رقم سبعة س.س.ك.
- في بيت قدور.
تتم اللاز، وفكرَّ... سوف أخبر قدور حالما أراه. ثم استرق النظر إلى لوحة القيادة، تراءى له العقرب الأحمر يتراقص حول الرقم الثلاثين بعد المائة، فرفع رجله اليمنى قليلاً، وتمايل مع المقوَد يديره إلى اليسار، لقطع منعرج خطير.
- إنك سائق بارع يا اللاز.
- يسوق وكأنه في السينما.
قهقه الجميع، ولم يجب اللاز، تمايل إلى اليمين يعيد السيارة إلى الجادة، فارتفعت صيحات العجلات وكأنها زغرودة.
انتصبت على بعد بضع مئات أمتار علامة الطريق تشعُّ بنور السيارة، فحوَّل السرعة وضغط بهدوء على الحباسات، ثم خرج بالسيارة إلى الهامش.
كانت العلامة تحمل اسم القرية القادمة، ورقم خمسة.
- لا يمكن أن نواصل، مركز الرقابة على بعد ثلاثة كلمترات.
انفتحت الأبواب ووثب الشبان الخمسة، تقاسموا الأسلحة، وألقى الكبران رمضان بالجهاز على كتفيه، وانطلقوا في البهمة، بعد أن أضاف اللاز:
- هناك دوار غير بعيد من هنا، وسيرشدوننا.
- أليس من الأفضل أن نلجَ الغابة مباشرة؟
- بدون إرشاد لن نلتقي بهم أبداً.
علق اللاز، وهو يفكر في زيدان، ويتساءل عما إذا كان موجوداً في هذه المناطق أم انتقل إلى مناطق أخرى، أو إلى خارج الحدود... قلبي يحدثني بشيء، ذلكم الحلم المزعج الذي رأيته قبل لحظات... لم أكن نائماً. لا أبداً... يا لها من هاوية، ويا لها من ثعابين... سوداء، مشعرة، أفواهها كأفواه التماسيح... كلا، رؤوسها وأفواهها كأنها لجمال.
اقشعر بدنه، واعتراه البرد، واشتد وخز آلام جراحه. ومع ذلك واصل السير، أحياناً في المقدمة، وأحياناً أخرى يتخلف قليلاً عن الكابران رمضان. ولم تكد تنقضي ساعة حتى فاجأهم أمر يشقُّ السكون والظلمة في قوة وجرأة:
- قف.
تجمَّدوا لحظات، لا يدرون بأي حق يأتيهم الأمر بالوقوف... فكر أحدهم... لعلنا أخطأنا الطريق ورجعنا إلى القرية. وخطر لآخر أن الضابط كمن لهم هنا. وطمأن ثالث نفسه، بأن الأمر صادر بالعربية... ووجد الكابران رمضان نفسه ينبطح، ويعالج في حذر رشاشته، أما اللاز فقد تساءل:
- أين سمع قبل اليوم هذا الصوت؟
- مَن؟
- إنه هنالك. أستطيع من هنا أن أفصل رأسه عن جسده.
قال الكابران رمضان، في سرِّه، وهو يشير إلى زملائه بالانبطاح. شعر اللاز بينبوع قوي من الاهتياج ينفجر في صدره، وكطفل هتف ملء صوته:
- عمي زيدان. بابا زيدان. اللاز، أنا اللاز. أنا أنا.
وانطلق نحو مصدر الصوت، فاتحاً ذراعيه، غير مبال بلسعات جراح بدنه. واستقبله صدر زيدان الكبير، وظلَّ يجتذبه، دون أن يرى أحد دموعهما التي امتزجت في حرارة وسخاء، وسط الظلمة الحالكة.
* * *

قبيل الفجر اقتربت الفرقة الثانية من مكان الموعد، بعد أن قطعت قرابة الثلاثين كلمتراً في ظرف ساعات قلائل، سالكة الشعاب والوهاد والغابات، صاعدة باستمرار من قمة لأخرى.
لولاها... هذه البغال، لما تمكَّنا أبداً من الصعود إلى هنا في مثل هذا الوقت القصير... قد يسير الإنسان مسافات طويلة، وبسرعة محترمة، ولكن شرط أن تكون الأرض منبسطة، أو منحدرة. أما أن يصعد، وأن يصعد، فإن ذلك لا يتأتى بسهولة.
قال جندي بصوت منخفض لمردفِه، فعلَّق هذا:
- أكيد، إن المشي على أربع أرجل أخفّ من المشي على اثنتين.
- هذا واضح.
قاطعه، فأضاف:
- وأن الصدر الموالي للأرض أريح من الصدر المنتصب.
- هذه لا أعرفها. قد يكون كلامك صحيحاً. علَّق زميله، ثم أضاف:
- لو تنقطع عنا هذه البغال، نتعب كثيرا ً.
- آه. حينئذ نكون مستقلين، أو نتمشى بالعربات والدبابات.
- والطائرات. قلها أيضاً.
- ولِمَ لا؟
كانت الفرقة قد وصلت. نصب قائدها الحراسة، ووزَّع كلمة السر، ثم استلقى بدوره، مثل بقية الجنود... اختار لنفسه صخرة ضخمة تتفرع عنها نتوءات كثيرة، وما إن تمدَّد حتى تساءل في نفسه:
- لِمَ سارعتُ إلى هذه الصخرة دون أن أشعر... يقين، إن كل واحد منا يتوقع نهاراً كبيراً... الطائرات المقنبلة، المدافع الرامية، الرشاشات اللاهثة، الكتائب المتطلعة للاستيلاء على كل شبر في أرض المعركة... هذه الليلة المشحونة، الدسمة، كما يقول سي زيدان، تحتم أن يتوقع المرء كل الاحتمالات... لطالما حدث ذلك... لكن هذه القمة وعرة، ويتطلب حصارها بضعة أيام.
علَّق قائد الفرقة الثانية على خواطره، ثم قرر أن يغفو قبل وصول باقي الفرَق... سحب قبعته على عينيه، بعد أ ن سوّى رشاشه على صدره، بيد أن ذهنه لم يكن بالمرة على استعداد للاستسلام.
أحياناً يغفو المرء، بل ينام نوماً عميقاً وسط المعركة، وهو يتوقع، بل ينتظر، أن تسقط عليه بين لحظة وأخرى قذيفة من طائرة أو من مدفع، ترفعه نحوها، ثم تبدّده.
يترك الأمور تجري كما عنَّ لها، يستسلم كأنما سلبت الغولة عقله... وأحياناً يكون بعيداً، عن المعركة وفي منأى عن الخطر، ورغم الإعياء والإجهاد المسيطرين على كامل أعضاء جسمه، فإنه، ومهما حاول، لا يستطيع النوم... آه.
- أريد أن أنام.
تململ...وتفقد رشاشه، وسوى قبعته. وتراقصت في ذهنه أشياء كثيرة، منها الهامّ الخطير، ومنها التافه الذي لا معنى له...
معجزة كبرى لو يتم اختراع نظارات يستطيع الإنسان بواسطتها النظر إلى أربع جهات لا إلى جهتين فقط... أماماً وخلفاً... لا يضطر الإنسان إذ ذاك لإدارة رأسه إلا عند الضرورة القصوى... ترى لماذا خُلقنا بعينين اثنتين فقط، مع أننا نستطيع السير إلى الخلف؟ هل حُكم علينا أن لا نتطلع إلا إلى الأمام؟... البغال، وكل الحيوانات، ليس لها سوى عينين، هي أيضاً تسير إلى الخلف، ولكن لا تنظر إلا إلى الأمام.
"الشوينقوم" الذي يحتفظ بحرارته مدة أطول، أفضل من ذاك الذي سرعان ما يتحول إلى قطعة مطاط في الفم ... تُرى لو يوضع في كل فم حبة شوينقوم، كم يلزم من بائع، وماذا يكلف الناس ذلك، وهل يعيقهم عن الاستمرار في الحياة، أو في الحديث... وهذا الربح الذي يحصل عليه الباعة والصنّاع، ماذا يكلف الإنسانية من خسارة... جميل لو تنظَّم مسابقة عالمية لمن يطيل المضغ أكثر... سأضرب الرقم القياسي ولا شك.
يا للتفاهة... وتململ، وتفقد رشاشه، وسوى قبعته.
لو أن سكة القطار لا تنتهي... هل هناك مَن سيظل يسافر إلى الأبد... مَن يجرؤ على قطع تذكرة أبدية... سأكون الأول، وسأتعرف على جميع الأجناس، وسأبيع كل ما أحمل... سأظل أشتري وأبيع لمواصلة العمل... غير أنني أكون مضطراً لقطع التذكرة الخالدة... ذلك أن المستخلصين والمفتشين سيتبدلون بين محطة وأخرى، على الأقل بين أسبوع وآخر. ينبغي أن يكون هناك خطان متعاكسان، وقطاران يسيران إلى اللانهايتين، ويلتقيان في كل محطة... لن يكون في القطار مسافر أبدي غيري، لن أرى الوجوه التي رأيتها ثانية. ما أروع ذلك... أنا دائماً منغلق على نفسي بكل ما أنطوي عليه من خير وشر، أُواجه الآخرين، جزءاً جزءاً، وقطاعاً فقطاعاً... سيتذكرونني جميعاً ولن يرونني أبداً... كما لو أنني نبي من الأنبياء، أو فكرة من الفِكَر... سأتذكر الهاميّن منهم، وأقارن بينهم كلما عثرت على أحدهم. هذا ما يجب أن يكون عليه نظام السفر، وحتى نظام الحياة... شوينقوم أمريكان "كاراميل" بالحليب، حلويات من كل نوع... هيا أيها السادة اشتروا، فإنني، نازل بالمحطة القادمة. ولن أنزل، سأواصل وأواصل، إلى ما لا نهاية له... لاشك أن الله مسافر أبدي، يبيع الحياة والموت... استغفر الله. على كل حال إنه يرى الجميع، ولا يراه أحد... آه لم أُفكر في كل هذا قبل اليوم... يوم كان بإمكاني أن أطوف بعالم أرحب؟ لقد فكرت في ذلك... خطر لي بصورة أخرى، في الحق. كم من مرة عزمت أن أقطع تذكرة إلى وهران، ولكن ما أن أصل عنابة حتى أشعر بجاذبية قوية تجذبني إلى القرية، فأعود، أعود إلى لا شيء، ليس لي بيت ولا أب أو أُم، أعود إلى الحمام، أبيع وأبيت... حياتي كلها بيع وشراء، وحكايات... في قريتي فقط يَستمع إِلي الناس... أستطيع رواية ألف مغامرة، دون أن يكذبني أحد... يحبونني إلى درجة أنهم لا يستطيعون إلا تصديقي... يوم أعود سأروي لهم حتى الموت، سأروي لهم الصحيح هذه المرة. أقول لهم إنني ذبحت في ليلة واحدة، في نصف ليلة فقط، سبعة أشخاص.
تململ، وتفقد رشاشه، وسوى قبعته. وتمنى لو ينام.
جاؤوا بالأول، كتفوه بالحبل. كانت الظلمة فلم أتبين تعابير وجهه، مدَّدوه، وانحنى واحد يمسكه من رجليه، ووضع آخر رجله على صدره، سألته:
- إن لم تصدُق ذبحتك. كم مرة أوصلت الأخبار للعسكر فبادر:
- ورأس القرآن العظيم، ورأس القبلة، ما خنت إلا مرة واحدة. كنت خائفاً وفي حاجة إلى نقود.
- كان الخنجر حادّ الشفرة. قلبته على ظهره وهويت عن قفاه بكل ما أملك من قوة. تطاير رأسه، حملته على راحتي، وظل لحظات يتكلم وحده:
- عندي سبعة أولاد يا إخواني.
تساءلت، هل يأتي الصوت من البطن أم من الرأس... وماذا لو كان في فمه شوينقومه، هل سيظل يمضغ. وضعت على جثته منشوراً، وانصرفنا إلى الثاني...
- آه. أريد أن أنام... وتململ، وتفقد رشاشه، وسوى قبعته.
كان يردد كلما سألته:
- وحق بيت الله الحرام.
اعترف بأنه يبلِّغ عنا. لأننا حفاة عراة، نعجل بقيام الساعة، كما قال الرسول الأعظم... ليس بيننا غني أو حاج... كيف تريدون أن أرى رعاتي يأمرونني أن أحمل لهم صينية القهوة بنفسي، وأن أشتري لهم عمائم الحرير، وقشاشيب, الصوف, اذبحوني. عجّلوا، عجّلوا، قبل أن تقوم الساعة، قال عليه الصلاة والسلام. تقوم الساعة حين...
ولم يتم الجملة. هويت عليه بقوة، طار رأسه بعيداً. وبانت العمامة في الظلمة بيضاء ناصعة. هتف بجملة ممزقة. انتظرت أن يردد الشهادة، فلم يفعل، لا قبل ولا بعد... عليه اللعنة...
وضعنا المنشورة على الجثة، وانطلقنا نبحث عن الثالث.
كان اللعين قد اشتمّ رائحة الموت من بعيد. لم نجده. فتشنا المنزل جيداً ولم نجده... رغم أنه شيخ مسنّ، كان شديد الفطنة... زوجته في العشرين، فاتنة الجمال، رائعة، عيناها تتقدان ذكاء... لم تفزع لرؤيتنا أبداً.
حين يئسنا، وقررنا الانصراف، تقدمت مني، وسحبتني من ذراعي إلى زاوية الغرفة:
- هل أنتم مجاهدون؟
- ومن نكون إذن؟
- أواثق مما تقول؟
- لماذا؟
- لأن الحركة أيضاً يأتوننا في زيكم، لكن مع مطلع النهار دائماً
- أنت ترين أننا في أول الليل.
- قلت...! ماذا تريدون من زوجي؟
- أن نذبحه.
- آه. إذن أنتم مجاهدون حقيقيون. لِمَ لم تقل من الأول إنكم تريدون ذبحه...؟
- أين هو؟
- فوق المدخنة تحت الرماد، غطاء حديدي لمطمورة، إنه هناك، دخل في المساء، قال إن دقات قلبه تضاعفت، وإنه يشتم رائحة كريهة.
لم نخرجه بسهولة. كان اللعين مسلحاً... لم نتبادل الطلقات النارية... كان مذعوراً. ومع أن الرشاشة بين يديه لم يطلق النار... كان ذعره شديداً. ظلَّ يرتجف، ويدور في المطمورة، ويرفع رأسه نحونا، فتلمع عيناه كعيني كلب مسعور.
- حسناً. إن لم تخرج، نصبّ البنزين ونشعل النار، ونغلق المطمورة وننصرف.
- لا. لا تفعلوا ذلك، ها أنني خارج.
- ارم رشاشتك أولاً.
ظلَّ يرتجف ويحدق في زوجته، ويتمتم بكلمات غامضة. أوثقناه كالآخرين. نظرتُ إلى زوجته فوجدتها هادئة غير مبالية بما يجري حولها. التفت بدوره حين هممنا بالخروج ثم نطق:
- انتظروا.
- ماذا تريد؟
- هل تسامحونني إذا ما صرت أعمل معكم؟ سأبدأ بإعطائكم أسماء كل مَن يعملون معي. كعربون أول.
بعد أن سرد القائمة، ابتسم في شبه اطمئنان، وعلق:
- في الحرب العالمية الثانية، خدمت مع الألمان، وحين اكتشفني عسكر ديغول... سامحوني، لأنني صرت أعمل معهم أيضا. وعندما نزل الأمريكان، وسكنوا كل هذه المنطقة، كان في هذه المطمورة ألمانيا، ولم ينصرف إلا بعد رحيل الأمريكان.
في الشعبة، وقبل أن أذبحه، هتف من أعماقه:
- هاي هيتلر.
وقبل أن ننطلق إلى الرابع خطر لي أن أمرّ على الزوجة، وأسألها:
- لماذا قامت بهذا الدور، وكشفت عن مخبإ زوجها... ترددتْ بعض الشيء. ثم أ مسكتني من يدي... كانت يدها دافئة وناعمة كالحرير... طأطأت رأسها، وهمست:
- وشى بابن عمي، وبخالي.
سكتت لحظات... تأملتني جيداً وهي تحتفظ بيدي، ثم أجهشتْ وغمغمت:
- يتركني مع سارجان الحركة كلما جاء، ويخرج. في الصباح... يسألني هل سأنجب له ولداً أم بنتاً... إنه نذل.
ألحّت أن نصطحبها معنا، ولما طمأنتها بالعودة، أخرجت من ثقب بالجدار ورقة، وأعطتنا نصيباً من المال.
- إعانة لله. في سبيل الله لإخوتي. ربي ينصركم. إن شاء الله إن شاء الله.
تركتها جذلى، مرتاحة الضمير، وانطلقنا للبقية.
آه أريد أن أنام، وتململ. وتلمس يديه، ثم رشاشته، وسوى قبعته.
لم نطل معهم. كانوا يقطنون "دشرة" واحدة. جمعنا الثلاثة في حفرة وهويت عليهم واحداً بعد الآخر... عندما جاء دور الثالث والأخير، فتح فمه ليقول شيئاً ما... تذكرتُ أننا عندما كنا صغاراً، كنا نضع الموسى في فم الجربوع قبل أن نذبحه، هاتفين: عضّ الموس قبل ما يعضّك... كان الجربوع يعضّ الموسى بالفعل، وكأنما يفهمنا... وضعت الخنجر بين شدقية، وخاطبته مثل الجربوع... عضه بعنف، بكل ما يملك من قوة، وقرر أن يحتفظ به حتى النهار... كان آخر أمل له في النجاة، على ما يبدو، أن يظل محتفظاً بالخنجر بين أسنانه... مسكت بكلتا يديَّ على الخنجر، وهويت، فانشطر وجهه إلى اثنين، شطر ذهب مع الرأس، وشطر بقي مع الجسد.
حين وقفت، وجدت مساعدي مغمى عليه.
لن أكفّ عن الحكايات في القرية. ولن يكذبني أحد... آه. متى نعود؟ فقد طالت غربتنا... لم أفارقهم أبدًا بمثل هذه المدة. يقيناً أنهم لن ينسوني... وإنهم يتذكرونني كلما سمعوا صفير القطار... وداعاً لقد رحلت، انتظر دورك أنت... لو أن القطار يمرُّ مرة واحدة، ويظل يسير إلى ما لا نهاية... لما كانوا ينتظرونني أبداً...
آه لو أغفو قليلاً...
وحاول أن يتململ، غير أن أُذنيه التقطتا حركة داهمة من كل جهة... فتح عينيه. ورفع رأسه، بعد أن سارع إلى تأهيب رشاشه لرد الفعل، فقابله مع ضوء النهار المتسلل من خلف الضباب، وبين الأغصان المتشابكة... زيدان، واللاز، وحمو.
ودون أن يطيل التأمل، هتف من أعماقه:
- اللاز، جاء؟ اللاز هنا.
سارع يعانقه، وقلبه يهتزُّ فرحاً... لم يكن يحب اللاز، لا كثيراً ولا قليلاً. وهذا الأخير بدوره لم يكن يطيق سماع حكاياته أبداً، كان كثير الأسفار في القطار مثله، ويعرف المدينة، ربما أكثر منه... ولم يكن الأمر يقتصر على هذا فحسب، فمنذ أن رشاه بعلبة من التبغ المعطر، ليتركه يتمم حكاية كان يرويها وسط جماعة محترمة، فرض عليه ضريبة ثابتة... علبة في الأسبوع، وإلا المضايقة المتواصلة... مع ذلك فرح بشدة لرؤية اللاز، وقبَّله بحرارة صادقة... إنه آخر مَن جاء من القرية، وأول مَن سيروي له قصة ذبح سبع خونة في نصف ليلة... وسيعلِّمه كيف يفك البندقية، ويركِّبها...
لم يفرح مثل هذا الفرح عندما رأى البارحة قدور... قدور البدوي الذي لا يمكنه إطلاقاً أن يتجاوب مع حكاية من حكاياته... البدو حذرون، متشككون، يتظاهرون بالوقار، ويحكمون علينا بالسفه.
- هذا أنت يا الناصر. أما تزال حياً؟ القرية أضحت موحشة منذ أن افتقدتك. كيف الحال؟ آي. حاذر، فإن جسمي مثخن بالجراح.
علَّق اللاز، وهو يعانقه، ثم ارتمى إلى جانبه عند الصخرة.
- البارحة ذبحت سبعة. ذبحتهم بيدي هذه. أنظر.
- أما تزال تحب الكذب؟
- لا يا اللاز، لا يكذب. لقد كلفته بذبحهم... هنا لا نكذب إطلاقاً.
ردَّ زيدان، وهو يجلس بدوره، ثم أمر القادة الثلاثة أن يجمعوا جنودهم لعقد جلسة عرض الحال عن المهام التي كُلِّفَت بها كل وحدة!
- لماذا لا نؤجل ذلك؟ فالجميع منهك القوى.
قال أحدهم، فأجاب زيدان:
- يجب أيضاً أن نتأهب لما يمكن أن يفاجئنا به النهار... هل فهمت؟ ليلة البارحة ليست من الليالي العادية. عيِّنوا الحراس من الفرقة التي سبقتنا... كلمة السر هي: "الملح" هيا أسرعوا...
لم يدرِ. لِمَ اختار لفظة الملح بالذات كلمة سر... وأطرق يفكر في ذلك... ولم تخطر بباله قط السبخة التي كان يراها البارحة في الظلمة الكالحة... رفع رأسه، قطب ما بين حاجبيه، زَم شفتيه، وراح يتأمل الجنود الذين التفوا حوله، في شبه حلقة، يتقدمهم القادة الثلاثة... كلهم هنا؟ كلهم هنا؟ الوحدة الأولى كاملة العدد، الثانية كذلك، الثالثة أيضاً... واحد فقط استشهد من فرقتي.
جال ببصره في كامل الوجوه، وتوقف قليلاً عند قدور، وفكَّر في لباسه المدني النظيف... يجب أن يغيِّره بسرعة... لقد وصلتنا المؤن من المشرق... كما توقف عند الجنود الأربعة الذين هربوا مع اللاز... الأول يتميز بالصدق والشجاعة، لكنه بدون رتبة، يقيناً أنه أمي... والثاني حالم، معقَّد، لا ريب في أنه ابن موظف حكومي... الثالث صارم أيضاً، شجاع، وأكثرهم رصانة على ما يبدو... وهذا الكابران... إنه شديد الثقة بنفسه... أبلى البارحة البلاء الحسن، لم يكن يضغط على الزناد لتنطلق الرصاصات دفعة واحدة، كالخائب, إنما يرسل الطلقة بعد الأخرى، دون أن يدع رصاصاته تذهب سدى... يحسن الزحف والزحل، تطغى عليه التربية العسكرية الكلاسيكية... يسعى باستمرار لاحتلال موقع المعركة... لا يفتأ يلقي نظرة على مجاوريه، كأنما يستمد الثقة منهم، أو يبحث عمن أصيب فيهم... شديد السيطرة على أعصابه إلى حد يثير الإعجاب... إما أن يفيد الثورة، وإما أن يخرب قطاعاً كبيراً منها...
- أين خدمت يا رمضان؟
- تدربت في "تلاغمة" وقضيت ثلاث سنوات في ألمانيا، وسنة في فرنسا، وسنتين في الهند الصينية، وتسعة أشهر في وهران، وجيء بنا إلى هنا منذ ثلاثة أشهر.
- لم تمت، ولم تؤسَر، ولم تهرب إلى صف الصينيين؟
- لا.
- يبدو أنك محظوظ... ما رأيك في الهند الصينية... في حربها أعني؟
- كانوا مثلنا... يحاربون من أجل الاستقلال الوطني.
هه... لم يستعمل "مجاهدون"، وأضاف الوطني...هل يزن عباراته؟
تساءل زيدان في سره، ثم أضاف:
- ولِمَ لم تعنهم؟
- كنت باستمرار في حرس القيادة الخاص.
- حضرت " ديان بيان فو" إذن؟
- لا. نُقلت قبل أسبوع إلى المستشفى... أُصبت بجرح في كتفي...
- هل تقرأ وتكتب؟
- حصلت على الشهادة الابتدائية فقط.
- أبوك موظف أم تاجر؟
- من متقاعدي الحرب العالمية الأولى...
- ومتى حزت الرتبة؟
- عندما أعدت الانخراط، وقبلت الذهاب إلى الهند الصينية.
مذ خمس سنوات، وهو بهذه الرتبة، لو كان هذا الشاب أوروبياً، لرقي إلى رتبة ملازم أول على الأقل... أبوه من متاقعدي الحرب العالمية الأولى... فكر زيدان، وأضاف: يجب أن يكون واعياً كل الوعي بهذا التمييز العنصري، حتى ينفصل نهائياً عن الحنين إلى الجيش النظامي... ينبغي أن أهتم به أكثر، وأُعمِّق وعيه الطبقي... آه... كلهم، كل هذه البراعم، يجب أن تتفتح، في جوّ ذهني صافي... يجب أن يتخلصوا جميعاً، من كل البذور الفاسدة، التي تعلق بهم...
- حسناً يا رمضان، إننا هنا لا نحمل رتباً عسكرية، ولا نستعملها كذلك... إنما نقوم بمهام ومسؤوليات. أنا شخصياً ضد الرتب في الجيش الثوري، لأنها تحدث انفصالاً بين مناضلين، لا يربطهم بالكفاح سوى الإيمان المشترك بتحرير الوطن، وتعديل الحياة... هل تفهم؟ ينبغي أن تغير بذلتك، وأن تبدو مثلنا... أمامك أولاً مهمة التعوُّد على حياتنا... وبعد ذلك ستتطور الأمور بطبيعتها. هل تفهم؟
نعم. نعم. أفهم. فهمت.
ظلَّ رمضان يكرر، وهو ينظر بإعجاب إلى زيدان، الذي أطرق... لو كانوا كلهم عمالاً، لو كانت الأغلبية، أو حتى النصف. من العمال، لكانت المهمة سهلة، لكنت أعرف كيف أخاطبهم، كيف أقتحم قلوبهم وعقولهم... أما وهم خليط من التجار والعاطلين والمزارعين، والعسكريين المحترفين في الجيش الفرنسي، ذي الرتب والنياشين، فلن يتصوروا أبداً ما أُريد أن يتصوروه... إنك تكذب على نفسك... نعم إنني أتهرب من مواجهة الحقيقة... في الصين لم تكن الأغلبية من العمال... كانت من هذا النوع... هنالك كانت القيادة تحمل إيديولوجية العمال... وهنا... آه... القيادة أيضاً من هذا المزيج... قد أنجح كفرد، في تغيير ذهنيات البعض... لكن سيظلون عرضة للانتكاس... المهم في الوقت الراهن أن يقوى إِيمانهم بوطنهم، وبحرّيته... وعلى مرّ الزمن سيكتشفون بأنفسهم أن الأغنياء، مثلهم مثل المستعمِرين، أعداء اليومَ وسيظلون أعداء ما داموا موجودين، وحتى إذا ما قُهروا، وأحنوا رؤوسهم للعاصفة، فإنهم سرعان ما يسترجعون ويسيطرون على الوضع …
لقد ذهبت بعيداً بعيداً... إلى ما بعد الاستقلال بسنوات... قد يطول الكفاح حتى يفتقر الجميع، ولا تبقى في الجزائر إلا طبقة واحدة... لكن بعد الحرب العالمية، من افتقر، ومن اغتنى...؟ افتقر المزارعون، وأصحاب الصناعات، والعمال، وأثرى التجار... الحروب تقضي على طبقات وتخلق طبقات أشد ظمأً للاستغلال، وأكثر انتهازية …
هذه الحركة... ينبغي أن تتبنى الصراع الطبقي من الآن، وإلا بقيت مجرد حركة تحررُّ... الخطر كل الخطر أن يحوِّلها الاستعمار إلى صالحه، عند انتهائها، ليخلّف الوطن بين أيدي العملاء والصنائع...
ذهبت بعيداً بعيداً، إلى ما بعد الاستقلال بسنوات... آه. رفع رأسه... لقد تعوّد الجنود والمساعدون أمثالَ هذه الغيبوبة، وهذا الشرود الذهني، لكن ليس في اجتماعات عروض الحال عن النشاط، وهم يشعرون بالإجهاد ويتوقون إلى استلقاءات وإغفاءات. والشمس ها هي تصعد مبددة الضباب و الصقيع... فليبادر إلى تقديم عرض حاله، عن مهمة الوحدة التي قادها، ثم يطلب من قادة باقي الوحدات عروض الحال، وبعد ذلك يقدم تحليلاً موجزاً عن مغزى عمليات البارحة، وعن نتائجها السياسية والعسكرية، ثم يسرّح باقي الجنود، ويبقي القادة ليدرس معهم معنويات الجنود أثناء العمل وبعده، والخطط القادمة.
لكن ها هو يبحلق، صامتاً شارداً من جديد …
حدق زيدان في قائد الوحدة الثانية... الناصر... وخطر له... لو كنت مكانه، لكنت الآن مغموماً... سبع أنفس بشرية كاملة، ولا يتأثر... كنت أعتقد أنه فنان، رقيق العاطفة، مرهف الحس والشعور... لكن ها هو ذا، في بلادة التاجر... لا يتأثر إِلا حين يفلس. علّني أظلمه؟ قد يكون ذلك... وهو الآن منبهر، غارق في الإعجاب بنفسه، و بالعمل الذي قام به. إن الفنان الحق، كالطفل، لا يقدِّر حق التقدير، ولا يدرك قيمة ما يقوم بإنجازه، إِلا فيما بعد... آه، حين يدرك هذا الشاب معنى ذبح سبعة آدميين في ليلة واحدة، بيد واحدة، ينفجر هذا الرأس المستطيل الذي بين كتفيه... ولو كانوا خونة، ولو كانوا أعدى أعداء الوطن... ينبغي أن يراقَب بشدة وأن أتولى رعايته، وأن لا أُكلفه بمثل هذا العمل مرة أخرى... كان المفروض أن أوصيه مسبقاً، بالإشراف على العملية، وإشراك الجميع فيها... أخطأتُ... هذا درس على كل حال...
ثم حوّل بصره ببطء نحو أخيه حمو... لو كان متعلماً...لو كان لديّ متسع من الوقت لأعلّمه، إن له قابلية عظمى للإدراك. لو يتطوّر، يصير من عظماء القادة... ذكي، نشيط، كبير القلب، يستطيع بسرعة خارقة اكتساب ود محيطه والسيطرة عليه... منضبط... ليبق في مهمته، رئيساً للمسبلين، ليظل شديد الاحتكاك بالجماهير... كان يشتغل بأربعين دور لليوم في فرن الحمام... لن يتلوث على أية حال... لن ينسى الكدح ما حيي...
واللاز...؟ آه. ابن خطيئتي وزِناي... وجدْنا أنفسنا في الغابة كآدم وحواء، وحيدين، ولم يكن في وسعنا إلا أن نبيت متلصقين... كان الفصل خريفاً، وكان الصقيع ينزل بعد الظهر... فأنجبناك... شرارة طائشة، ولعنة صارخة...
فيك بذور كل هؤلاء يا اللاز... بذور كل الحياة... كالبحر... لا إنك الشعب برمته... الشعب المطلق، بكل المفاهيم...
هذا اللاز، ليس غنياً وليس واعيا للفقر... ليس ثورياً، وليس مستسلماً... أُميِّ لا كالأميين، وشاب لا كالشبان. هذا اللغز. هذا اللاز. كيف أصنع منه شيئاً؟ لعلني بالحب فقط أستطيع الوصول إلى أعماقه...
المهم أنه مدرك، مدرك بغريزته، كالكلب، أو كالقط، أو كأي حيوان... مدرك لعفونة الوجود، ويرفضها بطريقته الخاصة... إنه البحر بعينه... بل الشعب برمته.
- لقد حضر الجميع.
قال حمو، بعد أن نفذ صبره. فانتفض زيدان، ألقى نظرة خاطفة حوله، وابتسم في حياء:
- المعذرة.
ثم قرر أن يهزم تأملاته، ويشرع في العمل... بدأ بتقديم المجنّدين الجدد، وتمنى أن يكونوا نعم السند، وقدم لهؤلاء بقية الجنود والقادة، وطلب منهم أن يقتدوا بهم في الشجاعة والصبر والسلوك الحسن. وبعد أن ذكّر بأن النضال من أجل الحق، والكفاح ضد العدو، لا تعتبر فيهما الأقدمية والأسبقية كعامل أساسي، وأن الاستمرارية والصمود، هما فقط المعيار الذي يقوم به المناضل والمكافح... سارع إلى تقديم عرضه. وكان على غير العادة موجزاً، لم يعط فيه تفاصيل الهجوم، ولا الخطة التي اتبعت فيه... واكتفى بذكر أهم شيء... كان الهجوم ناجحاً. بدل إشعال المركز، لتتمكن القافلة القادمة من المشرق من المرور، تمكنّا من تحطيمه، وقتل أو جرح من فيه... غنمنا مدفعاً ثقيلاً من عيار 85... أول مدفع تغنمه ناحيتنا... وغنمنا جهازاً لاسلكياً، ثاني جهاز نمتلكه... بالإضافة إلى الذخائر الخفيفة... استشهد منا الأخ بن عبد الله... هذا الشاب رمضان، محارب من الطراز الجيد، هو الذي استطاع إضرام النار بقنابله اليدوية... أنا مسرور جداً بانضمامه إلينا، وباسمكم أُرحب به وبإخوانه... إنهم كسب، وسيعززوننا كثيراً.
كان آخر عرض حال، للناصر قائد الوحدة الثانية، الذي ظل زيدان يقاطعه:
- لا تغرق في التفاصيل. هل تم ذبحهم جميعاً؟
- نعم.
- وما هي أهم الأحداث التي صحبت مهمتكم؟
- كانت الرؤوس تتكلم وهي منفصلة عن الأجساد!
- آه. غير تفاصيل الذبح... أحداث العمل في حد ذاته!
- زوجة سلمت زوجها... كشفت لنا مخبأه، ولم تتأثر لموته...
- ماذا استنتجت من ذلك؟
هي التي استنتجت... تسبب في إعدام ابن عمها، وخالها... ويسمح لسرجان الحركية بمضاجعتها، ويسألها، هل تنجب ولداً أم بنتاً؟
- ثم ماذا؟
- طلبت مني أن أجندها... في العشرين من عمرها، ما تزال فتاة... جميلة. أعطتني مائة ألف فرنك إعانة.
- هذه الفتاة كما تقول، سندرس وضعها فيما بعد... وماذا غيرها؟
- حصلنا من زوجها على قائمة الخونة الذين يعملون معه... واحد فقط من ضمن الذين ذبحتهم …
- لا تقل ذبحتهم... ذبحناهم. قل ذبحناهم... إننا كلنا هنا ذبحنا، لأننا قررنا وأصدرنا الأمر... وما أنت إلا منفذ فقط... هل تفهم، ذبحنا... وكان المفروض أن يتولى عملية الذبح غيرك. أن تشتركوا فيها جميعاً...
- ها هي القائمة.
ما أن انتهت العروض، وما إن كاد زيدان يشرع في تقديم التحليل السياسي للعمليات، حتى قدم أحد الحراس يجري ليخبر بأن شخصا في لباس مدني، يصعد الجبل دون اتجاه معين...
- حسناً، أُكمنوا له.
قال زيدان، وأشار برأسه إلى حمو وجنديين آخرين، ثم استند إلى الصخرة، وأمر البقية بالاستراحة، غير بعيدين، في انتظار ما يأتي مع هذا القادم المجهول... تسللت يده اليمنى إلى جيبه، كأنما تبحث عن شيء، ثم عادت، لا يمكن أن أنساه أبداً، هذه ثلاث أشهر، منذ حرِّم، ومع ذلك لم أنسه... عملية تحريم التدخين ديماغوجية محضة... ليس التبغ فقط بضاعة فرنسية، حتى القمح الذي تنتجه بلادنا، بضاعة فرنسية، حتى اللحم، حتى الزيت... الخزينة الاستعمارية تستفيد بخمس وسبعين في المائة من التبغ... إنك تتكلم بعاطفتك، بشفتيك الظامئتين، إلى لفافة جيدة... تحرم الخزينة الفرنسية من عشرات الملايين يومياً، إلى جانب توحيد موقف الشعب تحت شعار واحد... إنها على الأقل، تجربة عن فعالية أوامر الثورة... إنني مقتنع بهذا، لكن لا أستطيع الكف عن الحنين إلى هذا الشيء المحرم... بدأت التدخين وأنا في الخامسة عشر من عمري... إذا ما عثرت اللحظة على لفافة من ذلكم التبغ الأسود القوي، أشعلها... لقد كان النبي محمد مثالاً في كل حياته، إِلا في المرأة... لم يقهر إِنسانيته في هذه القضية، فعاشها حتى الأعماق... قبل الجميع تبريراته بدون نقاش... كانوا يفهمونه، كان جانب القوة فيه يطغى على غيره... إِنني بدأت أهذي كالوجوديين... بدأت ذاتيتي تطفح من خلال مشاعري. آه، لا أحد هنا يمكن أن أتحدث معه عن "فرانسوا مورياك" وعن بطلته الجبانة "تيريز دي كيرو" يقيناً إنه رَمَزَ بها، قاصدا أو غير قاصد إلى الأمة الفرنسية، كيف كانت ضحية الاعتبارات البرجوازية... بيد أنه لم يفلح في إِبراز تمردها، لقد جعلها انهزامية، استسلامية إلى أقصى... والأدهى من ذلك، أن يجعل البرجوازية تقذف بها في باريس، تتزين وتلطِّخ وجهها بالمساحيق، وتترامى في المقاهي، ليشعل لها الشبان السغاير... تيريز دي كيرو، استأنفت حياتها بعد الانهزام، عاهرة، عديمة القلب والضمير... عاهرة محطمة... مع ما في ذلك من لمسات فنية بارعة، فإنه خال، من أية موضوعية أو روح علمانية... الأمم لا تتحطم، وحتى إذا ما تحطمت، فإنها لا تمارس العهر مثلما فعلت تيريز دي كيرو... لعله في آخر الكتاب يرمز إلى الثورة الفرنسية، إلى الكومونة... يقيناً، إن فرانسوا مورياك، لم يرمز لشيء، إنما روحه هي التي كانت رمزاً لطبقته، لوجهة نظرها فيما حدث ويحدث حولها... لقد كان وجودياً، وتيريز دي كيرو، ثائرة غير مضحية، ومتمردة من باطنها... من الداخل ليس إلا... كلا... "تيريز دي كيرو" لم تكن إطلاقاً بثائرة... سممت زوجها دون أن تدري لماذا... سلّمت في ابنتها، وكأنها دجاجة فصلت عن أبنائها... بلا ألم بلا ضجيج، راحت تنزف من الداخل... كان الملل فقط، من كآبة الريف، وصمته اللامتناهي، ورتابة الحياة... هو الذي يحِّركها، يحرِّكها من الداخل، ويجعلها تتوق إلى باريس... وسواء أَحبَّ فرانسوا مورياك أم كره، فإن تيريز دي كيرو، ليست سوى البرجوازية بعينها، فقدت طعم الحياة في الريف، فعملت على نقلها إلى باريس، تلك هي المسألة، وليس غير...
- يشير إلى انه يحمل رسالة من المسئول الكبير...
قال حمو، وهو يتقدم شخصاً فارغ الطول، عريض المنكبين، أبيض اللون، أزعر، واسع العينين، معقوف الأنف كبير. ناتئ الذقن، بارز الوجنتين، ضيق الجبهة، أحمر الشعر، واسع الفم، غليظ الشفتين، يلتف في قشابية رمادية... رغم الإعياء المطل من نظراته، فإنه كان مرفوع الهامة، قوي التماسك...
نهض زيدان ليسلم وهو يفكر... المسئولون في الخارج ردوا على تقرير المسئول الكبير... القضية أخذت منعرجاً جاداً ولا شك...
- مرحبا. مرحبا. استرح.
- منذ يومين، و أنا أضرب في هذا الجبل.
- لم تتابع الخيط إذن...
- بالفعل. لقد انقطع في الجبهة الشرقية بسبب الخلافات التي حدثت... ألم تصلكم بعد؟
- بلغتنا أخبارها فقط... متى غادرت القيادة؟
- هذه عشرون يوماً... بسبب الخلافات كما تعلم.
- وهل جئت بسبب الخلافات؟
سأل زيدان، ثم التفت إلى حمو ومن معه. وقبل أن يشير إليهم بالانصراف، حرَّك حمو رأسه يمنة وشمالاً... غير مسلح. فتشته جيداً.
- لا. تلك قضية أخرى. جئت بسببك.
- كيف ذلك؟
- المسئول الكبير يريد الاجتماع بك في مسألة هامة.
* * *

