أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - العدالة - شهادة : المناضل النقابي بدر الدين شنن في كتابه "الشهادة": شهادة حارة عن سنوات الاعتقال في سجون البعث















المزيد.....



شهادة : المناضل النقابي بدر الدين شنن في كتابه "الشهادة": شهادة حارة عن سنوات الاعتقال في سجون البعث


العدالة

الحوار المتمدن-العدد: 162 - 2002 / 6 / 16 - 07:56
المحور: الحركة العمالية والنقابية
    


 

شهادة

المناضل النقابي بدر الدين شنن في كتابه "الشهادة": شهادة حارة عن سنوات الاعتقال في سجون البعث

مقدمة

بدر الدين شنن مناضل نقابي معروف خاض تجربة الاعتقال السياسي بسبب انتمائه للحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي. بدأ حياته النقابية عام 1964 في مرحلة ما يسمى مرحلة التعيينات التي أعقبت انقلاب 8 آذار 1963، والتي تم فيها حل النقابات وكلف وزير العمل بتشكيلها وحلها كما يشاء، وقد عين في تلك الفترة عضواً في نقابة عمال الطباعة والتجليد والمهن الحرة لبضعة أشهر فقط، إلى أن قام الوزير بحل النقابة حين اكتشف أنه شيوعي.

وبعد صدور المرسوم 31 لعام 1964، جرت أول انتخابات نقابية في تلك المرحلة، وقد نجح مع آخرين في النقابة الجديدة، وأصبح أميناً للسر فيها حتى عام 1968، و في هذا العام جرت انتخابات لدورة جديدة مدتها أربع سنوات، أصبح في هذه الدورة نائباً للرئيس في النقابة المذكورة حتى عام 1978 كما انتخب نائباً للرئيس في الاتحاد المهني لعمال الطباعة و الصحافة منذ عام 1970 إلى عام 1972. ثم نائباً لرئيس الاتحاد المهني لعمال الطباعة بعد فصل عمال الصحافة عن الاتحاد حتى عام 1978 واعتباراً من عام 1974 انتخب بالإضافة إلى مركزه في كل من نقابة الطباعة والاتحاد المهني، عضواً في مجلس الاتحاد العام لنقابات العمال حتى أواخر عام 1978. وبعد ذلك أبعد عن الحركة النقابية بالتلاعب والتزوير.

مارس نشاطه النقابي في الصحافة، كمختص بقضايا العمال والحركة النقابية في جريدة الجماهير الحلبية لمدة خمس سنوات تقريباً منذ أوائل عام 1965 إلى أواخر 1969 وتابع الكتابة في هذا المجال أيضاً في جريدة قضايا الجماهير الحزبية.

اعتقل كشيوعي ومناضل نقابي من قبل أجهزة الأمن في 8 أيار عام 1983. واستمر اعتقاله ثماني سنوات في سجن حلب المركزي، وحين اشتد به المرض نقل إلى سجن صيدنايا العسكري قرب دمشق. وأفرج عنه في 22 تموز 1991 بعد أن استفحل به المرض، وبعد تدخل منظمة العفو الدولية أمنستي ولجان الدفاع عن حقوق الإنسان في سورية. وقد تمكن في أواسط تشرين الأول 1992، بمساعدة اللجان المذكورة وجمعيات ضحايا التعذيب من الوصول إلى أوروبا للعلاج.

فصلية العدالة ومن منطلق سعيها لنشر شهادات المعتقلين السياسيين السابقين تنشر للمناضل بدر الدين شنن مقاطع من كتابه "الشهادة" الذي وضعه كشهادة على تجربة الاعتقال المريرة، فأتى الكتاب قطعة أدبية رفيعة المستوى وشهادة ممتازة عن الظلم والإجحاف الذي تعرض له النشطاء السياسيون والنقابيون السوريون الذي تبنوا وجهة نظر مخالفة لوجهة نظر السلطة.

التحرير


كلمة أولى

منذ أن تم الإفراج عني، وجدت من واجبي أن اكتب عن زمن السجن لكن الظروف القاسية التي مررت بها بعد السجن ومن ثم ظروف الهجرة.. المنفى، والصعوبات الموضوعية والصحية التي رافقتها قد حالت دون تمكني من كتابة جملة واحدة في هذا الموضوع. كنت أؤجل.. سنة بعد سنة.. مشقة الولوج مرة أخرى في نفق العذاب. حتى وجدت القلب أمام وضع حرج، وضع لا بد من أخذه بالاعتبار.. وإلا فقدت إمكانية الكتابة إلى الأبد.

وهكذا بعد سنوات من خروجي من السجن، وقفت وجهاً لوجه أمام هذه المهمة الشاقة، وبعد أن كتبت بضع صفحات، خجلت من نفسي بعد قراءتها.. مزقتها.. لأنني جعلت من معاناتي أنموذجا للكتابة، و بينما هناك ما هو أهم منها بكثير.. خاصة تلك الحالات التي انتهت بالموت.

وبعد نقاش هادئ مع الذات واقتنعت أن لكل معاناة خصوصيتها، وكلها تشكل ملحمة عذاب في حياة شعبنا. ملحمة يجب ألا تبقى معرفتها محصورة بحدود أجهزة الأمن والأشخاص الذين عايشوها معي وبل يجب أن تنتقل إلى مساحة الوطن كله.. إلى أبناء شعبنا وأصدقاء الحرية في كل مكان، كي تظل هذه الملحمة حية في الذاكرة.. وتتوقف تلك الجرائم البشعة.. وكي لا تتكرر.

وعندما حاولت الكتابة مرة أخرى، دهشت لما وجدت أنني قد فقدت بعضاً من مخزون الذاكرة ورموزها، ودهشت أكثر لما وجدت أنني قد نسيت قسماً هاماً من قواعد اللغة وأصولها. وقد هيمن هذا على ما كتبت، وتسبب ولا شك بوقوعي بأخطاء كثيرة كان بالإمكان تفاديها، لو أن الكتابة قد جرت في ظروف أفضل.

ثم كانت مسألة القدرة على الكتابة.. القدرة على تحمل استعادة المعاناة بسنواتها الطويلة، بأيامها وساعاتها وآلامها، فأنا لم أتصور أن الكتابة ستكون على مستوى الصعوبة الشاقة التي حصلت. إذ لم يكن القلم هو الذي يمر فوق الورق ليسجل الجمل والكلمات.. بل كانت شرايين القلب التي أرهقتها المعاناة ذاتها.. فكانت معاناة أخرى فوق قدرة الاحتمال.

كنت لما أجلس لأكتب ينتابني السعال القلبي الحاد فأنهض وأتمشى قليلاَ كي لا أختنق. ثم أحاول الكتابة مرة أخرى، فأتمكن من تسجيل مشهد ما، فأنفعل.. وأبكي.. وأضطر مجدداً للتوقف عن الكتابة عشرات المرات توقفت عن الكتابة ثم عدت إليها.. عشرات المرات انفعلت.. بكيت.. اهتز شغاف القلب. وكاد القلب أن يتوقف شعرت أنني قد استنفذت تماماً.. ويجب على أن أتوقف فتوقفت.. واكتفيت بما كتبت.

كل ما احتوته الصفحات التالية، هي معاناتي ومعايشتي الظلم والقهر والقمع منذ لحظة اعتقالي إلى لحظة الإفراج عني، ومن ثم ما تلاها من معاناة ناتجة عن زمن السجن.. رافقتها تداعيات وخواطر نابعة من صميم تلك المعاناة.. من أسبابها ونتائجها. لم أبالغ بشيء منها.. بل قدمتها بواقعية وصدق. وإذا نسيت بعضاً منها فلأن الزمن قد اختلسها مني وإذا تجاوزت بعضاً آخر فلأني راعيت حق الكرامة والوفاء، أو راعيت الحرص على أعزاء ما زالوا محاصرين.

وأهم من كل ما تقدم.. لا بد من أجل هذا.. اعتذاري الحار لكل الذين أخطأت بحقهم، أو هم يعتقدون ذلك، خلال تلك الظروف القاسية. راجياً منهم مراعاة خلفية تلك الأخطاء وملابساتها وعذري الوحيد، كما هم يعرفون جيدا أنني كنت صادقاً في كل ما قلت وما فعلت، وأن همي الوحيد كان انتصار قضيتنا المشتركة.. الحرية.. قضية الإنسان الأولى في وطننا.

بدر الدين شنن

** ** **


 

توصل أحد العلماء، منذ سنوات عديدة، إلى اكتشاف أن الأصوات التي تصدر عن الناس والكائنات الأخرى والأشياء لا تذهب إلى العدم، بل تسجل على طبقات من الأثير، يمكن استعادتها ذات يوم، بواسطة أجهزة متطورة.

والسؤال هو ترى ماذا ستقول الأجيال القادمة حين تسمع عبر أجهزتها تلك أصواتا غريبة حزينة تدور في فضاء وطننا.. أصوات ضحايا التعذيب والقهر والاستبداد الذين كانوا يعذبون جسديا ونفسيا، في مراكز الأمن والسجون السياسية.. أصواتهم يصرخون.. يبكون.. يستغيثون.. يناجون الله.. يكفرون.. مترادفة مع أصوات لسع السياط وضرب العصي وتكسير العظام، ومتداخلة مع أصوات الجلادين التي تزعق.. تشتم تأمر بما يذل ويقهر.. تستجوب.. تسأل الابن عن أبيه والأخ عن أخيه والصديق عن الصديق تعتصر الأكباد.. تمزق القلوب.. تدوس الكرامات.. لتنتزع.. الاسم.. الجواب.. مع نزيف القلب ودموع العينيين؟ أي إجرام وجشع ولا مسئولية سوف تجد تلك الأجيال في أنظمتنا وحكامنا؟ أي نعت سوف تطلقه تلك الأجيال على أنظمة القمع والاستبداد، التي احتقرت ودمرت إنسانية الإنسان، ونهبت الوطن وكبلت أجيالاً عديدة من شعبنا بقيود الذل والعجز والتخلف، والطامعون فينا يزدادون لوما وعدوانية وتبجحا؟

من المؤكد أن كلمة "العار" وحدها لا تكفي.

ومن نافل القول أن لا تذكر أزمنة القمع والاستبداد إلا على هوامش بائسة من صفحات التاريخ، مع كثير من إشارات الاستفهام والتعجب؟!

