أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - مناقشة لفكر ملتبس المادية والمثالية في الماركسية















المزيد.....



مناقشة لفكر ملتبس المادية والمثالية في الماركسية


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 812 - 2004 / 4 / 22 - 08:19
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


                             مقدمة
هذا الكتاب هو مناقشة للدكتور طيب تيزيني في كتابه "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" (والإحالات للطبعة الخامسة الصادرة عن دار دمشق ـ دمشق د.ث. مع الإشارة إلى أنني استندت في المقتطفات من أرسطو وابن رشد إلى المصادر التي أحال عليها). وهذه المناقشة راوحت بين "الاتكاء" على بعض أفكاره أو استشهاداته بهدف تقديم وجهة نظري حول المادية والمثالية، الفكر والواقع، الوعي والفكر (الفصل الأول)، وبين المناقشة المباشرة لمفهومه حول المادية والمثالية، وتطبيقها على تاريخ الفكر النظري (الفلسفة)، ولقد قصدت هنا تناول أرسطو وابن رشد، دون الفلاسفة الآخرين الذين تناولهم، لأنني لا أهدف إلى إعادة دراسة الفلسفة القديمة، بل قصدت توضيح إشكالية فهم د.طيب فيما يتعلق بالمادية والمثالية، رغم أن هذه الإشكالية تحكم رؤيته لمجمل الفلسفة القديمة.
وأشير ابتداءً إلى أن د. طيب يحاول هنا أن يقدم "روية جديدة"، بمعنى أنها تختلف عما هو سائد، وهي تنطلق من "رؤية مادية"، وأعتقد أن هذه مسألة ضرورية لأننا معنيون بتجاوز الرؤية التقليدية، التي تكرر تصورات سلفية عن الفكر العربي في العصر الوسيط. كما أنه من الضروري أن يدرس التاريخ العربي الإسلامي (وبضمنه الفلسفة) من قبل الماركسيين، لأنه تاريخنا. ولا شك في أن محاولات ماركسية بدأت منذ بداية القرن العشرين، وسعت إلى تقويم التاريخ العربي الإسلامي، من زواياه المتعددة (الاقتصادية الاجتماعية والفكرية السياسية)، ولقد تطورت هذه المحاولات واتسعت منذ السبعينات. ولست هنا في مجال تقويمها، رغم أن "تشابهاً طال معظمها، هو نتاج وعي ما "موحد" بالماركسية، وعي للماركسية تعمم عبر "الماركسية السوفياتية". لكنني أسعى، هنا، إلى تناول المحاولات التي طالت الفكر في العصر الوسيط من خلال تناولي لما قدمه د. طيب تيزيني في كتابه الأول حول هذا الموضوع، وأقصد كتاب "مشروع رؤية جديدة"، رغم أن الكتاب يتناول "كتمهيد" التاريخ الاقتصادي الاجتماعي لليونان القديمة، ومن ثم للجزيرة العربية قبل الإسلام، وأعتقد أن هذا التناول يحتاج إلى نقد، لأن فيه ما يستحق ذلك. ولقد قدمت مساهمة أولية في سياق نقدي لرؤية الماركسيين العرب للتاريخ العربي الإسلامي، حيث أشرت إلى "الخلل المنهجي" الذي أصاب تلك الرؤية من زاوية تحديد معنى أنماط الانتاج عموماً، والنمط الذي ساد الدولة العربية الإسلامية خصوصاً*، لهذا تناولت هنا الفكر، ولم أتناول "التمهيد" الاقتصادي الاجتماعي.
ولأن د. طيب ابتدأ بالفلسفة اليونانية، معتبراً أنها المقدمة الضرورية للفلسفة العربية الإسلامية، فقد تناولت المنهجية التي انطلق منها وهو يعالج الفلسفة القديمة بمجملها، ولقد آثرت التركيز على فهم المادية والمثالية، لأنها مفصل معالجته لتلك الفلسفة. وهدفها في الآن ذاته، بمعنى أنه هدف إلى وضع الخط الفاصل بين الفلسفة المادية والفلسفة المثالية، في الفلسفة القديمة، ليبرز التنافض بينها ويحدد "الحوامل" الاجتماعية لكل منهما. وأهدف من كل ذلك تدقيق المنهجية بالأساس، لكي يكون ممكناً تناول التاريخ العربي الإسلامي بمستوياته الاقتصادية الاجتماعية. والفكرية السياسية، وفق منهجية ماركسية، وأقصد وفق الجدل المادي، ولكن أهدف أيضاً إلى وعي كنه الجدل المادي ذاته عبر البحث في تاريخ الفلسفة، وأعتقد أن المناقشة في هذا المجال تفيد في كل ذلك ولهذا أرى ضرورة الحوار.
لقد حاولت التركيز على المنهجية، وتحديداً المعنى المحدد للمادية والمثالية، لهذا لاحظت بأن د. طيب وانطلاقاً من رفض "سحب" الراهن على الماضي، حاول "استخلاص ملامح عامة" لمعنى كل من المادية والمثالية، وجدت أنها تجاوزت المعنى المحدد لها في الماركسية، فقلبت المادية إلى عقلانية، والمثالية إلى ميتافيزيقيا، لتتحدد الفلسفة كفلسفة بكونها مادية، والدين بكونه مثالياً، مما أفضى إلى اعتبار أن تاريخ الفكر الفلسفي هو تاريخ المادية، وأن تاريخ الدين هو تاريخ المثالية (مع استثناءات يشير إليها د. طيب). وبهذا فقد رفع مشكلة راهنة هي مشكلة الصراع بين الدين (النصية) والعقلانية، إلى مرتبة القانون الحاكم للتاريخ، لكن مع تحويل شكلي له يفضي إلى تسميته تناقض المادية والمثالية. وانطلاقاً من ذلك جرى تكييف تاريخ الفكر الفلسفي لنلاحظ بأنه وهو يرفض التكييف، لجأ إليه، لكن انطلاقاً من تصور ذاتي، لم يقد إلى تأسيس "رؤية جديدة". وأفضى إلى "تهشيم" التصور الماركسي حول المادية والمثالية.
وسألاحظ هنا بأن "تقسيمات" د.طيب للفلسفة العربية الإسلامية، إلى مادية ومثالية، تتقاطع إلى حد كبير و "تقسيمات" أبو حامد الغزالي·، وإن كان د. طيب يتخذ موقفاً معاكساً له. هل أستطيع القول إذن، إنه "مقلوب" الغزالي. قصدت الإشارة هنا إلى "التوافق" في أساسيات التحديد فقط. حيث أن مفهوم "وحدة الوجود" كان كافياً لاعتبار قائله دهرياً لدى الغزالي، ومادياً لدى د.طيب. وبالتالي ليكون كل من الدهريين والطبيعيين والإلهيين (مثل الفارابي وابن سينا) الذين كفرهم الغزالي ماديين في نظر د.طيب¨
أنوه مسبقاً إلى أني أصدرت أحكاماً، ربما تكون قاسية، أعتذر من د.طيب عنها، لأنني أجله وأجل مجهوده، ورغم أنني حاولت شطبها، إلا أني وجدت أن ذلك يخل بتحليلي. لهذا أبقيتها، الأمر الذي يدعوني إلى الاعتذار المسبق. 
 
 
 


1
 
لتاريخ الفكر النظري "خاصيته الذاتية" (9) إلى أي مدى يمكن أن "نطلق" هذا التعبير؟ هل الذات خارج الموضوع؟ منفصلة عنه؟ أم أنها تعبير عنه؟ وبهذا تكون خاصية الذات هي خاصية الموضوع. وبالتالي تكون "خاصية " الفكر أنه فكر، أي أنه تصورات وأفكار. هي انعكاس مطابق أو مفارق للموضوع، إنها إذاً كلمات مصاغة، منسقة، للتعبير عن الموضوع. إنه العقل البشري وهو يحول  الواقع إلى أفكار وتصورات و"مثل" و"أحلام" إنه بالتالي العقل البشري وهو "ينظم" الواقع في صورة ما. وهو بهذا يخضع لتاريخية محددة، مرتبطة بتاريخية التطور الاقتصادي الاجتماعي.
لكن هذه "الخاصية" تكمن في عملية تكون معقدة لاتجاهين فلسفيين(9) متعارضين. هنا نعطي " الخاصية" معنى موهوماً لأنها هنا بالذات تدمر التاريخية حيث تعتبر أن كل تاريخ الفكر النظري هو تاريخ التعارض والتفارق بين هذين الاتجاهين الفلسفيين،.بينما كان هذا التعارض وذاك التفارق في خاصيات عصر محدد، هو العصر الحديث، عصر الرأسمالية، حيث نشأ التنازع في الفكر بين هذين التجاهين، وبالتالي فإن نشوء كل منهما متأخر عن الأخر كثيراً. إن تحديد هذه "الخاصية" للفكر النظري أسس لتطور "مثالي"، حيث أصبحت "الخاصية" خاصية نظرية (أي فلسفية)، وهنا تكمن أزمة "الخاصية الذاتية" لتاريخ الفكر النظري.
ولسوف يتضح ذلك حينما نرى أن الاتجاهين الفلسفيين هما الاتجاه "المثالي" و الاتجاه "المادي" ولكننا لا نقع على معنى لكل من الاتجاهين. هل إن معناهما بديهي؟ كل السياق السابق لا يشير إلى  أنه بديهي. إن تحديد أنهما "اتجاهان فلسفيان" ينفي مسألة بديهية معناهما، حيث يتحدد بأنهما "اتجاهان" مستقلان رغم التأكيد على تعارضهما وعلى أنهما" لم تتطورا بعيداً عن بعضهما أو إلى جانب بعضهما، بل من خلال بعضهما. وبشكل خاص ضد بعضهما(9-10). وكذلك على أنهما أرسيا قواعدهما "ليس من خلال تطور منسجم ناجز، بل إن النزاعية والعدائية هما ما يميز ذاك التطور" (10) بل إن هذه الجملة الأخيرة تؤكد استقلال كل منهما، رغم التفاعل بينهما. لكن هل شهد التاريخ هذا الاستقلال بين اتجاهين؟ وهل تطور الفكر النظري هو تطور هذين الاتجاهين في اتحادهما وتصارعهما؟ وهل "هذا الميل الذي يمتلك القانونية التطورية الخاصة، لكلا الاتجاهين الفلسفيين الرئيسين(10)، ومن ثم هل المثالية اتجاه فلسفي كما المادية؟ أحياناً يساوي النص بين "الاتجاه" و "الميل" (9) رغم الفارق الهائل بين الاتجاه والميل. فالميل فرع في اتجاه، وبالتالي لا يحظى باستقلال، ولا شك في أن هذا الخلط نابع من التباس معنى "المثالية" و "المادية". ولقد حدد إنجلز معنى كل منهما بدقة، حينما أكد أن معناهما يتحدد في القول بأولوية الفكر أو المادة تحديداً، أولوية الفكر أوالواقع. ولم ير لهما معنى خارج ذلك. فالمثالي هو من يؤكد أولوية الفكر، والمادي هو من يؤكد أولوية المادة/ الواقع.[1]
ووفق ذلك فإن المثالية هي المسيطرة على تاريخ الفكر منذ نشوئه إلى العصر الحديث، حين اعتبرت الفكرة (والله ضمن الفكرة) هي العلة الأولى، رغم "الميول المادية" والأفكار الواقعية التي انوجدت طيلة تاريخ الفكر النظري. وهنا يبدو أن اتجاهاً واحداً ساد تاريخ الفكر النظري قبل العصر الحديث، وهو الاتجاه المثالي، لكنه كان يحوي "ميلاً مادياً" بصيغة أو بأخرى، وتراكمات هذا الميل هي التي أسست لنشوء اتجاه مادي في العصر الحديث، تبلور مع ماركس تحديداً، ليشهد الفكر النظري صراعاً حقيقياً بين اتجاهين فلسفيين، "مثالي" و "مادي"، ولقد تحقق ذلك، فقط، حينما تشكل اتجاه يستند إلى فكرة أولوية الواقع على الفكر، ولا شك في أن إطلاق تعبير مادي عليه أثار التباسات أكثر مما أوضح كنهه، فهو اتجاه علمي، ينطلق من تحليل المادة/ الواقع، مستنداً إلى منطق محدد. ونبعت ماديته من هذه الفكرة البسيطة: أولوية المادة/ الواقع على الفكر.
في هذه المرحلة بدأ تطور الفكر الفلسفي يشهد التضاد بين "اتجاهين فلسفيين". أما قبل ذلك فلقد شهد تاريخ الفكر النظري سيادة الطابع المثالي للفلسفة، وإن كنا نميز بين شكلين له، الأول: لاهوتي، يستند إلى فكرة الله، الصانع، الفاعل، المقرر، والثاني: يستند لا إلى الله، بل إلى الفكرة ذاتها، الصانعة الفاعلة، المقررة، لكن دون أن ننسى بأن الله فكرة أيضاً، لكنها ترسم في أهاب مقدس، لم تستطع الفكرة في وقت لاحق حيازته. لهذا جاء الفكر النظري البرجوازي كاستمرار لفكر مثالي عريق في القدم، ولم تنشأ "المادية" سوى من ميول نشأت تحت أهاب الفكر المثالي، أساسها والمحدد لنشوئها هو أن الفكر انعكاس للواقع مهما كان غائراً في المثالية، أو متدثراً بالمقدس، حيث هذه المثالية، وذاك المقدس، هما نتاج الواقع ذاته، وبالتالي فمهما كانت الأفكار العامة مثالية، فإن  توضعاتها الواقعية سوف تلمس مشكلات الواقع، مما يسمح  بنشوء "ميل مادي" ما. لهذا وجدنا أن  أكثر الأفكار مثالية، المتبلورة مع هيغل، غدت أكثر الأفكار مادية، حينما أوقفت على قدميها، بتحديد أولوية الواقع على الفكر.
هنا نلحظ "سخف" "الخاصية الذاتية" لتاريخ الفكر النظري، حيث تتهاوى فكرة التعارض بين "اتجاهين فلسفيين". بل تبدو خاصيتة أنه تاريخ التراكم الذي يفضي إلى قطيعة، وهو في كل الأحوال خاصية التاريخ كله، ولا غرابة في ذلك لأن الفكر النظري، هو انعكاس (وإن معقد) للواقع.
   لهذا يفرض تطور الواقع تطور الفكر. لكن، من زاوية " المثالية " و " المادية  نلمس " ثباتاً " رغم تطور الواقع منذ عشرات القرون إلى الآن ورغم اختلاف طابعه . حيث أنتج العقل البشري فكراً مثالياً، رغم كل التطور الواقعي الذي تحقق. ولقد تحقق التراكم في " العقلنة " . وبالتالي في وعي الواقع بالابتعاد عن التفسير الميتافيزيقي، وهذا التراكم هو الذي أفضى إلى نشوء "المادية". وكان تطور العلوم الطبيعية هو أساس نشوء الفلسفة "المثالية"، ومن ثم "المادية".  والعلوم  الطبيعية كانت تبحث في "الميتافيزيقيا" أساساً، أي في المادة /الواقع ورغم تأثرها فلسفياً بالميتافيزيقا فقد مهدت شيئاً فشيئاً لنشوء العقلانية (المثالية) ومن ثم المادية ( الميكانيكية  ومن ثم الجدلية ) .
نؤكد هنا بالتالي أن تاريخ الفكر النظري لم يكن "تاريخ لقطبين نشأا وتطورا على أساس معطيات الفعالية النظرية والعملية للإنسان الاجتماعي" (ص10 ) بل إنه تاريخ " قطب " مهيمن انسل منه حديثاً "قطب" جديد ، دون أن يستطيع الهيمنة بعد . فمن زاوية "المثالية" و"المادية" ما زالت الأولوية تعطى للفكر، والتنازع بين " المادية " والمثالية " على أشده، فقط،  في هذا العصر. ولكي نفهم نشوء " المادية " علينا أن نبحث في التراكم الهائل المتحقق طيلة القرون الماضية في ظل هيمنة "المثالية" ، حيث لم يكن التنازع بينهما قد نشأ بعد . لقد حاولت"المادية" الاستقلال منذ تطورت العلوم الحديثة، بالاستناد إليها، لتنشأ "المادية الميكانيكية" التي لم تخرج رغم  ذلك، من عباءة "المثالية"، لكنها عبرّت عن عظم التراكم الذي أفضى فيما بعد مع ماركس  إلى نشوء "المادية" كتصور "فلسفي" مستقل أخذ يفرض نفسه شيئاً فشيئاً دون أن يصبح قطباً مهيمناً بعد. هنا قام التنازع بين "اتجاهين فلسفيين" وهو ما زال قائماً، رغم التأثير الواسع الذي غدا للاتجاه "المادي" حيث امتلك حيّزاً واسعاً، لا كاتجاه مستقل فقط بل في إطار الاتجاه  "المثالي". والسؤال هنا يتمثل في إمكانية أن يتحوّل إلى قطب مهيمن.
