أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - كريم مروة - أسبوع سياسي وسياحي في اليمن: كل شيء تغيّر في عدن ...















المزيد.....



أسبوع سياسي وسياحي في اليمن: كل شيء تغيّر في عدن ...


كريم مروة

الحوار المتمدن-العدد: 166 - 2002 / 6 / 20 - 06:58
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية
    


"النهار"

الخميس 20 حزيران 2002
 
لا بد من صنعاء وإن طال السفر. الكلام ليس لي. بل هو قول عربي قديم. لكن رغبتي في السفر الى صنعاء لم تكن للهدف ذاته الذي من اجله صار هذا الكلام العربي القديم مثلاً. ولم يكن سعيي الى صنعاء يحمل هذه اللوعة وهذا التوق وهذا الاصرار. الاّ أنني، مع ذلك، كنت أتشوّق للذهاب الى هناك، الى حيث التاريخ العربي القديم، والى حيث الجغرافيا الطبيعية والمعمارية ذات الخصوصية اليمنية المميزة، والى حيث الثقافة والتراث العربيان.

ذلك ان زياراتي المتكررة الى عدن، المدينة والمحافظة، في جنوب اليمن، بين عامي 1970 و،1989 لم تكن كافية لاشباع فضولي واغناء معرفتي باليمن الحديث والقديم كله. كان، اذن، لا بد من زيارة الشمال اليمني، والعاصمة صنعاء خصوصاً، لكي تكتمل المعرفة ويرتاح الضمير الفضولي. غير ان امراً آخر كان يحفزني على القيام بهذه الزيارة، ويلح عليّ بما يشبه الاصرار، لكي الاقي، في شوقي الى اليمن، شوق صاحب الكلام العربي القديم الى صنعاء. وهو فضول عائلي، بكل معنى الكلمة.

ذلك ان عائلة مروة، الجنوبية الشيعية الاثني عشرية، تنتمي الى قبيلة همدان اليمنية، بحسب شجرة العائلة التي اهداني نسخة منها شقيقي الاكبر محمد حسني، صاحب "كشكول ابو هادي"، الذي سيخرج الى النور في وقت قريب. اذ تشير هذه الشجرة الى ان اصول العائلة وجذورها التاريخية تعود الى هذه القبيلة، التي يردد ابناؤها في لبنان وفي اليمن عن لسان النبي العربي، او عن لسان الإمام علي بن أبي طالب، القول الآتي في مدحها: ولو كنت بواباً على باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام.

الا ان شجرة العائلة هذه تشير، في الوقت نفسه، الى ان لجدنا مروة ثلاثة اشقاء هم: عبد الصمد والحر وعبد الساتر. وهؤلاء الاشقاء الاربعة من ابناء همدان، انما جاؤوا من اليمن الى لبنان، في احدى الهجرات اليمنية، التي توزعت اتجاهاتها شرقاً وغرباً، بين العراق وبلاد الشام، في مقاتلة الصليبيين، وبين اسبانيا وبلاد المغرب، للمساهمة في الفتح العربي هناك. وقد أكد لي صديقي ورفيقي في الرحلة، نديم عبد الصمد، ان كل الروايات الشائعة حول قرابتنا العائلية وحول جذورنا اليمنية، وحول القبيلة الهمدانية ذاتها، معروفة بالنسبة الى عائلته الدرزية الجذور، القديمة في التاريخ.

ولكن الزيارة، مع ذلك، جاءت تلبية لدعوة كريمة من صديقنا الدكتور عبد الكريم الارياني، الامين العام للمؤتمر الشعبي، ورئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق. وهي دعوة تكررت وتأجلت تلبيتها مرات عدة، لظروف خاصة بنا وبأصدقائنا اليمنيين. ولذلك فان السبب المباشر للزيارة سياسي وثقافي. وقد اتاحت لي، أنا خصوصاً، التعرف الى الواقع الجديد في اليمن، بعدما توحد هذا البلد العربي، في ظروف صعبة ودامية، وحقق لليمنيين حلماً عريقاً، حرموا زمناً طويلاً من تحقيقه، لاسباب يتحملون هم مسؤوليتها، او لاسباب خارجة عن ارادتهم.

