أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد إبراهيم المحجوبي - ملامح التأثير الحداثي في الفكر الديني















المزيد.....


ملامح التأثير الحداثي في الفكر الديني


خالد إبراهيم المحجوبي

الحوار المتمدن-العدد: 2789 - 2009 / 10 / 4 - 10:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مصطلحات البحث :
لكي لا نقع في خطل الالتباس ،والخلط والوهم المترتب على فوضى المصطلحات ، آثرت أن افتتح بحثي هذا ببيان موجز لمفاهيم أهم ما احتواه من مصطلحات ، ففي ضبط المفاهيم ضمان لحسن التفهيم ، وتقريب لمطمح الاتفاق ، وبهزٌ لخطر الافتراق.

الفكر الديني :
أعني به مجموع الأفكار والنظريات التي صدرت عن علماء ومفكري الإسلام لا أريد لأحد أن يقع في الخلط بين تأثير الحداثة في الدين ، وتأثيرها في الفكر الديني لانهما ليسا شيئاً واحداً ويميز سروش بين الدين ، والمعرفة الجينية ، وعلم المعرفة الدينية ( انظر مظاهر التجديد ص 211 ) .
الحداثة : Modernity
في هذا البحث أعني بالحداثة مفهومها الزمني المقارب لمفهوم المعاصرة أو ( العصرنة ) ولا أعني بها مفهومها الأيديولوجي .
النزوع النقدي :
الملامح الخيرية : نسبة للخير وأعني بها المظاهر الإيجابية النافعة التي تجلت بوضوح في ظل الحداثة بمعناها الزمني . وسط بنية الفكر الديني الإسلامي .
الملامح الضيرية : نسبة للضير وهو الضرر وأعني بها مجموع المظاهر الضارة والسيئة التي أصابت الفكر الديني الإسلامي وتجلت في طروح ومناهج المعاصرين من العلماء والمفكرين

فروض البحث :
1. إن تطور وتجدد الثقافات والأفكار الإنسانية ، أثر في تواصل الإنسان مع الدين بعامة ، والفكر الديني بخاصة .
2. إن تأثر الفكر الديني بالتطورات الحداثية ، جاء على مستوى الطروح والأفكار فضلاً عن مستوى المناهج المعتمدة في مقارنة وقراءة النصوص الدينية المؤسَّسة .
3. إن التأثير الحداثي في الفكر الديني لم يتخذ صورة واحدة ، إنما جاء حاملاً لآثار ، ولوجوه سلبية ، في الوقت نفسه الذي حمل فيه آثاراً ووجوها إيجابية .