لم تأتِ الطائرات الصفر للاستكشاف، وبالتالي لم يقع أي حصار للجبل. لقد ابتعدت الفرقة كثيراً عن المظان التي يمكن أن يبادر العدو لمهاجمتها... والحق أن الحصار عادة ما يبدأ مع الفجر، حيث تتسلل الدبابات والعربات في الظلمة، خابية المصابيح... تضع العتاد والجنود، وتنتصب في الأماكن الإستراتجية... بينما يشرع العساكر في الزحف نحو القمم، في انتظار أن تحل الطائرات المقنبلة مع بزوغ الشمس لتقذفها بالقنابل، إلى جانب الوابل الذي تصبه المدافع. وتستمر المعركة من جانب واحد، باستثناء الاشتباكات الخفيفة التي تنشب هنا وهناك، إلى أن تنحدر الشمس وتذوي في الأفق، فيشرع الثوار في التسلل والخروج من الحصار بطريقة أو بأخرى، في حالة متعمدة من التفكك، ليلتئم الشمل في منطقة أخرى وفي ظروف مغايرة. قد يستمر الحصار أياماً عديدة، وقد يمتد إلى مناطق مختلفة إلى أن يتحول إلى اشتباك يحسم المسألة لصالحهم عادة، لأن صالح العدو الذي لن يصله على ما يبدو، هو وضع حد نهائي للثورة، دون أن يدري أنه يحاربهم مجزَّئين، بينما هم يحاربونه ككل، كجسم ضخم يمزقونه شيئاً فشيئاً وحيثما صادف.
ظل زيدان مستريحاً، ينام أحياناً ويفكر تارة، ويبادل ضيفه بعض الأحاديث أحياناً أخرى، إلى أن حلت الساعة الرابعة. طلب مساعديه، المسئول المالي، وقادة الوحدات الثلاث التي شكلها البارحة، وحمو مسئول فرقة الفداء، إلى الاجتماع.
راح فترة طويلة، قبيل أن يجلس، يذهب ويجيء، مستغرقاً في تأملات وخواطر وتساؤلات، باحثاً عن مخرج للموقف الذي وجد نفسه فيه...
القضية بالغة الأهمية، وجد خطيرة، بقدر ما نحيا تتعلم وبقدر ما نمارس العمل الثوري، نكتسب التجربة ونكتشف الحقائق. كان المفروض أنني فكرت فيها قبل اليوم، قبل الآن على الأقل... خطأ فادح، وعمى وغباوة أن لا يفكر المسئول فيمن يخلفه إلا في آخر لحظة... أنانية، ذهنية ملكية فرعونية... خطأي الأساسي أنني أفكر فيهم جميعاً، في لحظة واحدة... كنت أريدهم كلهم قادة... كلهم مسئولين، لا خلفاء أو نواباً، كنت في الحق لا أثق إلا في نفسي، وأفرض عليهم الوصاية الأبوية... أنانية اعتداد بالنفس، وعدم تقدير لأهمية المعركة... تصرّف برجوازي محض...
مهما يكن الأمر، فالقضية مطروحة الآن بكل جدّيتها، بكل ثقلها، وعليّ أن أحلها.
مَن أُنيب يا ترى؟
حمو أخي؟ سنخسره في قطاع آخر، له أهميته القصوى... الفداء روح الثورة.
المسئول السياسي؟... فعلاً، بذلت قصارى جهدي لأنفخ فيه الروح الطبقية، وقد تطور بنسبة أربعين في المائة... كان مجرد معلم بسيط للقرآن، يسرد الآيات دون فهم، وينسب كلاماً تافهاً إلى الرسول، أو الصحابة، ويصلّي بمناسبة وبدونها، يرى أن كل ما يقوم به البشر لا يعدو التمثيل لرواية مكتوبة على اللوح المحفوظ منذ الأزل... يستشهد في كل حديث بقول سيده علي بن الحفصي... فرنسا تخرج ويداها في الطين... ويسأل باستمرار، هل شرعت في البنيان، لأن تلك علامة نهاية وجودها... تخرج ويداها في الطين! قيل له مرة إن البنيان الذي تبنيه فرنسا بالإسمنت وليس بالطين، ضحك الجنود من أعماقهم، فثار، وأكد أن السيد علي بن الحفصي يعي ما يقول، وليس غريباً أن ينقطع الإسمنت من الأرض، ما دام السيد علي بن الحفصي قال ذلك... كلما التقطت أُذناه رنة، تمتم... عليك سلام الله. ويسأل: هل سمعتم سيف السيد عبد الله، أو لجام فرسه، أو ركاب سرجه... لقد مرَّ لتوه من هنا... إنه ما يزال يعبر السماء جيئة وذهاباً، منذ مئات السنين... سأله أحدهم مرة: لماذا يفعل السيد عبد الله ذلك؟ فصمت برهة، ثم أجاب بأنه، دون شك، يبحث عن جنود الله لينصر بهم ابن عمه السيد علي كرم الله وجهه … إذن سينزل عندنا ذات يوم... أضاف آخر، فانتفض وأكد: حتى نصل إلى مستوى جنود الله... ليس غريباً أن ينزل السيد عبد الله بيننا... ولو أن جنود الله المخلصين يحفظون كلهم القرآن الكريم، كلام الرب العزيز.
تجنّد قبلي بشهرين، ووجدته في هذه المسؤولية... الجماهير الشعبية تقدسه، وتؤمن بكل ما يقوله إيماناً مطلقاً... لم أفكر في تغييره، وعملت على تطويره، حتى أصبح يخجل من نفسه، كلما تذكَّر ترّهاته... رغم أنه سريع البديهة، عاش طوال حياته فقيراً، ذليلاَ، فإنه لا يليق للقيادة العسكرية التي تعني كل شيء بالنسبة للجنود وللشعب... المسئول السياسي، ضعيف البنية، هزيل، تعوَّد المجاملة، ومعاملة الجنود بغير صرامة المسئول.
المسئول المالي... شاب مثقف ذكي، متفتح على الأفكار الحية، بيد أنه لم يتخلص بعد من لامبالاته بمن حوله، وكأنما يحتقرهم... بالإضافة إلى انطوائه الشديد على نفسه... الأولى أن يبقى متصلاً بالجماهير الشعبية، فهي وحدها القادرة على انتزاعه من الاغتراب...
من إذن؟ الكابران رمضان؟... لكن ذاك لم يأتنا سوى البارحة، ولم أقتحم أعماقه بعد... يبدو أنه صالح للقيادة، إلا أنه من الضروري أن يختبر أولاً حرب العصابات، ويتخلص نهائياً من عقلية المتطوع، بائع نفسه... ومن تربية الجيش النظامي البرجوازي... ذاك أصطحبه معي في رحلتي.
مَن إذن يا ترى؟. كان المفروض أن لا أوزع طاقتي في تربية الجميع دفعة واحدة، وأن أكوِّن القادة أولاً... النخبة، الطليعة... كنت أرى أن جيشنا لا بد وأن يتضخُم في يوم من الأيام فجأة... فتكون هذه النواة الأولى متخرجة في فن القيادة…
مهما يكن فمن يخلفني؟. لمن أُسلم هذه المهمة التاريخية الخطيرة...؟
قائد الوحدة الأولى...؟ شجاع، قوي، صبور، فطن، يليق للقيادة رغم أنه أُمي... لكن البارحة فقط، كلفته بمهمة قيادة وحدة... لقد نجح في مهمته علي أية حال... الثورة ليس فيها أسبقية، لكن القيادة كالنبوة تتطلب تأهيلا ومناخاً.
قائد الوحدة الثالثة؟. ذاكم فنان سفاح... لن يلبث أن ينفجر.
قائد الوحدة الثانية؟. نشيط، سريع البديهة، يحسن الكتابة باللغتين.
لم يتجاوز الخامسة والعشرين بعد... لكنه يحقد علي رفاقه لأتفه الأسباب... ما يزال معقدا من داره التي تضم ستة وعشرون ذكراً... ذاك ابن ضُرة، مشحون بالبغض والأنانية، همه الكبير إثبات ذاته. لن يليق للقيادة في الوقت الراهن.
لأُعين قائد الوحدة الأولى، وأفصم الأمر.
بعد تأمل طويل، جلس زيدان على رأس الجماعة التي كانت تنتظره بفارغ صبر، وكل واحد، يحاول تصور ما يمكن أن يكون قد جاء من القيادة من أوامر وتعليمات. فخبر وصول الرسول، سرعان ما انتشر بين الجنود ونفحهم بعزيمة قوية... إنهم ليسوا وحدهم فرقة منقطعة، تصغر وتكبر، تجوب الغابات في النهار، وتقتحم السهول في الليل... كلا، إنهم جزء من كل كبير، كبير جداً... يمتد من هنا، إلى أقصى نقطة في هذا الوطن الكبير.
فحص حمو وجه أخيه، فلاحظ ما بدا عليه من تغير... زيدان يفرح ويحزن بوجه واحد، لكن حين ينشغل فكره بقضايا خطيرة، يكتسب وجهاً جديداً... فأي شيء خطير جاء يا تري من القيادة مع هذا الأشقر...؟ قال لي زيدان مرة، أجدادنا يتطيرون من الأشقر والأشهب والأبيض الناصع، ويقطعون طريقهم إلى السوق أو غيرها، إذا ما اعترضهم شخص أو حيوان من هذا النوع... وإلى الآن لا تُحمل العروس إِلا على بغلة سوداء... علل ذلك بالقطيعة التي كانت بين الشعب وبين الدخلاء الرومان... وذكرني بالمثل "أزرق عينيه لاتحرث ولا تسرح عليه"... وقال مرة أخرى إن الرهباني أو الروماني في كل أساطيرنا، أشقر، أزرق العينين... لم يتعلم أجدادنا أبداً لغة الرومان، لكن سرعان ما تعلموا لغة العرب.
- أنا مسافر يا جماعة الخير، سفراً يطول ولا شك... هذه المرة الأولى أترككم منذ استشهد قائدنا الأول عليه الرحمة وانتخبتموني. أريد أن أنيب من يقوم بمهمتي حتى أعود.
وأضاف في نفسه:
إذا ما عدت، فمن يدري؟ هناك الطريق الطويل الشاق، بالإضافة إلى هذه الدعوة العاجلة.
ثم استأنف:
- أنا مسافر يا جماعة الخير، سفراً يطول ولا شك، ويتحتم أن أعيَّن من يخلفني. فكرت كثيراً، وقررت...
- لماذا لا ننتخب هذه المرة أيضاً؟
قاطعه المسئول السياسي. فابتسم وظل لحظة يتأمله... بذور الخير بدأت تنبت. معه ألف حق. هذه النواة ينبغي أن ترتوي من الديمقراطية منذ الآن. تمارسها اليوم لتحترمها غداً، لتحارب بها كلما اقتضى الأمر، كل " نابليون"، وكل "فرانكو"، وكل "بيسمارك" ولتقول لريتشارد الثالث حسناً لقد صعدت العرش ملكاً، لكن لا بد من إجراء الانتخابات. نعم.
- لكن ننتخب حين يكون التعيين نهائياً، أما النيابة فمن حقي أنا.
قال بصوت وقور، فرد حمو:
- أنت تذهب. طريقك طويل، ونحن نبقى هنا.
- أظن أن الأمر يهمنا جميعاً.
- هذا كلام.
قال آخر، فقاطعه قائد الوحدة الثانية:
- أرى أن يعيَّن سي زيدان نائباً عنه.
- نعم.
أيّده قائد الوحدة الثالثة. ففكر زيدان في نفسه... إِذا كان ابن الضرة يخشى الديمقراطية فما الذي يجعل الفنان يخشاها، غير أن لا يكون فناناً إطلاقاً، إِنما رجل أعمال، انتهازي مضارب، لا يفقه معنى قطع سبعة رؤوس في ليلة واحدة؟
- إِذا أصررتم على الانتخابات، فإنني أرشح الرفيق قائد الوحدة الأولى.
لاحظ حمو أن أخاه استعمل لفظة الرفيق بدل الأخ، وأن هذا الاقتراح إلزام، يجعل الانتخاب شكلياً. تأمل القائد المذكور، وحاول أن يستشف بعض ما قربه لزيدان إلى هذه الدرجة، لكنه لم يجد غير وجه صلد كالصوان... ومع ذلك، فكر في رفع إصبعه ليعلن موافقته.
انصبت النظرات على وجه قائد الوحدة الأولى، وسر زيدان لعدم تأثر هذا الوجه الذي اختاره، رغم هذه النظرات الفضولية الثاقبة. وأعلن في قلبه... هذا قائد. هذا قائد.
رغم أنه أمي. هل ينبغي أن أشرح لهم الأسباب حتى أقنعهم، أم أتركهم يواجهون اللغز ليزدادوا إعجاباً به كلما فكوا جزءاً منه؟. لم يقرروا بعد. إنهم يتأملون، حتى الفنان السفاح، حتى رجل الأعمال يتأمل. إنهم يعيشون الديموقراطية... آه، ما أروع ذلك، هذه النواة التي حصل لي شرف قيادتها تصاب بجرثومة الديمقراطية، في أحرج لحظات حياتها... هذه البذرة لن تموت.
- ما دمنا سننتخب، فإنني أقترح أن نرشح أكثر من واحد، اثنين على الأقل.
نطق أخيراً مسئول المالية، فالتفت إليه الجميع. وعلق زيدان بسرعة في نفسه: مسئول المالية، وكل أصحاب الأموال، لا يرضون أبدًا بالمركزية الديمقراطية، وهذا الشاب الذي لم يجد نفسه بعد، يتعلم بسرعة، ويهضم ببطء.
إذن نرشح حمو إلى جانب الأخ مسئول الوحدة الأولى.
أضاف المسئول السياسي، فاحتار زيدان في الموقف الذي ينبغي اتخاذه... إن فرانكو، ونابليون، وبيسمارك، وريتشارد الثالث أيضاً، لا يتورعون عن استعمال المركزية الديمقراطية، ما دام في وسعهم أن يعلنوا عن عدد الأصوات المنتخبة... وجهة نظر مسئول المالية صائبة في هذه اللحظة. إنه يشعر بالضغط من طرفي. يقيناً أن الآخرين أيضاً يبادلونه هذا الشعور... هل أحررهم أم أصدمهم؟ ولماذا حمو بالذات؟ لماذا رشحه المسئول السياسي؟ هل يتملقني، أم يعلن عن ترشيح نفسه لأنه يعلم أنني لا أستطيع ترشيح أخي؟ لكن لماذا لا أستطيع ترشيح أخي؟ حمو فحل ومناضل صامد... جميعهم يدركون خصاله، وإذا ما ترشح فإنهم سينتخبونه بالإجماع، وهو أهل لهذه الثقة. إلا أنه سيترك فراغاً كبيراً في ميدان آخر له أهميته، فقد تتحول المعركة التي نخوضها إلى العمل الفدائي. قد تتغير طبيعة العمل الحربي، فنجد أنفستا كلنا مسبلين... لا يمكن ترشيح حمو، ويجب أن يتعلموا أن القيادة ليست وراثية... لا المهاجرون ولا الأنصار... ليس هناك، لا بيت "لا نكستر" ولا بيت "يورك".
معقول جداً أن يترشح أكثر من واحد، ومن الديمقراطية أن يترشح لمنصب القيادة في مثل هذه الأحوال أكثر من واحد... لكن، وما دام القائد المتمتع بالثقة، قد رشح واحداً، فيبدو أنه من الضروري أولاً أن نصوت على هذا المرشح، هل تفهمون؟ كلكم مرشحون لمنصب القيادة، وكل مناضل يجب أن يكون قائدا، وسترشحون واحدا إثر الآخر، حتى يحصل أحدكم على أغلبية الأصوات... آه، الديمقراطية الحقة أن تخضع الأقلية للأغلبية، لا العكس... هذا واضح، إننا سبعة، لأنني بدوري سأصوت. إذن فالأغلبية المطلوبة هي أربعة، وما دون ذلك أقلية عليها أن ترضخ للنتيجة... هل أنتم معي؟. يجب أن نصوّت أولاً على قائد الوحدة الأولى، ثم نرى... ما رأيكم، هل يكون التصويت علنيا أم سرياً؟.
- سرياً. سرياً.
بادر المسئول السياسي يرد على سؤال زيدان، فأومأ الجميع برؤوسهم يعلنون الموافقة.
أخرج زيدان ورقة جزأها إلى سبعة، وأعلن:
رقم واحد يعني نعم، ورقم اثنين يعني لا. كلكم تعرفون كتابة الأرقام، هيا... لا إمساك ولا تغيب. المسألة لا تتعلق بكم كأفراد، ولكن تتعلق بهذا العمل الكبير الذي تنجزه بلادنا... ها كم الأوراق... من أنجز يضعها هنا، هيا.
راح الجميع يتسترون عن بعضهم، وينهمكون في كتابة أحد الرقمين... ليعلنوا نعم، أو لا بينما انهمك زيدان في تأملهم واحداً واحداً...
حمو سيصوت بنعم، لأنه من ناحية مرشح، ومن ناحية أخرى يعلم أنني سأصوت بنعم. الفنان السفاح، رجل الأعمال، سيصوت بنعم، لأنه أولاً لا يثق في نجاحه إذا ما ترشح، ولأن العملية لا تعني شيئاً كبيراً بالنسبة إليه... مسئول المالية... مدير البنك، سيصوّت بنعم، لأنه واثق من أن السلطة تريد ذلك، ولأن، إعادة العملية تعني بالنسبة إليه، بعثرة الوقت فيما لا يجدي... هذه ثلاثة أصوات، وصوتي الرابع... الأغلبية حاصلة، لا حاجة إلى إضافة أن المرشح سيصوت على نفسه، ولاءً وإخلاصاً لمن رشحه... رغم أنه ما يزال مذهولاً أمام المفاجأة... قلبه الآن أطيب قلب على الإطلاق... المسئول السياسي سيصوت بلا، سيخط رقم اثنين، لأنه صاحب اقتراح تقديم مرشحين، ولأنه ينوي الترشح. هذا طبيعي وإنساني... قائد الوحدة الثالثة سيصوت بلا، حتى على نفسه، لا لأنه يبغض زملاءه فقط، إنما لأنه لا يثق في فعالية صوته، هذا واضح، ابن ضرة، وأخ لخمسة وعشرين.
- الآن نحصي الأصوات... اقتربوا... واحد نعم، اثنان نعم، ثلاثة نعم، أربعة نعم، خمسة نعم، ستة سبعة نعم... الأغلبية المطلقة، الإجماع التام، هنيئاً لك أيها الرفيق.
شكراً لكم أيها الأبناء.
صفقوا بحرارة، وشعر زيدان بقلبه يهتز، وبعينيه تغرورقان، وواصل بصوت جد متأثر:
- يجب أن تحافظوا على هذه الروح، فهي هدف من الأهداف التي نكافح من أجلها وعاملُ من عوامل انتصارنا... والآن أيها الرفيق "السبتي" يجب أن تقول كلمة.
نهض "السبتي"، وسر زيدان لذلك، بينما بهت الباقون... إنه يشعر بخطورة الموقف، ويقدر اللحظة. لذلك لم يبق جالساً، علق زيدان في سره، وهو يتأمله بإعجاب... أجال بصره فيهم، محدقاً في أعينهم وشفاههم، ثم بادر:
- أشكر الأخ زيدان على اختياري لهذه المهمة الخطيرة، وأشكركم على الثقة التي وضعتموها فيّ، وسأبذل كل جهدي لأكون عند حسن ظنكم، بارك الله فيكم، عاشت ثورتنا. الله أكبر.
وسكت فجأة، ليسترجع وجهه ملامحه العادية، وجلس وسط التصفيق الحاد، وخاطب زيدان نفسه وهو يصفق بدوره:
- أضحى قائدا، يفهم الناس كل ما يفوه به، وهذا كل ما في الأمر.
ثم رفع صوته:
والآن إلى العمل... ما أوصيكم به, أن تفكروا قبل أن تشرعوا في العمل وبعد أن تنجزوه. حمو لا بد من إعدام الحركي بعطوش. قدور يبقى مع مسئول المالية، وإن رأيتم ما يخالف ذلك فافعلوا. لا تجندوا واحداً إلا إذا وفرتم له بندقية، تجنبوا الاشتباك مع العدو بقدر ما تستطيعون. اكمنوا له ولا تواجهوه... ولا تغتروا بالانتصارات السريعة. اعملوا على احترام الشعب وعدم إرهاقه. إذا ما رأيتم خلافاً حولكم أو بينكم، فلا تتخذوا إلا الموقف المبدئي: الكفاح ضد العدو قبل كل الاعتبارات، والأقلية يجب أن تخضع للأغلبية.
ألقى زيدان خطابه الوجيز بصوت متهدج ونبرات ملحوظة التفكك، ثم طلب تجمعاً عاماً للجنود... قبّلهم فرداً فرداً، ثم قدّم لهم القائد الجديد، وامتطى بغلة، وأردف اللاز خلفه، وأمر الكابران رمضان أن يردف مبعوث القيادة، الذي ظل حمو ينظر إليه ويردد "أزرق عينيه، لا تحرث لا تسرح عليه" وانحدروا، وقد بدأت سدول الليل ترتخي رويداً رويداً.
* * *