وكانت قد قسمت اليمن، في فترات تاريخية سابقة، المطامع الاجنبية، العثمانية والبريطانية، وأجلت توحيده سياسات هنا، وسياسات هناك، ومصالح متناقضة متعددة الاتجاه في كل الامكنة. وهكذا اجتمعت لي ولصديقي نديم في الزيارة اهداف قديمة وجديدة، اعطتها، بالنسبة اليّ، معنى خاصاً، هو المعنى الذي شجعني على ان اكتب هذه الانطباعات، في صيغة تجمع بين المتعة الشخصية، والفضول المعرفي، وتشير الى عمق العلاقات السياسية مع الاصدقاء اليمنيين.

الجانب السياسي في الزيارة تمثل بلقاء حميم ومطول مع الرئيس علي عبدالله صالح، سبقه لقاء الى مائدة الدكتور الارياني، في المطعم المعروف بمطعم حكمت. وهو مطعم لبناني جمع فيه صاحبه حكمت خوري بين المازة اللبنانية، محرومة من شريكها الذي لا يذكر اسمه في اليمن، والاطعمة اليمنية المعروفة، وسادتها ثلاثة: السمك المسكوف ولحم الغنم، وأكلة ثالثة يحبها اليمنيون، ويألفها العرب والاجانب الذين يكثرون من زياراتهم الى اليمن.

لقد شكّل هذا اللقاء الى مائدة الارياني مفاجأة كبيرة وسارة، بالنسبة الينا. اذ حضره، الى جانب الاعضاء البارزين من قيادة المؤتمر الشعبي، المسؤولون الاول في احزاب المعارضة، جميعهم وجميعها من دن استثناء، وفي مقدمهم نائب الامين العام للحزب الاشتراكي جار الله عمر - الامين العام مقبل كان لا يزال مريضاً ويقيم في عدن - وأحد ابرز القياديين في حزب الاصلاح (الاسلامي الاتجاه والنزعة).

وتبع هذا اللقاء لقاء آخر الى مائدة العميد يحيى المتوكل، نائب الامين العام للمؤتمر الشعبي، حضره عدد كبير من قادة المؤتمر. وكانت لنا، قبل ذلك وبعد ذلك، لقاءات سياسية وحوارية مع كل من الدكتور الارياني منفرداً، والعميد المتوكل منفرداً، ومع قيادة الحزب الاشتراكي، في صيغ متعددة، بالمفرد وبالجمع. وتعذر علينا اللقاء مع قادة الاحزاب الاخرى ومع المثقفين من اصدقائنا وهم كثر، بسبب ضيق الوقت واتساع دائرة البرنامج السياحي في طول اليمن وعرضه، من الشمال الى الجنوب وبالعكس.

كثرة اللقاءات وكثرة القضايا التي كانت محور نقاشات صريحة فيها، بما في ذلك اللقاء مع الرئيس علي عبدالله صالح، أغنت معرفتي باليمن. لكنها لم تكن غريبة عن صديقي نديم، الذي بدا لي، لكثرة ما يعرف عن اليمن وما يعرفه عن اليمنيين، يمنياً عريقاً. ذلك ان هذه الزيارة قد جمعت ووحدت، بالنسبة اليّ، بين ما كنت اعرفه عن اليمن، من خلال القراءات والاصدقاء ومن خلال الاحداث، وما عرفته بالمشاهدة على ارض الواقع. وغني عن البيان ان هذا النوع من المعرفة الذي يتم بالمشاهدة الحية، هو افضل من اي معرفة تأتي الى صاحبها بالواسطة، اية واسطة. ولأنني كثير السفر الى جهات العالم الاربع فان معظم معارفي الحقيقية عن البلدان، في السياسة والثقافة والتاريخ والجغرافيا، انما اكتسبتها بالمشاهدة المباشرة الحية. ولذلك فهي تعيش زمناً اطول في الذاكرة وفي الرؤى.