المبحث الأول
الحداثة : مدخل مفهومي
مما يجب البدء بتوكيده أن الحداثة ليست متشخصة ، ولامتشيئة ، إنما هي صفة التصقت ببعض الظواهر الفكرية ، والظواهر الاجتماعية ، والمناهج التفكيرية ، وهي من هذا الجانب لا تحمل في ذاتها قيمة أو معنى قيمياً ، بمعنى أنها غير صالحة للأحكام القيمية كأن يقال : الحداثة نافعة ، أو ضارة ، أو يقال إنها مهمة ، أو غير مهمة . ولكن تلك الأحكام القيمية لا تنفك عن آثار الحداثة في المجالات التي تحققت فيها . ففي مجال الفكر مثلاً يمكن تحديد القيمة التي نجدها لتأثير الحداثة في آليات التفكير ومناهجه ، فتطوير وتنشيط النزوع النقدي هو أثر حداثي في التفكير ، يمكننا أمامه أن نطلق حكماً قيمياً فنقول مثلاً : هذا الأثر نافع ومثمر وذو أهمية كبيرة .
إن نزعنا لصُلوحية الحكم القيمي عن الحداثة بذاتها ، يعود إلى إيماننا بأن الزمن في ذاته قِدَماً وحدوثاً لا يحمل أهمية ذاتية إنما الأهمية منوطة بما يحدث فيه من أحداث سواء على المستوى السلوكي العملي ، أو الفكري النظري . من ذلك مثلاً : حدوث معركة مؤثرة ، أو اختراع آلة ، أو اكتشاف نظرية علمية ،أو ظهور فكرة فلسفية . كل هذه الأشياء هي التي تحمل في ذواتها أهمية وقيمة ، لا يشاركها في ذلك الزمن الذي احتواها وسط سيرورة التاريخ .
من هنا فالحداثة من جهة كونها وصفاً زمنياً ، لا نراها أكثر من تجويف أو إطار يحوي الأحداث والأفكار ، والناس من غير تأثير ذاتي ، أما النمو الفكري ،والتطور العقلي المتواصل للإنسان فهو تطور ونمو لا يدين بالفضل للزمن والحداثة ، من حيث هما إطار معنوي إنما الفضل للإنسان وجهوده ومواهبه التي استطاع أن ينميها ، ويرتقي بها طوراً بعد طور بفضل الله تعالى .
لقد أكّد التاريخ لنا أن التطور الزمني مرتبط وقرين للتجديد والتحديث(1) ، وهذه سنة من سنن الله تعالى في خلقه وعالمه الذي أبدعه ، لا يخرج عن هذه السنة كيان الإنسان ولا فكره ، ولا عقائده ، ولا دينه ، ولنا هنا أن نسوق قول النبي عليه السلام { إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها } .
فالتجديد ضرورة بشرية وقرين زمني يستعصى عن الانفكاك .
من باب الحرص علي قوامه الفكر الديني علينا رصد التحولات والطروءات ، والتجديدات التي تحل بساحته ، أو تؤثر فيه . ثم النظر في تلك الطوارئ والمستجدات ،والمؤثرات نظرة مزدوجة تحمل من جهة تقييماً ، ومن جهة أخرى تقويماً . فالتقويم مرحلة ( إجراء ) يتلو التقييم ، هذا هو الترتيب المنطقي الضامن لسلامة النتيجة . خلافاً لمن يقفز إلى مرحلة التقويم قبل المرور بمرحلة التقييم ، وهذا مسلك كثر سالكوه في غفلة عن كونهم مرتكبين خطأ منهجياً غير مأمون .