مع العصر، وقف بعطوش أمام الضابط، بعد أن اصطك عقبا حذائه، مصفر الوجه، محوق العينين بالزرقة والجفاف والذبول. رفع الضابط إليه عينيه، وعندما لاحظ أنه لا يحمل شارات رتبته الجديدة، ضغط بقدمه على الزر. انفتح الباب... دخل جندي، فبادره بهدوء، قبل أن يتلقى التحية:
- أطلب لي شارات رتبة سارجان.
أوامركم سيدي القبطان.
وما إن خلا ببعطوش حتى أمره بالاستراحة، ثم بادر:
- البارحة كنت أشجع جنودي، بل ضباطي... نفذت كل الأوامر بدقة، كما ينفذها الجندي المطيع والضابط المخلص.
- سيدي القبطان.
- آه، أريد أن تحمل شارات رتبتك، وتحتزم بغدارة جديدة وتطوف القرية كلها. أريد أن تعربد، وأن تختار أجمل فتاة لتبيت عندها.
- سيدي القبطان.
- سننصب حولك حراسة قوية. لا يهمك.
- سيدي القبطان.
- أريد أن تحتفل احتفالاً عظيماً.
تراءت لبعطوش صورة تلك الغادة اللطيفة "زينة"، التي لمحها البارحة في الملعب البلدي، حيث حشد كامل سكان القرية، وتم إعدام عشرة من أعيانهم فداء للسرجان ستيفان... ثم شعر بالقشعريرة تعتري بدنه وبالاعتصار يذيب قلبه...
- خالتي يا ربي سيدي, خالتى.
تمتم، وازداد لون وجهه اصفراراً.
- ما بك يا سارجان بعطوش؟ أتقول شيئاً؟
كان الجندي قد عاد بعلبة صغيرة، حياّ ووضعها على المكتب، ثم انصرف لينهض الضابط ويتقدم إلى بعطوش.
- سأتولى تعليقها بنفسي. في المساء نقيم مراسم الاحتفال.
- سيدي الضابط.
- بالفعل، أقنعتني بأن مخاوف رجال السياسية مجرد أوهام وهوس. إن قوماً، فيهم أمثالك، خُلقوا من أجل فرنسا... هكذا، هكذا بالرتبة أجمل. سأرقيك أكثر، ستصير ملازماً يوم تأتيني برأس الأحمر اللعين وبذلكم الطفل اللاز مكبلاً، أريد أن أخصيه.
لم يكن بعطوش يتابع كلام الضابط، ذلك أن آلافاً من الإبر الحادة انصبَّت تلسع كامل جسده، حتى قلبه، حتى أمعائه، حتى رئتيه، حتى مخه... كانت صورة خالته عارية بين أحضانه، ما تنفك تبدو أمام ناظريه.
- هاه. يجب أن تطوف في كل أزقة القرية، وأن تطرق، بل تقتحم الباب الذي يروق لك. في الليل أضرب حراسة حولك. هاه. أريد أن أرى إلى أية درجة من الذل يمكن أن يصلها وحوش هذه القرية. أتفهم؟
- سيدي القبطان!
- ماذا؟
- أشعر بالمرض!
- شيء طبيعي، بعد إرهاق البارحة وأتعاب الصباح في الجبل الذي هاجمناه.
- لكن يا سيدي القبطان.
- ماذا أيضاً؟
- إنني أشعر بالجنون.
- أوف. ذلك مجرّد إرهاق. ابدأ جولتك بتناول كؤوس في خمارة موريس... آه سأذهب بدوري لتناول بعض أقداح. هيا معي.
وفي خمارة موريس، شعر بعطوش بالكابوس ينزاح عنه شيئاً فشيئاً، فراح يفرغ قدحه قبل الضابط ومن معه من المعمّرين... استرق أكثر من مرة النظر إلى كتفيه، وعلت شفتيه ابتسامة... آه يا بعطوش راعي العجول. لقد صرت شخصية... إنك أصبحت سيداً معتبراً... الله يبقي الستر... اليوم سارجان... غداً ملازم... بعد غد ضابط كبير... آه يا بعطوش راعي العجول، آه!...
مرة واحدة شعر بالقشعريرة، وبآلاف الإبر تنصبّ على بدنه، حيث بدت له خالته عارية بين أحضانه... طلب قدحاً أخرى تجرعها دفعة واحدة وقدّم كأسه من جديد... مزيداً مزيداً!
- سارجان بعطوش، يجب أن تبدأ احتفالك الآن.
- نعم سيدي القبطان، أشعر بالاختناق هنا... أريد حراسة، فمن يدري مع هؤلاء الوحوش.
- كل شيء على ما يرام، لقد أمرت أن يتبعك ثلاثة جنود، بقيادة كابران، حيثما تذهب. لا تخف أيها البطل.
أردف الضابط، ثم التفت إلى من معه يسليهم بقصة بعطوش مع خالته... يقيناً أن مضاجعة المحرَّمات ألذ شيء على الإطلاق... وارتفعت القهقهات صاخبة رنانة... بينما راح الضابط ينظر إلى سراوليهم، ويعلن في نفسه... لقد أثارت شهوتهم هذه الحكاية... لأوسع في التفاصيل...
ما أن نفح الصقيع ببرودته وجه بعطوش، حتى شعر بالتبلد... إن ضباباً كثيفاً في لون دخان التبن يلفه... عيناه لا تريان سوى الضباب... قدماه لا تطآن غير الضباب... صدره لا يتنفس غير الضباب، الضباب الرمادي الداكن، يلفه... يشعر به حتى داخل بطنه ورأسه.
انطلق يتقاذف في اتجاه، خيل إليه أن هذا الضباب ينتهي في آخره... كان يسير دون أن يدري ما إذا كان يمشي، أم يسبح، أم يطير، أم لا يفعل شيئاً... إنه يقترب من نهاية الضباب، وهذا كل ما في الأمر... لا يرى أحداً ولا يسمع صوتاً، كأنه في العدم، رغم أنه قبل لحظات كان يسترق النظر إلى الأطفال والرجال، ينظرون إليه ويبصقون، ويردد في قلبه كلمة الضابط: وحوش. الوحوش.
- خالتي حيزية. اللعنة على خالتي حيزية. من طلب منها أن تكون خالتي؟ أروع التذاذة عرفتها في حياتي... آه عليها اللعنة. لماذا أشعر بالخجل وبالجنون...؟ ما كنت أبداً أتصورها في مثل تلك الروعة... كانت في الأول بادرة كالميتة، ثم، وفجأة، غمرها دفء عجيب. عليها اللعنة.
أنَّت وطوقتني وتجاوبت معي بشكل فظيع... اللعنة. خالتي حيزية. تركت في أحشائها جنينا ولا ريب... كنت كالوحش. كالحمار. عليَّ اللعنة.
ظل يهذي، حتى بلغ منتهى الضباب... الزقاق رقم ثلاثين. توقف قليلاً عند منزل الشايب السبتي.
هنا تسكن تلك الغادة، زينة. ما أروعها أيضاً. سأتزوجها الليلة. منذ الآن، هنا عندها. سأعيش في هذا المنزل مع أبيها وأمها. أتزوجها دون مهر ودون خطوبة، ودون فاتحة أيضاً... عليها اللعنة، فأنا سارجان. السارجان بعطوش.
وتقدم نحو الباب، لكن الضباب الرمادي الداكن، سرعان ما غمر كل شيء. لم يعد هناك جدران، أو منزل، أو باب، أو زينة، أو زواج. التفت إلى اليسار، هناك لا يوجد ضباب. تقدم خطوات، صعد العتبة، مد يده يدفع الباب. كان مفتوحاً، تقدم خطوة أخرى... كانت خالته حيزية تجلس القرفصاء وسط الحوش، رأسها مطأطأ، وشعرها يتدلى عارياً على غير عادته. لا ترتدي سوى قميص قماشي داخلي... صدرها نصف عاري، ذراعاها يضمان ثدييها، بصرها مطرق في ذهول. كانت خالته حيزية في هذا الوضع منذ البارحة.
- خالتي حيزية. خالتي حيزية.
رفعت بصرها في بطء، وما أن لمحته حتى وثبت مذعورة وهي تطلق صرخة عالية... التصقت بالجدار، ورفعت يديها إلى السماء، وظلت ترتجف في ذعر ورعب.
أغلق بعطوش الباب بالمفتاح، ثم وقف يتأملها. اعترى جسده من جديد تلك القشعريرة، وشعر بآلاف الإبر تنصبّ عليه، وراح يرتجف بدوره... خالتي حيزية. عليها اللعنة. وماذا يهم؟ من طلب منها أن تكون خالتي؟ البارحة كانت في الأول باردة كالميتة، وفجأة غمرها دفء عجيب، أنَّت وطوّقتني وتجاوبت معي بشكل فظيع...
تمتم، وهو ينزع ثيابه في هستيرية. قذف بالحزام والغدارة، ثم فك أزرار السترة والقميص والسروال، وتعرى.
ركض يميناً إلى المطبخ، ثم جرى إلى الكنيف. كانت خالته حيزية في وضعها ما تزال... عاد إلى المطبخ، اقتحمه ثم ولى بسرعة، قابلته فأس قرب كومة الحطب، دخل غرفة المؤونة وخرج، اقتحم غرفة قدّور، ارتمى على خالته حيزية، ألقت بنفسها بين ذراعيه، احتضنها واقتحم بها غرفة عمه، ألقاها على سريره وارتمى عليها كالوحش... كانت تئن وتطوقه وتتجاوب معه بشكل فظيع...
لم يمر كثير وقت.
تركها مستلقية، وسارع نحو المطبخ، حمل الفأس وعاد يلهث. هوى مباشرة على رأسها فتطاير. لم تطلق أية صرخة، لم تئن، ولم تتألم... واصل العمل، هوى على صدرها ففتحه ثم على بطنها فشقّها، ثم على عورتها فطمسها.
كان عارياً، وكان الدم يتطاير عليه، وكان باب الغرفة مغلقاً والنور غير مشعل.
أسرع إلى حزامه، وعاد بالغدارة، وراح يطلق عليها الرصاصات قبل أن يسقط مغمياً عليه، لتقتحم الدورية المنزل، وتحمله إلى الثكنة حيث لبث أياماً... بينما فدائيان أرسلهما حمو، يتربصان به ويحاولان بكل ثمن، إيقاعه في الفخ.
* * *