وكان سبق لي ان شاركت في مؤتمر حول اليمن، عقد في لندن باتفاق مع احدى الجامعات البريطانية، نظمته المعارضة اليمنية في اواخر عام ،1994 اي بعد حرب التوحيد. ورغم الآثار السلبية للحرب، المادية والنفسية، والتي قد تبقى بعض الوقت، ثم تدخل في النسيان، فان الوحدة، بذاتها، كحقيقة تاريخية، قد شكلت، بتحققها، بالنسبة الى اليمنيين حلماً عريقاً، عبرت عنه، وأكدت عليه، الاحزاب اليمنية وبرامجها وخططها، في الشمال والجنوب، عندما كان لليمن دولتان بنظامين مختلفين. وعبرت عنه، وأكدت عليه، الاحزاب في اليمن الموحد، اليوم، من دون استثناء.

تجسد هذا الامر في دستوري الدولتين القديمتين، في الوقت ذاته، وتكرس في الوثيقة الدستورية المشتركة التي أقرها البلدان في اول الثمانينات من القرن الماضي. الا ان الحديث عن الوحدة اليمنية، كحلم وكحقيقة، هو حديث شائك، يدخلني في امور لست فيها شريكاً الا في الموقف المبدئي من الوحدة. لذلك لن اغامر. واكتفي بالتذكير بما قلته في ذلك المؤتمر (مؤتمر لندن) للمعارضين الذين اتوا الى المؤتمر من صنعاء، وعادوا منه الى صنعاء، والى الآخرين الذين اختاروا المعارضة من الخارج، بقرار منهم او بسبب احكام قضائية ضدهم اعترضوا عليها وعلى الجهة التي اصدرتها وأوحت بها.

قلت، يومذاك، من بين ما قلت، بان ما حدث قد حدث - وهو مأسوي بالطبع - اياً كانت الاسباب التي ادت اليه، وان على القوى الديموقراطية اليمنية ان تتعامل مع الواقع الجديد بسياسة جديدة، لا ترجع التاريخ الى الوراء بل تحدد مساره بدقة، لكي يذهب اليمنيون الى مستقبلهم بأقل ما يمكن من الآلام، وبأكثر ما يمكن من الآمال، وان يفيدوا من التجاوب، تجاوبهم هم وتجاوب الشعوب الاخرى، في ما يضعونه امامهم من مهمات واقعية.

واشرت، في هذا السياق، الى ان مهمة الخروج من التخلف الاقتصادي والاجتماعي، الذي تشكل القبلية مصدره ومصدر استمراره وتفاقمه، هي مهمة الحاضر والمستقبل. وأكدت على ان الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية توأمان يكمل واحدهما الآخر في النمو والارتقاء. ولكنهما لا يصنعان التقدم في لحظة واحدة، ولا توجد وصفة جاهزة للتعجيل في تحقيق هذا التقدم. بل هو يأتي بالتدريج، وبابداع متواصل تشارك في انتاجه القوى الحية في المجتمع، بأئتلافها واتفاقها حول الهدف الاساسي، ولو كانت الرؤى متباينة بينها الى حدود التناقض. ولكل شيء ثمن في حياة الشعوب والأمم!

الا ان من مفارقات زيارتنا هذه الى صنعاء انها جاءت في وقت تنشغل فيه الدولة في معالجة الآثار التي لحقت باليمن من جراء احداث الحادي عشر من ايلول، بفعل مشاركة يمنيين ينتمون الى تنظيم القاعدة، سواء في تلك الاحداث، أم في احداث سبقتها. اهمها، بالنسبة الى الولايات المتحدة، قضية المدمرة الاميركية "كول" التي جرى تفجيرها في قاعدة عدن البحرية عام .1999 وينصب اهتمام المسؤولين في اتجاهين: محاولة استيعاب مفاعيل الحرب الاميركية الهوجاء، التي تجري باسم محاربة الارهاب، والموجهة ضد البلدان التي تقوى فيها التيارات الاصولية الاسلامية، هذا من جهة، والمحافظة، من جهة ثانية، على الحد الادنى الضروري من الاستقلالية، حتى لا تتحول البلاد الى مجال للقوات الاميركية ولاستهدافاتها واستخداماتها الاقليمية.