لكن، لا بدّ من التنبيه إلى أن نشوء اتجاه "مادي" مستقل لم يمنع من أن يخضع لتأثير "المثالية"، لهذا أصبح " فكرة " تعطى الأولوية على الواقع/المادة. وبهذا فقد عاد، في هذه الحالة تحديداً، إلى أن يكون فكراً "مثالياً". وهذا يفتح على مسألة هامة هي أن الفكر جزء من الواقع أيضاً. فهو نتاج الإنسان الواعي، أي الإنسان الساعي إلى صوغ واقعه في تصورات وأفكار.  والفارق بين الواقع والمادة هو هنا، حيث تخضع المادة لفعل الإنسان ولكن لـ "عقله " أيضاً. هذا الفعل وذاك العقل يسهمان في وعي المادة، وبالتالي، في السيطرة عليها وتطويرها كذلك. هذا هو الموضوع /الواقع حيث يحظى العمل الإنساني بقيمة عليا، وحيث يكون لـ "العقل"  (نتاج العقل الفكري والعملي) دور هام. إن هذه المسألة توضح الطابع المعقد للفكر، وبالتالي مدى الحاجة إلى تحديد معنى "المثالية" و"المادية"؛ لأن القول بأولوية الواقع/المادة على الفكر لا يفضي إلى القول بـ "تبعية" (إلحاقيّة) الفكر للمادة/الواقع، بل يشير إلى أنه نتاجها، انعكاس لها،  وبين "التبعية" (الإلحاقية) والانعكاس مسافة لا بدّ من وعيها (رؤيتها). وهنا تتحدد قيمة القول بأن معنى "المثالية" و" المادية" مرتبط بأساس عام، بزاوية نظر عامة، هذا الأساس هوإما أن الفكرة هي صانعة الواقع/المادة، هي مؤسسته، وإما أن الواقع /المادة هو صانع الفكرة ومؤسسها. أو بالسؤال هل الواقع /المادة هو الأصل أم الانعكاس ؟ وبالتالي، حينما نؤكد أن الواقع /المادة هو الأصل وأن الفكر هو صورتها نستطيع العبور إلى مسألة دور الفكر الذي يغدو جزءاً من الواقع، مادام نتاج الإنسان الواقعي، وهو هنا بالذات يتحدد إما بكونه فكراً "وهميا"، صورة مشوهة عن الواقع و معاكسة له، أو بكونه فكراً مطابقاً يعبّر عن الواقع. وفي كلتا الحالتين سوف يحمل من الواقع شيئاً ما، رغم أنه لا يكون فكراً "مادياً" إذا ما لمس الواقع، انطلاقاً من رؤية "وهمية". وبالتالي فإن " المثالية " تحمل شيئاً ما "ماديا" مادامت نتجت عن  "عقل" الإنسان الواقعي الذي يسعى للتعبير عن واقعه. كما يجهد للإجابة عن أسئلة الواقع ويعمل من أجل "التقدم"؛ ولهذا فقد لعب الفكر "المثالي" دوراً مهماً في التقدم طيلة القرون الماضية. لقد تطورت الفلسفة ( وكل العلوم النظرية ) في قالب "مثالي"، ونضجت المقولات المادية في هذا القالب؛ لهذا قلت سابقاً: إن الشكل الناضج للمثالية مع هيغل كان أساس تشكل "المادية" مع ماركس. ففي قالب "المثالية" تبلور مفهوم العقلانية ومفهوم التقدم ومفاهيم الشك والنقد والجدل والنسبية. الحقيقة والخطأ، والعام والخاص، والشكل والمضمون، والأمة والوطن والطبقات والدولة و..... إلخ.  لكن كل تلك المقولات، وكذلك كل مفهوم "مادي" كان يوضع في قالب "مثالي"؛ لهذا عزي كل  حدث واقعي إلى علة أولى. وهنا بالتحديد يكمن دور الفلسفة "المثالية" القديمة والحديثة، حيث تطورت ونضجت وهي تؤدي هذا الدور. لكنها أيضاً كانت توسّع من معرفة الواقع وتكشف مقولاته.
وإذا تجاوزنا "المثالية" بتأكيد أولوية الواقع /المادة، واعتبرنا أن الفكر ليس "تابعاً"                                                      (ملحقاً) بالواقع، بل انعكاس له وضمنه في الوقت ذاته، أي إذا انطلقنا من أن العلة الأولى هي الواقع /المادة ذاته، نستطيع أن نحدد موقع الفكر في الواقع. فالفكر بما هو مجهود إنساني (عمل إنساني) سوف يكون أساس تطور العلوم الطبيعية الموصلة إلى الصناعة، أساس النهضة الحديثة، كما أنه أساس صياغة المفاهيم المقاربة شيئاً فشيئاً للواقع. وبالتالي تأسيس النظام الاجتماعي (بما فيه النظام السياسي)، بما يخدم تقدم البشر. فقد تطورت الصناعة نتيجة اكتشافات علمية متتالية. كما تطور النظام الاقتصادي الاجتماعي (والسياسي) نتيجة (اكتشافات) متتالية أيضاً. هنا تتحقق مقولة التراكم الذي يفضي إلى انتقالات (مقولة الكم والكيف). لكن أيضاً، يمكن أن نلمس فعل الفكر الذي يجعل له استقلالية نسبية ضمن التطور الاقتصادي الاجتماعي العام  تؤهله لأن يصبح، في لحظة ما، عنصر تأثير. والهام هنا هو ملاحظة أننا نقول: في لحظة ما. وهو يتعارض مع " المثالية " التي تجعل له فعلاً دائماً. لأنه الفاعل. لتبدو  "المادية" ضمن ذلك كأنها الفاعل في لحظة ما فقط، وبهذا نرى انقلاب المعادلة، حيث تبدو "المادية " مصوغة في قالب "مثالي"، بينما تغدو "المثالية" (وهنا نقصد دور الفكر تحديداً) مصوغة في قالب "مادي". هذا الانقلاب تحقق مع ماركس حينما أوقف الجدل الهيغلي على قدميه.[2]
الاستقلالية النسبية للفكر نابعة من أنه فعل الإنسان الواقعي، في سياق وعيه لواقعه، بتحديد تصور له. لكن أيضاً بالسعي لتحويله. لكن لا بدّ من الانتباه إلى أن الفكر بالأساس يسعى للإجابة عن المشكلات التي تنتج في الواقع،  فهو إذن محدد به؛ فالفكر لا يجيب إلا عن الأسئلة التي يطرحها الواقع كما أكد ماركس[3]. لكن الإجابة يمكن أن تكون زائفة كما يمكن أن تكون حقيقية. ولقد قدّمت "المثالية" إجابات زائفة كما قدّمت إجابات حقيقية. وإذا كانت قد استنفدت طاقتها (نتيجة التطور العلمي الهائل) فلا يجوز لنا أن نتجاهل أنها قدّمت إجابات حقيقية أسهمت في تحقيق التراكم الهائل الذي أنتج "المادية" كاتجاه فكري. كما لا يجوز أن نتجاهل أنها  قدّمت إجابات أسهمت في تحقيق التطور الاقتصادي الاجتماعي الهائل. والأساس في ذلك هو أن التطور في الواقع وفي الفكر هو من فِعل البشر، بتطور قدراتهم وتطور وعيهم، وبالتالي بتطور فِعلهم والتزايد المتتالي لسيطرتهم على الطبيعة. و"المادية" هي الشكل الأرقى للفكر في سعيه لوعي الواقع ووعي صيرورته، وبالتالي لتقديم الإجابات التي تسهم في تنظيم فِعل البشر من أجل الوصول إلى هدف أسمى هو رفاهية البشر. إنها تهدف إلى تقديم الإجابات الحقيقية (العلمية) لكي ينتهي التضاد بين الوعي والواقع، بتأسيس وعي مطابق. وهذه أرقى حالات الوعي، حيث يعي البشر الصيرورة الواقعية  ليستطيعوا إخضاع الطبيعة والمجتمع لمشيئتهم كمجموع ( أي لمشيئة كل البشر ). وبهذا تكون "المثالية" كاتجاه قد هُزمت. وتسيّدت "المادية" كاتجاه ( كقطب ).
لهذا يبدو التعارض (التضاد) بين "المادية" و"المثالية" القائم راهناَ، كلحظة انتقالية، وفي اللحظة الراهنة  تبدو "المادية" كاتجاه (وليس كميل مستقل) هي "الأضعف"، وأن "المثالية" هي المسيطرة، مادامت تتحكم بـ  "عقل" البشر عموماً، أي مادامت "المادية" مازالت تشكل أساس وعي "قلة" (هم من المثقفين) ورغم تأثيرها في العلوم عموماً ( الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والنفس والتاريخ والأدب ….. )، فإنها ـ وفي وضع سيطرة "المثالية" ـ تتأثر بها. لهذا نلاحظ تحوّل "المادية" إلى "المثالية" المرتدية شكلاً مادياً لدى قطاعات من المثقفين "الماديين"، في اللحظة التي يجعلون من "المادية" كاتجاه علة أولى تحدد مسار الواقع. ولعل مقولة الاستقلالية النسبية للفكر كانت "المنقذ" لهذا التحوّل "المثالي" حيث تهدر تاريخية الفكر كما يهدر الواقع لمصلحة علة أولى هي  "المادية ". لهذا أكّدت سابقاً الفارق بين الوضع العام للفكر بصفته انعكاساً للواقع/المادة وبين دوره في لحظة محددة. وكذلك بينه وبين كونه يجيب عن أسئلة الواقع ذاتها، وهنا يكمن الفارق بين وعي الواقع، وعي مكوناته وطبيعة العلاقات فيما بينها ووعي تاريخيته، وبين تغييره، الأمر الذي يقتضي وعي الواقع أولاً والإجابة عن أسئلته ثانياً، أي تحديد المشكلات التي يستدعي حلها تحقيق التقدم. فإذا كانت الصيرورة الواقعية تفرض في كل لحظة تقدماً ما، فإن الفارق بين الطبيعة والمجتمع، هو في دور البشر، ووعي البشر جزء من وجودهم منذ أن أصبح الإنسان عاقلاً. وكلما ارتقى وعي البشر، بالقدر الذي يستدعيه عملهم (تحويلهم للطبيعة)، سارت الصيرورة الواقعية في نسق "إنساني" يحقق مصالحهم أكثر فأكثر بآلام أقل فأقل. وهنا يتوضح أيضاً مدى ارتباط الفكر بالواقع، حتى وهو يؤثر فيه. ولتبدو الأحلام خارج إطار وعي الصيرورة أوهاماً. ورغم أهمية الأحلام ( التي هي تخيّل لحياة أفضل ) فإن الفارق بين كونها واقعية أو "وهمية" هو بالتحديد في إجابتها عن أسئلة الواقع ذاته.
نلمس هنا فكرة ماركس: بأن مهمة الفلاسفة كانت تفسير العالم، بينما المطلوب هو تغييره[4]. وإذا كان ماركس يشير إلى الفعل (العمل) من أجل تغيير العالم فإنه أيضاً يلمس مسألة وعي الفِعل. فبين التفسير والتغيير يكمن دور الوعي/الفكر، حيث يتحدد الدور الواعي للبشر وهم يغيّرون واقعهم. ولنلاحظ هنا أن تغيير الواقع يبقى محدداً بممكنات الواقع ذاته. وهنا تبرز قيمة مقولة التراكم. التراكم في الواقع وفي الفكر معاً. ( الواقع هنا يعنى الواقع الاقتصادي الاجتماعي، مادام الفكر، وفق الرؤية "المادية"، من الواقع ) لكن التراكم يفضي إلى تغير نوعي أساساً. و "الوهم" هو الفكر الذي يتجاوز ذلك. ليقدم إجابات لأسئلة لم يطرحها الواقع، سواء لأنه تجاوزها أو لأنه لم يهيئ لها بعد. وفي كلا الحالين يكون الفكر "مثالياُ" لأنه يحكّم الفكرة بالواقع، وبالتالي فإن ماركس أكّد ضرورة تفسير العالم من أجل تغييره.
وإذا كان العمل البشري ينتج تحوّلات غير متوقعة وهو ما يسمى المصادفة، أو هكذا كان التفسير "المثالي" لهذه التحولات، فإنها ضرورة؛ لأن العمل البشري يقود لتحقيقها، بغض النظر عن وعي البشر أنفسهم. لهذا أسميت في  "المادية " الضرورة العمياء , ولا شك في أن مهمة "المادية" تكمن في الكشف عن نتائج العمل البشري، لتتحول الضرورة العمياء إلى ضرورة واعية، وبالتالي تحقيق المزيد من سيطرة البشر على الصيرورة الواقعية، وليصبح تغيير العالم مرتبطاً بحركة واعية تقدّم الحلول الممكنة لتناقضات الواقع.
"المادية" إذن تعطي الأولوية للواقع/ المادة، لكن دون تجاهل وضع الفكر. وضمن هذا الفهم نزيل المزدوجين لنؤكد على: المادية. لقد حاول إنجلز أن يوضح فكرة هيغل بالاستناد لمنهجه، أي الجدل، والفكرة تتعلق بالعلاقة بين الفكر والواقع تحديداً. رغم أن التفسير الهيغلي لهذه الفكرة كان يضفي عليها طابعاً محافظاً، ليحدد بهذا الدور (الوضع) الفكر. تقول فكرة هيغل  "إن كل ما هو عقلاني واقعي وكل ما هو واقعي عقلاني" (بليخانوف ص 377). ولقد استند إنجلز إلى فكرة الصيرورة القائمة على أساس نفي النفي، حيث كل ما هو واقعي عقلاني مادام يطابق عملية التقدم, وبالتالي ينسجم والصيرورة، لكنه في سياق تطوره ينقلب إلى اللاعقلانية ليغدو العقلاني حاجة واقعية،  ليغدو "حلم" البشر في التقدم حاجة واقعية[5]. ضمن هذه الحدود تتجلى الاستقلالية النسبية للفكر ضمن التصور المادي فيغدو واقع البشر المؤسس على فعلهم (عملهم) منافياً للنظام العام الذي يعيشونه وتنفرض الحاجة لمطابقة واقعهم والنظام العام، من خلال إعادة تأسيسه ليطابق أحلامهم الجديدة. ومهمة الفكر تكمن في وعي الواقع المؤسس على فِعل البشر ووعي عدم التطابق القائم، ومن ثم صوغ أحلام البشر ووعي آليات تحققها لكي يكون فِعل تحققها فِعلاً واعياً.
بدون هذا الدور للفكر تبقى المادية محاصرة بمزدوجين؛ لأنها تكون حينها مادية مبتذلة ساذجة، وهي "المادية" التي تؤسس لمثالية مفرطة، حيث تتحول مفاهيم "مادية" مبسطة إلى علة أولى تحدد الواقع وتقرره وتتحكم فيه، فهي تقرر "تبعية" (إلحاقية) الفكر للواقع وتجعل الواقع فكرة وتلغي الواقع الحقيقي، وبالتالي يقف هيغل على رأسه من جديد، بتحويلها الواقع إلى فكرة أو من جهة أخرى، لأنها تقرر فكرة الانعكاس المبسط (والميكانيكي) للفكر و"تبعيته" للواقع تغرق في رؤية ميكانيكية تنافي مفهوم الصيرورة من جهة، والواقع الحقيقي المؤسس للصيرورة من جهة أخرى. وبتخليها عن كنه الصيرورة الواقعية (التراكم والتراكم الكمي المفضي لتغيّر نوعي والنفي ونفي النفي والتناقض) وبالتالي إهمالها للأحلام، أي إهمالها للعقلاني حينما يصبح الواقع لا عقلانياَ. وفي هذا تلتقي "المادية" والهيغلية في كونهما يؤسسان لبنية محافظة، ليبدو "كل ما هو واقعي عقلاني". أو من جهة ثالثة تتحوّل الاستقلالية النسبية للفكر إلى استقلالية تامة، فيضخّم دور الفكر وتغدو الأحلام "أوهاماً" وهنا تبدو العودة إلى "المثالية" صريحة. وكل ذلك يوضح مدى الرسوخ الذي مازال الفكر "المثالي" يتمتع به، وليوضح بأن معركة المادية مازالت طويلة. لكن ما يجعلها مثمرة هو التطور الهائل في العلوم الطبيعية والتزايد المتصاعد في السيطرة على الطبيعة. وإذا كنا نلاحظ اختراق المثالية للمادية فلا بدّ من أن نلاحظ الاختراق الذي حققته المادية للمثالية أيضاً. حيث لا تني الميول المادية تتعمق في الفكر المثالي وحيث غدت مقولات المادية أساس التحليل لدى مفكرين مثاليين، ولكن بهدف خدمة المثالية .