اعترى زيدان شعور بالقلق على اللاز، الذي يغرق في الذهول كلما تواصل السير، وسأله أكثر من مرة هل يشعر بالمرض، إلا أنه أجابه مرة بإدارة رأسه يمنه وشمالاً، ومرة بابتسامة ذابلة، ولم يجبه في المرء الثالثة والرابعة، واكتفى بالبحلقة فيه، وظل يومين يسترق النظر إليه ويتابع حركاته.
فكّر في الأول، أن سبب هذا التغيير يرجع إلى انقطاع اللاز الفجائي عن التبغ والكحول، ثم راح يطمئن نفسه:
إنه يستوعب الأشياء من حوله... يعيش. إنه يعيش ربما للمرة الأولى لحظات حياته، واكتفى بإلصاق ظهره إليه في ود، بعد أن تساءل:
- لست أدري كيف اصطحبته معي... لقد عزّ عليّ أن أتركه خلفي... آه، كأنما أنا مطمئن إلى نتيجة هذه الرحلة.
ثم راح يشغل نفسه، تارة بالتحدث إلى رمضان عن حرب الهند الصينية، وتارة إلى مبعوث القيادة، الذي بدأ يشعر بالميل نحوه ويكتشف شخصيته المرحة الجذابة، التي حولت كل الآلام التي اعترضته منذ الصبا إلى نوادر وطرائف:
- ماذا كنت تشتغل يا الأشقر؟
- آه عندي حزمه أسماء يا حمريط، منذ عام النخالة(1) والأسماء تطلق عليّ
- هاه، تعرف أيضاً أنني حمريط.
- في القيادة لا تعرف إلا بهذا الاسم.
- حسناً، ماذا كنت تشتغل قبل أن تتجند؟
- أبيع الريح وأقبض الصحيح.
- معلم قرآن إذن. طالب.
- هأهأ... أتعرفون أن الطالب والكلب لا يتعاشران.
ضحك رمضان بصوت خافت، وابتسم زيدان والتفت إلى اللاز يبحث عن مفعول النكتة، فوجده واجماً.
- لا لماذا؟
- بسبب العظام، هأهأ... لا أحد منهما يطمع في الآخر هأهأ، بالإضافة إلى عصا الطالب.
تواصل ضحك رمضان. وكأنما أراد زيدان أن يتخلص من ضيق يشعر به، فبادره:
- ماذا كنت تشتغل إذن؟
- إيه إيه. رأس المحاين... في الأصل راع، ثم لص، ثم قفاء آثار، وفي عام النخالة وسنوات الحرب الكبيرة. اشتغلت بالتهريب والبيع و الشراء وما شابه، ومنذ ذلك الحين أيضاً صرت قصاباً أتبع الأعراس أينما كانت... أتعرف الهوى نالروس(1) أنا مؤلف وملحن هذه الأغنية... إيه، إيه يا الدنيا يا بنت الكلب.
واغرورقت عيناه، وتوقفت الكلمات في حلقة، وأحنى رأسه، ومرّت لحظات صمت قبل أن يتنهد ويضيف:
الذئب يقول "اللي تتلفته اجريه".
هاه. لقد وصلنا قبل مطلع النهار كما قلت لكم... نقضي يومنا في هذا الجبل، وفي المساء يفرج الله.
قال زيدان، وهو يثب إلى الأرض ليتبعه الثلاثة، بعد مسيرة بدأت مع غروب الشمس، ثم تمطط، وتثاءب، وتقدم إلى البغلة لينزع عنها البردعة.
- لا. لا عمي زيدان. أنا، والله أنا... استرح.
فاجأهم اللاز بالكلام، ثم انطلق في رشاقة يفك حزام البردعة. وظل زيدان واقفا يتأمله، والبسمة تتراقص في الظلمة على شفتيه، بينما راح رمضان يقوم بحركات رياضية. في حين انسحب مبعوث القيادة جانباً بعد أن همس:
- اسمحوا لي.
استلقى زيدان، ولحق به رمضان، ثم اللاز، الذي بادر:
- ألا تكتشفنا الطائرات في النهار؟
- في هذا المكان لن نُكتشف أبداً. الغابات كثيفة، والأخاديد عميقة. هنا يستطيع جندي واحد أن يشتبك يوماً كاملاً مع عدة فرق.
رد زيدان في لهجة واثقة، فأضاف اللاز:
- أتمنى أن نخوض معركة في هذا الجبل.
- ذلك فقط ما ليس بمستبعد... هل تحسن استعمال السلاح يا اللاز؟
تدربت في الثكنة على الرشاشة الإيطالية والأمريكية، وعلى "الخماسي" و"العشاري" أستطيع حتى فكها وتركيبها.
- دربته بنفسي، وهو رام ماهر.
علّق رمضان، وتساءل مبعوث القيادة وهو قادم:
- ماذا تقولون؟ ألا تشعرون بمغص في أمعائكم؟
- آه عدت.
قال زيدان، وحمل بندقيته ونهض، وقرّب ساعة إلى عينيه يتبيَّن عقاربها.
- إلى أين؟
بادر اللاز، وكأنما يشعر بالخيبة، بعد أن كان قد قرر أن يضع رأسه على صدر أبيه.
الساعة الثالثة والنصف. أتولى الحراسة حتى السابعة، وبعدها دور رمضان، ثم دور اللاز، ثم الأشقر حتى ساعة انطلاقنا.
تمتم زيدان، وهو ما يزال يحدق في ساعته، فنهض اللاز محتجاً:
- أبدأ أنا الأول.
- لا يا ابني. الحراسة في الليل تحتاج إلى خبرة خاصة، استرح فإنك مريض.
قفز رمضان، وأقسم أن يستريح زيدان وأن يبدأ هو، وراح يحتج بغابات الهند الصينية التي أرهفت سمعه وعلمته معنى الحراسة.
- أنفي يلتقط رائحة سلاح العدو على بعد كيلومترات... الخوف يعلّم الجري يا عمي زيدان.
أضاف رمضان وهو يبتعد، فاستوقفه زيدان وطلب منه أن لا يوقظ اللاز عندما تنتهي نوبته، وأن ينتبه إلى البغلتين وإلى كل حركة تصدر عنهما، فهما بدورهما محاربتان تعلّمتا معنى الخوف.
- تصبحون على خير. الله يهديك يا حمريط، أثرت في نفسي الحزن. إنني أشعر بالغربة وبالحنين إلى قصبتي، يا الدنيا يا بنت الكلب... تصبحون على خير، وفي الأمان سأسافر مع مطلع النهار كما حدثتك يا زيدان.
قال مبعوث القيادة، وابتعد عن زيدان واللاز، واستلقى تحت شجرة وراح يترنم في سرّه بأغنية "الهوى نالروس"، في حين راح اللاز يثرثر بصوت خافت، وزيدان ينصت إليه، ويعجب أن تكون روحه مرحة إلى هذا الحد، وأن يكون طيب النفس إلى هذه الدرجة، ويقارن بينه وبين إخوته السبعة ويتساءل لماذا لا يستطيع أبداً استعمال التحليل العلمي مع اللاز، ولا يحاول أن يفهمه بدقة كما يفهم غيره... ألأنه ابنه يقبله على ما هو عليه، أم لأن عاطفته تطغى على عقله كلّما فكر فيه... يقين، أن المودة التي أشعر بها نحو الكابران رمضان، وهذا العطف والتقدير اللذين أعامله بهما، واللذين ربما يكونان في غير محلهما، مردهما إلى إنقاذه للاز...
- إنني أحب اللاز منذ أمد بعيد، منذ علمت بوجوده... وكثيراً ما تبعته على أن أختلي به وأقبّله، طالما وددت أن أقبله في جبينه. إيه، إيه.
آه يا اللاز دعنا ننم، واسع عندما تكون في ظروف حرب، اسع دائماً لتغتنم فرص الاستراحة... لا تضيّعها أبداً لأنك ستندم عليها.
- لقد نمت خلفك على البغلة أكثر من ساعتين.
- كنت تشخر كالخنزير.
ضحك اللاز بأعلى صوته، فنهره زيدان:
- أسكت. أتحسبنا في عرس.
بيد أنه لم يكفّ عن الضحك إلا بمشقة، وظل يغلق فمه بكمّ سترته، وعندما هدأ تمتم:
- يا ربي سمعنا خيراً.
ثم تساءل:
- لماذا يتوقع الناس المكروه بعد الضحك.
- هاه، ابن أمه، رجعنا لحكايات العجائز.
- والله العظيم، وحق ربي جرّبتها، كلما ضحكتُ كثيراً أصابني مكروه.
- اسكت، متى كنت في غير مكروه.
لا حظ اللاز تضايق أبيه لهذه الخواطر، وتمتم في قلبه:
- يا ربي سمعنا خيراً. يا ربي سيدي أعناّ واحفظنا.
وعندما حاول أن يستسلم للنوم، شعر بوجع في كتفيه وبتقلُّص عضلاته، وتشنج أعصابه، بقشعريرة تلسع كامل بدنه، وبحلقه يجف، وبرأسه يثقل، وبالبرد يهز أوصاله... تثاءب، وتثاءب... هذه المرة الأولى منذ غادرت القرية أشعر بالحاجة إلى الكحول. لقد أفرطت في الشرب طيلة الأشهر الأخيرة، حتى أصبحت لا أطيق عليه صبراً...
قضقض أسنانه، فسأله زيدان:
- ما بك؟ أتشعر بالبرد؟ الطقس دافئ الليلة.
- في جيبي قنينة “ كونياك “ ماذا أفعل بها؟
- آه، شيء طبيعي ؛ حين ننهمك في المعارك والعمل ستنساه... إذ ذاك يتحوّل دمك كله إلى كحول، ولن يطلب منك المزيد. حسناً، أُرشف منها وهاتها. أريد أن أنام. عندنا يا اللاز يا ابني حتى التدخين محرم يستوجب الذبح، فما بالك بالخمر... لكن مع ذلك فإنني بحاجة إلى جرعة. أكبيرة هي؟
- ثلاثة أرباع الليتر.
- أرشف وهاتها. حين تواتينا الفرص، يجب أن نمنح لأنفسنا بعض التسامح حتى لا ننفجر دفعة واحدة... إن الكبت يجمِّد الطاقات ويعجل بالانهيار... لم أذق الخمر منذ سنتين يا اللاز يا ابني... الانضباط شيء والتزمت الديني شيء آخر، إنه يورث العقد الخطيرة. هات القارورة يا اللاز.
شعر اللاز بالدفء يتصاعد إلى رأسه، فابتسم في الظلمة، واسترخى يتابع اختفاء النجوم الفجائية. وبينما هو يحاول أن يجد لها تشبيهاً فيما عرفه في حياته، داهمه النوم. أما زيدان فإنه ما إن تناول الجرعة الأولى حتى شعر بالصفاء يغمره.
ارتشف مرة ثانية، وأغلق القارورة ووضعها على صدره بين راحتيه، وراح يسبح في بحر زاخر بالخواطر والذكريات.
المسئول الكبير، الشيخ. تلقى الجواب من الخارج على تقريره المتعلق بي، وها هو يُرسل لي. لو كان الرد في صالحي، أو على الأقل لا يعير أهمية كبيرة للمسألة، لما أُرسل لي أبداً... جئنا أربعة، يقول الأشقر... لماذا أربعة يا ترى؟. عملية إلقاء قبض ولا شك. موقف الحزب من الانضمام إلى الجبهة هو الذي يثيرهم... لأول مرة في التاريخ يطرح موضوع تكوين جبهة وطنية من أفراد لا من أحزاب... هذا يعني تكوين حزب جديد. إذا كانت الخلافات والتصدعات داخل الحركة الوطنية، تدعو بعض أعضائها إلى تكوين هذا الحزب، فإنه ليس من الضروري أن يطلب من الأحزاب أن تحل نفسها... خاصة ونحن في بداية الطريق، وأن الجزائريين الخارجين عن أي حزب، أكثر من المنضمين للأحزاب والحركات، و يمكنهم أن ينضموا إلى هذا الحزب الجديد... ترى هل أعلنوا الكفاح المسلح من أجل تحرير الوطن، أم من أجل تكوين حزب؟. يريدون ضرب عصفورين بحجر واحد... لكن الطريق طويل وشاق... هذه القاهرة، أُم الدنيا وجدّتها، التي ما يزال اتجاه الحركة التي حدثت فيها غامضاً، هي التي سبقت إلى حل الأحزاب، وأغلب الوطنيين الجزائريين شديدو الحساسية لما يجري هنالك... وضع الشيوعيين في هذا الهيكل العظمي، المسمى بالعالم العربي أو الإسلامي، كان سيئاً، وها هي مصر تزيده تعفناً... أُم الدنيا، جدّتها، تحاول، مرة أخرى أن تبعث موسى، ويوسف، وآريوس(1)، وأفلوطين.
الموقف المبدأي لكل حزب عقائدي ألا يحل نفسه، وفي مثل هذه الظروف لا بد من أسس واضحة وشروط، أبسطها وضع ميثاق عمل وطني، يساهم في تحريره...
ومبدأ الاستقلال الوطني ألا يكفي كميثاق؟.
آه. يكفي، ولكن للعمل في جيش، وفي قيادة، لا في حزب يقوم على حساب أحزاب أخرى... المسألة شكلية... جبهة من أفراد. جبهة من أحزاب. لا المسألة جوهرية... ويبدو لي، أن العداوات والأحقاد الحزبية، تلعب دوراً كبيراً في المسألة، وستسارع الأحزاب الانتهازية البرجوازية، إلى الاستراحة من نفسها، بإعلان الانضمام إلى جبهة الأفراد، وما دام ليس هناك ميثاق، أو أية شروط أخرى، فإنه لا أحد يدري، أي حزب سيتولى قيادة الثورة وأية خصومات ومنازعات واصطدامات، ستشهدها قمة هذا الحزب، وأية كتل وجماعات، ستنشأ كالفقاقيع، بين حين وآخر.
وبالنسبة لحزبنا، أي موقف يجب أن يتخذ؟ هذا السؤال من حق المؤتمر وحده أن يجيب عنه... مسألة شكلية، طريقة كلاسيكية جامدة، فبإمكان المكتب السياسي أن يتحمل مسؤولياته.
أن يعلن حزب عقائدي، عن حل نفسه، وينسحب مناضلوه وإطاراته منه، ليرتموا في أحضان جبهة أفراد، لا يشاركون في قيادتها ـ على الأقل ـ فأمرُ خالٍ من أية حزبية... أمر لا يتوجب أن يطرح إطلاقاً... لكن هاهو مطروح.
يوم التحقت بالثورة، لم أستشر أحداً. لا الحزب ولا غيره، رغم أنني عضو اللجنة المركزية. أوجبت الظروف المحيطة بي ذلك، ففعلت، وإذا ما سئلت، هل انسلخت من حزبي، فسأجيب فوراً بالنفي، وإذا ما طلب مني ذلك، فسأظل أسأل عن الدوافع... لن أنسلخ، ولن أدفع الاشتراك، ولن أسعى لتكوين خلايا جديدة، وسأظل أكافح، من أجل الاستقلال الوطني.
تململ زيدان، ثم فتح القنينة، وارتشف جرعة ثالثة، تلمظ، وظل لحظات، لا يفكر في شيء... حتى تراءت له سوزان في الظلمة، مطلة أحياناً بعينيها الزرقاوين، وأخرى بجبهتها المشعرة، أو بأنفها المستقيم، ومرة واحدة أطلت بوجهها كاملاً... كعادتها لم تكن تضع عليه أي مسحوق، حتى زغب ذقنها لم تنتفه.
أول شخص عثرت عليه في الاغتراب، يوم سُرحتُ من الخدمة العسكرية، وطفت بالقرى، ولم أعثر لا على مريم ولا على عمل، وعدت إلى باريس... لم أكن أعرف أحداً هناك، فظللت أياماً، أطوف الأنهج الواسعة، وأرقب تلاشي نقودي السريع... وفي مكتب اليد العاملة قابلتها، لم تكن جميلة ولا قبيحة، كانت فتاة عادية، أشبه ما تكون براهبة... لا تتجاوز العشرين من عمرها، أنفها ووجنتاها فقط تشبه أنف ووجنتي مريم ابنة عمي... حدقت فيها طيلة أربعة أيام، دون أن أحدثها، كنت أجهل النطق بالفرنسية، رغم أنني أفهم بعض ما يقال حولي. في كل يوم أستظهر لها بطاقة تعريفي، فتدير رأسها في لا مبالاة، معلنة أنه لا جديد حتى الساعة... غيري يدخل ويخرج بسرعة، أما أنا، فأستند إلى الجدار، وأبقى أنتظر حتى يغلق المكتب... وقبل انقضاء الأسبوع ألفتني، وتعودت وجودي معها، تستقبلني وتودعني بابتسامة، وتحمر ووجنتاها، عندما ترفع بصرها، وتجدني أحدق فيها. وفي اليوم السابع، ناولتني ورقة، بعد أن صافحتني للمرة الأولى، وأكدت أن المحل الذي طلبني للشغل يوجد عنوانه في هذه الورقة، ثم أشارت بإصبعها إلى الباب:
- هناك، المكتبة المقابلة.
كنت في الحادية والعشرين من عمري، وكانت وجنتاها وأنفها تشبه إلى حد كبير وجنتي وأنف مريم ابنة عمي، التي قررت أن أسافر إلى الوطن وأبحث عنها وأعود بها، حالما أوفر مبلغاً لائقاً، وأجد سكناً... وما أن بدأت عملي في المكتبة المواجهة لمكتبها، أفرغ الصناديق من العربات، أو أشحنها فيها، أو ألف الطلبات و أحزمها، حتى بدأت العلاقة تتوطد بيني، وبينها... أحييّها كلما جئت، وكلما انصرفت، وأسأل بابتسامة متواضعة عن أحوالها، بدافع شعور العرفان بالجميل، فتؤكد في جملة قصيرة بخير، وتسأل عن شغلي وهل يرضيني، فأعجز عن الرد عليها، سوى بكلمة، حسن، أو شكراً. ولم أكد أتعلم النطق بلغتها، حتى صرت أغتنم فرص الاستراحة القليلة لأذهب إلى مكتبها، فتستغرق في الضحك لنطقي المحرّف للكلمات والجمل، وتسألني، لماذا لا أنكبّ على تعلم القراءة والكتابة، وتلح على أنني شاب، أستطيع بعد عشر سنوات، أن أنال شهادة محترمة.
ذات يوم بادرتني سوزان:
- مر علي، عندما تخرج في المساء.
- حسناً، شكراً.
وفي المساء، طلبت مني أن أصحبها، سارت إلى جانبي بكل بساطة، وبدون أي حرج وكأنها أختي، مسافات طويلة، ثم اقتحمت بي بناية داكنة اللون، وقالت:
- هنا يعلّمون القراءة والكتابة. لن تمر ثلاثة أشهر، حتى تجد نفسك شخصاً آخر. سأعينك، وسأجد لك إذ ذاك عملاً أليق.
- حسناً.
تم ما تنبأت به سوزان. كنت أقرأ من أجلي ومن أجلها. خاصة عندما اصطحبتني إلى منزلها، لأصبح واحداً من الأسرة، مقابل مبلغ تتقاضاه مني أمها كل شهر، أحتل غرفة، وأتناول الطعام معهما على نفس المنضدة... وما أن أعود في المساء، حتى تجلسني أمامها، وتشرع في إعادة تلقيني ما قرأت، أو في شرح نص من النصوص، ثم تطلب مني أن أنسخ صفحة من الكتاب، أو محاسبتها في الصباح قبل الذهاب إلى العمل بمحفوظة.
- ستدخل الجامعة الشعبية، حالما تتخرج من هذه المدرسة.
كانت تؤكد لك كل مساء، وذات يوم، قادتني من يدي إلى دار البلدية، لنسجل عقد زواجنا، وفي كل ليلة، قبل أن ننام تقبّلني، وتهمس في أذني:
- ستدخل الجامعة الشعبية.
إلى أن وجدت نفسي ذات يوم أدرس الاقتصاد السياسي، في الجامعة الشعبية، وبباسطة أيضاً، وجدتني في حلقة ماركسية، ثم في خلية شيوعية إلى جانبها. وقبل أن أتخرج انتُخبت لمدرسة إطارات الحزب، ودرست مبادئ القيادة الجهوية ثم الإقليمية. وليلة احتفالنا بتخرجي من الجامعة الشعبية، همست سوزان في أذني:
- سنرحل إلى موسكو، للدخول إلى مدرسة القيادة الوطنية.
مرت الأمور بسرعة فائقة، وساعد عدم إنجابنا للأبناء، على أن لا أشعر أبداً بأننا زوجان، إنما رفيقان لا غير... وبعد سنة غادرتني في موسكو إثر برقية من باريس، تخطرها بمرض أمها، ولم تعد.
اندلعت الحرب العالمية الثانية، فحرمتني منها، ومن متابعة التعلم أيضاً. عدت بسرعة إلى الجزائر، لأقضي هذه الستة عشرة سنة، عضواً مداوما في الحزب الشيوعي.
- سي زيدان. الأخ زيدان. البغلتان تتحركان، والأشجار تهتز في السفح على الجهة الجنوبية.
انتفض زيدان، وراح ينظر حواليه، ويحاول التأكد من أنه لم يكن يحلم، إنما يعيش ذكريات، ثم نظر إلى قارورة الكونياك، وشعر بالخجل، وهو يرى رمضان يرمقه في حيرة:
- كانت في جيب اللاز كما تعلم.
البغلتان تحركتا، ثم انبطحتا، وأغصان الأشجار تهتز، في السفح على الجهة اليمنى تتحرك على عرض كيلومترات فقط؟.
- حصار إذن، أو محاولة هجوم.
- لكن لا طائرات، ولا محركات عربات أو دبابات، فرنسا لا تهجم هكذا. أعرفها جيداً. الغالب على الظن، أن هؤلاء الصاعدين، باتوا في أسفل الجبل.
- هل من جديد؟
تساءل مبعوث القيادة، وهو يسرع نحو زيدان.
- ألم تكن نائماً؟
سأله زيدان بدوره، فعلق ساخراً:
- صلاة الفاهمين. وداعاً.
أيقظ زيدان اللاز، وأمره أن يتحصن خلف الصخرة التي كانا ينامان تحتها، وأن لا يطلق الرصاص إلا بعد صدور الأمر له، ثم نصب المدفع الرشاش، وأمر رمضان بالإسراع لإلقاء نظرة على الجهات الشمالية والشرقية، وأن يتثبت جيداً مما إذا كان الحصار شاملاً. وسارع هو إلى نقطة الحراسة التي كان فيها رمضان، ليتبين ما إذا كان هناك عدو حقيقي. بينما تمتم اللاز:
- ضحكة البارح لم تعجبني.
* * *