خرجت بُعيد الغروب من آخر لقاء لي مع مجموعة من الرفاق في حي شعبي يقع على طرف المدينة وحين وقفت على الرصيف أنتظر سيارة أجرة.. سألت نفسي إلى أين أذهب الآن لأستفيد من الوقت المتبقي من اليوم، هل أذهب إلى أسرة صديقة بمناسبة العيد، أم أذهب إلى أسرة صديقة أخرى في زيارة عمل؟ وخلال انتظاري وجدت نفسي عفوياً في وقت مقتطع من الزمن خارج أسوار حياتي المشحونة بالتوتر والقلق، وخارج نفوذ رجال الأمن الذين يلاحقونني.. منذ سنوات مر وقت شعرت خلاله أن حواسي كلها تتفاعل مع الحياة كانت أمسية رائعة من أمسيات أيار تهبط برفق حاملة معها النسمات الرقيقة. ومعظم ربات البيوت رغم شح المياه كن يروين الزهور ويغسلن الشرفات وفسحة من الرصيف أمام باب الدار وأمام عدد من البيوت الشعبية الأرضية تجلس هنا وهناك مجموعات صغيرة من الأهل والأصدقاء، حول إبريق شاي أو دلة قهوة وقريباً منهم يتراكض الأطفال ضاحكين، وأسراب من الشباب والصبايا بوجوههم التي لونتها شمس أيار بحمرة شفافة، تنطلق على الدروب للتلاقي والمرح البريء.

ما الذي يجري هذا المساء.. ما هذا الشيء الغريب، الذي يهيمن على كل شيء يتحدى القمع والقهر ويدعو إلى التحليق مع شيء من الفرح ألا يحق لي شيء من الفرح؟ خجلت من نفسي لما خطر لي هذا السؤال، كيف نسيت ولو للحظة، السجون والمعتقلات والعذابات التي لا تحصى؟ ثم قلت لنفسي: لماذا لا يحق لي شيء من الفرح.. لماذا لا تكون أغنية حب صرخة بوجه القهر..؟ ولماذا لا تكون ضحكة عالية نداء للحياة والحرية؟

سألني السائق:

- إلى أين؟

قلت شارد الفكر:

- لما نصل المدينة يفرجها الله.

وخلال الدقائق التي تطلبها الوصول إلى المدينة.. حددت خياري عدت إلى زمني الرديء قلت لنفسي أنا لست معنياً اليوم بدعوة الربيع.. ربما في ربيع آخر.. مع الحرية سيكون الربيع أجمل.. والفرح أكبر.. أما الآن فلابد من معرفة أن "محمد الحسن".. الشيخ.. قد اعتقل أم لا.. ولابد من أن أؤمن بأي ثمن إصدار العدد الجديد من "الحقيقة".. الذي تعبت كثيراً في إعداده، وفي سبيل الموافقة عليه.. يجب أن يصدر خلال اليومين القادمين.

لما وصلنا المدينة، سألني السائق مرة أخرى:

- إلى أين؟

قلت حاسماً:

- إلى "حي الأنصاري" من فضلك.

كانت السيارة تسير في شوارع المدينة وتجتاز مفارق الطرق، أما أنا فكنت أفكر بصاحبي الشيخ وأدقق بالمعلومات التي وصلتني حول اعتقاله. لم تكن تلك المعلومات مقنعة، كان فيها نقص كبير. كان الشك باعتقاله هو الغالب لدى. وربطت الخبر اليقين برسالة كنت أنتظرها من العاصمة.

ثم رحت أفكر بالعائلة الصديقة التي أتجه إليها وبالضيوف القادمين معها من مدينة حماة لا شك أن في جعبتهم أخباراً هامة عن المدينة الجريحة. ولا شك أيضا أن وجود شاعر بينهم سيجعل اللقاء معهم ممتعاً.. لم يكن مهما بالنسبة لي أن تكون هناك معرفة سابقة به أم لا، فالحديث مع الشاعر، لا يحتاج إلى مقدمات ولا يحتاج إلى تقية.

ولما كنت أهبط الدرج إلى الطابق الثاني تحت الأرض، إلى بيت الصديق بحثت عن مفتاح البيت وأمسكته بيدي وحين صرت أمام البيت تذكرت الضيوف ورحت أفكر بردود الفعل إذا وجدوني فجأة أمامهم.. كل لحظة كان لها ثمن ما هو التصرف الأكثر صواباً لأدخل البيت، هل أستخدم المفتاح كالعادة أم أضغط زر الجرس ليفتح لي الباب أحد الزوجين الصديقين.. ترددت قليلاً.. ثم ضغطت زر الجرس، وانتظرت قلقاً.. متلهفاً، أن يفتح الباب بسرعة قبل أن يراني أحد من الجيران عندما فتح الباب.. لم يكن صديقي أو زوجه أمامي بل بضعة رجال مسلحين يسددون أسلحتهم نحوي.

مرت لحظات شل فيها تفكيري تماماً، وجمد جسدي عن الحركة كانت الأصابع على الزناد والرجال متحفزون ولا مجال للهرب وامتدت الأيدي جذبتني إلى الداخل ودفعتني إلى عمق البيت.

اجتزنا ممراً موصلاً إلى غرفة الجلوس وهناك توقفنا فتشوني بدقة بالغة أخذوا مني ما كنت أحمله من أشياء تناول أحدهم بطاقتي الشخصية وراح يتفحصها، تناول ثان مغلفا كان معي وفتحه أخرج منه محتوياته وقال لزملائه:

- انظروا.. يوجد هنا منشور.. جريدة.. لا أعرف اسمه "الحقيقة" كما يوجد رقم هاتف.. تذكروا ذلك.

وعلا صوت جهاز اللاسلكي.. قال رئيس المفرزة:

- لقد ألقينا القبض على واحد اسمه..

أجابه رجل على الطرف الآخر من الجهاز سائلاً:

- ما هو اسم الأم والأب؟

قرأ رئيس المفرزة المعلومات المسجلة على البطاقة أكثر من مرة. ضحك الرجل الآخر وقال:

- إننا قادمون إليكم.

وظهرت ملامح السعادة على وجوه الرجال المسلحين كأنهم على موعد مع مكافئات سخية.

رغم التهديدات والأوامر المتلاحقة تمكنت من أن أنظر حولي كان كل شيء في البيت مقلوباً أو مكسوراً. وتساءلت كيف حدث هذا؟ كيف سلمني أعز أصدقائي، ترى كم عذبوا هذا الشيخ حتى دلهم على هذا البيت. كيف صدقت أن وضع البيت سليم، ولم أتريث أكثر قبل قدومي إليه. حزنت كثيراً ليس لأنني وقعت في مصيدة رجال الأمن، فهذا الاحتمال كنت أتوقعه في أية لحظة طيلة سنوات من المطاردة بل إن عدم وجود جهاز للطبع بحوزتي قد عجل باعتقالي. دقائق لا أكثر قرع جرس الباب بقي أحدهم معي وتراكض الآخرون نحو الباب، ثم عادوا رجال مسلحون آخرون في مقدمتهم شخص كان يسير مهرولاً نحوي حدق هذا بي وقال:

- لقد كنت متأكداً أنك هو.. هيا

اقتادوني إلى سيارة كانت بالانتظار

وفي الطريق إلى الفرع كان ذلك الشخص يتحدث متأخراً:

- لقد وقعت أخيراً، لم تنفعك كثيرا النظارات السوداء.. أليس كذلك؟

-...

- لا أحد يمكنه الإفلات منا أبداً. لم يبق منكم سوى أفراد، سيقع الجميع في قبضتنا أتسمعني.. حسناً أنت الآن لا ترد.. لما نصل الفرع ستتكلم كثيراً.. سترى.

أما أنا فقد رحت عبر نوافذ السيارة أسرق النظر مودعاً مدينتي حلب الحبيبة.. أسرق آخر اللحظات التي أيقنت أنها آخر لحظات في حياتي.. وأتساءل بمرارة.. لماذا لم تسافر أيها الشيخ المسكين.. لماذا تمسكوا بك وسط الحصار؟

** ** **

كانت غرفة التحقيق.. التعذيب في مقر الفرع جاهزة وضعوا عصابة بلاستيكية علي عيني.. وسط السباب والشتائم البذيئة، أخذت أياد قوية تضربني تتقاذفني.. حتى انتهيت مرمياً منهكاً فوق شيء خشبي، ثم راح حبل غليظ كثعبان جهنمي يلف جسدي ويشدني بإحكام إلى ذلك الشيء، الذي ارتفع نصفه فجأة إلى أعلى جاعلا جذعي مع رجلي مثل زاوية قائمة.

فجأة ساد الهدوء المكان.. ثم سمعت صوتاً يناديني ويقول:

- اسمع.. لقد جاء المعلم. وهو سيكلمك الآن.

تكلم "المعلم" بنبرة مهددة ناصحة فقال:

- أنت الآن في قبضتنا نحن نستطيع أن نفعل بك كل شيء.. ستموت وتحيا مرات لا تحصى، أنا أريد أن أوفر عليك كل هذا الشقاء تعاون معنا وأنا أعدك ألا يمسك أحد بسوء.. بل سيطلق سراحك قريبا جداً.. تكلم لماذا لا تتكلم؟

-...

- لا وقت لدينا إما أن تقول موافق.. أو سأتركك لهم.

انبري صوت آخر يصرخ بي:

- جاوب "المعلم".

لم أعد أسمع صوت "المعلم" ساد ما يشبه الصمت الغرفة.

فجأة تدفقت حمم الجحيم فوقي انهالت عصي الخيزران والكابلات ضرباً على قدمي العاريتين وعلى بقية جسمي وأرجل من كل صوب تركل بطني وأضلاعي وتدوس فوق رقبتي ورأسي صرخت رغم إرادتي.. وعلا صراخي لم أعرف ماذا قلت.. ماذا شتمت.. كيف تنفست كان جسدي رغم الحبل الغليظ ينتفض.. قلبي يدق بعنف.. يكاد ينفجر والدم يتدفق في عروقي بسرعة عجيبة.. كل ما في كياني يقاوم.. يكابد.. يصرخ. لم يسمحوا لي بأية فرصة للاستراحة من الضرب.. والضرب بشكل مستمر.

قال أحدهم:

- لنفعلها به ونترك الدم يسيل من مؤخرته.

قال ثان:

- أحضروا زوجته وسيرى كيف ستخيطها ذكورنا.