وهي سياسة تمليها على السلطات، في الدرجة الاولى، مراعاة المشاعر الوطنية والقومية والدينية التي عبرت عنها التظاهرات الشعبية الصاخبة تضامناً مع الشعب الفلسطيني، وجاءت في معظمها تلبية لقرار من السلطة، كما اكد لنا ذلك الرئيس علي عبدالله صالح. لذلك كان من الطبيعي ان تطغى، في آن واحد، على الاهتمام العام، قضية فلسطين ووحشية اسرائيل في مواجهة الانتفاضة، والحرب الاميركية ضد الارهاب، في الشكل الذي حددته الادارة الاميركية للارهاب، مفهوماً واساليب، وحددت اماكن وجود هذا الارهاب، وحددت الاهداف العسكرية والسياسية لمواجهته.

وكان من الطبيعي ان تشمل النقاشات التي أجريناها مع الاصدقاء اليمنيين، في كل المواقع، هذه الامور وسواها، مما هو مشترك بيننا في الهموم والاهتمامات. وكان من الطبيعي ان تتقاطع المواقف، في معظم الاحيان، وان تختلف وتتباين، في احيان اخرى. الاّ ان النقاشات كانت، في كلتا الحالتين، مفيدة للجميع. واذا كان النقاش مع قيادة المؤتمر الشعبي قد تناول الاوضاع العربية العامة، وفي مقدمها قضية فلسطين، التي تشغل الجميع، فان النقاش مع قيادة الحزب الاشتراكي شمل، الى جانب هذه القضايا، قضايا ذات صلة بدور الحزب في اليمن، اذ اكتفينا بالاستماع الى رأي الرفاق اليمنيين فيها. وهي قضايا تعنينا، بالتأكيد، لكنها ليست من اختصاصنا.

كما شمل هذا النقاش قضايا اخرى ذات اهتمام مشترك، تتعلق بواقع الاشتراكية في عصرنا، الاشتراكية كمشروع للتغيير، بات يحتاج، هو ذاته، الى تغيير في الفكر والسياسة والاهداف والقوى واشكال التعاقد والتحالف والنضال. وقد اسعدنا جداً ان يكون الرفاق اليمنيون قد تقدموا في البحث في هذا الموضوع، وان يكونوا قد استخلصوا دروساً من تجربتهم ومن التجارب الاخرى، وان يكونوا قد أقروا مبدأ التعددية في الحزب، وباشروا في تنفيذ موجباته، وبدأوا يقطفون ثمارها الايجابية، سياسياً وتنظيمياً، على حد سواء.

ذلك كان الجانب السياسي من الرحلة. اما الجانب السياحي التاريخي والجغرافي فقد بدأ في اليوم التالي لوصولنا، بالتوجه بالسيارة الى مدينة تعز، ومنها الى عدن. وقطعنا في تلك الرحلة مسافات لم نستطع تحديدها بالكيلومترات، لكنها تجاوزت بعدد الساعات، في الذهاب والاياب، من صنعاء الى تعز الى عدن، ومن عدن الى صنعاء، ما يزيد عن خمسة عشر ساعة. ولم اكن أتصور ان اليمن، الذي ترتفع عاصمته صنعاء عن سطح البحر الفين وثلاثمئة متر، يقع الجزء الداخلي منه على سلسلة لا نهاية لها من الجبال البركانية التكوين، في طول البلاد وعرضها. صخورها سوداء، واحجامها صغيرة، بعكس الصخور الضخمة العالية الارتفاع، التي شاهدتها في زيارتي الى منطقة كردستان العراق.

