أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - أنّ المعايير الاقتصادية والماديّة الّتي توجِّه بشكل رئيسي نشاطات التّنمية في الوقت الحالي يجب أن تتوسع لتشمل تلك التّطلّعات الروحيّة الّتي تحرّك الطبيعة البشريّة.















المزيد.....



أنّ المعايير الاقتصادية والماديّة الّتي توجِّه بشكل رئيسي نشاطات التّنمية في الوقت الحالي يجب أن تتوسع لتشمل تلك التّطلّعات الروحيّة الّتي تحرّك الطبيعة البشريّة.


راندا شوقى الحمامصى

الحوار المتمدن-العدد: 2730 - 2009 / 8 / 6 - 02:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إنّ التغيّرات العميقة التي تعمل على تشكيل العلاقات الإنسانيّة الآن تشير إلى أن أنماطًا جديدة من الحياة – مؤثّرة في قدرتها على إطلاق الطاقات البشرية – هي في متناول المجتمع العالمي سريع التطوّر. فالتقدّم المعرفي في تخصصات يزداد مداها باطّراد، وظهور آليّات دوليّة تروّج على العمل واتخاذ القرارات الجماعيّه، والقدرة المتزايدة لجموع البشرية للتّعبير عن تطلّعاتها واحتياجاتها، تدلّ على طفرة كبيرة من التقدم في عملية التطوّر الاجتماعي لكوكبنا. ولكن تحقيق الوعد الذي تتيحه مثل هذه التغيّرات سوف يتطلّب إعادة النّظر في أنماط التنمية الاجتماعية والاقتصادية السائدة.
وشَرْطا العدل والإنصاف اللّذان يعزّزان خير ورفاه الفرد والجّماعة على السّواء يَبقيان هدفين بعيدا المنال. فمن جهة، يصيب الحرمان واليأس أعدادًا هائلة من شعوب العالم، في حين، هناك على الطرف الآخر شريحة محدودة من الجنس البشري تتمتع بغنىً فاحش غير محدود. فالأنماط الراسخة من التبعيّة والفقر تقترن بخيبات أملٍ كبيرة تجاه القيم المعاصرة. وكرؤية للمجتمع، فإن السعي المحموم وراء الثروة في أسواق مجهولة، والتجريب المسعور لأشكال مختلفة من إشباع الرغبات الذّاتيّة يجري رفضها باعتبار أنه لا صلة لها بالآمال والطاقات المتيقّظة للأفراد في جميع أنحاء المعمورة، فلم يعد من الممكن التمسّك بالاعتقاد القائل بأنّ مقاربة (approach) التّنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي ولّدتها النظرة الماديّة للحياة قادرة على قيادة البشرية إلى الازدهار والطمأنينة الّذي تنشده.
فالصعوبات الّتي تمت مواجهتها خلال ما يقرب من خمسة عقود من العمل في مجال التّنمية، وخاصة تلك المتعلقة بعدم القدرة على الحصول على مشاركة نفس الناس الذين تدّعي تلك البرامج خدمتهم، تدلّ بشكل مباشر إلى الحاجة إلى مفاهيم ونماذج جديدة لبرامج التّنمية. ورغم أن العاملين في مجال التّنمية قد أصبحوا تدريجيًّا واعين بالعوامل المتفاعلة العديدة الّتي تكمن وراء التّقدّم الاجتماعي والاقتصادي، لا يزال الحوار في موضوع التّنمية المعاصرة محكومًا بمجموعة محدودة من الافتراضات والمقاربات.
ومن الواضح أن هناك مجموعة معقّدة ولكن مهمّة من الأسئلة المتعلّقة بالطبيعة البشرية والهدف الإنساني والّتي يجب أن تدمج في التّفكير الإنمائي. يجب إيلاء الاهتمام بمجموعة من القضايا الّتي تدخل في صميم الهويّة والدوافع الإنسانية. ففي أغلب الأحيان، تُهمِل المبادرات الاجتماعية والاقتصادية قيَم وتقاليد ومعتقدات أصحاب المصلحة في عملية التّنمية - وهم النّاس أنفسهم. فأجندة التّنمية العالميّة غالبًا ما تجاهلت حقيقة أنّ السواد الأعظم من شعوب العالم لا ينظرون إلى أنفسهم مجرّد كائنات ماديّة تستجيب لمقتضيات وظروف ماديّة، بل بالأحرى هم كائنات معنويّة تهتمّ بوعي وهدف روحانيّ، ولهذا غدا واضحًا أنّ المعايير الاقتصادية والماديّة الّتي توجِّه بشكل رئيسي نشاطات التّنمية في الوقت الحالي يجب أن تتوسع لتشمل تلك التّطلّعات الروحيّة الّتي تحرّك الطبيعة البشريّة.
إنّ استراتيجات وبرامج التّنمية الموجودة حاليًّا قاصرة إلى حدٍّ كبير لأنها لا تأخذ في الاعتبار تلك الأبعاد الروحانيّة والاجتماعيّة الحيويّة لحياة أساسيّة جدًّا لرفاه البشر.
فالمدنيّة ذاتها لا تنشأ من تقدّم ماديّ فحسب، بل هي تُعرّف وتؤسَّس بناءً على المُثل والمعتقدات المشتركة الّتي تُسهم في لُحمة المجتمع. فالشيء الفريد الذي يميّز التجربة الإنسانية هو المكونات السامية للحياة. فهذا البُعد من الحياة هو الّذي يُغْني، ويُشرِّف، ويوجّه البشريّة، إنّ هذا البُعد من الوجود هو الّذي يُطلِق العنان للقدرات الإبداعية الخلاّقة في الوعي الإنسانيّ ويصون كرامة البشر.
فبينما يجب أن تلعب المقاربات الواقعيّة دورًا مركزيًّا في حلّ المشاكل في مبادرات التّنمية، فإن تحفيز الجذور الروحانيّة للدافع الإنسانيّ يعطي الزْخم الضروريّ لضمان تقدّمٍ اجتماعيٍّ حقيقيّ. وعندما تُدمج المبادىء الروحانيّة بشكلٍ كاملٍ في نشاطات تنمية المجتمع فإنّ الافكار والبصائر والخطوات العمليّة الّتي تبرز ستكون غالبًا تلك الّتي تشجع الاعتماد على النّفس والحفاظ على كرامة الإنسان، وبالتالي تتفادى عادات مثل التّبعيّة وتعمل على إلغاء الفوارق الاقتصاديّة الهائلة بشكل تدريجيّ. فمقاربة التّنمية الّتي تدمج القواعد الاخلاقيّة والروحانيّة ستؤدّي على الأرجح إلى تغييرات دائمة في السلوك الفرديّ والجماعيّ.