قال ثالث ورابع.. كلاما هو من البذاءة ما يقزز النفس ويجرح الكرامة.

كم مرة غبت عن الوعي لا أذكر بعد كم من الوقت لا أدري سمعت صوتاً قادماً من بعيد يقول.. حلوا وثاقه.. بعد أن حلوا وثاقي غدوت ممدداً لكني وجدت جسمي ثقيلا وغير قادر على الحراك.. رأسي ثقيل يلفه دوار حاد وإحساس شديد بالغثيان كل شيء أمامي تخلله الضباب.. الغرفة تهتز.. الأجساد تتموج أصوات نائية تتكلم بأحرف ممدودة.. وأفواه تفتح وتغلق دون أن تحدث صوتاً.. بصعوبة بالغة سمعت صوتاً يصرخ بي:

- قف.. انهض.

كررت أصوات عديدة:

- قف.. انهض.. تحرك.

لكنني لم أقدر على النهوض أو الحركة أمسكوا بي.. رفعوني بقوة كي أقف ولما تركوني وقعت أرضاً. حاولوا أن يجبروني على المشي، لكن دون جدوى لم أعد أسمعهم أو أدرك ما يدور حولي.

بعد زمن طويل من التيه والضياع فوق رمال حارة بلا ماء أو زاد بعد السقوط من مرتفعات شاهقة إلى اللاقاع بعد أن مزقت جسدي الكلاب والذئاب وجدت نفسي كتلة محطمة مرمية في قبر صغير يعلوه مصباح باهر الضوء.

وبينما كنت أجهد نفسي لأجد مكاني وأتلمس وجهي لأتعرف على مواضع الألم في فمي وأذني سمعت صوتاً نسائياً يهمس باسمي.. غاب الصوت ثم عاد يكرر الهمس تماسكت وتطلعت حولي فوجدت وجهين ينظران إلى من نافذة صغيرة في أعلى الباب بعد تركيز متعب عرفت أنهما وجهي صاحبة البيت وإحدى الصديقات وحين تأكدت منهما حزنت حتى شفا الموت.

أصبحت أقرب إلى الغيبوبة أغمضت عيني.. كي لا تكشفا حزني وجرحي.. ولأسترد بعض القوة لأقاوم لكن والدة زوجتي ظهرت أمامي حزينة بائسة.. وراحت تردد بصوت يتماوج مع الصدى.

لقد كسروا عرضها.. حين احتلوا البيت.. أتعرف ذلك إنها زوجتك.. يجب أن تعرف.. يجب أن تعرف.

حاولت أن استوضح منها أكثر قبل أن تتركني.. لكنني مثل كل مرة.. وقفت ممزقا أمام السؤال، خوفا من مذلة الجواب.

لما فتحت عيني كانت صاحبة البيت تتكلم هامسة:

- إننا هنا في الزنزانة المجاورة.. وإلى جانبنا زنزانة عبد الحميد لقد خفنا عليك.. لقد حسبنا أنهم قتلوك.

ثم غابت عني.

ماذا يجب أن أفعل الآن وإلى أي مدى وصلت حملة الاعتقالات الجديدة الأسوأ لو اقتحموا المركز ألم يقولوا إنهم أخذوا الشيخ إلى هناك؟

واشتد الألم في رأسي وجسمي كله، أي جزء منه أحاول تحريكه يؤلمني، وقررت التوقف عن تناول الطعام والماء.. قررت أن أموت ودخلت في سباق مع الزمن لأصل بأسرع ما يمكن إلى الموت، ضربت رأسي بالجدار مرات عدة لكنها لم تكن من القوة بحيث تميت.. وبعد الضربة الأخيرة انتشر ألم ودوي حاد في رأسي وغبت عن الوعي.

لا أعرف متى فتح باب الزنزانة كان أحد السجانين واقفاً أمامي يكلمني وأنا لا أفهمه واستعان بيديه مشيراً إلى الطعام لم أرد عليه أغلق باب الزنزانة ثم عاد ومعه الطعام ووضعه أمامي، وأشار إلى ناحية خارج الباب وترك الباب مفتوحا وذهب أسرعت في مضغ الطعام ووضعته في الكيس ومن ثم زحفت مستعينا بذراعي لأجر جسدي كان المرحاض حيث أشار السجان على بعد أقل من خمسة أمتار من مكاني لكنها كانت أطول مسافة قطعتها في حياتي وهناك رميت الطعام الممضوغ وعدت إلى مكاني مرهقاً متقطع الأنفاس وأحسست بالراحة بداخلي. لقد بدأت العد التنازلي في تنفيذ قراري ثم تحاملت على نفسي محاولاً تحديد مكاني ومعرفته.

لم يكن في الزنازنة سوى نصف فرشة إسفنج وبطانية لا لون لها من قذارتها ومن كثرة الماء المتجمد عليها. وقلت في نفسي كم من الأجساد قد تدثرت بها، ورغم رائحتها الكريهة سحبتها فوقي، وكأني أحضن كل المعذبين الذين أدفأت هذه البطانية أجسادهم الدامية ورحت أحس بالانتعاش بسبب تسرب بعض الطعام إلى معدتي ثم بدأت أميز الأصوات والأشياء أفضل من السابق.

- أريد حليبا لابني.. أليس عندكم أطفال.. ما ذنب هذا الطفل؟

إنه صوت صاحبة البيت.. أيعقل أن رضيعها قد اعتقلوه معها؟

جاء السجان وفتح لها باب الزنزانة.. وقال لها:

- انتظري قليلاً.. سوف نجلب لك الحليب.

استغلت هي هذه الفرصة وجاءت إلي.. وقالت:

- إن الشيخ دمرنا.. لقد اعترف بكل شيء.. هل تريد شيئاً؟

ثم نظرت يميناً وشمالاً.. وسألتني:

- ماذا تنصحنا أن نفعل أنا وهي، وإذا قدمت لنا مساعدة للإفراج عنا، مقابل التصريح، أن لا علاقة لنا بالحزب؟

- ليكن.. المهم أن تخرجا من هنا بأسرع ما يمكن.

لقد كنت خائفاً جداً عليهما وخوفي الأكبر من التداعيات المحتملة إن ظلتا قيد الاعتقال مدة أطول.

لم تطل فترة استراحة الظهيرة كما كانوا يسمونها.. وبعد أن وزعوا الأدوار فيما بينهم بدأ المحققون يتواردون على زنزانتي.. أحدهما كان يهدد ويتوعد وثان كان ينصح أن أكون ذكياً وأتدبر أمري، وآخر كان يتظاهر بالتعاطف معي ويريد أن يخدمني بشيء. ثم كفوا عن مضايقتي. وعند المساء تجدد التحقيق والضرب ثم تركوني أكثر من يوم دون سؤال.

ثلاثة أو أربعة أيام كانت كافية لتظهر نتائج التعذيب والجوع على جسدي بدأ الانهيار يظهر على، فعدا عن كوني لا أقدر على النهوض والسير دون مساعدة.. فإن أقل إزعاج..أبسط ضرب أو ضغط كان يسبب لي دواراً حاداً أو غيبوبة ولما أجبر على الحركة يزيغ بصري ويختل توازني.

وعرفت فيما بعد أنهم جعلوا مني أنموذجا لإحباط بعض المعتقلين لزرع الرعب في قلوبهم. قال أحد المعتقلين فيما بعد:

- عندما نظرت إليك من نافذة الباب.. اعترفت بكل شيء فوراً.

وكانت أشد جلسة تحقيق مع المقدم محمد شوشة.

جاءني السجان وقال لي.. هيا.. وساعدني مع زميل له على النهوض دون عصابة على العينين ودون قيود، أخذاني إلى غرفة التحقيق رجل أنيق يناهز الأربعين يجلس خلف مكتب حديدي كان بالانتظار قال للرجلين:

- أجلساه هنا.. أحضر لنا شاياً

وتوجه إلي متحدثاً بهدوء ووضوح.. فقال:

- لقد نصحتك منذ أيام أن توفر على نفسك هذا الوضع لكنك.. لم ترحم روحك.. وهذه هي النتيجة والقادم أشد. لماذا تضحي بنفسك والجميع قد فازوا بأنفسهم وقالوا ما عندهم؟ كل شيء هنا (وأشار إلى ملف أمامه) لدي هنا ما يكفي لترى أن لا جدوى من العناد.

وأخذ يعرض على معلومات ووقائع تتعلق بهذا العمل أو ذاك.. بهذه المسألة أو تلك كانت أسراراً لا يعرفها سوى الشيخ والمقربين جداً مني. ولم ينس أن يعرض أيضا محتويا المغلف الذي وجدوه معي وكذلك رقم الهاتف. كل ذلك كان يدل على أن تداعيات خطيرة حدثت أو قد تحدث. كل معلومة كان يتلوها الضابط "المعلم" كانت مثل طلق ناري يخترق قلبي لم أعد أسمع جيداً ما يقول، صرخ بي قائلا:

- ألا تسمعني.. أين شردت بعقلك.. اشرب الشاي.

وفجأة دخل عدة رجال وقالوا له:

- سيدي.. يجب أن نأخذ هذه الأشياء الآن.

نظرت باتجاههم كانوا يهمون بحمل مجموعة من صناديق كرتون مكدسة في إحدى زوايا الغرفة. لاحظ الضابط اهتمامي بذلك ضحك وقال:

- لايهم، سأقول لك شيئاً آخر إن هذه الصناديق تحتوي على أجهزتكم التي عثرنا عليها مع صاحبك.

قلت له:

- وتضربونني لتعرفوا.. أين هي؟

قال:

- ولكنك كنت تبحث عن جهاز مستقل.. أليس كذلك؟

بعد أن خرج الرجال بما جاءوا عاد إلى حديثه معي:

ألا يكفي كل هذا؟ كبّر عقلك وتعاون معنا.. نتعاون من أجل حماية الوطن.. نحن لا نريد أن نؤذي أحداً، لكن حين يهدد خطر ما أمن البلد نحن نضرب بقوة. إنه قانون الفعل ورد الفعل ولو لم تتعاونوا مع "الإخوان المسلمين" لما اقتربنا منكم.

