أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - هايل نصر - أطفالنا. تغيرت المهن وبقيت المهانة















المزيد.....

أطفالنا. تغيرت المهن وبقيت المهانة


هايل نصر

الحوار المتمدن-العدد: 2788 - 2009 / 10 / 3 - 23:06
المحور: حقوق الاطفال والشبيبة
    


من وحي زيارة مشروطة للوطن.
من مقهى حديث الافتتاح, مطل على شارع رئيسي في بلدي الذي لم أزره إلا مرتين بعد أكثر من 35 عاما من الاغتراب. شارع كان يومها الرئيسي والوحيد في المدينة. كنت أعبره مرات عديدة يوميا. فيه وعبره تمر كل نشاطات المدينة وفعالياتها. من هذا المقهى, والمقاهي نادرة في مدينتنا, كانت جلسات استعادة الذكريات, فكلما سنحت الفرصة, استرق بعضا من الوقت في غفلة من الأصدقاء والأهل والمعارف للهروب من بعض الواجبات الاجتماعية التي تفرضها العادات والتقاليد على المغترب, للخلوة بنفسي واستحضار الماضي وذكريات الطفولة والدراسة الإعدادية والثانوية, وهل هناك في حياة الإنسان مرحلة أعز على القلب من تلك المرحلة مهما طال الزمان وبعد المكان؟. انها المرحلة التي ستؤثر في بناء شخصية الانسان لاحقا.
في بلداننا تتلاعب بنا الصدف وللأقدار, وتأخذنا في كل اتجاه وصوب, وقد تبعدنا إلى حيث لم نكن نتوقع. إلى ما وراء البحار. قد يطول اغترابنا وصولا إلى أواخر مراحل الشباب, وللكهولة, وحتى الشيخوخة, وقد يلقى البعض وجه ربه الكريم غريبا دون أن تكتب له العودة ولو لمرة واحدة ليرى الوطن بمن فيه وبما فيه.
من وراء واجهة المقهى المذكور, في الطابق الأول, كنت أرى المارة في زحام وتدافع بمعدلات غير مسبوقة, وبوجوه فيها صرامة وثقل الواقع وأعبائه. وهو ما لم يكن عليه الحال في أيامنا الخوالي. يختلط الماضي بالحاضر في مخيلتي. أرى نفسي, وكأنها البارحة, طالبا قرويا قادم إلى إعدادية المدينة والى ثانويتها لاحقا. وأتذكر الطلبة الآخرين من قريتنا والقرى الأخرى, فقد كنا وقتها محل تهكم أبناء المدينة باعتبارنا قرويين, رغم انعدام الفوارق الكبيرة بين قرانا والمدينة المذكورة. كأننا قادمين من دول الجنوب المتخلف إلى دول الشمال المتطور, وكان رفضنا حينها لنفس أسباب رفض الشمال الغني لمهاجري الجنوب الفقير في أيامنا هذه.
كنا عرضة لهجوم متواصل من أطفال في مثل أعمارنا, أو اكبر قليلا, ممن لم تتح لهم الفرص وإمكانياتهم المادية دخول المدارس. وأجبرتهم ظروف الحياة على امتهان مسح الأحذية (بوياجية) أو حمل أمتعة المسافرين في حافلات النقل الداخلي (عتالة), رغم اعتراض أصحاب الأمتعة الخفيفة التي لا يحتاج صاحبها لمساعدة في حملها, وإرغامهم على دفع مبلغ من النقود يحدده العتّال نفسه بالإرادة المنفردة, وهذا من أصول المهنة وقوانينها وأدبياتها. ولا يستطيع المسافر الاعتراض أو المساومة إذا كانت كرامته تهمه.
كنا نسير مجموعات من الأصدقاء والمعارف حتى لا يتم التفرد بنا في زاوية مهجورة أو طريق منعزل. وما أكثر القصص وما أكثر الحوادث وما أكثر الذكريات التي كانت تقفز للمخيلة في الجلسات التذكارية تلك. ( ومع إني لا أريد ذكر طرائف, فليس هنا مكان ذكرها, قفزت بي الذاكرة فورا إلى حادثة جرت في الزاوية التي يطل عليها المقهى المذكور, كان بطلها من كنا نسميه العتّال الأخضر, لارتدائه خلال سنوات طويلة وفي كل الفصول قميصا اخضر اللون تحول اخضراره