إن عملية التّنمية في جوهرها هي في نهاية المطاف مهتمّة بتحوّل الأفراد والهياكل الاجتماعيّة الّتي ينشئها أفراد المجتمع على حدٍّ سواء، فبروز أنماط معيشةٍ سلميّة وتقدميّة يتطلب إعادة ترتيب داخليّة وخارجيّة، وإعادة ترتيب من هذا القبيل لا يمكن أن تحدث ألاّ عندما يحصل التحوّل في قلب الإنسان. ولهذا، ولكي تكون فاعلة، على نشاطات التّنمية أن تخاطب بصورة مباشرة حياة البشر الداخليّة وأخلاقهم، فضلاً عن تنظيم المجتمع. فيجب أن تكون غايتها تعزيز عملية التحوّل الاجتماعيّ الّتي تولّد التعاون والشفقة والسلوك القويم والعدالة-- تحوّل يتغلغل في كلّ وجه من أوجه العلاقات الّتي تحكم النشاط الانسانيّ.
ومن هذا المنظور، يُفهم التطوّر الماديّ فهمًا صحيحًا لا كغاية بحدّ ذاته، وإنما بوصفه وسيلةً للتقدّم الأخلاقيّ والفكريّ والاجتماعيّ. وبالمثل، فإنّ أيّ تحسين ذي مغزى للرفاه الماديّ لا ينبع إلاّ من تطبيق واقعيّ لقواعد السّلوك الروحانيّة من قبيل الإنصاف والأمانة والإيثار. وبالتالي فإنّ الاعتراف بالعلاقة الوثيقة بين أوجه الحياة الماديّة والروحانيّة يخلق مفهومًا جذريًّا مختلفًا للتنمية.

الخلفيّـة التّاريخيّـة
يُمكن أن تُعزى أصول حقل التّنمية الحديث إلى مجموعة من الظروف المرتبطة بانهيار النظم الاستعمارية، وظهور الكثير من الدول القوميّة بعد الحرب العالمية الثانية. لقد تأثرت برامج واستراتيجيات التّنمية الأولى بشكل مباشر بالنموذج الناجح لإعادة الإعمار الذي تم تنفيذه في إطار خطة مارشال. طرح هذا النموذج مسارًا للتحديث يركز بشكل حصري تقريبًا على عملية التصنيع، وكان التوجه الأساسي لهذه السياسة هو السعي لتحقيق أقصى قدر من النمو الاقتصادي في البلدان النامية، والذي من شأنه، كما كان يُعتقد، أن يولّد ما يكفي من الثروة وفرص العمل ليُصار تدريجيًّا إلى إشراك غالبيّة سكانها في النشاطات الإنتاجيّة. فأصبح تراكم رأس المال، ونقل التكنولوجيا والمعرفة الفنية ذات العلاقة، وإدخال أساليب الإدارة الحديثة، والدفعات الكبيرة من المساعدات الخارجيّة هي العناصر الرئيسيّة للمقاربة الّتي ترمي إلى تحقيق فوائد الحداثة للجماهير في العالم.
وعلى الرغم من النوايا الحسنة، فقد ثبت أن نموذج التحديث هذا وخيمٌ من نواحٍ عديدة. ففي محاولتها لفتح الأبواب أمام إمكانيّات شعوب العالم النامي، أدّت عمليّة التصنيع إلى هجرة أعداد كبيرة من المناطق الريفيّة إلى المناطق الحضريّة، صاحبها انهيار في التماسك الاجتماعي. هذه الهجرة لم تكن غير مقصوده لأنّها كانت تُعتبر ضرورية بل وطريقة مرغوبة لتسريع خطى النمو الاقتصادي. ما كانت تتضمّنه مقاربة التّنمية هذه هي النظرة إلى أن غالبيّة سكان المناطق الريفية يعيشون حياة غير منتجة تحتاج إلى إعادة توجيه. لقد كشف هذا المفهوم العام عن التصورات الخاطئة والأبويّة من جانب مخطِّطي التّنمية.
عندما ازداد وضوح عدم فاعليّة الاستراتيجيات المستخدمة لتحقيق أهداف نموّ طموحة، تحوّل محور الاهتمام في عقد الستّينات إلى المسائل الثقافيّة والديموغرافيّة والتكنولوجيّة. وبينما استمر النمو الاقتصادي ليبقى الهدف الأسمى، تم توظيف الكثير من الموارد لاستكشاف سبل التغلّب على العقبات التي تعترض طريقه. وغالبًا ما يُشار إلى البرامج التي تُعنى بالصحّة والتعليم، والجهود الجماعيّة المتضافرة لتحديث الأساليب الزراعية من خلال الثورة الخضراء، إلى أنّها أبرز النجاحات التي تحققت في هذه الفترة. وكان الافتراض الضمني لهذه البرامج هو أنّ سكّان المناطق الريفية هم في الواقع حاذقون ولكن تنقصهم الأدوات المناسبة فقط. وباختصار، لو تمّ تحسين القاعدة التكنولوجيّة لهؤلاء السكّان فإنّ الازدهار الاقتصاديّ سيتبع ذلك بكل ّتأكيد.
لم تلْقَ الثورة الخضراء سوى نجاحًا جزئيًّا فقط. فقد ازداد انتاج الغذاء بشكل ملحوظ، ويكاد يكون من المؤكّد أنه تمّ انقاذ الملايين من مجاعة كانت تنتظرهم. لكنّ الفجوة بين الأغنياء والفقراء ازدادت أيضًا في كلٍّ من القرى والمدن الّتي استقبلت دفقًا مستمرًّا من المهاجرين بحثًا عن حياة أفضل. ونتيجة لذلك، انتقل التفكير الإنمائي إلى التأكيد على احتياجات الفقراء وحصتهم من النموّ الاقتصادي ومساهمتهم فيه. لقد أدّى الإدراك أنّه حتى بعد عقدين من النّشاط الإنمائي فإنّ أعداد الّذين يعيشون في فقرٍ مدقعٍ ستصل قريبًا إلى مليار نسمة إلى نتائج مذهلة على صانعي السياسات والعاملين في الميدان على حدٍّ سواء، وأثار دراسة مسألة الإنصاف مجدّدًا، فبدأت الوكالات الدوليّة بتنفيذ مبادرات واسعة النّطاق تركّز على "أفقر الفقراء" على وجه التّحديد. وأصبح النمو مع الإنصاف، والاهتمام بالاحتياجات الانسانيّة الأساسيّة، الشاغلان الرئيسيّان لمجتمع العاملين في مجال التّنمية.