قاطعته بطريقة لم تعجبه لكنه تركني أقول ما أريد:

- أولاً: نحن لم نتعاون مع "الإخوان المسلمين" وهذا الاتهام هو ذريعة للتخلص من حزبنا ومن برنامجه الديمقراطي، حسب معادلتكم السياسية الراهنة "من ليس معنا فهو ضدنا"، ومن المضحك أن الإخوان "المسلمين" يهاجموننا أيضاً لعدائهم للديمقراطية.. وفقاً لنفس المعادلة السياسية، بل ويرفضون أي تحرك لنا ولغيرنا من القوى الديمقراطية الأخرى. وقد هددونا بالتصفية علناً في جريدتهم "النذير" وفي منابرهم الأخرى.

ثانياً: نحن نعرف كيف نعمل ونشارك العمل من أجل حماية الوطن وقد فعلنا ذلك طيلة تاريخنا.

تحملني على مضض ظاهر وقال:

- إنني أجد الحوار معك ممتعاً وخاصة في السياسة، لكن ليس الآن.. في وقت آخر.. فكر بالذي عرضته عليك، ووفر على نفسك وعلينا المشقة لأنك في النهاية ستقول ما نريد.

وقال:

- هذه الغرفة شهدت رجالاً كالجمال.. ولكنهم بعد أن تكسرت عظامهم أصبحوا أكثر طواعية من الخراف.. ليس عندنا مستحيل، ولتعلم يمكنني بكل بساطة أن أطلب من أحد الجنود إطلاق النار عليك فيفعل.. يمكنني أن أجلب إلى هنا عضو قيادة في حزبنا وأجرجره حتى يفعل ما أريد.

كانت معلوماته مدهشة ونبرته حازمة.. كانت بالمطرقة تدق رأسي.. وتستفز سؤالاً حاداً في داخلي.. ماذا أفعل.. كيف أتدبر وقف الانهيار وإنقاذ ما يمكن إنقاذه..؟ وكيف أستطيع أن أبلغ الموت بأسرع ما يمكن في ذات الوقت؟ ولفني الدوار والإحباط.. واختل توازني.. وسقطت أرضاً.

سمعته يقول:

- خذوه سنراه فيما بعد.

** ** **

بعد يومين من تلك المقابلة. نقلوني معصوب العينين مقيد اليدين إلى غرفة التحقيق ودون أي سؤال أو كلام طرحوني أرضاً وانهالوا على ضرباً بكل ما بحوزتهم من أدوات الضرب من عصي وكابلات وأرجل وأيدي.. وازداد جنونهم لما بصقت بغضب.

سألني أحدهم:

- على ماذا تبصق؟

قلت:

- أبصق على الزمن الذي سمح لأمثالكم بمعاملة مناضل له ثلاثين سنة في الحركة الوطنية مثل هذه المعاملة.

واستعر الجحيم أكثر فأكثر كنت أتدحرج بين أرجلهم وأنا أتلقى الضربات وكانت ضربة شديدة على رأسي.. ثم تلتها ضربات على كليتي.. شعرت بعدها أني أغوص في مادة لزجة لا أبعاد لها.. وراح خدر بارد ينتشر في جسمي كله.

وابتسمت لأنني أدركت أني أموت.. لقد فزت عليهم.. آخر ما سمعته منهم:

- أغرقوه بالماء.

كيف ومتي أعادوني إلى الحياة لا أعرف ولما صحوت شعر بالانكسار، كان طبيب عسكري يعالجني ورجال أمن يتسارعون في تلبية أوامره لمساعدتي. في اليوم التالي أخرجوني من الزنزانة إلى صالة تتوسط قسم التحقيق أجلسوني على كرسي ووضعوا قدمي على كرسي أمامه وقالوا لي:

- لا تقلق لقد دخلت مرحلة العلاج.

ثم جاء ممرض وأخذ ينظف جراحي. احتار ماذا يفعل.. سألني:

- منذ متى هذا الورم في رجليك؟

قلت له.. لا أعرف إن جسمي كله يؤلمني.

- أنا أقصد هذا الورم.. ثم انظر ألا يؤلمك هذا الإصبع.. إنه مكسور.. وهنا في طرف مشط القدم يوجد كسر أيضاً.. ألا يؤلمك ذلك؟

وفجأة وجدت الشيخ يسير أمامي باتجاه الزنازين. لم يكن ينظر نحوي. ربما لم يكن يرغب أن أعرف أنه شاهدني، كان يسير شارداً ينظر إلى أعلى. أي نوع من المشاعر انتابني تجاهه؟.. لا أعرف. هل هو الغضب منه.. أم الشفقة عليه؟ لا أعرف.. لا أعرف. تمنيت لو أن أحدهم قتلني لو أستطيع ضرب رأسي بالجدار حتى ينفجر. وقعت من فوق الكرسي حاولت أن أزحف بعيداً عن العلاج والمكان.. وصرخت صرخات حيوانية مبهمة.. وأحسست أن أطرافي قد شلت، بل واتجهت عكس أوضاعها الطبيعية وأن فمي قد أعوج، ولساني قد تخشب في فمي وشرع جسمي كله يرتعش.. كل شيء حولي أصبح لا شيء، الأشياء والجدران تغيب ثم تعود بصور وأشكال مموهة.. ثم غاب كل شيء.

صحوت فوجدت نفسي فوق سرير في غرفة التحقيق، وطبيب عسكري يفحصني ثم اتجه الطبيب نحو الضابط "المعلم" الذي كان يقف جانباً وهمس بأذنه كلمات جعلته ينزعج وينظر إلي مستاء.

صباح اليوم التالي عادت تلك الحالة وحضر طبيب آخر وبعد أن فحصني جيدا قال لضابط من الفرع:

- يجب نقله إلى المستشفى فوراً. إياكم والاقتراب منه أو لمسه إنه مصاب بيرقان كبدي معد وقاتل.

كانت تحذيرات الطبيب مفرحة لي ليس لأنه حذرهم من مجرد لمسي بل إنني نجحت في الاقتراب من الموت.

بعد بضع ساعات عادت النوبة المميتة تفتك بي مرة أخرى وتصايحوا:

- جهزوا السيارة.. لقد أمر المعلم بنقله إلى المستشفى.

وضعوني فوق سرير في إحدى زوايا الغرفة. وقرب السرير وعلى باب الغرفة انتشر المسلحون هرعت بضع ممرضات إلى الغرفة وبدأن العمل، بدأن تحضيري للعلاج. وضعت إحداهن غطاء فوقي فصرخت من الألم كان الغطاء كالنار.. كالجبل خاصة فوق رجلي فرفعت الممرضة الغطاء عني واعتذرت. بادئ الأمر جاء طبيب واحد وبعد برهة صاروا مجموعة أطباء كل حسب اختصاصه راح يفحصني.. ثم ينظر بوجه زملائه مستغرباً.

كان رئيس المفرزة يدس رأسه بين الأطباء ليراقب، ليسمع كل شيء. تحمله الأطباء بعض الوقت ثم تجرأ أحدهم وطلب منه الابتعاد عن السرير ليتمكنوا من أداء علمهم.

كنت أجيب عن سؤال، فيما يتعلق بحالتي الصحية وأمتنع عن الإجابة عن آخر.. وأغمض عيني وأصمت، ثم أفتحهما لأجد الطبيب ينتظر. كنت أقاوم حب البقاء الذي أثاره الأطباء فيّ، وأخشى أن يفرض منطق العلاج نفسه ويسقط رهاني على الموت.

قال كبير الأطباء:

- سنبذل كل جهودنا من أجلك.. وبعد أن تتحسن قليلا سيقوم طبيب جراح بإجراء العمليات الضرورية لك.

وبدأ العلاج.. أصبحت ورشة عمل طبية لا تهدأ طيلة الليل والنهار. كانت مجموعة الأطباء والممرضات التي تولت علاجي تبذل أقصى جهودها لتخفيف آلامي وإنقاذي. وبدا لي أنهم يقومون بذلك ليس تنفيذا لأمر من جهاز الأمن فحسب، بل تعبيراً عن إنسانية صادقة.. عن تعاطف كبير مع ضحية تعذيب.

لكنني رغم صدق العلاج وكثافته كنت أمر بفترات عصيبة إذ أتعرق بغزارة ويختل توازني وأكاد أغيب عن الوعي عدة أيام، رغم المهدئات لم أستطع النوم، وإذا غفوت قليلاً أصحو من حلم مرعب.

وعرفت فيما بعد أنني لم أكن مصاباً باليرقان الكبدي بل بانهيار صحي كامل.

كان تقدم العلاج بطيئاً جداً وغير مستقر. وكان القلق لديهم في الفرع واضحاً من كثرة الزيارات التي كان يقوم بها مسؤولون من الفرع للتأكد من وضعي الصحي. كانوا يريدون إسعافي بأسرع ما يمكن ليتابعوا التحقيق معي. لما وجدوا أن علاجي قد يطول لجأوا إلى التحقيق معي في المستشفى بطرق غير مباشرة كانوا يختارون الوقت مساء بعد أن يهدأ كل شيء في المستشفى.

يبدأ أحدهم بسؤال على سبيل تسليتي ويشجعني بتركي أسترسل كما أريد بالرد عليه. وبهذا يقدرون طاقتي على التحمل. ويقدرون حالتي المعنوية وربما زلة لسان تكشف لهم أمراً دون عناء. أما من جهتي فقد اعتبرتها فرصة لأدافع فيها عن نفسي وعن قناعاتي.

سألني أحدهم ذات ليلة:

- لو تم الإفراج عنك قريباً، فهل تعود إلى خيارك السابق الذي أوصلك إلى السجن.. تعود إلى نفس الطريق الذي سلكته في حياتك؟

قلت:

- لو خيرت مائة مرة لاخترت نفس الطريق. من الممكن أن أغير الأسلوب بعد الخبرة المكتسبة.. أما القضية فلا تنازل عنها.

وفي ليلة لاحقة بادرني آخر بسؤال وخيرني بحرية بين الإجابة والرفض فاخترت الجواب:

- ماذا تبحثون عادة في اجتماعاتكم؟

قلت:

- نحن أولاً نهتم بالقضايا الوطنية والقومية الكبرى. نحن نعتبر مثلاً بناء الدولة الديمقراطية القوية رافعة لبناء دولة الأمة التي نعتبرها الشرط الذي يوفر وحده القدرة على تحرير أراضينا المحتلة.. ونعتبر أن لا نهوض ولا حقوق ولا مستقبل كريماً للعرب، إلا بوحدتهم في دولتهم الديمقراطية الكبرى.. أما التقوقع القطري وتكريس التجزئة، والتفرد بالسلطة وقمع الرأي الآخر فهو وباء يفتك بالحاكم والمحكوم، ويترك المجال مفتوحاً لأعداء البلاد لمزيد من الطمع فيها.. لمزيد من الاستلاب لحقوقنا. كما نهتم بالنضال المطلبي للعمال والفلاحين وكل أبناء شعبنا. هذه هي محاور أحاديثنا.. وحلمنا الكبير هو الاشتراكية.