ولأن هذه الجبال بركانية في تكوينها، كما بدا لي وكما فهمت من بعض الشروحات التي قدمت لنا، فانها جرداء خالية من الشجر، الا في بعض الوديان، التي تساهم السيول في اخصابها في حدود معينة. ومدينة تعز هي، مثل صنعاء، من حيث قدمها. وهي ذات مساحة واسعة وذات كثرة سكانية مثل صنعاء. وكانت صنعاء قد قدمت لنا صورة عن تاريخها، تمثلت، في المدينة القديمة خصوصاً، بالابواب التاريخية، والابراج، التي تذكر بالسور القديم الذي كان يحيط بالمدينة، من جميع الجهات، حيث كانت تقفل ابوابه في الليل، ضماناً لأمن السكان والحكام. كما تمثلت لنا صورة صنعاء القديمة ببعض الابنية التي لا تزال تشير الى قدمها والى طابعها المعماري المميز. اما في تعز فان اكثر ما لفت انتباهنا هو الجبل (جبل صدر) الذي صعدنا الى قمته المرتفعة ثلاثة آلاف وثلاثمائة متر فوق سطح البحر، عبر طريق حديث تقوم على جانبيه، وسط تعرجاته الكثيرة، مراكز سياحية جميلة مدهشة، من حيث مواقعها التي تطل منها على مدينة تعز وامتداداتها في الأفق البعيد.

كانت الطريق الى تعز، التي تسلقنا فيها جبالاً، وعبرنا فيها اودية، واجتزنا مدناً وقرى عديدة، بالنسبة الينا، في هذه الرحلة بالذات، مجرد طريق الى عدن، تاركين الاهتمام بتعز وبالمدن الاخرى الى فرصة اخرى. كانت قبلتنا عدن، عاصمة الجنوب اليمني القديم، الذي ما ان تحرر من السيطرة الاستعمارية بالكفاح المسلح حتى توحدت فيه السلطنات القديمة لتشكل، بالتدريج، جمهورية اليمن الديموقراطية. وكان يحصل ذلك في الوقت الذي كان شمال اليمن ينتقل بالثورة التي قادها السلال (1962) من المملكة القديمة (الامامة)، التي كان يتولى قيادتها آل حميد الدين، الى الجمهورية التي صارت تعرف بالجمهورية العربية اليمنية. حصل كل ذلك التحول على امتداد عقد الستينات من القرن الماضي.

عندما دخلنا بوابة عدن، وكان الليل قد دهمنا ونحن في منتصف الطريق بين محافظة تعز ومحافظة لحج، بدأنا، نديم وانا، ومعنا المرافق محمد وابن عمنا الهمداني حمود، نتذكر معالم عدن ومداخلها، من دون ان تساعدنا المشاهد التي واجهتنا على معرفة ما كان ذات يوم في تلك الامكنة مختلفاً جداً عما اصبح عليه اليوم. وكانت بوابة عدن مجرد خدعة، بالنسبة الينا. اذ ان المسافة بين تلك البوابة وعدن المدينة كانت بعيدة جداً، تجاوز الوصول اليها ساعة بكاملها بسرعة سيارتنا ومهارة سائقها ابن عمنا حمود. وحتى حين دخلنا الى عدن لم نعرف، نديم وأنا، أياً من المعالم التي تدلنا عليها.

كل شيء تغير في المدينة وفي ضواحيها وفي مداخلها. كبرت عدن كثيراً، وغرقت في عالم من العمران الذي يستعصي في بلداننا، بفعل التخلف الحضاري المتوارث، على التنظيم المدني. اذ تشعر وانت تغذ السير في شوارع المدينة كأنك في غابة متوحشة من المباني، التي لم تعرف عدن مثيلاً لها في السابق، والتي لا يربط بينها في المستويات العليا والدنيا اي رابط. ولم نعرف اين اصبحنا في عدن المدينة الا عندما دخلنا فجأة في باحة فندق عدن.