ٍ وبحلول نهاية العقد الثالث للتّنمية، فإنّ آلاف المشاريع المنفّذة ليس من جانب الحكومات والوكالات الدّوليّة فحسب، وإنّما من جانب العديد من المنظّمات غير الحكوميّة أيضًا، جعلت من الممكن إجراء تحليلات معمّقة للتّقدّم الاجتماعي والاقتصادي. فالحوار المكثّف والدراسة ألقيا الضوء على تعقيدات عدد من المواضيع من ضمنها: التكنولوجيا الملائمة، ودور المرأة في التّنمية، والتخطيط وتنفيذ المشاريع كوسيلة لتعزيز القدرات المجتمعيّة والمؤسسيّة، والحفاظ على البيئة، والتنمية التي تتمحور حول الناس، وتنظيم المجتمعات المحلية، وتقييم المشاريع. وأخيرًا بدأت عملية تعلُّم تُقرُّ بالتعقيد الشّديد للتّنمية.
ومع ذلك، وفي معظم الحالات، لم يكن هناك أي تغيير جوهري في طريقة النظر إلى الفقراء. فالصورة السائدة، والّتي فرضت نفسها منذ مطلع السبعينات، تختصر الواقع الراهن إلى مجموعة لا نهاية لها من المشاكل والاحتياجات- أناس يعانون من عدم كفاية الوجبات الغذائية والمسكن والمرافق الصحيّة؛ ومن محدودية فرص الوصول إلى التعليم؛ ويفتقرون إلى الوصول إلى رأس المال والتكنولوجيا الحديثة؛ أو غير قادرين للوصول إلى مستويات من الاستهلاك المعقول. وبينما يمثّل هذا الإدراك العميق للأسباب المتنوعة الكامنة وراء الفقر خطوة إلى الأمام، إلا إنّه من غير الواضح على الإطلاق كيف ستبرز مقاربة عضويّة للتنميّة يشترك بها أكثر الناس تأثُّرًا. فالتّدابير التدريجية أو المرحليّة الّتي تعالج مشاكل محدّدة تحديدًا ضيّقًا لم تفلح في السابق، وستسمر بالفشل دون شك، في التخفيف من حدّة الفقر المدقع والاضطرابات الاجتماعية المنتشريْن على نطاق واسع ويجتاحان أجزاء كبيرة من هذا الكوكب.
واليوم، ورغم ازدياد التأكيد على المشاركة وتمكين المجتمع المحلّيّ، فإنّ برامج التّنمية غالبًا ما تُدار وتُطلق من الخارج وليس على مستوى القاعدة الشعبية في المجتمع. فالمقاربات الحقيقيّة القائمة على المشاركة في التنمية الاجتماعية والاقتصاديّة والّتي تكون ذات طابع شمولي لم تنفذ بعد إلى حدٍّ كبير. ولكن الأهم من ذلك، أن التّنمية التي تتمحور حول الناس، مهما كانت مظاهرها الإبداعية الراهنة، فعلى الأرجح أنها لن تؤدّي إلى تحسّن منهجي في ظروف عيش الشعوب دون وجود رؤية موحِّدة للحياة والمجتمع. هذه الرؤية يجب بالضرورة أن تستند إلى وتعزّز من الإدراك الروحانيّ المترسخ حيال وضع الإنسان الّذي يؤمن به غالبيّة سكان الأرض. ولهذا فمن الصعب أن نرى كيف يمكن إدخال تغييرات جوهريّة في نظريات التنمية وممارساتها ما لم يقرّ الحوار المتعلق بهذا الموضوع بإعادة استكشاف طبيعة الوجود الإنساني. ولا يمكن أن يتمّ هذا الاستكشاف ببساطة عن طريق التوقّع والتعبير العشوائي عن الآراء غير المطّلعة. إنّ المناقشات الجدّية في هذه المسألة الحيويّة تستدعي حتمًا مستوًى جديدًا من الحوار بين العلم والدّين.

العلـم والدّيـن
إنّ الاعتراف بوجود صلة حيويّة بين الجوانب العمليّة والروحانيّة في حياة الإنسان يؤدّي بنا حتمًا إلى إعادة صياغة ما يعنيه الرفاه وما هي الآليّات الممكنة لتحقيق هذا الرّفاه. هذا الإدراك يؤكّد الحاجة إلى استكشاف منهجي للأدوار الّتي يلعبها العلم والدين في عمليّة التّنمية.
والخطوة الأولى لتحقيقٍ من هذا النّوع هو فهم الوظائف الأساسيّة للعلم والدّين في المجتمع الإنسانيّ. فعلى مرّ التاريخ، اعتمدت المدنيّة على العلم والدّين كنظامين رئيسيّين للمعرفة قادا تطورها ووجّها قواها الفكريّة والأخلاقية-( ازدهار الجنس البشري ورخاؤه، بيان صادر عن الجامعة البهائية العالمية، 1995 )
. إن أساليب العلم قد مكّنت الإنسانيّة من بناء فهمٍ متّسقٍ حيال القوانين والعمليّات الّتي تحكم الحقائق المادّية، وإلى حدٍّ ما، عمل المجتمع نفسه. وبصائر الدّين قدّمت فهمًا يتعلق بالمسائل الأكثر عمقًا حيال هدف الإنسان والمبادرة الإنسانية. وفي تلك اللحظات من التاريخ التي عملت فيها هاتين القوّتين بانسجام، تحرّرت الشعوب والثقافات من العادات والممارسات الهدّامة وارتقت إلى مستويات جديدة من الإنجاز التقنيّ والفنّيّ والأخلاقيّ. في الواقع، إن العمل هو نتاج المعرفة، ولهذا فإنّ العلم والدّين وسيلتان للتعبير عن الإرادة الإنسانيّة.
ومع ذلك، فغالبًا ما يُنظر إلى العلم والدين على أنهما متعارضان في جوهرهما، بل بالأحرى مجالين منفصلين من مجالات السعي الإنسانيّ. فالقول بأن قوّة الدين المُحيية قد خضعت مرارًا لقوى التعصّب والخرافة والشقاق الديني هو حقيقة من حقائق التاريخ. وفي الواقع، كانت حركة التنوير تمثّل نقطة تحوّل حاسمة في تحرير وعي الإنسان من أغلال الرّجعيّة الدينية والتعصّب، ولكن هذه الحركة في إطار رفضها للدّين، رفضت أيضًا المركز الأخلاقي الّذي قدّمه الدّين، مما أوجد انقسامًا عميقًا لا يزال قائمًا بين ما هو منطقيّ وما هو مقدّس. وهذا الانقسام المصطنع بين العقل والإيمان يمكن ملاحظته في التشكيك والعزلة والمادّيّة الفاسدة المستشرية في حياتنا المعاصرة.