  


2
 
    إن الانطلاق من "صراع القطبين" في تحديد تاريخ الفكر النظري أفضى إلى تشويه فكرة إنجلز خاصة في تقويمه الفلسفة اليونانية، حين قال: إنه في الأشكال المتعددة للفلسفة اليونانية توجد مسبقاً تقريباً كل أساليب الرؤية اللاحقة بشكل بذري أولي[6]. لهذا يستنتج أن الرابطة الأولية البدائية بين"المادية" و "المثالية" (تأخذ شكل وطابع الأسطورة) (13ص)، وأن (العلاقة الأولية، البدائية بين "المادية" و "المثالية" تتحقق في "الأسطورة" ومن خلالها(15ص). ولقد وضعت الفعالية العملية للإنسان أي العمل، الحجر الأساسي لنشوء الأسطورة، وفي نفس الوقت لانحلالها إلى العنصر المادي (الواقعي) والعنصر المثالي(اللا واقعي أو الماورائي) (15ص) وبهذا فقد تشكلت الفلسفة اليونانية من هذين العنصرين "المادي" و "المثالي" كما يمكن لنا أن نستنتج، ولكن أيضاً كما يتوضح من دراسة "تاريخ الفلسفة"، من وجهة نظر "المادية" (وأصر هنا على المزدوجين). ولكن نص إنجلز يتحدث عن بذور أولى لأساليب الرؤية اللاحقة، وجدت في الفلسفة اليونانية، ولم يتحدث عن العنصرين: "مادي" و "مثالي"، لقد تحدث عن بذور فقط، والبذور غير منفصلة عن البنية العامة للفلسفة اليونانية التي قامت على أساس وجود علة أولى، وبالتالي على أساس مثالي، لهذا فإن إنجلز يتحدث عن بذور الاتجاهات اللاحقة في الفلسفة المثالية اليونانية، ولا يتحدث عن عناصر مستقلة متضادة، أو عن "قطبين متصارعين". حيث لم تكن "المادية" قد تشكلت كقطب أو كاتجاه فلسفي، بل وجدت كـ "بذرة" أولى فقط، لم تعتبر كذلك إلا بعد ما تشكلت المادية كاتجاه في العصر الحديث، بينما كانت وقتئذ جزءاً من بنية مثالية.
لهذا وجدنا أن الصراع الواقعي، صراع الطبقات. عبر عن ذاته على مستوى الفكر، ليس بالتضاد بين "المادية" و "المثالية". بل بالتضاد بين "مثالية " و "مثالية" وفي كثير من الأحيان بالاستناد إلى ذات "المثالية"، ولكن بتأويل مختلف ولكن "مثالي"، وبالتالي حين نبحث في تاريخ الفكر النظري يجب أن نلاحظ أن الانتقال من الأسطورة (بكونها الشكل الأولي لوعي البشر) كان نحو المثالية، في شكلين: الفلسفة والدين، حيث أعيد كل فعل، اعتقد العقل البشري أنه خارج مقدراته التحليلية، إلى قوة أعلى، قوة خارقة (الله في الدين، والعلة الأولى في الفلسفة) هذه هي مرحلة سيادة "الميتافيزيقيا" حيث ارتبط التحول الواقعي في وعي البشر بقوة فوق البشر، خارج الطبيعة. كان الله هو هذه القوة في الدين، لكن الله الذي يتجلى في "الكلمة" (في المسيحية "في البدء كان الكلمة" وفي الإسلام، الأمر الإلهي التكويني "كن") وكان "اللوجوس" هو هذه القوة في الفكر اليوناني، (العقل الذي لا يظهر نشاطه إلا من خلال الكلمة).[7] وكانت "خاصية" تاريخ الفلسفة هي في الصراع بين الله واللوغوس. الدين النص والعقل، أو كما تبدت واضحة في العصر الإسلامي بين الدين والفلسفة، حيث كانت الفرضية أن الدين هو شكل الوعي الوحيد، ثم، مع ترجمة الفلسفة اليونانية، تجاورا انطلاقاً من اللا تناقض بينهما،لكن مع إعطاء الدين أولوية على الفلسفة، ثم اتحدا (مع ابن سينا)، ليبدوا كشكلين لوعي حقيقة واحدة، ليتضادا من جديد (مع الغزالي) الذي يسعى لنفي الفلسفة لمصلحة الدين، ومن ثم ليتجاورا في صيغة أرقى (مع ابن رشد)، تعطي الأولوية للعقل/ الفلسفة على الدين. ومع أبو العلاء المعري الذي سعى إلى نفي الدين لمصلحة الفلسفة. (يؤكد ابن رشد أن الفلسفة هي" عقل" الخاصة، والدين هو "عقل" العوام)[8]. وفي ذلك نلاحظ تصارع "مثالية" ضد أخرى، ومنه تطورت العقلانية في الفلسفة الأوروبية الحديثة، لتصل إلى تنحية الدين وتكريس "العقل" كـ"علة أولى"وبهذا فقد اتخذت المثالية شكلاُ آخر، لا يشك في أنه هيأ لنشوء المادية، ولولا نفي "الميتافيزيقا" وتكريس العقلانية لما تحققت هذه الانتقالة التي استندت، بلا شك، إلى الميول المادية السابقة، ومن ثم فإن نفي العلة الأولى ما فوق البشر، هو الذي هيأ للبحث في مشكلات (وجود) البشر بمنطق جديد كان ينزع إلى تكريس الطابع الموضوعي للبشر، ومن ثم أفضى إلى نشوء المادية التي استندت إلى النقد الأكثر جذرية للدين (فيورباخ)، والتبلور الأكثر تجريداً واتساقاً للفلسفة (هيغل). وأعيد التأكيد هنا بأن التطور الهائل في العلوم الطبيعية، سارع في هذا التشكل للمادية، لأنه أوصل إلى وعي مقدرة البشر السيطرة على الطبيعة، كما أسهم في التطور الهائل للفكر ذاته، وللفكر "المادي" تحديداً( المادية الميكانيكية).
في هذه اللحظة (كما أوضحت سابقاً) نشأ "قطبان"، اتجاهان متضادان، وأصبح أساس تحديد مثالية أو مادية الفكر، ناتج عن تحديد ما إذا كان الفكر الذي هو منتوج "العقل" البشري، هو المحدد لصيرورتهم، أم الواقع الذي يعيشه البشر(وبضمنه العمل البشري، ووعي البشر) هو المحدد لهذه الصيرورة. في المثالية يغدو الفكر الذي ينتجه البشر قوة فوقهم تحدد واقعهم، كما تحدد الصيرورة العامة للتقدم. وفي هذا يتضح أن المثالية الحديثة هي بنت المثالية القديمة، لكن المثالية القديمة كانت تجعل الفكرة التي هي منتوج "العقل البشري" فوق "العقل" فتلغيه، لهذا كانت "العلة الأولى" فوق "العقل"، وذات سطوة عليه، بينما ظل "العقل" في المثالية الحديثة هو "العلة الأولى"، لهذا كانت العقلانية هي منتوجها. أما في المادية فإن الواقع هو محدد الصيرورة، وأن الفكر هو انعكاس الواقع، لكن دون نكران الدور الذي لـ"العقل البشري"(وهذا ما أشرت إليه سابقاً).
وهنا نلحظ كم هو وهمي، التاريخ المبني على تضاد القطبين، الذي كرسته رؤية مبتذلة للمادية، هي "المادية التاريخية" انطلاقاً من رؤية مشوشة للعلاقة بين الواقع والفكر، تستند إلى التبسيط اللفظي والميكانيكية معاً، حيث فسرت فكرة ماركس، بأن التاريخ هو "تاريخ صراع الطبقات"[9]بما يشير إلى "تخندق" واضح للطبقات، وفي الوقت نفسه تبلور وعيين متضادين، وبالتالي فإن كان وعي الطبقات المسيطرة مثالي، فإن وعي الطبقات المضطهدة مادي بالضرورة، ولهذا كان تاريخ الفكر النظري، هو تاريخ تضاد لقطبين: مثالي ومادي. وبهذا يشكل تاريخ الفكر النظري في قالب مثالي، إن التحولات الكبرى في التاريخ، تتحقق في قالب مثالي (الفلسفة... الامبراطورية اليونانية، والثورة البرجوازية، و الأسطورة، الإمبراطورية الرومانية ... والدين ، الإمبراطورية العربية الإسلامية)، كما أن الصراع الطبقي ـ إلى ما قبل نشوء الماديةـ كان يبرز كتضاد بين "مثاليتين". وفي الغالب كانت الطبقات المضطهدة، تمتلك وعياً أكثر"مثالية" من الطبقات المسيطرة، حتى في العصر الحديث، لم ترتبط بعد الطبقات المضطَهدة بالمادية، إلا كاستثناء، إن هذا التحديد يفتح على مسألة الاستقلالية النسبية للفكر، كما يفتح على مسألة العلاقة بين الوعي والفكر، فرغم التقدم الهائل المتحقق في الواقع، فقد ظلت المثالية راسخة، رغم تغير أشكالها، لهذا يمكن ملاحظة ثلاثة أشكال لها: الأسطورة والمتافيزيقا والعقلانية. ولا شك في أن تطوراً هائلاً تحقق في إطار البنية الفكرية طيلة تاريخ الفكر النظري، لكن هذا التطور ظل محاطاً بقشرة مثالية سميكة، ولكن، هذا الانتقال في أشكال المثالية كان يعبر أيضاًعن تطور هائل في الفكر.
إن انقسام المجتمع إلى طبقات متصارعة، لم يفض إلى انتصار الطبقة المضطهدة، بل كان يفضي إلى الدمار[10]، حسب إشارة ماركس في "البيان"، وهو ما يفضي إلى تبلور وعي طبقي لديها، لهذا ظل التطور في الفكر منوطاً بمثقفي الطبقة المسيطرة، وبالتالي ظل يصاغ في قالب مثالي. وظل يسهم في تشكيل وعي الطبقات المضطهدة، التي ظلت، كما لاحظت سابقاً تنطلق في صراعها ضد الطبقة المسيطرة من فكر هذه الطبقة، بالتزامه كما هو أو بتأويله، لهذا كان انتقادها للطبقة المسيطرة ينطلق من "خروجها على النص"، أي بعدم تطبيقها لفكرها أو من تأويلها الخاطئ لهذا الفكر(دون أن ننسى الاستثناءات في تاريخ الصراع الطبقي). أريد أن أقول: إن الوجودالواقعي للطبقات، لم يفض إلى نشوء وعي مطابق لكل منها، مما كان يظهر أن وعياً جمعياً، هو ما كان ينشأ، لقد نشأت الأسطورة بصفتها "الوعي الجمعي" هذا، كما نشأ كل من الدين والفلسفة بصفتهما "الوعي الجمعي" هذا، ونشأت العقلانية بصفتها "الوعي الجمعي"هذا أيضاً ولكن كل منها حوى تأويلات مختلفة، لم تعبر بالضرورة عن الوجود الواقعي للطبقات المتصارعة؛ بمعنى أنها عبرت في بعض الأحيان، فقط، عن هذا الوجود الواقعي للطبقات المتصارعة. مع نشوء المادية الحديثة بدأ هذا الميل للتعبير عن الطبقة المضطَهدة، ليتطابق وجود الطبقة ووعيها، لكن ذلك ما زال في مجال الإمكانية، الأمر الذي يفتح على تاريخ جديد، لكي يتحقق، يجب أن تفرض المادية الحديثة ذاتها كـ "وعي" مسيطر، وفي هذا تجل للاستقلالية النسبية للفكر، في هذه المسألة قد يبدو أنني أنقاد إلى شطط مثالي، حاولت نقده سابقاً، لكنني أفهم هذه المسألة ضمن حدين: الأول أن المادية الحديثة، لم تتبلور إلا نتيجة التطور الواقعي المتحقق (نشوء الصناعة، والتطور العلمي الهائل السابق والمرافق لها). وهو تطور أصاب الاقتصاد، والمجتمع عموماً، كما أصاب نتيجة ذلك ـ الفكرـ . والثاني أن الفكر لا يتحول إلى قوة مادية إلا إذا وعاه البشر، حسب قول ماركس، بمعنى أن اكتشاف فكرة لا يعنى صحتها، بله سيادتها، إلا إذا تطابقت مع المصلحة الواقعية للبشر، وهنا يطرح السؤال: كيف يمكن صياغة وعي البشر مادياً؟ بهذا تتوضح حدود استقلالية الفكر، وارتباطه الدائب بالواقع وأولوية الواقع عليه.
إن الواقع المادي للبشر(الظروف الاقتصادية الاجتماعية) لم ينتج ـ إلى وقت قريب ـ سوى المثالية، لأن حدود مقدرة سيطرة البشر على الطبيعة كانت ضيقة، حيث تمثل العمل الإنساني، في العلاقة المباشرة بالطبيعة (الزراعة)، وكانت الحرف ما زالت بسيطة، وكذلك التطور العلمي، لهذا كانت "العلة الأولى" ما فوق الطبيعة هي المسيطرة في الوعي، وعلى مستوى الفكر. ولا شك في أن تطور مقدرة البشر في إخضاع الطبيعة (تطوير الحرف والعلوم الطبيعية) كان يوسع شيئاً فشيئاً للعقلانية، على مستوى الفكر، وبدرجة أقل في "الوعي الجمعي"، لقد عبرت الأسطورة، ومن ثم الدين والفلسفة عن "الوعي الجمعي" هذا، لهذا حوت كل تناقضات الواقع، وميوله، لقد مثلت وعي البشر للطبيعة والمجتمع، مصوغاً في قالب مثالي، لهذا ظلت تناقضات البشر الواقعية، ملفوفة في إهاب مثالي، مما كان يجعلها مشوشة في مستوى الفكر، وربما معدومة، سوى من ميول لدى هذا الفيلسوف أو ذاك، أو في هذا الدين أو ذاك (الإسلام مثلاً دعا إلى مساعدة الفقير ولم يدع إلى إلغاء الفقر، كما دعا إلى الرفق بالعبيد ولم يدع إلى إلغاء العبودية، ودعا إلى رفض الترف ولم يدع إلى منع الثراء). بمعنى أنها كانت تتبدى كميول في الفكر السائد فقط، دون أن يكون ممكناً لها أن تتمظهر في شكل أفكار متضادة. هذا الواقع "جعل الشمولية هي سمة الفكر كما جعل الإطلاق سمته الأخرى" (والمطلق في الدين يتخذ شكل المقدس). لقد ظلت المثالية "مستقلة" عن التطور الهائل الذي تحقق في الواقع، لهذا استمرت عقوداً طويلة، لكن استمرارها مرتبط بالواقع ذاته، ولقد نشأت المادية فقط حينما تحقق تطور واقعي هيأ لنشوئها، وبهذا أسس نشوؤها لمرحلة جديدة، حيث أصبح من الممكن للطبقات المضطَهدة أن نؤسس وعياً مستقلاً عن وعي الطبقات المسيطرة، ومضاداً له.
ما أود قوله هو أنه رغم انقسام المجتمع إلى طبقات قد تشكل المجتمع الطبقي، فإن فكراً واحداً هو الذي تبلور رغم كل الميول التي يحملها، هذه الميول التي تتبدى في بعض التصورات والأفكار، دون البنية العامة لهذا الفكر، التي تقوم على أساس مثالي (أولوية الفكر). وإذا كان هذا الفكر قد عبر عن "الوعي الجمعي" فقد كان نتاج مفكرين عبروا عن الطبقة المسيطرة، لكنه كان يحمل ميلاً لـ "عقلنة" ممارسة هذه الطبقة، هذا الميل هو ما كانت الطبقات المضطَهدة تتعلق به باعتناقها مجمل الفكر المسيطر، في هذه الميول في الفلسفة اليونانية، كمنت البذور الأولى لكل أساليب الرؤية اللاحقة، منها تحقق التراكم الذي أفضى إلى نشوء تلك الأساليب. أحادية الفكر هي إذن سمة قرون طويلة، وكانت تعبر ـ كما أشرت ـ عن "وعي جمعي" مثالي فيما يتعلق بوعي الطبيعة والمجتمع، وعن وعي الطبقة المسيطرة، التي كانت توظف هذا التصور المثالي في تكريس سيطرتها. ولما كانت الطبقات المضطَهدة تتحرك داخل البنية الفكرية ذاتها، فقد كان هدفها ـ في الغالب ـ إعادة إنتاج التكوين الطبقي ذاته (التكوين الاقتصادي الاجتماعي). لقد "توحدت" رؤية الطبقات المختلفة للعالم، في بنية ميتافيزيقية، وعبر عنها في صيغة بسيطة (عامية شعبية). كما في صيغة عالمة(الفلسفة)، وكذلك في صيغة متوسطة (الدين)، ولهذا كان الدين أقرب إلى "الوعي الشعبي"، ولهذا شكل "الوعي الشعبي". أما الفلسفة فقد كانت الشكل الأكثر"عقلانية" لهذا الوعي.