اعتدل اللاز خلف الصخرة، في وضع المعركة، وتأمل بندقيته، ثم مسحها براحته في رفق ولطف، وهوى بشفتيه، يرسم عليها قبلة حارة، وتنهد من أعماقه بعد أن شعر بخفقان قوي في قلبه:
- آه. من كان يتصور هذا؟
رفع رأسه في بطء، وراح يجيل بصره، يتأمل المنطقة التي لم يستطع في الليل أن يتبين منها شيئاً.
هذه قمة القمم ولا شك، كامل جهات الجبل يمكن مراقبتها من هنا... كيف تمكنَّا من الصعود إليها يا ترى؟
هذا الضباب لِمَ ينتشر كوماً، تتكوّر وتتدحرج؟
بعض الأماكن مغطاة به وبعضها لا...
أشجار الزان، تتشابك في خشوع ووقار. تتعانق في ودٍّ ومحبة... الأخاديد، تبدأ من نقطة، ثم تروح تتسّع وتعمق، كلما انحدرت، وعند السفح تتفرع عنها شعاب، كأنها ورقة التبغ.
قرص الشمس أحمر كالتفاحة، كبير رائع، يبدو أنه ملفوف في الحرير، لتتلطف أشعته، ما أروعَه! لا يضيء إلا حزاماً صغيراً حوله في السماء.
الحقول هنالك، بعيداً عن الضباب، مربعات ومستطيلات، منتشرة في اتّساق وبهاء. حصائدُ الشعير تبدو بيضاء مع صفرة، كأنها حليب جاموس... حقول القمح... آه. لا لون لها... فقط تشبه لون العسل الحر... مطارب الذرة، تبرز من هنا وهناك، بخضرتها، وكأنها وشمُ في وجه ناصع البياض.
- يقين أنني كنت قبل اليوم أعمى، لا أبصر إلا وجوه الناس، ولا أرى غير الكبرياء، والمكر، أو الذل والجوع.
وعاد إلى تلمّس بندقيته، ثم إلى لثمها، واستغرق في تصحيح وضعه، والبسمة لا تفارق محيّاه، ولم يتفطن إلى رمضان، حين مر قربه، يخبّ منحنياً، في اتجاه زيدان، الذي كان بدوره، يطوف بمنظاره، متثبتاً من الطرقات، والدروب والمسالك.
- الجهات الأخرى ساكنة.
- آه. هذا أنت.
- ماذا تبينت؟
أسمع حركة، ولكن لا أرى شيئاً. كيف تستطيع أن تميز اهتزاز الأشجار.
- لا تطل التحديق في الشجرة، لكي تميز حركتها غير العادية. راقِب المسالك حيث أشجار البلوط وأغصان أشجار الزان المنحنية، إن من يصعد يضطر إلى التشبث، وسرعان ما يطلق غصناً ليسمك بآخر. هل ترى؟ ألقِ نظرة خاطفة.
- هذا درس جيد.
قال زيدان وهو يمتثل لتعليمات رمضان، ثم أضاف:
- إحدى فرق الثوار، عادت من العمل. أكيد.
- هل ننصب الكمين، أم ننسحب من الميدان؟
- أنتخلى عن مثل هذا الموقع؟
- على أية حال، لا نستطيع أن نخوض معركة ونحن ثلاثة لا غير... الهجوم على عرض كيلومتر.
نستطيع أن نشتبك عدة ساعات، وحين تأتي الطائرات ننسحب. ينبغي أن لا نتخلى عن موقعنا هذا إلا بعد الزوال.
علَّق زيدان، ثم سكت لحظاتٍ قبل أن يضيف مستدركاً:
- لكن هل انتبهت لشيء؟
- لأي شيء؟
- العسكر لا يسعى لاحتلال نقطة مثل هذه إلا بعد أن يقنبلها، يجب أن ننتظر الطائرات أولاً، لكن ليس هنا، ينبغي أن ننحدر بعض الشيء... هل البغلتان في موقع جيد؟
- نعم، لقد سألتك هل نكمن؟
- أنت محارب عظيم يا رمضان. هيا، هذا الموقع يجب أن نحميه، لا أن نحتمي به. هيا، إنك تخطط بالغريزة والتعوّد.
- هكذا فكرت.
- آه. انتظر، انتظر. إنني بدأت ألمح بعض الأشباح. الأول هناك. الثاني خلفه، آهوه. الثالث والرابع على اليمين ببعض أمتار. أتراهم جيداً؟
- نعم. إنهم لنا يا رمضان.
- كيف؟
- ليس على رؤوسهم خوذات... لباسهم غير موحّد... يصعدون في ثقة واعتداد، ينبغي إذن أن ننتظر الدورية الاستطلاعية.
وما أن فرغ زيدان من ملاحظاته، حتى أبصر على بعد مائة متر، عدة أشخاص يسارعون إلى الانبطاح، ويعتدلون في وضعهم.
- هاه. ها هم. انبطح، انبطح.
- حقاً إنهم يتفحصون المنطقة.
انبطح زيدان ورمضان، وأهّبا سلاحيهما ولبثا ينتظران. وبعد هنيهة وقف أحد المنبطحين تحت، وراح يتقدم في حذر وهو يجيل بصره في كل شبرٍ من حوله.
- دعه يقترب أكثر. إنه لنا.
همس زيدان، ثم انتظر بضع لحظات، ليزأر:
- قف.
وأسرع قبل أن ينبطح القادم، يضيف:
- من تكونون؟
- وأنتم؟
كان أعضاء الدورية الاستطلاعية الذين تخلّفوا، يستعدّون لحماية قائدهم، بيدَ أن رمضان قدّر أنه لن يحتاج للقضاء عليهم سوى إلى أربع رصاصات، ذلك أنهم لم يكونوا في وضعية حسنة، أخفَوا رؤوسهم خلف الأشجار، ولم يفكروا في الباقي. فهمس زيدان:
- لا تهتم بحُماته. أمرهم هيّن.
- إنهم لنا على أية حال، ولكن من يدري، فهذه الخلافات اللعينة...
أجابه بصوت خافت. ثم خاطب قائد الدورية الاستطلاعية:
- الأولى أن تصرّح بهويتكم، فكّر في أنك وأفراد دوريتك والفرقة التي تتبعكم محاصَرون كما ينبغي. نحن على كل حالٍ ثوار.
- آه. ثوار، نحن مجاهدون. فرقة الشيخ قادمة من قيادة الولاية.
قال ونهض متقدماً من موقع زيدان ورمضان، بينما همس زيدان:
- إنه يتبجح، فليس من حقه أن يبوح بمثل هذا السر.
* * *

فكَّر اللاز الذي كان يرقب المشهد من وراء صخرته، وهو على أشد الثقة من أنه يستطيع أن يفرغ ألف رصاصة دون أن يتمكن العدو منه، فكَّر أن يضغط بإصبعه على الزناد، بعد أن تردد كثيراً في اختيار الموضع الذي ينبغي فيه أن يصيب هدفه، جبهته عريضة وستستقبل الرصاصة برحابة، لا. في الصدر على اليسار، أخطر موضع في العدو. لكن في السينما يصوّبون النار أولاً إلى اليد ليسقط السلاح.
- المهم أن يُصدر زيدان أولاً الأمر.
لكن زيدان بدل ذلك، وثب من مكمنه متمتماً:
- سي مسعود، مسئول المنطقة الخامسة، يقود الدورية بنفسه.
وتقدم مبتسماً:
- أهلاً. أهلاً سي مسعود. أنا زيدان.
وأضاف في نفسه: المسألة جادة. هكذا إذن. المسئول الكبير الذي جرت العادة أن يلقب بالشيخ... الشيخ هنا بنفسه وبفرقته.
تناول زيدان كتفَي سي مسعود بيديه، وراح يعانقه ويعلّق، كأنما يبرّر لنفسه مثل هذه الحرارة التي يستقبله بها. معظم هؤلاء المجاهدين، وإن كان ينقصهم التفكير الواضح، لا تنقصهم الجرأة وروح التضحية والفداء... إنها لحرب جادة، وإنها لنواة فعلية للثورة، الثورة الحقة الواعية الصادقة المنطلقة حتى النهاية.
وبالرغم من حرارة ترحيبه، فإن سي مسعود أبدى نوعاً من البرودة... لقد سلَّم عليّ بحكم المفاجأة فقط كما يبدو... بل إن أنفه لم يستطيع أن يخفي ما يشعر به من اشمئزاز... الامورُ كما خمَّنت. ليست تيريز دي كيرو سوى... آه، لِمَ أتذكر هذه المنحلة التافهة باستمرار.
أشار زيدان إلى رمضان واللاز بيده أن لا شيء خطير، في حين أرسل سي مسعود إشارة الاطمئنان المتفق عليها للدورية التي تولّت بدورها القيام بهذه المهمة، ليتقدم موكب الشيخ في شيء من الأبهة وفي كثير من الوقار.
لم يسلَّم الشيخ على زيدان واكتفى بمصافحته بأطراف أصابع يده، وكأنما اضطر إلى ذلك اضطراراً، ثم أوعز لأفراد حراسته بتجريده ومرافقيه من السلاح، بطريقة لا تخلو من اللباقة.
- لستم بحاجة في مثل هذه اللحظة لهذه البنادق، ضعوها جانباً.
- ذاك اللاز، وذاك الكابران رمضان. لم يلتحقا بنا إلا منذ أيام قليلة بعد عملية بطولية هزَّت العدو.
علَّق زيدان على العملية في شبه احتجاج. لم يفهمه الشيخ ومرافقوه، ولم يهتمّوا بتعليقه حتى مجرد الاهتمام. لكن اللاز والكبران رمضان ابتسما له في تودد وتعطّف، وكأنما يقولان له إننا نفهم كل شيء، فنحن في حضرة الشيخ وفي قمة القمم، لا تهتم بنا ولا تخش عن معنوياتنا، فهذا أمر جد طبيعي ونحن لا نفهم من الثورة أدنى شيء، إنها من صنعكم وأنتم أدرى بكل ما تفعلون، إذن سنتلقن، وسنظل نثق.
رد زيدان بابتسامة من عينيه، ثم امتثل للأمر الذي صدر عن إصبعي يد الشيخ اليمنى:
- اجلس.
وما أن كاد يفعل، حتى فوجئ بدورية تحيط بخمسة أوروبيين موثقي الأيدي، وتقودهم نحو المجلس.
ألقى نظرة خاطفة على أربعة منهم، وراح يدقق في الخامس... هو... لا... هو...هو القبطان سانتوز، الرفيق الأسباني الذي غادر وطنه منذ سنوات طويلة، بعد أن لبث أشهراً عدة، يروِّع مواقع السفاحين بمدافع باخرته التي ابتلعتها أعماق البحر الأبيض إثر معركة مع الطائرات الألمانية استمرت نصف يوم.
- الأمر في غاية الوضوح إذن.
ثم نهض بدون استئذان، ليعانق الرفيق سانتوز، وهو يشعر على غير عادته، بمزيج من التحدي والاعتزاز والاطمئنان.
- يا سي زيدان، أنا شخصياً أعرفك قبل اليوم، منذ سنوات طويلة ونحن نتعارف... لو أوكل الأمر إلي لما ترددت أبداً في اعتبارك من أشدّنا إخلاصاً... لكن كما حدثتك في المرة السابقة، فقد أرسلت تقريراً.
- آه. وجاء الرد عن القرير. المسألة اجتازتك. فهمت ذلك.
- نعم. ولكن الأمر في منتهى البساطة... بعض كلمات تقولها وتكتبها لا غير.
- هكذا إذن.
- قبل ذلك، بودّي أن تجيبني على بعض الاستفسارات.
- تفضَّل.
- متى وصل رسولي إليكم؟
- اليوم. أربعة أيام. سافرت حالما وصل.
- كنت واثقاً من ذلك، لكن ألم تعلم منه سبب تأخره هذا؟
- الخلافات... لم يحسن اختيار الطريق. استشهد كل مرافقيه بعد مطاردات كثيرة.
- آه، توقعت ذلك أيضاً. وكيف الحال في منطقتكم.
- العمل يسير على أحسن ما يرام. كمائن، هجومات، اشتباكات، ذبح، اغتيال، غُنم متواصل، الشعب في يدنا.
- لا أعني ذلك. لكن فيما يتعلق بالخلافات.
- لم تصلنا بعد، وبالأحرى لم نتجاوب معها. لقد اتخذنا موقفاً مبدئياً، محاربة العدو قبل أي شيء.
- لكن هؤلاء على خطإ. كيف تسمحون لأنفسكم بالعصيان؟
- لم نعصِ أبداً، ولم ننصّب أنفسنا حكاماً. إننا في انتظار الأوامر.
- دعنا من هذه القضية. لنرجعْ إِليك.
تأمّل زيدان سانتوز، وود لو يسأله عن رأيه في تيريز دي كيرو، إِلا أنه بدل ذلك لام نفسه على السماح لمثل هذا الموضوع التافه أن يسيطر على فكره، ثم استعاد بعض أسئلة الشيخ المتعلقة بالخلافات، وفكّر في جبهة الأفراد وفي الأحزاب الرجعية والبرجوازية. ومرة أخرى تساءل: لو لم يكتب فرانسوا مورياك تيريز دي كيرو، فماذا يمكن أن يكون عوضاً عنها من الأدب الفرنسي... ولام نفسه أيضاً.
- نعم. ما إن وصل الرسول، حتى هرعْت. ولحسن الحظ التقينا هنا وربحنا نصف الطريق.
- لقد اضطررت إلى المجيء بسببك أولاً، وبسبب هذه الخلافات ثانياً. لقد تأخرت.
- الرسول هو الذي تأخر.
- كنت أخشى من انضمامك إلى العصاة.
- إلا هذا.
ظل زيدان للحظات يكرر الجملة: إلا هذا إلا هذا، بينما راح الشيخ يتأمله ويطيل النظر في عنقه. لو لم يزاحمني في انتخابات 1947 لفزت... على أية حال، هذه أمور قديمة، لا يمكن أن تتدخل الآن في شؤون الثورة... أي نعم، الإخلاص والنزاهة يحتمان ذلك. وتوقف بصره على عنق زيدان مرة أخرى، بينما استغرق هذا في تأمل اللاز ابنه في وضوح الشمس... كان يتأمله بنهم، وكأنما لم يره منذ مدة طويلة، كأنما لم يسبق له أن رآه... وجهه مستدير يميل إلى البيوضة، أنفه عريض قصير، شفتاه غليظتان، عيناه بنّيتان واسعتان تزيَّنهما أهداب سوداء طويلة وحاجبان متلاصقان... يشبه أُمه، وليس فيه من ملامحي سوى الدم... هذه الخدوش المتقاطعة في وجهه لم يلتئم بعضها بعد، لا شك أنها تؤلمه... المسكين. طالما تألم.
لم ينتبه اللاز إلى نظرات أبيه، ولم يكن في إمكانه أن يفعل، فقد بدأ الظمأ إلى الكحول يعاوده... كان يشعر بعضلاته تتقلص، وبالبرودة تسري في ظهره مع العمود الفقري، وتتركز عند كتفيه، وبالانقباض يستولي على أعصابه، وباللعاب يتكاثر في فمه.
اهتز في انتفاضة صغيرة وقضقض أسنانه. لاحظ زيدان ذلك فقال في قلبه: المسكين. سيعاني كثيراً قبل أن يتخلص من هذه الاضطرابات. وسأله جندي كان يجلس قربه ليحرسه:
- ما بك؟ هل أنت مريض؟
حدَّق فيه ولم يجبه، وفكر في جرعة ولو صغيرة من القارورة التي في جيب أبيه وفي لفافة من التبغ الأسود القوي.
أمر الشيخ أحد نوابه، فأبعد اللاز والكابران رمضان في الحين وأخلى المكان، بعد أن تشكّل من بعيد شبه أهلّة من الجنود للحراسة ولتهديد زيدان والأوروبيين الخمسة. أطرق الشيخ قليلاً، ثم قال باللغة الفرنسية وبصوت جد خافت:
- اتُخذ القرار في شأنكم. بالنسبة لزيدان لا بد من تبرؤه من العقيدة وانسلاخه من الحزب وإعلان انضمامه إلى الجبهة... وبالنسبة لكم أنتم، التبرؤ أيضاً، والدخول في الإسلام.
كان لكلمات الشيخ الموجزة وقعُ الصاعقة في نفوس الأوروبيين، أما زيدان، فلسبب ما، ارتسمت على شفتيه الرقيقتين ابتسامة قصيرة، ثم قطب حاجبيه وراح يحدّق بصرامة في عيني الشيخ الذي أضاف:
- لكم الخيار في أن تجيبوني فوراً، أو أن تجيبوني فيما بعد.
- هذا جنون!
- كيف يفكر هؤلاء الناس؟
- ما معنى كفاحكم إذن؟
ردّد ثلاثة أوروبيين، وفضّل رابع الصمت، بينما استرق القبطان الإسباني نظرة إلى زيدان كأنما يحيل عنه كل القضية، بينما عقد هذا أصابع يديه وقال بالفرنسية أيضاً:
- وإذا لم تتم الاستجابة لهذه الطلبات، فهل هناك حل آخر؟
- آه. نعم. الذبح!
قال الشيخ بهدوء، فرفع الأسباني رأسه وتساءل:
- وهل يمكن أن تصدِّقونا بسهولة إذا أعلنّا لكم عن استجابتنا لرغباتكم؟
تكتبون بياناً تدينون فيه مواقف أحزابكم، نتولى إرساله إلى الصحافة العالمية. نعم نصدّقكم بسهولة، ولم لا.
- هكذا إذن؟
علَّق القبطان الأسباني، في حين قال زيدان:
الذبح للخونة وللمضادين للثورة، أما نحن... أما نحن فبأي عنوان نُذبح؟
لسنا في مجال مناقشة يا زيدان. أمامنا أمر يجب أن ننفذه جميعاً.
رد الشيخ في صرامة. فتساءل فرنسي كان مزارعاً:
- نحن متطوعون جئنا نعينكم، إذا لم تقبلوا تطوُّعنا وإعانتنا، لا يجوز لكم أن تساومونا في حياتنا وعقائدنا.
- لسنا بصدد مناقشة قلت.
كرَّر الشيخ، فساد الصمت لحظات ليقطعه زيدان:
- أنا شخصياً لم ألتحق بالجبل باسم حزبي.
- وأنا أيضاً.
تمتم الباقون، كل على حدة، فعلق الشيخ في هدوء تام:
- رغم أنه لا مجال للنقاش، فإنني أسألكم، وخاصةً أنت يا زيدان، هل انسلختم عن الحزب قبل ذلك؟
- ولكن اسمح لي، هل يوجَّه هذا السؤال إلى كل من يلتحق بنا؟ أنت مثلاً هل أعلنت انسلاخك من حزبك أم اكتفيت بالالتحاق بالجبل فقط.
أسرع زيدان إلى التعليق على سؤال الشيخ الذي رمقه بنظرة ساخرة، في حين بادر القبطان الأسباني:
- ولكن ما الداعي إلى هذا الانسلاخ المطروح علينا هكذا؟.
- آه. نعم. هذا سؤال موضوعي. لقد قررنا حل الأحزاب جميعها وتكوين جبهة موحّدة.
- وطبعاً الحزب الشيوعي الأسباني، أمر حلّه أو منعه موكول إلى فرانكو وحده وليس لكم.
تساءل الأسباني، وأضاف أحد الفرنسيين:
- وهل قررتم أيضاً حل الحزب السوفياتي؟
ابتسم الجميع، في حين اعتدل الشيخ في جلسته وواجههم:
- إنكم تتهربون بصفة غير موضوعية عن صميم القضية. الحزب الشيوعي الجزائري يرفض حل نفسه ويعارض الثورة.
- لا يعارضها، إنه بدوره يخوضها.
علَّق زيدان فبادر الشيخ:
- ليكن ذلك، ولكن هل تنكرون أنه يعرقل وحدة الصفوف في مثل هذه المرحلة الحاسمة؟
رغم أنني في انقطاع تام يزيد عن سنتين عن الحزب، فإنني أستطيع أن أؤكد أن أمر تكوين جبهة من الأفراد وليس من الأحزاب غير مفهوم... لقد اضطرّتكم خلافاتكم مع قيادة حزبكم إلى تكوين حزب جديد، على حساب جميع الأحزاب، وعلى غرار حزبكم المنهار أيضاً. الكفاح المسلّح الذي توفرت شروطه فاندلع شيء، واستغلال هذا الكفاح لتكوين حزب وحل جميع الأحزاب الأخرى، شيء آخر.
- هذا هو بالضبط موقف حزبك.
علَّق الشيخ على كلام زيدان، وأفسح المجال لأحد الفرنسيين ليتساءل:
- طيب، وما ذنب باقي الأحزاب العمالية وباقي الشيوعيين؟
- هذا سؤال.
قال الشيخ، ثم أضاف:
- الحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الجزائري شيء واحد.
- لا. ليسا شيئا واحداً.
عارض زيدان، وتساءل القبطان الأسباني:
وبالنسبة للحزب الشيوعي الأسباني، ما قولك؟
- كلُّكم شيوعيون، كلكم على السواء، وقد جئتم إلى ثورتنا لتخرّبوها.
علًّق الشيخ، منفجراً، ثم أضاف:
- باختصار. ما هو موقفكم؟ ما هو ردّكم؟
- أريد شخصياً أن أحاكَم. كعضو من هذه الثورة، وليس كأجنبي عنها، هذه سنتان مرّتا...
قال زيدان، وعقب باقي الأوروبيين:
- نحن أيضاً.
فتساءل الشيخ:
- أفهم من هذا يا زيدان أنك ترفض التخلّي والانسلاخ.
- لم أقل ذلك.
- ما هو ردك إذن؟
- أطلب أن أُحاكَم كعضو من هذه الثورة.
لم تُقبل بعد عضواً في الثورة. الأمر يتوقف على ردّك.
أخذت المناقشة التي رفض الشيخ المسئول فتحها، تحتدّ، لكن في غير صالح زيدان ورفاقه، وكانت نظرات وإشارات الشيخ عدائية، رغم الحياد الموضوعي الذي أظهره في الأول، لذا رأى زيدان أن يتحاشى جعل القضية شخصية بينه وبين الشيخ، فقال بالعربية:
إننا نتعارف منذ سنة 1945، ورغم اختلاف وجهتَي نظر حزبينا في كثير من الأمور، لم تكن بيننا سوى المودة... فكيف نختلف اليوم بهذه الصفة بعد أن جمعت بيننا مثلُ هذه الظروف؟ تعرف أنني أكذب عنك وعن الجميع إذا أعلنت ما طلب مني، فكيف يُعقل أن اضطر للكذب...
بينما راح زيدان يواصل كلامه في هدوء مفتعل، كان الشيخ يركِّز بصره في عنقه، ويفكر في قضايا أخرى... لعله كان يرجع بذاكرته إلى انتخابات 1947، ولعله كان يفكِّر في مسألة الخلافات التي حدثت وأدّت إلى الاصطدامات المسلحة بين المجاهدين... ولعلِّه كان يفكِّر في غير ذلك... إلا أنه في الأخير نهض وطلب سي مسعود، مسئول المنطقة الخامسة، ومساعديه، وبعد استشارات خفيفة، عاد بهم.
حدَّق في الجماعة واحداً واحداً، وأطال التحديق في زيدان، ثم قال أخيراً:
- قررت أن أمنحكم مهلة أربع وعشرين ساعة... لكم أن تفكِّروا كما تشاءون، وأن تناقشوا القضية من جميع وجوهها. غداً في مثل هذا الوقت أريد قراركم، إن كنتم من الثورة، فاعلموا أن الجبهة تدين الحزب الشيوعي الجزائري... فيما يخصّك أنت يا زيدان، أريد أن تعلم أنني أتأسف لك كثيراً، وآمل أن لا تركب رأسك.
استدار الشيخ، وانصرف دون أن يترك الفرصة لأحدهم في الردّ أو التعليق، بينما شهر سي مسعود بندقيته في وجوههم، وطلب منهم أن يصطحبوه.
- إلى أين؟
تساءل زيدان، فردَّ عنه:
- إلى حيث يتسنى لكم أن تفكِّروا بهدوء. لدينا مغارة واسعة نحتفظ فيها بالمئونة والعتاد... ستقضون فيها ساعاتكم الأخيرة.
- الأخيرة؟
قال زيدان، إلا أن سي مسعود لم يأبه له... أشار إلى بعض الجنود ليعينوه على إِيصالهم، وفي الطريق القصير ظل زيدان يرجوه أن يولي عناية خاصة بمجند حديث، قام بعمليات بطولية في القرية. أُلقي عليه القبض، وفر من مخالب الموت...
اسمه اللاز. قل له أبوك رحل في مهمة وسيعود غداً. اللاز ولدي يا سي مسعود. أرجوك.
توقفوا عند صخرة كبيرة، حيث أمر سي مسعود الجنود بزحزحة عدة صخور مختلفة الأحجام عن مكانها، وعندما تم ذلك، وبان مدخل المغارة الضيِّق قال لزيدان ورفاقه:
- تفضلوا. إنه مخزن المنطقة كلها. وهو كهف واسع طويل وعريض، إذا ما احتجتم إلى النور، فهناك شمعات على يمينكم.
دخل زيدان الأول، ولحقه القبطان الأسباني، وتنحّى الفرنسي المزارع ليبقى الأخير. ألقى نظرة على الشمس الصاعدة نحو كبد السماء، قبل أن يدلّي رجليه ويدخل، لتنغلق المغارة وتنصب حراسة مشددة حولها.
* * *