وبالنسبة للغالبية العظمى من بني البشر، فإن مقولة أنّ الطبيعة البشرية لها بُعدٌ روحانيّ هي حقيقة بديهيّة تجد التعبير عنها في جميع مناحي الحياة. فبداخل كلّ انسان تَوقٌ أساسيّ للميل نحو السموّ، والتفكّر في أسباب الوجود، وفي سرّ حقيقة الإنسان بحدّ ذاته. وعلى مرّ العصور، تم تلبية هذه الأشواق الوجوديّة بواسطة الديانات العالميّة. وكان لتلك الدوافع الروحانيّة الّتي أوجدتها النظم الدّينيّة تأثير كبير في تمدّن سلوك البشر. فمن خلال الأحكام والهداية الأخلاقيّة للدّين، تعلّمت شرائح كبيرة من المجتمع أن تضبط أكثر نزعاتها دنوًّا وأن تطوّر خصائل تفضي إلى نَظمٍ اجتماعيّ وتطوّر ثقافي. فصفات من قبيل –الشفقة والحلم والأمانة والكرم والتواضع والشجاعه والاستعداد للتضحيه من أجل الصالح العام– شكّلت الركيزة الخفيّة والأساسيّة لحياة مجتمع متطوّرة. إن إدراك وغرس الطبيعة الروحانيّة للبشريّة ولّد تماسكًا ووحدةً في الهدف داخل المجتمعات وعبرها، وخدم كمنبع للتعبير الحيويّ عن المدنيّة.
إنّ الدين الحقيقيّ، بأنقى صوَرِه، والخالي من التراكمات المتعصبة قد أضفى حقائق روحانيّة وأخلاقيّة لا تتعارض بأيّ شكل من الأشكال مع الحقائق العلميّة المكتشفة، وليس هناك أيّ أساس موضوعي للزّعم القائل بوجود تعارض جوهري بين العلم والدّين. فعمليّة الكشف العلمي نفسها تتضمن بعض القدرات البشريّة مثل الخيال والحدس، علاوة على العقل، ولا يمكن اعتبارها مجرّد مجموعة من الإجراءات المعرّفة تعريفًا جيدًا. إنّ الانقسام التاريخيّ بين العقل والإيمان هو انقسام خاطئ، فهُما قدرتان مكمّلتان للطّبيعه البشريه وكلتاهما تشاركان في عملية اكتشاف وإدراك الواقع؛ وكلتاهما أداتان تمكّنان المجتمع من فهم الحقيقة.
ويعزَّز هذا المنظور بواسطة التطورات العلميّة الأخيرة الّتي تشير إلى تقاربٍ شديد بين نظريّات المعرفة ومختلف وجهات النّظر الدّينية في العالم. فعلم الفيزياء وعلم النفس الحديثين، على سبيل المثال، يلقيان ظلالاً كبيرة من الشكّ على الفكرة القائلة بأن المادّة هي القاعدة الأساسية للحقيقة، أو أنّ الوعي الإنسانيّ هو مجرد نتاج عمليات عصبية كيميائية. فالاختزاليّة والحتميّة المرتبطة بميكانيكا نيوتن تفسح المجال الآن لفهم الظواهر الفيزيائيّة الّتي تعتبر الكون دائمَ التطوّر ومترابطًا ووحدةً واحدة. والقوانين الفيزيائيّة التي تسمح لتكوينات بيولوجيّة معقّدة أن تنشأ وتتطور إلى درجة الوعي، تقدّم دليلاً على وجود مستوى أعلى من القوانين التنظيمية بل ومن التصميم. وباختصار، ليس هناك شيء غير علمي في افتراض أن هناك خالقًا أو قوّةً إلهية تعمل في العالم.
إلا أن هذه النقاط لها أهميّتها كونها تشجّع على مزيدٍ من التبادل الدقيق والموحّد بين تياريّ التّحقيق العلمي والديني. فالعلم والدّين، لو أخذا معًا، يقدّمان المبادئ التنظيميّة الرئيسيّة الّتي يعمل ويتطور الأفراد والمجتمعات والمؤسسات من خلالها. فاستخدام أساليب العلم تتيح للناس أن يصبحوا أكثر موضوعيّة ومنهجيّة في مقارباتهم لحلّ المشاكل وفهم العمليات الاجتماعيّة، في حين أن الاعتماد على الميول الروحانيّة للأفراد يوفّر الدفعة المحفّزة الّتي تولّد العمل الايجابي وتستديمه. إنّ تحوّلاً ذا مغزى في أحوال المجتمع لا يعني مجرد اكتساب المهارات التقنيّة، ولكن الأهم من ذلك، تطوير الصفات والمواقف التي تعزّز أنماط التعاون والابتكار في التفاعل الإنسانيّ. إن إدراك القوى الّتي يُمكن أن تولد تغييرًا في المواقف والسلوك هو مجال للدراسة يقع ضمن إطار التفاعل بين العلم والدين.
إنّ الحوار الذي ينظر إلى المجالات الروحانيّة والمادّيّة للوجود على أنّها متداخلة في عمليّة التّنمية، يستوجب انفصالاً واضحًا عن منهجيّات التّنمية الحاليّة. فالعلم والدّين يعزّز كلّ منهما دور الآخر في مجال التنمية، ولم يعد هذا موضع نقاش بعد الآن-( ويمكن القول أنه، بما أن القضايا الروحانيّة والأخلاقيّة قد ارتبطت تاريخيًّا بالمذاهب الدّينية المتضاربة التي لا يمكن تقييمها بأدلّة موضوعيّة، فإنّ هذه القضايا تفع خارج إطار الاهتمامات التنمويّة للمجتمع الدوليّ. فإعطاؤها أيّ دور هام يعني فتح الباب على وجه التّحديد أمام التأثيرات المتعصّبة الّتي تغذّي الصراع الاجتماعي وتعيق التقدّم الإنساني. ولا شكّ أنّ هناك قدرًا من الحقيقة في هذا الزّعم. بيد أنّ الاستنتاج بأنّ الإجابة تكمن في تثبيط البحث في الحقيقة الروحانيّة وتجاهل الجذور العميقة للدوافع البشريّة، هو أمر لا يمكن الدفاع عنه).