ثم سأل بنفس الطريقة:

- أتذكر ماذا كنتم تتحدثون آخر مرة قبل اعتقالك؟

قلت:

- طبعاً هو حديث كل الناس، هو ضرورة وقف العنف والعنف المضاد.. وإشاعة الديمقراطية كحل وحيد لأزمة البلاد.

لم تكُ تلك الأحاديث سهلة بالنسبة لي، بل مرهقة جداً. كنت أقفز من فكرة إلى أخرى دون أي ارتباط بينهما، وأقفز من زمن إلى آخر، لكنني قلت ما أريد.

بعد أسبوع تقريباً، جاء الطبيب الجراح مع مساعديه صباحاً وقال لي:

- سنجرى اليوم عملية لإحدى رجليك، وحين تُشفى نجري العملية للثانية، وسأعمل على نقلك إلى مستشفى آخر يملك الإمكانيات للعمل الجراحي.

صب شيئاً بادراً فوق رجلي وباشر العملية لم أشعر في البدء بأي ألم لكنه ما أن بدأ يعمق.. ويعمق في الجرح، حتى فقد التخدير الموضعي تأثيره.. ووسط آلام لا تصدق تابع العملية كنت أقبض على حديد السرير وأتلوى وأصرخ من الألم.. بينما هو يهدئني قائلاً:

- انتهينا.. انتهينا.

وبعد انتهاء العملية قال:

- ربما اليوم أو غداً سوف يتم نقلك إلى مستشفى آخر.

وقبل أن يجمع الطبيب معداته، جاءت مفرزة من الفرع ومعها أمر بوقف العلاج فوراً. دُهش الأطباء والممرضات. احتجوا قالوا هذا مستحيل، وشرعت أكثر من ممرضة تبكي. إلا أن رئيس المفرزة رفض كل الاعتراضات. ونزع إبرة السيروم من يدي، وقام رجال آخرون بإنزالي من السرير ونقلوني إلى السيارة.

أعادوني إلى الزنزانة.. أعادوني إلى الجحيم مرة أخرى. صحيح أنهم لم يعودوا إلى تعذيبي كالسابق.. بعض الضربات فقط بين وقت وآخر، إلا أن تعذيبي الجديد لم يكن أقل إيلاماً. كانوا يفسحون المجال عن عمد بشكل أو بآخر لأعرف أنهم قد تمكنوا من اعتقال هذا الصديق أو ذاك.. لأسمع جلسات التعذيب وأسمع الصراخ والبكاء والاستغاثات والاسترحام.. والإحباطات. كانت كل ضربة سوط أو عصا تقع على أجساد المعتقلين المعذبين كأنها تقع على جسدي. أهتز وأرتعش مع صرخات المعذبين واستغاثاتهم. كلما رن جرس باب قسم التحقيق أنتفض هلعاً لأن ذلك يعني معتقلين جدد أو قدوم ضابط ليعذب إنساناً. وكلما رن جرس هاتف غرفة التعذيب يلف دوار حاد رأسي لأن ذلك يعني أن أحد الضباط في الطوابق العليا من المبني يطلب أحد المعتقلين لتحطيم ما تبقى فيه من كرامة وإرادة.

لقد كان انتزاع الاعتراف من المعذبين برفاقهم وأصدقائهم، مثل انتزاع العين أو الكبد.. وبعدها يتحول المرء إلى إنسان آخر.. إنسان مكسور مدى العمر كله... إنسان فقد بداخله الإحساس بالكرامة قبل أن يفقدها بين الناس.. إنه جريح لا يلتئم له جرح أبداً.. ذليل تقتله العزلة.. متوتر دائماً، ميت قبل أن يموت.

لا شك أن الذين امتهنوا تعذيب الناس وتحطيم كراماتهم قد فقدوا أدميتهم وتحولوا إلى نوع آخر من الكائنات الحية، كائنات لم تعد تربطهم بالآدمية سوى السمات الشكلية. إن السادية والهستيريا، لا تعدوا أن تكون أمراضاً يمكن أن تفهم أو تشفى، لكن ما يفعله هؤلاء بالناس بعيد كل البعد عن مركب نقص في الذات. إنه خيار الشر والتباهي بالحيوانية المتدنية. كانوا يتصايحون طرباً مع صرخات المعذبين ويتلذذون عندما يمعنون بالأذى بهم.. إنهم يتحدثون في جلساتهم الخاصة على جدار الزنزانة "ذكرى فراشة 1983".

قلت في آخر جلسة تحقيق:

- كل ما لديكم من اعترفات تتعلق بي صحيحة، أنا مسؤول عن منظمة هذه المنطقة.. وأتحمل حتى هذه اللحظة.. كل المسؤولية عن عملها.

كان علي أن أواجههم مكشوف الظهر والأجنحة.. أن أستمر بالحياة لأنقذ ما يمكن إنقاذه.. وأن أموت بأسرع ما يمكن لأنقذ كرامتي.

وقلت قبل ثلاث سنوات تقريباً، في آخر لقاء لنا قبيل الحملة الشرسة ضدنا:

- إن النظام وأعوانه يركزون في الدعاية ضدنا وضد حلفائنا على أننا متواطئون بالصمت مع العنف الذي يهدد أسس وحدة البلاد. ومن حق التاريخ ومن حق شعبنا علينا، قبل أي اعتبار آخر أن ندين هذا العنف.. كل العنف من أي جهة جاء. وندين قتل الأبرياء وتهديد وحدة الوطن. ونسقط التزوير ضدنا.. ونركز على الوحدة الوطنية والتغيير الديمقراطي. وإن تكن في نية النظام ضربنا، فلتكن المعركة على أرضية مبادئنا وخياراتنا.

كم هي مهزلة أن يكون أول الهاربين وأول الخائنين، من كان يفلسف التكتيك وينظر الاستراتيجيا، ويدافع بحماس عن "المواقف التاريخية".

بعد شهر تقريبا من الاعتقال، جاء السجانون وفتحوا الأبواب وقالوا لنا:

- جهزوا أنفسكم.. سوف تذهبون إلى السجن.

كيف يتم هذا التجهيز؟ لم أعرف. نظرت حولي إلى جدران الزنزانة.. إلى العبارات التي خطتها أيادي الذين سجنوا فيها قبلي، استعدت الأيام التي كابدت فيها عظيم آلامي، وتساءلت.. كم إنساناً مر من هنا قبلي.. وكم إنساناً سيمر بعدي؟ أية آهات نابعة من آلام الجسد والروح ستسجلها هذه الجدران.. ومتى سينتهي مسلسل القمع في حياتنا؟

وتوقفت عن تجهيز نفسي لمغادرة الزنزانة لما سمعت صوتاً يناديني هامساً.

التفت نحو الباب، فوجدت شاباً في العشرينات ينظر إليّ. ثم تطلع يساراً وقال:

- عمي أرجو أن تسامحني لأنني شاركت في تعذيبك. أنا عبد مأمور.. لم أكن أتوقع أن تصل إلى هذا المستوى من الأذى.. سامحني.

هززت رأسي تعبيراً عن تفهمي لظروفه..

تركني مسرعاً ثم عاد وقال لي.. هيا. وأمسكني مع زميل له من ساعدي ونقلوني إلى السيارة.

** ** **

وفي الطريق إلى السجن، لم يخطر ببالي قط، السؤال: متي ستكون رحلة العودة إلى المدينة.. إلى البيت؟ بل كيف ستكون أحوالنا في المرحلة القادمة من الاعتقال. إذ لم يكن لدي وهم حول طبيعة المواجهة مع النظام، وحول الزمن الذي سيستغرقه الوصول إلى الحرية. كنت على يقين، أننا قد نقلنا من زنازين الفرع الصغيرة إلى زنازين أكبر.. إلى نفق عذاب تكدس فيه الأحياء برسم التحقيق والموت في أية لحظة.

ذات يوم تقدم شاب للتطوع في عداد الشرطة. أنجز كل الوثائق المطلوبة.. نجح في الفحص الطبي واللياقة البدنية. واعتبر نفسه ناجحاً. لما سأل عن موعد التحاقه بالوظيفة، قالوا له.. ما زال أمامك امتحان المقابلة.

في الموعد المحدد حضر الشاب إلى مكان المقابلة.

كان هناك عدد من الضباط. وقبل أن يطرح عليه أي سؤال، طلب كبير الضباط من الحاجب أن يحضر شخصاً. وظل هو ينتظر فتح الباب وأدخل الشخص.. لم ير الشاب الشخص، ولم يهتم كثيراً بذلك.

سأل كبير الضباط الشاب:

- هل تريد حقاً أن تكون شرطياً؟

- نعم سيدي.

- إذن استدر وابصق بوجه من يقف خلفك!!

استدار الشاب إلى الخلف فوجد والده.. يقف وحيداً خلفه.

كانت لحظة ترقب من الضابط.. ونظرة تعجب بائسة من الأب المسكين.. وكانت بصقة من فم الشاب بوجه أبيه. حينها قال الضابط جازماً:

- أحسنت.. تستحق الآن أن تكون شرطياً.

"جناح السياسية" هكذا كان يسمى الجناح الأول في السجن، في التعامل اليومي، بين إدارة السجن والأجهزة الأمنية التي تتولى إدارته، وكذلك بين السجناء القضائيين في الأجنحة الأخرى. أما في التعامل الرسمي، لما تقوم وفود رسمية أو منظمات إنسانية بزيارة السجن، فكان يسمى "المستودع".