قضى بعطوش أربعة أيام مهولة في الثكنة، كان خلالها بين يقظة ونوم، وبين واقع فظيع وحلم مرعب. لايميِّز شيئاً، الليل والنهار، الصباح والمساء، الزمن كله عبارة عن غدير راكد، والأشخاص والأشياء من حوله بقع سوداء جامدة. فقط، كان يحس بتصدع كبير في داخله، بخندق عظيم في صدره وفي رأسه، كذاك الذي تتركه قذيفة نابالم في بناية متداعية.
إنه لا يذكر بالضبط ما حدث. لا يستطيع تذكره، لا يجد الجرأة الكاملة في نفسه على استعادة حتى أبسط جزئيّة من جزئياته، إنما كان يحسّ بثقله ككل، ككل عظيم، مهول، فظيع... يحاول أن يتحاشاه، فينفعل، ترتجّ أعصابه، وتتقلّص عضلاته، وتهتز أعضاؤه، ويجفّ ريقه، فيتمنى الهروب، يتمنى الذوبان والانعدام.
كان في حالة جنون حقيقي... لا ينفكّ يتنهد ويضرب فخذه بيده، أو يضرب على الأرض برجله بقوة وعنف، أو يضع يديه في عنقه، وينهمك في محاولة خنق أنفاسه، أو يقرص ذراعه أو أي موضع في بدنه. يخفي رأسه في الوسادة لحظات طويلة، ثم يعضّها ويرفعها بأسنانه، ويطلق صرخات توجُّع، ويهمد، لتعتريه شبه إغماءة، يرى نفسه خلالها أنه يطير إلى فوق، في عالم ضبابي كثيف. وما أن يحلو له الطيران ويحاول الإسراع فيه، حتى يجد الضباب قد انزاح من حوله ولم يبق إلا الفراغ، فيهوي، دفعة واحدة ويعلو صراخه.
كان الضابط يزوره بين ساعة وأخرى، أحياناً يكتفي بمراقبته من النافذة، وأحياناً يدخل الغرفة التي خصصها له، فيواسيه بكلمات، ثم يملأ له قدحاً من الكحول ويأمره بتجرّعها، معلناً أن الدواء الوحيد في مثل هذه الحالات هو النسيان، وأنه لا أحسن من السُّكْر لنسيان الآلام الروحية، فيحدّق فيه بعطوش ثم يتنهد، ثم يتجرَّع الكأس، ثم يخفي رأسه أو يغمض عينيه، أو يضرب يداً بيد. ويرتمي في الفراش أخيراً، ليغادره الضابط بعد أن يملأ له كأساً أخرى.
وفي مساء اليوم الرابع، بدأ يحس شيئاً فشيئاً بالوطأة تخف. كانت النوبات العصبية تقل، وكان يشعر أحياناً بانطلاق عجيب، فيضحك ويغني ويثرثر، وأحيانا أخرى تداهمه على حين غرّة الغيبوبة، أو بالأحرى يغمره الضباب، فيملأه من الداخل ويخنقه من الخارج، ويظل لحظات طويلة مطرقاً في إسهام ووجوم.
لاحظ الضابط ذلك، فأكثر له الخمر، سقاه عدة قوارير في فترة قليلة، ومع أنه لم يسكر حتى يفقد وعيه، فإنه تخدَّر بشكل عجيب، فلم يعد الإدراك ينفذ إلى عقله، إلا من خلال ومضات خاطفة، من حين لآخر... صارت المرئيات كلها تتلاشى في عينيه، بسرعة فائقة، رغم محاولاته في استبقائها أمامه والتثبت منها، والتفلسف في شأنها، في بعض الأحيان.
تأمل السرير الذي كان مستلقيا عليه، وحاول تشبيهه بشيء ما، إلا أنه لا يدري كيف تلاشى ذلك السرير اللعين... تأمَّل الضابط، وحاول أن يعدَّ النياشين التي في صدره، وأن يسأله عن مناسبات حصوله عليها، إلا أن الضابط سرعان ما اختفى من أمامه... تأمَّل مرة كرسياً، واستطاع أن يحتفظ به بين عينيه، حتى يتساءل، لو كان برجلين فقط، هل يفعل معه الإنسان ما فعله مع الدراجة، إلا أنه سرعان ما اختفى الكرسي، وتراءت له دراجة بأجنحة... سأله الضابط عدّة أسئلة، قرَّر أن يجيبه عنها، إلا أنه لسبب أو لآخر، ابتسم عدة ابتسامات متتالية، ثم انقبض وظل صامتاً يحدّق في الضباب.
الشيء الوحيد الذي طرأ على بعطوش هذا المساء كما لا حظ الضابط ذلك، وكما استطاع هو نفسه أن يلاحظ، هو أنه لم يعد يتألم بنفس الحدة التي تألم بها طيلة الأيام الثلاثة التي مرَّت.
كان هادئاً إلى حد جعله يتصوَّر أنه في حالة نوم، وأنه ليس في حالة يقظة، وأن كل ما مر أو يمر عليه، إنما هو مجرَّد أحلام ورؤى.
مدّ الضابط له يده وأنهضه قائلاً:
من الأحسن أن تغادر هذه الغرفة وتطوف في أرجاء الثكنة، تتنفس الهواء النقي وتتأمل السماء الزرقاء. هيا غادر هذا القبر المشئوم.
طاوعه بعطوش، وظل يسير بخطوات متثاقلة بطيئة، مرفوع الرأس إلى السماء، لا يدري أحد، ما إذا كان فعلاً يتأمل الزرقة وقطع السحب البيضاء المنتشرة هنا وهناك في أشكال متعددة، أم يتأمل أسراب العصافير المتراقصة في استعراضات جميلة، أم يرفع رأسه لمجرد الامتثال لنصيحة الضابط.
وشيئاً فشيئاً، وبعد طواف طويل، قد يكون استغرق ساعتين، وقد يكون أكثر، ومع الخيوط الأولى للظلمة، بدأ يستفيق، ويستعد وعيه، أو بالأحرى بدأ يتأمل ما حوله ويستطيع الثتبث فيه، بل، وأكثر من ذلك صار في استطاعته أن يسترسل في تصور ما، أو في نسج خيال من الأخلية.
ميَّز أولاً وقع الأقدام الغليظة، وحدّد موقعه، حتى بات على يقين من أنه في ثكنة، وبالتالي، إنه بدوره يشكَّل عضواً من أعضاء هذه الثكنة، وأنه بعطوش الذي كان في وقت ما راعي عجول، والذي انضم منذ أشهر إلى فرقة "القومية" ومع أنه كان يجب أن يعمل في إطارها، فإن الضابط اصطفاه مع آخرين، ليعملوا تحت قيادته... وليكلفه في الحقيقة بمهمة اكتشاف شبكة تهريب العساكر من الثكنة.
نعم. إنه بعطوش. هو بعطوش الذي يحمل على كتفيه شارات عريف. نعم.
بعد أن تأكد من ذلك، راح يتأمل مصادر وقع الأقدام... بدا له في الأول الجنود صغاراً كالأطفال أو كالأقزام، ولكن سرعان ما استرجعوا شكلهم الاعتيادي وحجمهم الطبيعي، وتعرَّف على بعضهم، ورد على تحياتهم بابتسامة ذابلة، ورفع مرَّة يده محيياً الضابط، وهو يمر قربه. إلا أن هذا ربّت على كتفه وهمس في أُذنه:
- واصلْ جولاتك، فإنك على أحسن ما يرام. سنسهر معاً الليلة.
وواصل نقل خطاه بتؤدة، قاطعاً الثكنة جيئة وذهاباً متأملاً ما حوله. َ
براميل البنزين هنالك ليست في وضع لائق... المفروض أن تكون في مخزن كبير، لا أن تغطىّ هكذا فقط بهذه الخيمة... ماذا لو تقذف بقنبلة يدوية؟
إذا ما اشتعلت، فإن الثكنة ستنسف... ما أروع أن يحدث ذلك.
عربات الشحن الكبيرة هذه، المصطفة الواحدة تلو الأخرى، محنية أنوفها كأنها تتشمم التراب، ماذا لو تتطاير الآن شظايا شظايا.
ذلك لا يحدث إلا إذا وضعت فيها ألغام.
آه. هذه الدبابات الدكناء، الرابضة كالأفاعي، انفجارها يكون أكثر دوياً من انفجار العربات.
هذه الجدران، ماذا لو تذوب الآن، جدارا بعد جدار؟ فقط، الألغام، أو الزلزال، يُحدِث لها ذلك.
توقف لحظة، وسأل نفسه، لماذا يفكِّر في ذلك، لماذا لم يخطر بباله غير هذه الخواطر البشعة... وأجال بصره بسرعة حول البراميل والعربات و الدبابات، ثم واصل خطاه دون أن يجيب نفسه.
لو كانت القنابل اليدوية في حجم أقراص دواء الصداع لكان في استطاعة المرء أن يبتلع واحدة أو اثنتين منها، وينتظر انفجارها في صدره.
بم... بم...
ذلك فقط يخرج كل ما في القلب دفعة واحدة.
وتوقف أيضا... لِمَ كل هذا... وقطب حاجبيه، واستأنف سيره بخطوات سريعة حين تذكَّر أن ضميره مثقل بشيء ما، فظيع، لا يمكن أبداً تصوُّره أو استحضاره... ولحسن الحظ، استوقفه جندي جزائري، وسأله بعد أن أدَّى له التحية:
- هل شفيت، سارجان بعطوش؟
- الحمد لله. الحمد الله لماذا يا علاوة؟
كيف لماذا؟ لقد تألمنا جميعاً من أجلك... إذا ما شفيت أطلب لنا رخصة السهر خارج الثكنة. تعرف أين...؟ لم أغادر الثكنة، هذه أربعة أيام.
- أُنظر إلى تلك البراميل.
- ما بها؟
- إنها ليست في وضع حسن. انظر أيضاً إلى العربات.
- وما بها أيضاً؟
- إنها تتشمم رائحة التراب، ألا ترى أنها تنتظر الزلزال.
- ربما.
- وهذه الدبابات. إنها تتأهب كالأفاعي.
- هل نخرج الليلة، أم غداً صباحاً يا سارجان بعطوش؟
ألا تتصوّر أبداً قذف هذه البراميل بقنبلة، أو بثقاب، أو تطاير هذه العربات و الدبابات من جراء انفجار ألغام في قلبها؟
- ليس ذلك مستحيلاً يا سارجان بعطوش. تصبح على خير.
تركه قبل أن يسأله عما إذا كان لا يتصور قنابل يدوية، في حجم أقراص دواء الصداع... وما إن خطا الخطوة الأولى حتى توقف مرة أخرى، وراح يسأل نفسه متعجباً... كيف تأتيه مثل هذه الخواطر، وكيف سمح لنفسه أن يبوح بها لعسكري آخر.
وكما لو نسي ذلك، واصل سيره مرهِفاً سمعه، كأنما ينتظر حدوث انفجار في كل ما حوله... إلا أنه بدل الانفجار انبعثت موسيقى الإيذان بإنزال العَلَم.
أسرع الضابط والعساكر إلى الساحة، وتقدمت كوكبة من الجنود، وبعد أن أدَّى الجميع التحية، خطا قائد الكوكبة خطوات إلى الأمام، ومدَّ يده ينزل العلم.
حياّ بعطوش أيضاً العلم، وشعر بنوع من التأثر لم يتعوَّد الشعور به، لعلّه لأنه يحيي لأول مرة العلم الفرنسي، وهو برتبة... إلا أنه مع ذلك فكَّر في غطس العلم في البنزين، وإشعاله، وهو هكذا في السماء يرفرف.
وما أن أبعد هذه الفكرة عن ذهنه حتى تراءى له أن الأرض تنشقُّ تحت أقدام الضابط، وكل ما حوله من العسكر، وتبتلعهم فجأة... أما هو، فإنه يتناول عدة أقراص من القنابل، وينبطح على ظهره، وينتظر الانفجار. الانفجار المهول المريح.
- آه. مماذا.
سأل نفسه في استنكار، ثم واصل الخطو... كانت مراسيم إنزال العلم قد تمَّت، فتأمله الضابط ملياً، وقال في نفسه:
أطول وأعرض من اللاز.
وبعد برهة أضاف:
- يسهر عندي الليلة ويبيت معي... يجب أن يتعوَّد ذلك، لن أجد أحسن منه لتعويض اللاز.
ثم تقدم منه، وسار إلى جنبه بضع خطوات، وقال له في شبه أمر:
- ستتعشى معي. واصل طوافك، وسأطلبك بعد حين.
ثم مرّ وتركه، بينما كان بقية العساكر، فرنسيين وهم الأغلبية، وبعض الجزائريين المسخَّرين، وآخرين من المتطوعين أو القومية، يسارعون نحو المطبخ لتناول طعام العشاء.
كان الانقسام واضحاً، الضباط وضباط الصف في جهة.
الفرنسيون في جانب والجزائريون في آخر. المسخّرون في ركن والمتطوعون في ركن. أما القومية وعددهم ثلاثة لا غير يعيشون في الثكنة لظروف أو لأخرى ـ فإنهم استقلُّوا بمنضدة في الوسط، ولم يجلس حولهم أي أحد.
تبادل المسخَّرون بعض نظرات استثنائية، وهم يداعبون الملاعق والشوكات والكؤوس والصحون الخاوية ومناديل الورق، ولكن مع ذلك ظلوا صامتين، محاولين إبداء نوع من الرضا والاطمئنان. كان التكلف في الحقيقة يبدو واضحاً عليهم... إن غرابة الجو والبيئة متأكدة بالنسبة لهم، ولكن الوحدة التي يفرضها الموقع والوضع، وخاصة اللباس، وأكثر من ذلك نوع القبعات المستطيبة والمجوَّفة من الوسط، لا يستطيع إنكارها أحد.
انطلقت تصفيرة من ركن الضباط، تردد في شجى لحن الأغنية الإنقليزية الشهيرة ـ من يعش ير ـ وترنم عسكريُّ يجلس قريباً منهم بمقطع حزين لإيديت بياف. وترنم قومي لا شعوريا بلحن أغنية برزت في أعقاب الحرب العالمية، دون أن يعرف أحد مصدرها تمجِّد الأمريكيين والأوروبيين وتذم العرب.
مطلعها:
ما ناخذش العربي لباس القاعة ناخذ الجوني ( الأمريكي) يمشي بالساعة
ما ناخذش العربي رجلين الراطو نأخذ الجوني وكال القاطو ( الحلويات )
- بعطوش في أحسن ما يرام هذا المساء... السارجان بعطوش.
قال أحد المسخّرين، فرد عليه آخر:
- هل طلبتَ منه أن يستأذن لنا في الخروج؟
حين سألته، راح يحدثني عن تصوّر براميل البنزين تلتهب، والعربات والدبابات تنفجر.
- السارجان بعطوش!
- نعم السارجان بعطوش يقول إن العربات والدبابات تتشمم الأرض... منتظرة للزلزال
- لا تتحدث في مثل هذا. إنه مجنون.
نَهَره أحدهم، وراح يغيَّر مجرى الحديث:
- هل رويت عنكم هذه النكتة؟
- لا.
- أية نكتة.
- قل لا وكفى، لماذا تسأله عنها؟ فنكته دائماً تجدِّد طرافتها، حتى أنت...
استمعوا إذن. شيخ مشعوذ قهر القرية بادعائه الإطلاع على الغيب والكشف عن الأسرار مهما كانت. يقال إنه متزوج مع جنيه مسلمة، ويقال إِنه صديق عدة شياطين يهود... حاول يوماً بعض شبان القرية أن يختبروه.
- هل كنت معهم؟
- دعه يتمم. حتى أنت...
- وضعوا برتقالة تحت قصعة خشب، وأحضروه، طالبين منه أن يعطيهم البرهان الأخير بالكشف عما تحت القصعة. احمرّ واصفر. تصبّب عرقاً، حدّق ملياً في السماء متمتماً ثم قال:
- مدورة مكورة.
- الحلّوف.
- آه سيدي الشيخ زد. زد.
احمر واصفر. تصبب عرقاً، حدَّق في السماء أيضاً وأضاف:
- مستحمرة مستصفرة.
- الحلوف.
- آه سيدي الشيخ. زد زد... انك توشك.
- رفع يده إلى السماء وتلا تعاويذ وعزائم، ثم قال:
- وفي قلبها الماء.
- آه سيدي الشيخ. انطق بها. انطق بها.
- وهل نطق بها العفريت؟
- لكن مع ذلك لم يسمها، وبعد عزائم وتعاويذ، واحمرار واصفرار، وعرق وجفاف، أدار رأسه يميناً وشمالاً قائلاً: هذا ما علمت.
- آه يا سيدي الشيخ. مدورَّة مكوَّرة، مستحمرة مستصفرة، في قلبها الماء، لقد وجدتها... أعنها بفكْرك قليلاً تجدها.
- نعم، أعنها بفكرك أنت يا سيدي الشيخ.
- دعك من أصحابك، فقد فعلوا واجبهم، وأعنها بفكرك أنت.
استعان الشيخ بفكره، فراح يدرس ويدقِّق، ويتشمم أيضا، والشبان يهتفون:
- نعم، نعم. مكوَّرة مدوَّرة، مستحمرة مستصفرة في قلبها الماء، أعنها بفكرك تجدها.
- إنها تؤكل أيضاً.
صاح أحدهم مثيراً غضب أصدقائه.
وأخيراً نطق الشيخ:
- لقد وجدتها. لقد وجدتها. هداني الله، أرشدني أصحابي، واستعنت بفكري ووجدتها.
- تصوَّروا ماذا وجد؟ احزروا؟
- برتقالة طبعاً.
قال أحدهم.
- لعلّها بطيخة؟
أضاف آخر.
- قد تكون تفاحة أو رمانة؟
تساءل الرابع. فقال صاحبهم:
- عندما استعان الشيخ بفكره، قال "رحى حجرية"... انفجر الشبان ضاحكين من أعماقهم فملأوا القاعة لحظات بالضجيج والصخب، والتفت إليهم جميع من هناك، وشاركهم البعض بالابتسامات. وأخيراً قال أحدهم:
- الله يسترنا من هذا الضحك.
وأضاف آخر:
- هذه مدة طويلة لم نضحك مثل هذه الليلة.
- خير إن شاء الله.
- لعله الزلزال الذي تحدّث عنه صاحبنا.
- حتى يستعين بفكره أولاً.
وارتفعت القهقهات مرة أخرى وانسابت حتى خارج القاعة، الأمر الذي لفت انتباه بعطوش وجعله يتوقف متسائلاً:
- هل هناك في هذه الحياة من لا يزال قادراً على مثل هذه القهقهات؟
وحدّق في براميل البنزين، وفي العربات، وفي الدبابات، وفي الجدران، ثم في قاعة الأكل، ورفع يديه إلى أذنيه يسدّهما.
- سارجان بعطوش، سيدي القبطان يطلبك للعشاء...
جاءه الصوت، فحدَّق فيما حوله مرة أخرى. كانت الظلمة تتكثَّف.