. إنّ المسائل الاجتماعيّة والتنظيميّة المتعلّقة بالتقدّم الاجتماعي والاقتصادي لا بدّ بالضرورة وأن تستند إلى منظور روحاني وقيم روحانيّة. ومع ذلك، فإنّ الطريقة الّتي يتم فيها دمج المنظور الروحانيّ في أنشطة التنمية ينبغي أن تنطوي على نفس الأساليب المنطقيّة الدقيقة المستخدمة من قبل العلم. هذا سوف يضمن بأن تستند جهود التّنمية على نتائج ملموسة وموضوعيّة. والواقع أنه إذا أردنا للدّين أن يكون شريكًا للعلم في مجال التّنمية، فلا بدّ أن تخضع إسهاماته لتمحيصٍ دقيقٍ. والحال الذي يؤسف له هو أنّ الأديان الموجودة مثقلة بالمعتقدات والممارسات الّتي تعمل ضدّ الجهود الرّامية إلى تحسين الظروف المادّية. إن التشويهات الطائفية التي تشجع على السلبية، أو قبول الفقر، أو الإقصاء الاجتماعي، أو عدم المساواة بين الجنسين لا بدّ من الموازنة بينها وبين زيادة المفاهيم الروحانية العالمية التي تؤكد على محوريّة العدالة، وخدمة الصالح العام. لذا، على مقاربة التنمية الجديدة أن تسعى أيضًا لتحديد أنماط السلوك الأبوي وغيرها من أنماط السلوك الّتي تعمل على تقويض مبادرات التّنمية.
العلـم، والدّيـن، وبنـاء القـدرات
كيف يمكن إذًا أن تتغلغل المبادئ الروحانية في فهمنا وممارساتنا وتقييمنا لعمليّة التّنمية؟ إنّ هذا التّحدّي ليس جديدًا، فطوال العقود الماضية، واجه المفكرون في مجال التنمية مرارًا وتكرارًا قضايا ذات صلة بالقيم والمعتقدات. وعلى الرغم من ذلك، فإنّهم غالبًا ما أحجموا عن إجراء دراسة مستفيضة للموضوع. فإذا أُريد للأفراد والمجتمعات المحلية أن يصبحوا الجهات الفاعلة الرئيسية في تعزيز الرفاه المادي والاجتماعي، فيجب أن يكونوا قادرين على الاستفادة من المعتقدات الروحانية والأنظمة الدينية لإضفاء رؤية وتركيز على مساعيهم، إلا أن هذا الأمر يجب أن يتم بطريقة تحسّن بشكلٍ ملموسٍ من قدرتهم على تحديد احتياجاتهم وتحليلها وتلبيتها.
لقد تزايد الاعتراف بمشروع بناء القدرات البشرية وتعزيز التغيير البنّاء على المستوى الشخصي والمجتمعي والمؤسّسي على أنه الهدف الأساسي للتنمية. وعندما يُنظر إلى التنمية على أنها عملية بناء القدرات، فإنها تُعنى بشكل رئيسي بتوليد المعرفة وتطبيقها ونشرها. وإذا تم القبول بأن المعرفة ذات طبيعة روحانية ومادية على حدٍّ سواء، عندها يمكن لمنهجيات العلم وبصائر الدّين، عندما تتضافر معًا، أن توفر الأدوات الأساسيّة لإقامة نظام اجتماعي متناغم منصف.( يمكن للتعاون بين العلم والدّين في مجال التنمية أن يتخذ أشكالاً عديدة. ومن الأمثلة الواضحة هو في مجال التربية الأخلاقية. وحيث إن السلوك الأخلاقي هو تعبير ملموس عن الطبيعة الروحانية للبشرية، فإنّ صياغة النظريّات والأساليب التربوية التي تعزز التنمية الأخلاقيّة بشكلٍ منهجي له أهمية خاصّة. وفي الواقع، يمكن اعتبار تعلم كيفيّة تطبيق المفاهيم الأخلاقيّة والروحانيّة لتحقيق التقدّم المادي شرطًا أساسيًّا لجميع مبادرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية).
. إن وضع عملية توليد وتطبيق المعرفه في صلب خطط التنمية وأنشطتها يجعل من الممكن دراسة الآثار العمليّة للقِيم الدينية، ولا سيّما دور هذه القِيم في توليد مقاربة موحّدة تجاه التغيير الاجتماعي في مستوى القاعدة الشّعبية.
ومن المسلّم به عمومًا أنّ الفقراء ماديًّا يجب أن يشاركوا بصورة مباشرة في الجهود الرامية إلى تحسين رفاههم. ولكن لم يتم استكشاف طبيعة هذه المشاركة بشكلٍ وافٍ بعد، وهي تغدو أسهل فهمًا لو بُحثت في سياق دور المعرفة المعروض هنا. فالمشاركة يجب أن تكون موضوعية وخّلاقة؛ ويجب أن تَسمح للناس أنفسهم بالحصول على المعرفة وتشجعهم على تطبيقها. وعلى وجه التحديد، لا يكفي أن يكون سكان العالم مشاركين في المشاريع كمجرّد مستفيدين من نتاج المعرفة، حتى ولو كان لهم صوت في اتخاذ قرارات معيّنة. يجب أن يكونوا منخرطين في تطبيق المعرفة لتحقيق الرفاه، مما يؤدّي إلى توليد معرفة جديدة والمساهمة بشكل جوهري ومؤثّر في تقدم البشريّة. وفي الواقع، إذا كان المجتمع مسيطرًا على وسائل المعرفة، واسترشد بالمبادئ الروحانيّة فإنّه سيكون قادرًا على تطوير موارد ماديّة وتقنيّات تخدم وتطابق احتياجاته الحقيقيّة.