بفعل الزمن من غامق إلى باهت جدا, و بقي فيه بعض ما يذكر بلونه الأصلي. كان المذكور قوي البنية والشكيمة, متعدد المهن: ماسح أحذية, حمال. جاهز لكل عمل يدوي. متقن لأصول المصارعة الحرة يمارسها في كل مكان عند اقتضاء الحاجة ومع من لا يعجبه. ولهذا كله كانت له القيادة والريادة بين نظرائه. أما الضحية فكنت أنا نفسي. كنت يومها عائد من الإعدادية, فاستفرد بي الأخضر المشهور, وأعطاني علبة كبريت فيها عود ثقاب واحد مبلل قليلا وأمرني أن أشعل له سيجارته بهذا العود.فان نجحت نجوت, وإلا فالعقاب الشديد واقع لا محالة. حاولت التنفيذ بعد الاتكال على الله, متهيئا في الوقت نفسه لهرب سريع لان النتيجة معروفة سلفا. وهذا ما كان, أنقذتني خفتي وثقل وزنه, ولكن مع ذلك لم اسلم من العقاب بعد أسبوع من ترصده بي). كان صراعا بين الأطفال المحرومين وبين من توفرت لهم بعض الفرص التي قد تقود لمستقبل أفضل. صراع يعبر عن غضب وقهر ولكن التنفيس عنه يذهب في الاتجاه الخاطئ.
كان الأطفال المتسربون من المدارس في أيامنا تلك معدودين ومعروفين بالاسم عند الجميع تقريبا. يمارسون مهنهم تلك بمعرفة أو بعدم معرفة ذويهم. وبعد سن معينة, قبل البلوغ أو في بداياته يسافر بعضهم إلى الخليج. ومع ذلكلبعض الآخر إلى الأمريكيتين, فنزويلا بشكل خاص, ومنهم من يعود عاد بثروات لا بأس بها, ويساهم في أعمار بلده الذي عجز عن توفير لقمة عيش كريمة له في طفولته, أو نوع من الكرامة. ومع ذلك فكلهم مجال ابتزاز في كل مرة يعودون فيها لزيارة الوطن أو الإقامة النهائية فيه, من أصحاب النفوذ والسطوة, المقيمين في هذا الوطن وعلى صدره إقامة دائمة مانعة لغيرهم, رادعة لهم.
تذكرت كل هذا وأنا أرى أطفال اليوم , في الشارع نفسه, وقد تغيرت المهن, من مسح الأحذية والعتالة, إلى التجارة. أية تجارة !! تجارة على عربات أو" بسطات" على أرصفة الشوارع, أو صناديق معلقة على الصدر لبيع الجوارب أو العلكة أو العاب الأطفال, أو علب الكبريت, وكأننا في زمن فيكتور هيجو ... ينادون على بضاعتهم دون توقف بأصوات صاخبة, معتقدين أن جلب الزبائن يتناسب طردا مع ارتفاع الأصوات ومع الضجيج. إلى جانب هؤلاء الأطفال آخرون, رفاق لهم, يحيطون بهم للمرافقة والتسلية أو مندفعين لتعلم سر المهنة, بحلم الوصول مثلهم إلى أبواب التجارة وكنوزها. كان هذا في الصيف وأكد لي بعض الأصدقاء إن الحال يبقى على ما هو عليه أيام افتتاح المدارس, لأنه كما أكدوا لي, لا يتعارض مطلقا مع الدراسة, فهو يجري بعد الخروج من المدارس وفي أوقات الراحة وعلى حسابها.
كنت قد تحدثت لبعضهم, من أبناء الأقارب والأصدقاء, عن جدوى هذه الأعمال لمن هم في أعمارهم. وعن تعارض ذلك مع الدراسة. فأتني الإجابات مختلفة ــ بعد التفات يمنة ويسرى وفي كل الاتجاهات, وتضرع للسموات طلبا للحماية والمعونة والوقاية. انه الرعب الأزرق من جني ازرق ــ يعيد البعض الأسباب إلى الوضع العائلي والبطالة المتفشية التي تطال الأهل والأخوة القادريين على العمل. أولمساعدة العاجزين في الأسرة, أو للمساهمة في علاج مريض, أو لعدم إمكانية السفر لتكوين النفس !!, أو لجمع مبلغ من المال قد يفيد في إكمال الدراسة إذا ما أوصدت الجامعات مستقبلا أبوابها في وجههم واضطروا للالتحاق بجامعات الأقساط التي أقيمت لجمع باهظ الأقساط والثراء غير