في بحثنا هذا نزمع تشخيص وتقييم ملامح التأثير الحداثي في الفكر الديني ضمن خطوة أولى ، تتلوها خطوة أخرى ذات طبيعة ناقدة لتلك الملامح .
إن كلامنا على ملامح التأثير الحداثي يقتضي تسليمنا بوجود تأثير من هذا النوع ، وهو أمر لن يدخل نطاق تفصيل هذا البحث الذي سنركز على رصد وتشخيص تلك الملامح والمظاهر التي أوجدتها الحداثة في الفكر الديني ســواء على مستوى المناهج أو المناتج .
انتبه بعض الباحثين إلى أن الفكر الديني ، والعقائد لم يكونا من قبيل المطلقات المستعصية عن التأثّر بالزمن وتبدلاته ، من هنا قال حسن حنفي عن هدفه من بعض كتبه إنه يهدف إلى (( معرفة كيف نشأت العقائد في ظروف العصر القديمة ، وكيف يمكن أن تحيا في ظروف العصر الجديدة ))(1) .
في هذه الكلمة وعي بالتأثير الزمني في المنتج الفكري ، هو وعي لم يتوفر لدى كثيرين ممن رأوا في الفكر الديني مطلقاً لا يجوز تجاوزه ، أو تحديثه ،أو مجاراته على النحو الذي يؤكد تحقق الأثر الزمني المؤكد على أن فضل الله ونعمته العقلية متجددة متواصلة غير محصورة في حقبة زمنية ، أو مقصورة على أهل عصر دون غيرهم .


مفهوم الحداثة :
نظراً لكثرة ما اعترى هذا المصطلح من التصورات المتلابسة ، والفهومات المتغايرة ؛ أرى من الواجب هنا أن أدقق في بيان دلالته التي أراها والتي أتبناها في هذا البحث .
الحداثة من حدث . والحديث هو الخبر ، و هو ضد القديم . والحدوث ، كون الشيء بعد أن لم يكن(2) .
أما في المستوى الاصطلاحي فما أكثر ما وضع للحداثة من تعاريف ،وما أبعدها عن الدقة والصواب .لوقوعها في شرك الأدلجة من جهة ، ومزلق العاطفة من جهة أخرى .فيعرفها البــــعض بقولــه ( ):
((هي اتجاه فكري أشد خطورة من الليبرالية والعلمانية والماركسية وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة )) وقيل(( هي اتجاه جديد يشكل ثورة كاملة على كل ما كان وما هو كائن في المجتمع ))ويقول آخر هو عدنان النحوي :
((لم تعد تحمل في حقيقتها طلاوة التجديد ولاسلامه الرغبة . إنها أصبحت رمزاً لفكر جديد ... فالحداثة تدل اليوم على مذهب فكري جديد يحمل جذوره وأصوله من الغرب بعيداً عن حياة المسلمين)) .
مثل هذه التعاريف تعكس انهباطاً في جدية المقاربة النقدية للحداثة ، حيث لا يتوصل الناقد إلى مرحلة ضبط المفاهيم ويعتمل أسلوب التعميم الإطلاق على غير هدى .
إن الحداثة التي أقصدها في هذا البحث هي ما يمكن أن يرادف المعاصرة ، وإن شئت فقل العصرنة .من هنا فلا أحمِّّل هذا المصطلح أكثر من حمولته اللغوية الوضعية ، بعيداً عن الحمولات الأيديولوجية .فحين أقول هنا الفكر الديني في ظل الحداثة أعني وضعه في ظل العصر الحديث ومستجداته المترتبة على تطور الزمن وسيرورته ، وما اكتنفه الزمن من تطورات كونية وإنسانية على صعيدي الفكر ، والواقع .