هنا، في هذا الموقع بالذات في عدن، احسسنا اننا ندخل، من دون مقدمات، في عالم من التاريخ والذكريات والمشاعر، وفي دنيا من الاحلام، ما ان اقتربت، او توهمنا انها اقتربت، ذات عام، من الحقيقة، حتى تبخرت، وانهار كل اساس قديم من اساستها. وقد كنا، نحن الشيوعيين اللبنانيين وكثرة من يسار العالم العربي، نرى في هذه القاعدة البحرية البريطانية القديمة، وامتداداتها من قبائل، كانت مناطقها مرتعاً للسلاطين، املاً في ان تتحول جمهورية اليمن الديموقراطية الى تجربة اشتراكية عربية جديدة من نوعها. وهي كانت تجربة، لو اتيح لها ان تنجح، لكانت اثبتت صحة نظرية طال الجدل حولها في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، حملت اسم التطور اللارأسمالي.

وهي نظرية روج لها بعض المفكرين السوفيات، كاجتهاد منهم في الماركسية يعالج قضايا التطور في البلدان المتخلفة اقتصادياً واجتماعياً، والتي أطلق عليها اسم البلدان النامية. وتشير هذه النظرية الى امكان انتقال هذه البلدان من الاقطاع والاستبداد الشرقيين الى الاشتراكية من دون المرور بالطور الرأسمالي، خلافاً لما تقول به النظرية الماركسية حول تطور المجتمعات البشرية. وكان يستند اولئك المنظّرون في تبرير نظريتهم الى وجود منظومة اشتراكية عالمية قادرة على الحلول محل الطبقتين الضعيفتي التطور في هذه البلدان، البورجوازية والطبقة العاملة، وذلك من خلال الدعم الذي يُقدم الى الديموقراطيين الثوريين، الذين كانوا يحملون افكاراً تقدمية ترمي الى النهوض ببلدانهم وتحقيق التقدم فيها، بكل مكوناته.

لكن السقوط المروع للتجربة وللاحلام التي ارتبطت بها تجربة اليمن، أعاد التذكير بتلك النظرية، واعاد التأكيد، بالنسبة الينا، نديم وأنا، وبالنسبة الى حزبنا، انه بمقدار ما كنا، وكان حزبنا الشيوعي على حق في التمايز عن تلك النظرية، كنا، وكان حزبنا، في مراهنتنا على التجربة اليمنية الديموقراطية، ذات التوجه الاشتراكي، اكثر خيالا مما كانت تسمح به القوانين الموضوعية. وسرعان ما حسم النقاش سقوط التجربة السوفياتية برمتها.

تجولنا في عدن الكبرى والصغرى خلال النهار التالي كله. كنا نحب ان نعرف كيف تحولت عدن من قديمها الى جديدها، لكي نقارن بين الذاكرة والواقع. ولم نكن بحاجة الى تفكير طويل لكي نكتشف الفجوة بين تاريخين لكل منهما سماته المختلفة جوهرياً. فالمعالم تغيرت كلها، على الشاطئ وفي الداخل. فندق "غولد مور"، الذي تأسس بهندسة بلغارية، تحول فندقا جديدا فخما، هو فندق "شيراتون". الا ان التغيرات في المدينة لم تكن كلها بمستوى هذا التغير الذي حصل في فندق "غولد مور" الساحلي. لكن الكثير من المعالم الجمالية الساحرة التي تمتاز بها عدن ظلت تحافظ على بهائها. الامر الذي جعلني اطرح السؤال على صديقنا الذي تطوع لمرافقتنا في ذلك النهار: اليس من الافضل لو ان الدولة حولت عدن بكاملها، عدن الساحلية، الكبرى والصغرى، منطقة سياحية، واستعانت بشركات عالمية لتحقيق ذلك؟

وكنت، في سؤالي هذا، اتذكر حوارا كان جرى بيننا، نحن الشيوعيين اللبنانيين، والرئيس علي ناصر محمد، في اواخر السبعينات واوائل الثمانينات، بعد ان كان رفيقنا المهندس رهيف فياض قد انجز بناء فندق عدن الجميل، حول فكرة تحويل عدن مدينة سياحية، وتطوير منطقة حضرموت، والبحث عن مستقبل سياحي لجزيرة سوقطرة. وكانت الفكرة شديدة الاغراء، لكنها سرعان ما وضعت في الادراج، نظرا الى ما كان يسود من مخاوف لدى القيادة اليمنية الديموقراطية من ان تقود تلك المحاولة الى تدمير المشروع الاشتراكي في اليمن السعيد، الذي كلما كان يتصور اهله انهم اقتربوا من سعادتهم كانت هذه السعادة تجري امامهم بسرعة الصاروخ، وتبقيهم خلفها في حالة لهاث دائم لا ينتهي!