إنّ قدرة أية مجموعة على المشاركة الكاملة في عملية التنمية الخاصة بها تعتمد على مجموعة واسعة من القدرات المترابطة على المستوى الشخصي وعلى مستوى المجموعة، ومن أهمها القدرات على أخذ المبادرة بطريقة خلاّقة ومنضبطة؛ والتفكير بطريقة منهجيّة في فهم المشاكل والبحث عن الحلول؛ واستخدام أساليب غير عدائية وشاملة في صنع القرار؛ والتعامل بكفاءة ودقّة مع المعلومات بدلاً من الاستجابة دون قصد للدعاية السياسيّة والتجارية؛ واتخاذ خيارت تكنولوجيّة مناسبة ومدروسة وتنمية المهارات والالتزام الضروريين لتوليد المعارف التقنيّة وتطبيقها؛ وتنظيم عمليّات إنتاج سليمة بيئيًّا والمشاركة فيها؛ والمساهمة بالتصميم الفعال للمشاريع المجتمعيّة وإدارتها؛ ووضع عمليات تعلّمية محفّزة للنمو الشخصي والتعلم مدى الحياة والمشاركة فيها؛ وتعزيز التضامن ووحدة الهدف والفكر والعمل بين جميع أفراد المجتمع المحلي؛ واستبدال العلاقات القائمة على أساس الهيمنة والمنافسة بتلك القائمة على أساس التبادل والتعاون وخدمة الآخرين؛ والتفاعل مع الثقافات الأخرى على نحو يؤدي إلى النهوض بثقافة المرء وليس إلى تدهورها؛ وتشجيع الاعتراف بأساس علوّ ونُبل الجنس البشريّ؛ والحفاظ على مستويات متقدّمة من الصّحّة البدنيّة والعاطفيّة والعقليّة؛ وتشبّع التّفاعل الاجتماعي بحسٍّ عالٍ من العدالة؛ وإظهار الاستقامة في السرّ والعلن.
ورغم أن هذه القائمة غير مكتملة، إلا أنها تشير إلى مجموعة من القدرات الّلازمة لبناء النّسيج الاجتماعيّ والاقتصاديّ والاخلاقيّ للحياة الجماعيّة، وتسلّط الضوء على الدور الحيوي الّذي تلعبه المصادر العلميّة والدّينيّة في تعزيز عملية التنمية، وتنبهنا إلى مجموعة من القيم والمواقف التي تعزّز القدرات الأساسيّة، وإلى المفاهيم والمعلومات والمهارات والأساليب الواجب استخدامها لتطوير هذه القيم والمواقف بشكل منهجي، وتشدّد على أهمية التعلّم المنظم في إيجاد مجموعة متكاملة من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية وتعزيزها.
وبناءً عليه، فإنّ بناء القدرات على النّحو المقترح هنا ينطوي على تمكين الفرد من إظهار القوى الموهوبة بطريقة خلاّقة ومنهجيّة، وتشكيل المؤسسات بحيث تمارس السلطة لتوجيه هذه القوى لما فيه رفعة أفراد المجتمع، وتطوير المجتمع ليعمل كبيئة محفّزة لإطلاق الإمكانات الفردية وإغناء الثّقافة. إن التحدي الماثل أمام العناصر الثلاثة هذه يكمن في تعلّم استخدام الموارد المادّيّة والمواهب الفكريّة والروحانيّة للنهوض بالمدنيّة.

أيــن نبـــدأ؟
كيف يُمكن البدء بحوارٍ حول تكامل دَوْرَيْ العلم والدّين في تعزيز التحول الاجتماعي؟ ما هي بالتحديد مجالات الأنشطة البشريّة الّتي يمكن أن تتأثر فعليًّا أكثر من غيرها؟ وكنقطة انطلاق، يُقترح أن يركز الحوار على عملية بناء القدرات في المجالات التالية:
التعليــــم
ولأن التقدم الاجتماعي ينشأ من خلق المعرفة ونشرها، فقد أصبح التعليم سمةً بارزةً لاستراتيجيات التنمية على مدى العقود القليلة الماضية. في البداية، تطوّر التركيز على البُنية الأساسية المادية ليشمل المسائل المتعلقة بالمناهج الدراسية، والإدارة، والتدريب التربوي، وتكنولوجيا التعليم، والعلاقة بين المدارس والمجتمعات المحيطة بها. ومع ذلك، ورغم الإنجازات الملحوظة، لا سيّما في مجال توفير التعليم الابتدائيّ على نطاق عالمي، فإنّ منهجيّات التعليم، في معظم الأحوال، مقصّرة في إطلاق الإمكانات البشريّة ورعايتها. إن مقاربةً مجزّأةً لكسب المعرفة تؤدّي إلى تجربة تعلّميّة تراكميّة لا تسمح للطلاب بأن يلمسوا العلاقة الأساسيّة بين مختلف مجالات المساعي البشريّة والواقع الاجتماعيّ. ومما يزيد من تفاقم هذه التجزئة هو التركيز على استيعاب الحقائق بدلاً من إدراك المفاهيم والعمليّات المهمّة. علاوة على ذلك، فإن القضايا المتعلقة بهدف الفرد والقيم الأخلاقية نادرًا ما يتم إدراجها.
إنّ الوضع الحالي يدعو إلى إلقاء نظرة جديدة على مجموعة المعارف البشرية برمّتها وكيف يمكن دراستها وتوسعتها بطريقة شموليّة. يجب أن يسعى التعليم لتنمية مجموعة متكاملة من القدرات- التقنيّة، والفنيّة، والاجتماعيّة، والأخلاقيّة، والروحانيّة- حتّى يتمكن الأفراد من العيش حياة ذات معنى ويصبحوا عوامل تغييرٍ اجتماعيّ إيجابيّ. إنّ إيجاد المناهج والأساليب التي تعزّز هذه القدرات المترابطة سوف يتطلب شراكة بين العلم والدّين.
النشـاط الاقتصـادي والتنظيـم
إن مفتاح مهمّة إعادة تنظيم الشؤون البشريّة هو التّوصّل إلى فهم سليم لدور النّشاط الاقتصاديّ. فاختلال التوازن الاقتصاديّ وعدم الإنصاف المنتشرين على نطاق واسع في العالم الآن هما نتيجة مباشرة للفشل في وضع المسائل الاقتصاديّة في السّياق الأوسع للوجود الاجتماعيّ والروحانيّ للبشريّة. إنّ الترتيبات الاقتصاديّة ينبغي أن تخدم احتياجات الناس؛ يجب أّلا نتوقع من المجتمعات أن تشكّل نفسها لتناسب نماذج اقتصاديّة محدّدة- ولا سيما تلك التي تتبنّى عادات اقتناءٍ واستهلاك شرهة.