المبحث الثاني
تشخيص ملامح التأثير الحداثي
في سياق مقاربة تأثرية الفكر الديني بالحداثة ، وما نبط من مظاهر وملامح لتلك العلاقة ، نرى أنه قد ترتب عن الحداثة نوعان من الملامح ، والمظاهر التي أسميها :
الملامح الخيرية ، ثم الملامح الضيرية .
الأول-الملامح الخيرية : هي التي انطوت على منافع ،ووردت بالخير على الفكر الديني ،وعلى فاعليته التأثيرية سواء على مستوى المجتمعات ، أو الأفراد . هاته الملامح اراها ماثلة في النقاط التالية:
1-استقواء النزوع التجديدي.
هو من المظاهر الناهدة للتأثير الحداثي في ساحة الفكر الديني الإسلامي ، فقد توسعت فيها دائرة المساعي والمحاولات والمبادرات والأعمال التجديدية ، تبعاً للتطور الحداثي بمعناه والايجابي المنضبط. ذلك التطور الذي صارت ثمراته تسنح ، وتجلب الاهتمام ، من لدن أواخر القرن التاسع عشر وما تلاه ، بجهود عدد من علماء المسلمين أمثال جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، ومحمد رشيد رضا ، ثم طه حسين ، وجمال الدين القاسمي .كل في مجال اهتمامه .
لقد قام هؤلاء وأضرابهم بإيقاد الحماسة إلى التجديد في الدين والفكر بعامة ، في سياق السيرورة الحداثية التى التي عملت على إقصاء مظاهر ومعالم الجمود الاجتهادي ، والتصلّب الفكري الذي هيمن على الفكر الديني قروناً طويلة .
جاء النشاط التجديدى حاملاً قيمة لا يمكن غمطها ، لذلك قال أحد الباحثين : )) إن تجديد الخطاب الديني ضرورة ماسة من ضرورات نهضتنا من الكبوة المريرة ..ضرورة داخلية عضوية تقتضها رغبة المجتمع العربي الإسلامي في القضاء على التخلف ، واللحاق بقطار العصر ، إنه محور أساس من محاور المشروع المجتمعي ككل الذي تنشده البلدان الإسلامية )) ( ) .
لقد لقي المسعى التجديدي ولايزال معارضات واتهامات من طرف تيار جمودي لا يرى خيراً إلا في الجمود على الموروث ، وإلا في اجترار المأثور من الأفكار والمناهج ، و لم يقصر هذا التيار في وضع العوائق أمام المساعي التجديدية والمناهج التطويرية ، وكذا لم يقصّر في إيذاء رواد ، ودعاة ، وأفراد المسعى التجديدي بصورة لاتبرأ عن الانحطاط ، والجهل ، في ظل قصور نظر غريب ، وضحالة فكر مريب( )
إن التجديد الذي رأينا آثاره في الفكر الديني يأتي على مستويين:
الأول : أسميه التجديد الجذري للفكر الديني.
وأعني به الاجتهادات التي طالت كل مباحث الدين سواء العقدية ، أو الفقهية ، من غير التزام بخطوط حمراء ، ولا ضوابط تقديسية . وقد جاء هذا النوع من التجديد في أغلبه متفلتاً غير منضبط بضوابط العلوم التي أقامها وأدامها علماء المسلمين منذ القرن الثاني الهجري .وقد كان من أشهر أعلام هذا النوع من التجديد محمد أركون ، وصادق النيهوم ، وحسن حنفي ، وطيب تيزيني.
الثاني : أسميه التجديد السطحي للفكر الديني.
وهو التجديد الاجتهادي الذي لم يجاوز المسائل الخلافية التي شهدت خلافات تليدة ولم تكن محلاً لإجماع المسلمين . ولست أحمل صفة السطحي هنا دلالة قيمية ولا أحط من شأنه إنما عنيت بها دلالتها اللغوية ، لكونه تجديداً لم يستغور الأصول ، ولم يطَل الركائز التي نأت عن اختلافات المسلمين. ومن أشهر أفراد هذا النوع من التجديد أمين الخولي ، وجمال البنا ، ومحمد شحرور ، وسامر إسلامبولي ، ومصطفى أبوهندي .
أما الملمح الثاني من ملامح التأثير الحداثي فهو :
2- غلبة النزوع الاعتدالي على الغلو :
لاجرم أنْ شهد تاريخ الفكر الديني الإسلامي اتجاهاً تنظيرياً غالياً متطرفاً قاسطاً ، إلى جانب اتجاه معتدل مقسط . بيد أن الغلبة التاريخية كانت للمنحى الأول الذي كان صلباً قوياً ، مقارنة بما كان عليه الاتجاه المعتدل .
ويظهر لنا في سياق التطور الحداثي أن التيار المعتدل المقسط قد تضخم حجمه ، وازداد وزنه ، فصارت له الغلبة في هذا العصر من غير أن يصل الأمر إلى مرحلة زوال الغلو والتطرف فهما مصيبتان لاتزالان في ساحة الفكر الديني بيد أن مكانتهما تقلصت وتأثيرهما تحجَّم إلى ضآلة مطمئنة ، وبَآلة مبشِّرة .
إن ما نراه من تصاعد المد الاعتدالي ، هو ظاهرة يمكث وراءها
محفزات وعوامل أهمها عندي :
1-تبدل العقلية الإسلامية والعربية ، وسيرها نحو ساحة المدنية والتطور على نحو نسبي حتى الآن .
وهو أمر اقتضي تقليص الآثار التي كانت تفرضها طبية الحياة البدوية والصحراوية التي كانت غالبة على بيئة وحياة العرب والمسلمين . أقول هذا وأنا مقتنع بالنظرية المقررة لتأثير البيئة والمناخ في الإنسان ومزاجه وفكره ، كما قرر صاعد الأندلسي ومنتسيكيو وغيرهما .
2- ظهور عدد من العلماء الذين انتهجوا - قولاً وعملاً - منهج الوسطية والاعتدال ، وأنتجوا طلاباً ومريدين ، ساروا على نهجهم ؛ فأورث ذلك الفكر الديني الحديث مسحة وسطية ، بريئة عن الغلو ، ذلك الغلو الذي لا ندَّعي أنه قد قضي عليه ، بل هو ماكث في نماذج كثيرة ، من الأفراد والجماعات ، غير أن كثرتها ليست غالبة والحمد لله.
وقد كان كم مظاهر النزوع الاعتدالي إلى ظهور اجتهادات وأفكار جديدة احتواها الفكر الديني الحديث في أبواب ومواضيع حساسة ، من ذلك ما هو في باب أحكام أهل الكتاب ، وأحكام الحدود ، والحرب والسلام ، و بعض مسائل العقائد .