لا استطيع ان اخفي مشاعري، ونحن نغادر عدن من طريق ايريان، مرورا بمنطقة الضالع، في اتجاه صنعاء. ومحور مشاعري كان تلك الذكريات التي كلما حاولت وحاولنا ان ندخلها في دائرة النسيان كانت تقفز مثل الشيطان من حولنا لتقول لنا بلغة العصر، اي بلغة العالم الجديد والتحولات الموضوعية الجارية فيه، ان تغيير العالم، كما طرحه ماركس، لم يكن خطأ، رغم طوباويته، وان الخطأ هو اننا بقينا في محاولاتنا للتغيير عند اللحظة التي كان فيها ماركس لا يزال على قيد الحياة. وفاتنا ان نتذكر معرفيا بأن الافكار، مهما كانت عظيمة، هي مثل الاشخاص، مهما كانوا عظماء، تنتمي الى تاريخ، وانها، اذ تبقى، فان ما يبقى منها هو روحها، وليس الجسد الذي، اذ يندمج في التراب "بعد الموت"، انما يتخذ لنفسه شكلا جديدا آخر مختلفا للحياة.

ما تأكد لي، خلال الزيارة، هو ان اليمن التاريخ، واليمن الثقافة والتقاليد، هو، مثل اليمن الجغرافيا، يخضع لقوانين طبيعة اليمن الخاصة. فاليمن، منذ القدم، بلاد قبائل، يلتقي مع جيرانه في عمان والسعودية، ويهاجر ويغترب، شرقا وغربا، ويبقى يمني التقاليد والعادات التي تتحكم فيه وفي تطوره، الا ان للقبائل مناطق. ولذلك فالقبائل والمناطق هي  التي يتوزع اليمنيون في الانتماء اليها، اكثر من انتمائهم الى المذاهب الدينية الاسلامية، وهي زيدية وشافعية. ويكاد لا يكون للمسيحيين وجود الا في شكل فولكلوري، في حين ان اليهود قد هاجروا، اما الى الغرب واما الى اسرائيل، منذ اواسط القرن الماضي. لا فرق في هذه السمات بين شمال وجنوب.

قبيلتا حاشد وبكيل موجودتان في الشمال. وهما قبيلتان كبيرتان، يقول ابن عمنا السائق حمود انهما تنتميان في جذورهما الى همدان ام القبائل. اما في الجنوب فهناك مناطق الضالع ويافع وابين وشبوه وحضرموت. وهي مناطق جنوبية، وتعرف بذلك، اكثر مما تعرف باسم القبائل. والمناطقية، الى جانب القبلية، هي السمة المميزة لليمن شمالا وجنوبا. لكن ثمة سمة اخرى تدخل في باب تقاليد اليمنين شمالا وجنوبا ايضا. انها نبتة القات التي "يخزّنها" اليمنيون كل يوم، لا فرق في ذلك بين غني وفقير، بين حاكم ومحكوم، بين زعيم ورعاياه، بين يسار ويمين. كلهم يذهبون افواجا الى اماكن التخزين (المقايل، جمع مقيل)، وتنتفخ الجهة اليمنى او اليسرى من الفم اعلانا عن مدة التخزين وعن كميته، وعن المستوى الذي يكون قد بلغه عند المخزن النشاط الذهني والجسدي المتولد من التخزين. ورغم ان اهل اليمن جميعا يعلمون ان القات آفة اجتماعية فانهم لا يملكون القدرة والشجاعة على وضع حد لانتشاره.