ألمس هنا مسألة العلاقة بين الوعي والفكر، الوعي هو مستوى إدراك البشر، والمفاهيم التي تحكم رؤيتهم للطبيعة والمجتمع ( للكون عموماً)، وهو مؤسس على "دور" بسيط للعقل، والكثير من المروي (العادات والتقاليد والثقافة الشعبية .... والدين)، بمعنى أنه الخبرة المكتسبة من الحياة، والمنقولة شفاهة ، و "العقل" في هذه الحالة يلعب دور الناقل، (وبالتالي فهو إدراك حسي مباشر). هذا هو "الوعي الشعبي" كما أسميته سابقاً. أما الفكر فهو الوعي المصوغ "عقلياً" ولهذا يكتسب بنية أرقى، وله آلياته و "قوانينه" الخاصة (وفي هذا يبرز جانب من استقلاليته النسبية). من هنا تنبع ضرورة التمييز بين مستوى الوعي: الوعي الذي ينتج عفوياً، ويلعب التوارث دوراً أساسياً فيه، حيث يتلقى الإنسان وعي محيطه، ويعمل ـ بالتالي ـ من داخل منظومته، والوعي العقلي المنتج بفعل بشري (الدراسة). هذان المستويان هما مما أنتج (في العصر الإسلامي مثلاً) التمييز بين الخاصة والعامة، الخاصة الذين يتعاملون مع الفكر (الفلسفة والعلوم الرياضية ... ) عقلياً، والعامة الذين يكررون "الوعي الشعبي" وبالتالي يلتزمون " ما يتلى عليهم". وهذه المسألة هي التي سادت قروناً طويلة، لكن بعد طرد الفلسفة، وتكريس الدين كبنية فكرية وحيدة (المسيحية والإسلام) وكذلك تكريس رجال الدين (الفقهاء والكهنة) بصفتهم هم الخاصة. في هذا الوضع يتساوى "الوعي الشعبي" و "الوعي الجمعي" أو ـ بشكل أدق ـ يسيطر "الوعي الشعبي" على "الوعي الجمعي"، بإلغاء الفكر (الفلسفة والعلوم الطبيعية)، لتصبح سمة الوعي الوحيدة، أنه نقلي، تكراري، (دائري)، وفيه يختلط الأسطوري بالديني، والأسطوري والديني بالعقلاني، ولقد عبرت السياسة (السلطة) عن هذا الوعي، ولم ترتق إلى مستوى الفكر، سوى في لحظات ضيقة، لهذا ظل الفكر (الفلسفة) هامشياُ في "الوعي الجمعي". مع الرأسمالية بدأ تحول الفكر من كونه هامشاً إلى كونه "وعي السياسة"، فقد شكل وعي الطبقة المسيطرة، وبالتالي سلطتها، لكنه أيضاً أخذ يصبح قوام "الوعي الجمعي" فقد أزاح الدين بصفته وعياً وسيطاً ومهيمناً من السلطة أولاً "العلمانية" ومن ثم توسع تأثيره في "الوعي الشعبي" بفعل إصلاح نظام التعليم (تطويره وتحسينه) كما بفعل التطور التقني الذي اصاب (الواسطة) بين الفكر والبشر(الطباعة). لكن، كان أساس هذا التأثير هو التطور التقني ذاته، وهنا ألمس مسألة اعتقد أنها هامة وهي أن تطور "الوعي الشعبي" خاضع بشكل مباشر للتطور الواقعي، لتبدو الاستقلالية وكأنها للفكر وحده دون الوعي، وهذا التحديد هو الذي يوضح المنتوج المباشر للواقع، والمعبر عنه ضمن بنيته القائمة، أما الفكر فإنه يعبر عن أحد خيارين (أو الخيارين معاً): الأول، يتمثل في صياغة البنية القائمة في قالب نظري، وهو الشق الأول من فكرة هيغل "كل ما هو واقعي عقلاني"، والأخر يتمثل في صياغة "الحلم" أي القالب النظري الذي يعبر عن ميل الواقع للتحول، وهو الشق الثاني من فكرة هيغل "كل ما هو عقلاني واقعي". وهو الذي يحظى باستقلالية نسبية، تؤهله للتأثير في الواقع، لتحقيق الصيرورة الواقعية، وافتقاره يجعل هذه الصيرورة كرجاء، وبالتالي يجعل التناقضات الواقعية تفضي إلى الدمار.
ويكون دور الفكر في هذه الحالة، هو كسر بنية الوعي السائد، من أجل تأسيس وعي جديد، ولا تتحقق هذه العملية، إلا في حالة تناوله الواقع، بمعنى التأكيد على أولوية السياسي، بتحديد الأهداف الواقعية التي يطمح البشر لتحقيقها، لكن وعي البشر يعيد صياغتها في إطار بنية وعيهم، إنها تخضع لآليات هذا الوعي، ولأن الفلسفة القديمة اهتمت بقضايا الكون الكبرى، ولم تطرح ذلك، ظلت هامشية، بينما لعب الدين هذا الدور، لهذا كان "جوهر"  الدين (الجوهر الواقعي للدين) هو تحقيق عملية التغيير الاجتماعي، حيث دعا إلى "وراثة الأرض" من قبل المؤمنين (اليهودية والإسلام)، وحوى تشريعاً لنظام اقتصادي اجتماعي وسياسي جديد، أو دعا إلى أنسنة الإنسان (المسيحية). دون تعارض مع الخط الأول ذاك، من هذا المدخل (الذي هو الأساسي والواقعي، والمعبر عن واقعية الأديان) استطاع إعادة صياغة الوعي البشري، وحين لعبت الفلسفة الحديثة هذا الدور، استطاعت إعادة صياغة وعي البشر أيضاً، وأؤكد هنا أن الفكر كان نتاج وعي فئة ضيقة للواقع في لحظة محددة، وبالتالي فهو الانعكاس لهذا الواقع، لكنه الانعكاس الذي فتح إمكانية تغيير الواقع وتحويله، وحدد طبيعة "الوعي الجمعي" اللاحق الذي توافق والتحول الواقعي في لحظة محددة، لكن "الوعي الجمعي" لم تعد صياغته إلا بعد تحقيق هذا التحول، ولقد تحقق التقاء الفكر الذي يحمل "حلماً" والوعي الراهن (الوعي الشعبي المتوافق والبنية القائمة)، أول ما تحقق في مجال السياسة، أي في مجال السعي لتحقيق "الحلم" في مجال تحقق الصيرورة، دون أن يغير من بنية الوعي. إن تحوله إلى قوة "معارضة"، يجعله قادراً على التأثير في الوعي، لكن ضمن إطار محدد، لكن انتصاره وتحوله إلى مركز السيطرة يجعل تأثيره أوسع، من خلال أصلاح نظام التعليم، و "الجهاز الأيديولوجي للسلطة" وأشكال الثقافة الأخرى. لكن تحقق هذا التحول في الوعي متعرج، ويحتمل الانتكاس، لأنه مرتبط أيضاً، بالصراع الواقعي بين الطبقات، لكن حالما تفرض طبقة نفسها كقوة مسيطرة، تفرض فكرها ووعيها كفكر ووعي جمعيين،(وهو ما أسميته سابقاً "الوعي الجمعي" الذي يفترض ـ كما أوضحت ـ وجود تكوينات وتأويلات من داخل بنية هذا الوعي).
أساس هذا الفارق بين الفكر والوعي، يكمن في أولوية إعادة انتاج الحياة(المعيشة) بالنسبة للبشر، حيث يكون العمل من أجل انتاج ضروريات الحياة هو العمل المركزي، لأنه بدون الحياة لا حاجة إلى الفكر، بل لا إمكانية لوجوده، وهنا تكتسب مقولة العمل أهميتها، والعمل هو الانتقالة الهامة التي تحققت، لتنقل البشر من حياة "القطيع" الذي يبحث عما تنتجه الطبيعة "عفوياً" إلى الإنسان المنتج الذي يحول الطبيعة بما يحقق له الحصول على ضروريات الحياة، وكانت هذه الانتقالة بداية سيطرته على الطبيعة، وتحويلها بما يحقق له العيش مستقراً، بمعنى تقليص خضوعه لظروف الطبيعة. وهو كلما قلص هذا الخضوع، يزيد شيئاً فشيئاً من سيطرته على الطبيعة، ولا شك في أن اكتشافه لوسائل ضرورية لحياته كان في البدء "صدفة" لكنها عبرت عن خبرات حسية تراكمت طيلة قرون طويلة، إن هذه الأولوية جعلت من العمل أساس نشاط البشر، لهذا ظل تراكم الخبرة محصوراً في الإفادة البسيطة، وبالتالي التطوير البطيء لوسائل الانتاج ليبقى الوعي حسياً، نتيجة أن "العقل" الذي هو أحد خصائص البشر المميزة، ظل محدداً في العمل من أجل إعادة إنتاج الحياة، لهذا ظل تراكم الوعي بطيئاً أيضاً، وبالتالي ظلت بنى "فكرية" مستقرة قروناً طويلة. إن استمرار كون العمل هو النشاط البشري المركزي، كان يجعل "استقرار" الوعي مسألة بديهية، لكن درجة الاستقرار النسبي التي تحققت في مجال حصول البشر على ضروريات الحياة، ومن ثم الانقسام إلى طبقات، أفسحا في المجال لنشوء الفكر، نتيجة التقسيم الواقعي الذي تحقق بين العمل اليدوي والعمل الذهني، بين العمل والتفكير، حيث تخصصت فئات في التفكير في الطبيعة والمجتمع، وفي الإفادة من التجارب، كما في وعي الكون، بمعنى أن مهمتها كانت تفسير الواقع، هنا نلاحظ أن "الوعي الجمعي" يقوم على "منطقين" (آليتين)، حسي وعقلي، ليصاغ في منظومتين: "الوعي الشعبي" و الفكر، ولا شك في أن خضوع الأول للواقع كبير، لهذا فهو يعيد إنتاج الوعي ذاته، كما أن تأثير الثاني في الواقع كبير أيضاً، لهذا فهو يتأثر بالتطور الواقعي، ويتطور معه، ومنه تبدأ إعادة صياغة "الوعي الشعبي". لكن تداخلاً يحصل بينهما، مما يوجد أنماطاً وسطى، فإذا كان الفكر يسعى لإعادة تكوين الوعي، فإنه ـ أيضاً ـ يخضع للشروط الواقعية للوعي، مما يفضي إلى انحطاط الفكر، لكن هذه هي ـ كما يبدوـ صيرورة تطور "الوعي الجمعي" وهو ما يبرز الرابط بين الفكر خصوصاً و "الوعي الجمعي" عموماً والواقع.
وإذا كان الفكر يؤثر في "الوعي الشعبي" بطريقة ما عبر "الثقافة" فإن تأثيره الحقيقي، يتحقق عبر السياسة، فإذا كان نشوء فكرة يؤدي إلى تأثير ما يتحقق عبر المثاقفة، فإن تأثيرها الفعلي يتحقق عبر السياسة تحديداً، لأن الفكر المتأثر بالتطور الواقعي، يتحول إلى وعي لطبقة ما (أو لفئة ما)، وبالتالي يتحول من طابعه المجرد إلى تصور لتحول واقعي ما، وهنا يتحول إلى سياسة، بمعنى أنه يتحول إلى تصور لواقع جديد، لهذا يؤسس لتشريع جديد يمس بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية، ليس مناقضاً بالضرورة، للتشريع القائم، لكنه يحمل جديداً ما (مثل فكرة التوحد/ الله، الملكية والعلاقات الاقتصادية عموماً، النظام السياسي، الأخلاق، المرأة ....)، وربما بكون مناقضاً له أيضاً. لكن الفكر أيضاً يتحول إلى آلية لتحقيق هذا التشريع. عملية التحول هذه توجد في الواقع وعيين، "الوعي الشعبي"، المتوافق مع الواقع، لكن المتمرد عليه، و"الوعي/ الحلم" المتوافق مع حالة التمرد هذه، لكن المتجاوز للوعي الذي يحمله "المتمردون"، ويتمظهر في وعي فئة قليلة (أقلية). وكما أشرت سابقاً فإن توافق "الوعي/ الحلم" مع حالة التمرد الناتجة بالأساس عن التناقض الطبقي القائم في بنية المجتمع، يفضي إلى تحول "الوعي/ الحلم" إلى واقع، حينما تعاد صياغة "الوعي الشعبي" استناداً إلى الفكر، عبر طرق شتى (النظام السياسي الجديد الذي يفرض تشريعات جديدة تلزم البشر وبالتالي تحقق تحولاً في ممارساتهم،  وبالتالي وعيهم، ونظام التعليم الذي يفرض هذا النظام) انطلاقاً من الأسس الفكرية التي يحملها، الجهاز الأيديولوجي مختلف الأشكال عبر التاريخ.
لكن إعادة الصياغة هذه لا تنتج الاندماج بين "الوعي الشعبي" و "الوعي/ الحلم" بالضرورة، بل تنتج وعياً يتوافق والتطور الواقعي ذاته، وبهذا يتقارب الوعيان بقدر التطور في بنية المجتمع، فإذا كان الفكر يعبر عن تصور "نقي" (خالص) لما يجب أن يكونه الواقع، فإنه "يتشوه" في الواقع ليبدو أحياناً صيغة كاريكاتورية له. فيعود الانفصال من جديد بين الفكر والوعي، ومن ثم يعود الفكر لفرض ذاته وهكذا يرافق ذلك هزات في بنية السلطة، إلى أن يتأسس "وعي جمعي" حيث يحدث التوافق النسبي بين الفكر والوعي. في فقرة سابقة تحدث عن "الوعي الجمعي" كتوافق بين الفكر والوعي في إطار المنظومة المثالية التي تحكمهما، لكنني هنا أتحدث عن التوافق في المفاهيم الأساسية التي ينتجها الفكر، و "الوعي الشعبي" حيث تغدو أساس تشكله، لكن هذه العملية تفضي إلى إعادة صياغة للفكر، تلفظ منه كل ما هو "وهمي" وبالتالي تحدث مطابقة أعلى بين الواقع والفكر، ومن ثم بين الواقع و"الوعي الشعبي" ليعود المعبر عن الواقع حسياً، وبالتالي المطابقة بين الواقع و"الوعي الجمعي" بمعنييه السابقي الذكر، ليستقل الفكر من جديد وفق  منطق جديد، أي لينتقل إلى صيغة أرقى.
لاحظنا ذلك مع الرأسمالية، حيث أنتج وجودها الموضوعي في بنية إقطاعية نشوء الفكر المعبر عن مصالحها، وكانت الفلسفة الحديثة، والفكر السياسي والاقتصادي الحديثين، الشكل الخالص لهذه المصالح، لكن عملية تحول هذا الفكر إلى "وعي جمعي" احتاجت إلى قرون، فلم تصبح العقلانية "وعياً جمعياً" سوى منذ قرن تقريباً، كذلك لم تصبح الديمقراطية والعلمانية جزءاً من النظام السياسي ومن "الوعي الشعبي" سوى منذ بداية القرن العشرين، ولقد طرد الفكر البورجوازي من "السلطة" منذ بداية تشكل السلطة البورجوازية، وأعادت الطبقة المسيطرة إنتاج وعي مهجن. لكن الفكر البرجوازي المنتج من جديد والذي سيطر أخيراً، كان قد لفظ كل أوهام البرجوازية في مرحلتها الطفولية، حيث حلت "اللاعقلانية" محل العقلانية، والاحتكار محل شعار "دعه يعمل" والديمقراطية المكرسة لاحتكار الطبقة البرجوازية محل الديمقراطية العامة ...إلخ. فقد أسست الطبقة المسيطرة فكرها المعبر حقيقة عن مصالحها، دون أحلام، أو "أوهام" وهذا الفكر هو الذي صاغ "الوعي الشعبي"، وإذا ما قورن هذا الفكر بالفكر البرجوازي "الأصلي" سيبدو أنه كاريكاتور عنه، حيث كان الفكر "الأصلي" يحوي أحلاماً إنسانية أوسع مما تحقق في الواقع.