3-استقواء النزوع النقدي
إن الروح الناقدة هى من أهم عناصر الذات العالمة .
لقد أتى على الفكر الديني حين من الدهر طويل ، ظل فيه لحكومة التقليد ، ومنهج الاجترار والاسترداد .
أما في العصر الحديث فقد نهد بجلاء نزوع قوي نحو الاهتمام بالنقد وتفعيله في سياقات مقاربة الفكر الديني ومباحثه ، ونصوصه المرجعية(القرآن والحديث).
لقد تبنى الفكرالديني الحديث أعمالا نقدية جريئة توجهت نحو التراث الديني ، وأعلامه ، ومناهجه ، ونظرياته . على نحو لم يكن واقعاً في القرون السالفة حيث كانت الغلبة للتوجه الاستردادي ، أمام التوجه النقدي .
ليس في هذا الكلام ما ينفي وجود جهود نقدية عند اسلافنا من العلماء الأعلام ، لكن تلك الجهود النقدية لم ترق إلى أن تصير هي السمة الغالبة على الممارسة العلمية ، كما هو الحال في وقت الحداثة واحتوائها للفكر الديني .


* النوع الثاني من الملامح التأثيرية في الفكر الديني:
الملامح الضيرية :وهي التي انضوى فيها ضرر ، وسوء ، حلَّ بساحة الفكر الديني .
تلك الملامح هي التالية:
1- توسع دائرة التفلت عن التدين والدين
من مظاهره أنه صار يظهر بجلاء خفوت في وهج الروح الإيمانية التي كانت ترافق الكتابات الدينية قديماً ، حيث كان أكثر المصنفين القدماء يسكنون مشاعرهم الإيمانية ، وخلجاتهم القلبية ، في مقدمات كتاباتهم ، وفي أثنائها ، مما هو داخل في أطار الفكر الديني بمختلف مباحثه ، كعلم التفسير ، وعلم الحديث ، وعلم الأصول ، وعلم الفقه . من ذلك الإكثار من حمدالله ، وشكره وتعداد أفضاله ، والدعاء المتطاول في مقدمات الكتب .
أما في الزمن المعاصر فقد سنح تبدل لا يخفى ، في مقدار وعمق تلك المشاعر الإيمانية التي يعلنها المصنفون في مجال الفكر الديني ، فقد خفت ووهنت تلك المشاعر التي كان الأولون يعلنونها ويسطرونها في كتاباتهم .
صار كتاب العصر الحديث إلى التقليل من التعبير والإشهار الإيماني ، بل وصل بعضهم إلى درجة الوقاحة في التحول عن التعبير عن
المشاعر الإيمانية .


من مثالات ذلك ما نجده في بعض كتابات حسن حنفي الذي كتب مايلي :
(( فإذا كان القدماء قد حمدوا الله على الكفاية فإننا ... لانحمد بل نتضجر ... ولانثني بل ننقد ، ولا نشكر فلا شكر على واجب ... )) ( ) .
ويقول (( إذا كانت بعض المقدمات الإيمانية القديمة تبدأ فقط باسم الله الرحمن الرحيم ، فإننا نبدأ باسم الانتفاضة .. نبدؤها باسم الأرض المحتلة ... باسم النهضة)) ( )
ويقول (( كما يستعين القدماء بالله فإننا نستعين بقدرة الإنسان على الفهم )( ) . ويقول في غلو وصلف(( لاأطلب ثواباً أخروياً ولا جزاء دنيوياً)) ( ) .
إن هذه الكلمات الفارطة جاءت ردات فعل عما امتلأت به كتب القدماء من تعابير إيمانية دينية أودعوها بواطن ، وظواهر كتاباتهم . والمثال الذي هنا بين مدى التبدل الذي صار إليه كثير من كتاب الفكر الديني في هذا العصر، في ظل الحداثة .

ليس غريباً أن يتساوق انتشار التدين ، مع نزوع مضاد إلى التحرر منه ، وأن يكون لكل اتجاه رواده وأتباعه . لكن الذي صار جالباً للاهتمام والاسترابة ، ما صار جلياً من توجهات التفلت عن الأديان بعامة ، وشيوع النزعات الإلحادية ، والعدمية ، من غير ا نحصار في نطاق جغرافي معين ، فذلك أمرٌ عمَّ الغرب ، والشرق جميعاً ،مع تفاوت نسبي لا يخفى على أحد.
لم يقف الأمر عند حد التفلت عن التدين والالتزامات التشريعية ، بل تعداه إلى التحرر عن الأديان نفسها ، وتبني عقائد إلحادية تنابذ الأديان ، من حيث هي أديان بغض البصر عن أساميها، وتشاريعها ، وصارت تلك العقائد تطرح في ساحات الفكر الديني ، ومقارنة الأديان .
لقد أسهم التطور التقني والإعلامي في توسيع ساحة الازورار عن الأديان ،وتعزيز أعداد المنفكين عنها . من ذلك مثلاً صيرورية (الإنترنت) وسيلة فعالة في إيصال، وتطوير ، وتغذية ،وتقوية النزوع التمردي على الأديان ؛ فكثرت مواقع الملحد واللادينيين ، والعلمانيين ، والليبراليين( ) .
كل هاته الطوائف لقيت مجالات رحبة للنشاط والاستشراء في ظل الحداثة ، ولاريب في أن لها علاقة تمدد عكسي مع الدين والتدين ، فمتى توسّعت ؛ تقلص . ومتى انكمشت ؛ توسع .
إن مثالات الخروج عن الأديان لم تعد خافية في الساحة الإسلامية ، في زمن الحداثة ، ولنا أن نذكر هنا إلحاد إسماعيل أدهم ،ونشاطه في جمعية نشر الإلحاد . ثم الإلحاد المؤقت لزكي نجيب محمود تحت عباءة الوضعية المنطقية . ثم إلحاد صادق جلال العظم في ظل الفلسفة لاشتراكية ، ثم غلحاد عبد الله القصيمي بعد رحلة سلفية طويلة ، انتهت به إلى إنكار خالقه وتوبيخه . ثم ظهور كثير من الملحدين الأخفياء ،من يملؤون اليوم ساحات الأنترنت . إنها حركة مطّردة إلى الخروج من الدين من حيث هو وضع إلهي ،ورسالة علوية .