وهذا الجناح المستودع مؤلف من عشرة مهاجع، تتجاور على خط مستقيم مفتوحة الجهة بقضبان حديدية على رواق تعلو جداره الذي يطل على الخارج. نوافذ صغيرة تقدم للمهاجع المقابلة لها النور والهواء. خمسة مهاجع تحت إدارة الأمن العسكري، وأربعة تحت إدارة الأمن السياسي. أما العاشر فهو في أول الجناح حيث تقوم إدارة الجناح، ويسمى مهجع المفرزة، أو "المفرزة". مساحة كل مهجع مع المطبخ الذي يشتمل على حمام صغير ومرحاض أقل من أربعين متراً مربعاً، وهو مخصص حسب خبراء السجون لثمانية أشخاص. لكن أجهزة الأمن تكدس فيه بصورة شبه دائمة حوالي عشرين شخصاً.. وأحياناً يصل العدد إلى ثلاثين مما يخلق مشكلة دائمة في استخدام المرحاض خاصة، والمطبخ عامة، كما يخلق أزمة في مساحة الحيز المخصص للسجين الواحد.. للنوم والمعيشة. ففي أحسن الأحوال فإن السجين يحصل تحت إدارة فروع الأمن المختلفة على أقل من متر ونصف متر مربع. أما في ظروف الازدحام، وما أكثرها فتقل عن ذلك.

ولجناح السياسية "المستودع" استقلالية تامة عن إدارة السجن. إذ لا يجرؤ مدير السجن، وهو برتبة عميد، أن يدخل الجناح إلا لسبب إداري هام جداً، وبعد موافقة رئيس إحدى المفرزتين اللذين لا تتعدى رتبة أي منهما رتبة مساعد ضابط.

ولقد كان لوجود مفرزة للأمن العسكري في الجناح، منعكس سلبي على معتقلي السياسية "الأمن السياسي". فالأجواء دائماً متوترة.. وأحياناً مرعبة.. بسبب الممارسات القمعية الجماعية والفردية، شبه اليومية، التي تقوم بها المفرزة العسكرية إزاء المعتقلين لديها، وبسبب الممارسات المشتركة التي تقوم بها المفرزتان معاً، لما يتطلب الأمر مواجهة هامة مع المعتقلين، حيث تشكلان معاً في لحظة، مفرزة واحدة.

لما وصلنا المستودع استلمنا سجانون آخرون من الأمن السياسي. ورغم أننا قادمون من مقر الفرع مرهقين ومشبعين تعذيباً وإهانات، فقد انصبت علينا من السجانين الجدد، سلسلة من الشتائم البذيئة والتهديدات. أوقفونا ووجهونا إلى الحائط وفتشونا تفتيشا دقيقاً، ووزعونا على عدد من المهاجع.

بفارغ الصبر انتظر الرفاق المعتقلون القدامى ذهاب السجانين إلى المفرزة. واحتضنتنا الصدور والقلوب.. وانهال سيل من الأسئلة، عن أحوالنا.. آلامنا.. عن أوضاع الرفاق خارج السجن. لم يدم ذلك سوى بضع دقائق، حتى عاد إلينا السجانون يصرخون ويشتمون. وأعادوا توزيعنا مرة أخرى. وزيادة في الحرص. نقلوني مع بعض المعتقلين الجدد إلى مهجع تحت إدارة الأمن العسكري.

وبعد أن قدموا لكل منا، فراشاً صغيراً من القطن وأغطية من البطانيات المهترئة، حظروا علينا التكلم مع بعضنا أو مع المعتقلين لدى الأمن العسكري في المهجع ذاته.. وساد الصمت والترقب في الجناح كله.

ذهب سجان السياسية وبقي سجان العسكرية- هكذا كان يسمى كل سجان حسب تبعيته للأمن السياسي أو الأمن العسكري - وصرخ بنا آمراً أن نقف.. وقفنا.. قال:

- من حظكم فاتتكم ضيافة الزنازين قبل أن تأتوا إلى هنا، لأنها مشغولة بالمجرمين أمثالكم.. لكن لن تفوتكم حفلة الاستقبال.

تظاهر أنه يخطو نحو المفرزة.. ثم ارتد مسرعاً وقال ساخراً:

- لم أشرح لكم برنامج الحفلة. إنه على قد الحال.. دولاب وكم كابل.. يجعلونكم تستجيرون بالكلاب والشراميط.

وفكرنا حائرين.. قلقين.. هل يفعلها هذا الموتور.. ومضى النهار كله ولا أعرف كيف نمنا تلك الليلة. واستيقظنا صباح اليوم التالي مضطربين على صوت الحركة الصباحية اليومية في الجناح. دخل السجانون وأجروا عملية التفقد، ثم فتحو الأبواب ليخرج بعض المعتقلين ومعهم أدوات التنظيف، وراح كل مهجع يدلق الماء من خلال القضبان مع قليل من الصابون. وهكذا بدأت عملية تنظيف الجناح اليومية. وكان هذا العمل يسمونه السخرة. ولما وصلت السخرة أمام مهجعنا، سمعت صوت أحد رفاقنا يقول:

- لا تقلقوا لن يفعلوا بكم شيئاً.

وقد عرفت فيما بعد أن السجان الذي توعدنا من قرية رفيقنا، وهو يحسب حساباً لهذه المعرفة. وهذه الحفلة التي هددنا بها لا يقدر على تنفيذها، لأننا أمانة لديه على ذمة الأمن السياسي. ومفرزة الأمن السياسي تقيم علاقات مادية مع رفاقنا، وتحسب حساب الربح والخسارة عند كل إجراء تقدم عليه، خاصة إذا كانت تستطيع أن تتصرف بالموضوع بمعزل عن الفرع.

بعد توزيع طعام الفطور جاء السجان ومعه الحلاق وقال للحلاق:

- اجرد لهم شعورهم على الصفر.

وراح الحلاق يجز شعورنا ونحن واقفون الواحد تلو الآخر. كان يضغط على الرأس لينحني الجسم إلى الأسفل بيد، وباليد الأخرى يستخدم أداة الحلاقة. وكان يمعن بضغط الرأس ليحني الجسم أكثر مما يجب ليظهر أمام السجان أنه يزعجنا حقاً، ليس بجز شعورنا فحسب، بل وبإجبارنا على الانحناء المذل أيضاً. لم يكن هناك مرآة لنرى أنفسنا كيف صرنا بعد الحلاقة، لكن من المؤكد أن شكلنا قد أثار شفقة من رآنا من الأصدقاء.

جمعنا شعورنا ورميناها في صندوق الزبالة، وجلسنا ننتظر التالي. بعد قليل توافد السجانون إلى الجناح، وجاء أحدهم وقال لنا:

- وجهكم إلى الجدار.

لم نعرف لماذا. استدرنا نحو الجدار فإذ بالمعتقلين القدامى يخرجون من مهاجعهم إلى الجناح "الرواق" ويصطفون كالجنود، ثم ينطلقون إلى خارج الجناح وسط صياح السجانين.. لا تنظروا إليهم. وكان هذا الأمر موجهاً إلينا وإليهم معاً.

بقينا نحن جالسين كل على فراشه، ورحت أتطلع حولي.. باتجاه زملائنا في المهجع من معتقلي الأمن العسكري. تأملتهم واحداً.. واحداً، وكانوا هم يفعلون الشيء ذاته تجاهنا. لفت نظري واحد منهم كان ينظر إليّ ويبتسم. استغربت ذلك، أمعنت النظر فيه.. لم أعرفه.. بعد وقت قصير، وبعد أن تأكد هو من عدم وجود السجانين، نهض وتظاهر أنه يتمشى في المهجع. وتكلم معي دون أن يتوقف.. قال:

- لقد أخذوا رفاقكم إلى ساحة السجن للتنفس.

ثم تابع:

- ألم تعرفني.. أنا زميلك خمس سنوات في الابتدائي.

واستطرد قائلاً:

- لا تتكلم أنت شيئا. أخاف عليك منهم.

وأخرج زفرة حارة من صدره قال:

- أكثر من ثلاثين سنة لم نتقابل قط. والآن نتقابل هنا. ولماذا هنا؟

وتابع:

- نحن لسنا سياسيون. نحن تجار. إنهم يعاملوننا معاملة خاصة لأننا نصرف عليهم.

وقبل أن يكمل ما يريد قوله، حضر أمام المهجع سجان العسكرية.. ناداه إلى مواجهته قرب القضبان وقال له:

- ماذا تفعل يا (..) - كلمة بذيئة - ألم أقل لكم ممنوع التحدث إليهم؟

رد السجين:

- سيدي لم أتكلم مع أحد. لقد شعرت بألم شديد فمشيت لعلي أستريح.

تظاهر السجان بالتشدد وقال له:

- عد إلى مكانك.. إذا وجدتك مرة أخرى تتحدث معهم سأحطم أضلاعك.

ثم ناداني لأقترب منه.. تحاملت ونهضت، ثم سرت.. ووقفت بصعوبة بالغة أمامه. قال لي:

- هل تتألم كثيراً؟

- نعم.

قال:

- هل تعرف (..) وكان يقصد شقيق رفيقنا الذي كلمني أثناء السخرة.

-...

- إبتسم بخبث وقال:

- لا بأس.. ليست مشكلة. اذهب إلى مكانك واسترح. سوف يأخذك سجان السياسية إلى المستوصف ليراك الطبيب.

رجعت إلى مكاني. وتنفسنا جميعاً الصعداء.

وبعد فترة التنفس جاء سجان السياسية وأخذني إلى مستوصف السجن. لا أعرف كيف استطعت المشي على قدمي دون مساعدة أحد. كانت كل خطوة مثل ضربة عصا فوق الجراح والالتهابات. ولما وصلنا المستوصف تهاويت على الأرض والعرق يتصبب من جسمي كله. ضمّد الطبيب قدمي ولف ساقي بالقطن والشاش وأغرقهما بالمطهر وأعطاني بعض الأدوية.

وقد بدا أن اهتمام الطبيب بي قد أزعج السجان.. فقال للطبيب:

- أشوفك تهتم به جيداً.. أمعرفة ولا قرابة؟

رد الطبيب بلا مبالاة:

- لا.. طبابة.. هذا واجبنا أليس كذلك؟ يجب أن أعالج حالته يومياً. ونقر بأصابعه على كتفي بلطف وابتسم لي. كانت عيناه تسألان ألم تعرفني بعد؟ ثم تحرك، حيث جعل السجان خلفه، ليعطيني فرصة للإجابة، فأغمضت عيني تأكيداً على المعرفة.. وتعبيراً عن الإعجاب بشجاعته. وارتحت كثيراً لوجوده طبيباً للسجن قربي.

تناول السجان الأدوية وقال لي:

- نحن سنعطيك الدواء في الوقت المحدد. أما الآن فهيا إلى مهجعك.