المشروع على حساب الطلبة, كهدف أساسي يستره هدف علمي معلن بالفم الواسع ومصرح به على رؤوس الاشهاد. أو لان الشهادات لم تعد تنفع في شيء في الحياة العملية, أو لأن مستواها سقط سقوطا حرا. ويضربون عشرات الأمثلة عن خريجي جامعات من فروع مختلفة يبحثون عن عمل فلا يجدونه, حتى ولو كان غير مناسب لدراساتهم التي ضحوا من أجلها بسنين طويلة من حياتهم. ولان هؤلاء الخريجين سيعودون للحياة العملية لممارسة الأعمال التي يمارسها غير المتعلمين, فأذن, والحال هذا, ما جدوى الدراسة ومتاعبها وتكاليفها !!!.
قادتني الصدفة إلى محل تجاري أنيق لبيع ملابس للأطفال القادرين على شرائها, قرب المقهى المذكور, تشرف عليه سيدة كريمة في غاية التهذيب واللطف والأناقة ـ قبل مغادرتي مدينتي كان فيها فتاة واحدة تعمل في محل تجاري مع والدها فأصبحن اليوم بالمئات ـ دخل علينا صبي في الرابعة عشر من عمره تقريبا, فسألني عن رأيي في السفر إلى فنزويلا, ولا أنسى عندها ما رأيته في عيون السيدة الرقيقة صاحبة المحل: قلق وحيرة وخشية, علما بأنها هي نفسها كانت مغتربة في البلد المذكور, كان يقلقها الوضع الأمني هناك وما يتعرض له المغتربون من حوادث قتل وسطو واختطاف. فكيف لا تقلق إذا كان طالب الاغتراب ابنها ؟ . أمام نظراتها المؤثرة المعبرة التي لا أنساها, أجبت السائل باني لا استطيع النصح بما لا اعرف, وان كان لابد من السفر فليكن لمثل من في عمره إلى فرنسا للدراسة, وبناء مستقبل أفضل, حيث اعرف هذا البلد وتكون نصيحتي عندها من خبرتي. كنت في الوقت نفسه ارقب خفية وجه الأم علي أتبين اثر كلامي في ملامحه الرقيقة. واعترف بعدم مقدرتي على قراءة كل شيء فيه, فالمسألة مسألة هجرة لا يدرك أبعادها إلا مهاجر. وقلب الأم لا يعلم كامل مكنوناته إلا خالقه.
آلاف الأمهات والآباء في وطننا يقلقهم المصير المجهول لأبنائهم. فلا يريدونهم باعة متجولين, وأصحاب مهن منقرضة تعود تدريجيا للظهور. ولا أميين, ولا أنصاف متعلمين. ولا خريجي جامعات, بشهادات منقوصة قيمتها العلمية ومشكوك فيها, ولا عاطلين عن العمل, أو في بطالة مقنعة. ولا نهبا للقلق والخوف من المجهول, ومن الملاحقات الأمنية, ومن غموض المصير. أطفال لم يلدوهم ليصبحوا مهاجرين أو مشاريع مهاجرين." أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض" يريدون أن يكون مشيهم على أرضنا آمنا, حاضرا ومستقبلا.
إنهم أبناء الوطن, لم يخلقوا للصراخ في طرقاته وشوارعه لبيع غير مجد, ولا للتشرد فيها. إنهم المستقبل. ولا مستقبل لوطن أبناؤه في الشوارع. لهؤلاء حقوق عليه. وله عليهم بعد ذلك ومقابله حقوق. لهم عليه حقوق مواطنية كاملة. حقوق الوصول إلى العمل الشريف, وتوفير الكرامة الإنسانية. حق المساواة مع غيرهم ممن يعيش في هذا الوطن ويعتبر نفسه المالك الشرعي له. الحق في طفولة متزنة ومستقرة. و تنمية شاملة, جسدية ونفسية. الحق في تعليم مجاني, في كل المراحل, هادف ومخطط وعصري.الحق في علاج مجاني. حق الضمان الاجتماعي. حق البقاء مع أسرته والاستقرار بأمان. حق ممارسة مهن شريفة غير مهينة أو ممتهنة. حق ضمان المستقبل.
عندها, وعندها فقط, يصبح للوطن ــ وليس لأسياده المزعومين ــ عليهم حق المحبة والولاء والتضحية والدفاع عن قيمه وترابه. وعندها, وعندها فقط, تصبح العلاقة علاقة بين مواطن ووطن..