وخلق أنماطٍ من الأنشطة الاقتصاديّة تُستدام بيئيًّا وتمتدّ من المستوى المحليّ إلى المستوى العالميّ يتطلّب إعادة توجيه أساسية لكل من المبادئ والترتيبات المؤسسيّة التي تحكم الإنتاج والاستهلاك. إن المقاربات الّتي تشجّع على إيجاد وتوزيع الثروة في المناطق الريفيّة متناهية الصغر والسياسات الّتي تحول دون قيام عمليّات العولمة بتهميش المبادرات الاقتصادية على مستوى القاعدة الشعبية تستحقّ اهتمامًا خاصًّا من جانب الباحثين. وفي نهاية المطاف، على المجتمع أن يقوم بتطوير نماذج اقتصاديّة جديدة تشكلها الأفكار التي تنشأ من فهمٍ متعاطف للتجربة المشتركة، ومن النظر إلى البشر وعلاقتهم بعضهم ببعض، ومن الاعتراف بالدور المركزيّ الذي تضطلع به الأسرة والمجتمع في الرفاه الاجتماعيّ والروحانيّ. ولا بدّ من توجيه الموارد بعيدًا عن الأنشطه والبرامج التي تضرّ الفرد والمجتمعات والبيئة، وتوجيهها نحو تلك الأكثر صلة بإيجاد نظام اجتماعي ينمّي الإمكانات اللامحدودة للبشر. وبناءً عليه، فإن العلم والدّين على حدٍّ سواء يلعبان دورًا رئيسيًّا في وضع نظم اقتصاديّة إيثاريّة وتعاونيّة في طابعها إلى حدٍّ كبير.
التـقدّم التكنولوجي
تتشكّل المسارات التكنولوجيه بفعل مجموعة متنوعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعلى أيّة حال، فإنّ الاتجاه الحالي للتقدم التكنولوجي تقوده بشكلٍ رئيسيّ قوى السوق الّتي لا تعكس الاحتياجات الرئيسيّة لشعوب العالم. وعلاوة على ذلك، فإن سياسات الحكومات حول التكنولوجيا نادرًا ما تولي اهتمامًا واضحًا بالمقتضيات الاجتماعيّة والبيئيّة، في حين أنّ السياسات الاجتماعيّّة والبيئيّة نادرًا ما تأخذ في الاعتبار الفرص التكنولوجيّة. وثمة حاجة الى مزيد من الاتّساق.
ويجب أن يكون تحديد وفهم الحاجة التكنولوجية سمةً أساسية من سمات أيّ عمليّة قائمة على المشاركة الشعبية، ويجب تعزيز قدرة الشعوب أنفسها على التقييم التكنولوجيّ والابتكار والتكيّف. وخطوة أولى هامّة في هذا الاتجاه هي تشجيع الوعي والاحترام للقاعدة المعرفيّة الموجودة لدى المجتمع أو الثقافة، وهذا سوف يساعد المجتمع على بناء الثقة بمقدرته على تصوّر وتنفيذ حلول مبتكرة لمشاكل صعبة. وعند وجود مثل هذه الثقة، يصبح من السهل استخدام العلم والتكنولوجيا كوسيلتين للحفاظ على الهويّة الثقافيّة وتوسيع نطاقها. وفي هذا الصدد، فإنّ إنشاء مراكز محليّة وإقليميّة للتعلّم لا يلعب دورًا حاسمًا في التعليم والتدريب الفني فحسب، بل وفي تنظيم وتوسيع معارف السكان الاصلييّن أيضًا.
لو بُثّ الالتزام الروحانيّ والمبادئ الأخلاقيّة في الروح الكامنة في حياة المجتمع، لنُشر الكشف العلمي والابتكار التقني بطرق تعمل على إثراء التجربة الفرديّة والجماعيّة. إن صنع القرار التكنولوجي الموجّه مباشرةً بنُظمِ من القيم المحلية سيكفل تجنّب الاستخدام المفرط للتكنولوجيا. فمثل هذا التوجيه الاخلاقيّ سيركّز الاهتمام على أهم المشاكل التي تواجه المجتمعات المحلية. ومثال هام على ذلك على وجه الخصوص هو تطوير مسارات التكنولوجيا المستدامة في المناطق الريفيّة. إن الاستخدام المتكامل للموارد الطبيعيّة كالغذاء والطّاقة والمواد سيصبح، وبصورة متزايدة، شاغلاً رئيسيًّا لتنمية القرى، ووثيقة الصلة بهذا الصدد بالذّات هي النظم والتقنيات التي تكمّل أساليب الحياة الزراعية في القرى.

الـحـُـكْــــم
يُعتبر الحكم الرّشيد شرطًا أساسيًّا لتحقيق التقدم الاجتماعي، وبينما يتم في كثير من الأحيان اعتبار الحُكم مرادفًا للحكومة إلا أن الحُكم في الواقع ينطوي على أكثر من ذلك بكثير. فالحُكم يحدث في جميع المستويات ويشمل الطرق التي تقوم بها الحكومة الرسمية، والمجموعات غير الحكومية، والمنظمات المجتمعيّة والقطاع الخاص بإدارة مواردها وشؤونها. فالحُكم الفعّال أمر ضروري إذا أُريد للمجتمعات المحلية أن تحافظ على التوازن، وتتخطى الصّعاب، وتستجيب بشكل خلاق إلى التحدّيات والفرص الماثلة أمامها. وهناك ثلاثة عوامل تحدد إلى حدّ كبير حالة الحُكم وهي: نوعية القيادة، ونوعية المحكومين، ونوعية البُنى والعمليات القائمة وثلاثتها تقتضي بناء القدرة.. تقدير أهمية الرّوحانية في عملية التنمية: اعتبارات أوّلية حول إيجاد مؤشرات مبنية على الروحانيات لقياس التنمية، بيان للجامعة البهائية العالمية، 1998.
Valuing Spirituality in Development: Initial Considerations Regarding the Creation of Spiritually
Based Indicators for Development, a statement of the Bahá í International Community, 1998..
وثمة توافقٌ دوليٌّ في الآراء المتعلّقة بالخصائص الأساسية للحُكم الرّشيد آخذٌ في الظهور، وخصوصًا فيما يتعلق بالحكومة الرسميّة. وتشمل هذه الخصائص الديمقراطيّة، وسيادة القانون، والمساءلة، والشفافيّة، ومشاركة المجتمع المدنيّ. ولكن مؤسسات الحكم المستنيرة حقًّا -المؤسسات التي تخلو من الفساد والتي تولّد ثقة الجمهور- لن تخرج إلى حيّز الوجود إلاّ عندما تسترشد عمليّات اتخاذ القرارات الجماعيّة والعمل الجماعيّ بالمبادئ الروحانيّة. إنّ تطوير آليات الحكم الّتي تلبّي هذا المعيار يتطلب تدريبًا أخلاقيًّا وعمليًّا في آنٍ معًا. فإذا قامت مؤسسات الحُكم في الواقع بتوفير مشاركة ذات مغزى للمواطنين في تصور وتنفيذ وتقييم البرامج والسياسات العامة، ستتعزز قدرة المجتمع على إحداث التغيير وإدارته إلى حدٍّ كبير فعلاً. وهذا صحيح سواء كانت المؤسسات تعمل في القرية أو على الصّعيد الدوليّ.