لا شك كما يقال، إن الملائكة قد حملتني في طريق العودة إلى المهجع. ولم أنتبه إلا متأخراً، إلى أن الشرطة والسجناء كانوا يتوقفون ليشاهدونني، وأنا أسير على كعبي قدمي، وأترنح يميناً وشمالاً، فارداً ذراعي كجناحين تحسباً من السقوط.

صرت أعرف أن المهجع المجاور لنا مخصص للنساء، بعضهن رهينات اعتُقلن بدلاً عن الأب أو الزوج أو الأخ، وبعضهن لعلاقتهن بـ "الإخوان المسلمين". كما كان يوجد أيضاً طفلة صغيرة ولدت في السجن، لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات..اسمها آمنة. لكن المعتقلين ينادونها تحبباً "أمونة" مصابة بالكساح والحول في عينيها لحرمانها من الشمس.. كانت هي الوحيدة التي تتمتع بحرية التنقل في الجناح من بين معتقلي العسكرية.. وكانت تحظى دائما بالعطف والترحيب.

كما صرت أعرف أن المهاجع الأخرى لدى الأمن العسكري تحتوي معتقلين على ذمة الإخوان المسلمين، أو هم رهائن عن ذويهم، بينهم صبي صغير عمره اثنتا عشرة سنة تقريباً يقوم بخدمة المفرزة. وبينهم أيضاً في مهجع خاص عائلة القائد العسكري لـ "الطليعة المقاتلة" (إبراهيم اليوسف) الذي قاد ونفذ مجزرة مدرسة المدفعية بحلب، التي فجرت الصراع الدموي على مدى الوطن كله. ورغم أن هذا قد قُتل في إحدى العمليات مع أجهزة الأمن. إلا أن النظام ظل محتفظاً بالرهائن من أفراد عائلته، بل إن بعضهم يتحرك خارج المهجع وأحياناً يسهر بعضهم مع السجان المناوب لمشاهدة التلفزيون.

** ** **

وعرفت مواعيد توزيع الطعام، وأوقات النوم ليلاً والاستيقاظ صباحاً. كان ممنوعا علينا النوم في النهار أو السهر في الليل بعد موعد النوم.. وإلا فعقوبة الجلد جاهزة. وكم تذرع السجانون بالنوم أو بالسهر، ليجلدوا بعض المعتقلين.

كانوا يوزعون علينا الخبز ليوم كامل، والفطور والعشاء معاً. وكان غالباً.. بيضة أو قليلاً من الحمص أو الحلاوة. أما وجبة الغذاء فكانت حسب موسم الخضار. وقد كان القاسم المشترك بين وجبات الطعام هو رائحتها الزنخة والحصى الناعم أو الملح الزائد. أما زملاؤنا في المهجع.. التجار.. فقد كانوا يستطيعون بواسطة "الباحاتي" - سجين قضائي تقدمه إدارة السجن لنقل الطعام إلى الجناح - أن يشتروا طعامهم من دكاكين السجن، أو من خارج السجن بوساطة الشرطة.

كما رحت أمعن النظر في الجناح، لدى عودتي من المستوصف. كان أمام مهاجع السياسية، على امتداد لا بأس به، وسط الرواق، ما يشبه الحوض من الزهور. كما كان يوجد على حواف نوافذ الرواق علب تنك صغيرة مزروعة بالريحان أو ما شابه.

بعد أسبوع تقريباً من وجودنا في السجن، سمعناً صراخاً عالياً قادماً من المفرزة كان أحدهم يقول:

- سيدي.. إنهم يسرقون مخصصاتنا من الطعام والصابون والسكر، كل شيء.. كل شيء سيدي.

وقد علمنا أن شجاراً قد وقع، بين أحد أقرباء إبراهيم اليوسف ورئيس المفرزة العسكرية. وقد خاف الأخير من تطور المشكلة، فاتصل بالمقدم رئيس قسم التحقيق.. وتجرأ قريب اليوسف وانتزع سماعة التليفون وشكا.. تجرأ أن يتكلم مباشرة مع ضابط كبير في الفرع. وتعاون السجانون من المفرزتين على إعادة المتمرد إلى مهجعه، وأعلنوا حالة الاستنفار في مواجهة ما أسموه استعصاء في الجناح.

لم يتجاوز الزمن سوى دقائق على الحادثة، حتى اقتحم الجناح عدد من رجال المخابرات العسكرية، وعلى رأسهم المقدم. ومنذ دخولهم الجناح علا صوت المقدم بالوعيد والتهديد والشتائم. ناشراً التوتر والرعب في الجناح كله. بدأوا بالمهجع الأول حيث عائلة اليوسف، لم يسمحوا لأحد بالشكوى أو بالكلام، وأخرجوا الجميع إلى الرواق، وانهالوا عليهم ضرباً بالكابلات والعصى وأعقاب البنادق. كانت عملية سحق وليست تأديباً.. وأعادوهم إلى مهجعهم.

ورغم أن المهاجع الأخرى لم يكن لها يد بالمشكلة، إلا أنهم انتقلوا إليها أيضاً وفتكوا بالمعتقلين فيها بنفس الطريقة، وتركوهم كتلاً من اللحم والدم والألم. ولما وصل المقدم أمام مهجع النساء توقف. راح الكل ينتظرون الخطوة التالية. رغم أنه لم يخرج النساء من المهجع، ولم يضرب أياً منهن، لكنه فجأة انفجر صارخاً بهن:

- لم هذه الستائر ياشراميط.. أتزين بها المهجع؟ زينوا بها ".." هيا مزقن فوراً هذه الستائر.

وراحت النسوة مرتعشات تسقطن الستائر وتمزقنها. تلك الستائر التي جمعن أقمشتها على مدى سنوات، ليجعلن منها حاجزاً، كي يسترن به أنفسهن من الرجال والسجانين في الجناح.

ولما وجد المقدم أن أمره قد نُفذ، انتقل إلى مهجعنا.

فتح السجان الباب وصرخ بنا:

- قف وجوهكم إلى الجدار.

واندفع المقدم ورجاله إلى داخل المهجع. وقبل أن يبدأ بضربنا قال له السجان:

- سيدي هؤلاء هم التجار. وهم كما تعرف لا علاقة لهم بشيء.

هدأ المقدم واستدار نحونا وسأل السجان:

- ومن هؤلاء؟

- سيدي.. هؤلاء وضعتهم السياسية عندنا أمانة.

زمجر المقدم غاضباً، وخرج دون أن يمس أحداً منا.

وأغلق السجان باب المهجع، وسلم المفتاح إلى سجان السياسية، الذي ابتسم ليطمئننا.

ولما حاول المقدم التقدم إلى المهاجع الأخرى قالوا له:

- سيدي.. هذه المهاجع تابعة لـ "السياسية".

توقف المقدم متوتراً.. ماذا يفعل؟.. يجب أن يترك أثراً مرعباً على كل هؤلاء المعتقلين. لكنه لا يستطيع أن يمد سلطته إلى مجال فرع آخر. وبعد أن تأمل الزهور أمام مهاجع "السياسية".. وجدها.. صرخ بعناصره مشيراً إلى الزهور:

- دمروا كل شيء.. لا تتركوا عرقاً أخضرا لهؤلاء القوادين.

واندفعت العناصر موتورة، تدمر علب الزهور في الجناح.. وبدأت مجزرة من نوع آخر. كانت أيادي العناصر تقبض على جذوع الزهور كما تقبض على الرقاب في حفلة تعذيب، وتقتلعها وتدوسها بالأقدام. كان نوعاً من الافتراس واختلط الريحان بالتراب. وتبعثرت الأشلاء الخضراء على الأرض، تئن، تحتضر وتموت.

صحيح أن المقدم لم يعاقب أياً من معتقلي "السياسية" بالضرب كما فعل مع المعتقلين الآخرين، لكنه أنزل بهم عقاباً مؤلماً وحزيناً.. لقد دمر أمام عيونهم الرمز الذي كان يغذي في نفوسهم الأمل في ظلمة القهر. ولعله كان يعني تماماً ما فعل. فقد شعر بالارتياح لما رأى التراب والأخشاب المكسرة وعلب التنك المشوهة، تحل محل اخضرار الزهور وألوانها.

منع بعد ذلك اقتناء الزهور في الرواق. ولئن ظهرت ريحانة هنا أو هناك فيما بعد، على حواف عدد من النوافذ، فقد بدت مثل أعشاش عصافير مهجورة.

وانتهت عملية التأديب مخلفة وراءها الرعب والآلام.. ولم تمض أيام حتى تم نقل عائلة اليوسف إلى سجن آخر في تدمر. وتم نقل التجار إلى السجن القضائي.. واستلمت "السياسية" المهجع الذي كنت فيه. ثم جاؤوا بعدد من رفاقنا في المهاجع الأخرى ووضعوهم معنا.

وبدأت حياتنا تأخذ مجراها الاعتيادي كبقية المعتقلين.

بعد أن يستقر المعتقل في السجن، ويهدأ من حوله نسبياً صخب التحقيق والتعذيب، يجد نفسه يتساءل.. هل كان موقفه سليماً؟ هل كان صامداً؟ هل استطاع أن يحول دون أن يأتي آخرون إلى هذا الجحيم، أم ضعف واستطاعوا أن ينتزعوا منه شيئاً؟ هل يعرف الناس في الخارج كيف عذب حتى وصل إلى هذه النتيجة الجيدة أو المؤسفة؟ هل عرف ذاك الرفيق أو الصديق أنه قد اعترف عليه؟

وتبدأ مرحلة جديدة من حياة المعتقل، مليئة بالهم والألم، وربما هي الأكثر تعاسة من مراحل اعتقاله. إذ ليس هناك أسوأ من أن يعتقل معاً في سجن واحد.. في مهجع واحد، أولئك الذين اعترفوا على بعضهم البعض، تحت قسوة التعذيب والرعب، وأصبحوا موضوع سخرية السجان، الذي لا يتواني بين وقت وآخر عن تذكيرهم، بالهمس أحياناً.. والجهر أحيانا أخرى، بضعفهم أمام المحققين وتسليم بعضهم بعضاً. ولما يكون السجان ماكراً، يقوم بتلفيق الأكاذيب، ليدفع الكل للشك ببعضهم دون استثناء وليدفعهم إلى مزيد من التعاسة، وإلى ردود فعل بالغة الخطورة، قد تصل إلى حد التصادم فيما بينهم، أو إلى الانهيار التام.