* * *

- الشمعات على اليمين... على اليمين هنا... لا ربما هنا... كل شيء على اليمين، إذا أردتم أن تستضيئوا فعلى اليمين... دائماً اليمين... آه هي ذي. لقد جاد بها اليمين أخيراً.
كان زيدان يتمتم، وهو يلتصق بالجدار الترابي، ويتلمس بيديه بحثاً عن الشموع، والتراب يتفتّت بين أصابعه، بينما تجمَّد الأوروبيون في أماكنهم، وبعضهم يسائل نفسه، هل يمكن قطع خطوة واحدة في مثل هذه الظلمة وفي هذا الجحر الذي لا يعرف أحد شيئاً عنه!
أشعل زيدان الشمعة، وراح يرفعها بيده وينحني مطلاً برأسه متأملاً ما حوله... الكهف مستطيل ومجوَّف في الوسط... لعل له تفرعاتِ ومسالك جانبية... من هنا أكياس الدقيق والتمر، وصناديق التين، ومن هنا بعض أسلحة وذخائر وألبسة وأدوية، وهناك بعض أغطية وأبسطة. ثم راح يتقدم الخمسة، ويتشمم رائحة الرطوبة ويعلن عنها في شبه احتجاج، ليتبعه الأوروبيون، متسائلين بدورهم عماّ إذا كان للكهف متنفَّس. فأجابهم بأنه لا بد أن يكون له عدة متنفَّسات، وإلا فإن الحياة تستحيل فيه... عندما بلغوا الأبسط والأغطية الصوفية، راحوا يستلقون الواحد إثر الآخر، متَّكئين في وضع يجعلهم ينظرون إلى وجوه بعضهم. وبعد أن سوّى زيدان الشمعة، فوق صندوق تين سحبه إليه، أشعل شمعة ثانية وهمَّ أن يستلقي مثلهم، غير أن القبطان الأسباني بادره:
- لماذا كل هذا الضوء؟ هل نحن في عيد ميلاد... دعنا نهدأ...
سارع زيدان إلى إطفاء الشمعة الثانية، ثم استلقى بدوره، واضعاً رأسه على راحته وظل يحدق في الشمعة... إنها لا تتحرك... إنها لا تتمايل، ليس هناك هواء يدفعها لا إلى اليمين ولا إلى اليسار... حين لا تكون هناك حركة، يكون الموت... وهي تموت في بطء بطيء... كانت تموت حتى لو كانت هناك حركة هواء... إن دور الشمعة هو الموت... الفناء بالذوبان... دور الشمعة هو الإضاءة... الإضاءة... والموت... يا لها من مضحِّية مثالية.
بعد لحظات طويلة من صمت لذيذ، لا تلعب فيه غير الشمعة أو الخواطر دوراً تململ زيدان، ثم اخرج من جيبه قارورة الكونياك.
حدق فيها قليلاً. ما تزال فوق النصف. الثلثان تقريباً... ستنعشنا لا محالة.
فتحها وتناول جرعة. وأحالها دون تعليق إلى القبطان الأسباني.
حدَّق فيها بدوره ثم جرع منها ومرّرها لمن حوله.
ظلت القارورة تطوف في صمت ووقار إلى أن عادت إلى زيدان.
رمقها. تحت النصف بقليل. ثم وضعها أمامه في لطف.
من جديد ساد السكون وانطلق كل واحد يسرح بفكره في المسألة... كان الفرنسيون الأربعة، يحاولون الإجابة عن سؤال طرحه احدهم بالأمس: بعد كل هذا، هل يمكننا كشيوعيين، أن نغير موقفنا من هذه الحركة، ونتخذ منها موقفاً عدائياً؟ منْ منّا لا يدرك مصلحته، هي أم نحن؟
أما الأسباني فقد أعاد موضوعاً قديماً، طرحه على نفسه منذ سنوات: هل بكى بصدقِ ارنست همنغواي هزيمة الشعب الأسباني في لمن تقرع الأجراس ؟. وهل كان يمثل كل تقدميّي العالم أم لا يمثل إلا تقدميّي أمريكا؟...
لقد عبث كثيراً "ببابلو" كرمز للقيادة الشعبية.
وظل زيدان يباعد بين فكرتين تتراحمان على ذهنه في الآن الواحد، محاولاً التفكير في اللاز ابنه.
كانت الفكرة الأولى هي ذلك السيل من الصوَر الشعرية التي تزاحمت في مخيلته قبل ليال قليلة عن السبخة، والملح، والبراعم والوليد، والزهور القانية... وكانت الفكرة الثانية والتي يعجب لماذا علقت بذهنه بكل هذه الشدة، هي تريز دي كيرو، بطلة رواية فرانسوا مورياك، وماذا تمثل؟
ماذا تمثلين يا تيريز دي كيرو، وماذا تريدين مني؟.
لن أكون عدواً لحرب وطنية مهما كان الأمر.
قال أحد الفرنسيين في نفسه، وبعد مدة أضاف سؤالاً آخر:
- وإذا ما أطلق سراحي وعدت إلى الحياة المدنية، هنا في الجزائر أو خارجها، ماذا سيكون موقفي يا ترى؟ مِن الشيخ وأمثاله، ومن حركتهم هذه؟.
- الموقف المبدئي، يحتم مساندة هذه الحركة مهما كانت الظروف، ومهما كان الثمن. إلا أنه عند تصنيفها ينبغي القول إنها حركة تحريرية تحمل أفكاراً مسبقة ضد الشيوعية.
قال الثاني في سره. وتساءل الثالث:
- حين يكون الخنجر على بعد بضعة سنتمترات من عنقي ماذا يمكن أن يكون موقفي؟.
وقال الرابع:
- كأفراد نضطهَد، يمكن أن نغير موقفنا، ونتصرف كما تملي علينا الظروف، أما كشيوعيين كهيئة، أؤكد، فيمكن لنا أن ندين ونساند في نفس الوقت.
ثم أضاف:
- هل يظل عداء الاستعمار مستحكماً في نفوس قادة من نوع الشيخ؟.
هل من الجائز أن يدين همنغواي قيادة الجيش التقدمي ويتهمها بالبيروقراطية؟.
تساءل القبطان الأسباني بدل أن يجد جواباً للسؤال، هل لمن تقرع الأجراس بكاءُ تقدميٍّ صادق وهو يستعرض حوادث الرواية وجزئياتها، ثم أضاف:
- لماذا صوّر ـ روبيرتو ـ وهو الأمريكي المتطوع متحمساً حتى آخر لحظة، بينما أظهر معظم الأبطال الأسبانيين في مظهر اليأس وانهيار المعنويات؟
وخاطب زيدان ذاته:
السبخة صورة رومنطقية لا محالة... ولكن ليس هناك أية صورة أخرى يمكن أن يشبَّه بها الوضع في الجزائر... لكن تيريز دي كيرو ما دخلها في هذه المسألة؟ لماذا عادت إلى ذهني بعد نسيان سبع عشرة سنة؟
إنها مجرد برجوازية طغى عليها فراغ مهول، توسوست وراحت تبحث عن نفسها... فرانسوا، لم يكن يعن أي شيء، وليس باستطاعته إطلاقا أن يهدف إلى شيء معين.
لا. في وسعه أن يفرز ما يعتمل في نفس جيله من أسى وقلق واضطراب. يقين أنه كان يعاني مأساة جيله.
آه. اللاز المسكين. ابني. ما سيكون مصيره؟
آمن بها بسرعة كالشعب، لأنها كانت منه... فيضاً منه... وانضمّ إليها بنفس السرعة... بل، لقد احتضنها، كما احتضنها الشعب... وها هو اليوم في خضمّها، في ذروتها... ربما يصدم قبل أن يشبع منها، أو على الأقل يتمرس فيها.
حمو عمه. لو كان هنا لعرف كيف يتصرف. أما هو... آه، لن ينتبه إليه أحد بعدي. السبخة صورة صادقة.
تيريز دي كيرو, مأساة على كل حال. اللاز والشعب، شيء واحد.
ومد يده إلى القارورة، أغمض عينيه، ورضع منها جرعة كبيرة، ومرّرها إلى القبطان الذي فعل بها مثله، حتى عادت إليه. وعندما لاحظ أنها فرغت قذف بها بعيداً فأحدثت هواء حرك ضوء الشمعة، ثم ارتطمت بصخرة في جانب الكهف وتحطمت محدثةً صوتاً جميلاً، تخيل الجميع أنها نغمة في موسيقى عسكرية.
كانت جرعات الكونياك قليلة ولكنها مع ذلك استطاعت أن تحدث بعض التحول في نفوسهم.
جاءت على ظمإ طال أمده، وفي ظرف حرج، وفي مكان لا يليق إلا للتأمل أو السكر، أو لتألم الجرحى... فكر زيدان فقاطعهُ الأسباني:
- أو... لو كان هناك لفافة تبغ أسود.
- غولواز أو جتان.
علَّق أحد الفرنسيين، وتلمَّس الجميع جيوبهم دون جدوى... نهض زيدان وأشعل الشمعة الثانية. حملها وراح يبحث في زوايا الكهف وهو يفكر... لا يمكن أن يعدم في مثل هذا المكان. سيصل هنا بعنوان أو بآخر... لابد أن أحدهم يدخن... وعندما تقدَّم قليلا قابله ممر ضيَّق، أسرع إليه، وراح يتبعه في صمت.
كان الممر في الأول ضيفاً، ثم راح يتسع شيئاً فشيئاً ويتخذ أشكالاً مختلفة، أحياناً ينخفض وأحياناً يرتفع، وكما يتلوّى يميناً يتلوّى شمالاً، أو يتواصل مستقيماً.
عثر زيدان أثناء سيره على أشياء مختلفة ومتنوعة، من ضمنها جمجمة آدمية، وأكوام من علب التبغ من جميع الأصناف... انحنى واختار منها عدة أنواع، ثم استقام، وفكّر، هل يواصل استكشافه أم يعود؟ وبعد لحظة من التأمل، قرَّر أن هذا النفق لا بد أن يكون يؤدي إلى منفذ ما. لربما إلى الوادي؟
لا شك أن المنفذ بعيد مناّ، ولعلَّهم لم يضعوا عليه حراسة كبيرة.
المؤكد أن هذا النفق يؤدي إلى الخارج، وإذا ما فكَّرنا في الفرار، فليس أمامنا سوى اتباع هذا الطريق.
عاد مستبشراً بعلب التبغ، وعندما رفع رأسه قابلته جذوع شجرة تتخللها ثقوب مغطاة بأعشاب جافة... من هنا ينفذ الهواء للكهف.
أعدّت الطبيعة لنا كل شيء.
قد يكون أجدادنا سكنوا هنا في العهد الحجري القديم.
قد يكون يوغرطة أو الكاهنة، أو أي ثائر من الثوار، قد تخفّى أو ادَّخر مئونة جيشه هنا.
- يا له... غولواز؟
- أو... جيتان؟ أو.
بادر الجميع وهو يقذفهم بعلب التبغ، وسرعان ما انبعث الدخان، وبدأ ضوء الشمعة يتمايل ذات اليمين وذات اليسار.
ولفترة طويلة ظلُّوا يدخنون في صمت، إلى أن قال زيدان:
- من منكم قرأ تيريز دي كيرو؟
- قرأناها كلنا. ما بها؟
- كنت بدوري أفكر في رواية لمن تقرع الأجراس... تعرفونها كلكم؟
- وما بها أيضاً؟
- هذه القصة قرأتها منذ سبع عشرة سنة، ولم أبداً في تحليلها سوى الآن.
- إن تفاصيلها سرعان ما تزول من الأذهان، أما خاتمتها فإنها هي الوحيدة التي تبقى عالقة في الذهن... إنني من هنا، من هذا الكهف، من باطن الأرض، وعلى بعد آلاف الكيلومترات، أرى تيريز في أحد مقاهي باريس واجمة، ثم أراها في منعطف من المنعطفات، تشعل سيغارتها من عند شاب ظل يتبعها...
قاطع أحدهم زيدان بينما علَّق آخر:
- لمن تقرع الأجراس تعلَق كلها بالذهن. إنها حقاً ثورية رائعة.
- كنت أفكر فيما إذا لم يكن همنغواي قد ألقى ثقلاً أكبر من تبعة الهزيمة على الشعب الأسباني وحلفائه التقدميين.
قال القبطان، فاحتج أحد الفرنسيين:
- لا. ذاك شأن همنغواي الفنان. إنه شمولي النظرة وواقعي إلى حد كبير.
- لكنه ركّز فقط على وحشية الإمبرياليين، ولم يبيِّن توازن القوى في ذلكم الوقت كما ينبغي، إلى درجة أنه راح يبحث عن المبررات في فوضى قيادة الجيش التقدمي، وانهيار معنويات المقاومين... تصوَّر معي جيداً.
رد القبطان منفعلاً، فانبرى له زيدان:
- لعلّك تبالغ في ظلمه، فقد أكّد كما ينبغي على قوة الإمبريالية، وأعار اهتماماً كبيراً إلى تفوقهم بالطيران، وأعاد إلى بابلو عزيمته بعد أن انهارت، وانتقاده للضعف لا يمكن أن يعتبر إلا نقداً ذاتياً.
- المسألة تحتاج إلى درس جديد موضوعي على كل حال، ويبدو لي أننا انبهرنا أكثر مما ينبغي بالرواية.
أضاف القبطان، بينما راح آخر يتحدث عن "تيريز دي كيرو":
- إنها تمثِّل انعدام الشخصية كما أرى.
- لا. بالعكس. كنت أفكر في أنها تمثل جزءاً من تاريخ فرنسا بعد الكومونة.
رد زيدان، فعلَّق الأسباني ضاحكاً:
- آه. أتصوَّر مقصدك يا رفيق. لقد ذهبتَ بعيداً بعيداً... لكن ينبغي أن لا نيأس إلى هذا الحد. فرنسا لن تخرج من هنا بسهولة، والحرب التحريرية ـ على ما رأيت ـ لن تُهزم بسهولة أيضاً، وفي أثناء استمرار الحرب، قد تحدث تطورات لم تكن في حسبان أي أحّد... إن كثيراً من الموجودين الآن لن يستمروا سنوات طويلة... وستتعاقب الأجيال والقيادات على مواصلة الحرب.
هل تفهمني.
ما كان يعوز تيريز دي كيرو، هو معرفة ماذا تريد... من البدء.
أما جماهير الشعب هنا، فإنها تعرف، حتى بغريزتها، ماذا تريد... وستصل إليه طال الزمان أو قصر... لقد أضحت مسألة القيادات شكلية عندكم، على ما أرى.
- تلك هي السبخة إذن...
تمتم زيدان، فسأله الأسباني:
- ماذا تقول؟
- لا شيء، يا رفيق سانتوز.
وهل نعلن موقفنا كأفراد، أم كجماعة. كهيئة أعني.
تساءل الفرنسي المزارع، فأطرق الجميع لحظات، ثم قال زيدان:
لقد حُكم علينا أن نكون جماعة. نعم جماعة. وموقفنا يجب أن يكون موحداً... أما كهيئة... كتنظيم على ما فهمت... فإنني لا أتصور شكله.
- نؤسس قيادة جهوية استثنائية
قال المزارع. فاحتج زيدان:
- باسم أي حزب؟ الفرنسي؟ الجزائري؟ الأسباني؟
- إذن نشكل خلية.
قال فرنسي، وأضاف آخر:
- نتفق فرادى، ونكلف أحدنا بإعلان قرارنا، وهذا كل ما في الأمر.
- حتى هذه فكرة.
علق زيدان، ثم أطرق الجميع لحظات. وأخيراً رفع القبطان الأسباني رأسه وقال في هدوء تام:
- نشكَّل لجنة أممية، يمثل كل منا حزبه فيها، مهمتها درس الموقف وإعلان قرارها... نضع لها قانوناً أساسياً مؤقتاً ونشير في بنده الأول، إلى أن مهمة اللجنة وقتية، تنتهي بالإعلان عن القرار... يا رفاق، إن الحزب الشيوعي الجزائري مستهدَف، ونحن مستهدفون من أجل عدم اتخاذ أي موقف منه من ناحية، ولكوننا شيوعيين من ناحية ثانية. هذه فرصة نتدارس فيها الوضع، ونعلن عن موقفنا نهائياً... هل. موقف الحزب الشيوعي الجزائري مبدئي أم لا؟ هل نسانده أم لا؟ هل نخون مبدأنا أم نضحي بأنفسنا؟ هذه هي المسألة المطروحة على اللجنة.
- موافق.
قال زيدان، وتبعه الفرنسيون الأربعة بإعلان موافقتهم، وأضاف القبطان الأسباني:
- أقترح الرفيق زيدان أميناً عاماً لها.
- موافقون.
قال الفرنسيون، وفكَّر زيدان قبل أن يجيبهم كثيراً.
راح يتأملهم فرداً فرداً. هؤلاء الرفاق وضعوا مصيرهم بين يديّ، إنهم يعلمون أننا مهما درسنا، ومهما حلّلنا، ومهما قرّرنا، ننحدر إلى مصير واحد محتوم.
لقد بلغنا نهاية النهاية: الموت.
فليس أمامنا أن نختار سوى الموت، الموت النضالي الحزبي، أو الموت الجسدي.
هذا القبطان، لم يغرق مع باخرته، وقاومهما معاً، الموت، والعدو، وها هو بعد طوَفان طويل في العالم، جاء إلى هنا، ليضع مصيره بين يديّ. إنه لا يفكر في الموت تماماً على ما يبدو، مثلي لا ينشغل إلا بنتائج موته. لعله يعتقد أنه مات منذ سنوات طويلة، يوم توقفت الثورة في أسبانيا وغادرها.
يفكر في “ بابلو “ و “ روبيرتو”، وفي “ همنغواي” لعله ما زال يبحث عن أسباب الهزيمة، أسباب الموت.
الموت. وهذا المزارع الفرنسي، يقين أنه يفكر الآن في نخيله، فهذا فصل التمر. لم أعرفه في السابق، يبدو من ملامح وجهه ومن نظراته، أنه شاعر يعيش في أعماقه سراً... كيف استطاع أن ينتصر على نفسه وعلى المعمَّرين زملائه وجيرانه، وعلى الحكام الذين لا شك أنهم ضايقوه بشتى الوسائل، هو ذا بعد كل التحديات، يواجه النهاية.
الموت. هذا الشاب الذي يمتص سيغارته بنهم، كتفاه تشيران إلى أنه عسكري، خصره أيضاً يدل على ذلك، أين تلقنها، في الجامعة، أم في الهند الصينية؟ يداه خشنتان، يقين أنه شغّيل ولعله كان في سلاح المدفعية، الموت يلوح من عينيه، ومن حركات إصبعه، إنه يفكر، ترى كم مرة تعرض له.
الموت. وجه هذا الكهل، ليس غريباً عليَّ، قد أكون رأيته في مؤتمر من المؤتمرات، أصلع لا شعرة في رأسه، الحيوية تتدفق من عينيه، أكيد أنه نقابي، ستستريح بموته الاحتكارات الفرنسية ولا شك، لقد كلفني بهذه المهمة.
الموت. لِمَ لم نَمُتْ في الاشتباكات والمعارك التي خضناها، لماذا لم نستشهد. لماذا هذه النهاية؟.
الموت. هذا النحيف المعروق الساهم، يبدو أكبر من سنه بكثير، قد يكون قضى نصف عمره في منجم من المناجم، الخيوط الزرق في جبهته تؤكد أنه فحام. يبدو أنه لا يفكر في شيء إِطلاقاً، رغم سهومه. لعله كان جرب الموت قبل اليوم، يقين أنه ذاقه أكثر من مرة. الموت. الموت. تتخلصون من المبدأ الذي دفعكم إلى الموت، أو تموتون هكذا. نهاية المطاف
الموت.أنا أيضاً أموت، السبعة الذين تركتهم مع أمهم في القرية، لا يشغلونني كثيراً، لقد خرجت من حياتهم منذ سنوات طويلة، حُكم عليهم قبل اليوم... اليوم ماذا يهمني إذن؟.
الموت.؟ الموت دون تحقيق شيء يُذكر، سمكة لَفَظَها فيضان نهر فتخبطت، وتخبطت، واستسلمت...
الشيوعي والشمعة لا دور لهما إلا الذوبان الانتهاء، والذوبان. هكذا.
حظنا سيء يا اللاز. يوم وقعت في قبضة يدي، أُفصَل عنك. لن تتطور، خُلقت مادة خام، وستظل كذلك. لن يفهمك أحد بعدي يا اللاز، حتى أنت لن تفهم نفسك. التحقتَ بها عفوياً، بل هي التي التحقت بك، أدركت الثورة و أدركتك. أدركتها عملاً، وأدركتك روحاً، ولما حان أوان اقتحامها لرأسك، لفكرك، ها هو الجسر يقطع بينك وبينها، ها هي النهاية تحل. الموت.
أرسل زيدان زفرة قوية من أعماقه، وانتفض، انتظر أن يستفسره أحدهم عن رأيه، لكن دون جدوى، كانوا جميعهم مستغرقين.
لعلَّهم يفكرون فيه. الموت. لنفكّر فيه بأصوات عالية إذن.
الجلسة مفتوحة. أيها الرفاق. لنفكر بصوت مرتفع.
وفي صباح الغد، أُخطر الشيخ بأن المساجين الستة، يطلبون الإعلان عن موقفهم. نظر إلى ساعته، وفكَّر أن هذه السرعة ليست إلا دليلاً عن قبول الانسلاخ، وان هذا أمر فيه شيء مما يسر ّ... طلب إحضارهم، وحالما وصلوا بادرهم مبتسماً:
- هاه. ماذا قرر تم؟ أنت يا زيدان، هل هداك الله؟
بيد أنهم رفضوا كلهم الإدلاء بأي تصريح، معلنين أن لديهم لائحة، وأنهم كلّفوا زيدان بقراءتها...
* * *