2- شيوع تطفل الأدعياء على ساحة الفكر الديني :
كان من عوائد العلم والعلماء وقديماً ألا يتكلم أحدهم فيما لا يحس من العلوم ، وأن يجتنب الخوض في غير تخصصه الذي يتقنه من أبواب العلم . أما في ظل الحداثة فقد شاعت ظاهرة التطفل في ساحة الفكر الديني خاصة ؛ فصار مألوفاً أن نجد المهندسين يؤصلون الأحكام الفقهية ، والأطباء يفسرون القرآن ، والأدباء يشرحون الحديث .
ليس هذا من باب انفتاح العلوم وتواصلها بعضها مع بعض ، فذاك باب آخر ، له أصوله ، لكن هذا الوضع التطفلي صار ظاهرة ضارة ومؤذية للفكر الديني ، ومعرقلة لتواصله مع الناس ،وطلاب العلم الديني خاصة . كما أنه وضع أوهن من هيبة العلوم على نحو نسبي ، لم يكن له أن يحصل لو ظلت ساحة الفكر الديني مصونة ، ذات هيبة ومنعة على النحو الذي كانته في حقبة ماقبل الحداثة . لكن الذي حدث أن تكاثر المتطفلون ، وازداد المتفيهقون ، ونطق الرويبضة .


ختــــــام
تناول هذا البحث الفكر الديني بوصفه مجالا من مجالات العلوم الإنسانية ، هذه العلوم التي لم تكن في عصمة عن التأثيرات ، و التطويرات المنهجية والفكرية المتوالية بتوالي الأزمان ، وصولا للعصر الحديث ، وما حمله من طفرات وثورات فكرية في كل مجال ، وعلى كل صعيد ، سواء في ذلك العــلوم التطبيقية ، والعلوم الإنسانية .
وقد وقف هذا البحث على فرضية مركزية ، هي أن الحداثة وتقافاتها المعاصرة قد أحدثت تأثيرات قوية في الفكر الديني ،توزعت بين ملامح إيجابية نافعة ،وملامح سلبية ضارة .
وقام هذا البحث بمهمةكشفية تشخيصية لتلك الملامح التأثُّرية وامتداداتها في ساحة الفكر الديني .
عمِلنا في عمَلِنا هذا على تحديد المفهوم الدقيق لمصطلح الحداثة من حيث تخليصه عن الحمولات الغرضية والتوجهات المؤدلجة ، وجعلنا معتمد فهمنا له على دلالته الوضعية ، بعيداً عن التعاريف والحدود التي وضعها من لم يخلصوه من شوائب التوجهات الفكرية غير الصافية
لقد تأكد لنا خلال هذا البحث أن الحداثة أثرت في ساحة الفكر الديني بنحوين متضادين فجاء لها تأثيرات نافعة سميتها بالملامح الخيرية ، إلى جانب تأثيرات ضارة وسمتها بالملامح الضيرية .
من هنا لا يستقيم إطلاق القول بأن الحداثة حملت نفعاً محضا للفكر الديني ، كما لا يستقيم القول إنها حملت ضرراً خالصاً له .
وعلى كل حال جاءت هذه المقاربة عَجلى لوضع أفكار رئيسة قابلة للنقد والتمحيـــــــــص والتوسع والقبول والرد، شـأنـــــها - في ذلك - شأن كل عمل بشري ، يحتمل الصواب بقدر احتماله للخطأ .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

المراجع:

1- لسان العرب ابن منظور – دار المعارف – القاهرة –دت
2- مختار الصحاح – زين الدين الرازي –تحقيق: أحمد إبراهيم زهوة-دار الكتاب العربي – بيروت -2005
3- مظاهر التجديد في الخطاب الديني الإسلامي المعاصر – محمد الفران- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – المملكة المغربية –ط1-2007
4- من العقيدة إلى الثورة – حسن حنفي – دار التنوير – بيروت –ط1- 1988

























#خالد_إبراهيم_المحجوبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - خالد إبراهيم المحجوبي - ملامح التأثير الحداثي في الفكر الديني