إن نظرات العتاب.. الازدراء.. تجرح.. تذل.. تكوي. فالضحية ثمرة الانكسار، تتحرك.. تحيا في الأصفاد.. أمام الضحية المنكسر المقهور، تذكره كل لحظة بالضعف والإذلال، وتدفعه إلى الانزواء والانكماش والعدمية بكل شيء. فقط استمراره المادي يدل على أنه حي. أما في داخله فهو قد مات.

معظم من يصلون إلى هذه الحالة، يحافظون على تماس إنساني شفاف مع الذين أدت اعترافاتهم إلى اعتقالهم، ويبذلون من أجلهم كل ما يستطيعون لتأمين راحتهم على حساب راحتهم هم.

وهناك حالات نادرة يقوم فيها ذاك المنكسر المقهور، باضطهاد من اعترف عليهم أثناء التعذيب، ويسقط حقده عليهم بدلاً من الجلاد. فيسيطر عليه إحساس مضاعف بقسوة الاعتقال، وينحدر أكثر فيميز نفسه عن رفاقه بكل شيء.. يخطّئ نضاله. يهاجم قيادته.. ثم يسترحم جلاده، ويتعهد أن يسحق نفسه سياسياً وخلقياًَ ليرضيه. ويموت كل ما فيه من خير وقيم.

ورغم كل هذه التفاعلات والتداعيات، يتجاوز كثير من المعتقلين ظروف ونتائج التحقيق، رغبة منهم، في خلق أفضل الأجواء في حياتهم خلف القضبان. ما عدا تلك الاستثناءات النادرة، فإن من ألمّ بهم أثناء التحقيق، الضعف نسبياً، يستردون مع الأيام، بمساعدة نبيلة وإنسانية، ثقتهم بأنفسهم، بل إن قسماً منهم في مناسبات لاحقة.. يصبحون أبطالاً. إن الأشياء التي خبأها كل من هؤلاء ولم يبوحوا بها رغم قسوة التحقيق، قد أبقت في أعماقهم جذوة الكرامة والرجولة مشتعلة، مثل بذرة خير أصيلة. نمت وكبرت مع تحديات السجن وظلم السجان.

الصامدون.. المقتنعون بسلامة مواقفهم، لا يستطيع السجان النيل منهم.. أو التلاعب، كما يشاء بتاريخهم. إنهم يكسرون السجن بداخلهم باستمرار القيم والمبادئ والسياسية في حياتهم خلف القضبان وبتوظيف زمن السجن في تنمية معلوماتهم وثقافتهم. وفي حال عدم توافر الكتب لديهم، يمارسون الثقافة ذهنيا بقراءة الماضي.. تجاربه ونتائجه. ويعدون ذهنياً أيضاً أبحاثاً عن أهم القضايا التي تشغل الوطن. وتراهم يقبضون على نتف الأخبار التي تصلهم صدفة ويجعلون منها محاور للتفكير والمناقشة والاستقراء. ولا يفوتهم إن استطاعوا أن يتعلموا بعضاَ من لغة أجنبية. ويكونون أثناء الأحداث الخطيرة التي تعصف بالسجن أحياناً، مصدر ثقة ومحور التفاف لبقية المعتقلين، ومرجعية لحل الكثير من المشاكل. والأهم من ذلك أنهم يفرضون على السجان احترامهم، والتعامل معهم بإحساس بالدونية أمامهم.

كان وجود معتقلين منتمين إلى أكثر من حزب واحد، وهو النظام المتبع في تشكيل المهاجع، كي يصعب على المعتقلين، حسب المفهوم الأمني، الاتفاق أو التمرد. ما عدا المهجع العاشر في آخر الجناح الذي كان مقتصراً على مجموعة من المعتقلين على ذمة الإخوان المسلمين. أما المهاجع الأخرى فكانت مشكلة من معتقلين من الحزب الشيوعي السوري وحزب العمل الشيوعي بالدرجة الأولى، ومن عدد من المعتقلين الناصريين، أو من المحسوبين على بعض المنظمات الفلسطينية، أو من اللاحزبيين. لكن هذا التعدد في الانتماءات لم يمنع من وجود حياة حميمية مشتركة بينهم، فقد كان الجميع يجلسون معاً حين تناول الطعام، وخاصة وقت الغداء، كما أنهم بكل إخاء يتناوبون الخدمة في المهجع وفي الجناح.. ويتقاسمون الطعام الذي يأتيهم من الأهل مع الزيارات. ولدى كل حزب صندوق تضامن. توضع فيه كل المساعدات الآتية من الأهل، وتصرف أموال هذه الصناديق وفق قواعد متفق عليها.

أما النظام العام في الجناح فهو الاستيقاظ صباحا في الساعة الثامنة حين يأتي السجان المناوب ورئيس المفرزة إلى الجناح لإجراء التفقد. ثم تجري عملية تنظيف الجناح من قبل المناوبين "السخرة" من معتقلي السياسية فقط، فقد كان ممنوعاً على معتقلي "العسكرية" الخروج من مهاجعهم. ثم تجري عملية استلام مؤونة الإفطار والعشاء والخبز ليوم كامل.. وبعدها يقوم المناوبون بإحضار "بوابير" الكاز من المفرزة لمدة نصف ساعة فقط لإعداد الفطور خارج المهاجع ومن ثم يعيدون "البوابير" إلى غرف المفرزة.

بعد الفطور يأتي السجانون ويأخذون المعتقلين إلى ساحة السجن، لمدة ساعة واحدة يومياً، عدا يوم الخميس المخصص للزيارات. وبعد العودة إلى الجناح تغلق الأبواب حتى فترة الغداء، حيث تتكرر عملية إحضار "البوابير" من المفرزة.

ولقد كانت من العقوبات الصارمة التي تفرضها المفرزة على المعتقلين هي.. حرمانهم من استخدام "البوابير" أو مصادرتها تعسفياً.. ومن ثم بيعها لهم ثانية.. إيذاناً بانتهاء العقوبة.

وتمر الساعات المتبقية من النهار وبعض الليل، في قراءة الكتب والتسلية بالأحاديث والأخبار المكررة أو في صنع المسابح وميداليات المفاتيح، من نوى التمر والزيتون. ولما تحين الساعة الحادية عشر ليلاً، يجب على الجميع أن يخلدوا للنوم ومن يضبط ساهراً، تفرض عليه عقوبة الجلد على قدميه العاريتين، حسب التعليمات أو حسب المزاج، وبعدها يؤمر المعتقل المعاقب بالجري في الجناح مدة تكفى لإزعاج الجناح كله طوال الليل. وفي بعض الأحيان تطبق العقوبة للابتزاز، عندما يفكر السجان بالحصول على فوائد جديدة من المعتقلين.

أما بالنسبة للمفرزة العسكرية فقد كان لها نظام خاص يشبه الطقس، تمارسه مع المعتقلين لديها، كل ليلة تقريباً، ويتم توقيت هذا الطقس، حسب رغبة رئيس المفرزة، وعلى الأغلب حوالي الساعة العاشرة ليلاً.

تفتح أبواب المهاجع، عدا مهجع النساء ويؤمر المعتقلون بالخروج.. بالسراويل التحتانية القصيرة فقط. ثم يؤمرون بالجري حفاة على طول الرواق. إلى أن يصلوا إلى درجة شديدة من الإعياء وعند ذلك يأخذ رئيس المفرزة ومن معه من عناصر مفرزته، بجلدهم بكابل غليظ على أجسادهم العارية كلما مروا بالقرب منهم وكل ضربة لا بد أن تترك أثراً أحمر على الجسد العاري. مثل خط من النار ينز دماً وألماً.

ولما كان المعذبون يجرون لاهثين، ذهاباً وإياباً، أمام مهاجعنا، أمام عيوننا لم نكن ندرى كيف تخفق قلوبنا.. كيف تسجل ذاكراتنا.. وكيف تبصر عيوننا.

كانت ألسنة جحيم لئيمة تلف الأجساد العارية وتقتحم أعماق النفوس أذى وألماً بقسوة وبشاعة. كان الأنين من الألم.. من القهر يترافق مع التنفس المرهق ويتوافق مع إيقاع وقع الأقدام العارية الملتهبة على الأرض، ويحدث صوتاً يشبه الهدير المخنوق.. ويشكل مشهداً مأساوياً، ويفرض على ما حوله الخشوع والاندهاش والرعب.. والصمت وبدع زمن من القهر العاري، زمن تحسب فيه الدقائق بالأيام والسنين، يأمر الجلاد بالدخول إلى المهاجع. وتغلق الأبواب.

العـدالة  : العدد الثالث - أبريل 2002 :



#العدالة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- خبر سار.. زيادة رواتب المتقاعدين بالجزائر في شهر مايو 2024 ت ...
- راتبك بزيادة 100,000 دينار..وزارة المالية تعلن بعد التعديل س ...
- لندن تستدعي سفير روسيا احتجاجا على -نشاط خبيث- على أراضيها
- “مصرف الرافدين” 25,000,000 دينار سلفة للموظفين والمتقاعدين ب ...
- رابط التسجيل في دعم العمالة الكويتية 2024 بالرقم الوطني عبر ...
- حقيقة زيادة رواتب المتقاعدين شهر مايو 2024 والرابط المخصصة ...
- “افرح قبضك زاد!!”.. قيمة زيادة رواتب المتقاعدين في العراق 20 ...
- بريطانيا.. وقفة احتجاجية داخل كلية لندن الجامعية لدعم الشعب ...
- أبو الغيط: جريمة الإبادة في غزة ألقت عبئا ثقيلا لا يمكن تحمل ...
- موعد صرف رواتب المتقاعدين وكيفية الاستعلام عن رواتب التقاعد ...


المزيد.....

- تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات / جيلاني الهمامي
- دليل العمل النقابي / مارية شرف
- الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا ... / خميس بن محمد عرفاوي
- مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها / جهاد عقل
- نظرية الطبقة في عصرنا / دلير زنكنة
- ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟ / محمد الحنفي
- نضالات مناجم جبل عوام في أواخر القرن العشرين / عذري مازغ
- نهاية الطبقة العاملة؟ / دلير زنكنة
- الكلمة الافتتاحية للأمين العام للاتحاد الدولي للنقابات جورج ... / جورج مافريكوس


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - العدالة - شهادة : المناضل النقابي بدر الدين شنن في كتابه "الشهادة": شهادة حارة عن سنوات الاعتقال في سجون البعث