استقبل القبطان بعطوش عند الباب، مادّاً يده لمصافحته، رافضاً أن يقبل منه التحية العسكرية، ثم قاده نحو مائدة الطعام قائلاً:
- يجب أن تزول الكلفة بيننا من الآن فصاعداً. أريد أن نكون صديقين حميمين. لو تدري كم أشعر بالسأم والضجر من قريتكم هذه. إنها كمجلّة أطفال سرعان ما يحفظها المرء، ويظل يحدق في الفراغ. في الحق هي جميلة، أهلها طيّبون، كرماء، بناتها جميلات جداً، لكنها لا تليق في ظروف الحرب بالمرء. هذه الجبال المحيطة بها كالقدَر، تضغط على الإنسان، على قلبه، على أعصابه باستمرار. آه.
على نخب صداقتنا. اشرب.
مدّ بعطوش يده إلى الكأس، مقتصراً على الابتسام، وعندما قدمها من شفتيه، راح يحدق فيها، وعاودته فكرة القنابل الأقراص... لو كانت في متناولي، لتجرعت منها، ولأبرزت صدري إلى الأمام هكذا، وظللت انتظر الانفجار.
لاحظ الضابط تقطيبة حاجبيه. فراح يشجعه على الشراب:
- تناول. تناول ليس لنا سواه في هذه القرية الساجدة للجبال. يجب أن تستريح حالما نتعشى، فأمامنا فجرَ الليلة عملية. جاءت التعليمات من القيادة العليا، لكل الوحدات، بشن هجوم شامل على كامل السلسلة الجبلية الشمالية. ستعززنا الطائرات، والمدفعية الثقيلة... يقين أن هناك قوافل أسلحة قادمة من الشرق.
ستكون يا سارجان بعطوش ضمن هيئة أركاني، وستُنسينا غداً الانتصارات كآبة قريتكم هذه.
- متى تقرر أن نخرج؟
- في الساعة الثانية، ترى أن علينا أن نستريح قليلاً. أشرب كأسك.
قذف بعطوش، دفعة واحدة، الكأس الرابعة، وشعر ببعض التفتُّح، وراح يستعين بإشارات يديه لإفهام الضابط بعض ما يريد أن يقول، وتعوقه عنه المفردات الفرنسية التي يبذل جهداً كبيراً في التقاطها وتركيبها والنطق بها.
ما إن فرغا من تناول الطعام حتى قاده الضابط إلى غرفة نومه، وهي كبيرة، في جانب منها خزانة حديدية، وسرير عريض، وبعض مقاعد، وفي جانب آخر، مكتب خشبي صغير، عليه مذياع وعدة كتب ومجلاَّت، وأريكة مستطيلة، ومائدة عليها عدّة قوارير وكؤوس.
تساءل بعطوش في نفسه:
- لماذا يقودني إلى هذا المكان؟
وحاول أن يتذكر ما كان يروَّج من أقاويل، حول علاقة الضابط باللاز، وقرَّر أن ذلك غير معقول، وإذا ما حدث فعلاً فسيستفيد منه.
الاتصال بالضابط إلى هذا الحدّ لا يتسنى لكل أحد، ولن يكون إلا خيراً لي.
بيد أنه لم يدرِ كيف خطر له أن قاعة مثل هذه يحتاج تفجيرها إلى عدّة ألغام كبيرة، توضع هناك في الوسط.
وبسرعة، أبعد هذه الخاطرة عن ذهنه، وابتسم للضابط وهو يتناول من يده ـ سيغاراً ـ ضخماً.
- هاه. لقد جاءت القهوة، لا أستطيع أن أنام بدونها... هل تتصوَّر؟
وضع الجندي صينية القهوة وانصرف. وظلَّ بعطوش يدقّق النظر في الضابط... في حدود الأربعين... متوسط القامة... أبيض البشرة... نحيف الجسم... على عينيه الزرقاوين نظارات جميلة في إطار ذهبي.. ملامحه نسوية... في عنفه صليب ذهبي يتدلى من سلسلة رفيعة... أنامله جد قصيرة.
كيف تسنى له أن يحصل على هذه الرتبة؟
- منذ جُرحت في الهند الصينية، تعوّدت شرب القهوة قبل النوم. آه، حان أن ننام.
نهض بعطوش مفرقعاً عقبي حذائه محيياً لينصرف، وهو يشعر بثقل في رأسه وارتخاء، غير أن الضابط ابتسم ونهض قائلاً وهو يتجه إلى سريره في لهجة آمرة إلى حد كبير:
- ستنام عندي. هنا. نعم هنا ليس هناك أية كلفة بيننا، يجب أن نتناول كؤوساً أخرى من المهضَّمات. عندي ويسكي جيد.
- لا... ك... كفاني. شكراً سيدي الضابط.
- هيا إذن ننم. انزع ثيابك.
انحنى بعطوش يفك في تثاقل، رباط حذائه العسكري الخشن، وهو يتحرّج من رائحة قدميه النتنة، التي ستغمر القاعة.
لم يدر كم استغرق ذلك من الوقت، إلا أنه عندما رفع بصره إلى السرير، قابله الضابط ممدداً مجرداً من كل ثيابه.
شعر بالدوران. غمره الضباب من كل جانب.
أجال بصره في القاعة، فلم يقابله سوى الضباب... سحب نفساً طويلاً وشعر بالاختناق.
آه. هذا الضباب الذي يلفّني من أين أتى؟
استقرَّت عيناه على السرير، ليس هناك سوى جثة ممددة بيضاء، ناصعة البياض، بضة، طرية. وتنهد:
آه. خالتي. حيزية. خالتي يا ربي سيدي.
ماذا تقول يا بعطوش؟ هل نزعت ثيابك؟ افعل مثلي وهيا بسرعة.
كانت الجريدة تغطي عينيه، وكانت يده ممدودة إلى زر الإنارة تستعجل الإطفاء. لم يجبه بعطوش.
لم يسمعه بالمرة.
اقترب منه. تأمله هنيهة. وردّد أيضاً:
خالتي حيزية. خالتي يا ربي سيدي.
ثم هوى عليه بيدين مرتجفتين، وانهمك في خنق أنفاسه بكل ما أوتي من قوة. وبعد فترة، استلّ خنجره وراح يطعنه أينما صادف... ظل يطعن ويطعن، حتى انفتحت عيناه.
لقد زال الضباب. زال كل أثر للضباب. أجال نظره في القاعة، وراح يحدَّق في الجثة ويتنفس من أعماقه.
تراءت له بقرة خالته وهي تنهض وتسقط، ثم مريانة أُم اللاز وهي تسقط على وجهها دون أن تصرخ، ثم خالته حيزية، وهي عند رجليه هامدة...
أخيراً، ها هو القبطان بين يديه، مطعوناً عشرات الطعنات...
تنهَّد مرة أخرى من أعماقه، ثم مرر يده على جبينه يمسح العرق البارد المتصبب منه، ثم سارع إلى ارتداء حذائه.
قبل أن يخرج، قابلته في الخزانة رشاشة الضابط وعدَّة قنابل، تناولها وأطفأ النور، وتسلل إلى الخارج.
كانت الحركة هامدة، فقد صدرت أوامر ملازمة قاعات النوم استعداداً للرحلة الباكرة، فطفق يمشي في ظل الجدران، بخطوات حذرة، متجهاً نحو براميل البنزين.
فكَّر، هل يفتح برميلاً ثم يرميه بعود ثقاب، أم يقذفها كلها بقنبلة، وإن اقتضى الأمر بأكثر، وليكن ما يكون؟ نعم.
ليقذفها برمّتها بقنبلة.
ليحدث الانفجار المهول. لتتعال ألسنة النار حتى تحوّل الليل نهاراً.
ليصل اللهب إلى كل شيء ويأت عليه.
نعم.
فتح بأسنانه في غيظ قنبلة، وبملء قوّته قذف بها براميل البنزين... وحدث الدويّ.
كان قوياً. قوياً عنيفاً، تماماً مثلما كان يتصوّره في المساء...
لم يدرِ ما إِذا أصيب هو أم نجا، وهل هو في قلب الدويّ أم خارج عنه إِنما شعر براحة كبرى.
تتالت الانفجارات، الواحد إِثر الآخر، وارتفعت ألسنة النار إلى عنان السماء، وتسارع العساكر من هنا وهناك، يغادرون قاعات النوم مبهورين بالضوء الكبير، بعضهم يسقط من جراّء الشظايا المتطايرة، وبعضهم يصرخ ويسارع إلى الاختفاء بكل ما صادفه.
وجد بعطوش نفسه خلف دبابة يحاول فتحها ليقذفها بقنبلة.
- اركب يا بعطوش اركب. أسرع.
التفت ليجد الجندي المسخَّر الذي طلب منه قبل ذلك بساعة أن يستأذن في الخروج ويصطحبه معه، وحوله عدة جنود، يثبون داخل الدبابات، فلم يجد بداً من مجاراتهم. وما أن وجد نفسه في الداخل حتى صاح فيه أحدهم.
إلى الرشاش. إلى الرشاش. يجب أن نقضي عليهم كلهم.
وفي الحين الذي بدأت فيه الدبابة تتحرَّك، متجهة نحو الباب، بدأت المدافع الرشاشة تقذف بحممها لتحصد كل من يتحرّك، وارتفعت الصيحات والصراخ أكثر.
كان عدد الجنود ثمانية، وبعطوش التاسع. تفرّقوا على أربع دبابات... واحد يتولّى السياقة، وآخر يتولى أمر الرشاش. وكأنما كانت الخطة مدروسة، فقد اتجهت دبابة إلى برج المراقبة الواقع على بعد عشرات الأمتار من الثكنة تحطمه وتقذفه بنارها، بينما اتجهت ثانية إلى مفترق الطرق الرئيسي وربضت هناك، في انتظار أية حركة، واتجهت ثالثة إلى مركز فرقة قومية، وهو عبارة عن مخزن قديم كان صاحبه يستعمله من صيف لآخر، كوكالة شراء الحبوب لثري من الأثرياء. أما الدبابة الرابعة، والتي كان يركبها بعطوش وآخران، فإنها تمركزت عند مدخل الثكنة الرئيسي، ليتذاوب بعطوش مع الرشاش مواصلاً القذف في حقد وإصرار.
كانت عملية احتلال مُحكمة، يستحيل القيام بها من الخارج، مهما كانت القوات المستعمَلة، ومع ذلك، فقد جزم السكان بأن فرقة كبيرة من المجاهدين اقتحمت القرية، ولا شك أنها بقيادة زيدان، لأن هذه الجرأة جرأته.
ارتفعت الزغاريد من كل منزل، واشتعلت أنوار صومعة المسجد، التي أصبحت لا تنار إِلا من عيدٍ لعيد، وارتفع الأذان في غير وقته، وظلَّ يتردَّد وقتاً طويلاً، حتى بدأت المعركة تهدأ.
تجمَّعت الدبابات في مدخل القرية الجنوبي بعد معركة صغيرة مع مركز المراقبة الذي خرج منه اللاز، قبل أربع ليالٍ بالكاد.
كان المسبلان اللذان جاءا لاغتيال بعطوش، قد غادرا مخبأهما القريب من هناك، وتدلّفا إلى هيكل شاحنة قديم، وراحا يرقبان الدبابات متعجبين لأمرها، حتى غادرها أصحابها وانهمكوا في زرع الألغام في قلوبها.
- أسرع قبل أن تأتي النجدات من المراكز المجاورة.
قال بعطوش، فسأله أحدهم:
- كيف يتسنى حمل كل هذه الأسلحة؟
- لماذا لا نهرب في إِحداها؟
قال آخر، وهو يشير إلى الدبابات. وضحك زملاؤه، وعلَّق أحدهم:
- نهرب بها كلها أفضل يا مغفل.
إذ ذاك برز أحد الفدائيين، وباغتهم:
- هيا أسرعوا، حُييتم يا أبطال.
فوجئ الجنود كلهم، خاصة بعطوش الذي اضطرب، وفكَّر في استعمال رشاشة، لولا أن أحد الجنود تقدَّم من المسبل هاتفاً:
- أنت هنا. عرفت صوتك.
- آه علاوة.
- هبطتَ من السماء، لا نعرف الطريق، ولا كيف ننقل الأسلحة والذخائر، صاحبُنا هو مخترع ومنفِّذ المشروع.
قال، وأشار إلى بعطوش، ثم أضاف:
- كل شيء انتهى. مائتان وتسعون عسكرياً. ثلاثون قومياً، كل العربات، كل الدبابات، كل مراكز الرقابة... بدأها بعطوش باغتيال القبطان، وإشعال براميل البنزين، وأتممناها نحن.
تأمل المسبل بعطوش، وأطال النظر إلى صدره وفكَّر... لو خرج هذا المساء من الثكنة لاستقرب رصاصة من مسدسي هناك. راهنتُ على قتلك برصاصة واحدة... ثم تقدَّم منه، وتناوله بين أحضانه، وغمره بالقبل، والدموع تنهمر من عينيه.
ارتفعت جلبة من المنحدر، في أحد الأزقة، وشيئاً فشيئاً تجلّت البغال والدواب، يقودها احمزي والفدائي الثاني، وبسرعة، تم شحن الذخائر، وانطلق الموكب في البهمة، تاركاً خلفه تتالي الانفجارات في الدبابات الأربع، وتكهَّن السكان عن عدد الضحايا، وعن حجم الفرقة الجريئة التي اقتحمت الثكنة، وعن العملية، هل نجحت أم لا...
رغم أن كل شيء، خاصة الصمت المطبق الذي أعقبها، يدلُّ على نجاحها مائة في المائة.
* * *


أخرج زيدان الورقة من جيبه، واعتدل ليقرأ، غير أن الشيخ رفض الاستماع إلى المقدمة والحيثيات والاعتبارات، وحتى صيغة القرار، وطلب الاكتفاء بتوضيح موقف زيدان شخصياً.
- نطلب المحاكمة، كأعضاء في الثورة، ليس كأجانب عنها.
- هذا أيضاً خطأ فادح ارتكبتموه يا زيدان. تعلم جيداً أن الرسائل والعرائض الجماعية ممنوعة في الثورة منعاً باتاً.
علَّق الشيخ، وهو يتأمل عنق زيدان الذي حاول أن يقول:
- ينص البند الأول من القانون الأساسي للجنتنا على أن مهمتنا وقتية... ليس هناك أية جماعية. لقد أردتم ذلك، وإلا لماذا تقحموننا كلنا في بوتقة واحدة؟
لكن الشيخ تساءل غاضباً:
- لم تغيَّروا موقفكم إِذن؟
- الأحسن أن تستمتع للائحتنا.
هاتها، وسأقرأها فيما بعد... أما الآن فعليَّ أن أُنفذ قرار القاهرة. إذا ما صحّ فهمي، فإنكم ما تزالون تصرّون على...
- لم نأت بأسماء أحزابنا، ولكن لا نستطيع التخلي عنها، وبالتالي عن عقيدتنا.
- إذن.
رد الشيخ على زيدان، وأشار بحركة من رأسه إلى أفراد وحدة حراسته، فانبروا، يوثقون الستة، وسرعان ما حضر الذباّح.
- عندي طلب شخصي، أرجو أن تلبّوه.
قال زيدان بصوت خافت، وبالعربية. فسأله الشيخ:
- وما هو؟
- أن لا تحضروا اللاز للعملية، ولا تخبروه... اللاز ابني يا سي الشيخ، ولم يلتحق بالعمل المسلّح إِلا منذ خمسة أيام.
- هذا هو كل طلبك. سندرسه على أية حال.
قال الشيخ، ثم أمر بتنفيذ العملية أمامه.
طُرح الفرنسي الأول، فظل يتساءل: هل يمكن اتخاذ موقف عدائي من هذه الحركة، إلا أنه قبل أن يقرَّر أن الشيخ وكل الشيوخ في القاهرة شيء، وان الحركة شيء آخر، كان السكِّين قد حزّ عنقه.
طرح الفرنسي الثاني، فراح يقرر، أنه كان من واجب اللجنة أن تتخذ موقفاً تاكتيكياً وأن تنافق حتى تجد مخرجاً.
لقد اقترحت البارحة ذلك، فردّ عليّ القبطان الأسباني بأن التاكتيك لا يكون على حساب المبدأ.
قَطَع السكين عنقه، وتطاير دم غزير هنا وهناك، فارتفعت عقيرة القبطان الأسباني ليتبعه زيدان والاثنان الآخران:
“ انهضوا معذّبي الأرض
هبّوا أيها المحكوم عليكم بالجوع
فالحقّ يدمدم في فوهات براكينه
أنها حمم النهاية...”
وعند ترديد هذا المقطع تبادر إلى ذهن زيدان مقطع آخر فأغمض عينيه، وهو يتذكره:
“ لا منقذ سام
لا المولى لا القيصر أو إمام... “
- ماذا يفعلون؟ ماذا يفعلون؟
تساءل الشيخ في ثورة، ثم أمر بالإسراع. هوى الأسباني وهو يودُّ ترديد مقطع: “ إِنها المعركة الفاصلة الأخيرة... “
ولحقه الفرنسي المزارع، الذي رسم إِشارة الصليب، ثم بصق.
ولحقه الرابع هاتفاً:
- تسقط الإمبريالية. يسقط الاستعمار. تسقط الرجعية.
وحلَّ دور زيدان.
- أعطيك فرصة أخيرة يا زيدان. بعض كلمات تقولها، وهذا كل ما في الأمر.
قالها بتأثر، وصوَر انتخابات 1947 تتراءى له، وفكَّر، إِنه جزائري، أخي على كل حال، ومهما كان الأمر.
حدَّق فيه زيدان جيداً، وقد غيَّر موقف الموت الدموي المرعب، لونه، وبسرعة، فكَّر في قائد الوحدة الثانية، الفنان السفاح الذي ذبح في ليلة واحدة سبعة أنفس، وفكَّر في سوزان، وفي موسكو، وفي الحرب العالمية الثانية، وفي انقلاب مصر وما أتى به، وفي اللاز، ومريانة، وحمو، وبعطوش الذي ظلَّ طيلة الفجر، يفكِّر فيه، ويتساءل عما إذا كان ممكناً أن تكون هناك خيانة مطلقة، أو تردٍ نهائي.
أخيراً، تراءت له السبخة، والأملاح، والأعشاب، والبراعم، ثم الوليد الذي يلعق كل ذلك، وحاول أن ينطق:
- ليس لي اتخاذ أي موقف شخصي في مسائل تعود إلى الحزب، يجب أن تعلم هذا عن الشيوعي يا الشيخ.
لكن الكلمات هربت من بين شفتيه، ظلَّ يحدق في الفراغ، قبل أن يغمض عينيه، ويغيب عن كل ما حوله، ويسقط على وجهه.
- ألحِقوه بالكفّار.
دمدم الشيخ، ثم رفع يده صائحاً:
- انتظروا.
فكّر هنيهة، ثم أمر:
- هاتوا ابنه، يجب أن يتعوّد حمل الأعباء الكبيرة منذ الآن. إِن تجنَّد بإخلاص، فسيزيده هذا إِيماناً وعزيمة.
ظلّ اللاز لحظات يقف مشدوهاً لا يصدِّق عينيه، وعندما انفجرت الدماء من قفا أبيه، صاح في رعب:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
ثم ارتخت كل عضلاته، ودارت به الأرض، ومدّ يديه يحاول التشبَث بشيء ما، ثم هوى.
* * *


الخاتمَـة
- هات بطاقتك يا عمي الربيعي.
أيقظ موظف مكتب المنح، القابع خلف الشباك، الربيعي من سهومه، فناوله بطاقته وقال في قلبه، وهو يتناول النقود:
- في البدء، لم أكن أطيق النظر إلى هذا الشاب الخائن. لكن ها أنني أتعوَّده شيئاً فشيئاً. الدوام يثقب الرخام.
وعندما بلغ الباب قابله اللاز، يقف في أبهة وتطاول، رغم ثيابه العسكرية الممزقة المتسخة، وهو يهتف:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
يقولون إِنه ظلَّ طيلة السنوات التي قضاها لاجئاً مشرَّداً يطوف من مركز عسكري لآخر، ومن خيمة لاجئ لأخرى، يهتف دون وعي:
ما يبقى في الوادي غير حجاره... والناس يتساءلون عما يمكن أن يكون يعينه.
تمتم الربيعي ثم سارع إليه، وانبرى كالعادة يسأله، وهو يقوده من يده نحو المقهى:
- احكِ لي يا اللاز يا ابني كيف مات قدور ولدي. قيل إِنه مات في طريقه بك إلى الحدود. كيف استشهد يا اللاز يا ابني؟ هل كان يحدِّثك عن زينة؟ هل علم أنها رمتْ بنفسها في البئر حين حبلت من "قومي"؟
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
- هل بلغه كيف ماتت أُمه؟ أُمك مريانة يا اللاز يا ابني ماتت أمام عيني، أنا دفنتها.
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
في المقهى انضم إِليهما حمو، وجلسوا جميعاً حول منضدة.
- هل وجدت عملاً يا حمو؟
- بلغني أن سي بعطوش سيأتي من العاصمة هذا الأسبوع. قرّر أن يختن ابنه هنا، الاتكال عليه وعلى ربي.
بينما واصل حمو حديثه، طأطأ الشيخ الربيعي رأسه... اشترى حياته، وأصبح قائداً بعد زيدان مباشرة، ونجا طيلة الحرب... وها هو اليوم سي... الدوام يثقب الرخام... الله يرحمك يا قدور يا وليدي، الموت ينجي.
وضع الشيخ الربيعي ورقة نقدية في يد حمو وأخرى في يد اللاز، وتساءل:
أُمك استشهدت في بيتي يا اللاز، دفنتها بيديَّ هذه. فهل دفنت قدور؟
ما يبقى في الوادي غير حجاره.
- إيه. إيه. عندما تستيقظ يا اللاز أروي لك كل التفاصيل، وستحدثني بدورك عن تفاصيل استشهاد قدور ابني. انك الآن أفضلنا جميعاً يا اللاز، لأنك لا تحسّ بشيء، لأنك ما تزال تعيش الثورة. بل لأنك الثورة.
ما يبقى في الوادي غير حجاره. ما يبقى في الوادي غير حجاره.
* * *



#الطاهر_وطار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة مفتوحة إلى الوزير فاروق حسني ومؤتمر المثقفين بالقاهرة


المزيد.....




- الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا ...
- بيان مركز حقوق الأنسان في أمريكا الشمالية بشأن تدهور حقوق ال ...
- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - الطاهر وطار - الـــلاّز - رواية - الى ذكري.. جميع.. الشهداء