ولأنه كان يحوي أحلاماً إنسانية أوسع مما تحقق في الواقع كان المهيئ لنشوء المادية، التي مثلت انتقالة هائلة لا في حمل الحلم الإنساني فقط، بل وفي زاوية النظر إلى الواقع، لهذا مثلت النفي الأيجابي، لا للمشروع البرجوازي فقط، بل وللمثالية عموماً، فقد استبدل الفكر البرجوازي مثالية بأخرى (ولا شك في أهمية هذا الإبدال)، لكن المادية نفت المثالية كزاوية نظر، وأسست لنشوء رؤية علمية للواقع، لكن سنلاحظ أنها تعرضت للمصير ذاته حينما تحولت إلى مشروع  سياسي منتصر. فقد أسس الفكر المادي لمشروع سياسي، تطابق ومصلحة فئات واسعة من الشعب، كانت تطمح في إطار ظروف الاضطهاد التي كانت تعيشها، كما انطلاقاً من وعيها القروسطي (المثالي من الدرجة الأولى ـ اللاهوتي ـ) لتحقيق مصالح متفاوتة الوضوح والغايات، لكنها في كل الأحوال كانت تسعى لتغيير واقعها، بما يحقق لها التقدم (متفاوت المعاني). وحالما انتصرت أزيح الفكر وظل المشروع، ثم أعيدت صياغة الفكر، فقد ذاب الفكر المادي في الوعي المثالي، فتكرست أولوية الفكر، لزاوية النظر، وأعيد إنتاج المفاهيم، انطلاقاً من ذلك. هذا هو نمط "الماركيسة السوفياتية" لكن أيضاً، أعيدت صياغة "الوعي الشعبي" ولأن العملية لما تنته بعد، فإن هذا الوعي لم يستقر، وبالتالي مازال للفكر المادي دوره، لأن التكوين الاقتصادي المتحقق لم يتطابق مع وعي ضروري لاستقراره، وبالتالي كان طبيعياً أن تحدث هزات، لكنها تهيئ لإنتاج وعي مطابق.
وكل ذلك يوضح أن الفكر يتحدد بحدود الواقع، وأن كل ما هو "وهمي" يلفظ في إطار الصيرورة الواقعية، لكن لا بد من أن أوضح أن الفكر يمكن أن يكون "وهمياً" وبالتالي يلفظ دون أن يؤثر في الواقع، لأنه في الأساس إجابة خاطئة عن مشكلات الواقع لا تضيف ما يسهم في فاعلية الصيرورة، كما أنه يمكن أن يكون "حلماً" أي إنه إجابة صحيحة على مشكلات الواقع، لكنه يحوي "أوهاماً" وهذه الأوهام هي ما يلفظ في إطار الصيرورة، وكذلك يمكن أن يكون "واقعياً"، أي إنه لا يفعل سوى إعادة إنتاج الواقع ذاته، وهو هنا فكر محافظ لأنه لا يفعل سوى أنه يقوم على أساس وقف الصيرورة، ولكل من هذه الأنماط أساسه الواقعي.
إذا كانت ثنائية الواقع/الفكر هي التي تحظى بالاهتمام، فقد حاولت أن أجعلها "ثلاثية" حيث أدخلت الوعي كعنصر ثالث، رغم أنه مستوى أدنى من الفكر، حيث أن الوجود المادي للبشر يفضي بتوسط العقل (التفكير) إلى نشوء الفكر، لكن هذا الوجود المادي أيضاً يفضي بطريقة حسية إلى نشوء الوعي، لكن الفكر المنتج يسهم في إعادة تشكيل الوعي، لينفي ذاته،وليتحول من منتوج عقلي إلى معطى حسي لينتج الوجود الواقعي الجديد، (الصيرورة الواقعية) فكراً جديداً، يسهم في إعادة تشكيل الوعي الجديد، وهكذا، وهنا نلحظ تحول الحسي إلى عقلي، ومن ثم العقلي إلى حسي، وهكذا في إطار صيرورة ارتقاء الوعي البشري.
 
 


3
يقول إنجلز: "إن مسألة علاقة الفكر بالكون، العقل بالطبيعة، لها جذرها بشكل لا يقل عن كل الأديان، في التصورات الجاهلية البدائية، الخاصة بحالة التوحش".[11] (24ص)، لكن هذا القول يحور بشكل أعتقد أنه فظ، فإنجلز يتحدث عن علاقة الفكر بالكون، العقل بالطبيعة، ليؤكد أنها سابقة على وجود الأديان، ويردها إلى العصور البدائية. لكن هذا النص يوضع في سياق البحث عن "نشوء وتطور اللحظة المادية والأخرى المثالية (الواقعية واللاواقعية) (24ص)، لهذا يطرح السؤال: أيهما تكون قبل، الميل المادي أم الميل المثالي؟ (33ص)، ليؤكد أن الميل المادي برز قبل الأخر، المثالي (ص33) لكن ما الميل المادي؟ في الإجابة عن هذا السؤال يكمن تحوير نص إنجلز، حيث ينطلق من تأكيد "أن الفكر الفلسفي المادي يستمد وجوده الأصلي من الموقف الطبيعي الذي يجد الإنسان نفسه مرغماً على أخذه تجاه العالم المادي المحيط، بالرغم من أن هذا الموقف بحد ذاته، لا يؤدي إلى تكوين فكر فلسفي متميز، بيد أن ذلك الموقف الطبيعي كان ولا يزال أحد الأسلحة الماضية في يد الفكر المادي ضد المثالية وضد "الغيبية" بكل أشكالها (ص34)، وأن الممارسة الإنتاجية المباشرة للإنسان ظلت تشكل دعامة أساسية وقوية للميل المادي (الواقعي)، بينما بقي الميل المثالي "انعكاساً وهمياً للعالم المادي" (ص35)، لهذا فقد كان"الميل الواقعي (المادي) أكثر أصالة وقدماً من الميل اللا واقعي (المثالي) في التاريخ الفكري الإنساني، وذلك باعتبار أن نشاطية الإنتاج للإنسان الاجتماعي تنفي، في الأصل كل انحراف لا واقعي، ومن طرف آخر باعتبار أن الدوافع والبواعث المباشرة لهذه النشاطية تمارس في دماغ الإنسان البدائي توجيهاً واقعياً" (38ص).
إنجلز يؤكد العلاقة بين الفكر والكون، العقل والطبيعة، لتصبح هذه هي المادية (أو الميل المادي)، بينما نتج كل الفكر (وإذا شئنا القول المادي والمثالي ) من تفكير البشر بالكون والطبيعة. لقد نشأ الفكر المثالي أصلاً نتيجة سعي البشر إلى وعي الكون والطبيعة، ونشأت الأسطورة من "عجز" البشر عن تفسير ظواهر الطبيعة، ونشأ الدين من "وعي" وجود قوة خارقة تفعل في الكون والطبيعة، كما نشأت الفلسفة من "وعي" وجود علة أولى تحكم الكون والطبيعة، وبالتالي لم يكن العقل البشري مفارقاً يوماً، الكون والطبيعة، بل ظل يبحث عن المكونات الواقعية للوجود البشري، وهذا البحث هو الذي أنتج الأسطورة والدين والفلسفة والعلم و "المثالية" و "المادية"، هذه الحقيقة هي ما حاول إنجلز تأكيده؛ لهذا أكد أن الفلسفة اليونانية حوت"البذور الأولى" لكل أساليب الرؤية اللاحقة، إن إيلاء أهمية " للممارسة الإنتاجية" للإنسان مسألة حاسمة في تشكل المادية، لكن هذه الأهمية تحددت في العصر الحديث فقط، حيث لم تكن تنظّر هذه المسألة سابقاً، ولم تعتبر أساس وجود البشر، ولا شك في أنها أفضت إلى وعي الإنسان لمقدرته على السيطرة على الطبيعة، ووعي المجتمع، لكن التراكم الذي أفضى إلى هذه النتيجة احتل ساحة التاريخ السابق للعصر الحديث، التراكم الخاص بالتطور العلمي التقني ومنه العلوم الطبيعية، والفكر (الفلسفي)، لتتبلور فكرة أسبقية الوجود المادي على الفكر، وأن الفكر هو انعكاس لهذا الوجود، وهي الفكرة التي أسست لنشوء الانقسام في الفكر إلى مادي ومثالي، حسب ما أوضحت سابقاً.
وإنجلز يشير إلى أن علاقة الفكر بالكون، العقل بالطبيعة لها جذورها في الأديان كما في التصورات البدائية، وحسب الماركسية فإن الأديان هي التعبير عن الوعي الوهمي للواقع، وبهذا استحقت بأن تكون مثالية، حتى وهي تحوي تشريعاً لتنظيم المجتمع وقوانين لضبط حركته، لأن كل هذا التناول "المادي" للوجود البشري، لا يعطي لها أية صفة مادية، لأنها منحكمة لتصور مثالي عام، وهنا أعيد التأكيد على فكرة أن البشر يسعون في كل الأحوال إلى حل مشكلاتهم الواقعية، إنهم لا يسعون إلى "التخيل" أو "التوهم" بل يسعون إلى وعي واقعهم، وبناء التصورات التي تساعدهم على تطويره، لكن ذلك لا يقود إلى الاستنتاج بأنهم ،وهم يسعون إلى وعي واقعهم وتطويره ينتجون فكراً مادياً، فهذا استنتاج تعسفي، شكلي، لا يعطي للتاريخ أية قيمة، ويسقط مفهوم التراكم إسقاطاً تعسفياً. لأن إنتاج الفكر المادي ارتبط بالتراكم الهائل المتحقق في مقدرة البشر على السيطرة على الطبيعة، بوعي كنهها، والتأثير فيها لتحويلها، وهذه لم تتحقق سوى في العصر الحديث (الأحدث/ الراهن). لأن هذه الانتقالة في السيطرة على الطبيعة وتحويلها هي التي أسست (هيأت وحضرت) لتجاوز فكرة القوة الخارقة المسيرة للطبيعة والمجتمع من خارجهما، وبالتالي إلى اعتبار أن وعي البشر (الفكر وضمنة فكرة الله والعلة الأولى والفكر) ما هو إلا نتاج واقعهم (وجودهم)، وبأن هذا الوجود له حركته الخاصة (الداخلية)، التي عني الفكر (وهنا الفكر المادي تحديداً) باكتشافها، كما عني ببناء التصورات المادية القادرة على التأثير فيها، بينما ظل الفكر المثالي يبحث عن العلة الأولى خارجهما، وإذا كانت فكرة الله مرحلة في تطور هذا الفكر فإن فكرة العلة الأولى مرحلة أخرى، وآخرها كانت بأن ألقى الفكر على ذاته هذه المهمة "لذا أعتبر هيغل القمة في الفكر المثالي، لأنه حدد بوضوح بأن الفكر هو الأساس والصانع، والخالق، وكانت هذه انتقالة مهمة في وعي البشر، لأنها نزعت الفعل من قوة فوق الفكر، لتجعلها في الفكر ذاته، وهي هنا اعترفت بدور البشر متجاوزين كل ما هو فوق البشر، لكن في صيغة مقلوبة، لأنها ظلت تنظر إلى الواقع (الوجود) عبر المرآة (التي هي العقل عند هيغل)، وبالتالي اعتبرت بأن معكوس الواقع (الوجود) في المرآة هو الحقيقة، أما الواقع الحقيقي (الوجود الحقيقي) فقد تبدى لها كصورة (كظلال) لهذا فإن دور ماركس في إيقاف هيغل على قديمه تمثل في التأكيد على الوجود الحقيقي، على الواقع، على البشر، وعلى نشاطهم الواقعي، أي على العمل والإنتاج والعلاقات الاقتصادية، والوجود الاجتماعي، والثروة، والطبقات، بالتالي على الفكر والدولة، ليصبح الوجود الحقيقي هو الأساس والصانع والخالق، والفكرة هي الصورة، التي تتكون عبر العقل. المادية هي هذه الأفكار، وهي لا تساوي الوجود الحقيقي، بل هي صورته كما انعكست في الذهن (العقل)، وبالتالي فإن الوجود الحقيقي لا يساوي المادية، التي هي صورة هذا الوجود الحقيقي، المادية تصوّر (رؤية) للوجود الحقيقي ينطلق من أولوية الوجود الحقيقي على الفكر لكنها في هذا تضم كل أشكال المادية (المادية المبتذلة، المادية الميكانيكية، المادية الجدلية)، وبالتالي تنطلق من أسبقية الوجود المادي على الفكر.
لكن يجب أن أوضح، خلافاً للأسس التي يقوم عليها تحوير نص إنجلز المشار إليه سابقاً، أن الوجود المادي لا يساوي المادية كفكرة، كما لا يساوي الفكر المثالية، فالمادية والمثالية مقولتان تقعان في مجال الفكر وبالتالي فإن أسبقية الوجود المادي، لا تعني على الإطلاق أسبقية المادية على المثالية، بل على العكس فإن تاريخ الفكر يوضح أن المثالية هي الأسبق في مجال الفكر، ولا يبدو ذلك غريباً، لأن البشر رسموا لواقعهم (لوجودهم) تصوراً وهمياً، نتيجة عجزهم عن وعيه، وهنا يعطى العمل كل أهميته في تحقيق التطور المادي والفكري. فبالعمل استطاع البشر السيطرة على الطبيعة، لأنه أوجد تراكماً من النشاط البشري أسهم في وعي كنه الطبيعة، وفي تحويلها، وكذلك في وعي العلاقات الرابطة بين البشر أنفسهم، وفي هذا تتحدد، أيضاً أسبقية الوجود الواقعي على الفكر، لأن نشاط البشر من أجل تأمين عيشهم، عبر العمل، يحقق تراكماً معرفياً في وعي الواقع، كما يحقق تحويلاً في الواقع ذاته، يسهمان في تحقيق تطور في الفكر، وبالتالي فإن الوجود الواقعي المتحول (الصيرورة) يفضي إلى تحول في الفكر. إن التراكم في الوجود الواقعي إذن يفضي إلى تراكم في الفكر أفضى أخيراً إلى تحقيق الانتقالة من المثالية إلى المادية لكنه أيضاً لم يفض إلى نفي المثالية، ولقد أشرت إلى الإشكالية التي نشأت نتيجة ذلك في فقرة سابقة، وبالتالي فالبشر، مازالوا في بداية الطريق لرسم تصور مادي للواقع، أنها عملية بدأت للتو.
إن تحوير إنجلز نبع من تشويه "مادوي" و "اقتصادوي" يتساوى فيه الوجود الواقعي، والمادية كتصور فكري، كما يتساوى فيه الفكر والمثالية، وبالتالي الفكر و (اللاواقعية). وانطلاقاً من هذا التساوي يؤسس التناقض بين "المادية" و "المثالية" في تاريخ الفكر النظري لتبدو المسألة كأنها تناقض بين الوجود الواقعي والفكر، بين "الممارسة الإنتاجية" و الوعي الذي يحكمها. بينما أسست "الممارسة الإنتاجية" لكل فكر (الأسطورة والدين والفلسفة)، بل إنها أسست في لحظة محددة من تطورها، المثالية في شتى صورها، ولم تتأسس المادية كتصور إلا حينما وصلت إلى مستوى محدد من تطورها، وأعني نشوء الصناعة كوسيلة إنتاج أساسية، وبالتالي لقد كانت الأسطورة، كما كان الدين، وكذلك الفلسفة القديمة، هي الوعي الذي حكم هذه "الممارسة الإنتاجية" في مراحل متتالية من تطورها، فلم يتوصل الوعي البشري إلى فكرة الله إلا نتيجة تفكيرهم بحياتهم الواقعية، ومنها "ممارستهم الإنتاجية" لقد فكروا بالزلازل والفيضانات والمطر والزرع، والليل والنهار والحياة والموت، وجود الماشية والشجر والماء والتراب، وهذه كلها ذات صلة بحياتهم وممارستهم الإنتاجية، وهي جزء من وجودهم الواقعي، لكنهم اعتقدوا أنها نتاج قوة خارقة؛ لأن كل هذه الأحداث أكبر من قدرتهم الواقعية، ومغلقة على وعيهم، هذه القوة الخارقة أسميت لدى الأديان: الله. والقرآن يعتبرها (وأكثر منها) الدلالة "الملموسة" على وجود الله، لهذا يكرر كلما أشار إلى بعضها العبارة "أفلا تعقلون" ، "أفلا تتقون" ليبدو الوجود الواقعي كأنه الصورة لحقيقة وجود الله ـ الصانع القادر، الفاعل... إلخ. وبالتالي لتبدو الفكرة كأنها صانعة الواقع، رغم أنها من صنع البشر. فهل نعتبر أن تلمس البشر لمشكلات واقعهم يمثل ميلاً "مادياً" متجاهلين كنه تفسيرهم لهذه المشكلات، الذي هو مثالي بجدارة؟
هنا تنشأ مشكلة تتمثل في التناقض بين "رصد" الواقع، و"تصوير" الواقع، وبين علة وجود هذا الواقع، أي التناقض بين الصورة التي تبدو للبشر فيما يتعلق بوجودهم الواقعي، (وهي صورة تقريرية) وبين الجوهر الذي يتشكل منه هذا الوجود. طبعاً نلاحظ حسب التحوير السابق أن الصورة بدت كميل مادي، والجوهر بدا كميل مثالي، وبالتالي غدا التناقض بين الصورة والجوهر، وفي كلا الحالين تنكشف فظاظة في تشويه المادية، لأن الصورة لا تعبر عن ميل مادي، وإلا كان وجود البشر دلالة على "ماديتهم". إن تأكيد وجود الزلازل والفيضانات والمطر والزرع … إلخ. لا يعبر عن ميل مادي على الإطلاق، بل يعبر عن تحديد ما هو موجود، المهم هنا هو تحديد كيف تحدث الزلازل والفيضانات، وكيف يسقط المطر وينبت الزرع … إلخ. وهنا يأتي دور العقل ومن ثم الفكر، هنا وـ هنا فقط ـ في تحديد الـ "كيف" هذه تتحدد المادية والمثالية، الأديان أعادتها إلى فعل الله الخارق، لكن العلوم الطبيعية حددت التفسير المادي لها، ذات الشيء يمكن أن نلمسه في المجتمع، إن تقرير وجود أغنياء وفقراء، ووجود تناقض بينهما، لا يعبر بالضرورة عن ميل مادي. فالأديان التي تقرر ذلك تعزوه إلى الله أيضاً، وبالتالي تعطيه طابعاً مقدساً لأنه نتاج الإرادة الإلهية، وفي هذا التفسير تكمن مثاليتها، أما المادية فتعزوه إلى مبدأ وجود الملكية الخاصة، التي تفضي بالضرورة إلى اللا مساواة.