#هايل_نصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رأيت رعايا ولم أر مواطنين
- موظفون شرقيون اجتهدوا فتميزوا
- في الحماية القضائية للطفولة 2/2
- في الحماية القضائية للطفولة. 1/2
- البرلمان الأوروبي
- قراءة في كتاب غير عربي 2/2
- في حق جمع الشمل (فرنسا) Regroupement familial
- من وحي قراءة في كتاب غير عربي
- ثقافة قانونية وقضائية خارج الثقافة !!!
- ما ضاع حق وراءه مطالب
- ما للدولة ليس للدولة
- ثقافة عربية دورية ومتنقلة .
- القضاء الجزائي الفرنسي في عيون رجاله 2/2
- في الأفق نصر عربي جديد !!!.
- قاضي التحقيق القاضي الأكثر إثارة للجدل2/2
- عن أية ديمقراطية يدافع هذا الغرب؟.
- صقور وحمائم ووقف حذر لإطلاق الشتائم
- مظاهراتهم ومسيراتنا
- مجلس الأمن أي امن !!!
- عام جديد في عالم متحضر


المزيد.....




- مقر حقوق الإنسان في ايران يدين سلوك أمريكا المنافق
- -غير قابلة للحياة-.. الأمم المتحدة: إزالة الركام من غزة قد ت ...
- الأمم المتحدة تحذر من عواقب وخيمة على المدنيين في الفاشر الس ...
- مكتب المفوض الأممي لحقوق الإنسان: مقتل ما لا يقل عن 43 في ال ...
- مسئول بالأمم المتحدة: إزالة الركام من غزة قد تستغرق 14 عاما ...
- فيديو.. طفلة غزّية تعيل أسرتها بغسل ملابس النازحين
- لوموند: العداء يتفاقم ضد اللاجئين السوريين في لبنان
- اعتقال نازيين مرتبطين بكييف خططا لأعمال إرهابية غربي روسيا
- شاهد.. لحظة اعتقال اكاديمية بجامعة إيموري الأميركية لدعمها ق ...
- الشرطة الاميركية تقمع انتفاضة الجامعات وتدهس حرية التعبير


المزيد.....

- نحو استراتيجية للاستثمار في حقل تعليم الطفولة المبكرة / اسراء حميد عبد الشهيد
- حقوق الطفل في التشريع الدستوري العربي - تحليل قانوني مقارن ب ... / قائد محمد طربوش ردمان
- أطفال الشوارع في اليمن / محمد النعماني
- الطفل والتسلط التربوي في الاسرة والمدرسة / شمخي جبر
- أوضاع الأطفال الفلسطينيين في المعتقلات والسجون الإسرائيلية / دنيا الأمل إسماعيل
- دور منظمات المجتمع المدني في الحد من أسوأ أشكال عمل الاطفال / محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي
- ماذا يجب أن نقول للأطفال؟ أطفالنا بين الحاخامات والقساوسة وا ... / غازي مسعود
- بحث في بعض إشكاليات الشباب / معتز حيسو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق الاطفال والشبيبة - هايل نصر - أطفالنا. تغيرت المهن وبقيت المهانة