لكأنه القدر الذي لا رادّ له. ويبرر البعض عدم الاقدام على الحد منه، او منعه، او تقنينه، بأنه يشكل مصدر ثروة لليمن، لكنها ثروة للاثرياء، ومصدر كوارث للجمهور الكبير من الشعب، وهو يشكل تعويضا عن نواقص ومشكلات مادية واجتماعية عند اليمنيين. الا ان الرد على هذا التبرير تقدمه اقتراحات عديدة للتعويض عنه، كثروة وكتقليد وكحاجة اجتماعية، باستبداله بزراعة اكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، واقل ضررا بالنسبة الى المجتمع. وهي مهمة على الدولة والمجتمع ان يجدا حلا حقيقيا لها.

الزيارة لليمن لا يكفيها اسبوع لكي يتعرف الزائر الى مجمل العناصر التي تشكل سمات هذا البلد العربي العريق، تاريخا وثقافة وتراثا، وواقعا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. لكننا غادرناه بعد اسبوع، لأن وقت الزيارة المحدد انتهى، رغم ان امورا كثيرة ظلت تنقصنا. اذ هل يجوز لأي زائر سياسي او ثقافي او سياحي يزور اليمن الا يذهب الى سد مأرب، والى وادي حضرموت وساحلها، والى  جزيرة سوقطرة، والى الجزر التي تقع في شمال باب المندب، جزر حنيش التي تنازع اريتريا، بدعم من اسرائيل، اليمن على ملكيتها، رغم القرار الذي اتخذته  محكمة العدل الدولية، الذي يثبت هذه الملكية؟ وهل يجوز لزائرين مثلي ومثل صديقي نديم عبد الصمد، مثقلين بالفضول التاريخي والثقافي والمعرفي ان نزور اليمن ولا نلتقي مع مثقفيها، ادباء وشعراء وفنانين وجامعيين وباحثين في شتى ميادين المعرفة؟

ومع ذلك فقد انتهت الزيارة بهذا القدر البسيط من المعارف، بأمل ان تتاح لنا فرصة اخرى تكون فيها ظروفنا وأوقاتنا اكثر ملاءمة.

لا بد اذن، من صنعاء، مرة ثانية وثالثة، وان طال الزمن.
 



#كريم_مروة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استهداف المدنيين الاسرائيليين خطأ في المبدأ، خطأ في السياسة، ...
- من المسؤول عما جرى ويجري منذ أكثر من نصف قرن؟!
- كلام صريح حول الإرهاب وتعريفاته
- دروس في الديموقراطية من مملكة البحرين الدستورية!


المزيد.....




- -حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار .. ...
- اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
- مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
- 4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
- سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا ...
- ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟
- السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية تسوق للحج التجاري با ...
- اسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت إلى كييف ومركبات مدرعة ودب ...
- السعودية.. إغلاق مطعم شهير في الرياض بعد تسمم 15 شخصا (فيديو ...
- حادث جديد يضرب طائرة من طراز -بوينغ- أثناء تحليقها في السماء ...


المزيد.....

- واقع الصحافة الملتزمة، و مصير الإعلام الجاد ... !!! / محمد الحنفي
- احداث نوفمبر محرم 1979 في السعودية / منشورات الحزب الشيوعي في السعودية
- محنة اليسار البحريني / حميد خنجي
- شيئ من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية في البحرين والخليج ال ... / فاضل الحليبي
- الاسلاميين في اليمن ... براغماتية سياسية وجمود ايدولوجي ..؟ / فؤاد الصلاحي
- مراجعات في أزمة اليسار في البحرين / كمال الذيب
- اليسار الجديد وثورات الربيع العربي ..مقاربة منهجية..؟ / فؤاد الصلاحي
- الشباب البحريني وأفق المشاركة السياسية / خليل بوهزّاع
- إعادة بناء منظومة الفضيلة في المجتمع السعودي(1) / حمزه القزاز
- أنصار الله من هم ,,وماهي أهدافه وعقيدتهم / محمد النعماني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في الخليج والجزيرة العربية - كريم مروة - أسبوع سياسي وسياحي في اليمن: كل شيء تغيّر في عدن ...