المشكلة تتقوم إذن، في التفسير المعطى للوجود الحقيقي، وليس في تقرير هذا الوجود، إن تقرير الوجود الحقيقي لا يساوي المادية، وإلا أصبحت تصوراً مبتذلاً. المادية هي ، كما أشرت، إقرار بأولوية الوجود الحقيقي، وبتفسيره من داخله، وفق حركته الداخلية. والمادية والمثالية، تتحدان في التفسير هذا، لإن الفكر بالأساس هو هذا، أي إنه التفيسر لهذا الوجود الواقعي، أي للطبيعة والمجتمع، وبالتالي فإن الوجود الواقعي لا يعني وجود المادية كبديهية، وإلا لما كانت المثالية هي أساس كل الفكر السابق لنشوء المادية في العصر الحديث، واستمرار تمكنها رغماً عن هذا النشوء، نشوء المادية، احتاج إلى تراكم هائل في التطور الواقعي، وفي تطور الفكر المثالي. وترسيخها وسيادتها يحتاجان إلى تطور آخر في الواقع وفي الفكر معاً.
ولا شك في أن دراسة تاريخ الفكر النظري من زاوية المادية، تهدف إلى تحديد هذا التراكم، لكن ليس من زاوية البحث (التنكيش) عن الميول المادية في تاريخ الفكر. وربما كانت هذه مسألة مفيدة إذا عولجت من زاوية تحديد موقعها في إطار البنية المثالية للفكر، بل بالأساس من زاوية التراكم الهائل المتحقق في الفكر المثالي ذاته، لأن هذا التراكم هو الذي أفضى إلى تشوء المادية الحقة، أي الماركسية، ولقد أشرت إلى هذه المسألة في فقرة سابقة. لكن تحديد التراكم الذي أفضى إلي نشوء الماديات المختلفة، ارتبط أكثر ربما بتطور العلوم الطبيعية، التي أسهمت أيضاً في تطور الفكر المثالي، وتطورها، بلا شك ارتبط بتطور التقنية (وسائل الإنتاج) وبالتالي العمل وهنا تنكشف مسألة تتعلق بالعلاقة بين تطور العلوم الطبيعية، وتطور وسائل الإنتاج، أليس تطور وسائل الإنتاج مرتبط بتطور العلوم الطبيعية؟ إن تداخلاً يحدث هنا، حيث العمل وحده لا يفضي إلى تطوير وسائل الإنتاج، لهذا استمر المحراث اليدوي قروناً طويلة هو أداة الحرث الوحيدة، ولم يتحقق تجاوزه إلا بفعل التطور في العلوم الطبيعية أي بفعل دور العقل البشري وهكذا في كل أشكال التقنية، وربما كان هذا الدور للعقل البشري، هو أساس تبلور الفكرة حول أولوية دور الفكر المنتج من "العقل" في الفكر المثالي، لكن هذا الفكر تجاهل مسألتين: الأولى تتعلق بأولوية الوجود الواقعي، ومن ثم العمل، والثانية تتعلق بالعلاقة الدائرية بينهما، حيث يفضي العمل إلى نشوء الحاجة إلى تطوير التقنية ، وهذا ما تقوم به العلوم الطبيعية، في المستوى الذي يحدده العمل، ومن ثم يصبح التطور الجديد في التقنية جزءاً من العمل، ليفضي العمل إلى نشوء الحاجة من جديد إلى تطوير التقنية وهكذا، وبالتالي فإن تطور العلوم الطبيعية مرتبط مباشرة بالعمل فيكون العمل هو القاعدة/ الأساس، أما الفكر فيلحق تطوره تطور العلوم الطبيعية. لكن تحقيق انتقالات في الفكر لا تتحقق سوى بتحقيق تراكم معين في العلوم الطبيعية، وفي كل ذلك سنلمس ميولاً مادية، لكن المسألة الهامة هنا، هي تحديد البنية الفكرية التي تحضن هذه الميول، وكما قلت سابقاً فإن هذه الميول نتاج تناول الفكر (كامل الفكر) للطبيعة والمجتمع، لأن البشر يفكرون في واقعهم، وبالتالي فإنهم ينتجون "فكراً مادياً"، حتى وهم يغوصون في المثالية، لكن من الضروري التمييز الدقيق بين ما أسميته "التقرير" لما هو واقعي، وبين الأفكار المادية، فالفكر هو البحث عن العلاقات بين الأشياء، وهو ما أسميته سابقاً: التفسير، والتقرير هو الإقرار بالأشياء ذاتها.
كل فكر هو نتاج إعمال العقل في الواقع، وبالتالي فإن تناول الواقع ليس الدليل على مادية الفكر، بل إن تحديد مادية أو مثالية الفكر "ينبع من تحديد أولوية الواقع أو الفكر" وهاتان مسألتان يجب أن تكونا واضحتين، فالأديان تناولت الواقع (الطبيعة والمجتمع) كما أشرت سابقاً، لكنها مثالية (ومثالية مطلقة)، ومفكرو الرأسمالية، يبحثون في الواقع، ويضعون الحلول الواقعية، لكنهم حينما يحددون أساس الصيرورة يعيدونها إلى الفكر، وهنا تكمن مثاليتهم،  ولا شك في أننا سنجد "ميولاً مادية" في الأديان، كما في الفكر البرجوازي، لكنها ستكون كذلك حينما نضعها، نحن الماديين، في سياق مادي ، بينما هي جزء من تكوين مثالي (بنية مثالية)، لأنها الشكل الظاهري لهذا التكوين (ويمكن أن نقول الشكل العارض فيه)، وهذا ما يحاول بليخانوف توضيحه فيما يتعلق بهيغل، الذي ما كان يستطيع أن يتصور التاريخ إلا من وجهة نظر مثالية، "الذي" استخدم كل جبروت عبقريته والموارد العملاقة لجدليته كي يضفي طابعاً علمياً نوعاً ما على التصورالمثالي للتاريخ ، وكانت نتيجة المحاولة الإخفاق، لكنه "في كل مرة التجأ إلى الاقتصاد كان ينقذه من العثرات التي أوقعته مثاليته فيها"[12] و"عندما تبين أن المثالية سلاح عديم الجدوى والنفع"[13]. لكن ما ظل عند هيغل حدساً طارئاً عبقرياً بصورة أكثر أو أقل قد بات عند ماركس استقراء علمياً دقيقاً[14]. وهيغل كما نعرف يعيد جميع العوامل الفاعلة في الحياة الاجتماعية إلى الروح المطلق، ولقد حدد ماركس هذه المسألة على النحو التالي: "عند هيغل، إن حركة الفكر التي يشخصها تحت اسم الفكرة هي مبدعة الواقع، هذا الواقع الذي لا يعدو كونه الشكل الظاهري للفكرة، وعندي، على العكس، إن حركة الفكر ليست سوى انعكاس الحركة الحقيقية، المنقولة إلى دماغ الإنسان والمترجمة فيه".[15] وإذا كان هيغل مبلور الشكل الأرقى للجدل، وإذا كان قد لجأ إلى التحليل الاقتصادي لينقذ تحليله المثالي من المآزق الذي كانت المثالية تقوده إليها، فإن الجدل كما التحليل الاقتصادي ظلا مثاليين، ولم يسجل له أية ميول مادية، رغم أن الجدل كما التحليل الاقتصادي كانا مرتكز ماركس في تأسيس الجدل المادي، والرؤية المادية للتاريخ، ولقد فهم الجدل، كما فهم التحليل الاقتصادي كأساس للتصور المادي، فقط، حينما بلور ماركس تصوره المادي. ولقد غدت كذلك في تصور ماركس وليس في تصور هيغل الذي ظل مبلور التصور المثالي الأرقى، وممثله دون منازع؛ لأن هذه "الميول المادية" ظلت "الشكل الظاهري للفكرة" حسب نص ماركس السابق الذكر، وبالتالي فلدى هيغل إن "الميول المادية" هي الشكل الظاهري للفكرة، لأن الواقع هو الشكل الطارئ، وهنا تكمن فعالية هذه "الميول المادية"، لذا فهي لا تعتبر "ميولاً مادية" ضمن بنية الفكر المثالي الهيغلي، ولقد غدت مادية حينما أكد ماركس أنها الأساس، حينما أعاد الفكر لموقعه الحقيقي كانعكاس لحركة الواقع، وصاغ في ضوء ذلك تصوره المادي. إن الاستعانة بالاقتصاد وبالواقع لا تعبر إذن عن ميل مادي في الفكر، ما دام الفكر مثالياً، ويصبح الفكر مادياً حينما ينطلق من أولوية الواقع وأساسيته فقط.
إن البحث عن "الميول المادية" في تاريخ الفكر، يجب ألا يلغي مثالية ذلك الفكر ولا مثالية رموزه فقد تطور الفكر في إطار المثالية، وظل ممثلوه مثاليين، وبالتالي يجب أن يهدف إلى تحديد التراكمات التي أفضت إلى المادية، في إطار الفكر المثالي ذاته، داخل الفكر المثالي ذاته، مع التأكيد أن هذه "الميول المادية" كانت مثالية داخل هذا الفكر، ولم تعرف كـ "ميول مادية" إلا بعد تبلور المادية مع ماركس. وهذا التحديد يلغي مسألة التناقض بين "المادية" و "المثالية" في تاريخ الفكر، ليسمح لنا بالقول إن "التناقض نشأ بين مثالية ومثالية، وكان جوهره تحديد القيمة المعطاة للعقل البشري (الدين والفلسفة وصراع العقل والنص، العلة الأولى في الفكر، والله في الدين، وبين الرأي و الحديث والعقل والنقل في الدين). فالواقع الحقيقي وفق هذا الفكر ليس سوى الشكل الظاهري له، وهو الدلالة على وجود الله وفعله في الأديان، لتندرج التصورات حول هذا الواقع الحقيقي في هذا الفكر، وتضمن هذا السياق. لهذا فإن البحث (التنكيش) عن "الميول المادية" في تاريخ الفكر وفق الطريقة السائدة، يؤسس لمادية مبتذلة تحمل الأفكار أكثر مما تحتمل، وتتوهم صراعاً لم يحدث، لأنها تنطلق في الأساس من تصورات حول الواقع والاقتصاد و"النشاط الإنتاجي" يعبر عن ابتذال للمادية، وينحو منحى اقتصادياً مبتذلاً (اقتصادوياً) يساوي بين المادة والفكر، الواقع والفكر. إن تبلور المادية حديثاً، أفضى إلى نشوء اتجاه مادي مبتذل يسعى إلى تأويل بعض الأفكار والميول في تاريخ الفكر بهدف تأكيد قِدَم المادية، بينما يكمن الهدف في زاوية الرؤية المادية، في تحديد التراكمات التي أفضت إلى تحقيق الانتقالة النوعية، بنشوء المادية الحديثة. ولهذه التراكمات منحيان، الأول: هو التراكمات في الفكر المثالي التي أفضت إلى تبلوره في شكله المكتمل مع هيغل، والثاني: هو التراكمات في الميول (إذا جاز القول) المادية التي نشأت كجزء عضوي في الفكر المثالي، والتي هيأت لتبلور الشكل المكتمل للمادية الحديثة. ولا شك في أن النزوع إلى "تضخيم" الميول المادية في تاريخ الفكر، نبع من "ضعف" المادية الحديثة، في صراعها مع المثالية؛ إن حداثتها فرضت ربما هذا التضخيم من وجود ودور المادية في تاريخ الفكر، مما دفع بعض الماديين إلى الاستناد إلى التاريخ في مواجهتهم للمثالية، بدل الاستناد إلى قوة المادية كمنطق ورؤية، وبدل الاستناد إلى تطور العلوم الطبيعية، وبذلك فقط أضعفوا المادية بدل أن يعززوا من قوتها، لأنهم أسسوا مادية مبتذلة، اختلطت مفاهيمها وتفكك منطقها وتشوهت مقولاتها، لأن قوة المادية الحديثة لا تتأتى من تاريخيتها، فهذه تاريخية مشكوك فيها، بل من "اشتقاقها" من، واستنادها إلى التطور العلمي الهائل الذي تحقق في العصر الحديث،كما من انطلاقها من الفلسفة المثالية في قمة نضوجها، وبالتالي تبلورها كرؤية علمية، لأول مرة في تاريخ الفكر النظري، ولهذا أكد ماركس أنه يسعى لتدمير الفلسفة هادفاً إلى تأسيس العلم النظري.[16] قوة المادية، إذن لا تنبع من تاريخها، بل تنبع من دورها النظري وفعلها الواقعي في الوقت الراهن، وبالتالي فإن الدفاع عن المادية بهذه الطريقة يظهرها كمادية مبتذلة ويقدمها بشكل كاريكاتوري، فيضعفها من حيث يسعى لتبيان قوتها؛ لأنه يجعلها تنحو منحى غير مادي على الإطلاق، ويجردها من قوة منطقها.
 


الفصل الثاني
4
سنلاحظ هذه المسألة في ثلاث مستويات، الأول: تدمير المعنى المادي للمادية، ليصبح استخدام كلمة "مادة" يعنى المادية، واستتباعاً مطابقة المادية والعالم المادي (الفكر والواقع). والثاني: تحويل تاريخ الفكر، إلى تاريخ للتضاد: مادي/ غيبي (نصي)، وبالتالي العجز عن رؤية انتقالة هامة، تتحقق فيه، وهي تحويل "الفاعل الأول" من الله (الميتافيزيقا) إلى العقل، وهي انتقالة تحققت في إطار الفلسفة المثالية ذاتها. هذا العجز أفضى إلى المطابقة بين المادية والعقلانية، لتصبح كل المفاهيم الفلسفية العقلانية مفاهيم مادية (التجريد، الجدل، العقل، علاقة الجزء بالكل، الخاص بالعام، الزمان والحركة، القانونية الذاتية للعالم، السببية ....). وحتى الفلسفة ذاتها تصبح مادية وهنا تبدو المصادرة على تاريخ الفكر لمصلحة المادية. وكذلك العجز عن رؤية الفارق بين هذه القوانين كجزء من بنية مثالية، وبينها حينما تصبح جزءاً من بينة مادية. والثالث: الوصول، بالتالي إلى نتيجة هي: اعتبار المادية تعبيراً عن نشوء بورجوازية مبكرة، وهنا "يكتمل" الخلط بين المادية والمثالية، ويتوضح العجز عن تحديد التعبير الطبقي للطبقات. في هذه المستويات الثلاتة نكتشف أننا أمام العقلانية، وليس أمام المادية، أمام الفلسفة المثالية، وليس أمام الرؤية المادية، وضد "الغيبية" و "النصية" وليس ضد المثالية وبالتالي أمام فكر عقلاني يواجه الدين، أمام برجوازية ناهضة، تسعى لتأسيس تصور عقلاني. لا تكمن أهمية هذه المسألة في أنها تكشف عن الأساس النظري لأزمة الاتجاهات المادية (الماركسية) عندنا، حيث ارتبطت مواجهة الإقطاع، بنشوء القناعة الراسخة بالدور الثوري للبرجوازية، و مواجهة أيديولوجيا نصية مهلهلة، بالدفاع الحماسي عن العقلانية، لكن، ونتيجة أزمة البرجوازية الموجودة بالفعل، وتشوه الفكر البرجوازي ـ أدخل "لفظ" المادية (الماركسية) كحل (جذري) لهذا التناقض: بين الحلم البرجوازي والواقع البرجوازي.