العــــدل
العدل شرطٌ أساسيّ بالغ الأهمية لجميع أنشطة التّّنمية. إنّه الأداة الوحيدة الّتي تضمن توزيع الفرص وحقوق الاستخدام بإنصاف. وإذا كان العدل حقًّا هو العامل المحدِّد الرئيسيّ في التخطيط والتنفيذ التنموي، فلن يتم تحويل الموارد المحدودة للقيام بمشاريع دخيلة على الأولويات الاجتماعيّة والاقتصادية الأساسية للمجتمع المحلي (community). وما لم نضمن أن تصبح العدالة هي المبدأ الهادي للتفاعل الإنساني لن تلتزم شعوب الأرض بحماس للمبادرات الرّامية إلى تعزيز التقدّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ. إن الصفات الإنسانيّة ذات الصلة مثل الأمانة، والاستعداد للعمل، وروح التعاون يمكن تسخيرها بنجاح لإنجاز أهداف جماعيّة هائلة عندما يكون بمقدور كلّ أفراد المجتمع – بل على الأصح كلّ المجموعات التي يتكوّن منها المجتمع – بأن يثقوا بوجود معايير تحميهم وتضمن لهم مزايا تُطبّق على قدم المساواة للجميع .(من وثيقة ازدهار الجنس البشريّ ورخاؤه).

ينبغي ألا يُنظر للعدالة على أنها شيء مثاليّ يستحيل الوصول إليه، بل على أنها قدرة ناشئة يجب على الأفراد والمجتمعات والمؤسسات أن يسعوا إلى تطويرها باستمرار. إن تحقيق العدالة يتوقّف على المشاركة والعمل على نطاق شامل لجميع أفراد المجتمع والوكالات العاملة فيه. فخَلق ثقافة العدالة، أو بشكل أكثر تحديدًا حقوق الإنسان، يتّصل اتصالاً وثيقًا بعملية التّّنمية الأخلاقية والروحانية. وبمجرد أن تبدأ مثل هذه الثقافة بالتطور، سيكون بالإمكان التصدّي بفعاليّة للمسائل العملية مثل التدريب فى مجال إدارة العدالة وإنفاذها، والتوزيع العادل لموارد المجتمع المحلي، ورفع مستوى الأشخاص والجماعات المستبعدة عبر التاريخ من المزايا والفرص التي يتيحها المجتمع. وبالتالي، اذا أُريد للعدالة أن تصبح بوصلة لا غنى عنها للحياة اليوميّة، فلا بدّ من التعاون بين أحاسيس الجنس البشري العِلميّة والدينيّة.
التطلّـع إلـى المستقبـل
في هذه اللحظة من التاريخ حيث نشهد شعوبًا وثقافات كانت منعزلة حتى الآن تتفاعل معًا لأول مرة، وحيث انكمشت الأرض نفسها إلى مجرد حيٍّ، لا بدّ لنشاط التنمية وأن يصبح بالضّرورة مشروعًا عالميًّا يهدف إلى تحقيق الرفاه المادّي والروحانيّ على حدٍّ سواء لجميع سكان الكوكب. فالاعتراف بأنّ الانسانيّة شعبٌ واحدٌ له مصير مشترك هو الإدراك بالكفّ عن اعتبار التّّنمية شيئًا يقوم به الفرد تجاه الآخرين. إن بناء مجتمع عالميّ سلميّ وعادل هي مهمّةٌ يجب على جميع أفراد الأسرة البشريّة أن يشاركوا بها.
وإذا أُريد لقدرات شعوب العالم لأن تبلغ إلى المستويات المطلوبة لمواجهة متطلبات الوقت الرّاهن المعقّدة، يتعيّن استغلال موارد العقل والإيمان على حدٍّ سواء. إنّ مبادرات التّّنمية لن تؤدي إلى تحسينات ملموسة ودائمة في الرّفاه الماديّ دون الاستناد إلى المسلّمات الرّوحانيّة العالميّة الّتي توجّه الحياة وتعطيها معنىً. وفي حين أنّ العلم يمكنه أن يوفر الوسائل والأدوات اللازمة لتعزيز التّقدّم الاجتماعيّ والاقتصاديّ، إلا أنّه لا يستطيع وحده تحديد الاتجاه؛ إنّ هدف التّّنمية لا يمكن أن يأتي من داخل العملية ذاتها. هناك حاجة الى رؤية، والرؤية الصّحيحة لن تتبلور أبدًا طالما استمرّ اعتبار التراث الروحيّ للجنس البشريّ مرتبطًا بشكلٍ طفيفٍ مع سياسات التّّنمية وبرامجها.



#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلم والدين والإنسان
- (هناك نفوس موفّقة للأعمال الخيرية ومُحبة الخير للعموم ومكارم ...
- أين الله -حوار مابين مؤمن وملحد
- أحد روّاد النّهضة العربيّة في مصر يُعرّف عبد البهاء والبهائي ...
- وحدانيةُ الله من المنظور البهائي
- نداء إلى أهل العالم من صغيره إلى كبيره
- الأدب والدين
- نحو مجتمعات متآزرة في عالم عناصره متفاعلة متحدة
- ماهو الدين ؟؟؟؟
- ما هو الدين؟؟؟؟؟
- فليسقط الخلاف ولنُبعد الاختلاف-فلا خلاف ولا اختلاف
- الوصيّة في البهائية وأهميتها-الجزء الثالث والأخير-(3)
- الوصيّة في البهائية وأهميتها-(2)
- الوصيّة في البهائية وأهميتها
- الزواج فى التشريع البهائى
- حقائق وبراهين للعاشقين
- الرؤية البهائية للمجتمعات المتماسكة
- دلائل الالوهية وبراهينها واثبات لزوم المربي للإنسان منذ الأز ...
- اصحاب الكهف
- من يخط طريق المستقبل-(2)


المزيد.....




- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - راندا شوقى الحمامصى - أنّ المعايير الاقتصادية والماديّة الّتي توجِّه بشكل رئيسي نشاطات التّنمية في الوقت الحالي يجب أن تتوسع لتشمل تلك التّطلّعات الروحيّة الّتي تحرّك الطبيعة البشريّة.