لهذا كان من الطبيعي أن تفهم المادية ضمن حدود العقلانية البرجوازية، وبالتالي ففي الوقت الذي يجري فيه "التكويش" على تاريخ الفكر لمصلحة المادية، كانت تجرد المادية من كل منطقها لمصلحة العقلانية، لكن ليس دون إحداث تشويش فيها. لتصبح المادية هي العقلانية مشوشة، بالتالي أيضاً يتحقق تدمير المادية، ولا شك في أن أزمة التقدم البورجوازي كانت الأساس لنشوء هذا النمط من الفكر، حيث بدت المادية (الماركسية) الخيار الممكن للتقدم. في وضع بدا فيه الخيار الرأسمالي مستحيلاً، مما دفع الفئات الوسطى ذات الحلم الرأسمالي إلى إنتاج فكر يحمل من حيث الشكل طابعاً مادياً، لكنه يعبر في جوهره عن حلم تحقيق الرأسمالية، وكان خلط المادية بالمثالية، لمصلحة الأخيرة، هو "نفي النفي" لهما، لكنه نفي للنفي شكلي، لأنه يحمل من المادية شكلها (كلماتها فقط) ومن المثالية جوهرها (أفكارها) لهذا نلاحظ تكرار الربط بين المادي والعقلاني (الصفحات: 355 ،357، 358، 362، 373) ولا شك في أن المادية عقلانية لكن عقلانيتها تتضمن في ماديتها، ولهذا فهي مادية. وبالتالي فإن هذا الربط بين المادي و العقلاني، هو "نفي النفي" ذاك، حيث تبدو العقلانية كنفي للمادية،  ولتنقلب المادية مثالية، وهنا نلحظ بأن المادية تطرح في قالب مثالي، وهذا هو شكل تدميرها. إن الانتقالة الهامة التي حققها ماركس، حينما أوقف هيغل على قدميه، تلقى في سلة المهملات، ليبدو دوره هامشياً، حيث نلحظ تبلور كل المفاهيم المادية قبل ماركس بكثير، في النضال ضد الغيبية والنصية، مع نشوء "بورجوازية مبكرة" إن ماركس يشطب، إذن واكتشافه الأساسي يبدو هزيلاً، مقابل الاكتشافات المادية منذ أرسطو، ومروراً بابن رشد، وسبينوزا (ص 372) ثم كانت (kant) (ص378)، هذه الاكتشافات "الفذة" و "الضخمة" حيث يبدو كل الفكر البرجوازي الحديث كفكر مادي (387ص). أستنتج هنا أن هذه التوليفة الفكرية هدفت سواء بوعي أو بغيره (وأعتقد بالثانية) إلى تهميش ماركس، تحويله إلى "واحد" من "كثير" مع حرمانه من الأسبقية، وبالتالي تجاهل الانتقالة التي حققها، التي تمثلت بالضبط في تحديد أولوية المادة على الفكر، الواقع على الفكر، أما في منظومته فقد استفاد من كل التراث الفلسفي المثالي، خصوصاً كما تبلور مع هيغل، وأعاد تأسيسه وفق تلك الأولوية، وهذا التهميش يطابق شكلية المادية، في ما أسميته "نفي النفي" الشكلي. إن المادية هنا هي العقلانية البرجوازية، وماركس محلق بها ليس إلا.
في التأريخ للفكر نلحظ، إذن، تجاهل انتقالتين هامتين، الأولى: الميتافيزيقا والمثالية الفيزيقية، التي أرخ لها نشوء الفكر البرجوازي (الفلسفة المثالية) والثانية: المادية والمثالية، التي أرخ لها نشوء الماركسية، كما نلحظ الخلط في تحديد وضعية فلاسفة مثل أرسطو، ولكن بشكل أوضح أبن رشد، الذي مثل قمة النضج في الفكر الإقطاعي والذي أعطى الحدود القصوى لهذا الفكر، وتحديداً في تأكيده قيمة العقل، دون أن يسقط قيمة الدين، لهذا اعتبر أن للحقيقة طريقين: العقل والدين، (فصل المقال)[17] رافعاً العقل إلى مستوى "الفاعل الأول" أي الله، دون أن يلغي هذا "الفاعل". هذا التبلور في الفكر الإقطاعي، هو الذي أسس لتشكل الفكر العقلاني الحديث (الفلسفة المثالية)، حيث أسقط الله لمصلحة العقل، وأخرج من المنظومة الفلسفية المثالية، ليحل الفكر محله "كفاعل أول" وليؤسس ذلك لـ "تحويل" جديد تمثل في اعتبار المادة/ الواقع هي "الفاعل الأول"، وما الفكر سوى انعكاس له. إذن تكمن قيمة ابن رشد في أنه أكد أن الفلسفة والدين كليهما يعبران عن حقيقة واحدة، ولكن عبر طريقين. لقد عبرت هذه النتيجة عن الحد الأقصى في التراكم الكمي، الذي أفضى، عبر المدرسة الرشدية في أوروبا، إلى تحقيق التغيير النوعي، ونشوء الفلسفة المثالية الحديثة، التي انطلقت من أولوية الفكر "كفاعل أول" لهذا استحقت اسم "العقلانية المثالية". لقد اختزلت هذه الرؤية تاريخ الفكر إلى التناقض بين المادية والمثالية، المادية التي تشأت مع بواكير الفلسفة اليونانية، وتطورت مع أرسطو، الذي تأرجح بين المادية والمثالية (ص 98) لكنه مثل في بعض المسائل "فكراً مادياً جدلياً، (ص105) وتأرجح بين مواقع مختلفة، إلا أنه اقترب في الوقت من مواقع المادية (ص 108)، واتخذ في معظم المسائل التي طرحها موقفاً مثالياً ميتافيزيقياً على وجه العموم. (ص112) ومن ثم فإن مذهبه "يحوي تمزقاُ وانشطاراً أساسياً إلى المادية والمثالية، وإلى الجدلية والميتافيزيقية، (ص122) واستمرت المادية في التطور مع ابن سينا وابن باجة وابن طفيل (ص 357) وكانت "قمة الفكر المادي العقلاني الوسيط" مع ابن رشد (ص355) "المفكر المادي العملاق" (378) الذي "طرح الفكر المادي في وحدة عميقة مع الفكر الجدلي، فأثر بذلك على مجموعة كبيرة من المفكرين الأوروبيين في العصر الحديث، (ص 387). والمثالية التي نشأت آنذاك، واتخذت مع أفلاطون صبغة "مثالية ميتافيزيقية" (ص361) وفي  عصر ابن رشد صبغة ايديولوجية "غيبية تبريرية" (ص371) و "ذهنية ميتافيزيقية (غيبية)" (ص373) وتصور غيبي أسطوري (ص 375) وتصورات دينية (ص 378) وتصورات دينية نصية (ص382) لهذا تتحدد المرحلة التاريخية لـ"المادية الفلسفية" في مرحلتها الرشدية، في "عملية ذات شقين مرتبطين ببعضهما عضوياً، هما الانفصال عن التصور الغيبي الديني للعالم، ومن طرف آخر التأكيد على الوجود المادي للعالم وعلى أنه، كما سيقول سبينوزا فيما بعد، سبب ذاته. (ص372) وهذا يفتح باب الاستنتاج بأن التناقض بين المادية والمثالية، هو بالتحديد التناقض بين "المادية الفلسفية" والدين، المادية والميتافيزيقا (رغم أن رد الدكتور طيب يقابل الميتافيزيقا بالجدل، وليس بالمادية (ص 122)، لكن مع التوضيح بأنه يساوي الجدل بالمادية، ليستتبع ذلك الاستنتاج الآخر وهو أن هزيمة "التصور الغيبي الديني للعالم" منذ ابن رشد ربما، ولكن بالأساس مع الفكر الأوروبي الحديث، أكدت انتصار "المادية الفلسفية"؛ لهذا ترد أسماء سبينوزا وكانت (kant)، ضمن هذا السياق وكذلك يتحدد تبلورالمرحلة الرشدية، في "المادية الفلسفية" باشرئباب" عنق "العلاقات البورجوازية المبكرة" (ص 124) لقد تلاشت ثنائية العالم الإله،إذن، وتكرس مبدأ "وحدة الوجود" (ص378) وأخذت الفلسفة تبحث في "العالم المادي" وبالتالي التغت ثنائية: مادي/ غيبي لمصلحة المادية وبهذا كان الفكر الأوروبي، حسب ما يقتضيه الاستنتاج في طابعه العام، مادياً. في هذا التحديد لتاريخ الفكر مثل ماركس إضافة "كمية" في إطار "المادية الفلسفية" فانتفت قيمته الحقيقية، أسقطت "الكيفية" التي أضافها. ويتضح ذلك من خلال تشوش مفاهيم مادة/واقع ومثال/فكر واختلال العلاقة بينهما، فالأولوية للمادة/ الواقع، لم تعد تعني المادة والواقع وفق منظومة ماركس، بل غدت ملتبسة سواء بإقحام "المادة" بمعناها "الطبيعي" أو وهي تحمل معنى مثالياً، وسواء بتحديد لمعنى المثالية، يقصرها على الميتافيزيقا، وتحديداُ الدين، لتصبح الأولوية لا معنى لها، لأنها تغدو أولوية فكرة على فكرة: مفهوم المادة على مفهوم الفاعل الأول ومفهوم العالم على مفهوم الله، (إله ـ  مادة و إله ـ عالم مادي" (ص 374). لهذا أكدت اختلاط المادية بالمثالية، لكن في إطار بنية مثالية. وسوف يتوضح ذلك حين دراسة مفهوم "المادية والعالم المادي" لدى أرسطو وابن رشد، والمسألة هنا لا تتعلق بأن ماركس أضاف في تاريخ الفكر إضافة "كمية" فقط، بل إنها تتعلق بتهشيم تاريخ الفكر، بالاستناد إلى مفاهيم ملتبسة، مختلطة، ومشوهة. ولقد أشرت إلى تغييب إنتقالتين هامتين في تطور الفكر النظري، وهو ما سوف أشير إليه لاحقاً أيضاً، كما أشرت إلى التباس المفاهيم، وهو ما سوف أناقشه تالياً. إذن المسألة تتعلق بـ "ضبط" المفاهيم (ضبط المنهجية) أولاً، كما تتعلق بتاريخ الفكر النظري ثانياُ، وبتعبير الفكر النظري عن الطبقات ثالثاً.
بالنسبة لي، وأعتقد أنه الرأي السائد في الدراسات العلمية لتاريخ الفكر النظري، فإن أرسطو ميتافيزيقي، وليس مثالياُ فقط، لأن منظومته ظلت تنحكم إلى فعل فوق الطبيعة (فوق البشر)، لهذا فهو يؤكد أن كل شيء في الوجود خاضع "لغائية مطلقة، بدءاً من المادة اللا متعينة، وانتهاء بصورة الصور التي هي الإله، وأن هذه الأشكال الوجودية لا تجد ينبوعها الأول إلا في الإله المحرك الذي لا يتحرك، والإله هو "صورة الصور" (ص 113) وهو الجوهر الذي يتحدد من خلاله كل شيء آخر، بينما هو نفسه لا يتحدد من خلال شيء آخر، (ص153، 154) إنه يؤكد وجود "عقل أولي خالد يحرك ولا يتحرك، ومجرد عن المادة، أي مفارق لها، وهو بذلك فاعل. وكما يضيف د. طيب: إن ارسطو أكسب العقل "طابعاً لا إنسانياً" وهو المسمى "العقل الفعال" (ص124) أن معنى كلمة "ميتافيزيقا" هو ما بعد الطبيعة، لكن معناها المقصود في الإطار الفلسفي حسب ما أعتقد، هو "ما فوق الطبيعة، القوة غير الطبيعية أي التي ليست من العالم المادي، والتي تحدد الفعل في الطبيعة، لهذا فإن "صورة الصور ـ الإله" هي الفاعل الأول، والمحرك الأول، وتجسيداها "الصورة" وهي التي توجد الشيء، حيث الصورة تطبع المادة أي تمنحها (مقومات) وجودها الحقيقي. (ما بعد الطبيعة ص 177، د. طيب ص 106) من هذا المنطلق تصبح مهمة الفلسفة التي هي "العلم الأول" (ص 118) البحث في "الوجود المطلق" وهي العلم الوحيد الذي يوصل إلى الحقيقة المطلقة المحضة، عن ذلك الوجود الخالد واللامتحرك بغض النظر عن كل تعرض للـ (حسي) و(العياني) (ص 119) وهذه هي طبيعة ومهمة الفلسفة ما قبل حديثة، وهو ما نلاحظه لدى ابن رشد أيضاً مع الأخذ بعين الاعتبار كل التطويرات التي أحدثها في منطق أرسطو ومنظومته، والتي شكلت تقدماً مهماً ولا شك.
وابن رشد أيضاً، ميتافيزيقي وليس مثالياُ فقط، وهو الذي انطلق من منطق أرسطو ومنظومته، فإنه لم يستطع كسرهما، وإن كان قد طورهما إلى الحدود القصوى؛ فهو ينطلق من مفاهيم "الفاعل الأول" (ص368) و "المحرك الأول" (ص 370) و "العلة والمعلول" (ص370) ويقول، وهو يؤكد على قدم العالم، إن العالم مواز في وجوده القديم لوجود الإله، لارتباط العلة بالمعلول، هذا من حيث أن العالم كل واحد، وليس أجزاء (ص 372) ويؤكد "أن صدور الحادث (العالم المادي) عن القديم الأول، لا بما هو حادث، بل بما هو أزلي، من جهة أنه أزلي بالجنس حادث بالأجزاء ("تهافت التهافت" ص 131 ، د.طيب ص 372) ويقول: إن المسبب (العالم المادي) يشترط، لكي يوجد وجود السبب (الإله)، كما أن السبب لا يوجد من طرفه، إلا إذا وجود المسبب، (ص374)، ويصوغ هذه المسألة بشكل آخر حين يقول: إن ارتباط الإله بالعالم المادي هو ارتباط بين علة ومعلول، معلول وعلة، مع أن "الفاعل ينفصل عن المفعول باتفاق" (تهافت  ص255) ويتحدد دور الفاعل الأول في حركة (أو كما يسميها أيضاً إخراج) الإمكان باتجاه التحقق."إن الفاعل… ليس هو جامع بين شيئين بالحقيقة، وإنما هو مخرج ما بالقوة إلى الفعل" (تفسير ما بعد الطبيعة ص 499، د.طيب ص 377)، والفاعل عند الفلاسفة "ليس يفعل الصورة ولا الهيولي، وإنما يفعل من الهيولى والصورة المركب بينهما جميعاً"(تهافت ص390)، ( د. طيب ص377)، نلحظ، بالتالي فاعلاً مفارقاً، قوة فوق الطبيعة "تصنع" الطبيعة، وإذا كان ابن رشد قد "عقلن" دور هذا الفاعل، فهو لم ينفه، وهذه هي المسألة المحددة لطابع فلسفته، وبالتالي فإن كل تطويره للفلسفة، لم يتعد حدود الميتافيزيقا، لكن هذا التطوير أسس لنفي الميتافيزيقا في فترة لاحقة. ولا شك في أن إعلاءه من شأن العقل، وتفسيره العقلاني لطبيعة الإله، ولدوره، هو الذي أسهم في تحقيق هذا النفي، لكن في فترة لاحقة، حيث استنبط من منظومته، ما ينفي جوهرها الميتافيزيقي وهذا ما يمكن فعله لمن أراد أن يصل إلى استنتاجات جديدة، انطلاقاً من هذه المنظومة، لكنها استنتاجات لم يتوصل إليها ابن رشد وهو ما يعنينا حين نحدد طبيعة فلسفته، لأن منهجيته لم تكن تسمح بها، وبالتالي أصبح ذلك ممكناً  نتيجة التطور المنهجي اللاحق.
وإذا كانت فكرة "صورة الصورـ الإله" لدى أرسطو تؤسس فلسفياً، لفكرة الله الدينية، فإن توسع دور الدين، قد دفع ابن رشد إلى التأكيد بأن للحقيقة المطلقة (الفاعل الأول ـ الله) طريقين: الحكمة (الفلسفة ـ العقل) والشريعة (الدين ـ النص)، وهو هنا يعيد ترتيب العلاقة بينهما، بعدما اختلت لمصلحة نفي الفلسفة وبالتالي نفي العقل (الغزالي).  بحيث أكد على التوازي بينهما، وبالتالي عدم التضاد بينهما، فقد كتب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال" وهو هنا يؤكد الطابع الميتافيزيقي لفلسفته، رغم أنه طور في المنطق وفي رؤية المادة، و"العالم المادي" ودور "الفاعل الأول ـ الإله". وما يقدمه د.طيب في هذا المجال، هو هذا التطوير ضمن البنية الميتافيزيقية ذاتها، ولم يصل إلى حد كسرها، لأنها ظلت تدور في إطار "الفاعل الأول ـ الإله، والله الديني" ولكن هذا التطوير كان يهيئ لكسر هذه البنية، كان يضع الأسس لكسرها، وهو ما تحقق في أوربا، حيث أسقط "الفاعل الأول ـ الإله، والله الديني" لمصلحة العقل ذاته، ولمصلحة الفكر الذي ينتجه هذا العقل. لهذا أصبح "الفاعل الأول ـ ليس الإله، ولا الله الديني بل العقل/ الفكر ذاته". هنا هبطت الفلسفة من ما فوق الطبيعة إلى الطبيعة، من ما فوق الإنسان إلى الإنسان ذاته، وبالتالي لم تعد العلاقة هي العلاقة بين "إله ـ عالم" و "إله ـ مادة" بل أصبحت علاقة بين "فكر ـ عالم" و "فكر ـ مادة"، بإعطاء الأولوية للفكر. إذن في الفلسفة الأوروبية سقط "الإله ـ الله" لمصلحة " العقل ـ الفكر" وبهذا سميت هذه الفلسفة فلسفة عقلانية، لقد تحققت الانتقالة، بالتالي، بإسقاط دور "الإله ـ الله" وهو ما لم يكن ابن رشد قد توصل إليه على الإطلاق، رغم تقليصه لدور الإله، وتحديده في "إخراج" ما بالإمكان إلى التحقق (ص377)، حين يقول: "فإن الفاعل قد تقدم من قولنا أنه ليس يصدر عنه شيء إلا إخراج ما بالقوة إلى الفعل" (تفيسر ما بعد الطبيعة م 3 ص 1652) ( د. طيب ص377). ولا شك في أن هذا "التقليص كان "تقدماً مهماً، لأنه أعطى العقل (والعقل تحديداً) دوراً أكثر أهمية مما كان في إطار الفلسفة القديمة، لهذا نراه ينطلق من أن العقل هو "المعيار الحاسم" (فصل المقال ص7)، ( د. طيب ص364)، ويوضح "الصحيح عندهم (الفلاسفة) أنه الأول لا يعقل من ذاته إلا ذاته، لا أمراً مضافاً، وهو كونه مبدأ، لكن ذاته عندهم هي جميع العقول، بل جميع الموجودات" (تهافت التهافت جـ2 ص 334، ص 376) ( د. طيب ص382).
لكن كل ذاك لم يلغ، كما هو واضح دور الأول (الفاعل الأول ـ الإله)، لأنه يفعل من الهيولى والصورة المركب بينهما، ويخرج ما بالقوة إلى الفعل، "والإله يتحول على هذا الطريق (طريق كون العالم أشبه بالمدينة الواحدة، التي تحتوي التمايز)، إلى (قوى) أو (عقل) العالم الساري في هذا العالم الممسك به، ويكمل أنه على هذا يصح القول: "إن الله خالق كل شيء وممسكه وحافظه"، (تهافت التهافت ق1 ص374 و ص 376)، ثم يضيف "أنه لا بد أن تكون ها هنا قوة روحانية سارية في جميع أجزاء العالم لها (نفس المصدر جـ2 ص 639) (د. طيب ص 381)، إنه يتحدث هنا عن تجسيدات الإله في العالم "المادي" المتمثلة في العقل، لكنه لا يلغي الإله على الإطلاق، ولهذا فإن خطلاً يطال الفهم بأن تأثير الإله يتلاشى، أو يصبح ظاهرياً، "حين يدور الحديث عن (قدم) وخلود المادة والصورة، وعن عملية صيرورتهما بالعلاقة مع (العدم)" (ص380ـ 381) لأنه يقوم على قلب لمنطق ابن رشد، لا يحتمله، فالعلاقة "إله / مادة أسبق أنطولوجياً، وأعلى في التجريد منطقياً من العلاقة "إله ـ عالم"، لإن تحول "المادة" إلى العالم يتحقق بفعل الإله، لهذا يكون العالم "معلولاً للإله (العلة) ويكون الإله يخرج ما بالقوة إلى التحقق، (ص380). وهذا ما نلاحظه في العلاقة بين المادة والصورة والشيء، فالمادة والصورة حسب ابن رشد "وجودهما الذاتي ليس ملحقاً بفعل الإله، ولا بفعل شيء آخر خارج عنهما"، (ص377) لم يوجدا بفعل إله، بل وجدا مع الإله، وابن رشد هنا يرفض "الخلق من عدم" ويؤكد قدم العالم، الذي هو غيرمخلوق (ص369)، وهذه نتيجة مهمة، عبرت ولا شك عن تطور كبير في الفكر، لكن المادة هي "الموضوع الذي ليس فيه شيء من الفعل أصلاً" (تلخيص كتاب النفس ص84) (د. طيب ص383)، وهي الهيولى، إي المادة اللامتعينة، حسب أرسطو (ص110)، والمادة "إذا كانت شيئاً ما بالفعل، فهي ضرورة، إما جسم وإما نفس، وإما عقل" (تلخيص كتاب النفس ص 84) (د. طيب ص383)، هذا التحول من المادة إلى الهيولى (الذي يسميه ابن رشد الوجود بالقوة، ويعتبرها في هذا الإطار جوهراً (تفسير ما بعد الطبيعة م2ص1035) (د. طيب 384)، إلى الشيء العقل، وهنا تكمن أهمية أسبقية علاقة (إله ـ مادة) على (إله ـ عالم) يتحقق من قبل الفاعل الأول، الإله، فـ "الفاعل بالحقيقة عند الفلاسفة… ليس يفعل الصورة، ولا الهيولى، وإنما يفعل من الهيولى والصورة المركب منهما جميعاً" (تهافت ق1ص390) ( د. طيب ص377)، وهو هنا يصنع العالم، الذي هو"إما جسم وإما نفس وإما عقل" وبالتالي فلا وجود للعالم دون الفاعل الأول، بعكس الهيولى والصورة. وإذا كان ابن رشد يقرر "أنه لا يمكن أن يكون شيء ممكن لا يخرج إلى الفعل أبداً" (تفسير ما بعد الطبيعة ص114) (د. طيب ص377) وأن "كل شيء يتكون ويصير شيئاً فليس يمكن ذلك فيه إلا أن يكون له بالطبع شيء من الذي هو موجود بالآخر" (تفسير م2 ص 1185) (د. طيب ص379)، فإن هذه النقطة لا تبرز ابن رشد "مفكراً مادياً عملاقاً" (378). لأنها لا يمكن أن تفهم إلا ضمن منظومته ذاتها، التي قررت بأن هذه الإمكانية وتلك الصيرورة، مرتبطتان لا بفعل ذاتي للمادة (والصورة)، بل بفعل الإله كما لاحظنا أعلاه. ولكن يمكن القول بأن هذه النتيجة، هيأت لنفي دور الإله في الفلسفة اللاحقة، وأيضاً لا يمكن وصفها بالمادية، حتى حينما ألغي دور الإله في الفلسفة، وليس فقط لدى ابن رشد، نتيجة طبيعة فهمه لمعنى "المادة"، وهو ما سوف أشير إليه لاحقاً. وأحدد هنا أن ابن رشد لم يصل إلى النتيجة الأولى، لأن منظومته قامت على دور "الفاعل الأول ـ الإله" وفي العلاقة "إله ـ عالم"، ومن هذا المنطلق اعتبر ابن رشد أن الفلسفة والدين (الحكمة والشريعة) تعبران عن الظاهرة (الحقيقة) ذاتها، وإن بطريقتين مختلفتين، وبالتالي فإن هذه الفكرة مركزية في منظومته، ولم تكن طارئة فرضتها ظروف محددة.
إن ابن رشد، بالتالي، ممثل للفلسفة الميتافيزيقية ذات المنحى العقلي، (ومن هنا ينبغ اتفاقه والمعتزلة)، ولهذا التناقض مع المنحى النصي/ الغيبي، في الفلسفة الميتافيزيقية ذاتها، ونقطة التناقض المركزية تمثلت في حدود دور الإله، وبالتالي حدود دور العقل، لكن ابن رشد طور هذه الفلسفة إلىحدودها القصوى، التي هيأت، كما أشرت، إلى نفيها لمصلحة فلسفة مثالية "فيزيقية" تنطلق من الدور الحاسم للعقل/ الفكر.
الطابع العام إذن، لكل الفلسفة القديمة هو أنها فلسفة ميتافيزيقية، لكن وفي إطارها تطورت المفاهيم الفلسفية، كما تطورت رؤية العالم تطوراً كبيراً، وبالتالي، فيمكن في إطار التأريخ للفلسفة تلمس هذا التطور، الذي شكل تراكماً هاماً، أفضى إلي نشوء الفكر العقلاني اللاحق. إن التأريخ للفلسفة، يهدف إذن إلى تحديد طابعها العام أولاً، وتحديد التراكم العقلاني فيها ثانياً، والذي أفضى إلى نفي الطابع العام هذا.
الآن: وبعد تحديدي للطابع العام لهذه الفلسفة (وفق مبتدئها ـ أرسطو، ومنتهاها ـ ابن رشد) أعود للبحث في المستويات الثلاثة المشار إليها سابقاً، وهو موضوع يتصل في أحد جوانبه بتحديد التراكم العقلاني ذاك.


 
5
في المستوى الأول: المادة والعالم المادي
كيف فهم كل من أرسطو وابن رشد، المادة والعالم المادي؟ السؤال يتعلق، لا بالتأريخ للفلسفة، بل يتعلق بطبيعة فهم المقولات الفلسفية من زاوية المادية والمثالية، ومن ثم بطبيعة فهم تاريخ الفلسفة.
سنلاحظ مع أرسطو،أن التأرجح  بين المادية والمثالية، كان وهماً، فحسب د.طيب يكمن "جذر" هذا التأرجح في "الكفاح الدائب بين (أرسطو) والعالم التجريبي. و (أرسطو) بقي متأثراً قليلاً أو كثيراً بأطر الأفلاطونية المثالية الميتافيزيقية، (110ـ 111) لهذا فهو يكتشف (أرسطو المادي) في كتاب "الطبيعة" حيث يؤكد أرسطو أن "الأشياء ذات الجوهر المادي تتحرك وتتغير على نحو خالد دون بداية ولا نهاية" (110)، وأرسطو المثالي الميتافيزيقي، في كتاب (ما بعد الطبيعة)، حيث يؤكد "أن الشكل أقدم وأكثر وجوداً من المادة" (ما بعد الطبيعة ص 154)، وبالتالي فهي ليست جوهراً (نفس المصدر ص155) وهي "ليست أقدم من الجوهر لا حسب المفهوم ولا حسب الزمان ولا حسب النشوء، وإلا فإنها شيء مستقل" (نفس المصدر ص 181) (110) لكن فصلاً قام بين "العلم الأول" حسب ما يسميه أرسطو، وهو الفلسفة (118) و"العلوم التطبيقية", التي "تبحث في الأشياء المنفصلة، .. ولكن المتحركة أو في الأشياء غير المنفصلة ولكن اللامتحركة جزئياً "(ما بعد الطبيعة ص 50ـ 144). لكن "العلم يوجد فقط حول العام" (نفس المصدر ص329) و العام هو صورة الصور ـ الإله (ص118) ويضيف  د.طيب "مما يؤكد وجود الهوة بين (المعرفة) والواقع الحقيقي الموضوعي مما لا يسمح بالتعرف على المادة في كلياتها"(119) وهذا هو الأساس الميتافيزيقي للفلسفة القديمة كلها، حيث تقومت مهمة "العلم الأول" في البحث في صورة الصور ـ الإله، عبر النظري والمعرفي، بينما تبحث العلوم الطبيعية والرياصيات في "الأشياء المفردة" عبر "الملاحظة الحسية". ما العلاقة إذن  بين العام والمفرد؟ المعرفة (التي هي الفكر المجرد والعلم المجرد، والملاحظة (التي هي حسية )، أي بين المجرد والحسي؟
"العام" حسب أرسطو هو "نوعية محددة تملك وجودها العلاقي، ولكنه ليس شيئاً مستقلاً في نفسه… فهو يقرر: إن (تلك الينابيع العامة لا توجد…. لأن ينبوع الأشياء المفردة هو دائماً شيء مفرد، فالإنسان هو طبعاً بشكل عام ينبوع الإنسان، بيد أنه لا يوجد إنسان عام". (ما بعد الطبيعة ص282)" (ص 102)، لكن الأشياء المفردة "غير متصلة، لكنها تشارك جميعاً في وجود جوهر عام" هو المادة وهذا العام/ المادة "يمثل أيضاً جوهراً في ذاته" (ص 103) وبالتالي فالمادة هنا تشكل تجريداً مفهومياً (ص 104) هو الجوهر. هنا تتحدد العلاقة بين "علوم الأشياء المفردة" و "علم العام"، لأن "العلم الأول" يبحث في المادة كتجريد مفهومي (105) حيث ينتهي "ارتباطها" بالعلوم التطبيقية. لكن يجب أن أؤكد هنا أن أرسطو "استطاع التوصل إلى مفهوم المادة المجرد" (104) لكنه أيضاً قرر، في ضوء ذلك، قطع العلاقة مع المفرد؛ لأن الفلسفة تبحث في المجرد فقط، لهذا تجده يقيم فصلاً بين الملاحظة والمعرفة (حول النفس ص34ـ 35) (101ـ102) والإحساس (الحسي) والفكر (المجرد) (نفس المصدر  ) (105)  يقول أرسطو: "إننا لا نرى الملاحظات الحسية على أنها حكمة (فلسفة)، ولكن مؤكد أنها تكون المعارف الأكثر حسية للأشياء المفردة" (ما بعد الطبيعة ص19) (117). هذه "التأملية" الأرسطية، حسب ما يضيف د.طيب التي جرى تبنيها من قبل الأفلاطونيين المحدثين، والأرسطيين الأفلاطونيين، كانت "أساساً مكيناً للفصل بين العلوم النظرية" والأخرى (التطبيقية العلمية) (ص120 ويعيد إلى w.gaeger ، أرسطو، برلين، 1955 ص61).
إن مفهوم "المادة ـ جوهر" الذي يقول د.طيب أن أرسطو يتبناه في "الطبيعة" ويستند إليه للتأكيد على مادية أرسطو، يقع، إذن خارج إطار "المنظومة الفلسفية الأرسطية" خارج "العلم الأول". إقحامة فيها، يعبر ولا شك عن ميل "مادي طبيعي" (وهو التعبير الذي سيطلقه د.طيب على أرسطو(111). فالعلوم الطبيعية تبحث في "الأشياء المفردة" ، "العيانية"، وتنطلق من الملاحظة والتجربة. لكن السؤال الذي يطرح هو: ما مدى انعكاسها في الفلسفة، في المنظومة الفلسفية؟ وأيضاً: هل يفضي هذا الانعكاس إلى نشوء تصور مادي أوإنه لا يفضي إلى ذلك ؟ وكما سنلاحظ تالياً، فقد أسهمت العلوم الطبيعية في تطور المنظومة المثالية، لقرون طويلة، قبل أن تسهم في نشوء تصور مادي، ومع أرسطو أشرت إلى أنها انعكست ربما في نشوء مفهوم المادة كتجريد، لكن هل يعني بلورة مفهوم المادة المجرد نشوء ميل مادي؟ إننا هنا نواجه العياني المجرد، المادية العيانية، ومفهوم المادة، والمادة تنطلق من العياني وليس من المجرد، ماديتها نابعة من التأكيد على أولوية العياني وليس المجرد، التأكيد على أولوية المادة العيانية على مفهوم المادة، "إن الفكر المجرد يستطيع أن يغض النظر عن (السرير المفرد العياني) وأن يصل على هذا الطريق إلى مفهوم السرير، وهذا المفهوم لا يحيط فقط بمجموعة الأسرة الموجودة راهناً، وإنما أيضاً تلك التي يمكن أن تصنع في المستقبل" (105) لكن المادية لا تستطيع أن تغض النظر عن (السرير المفرد العياني) لأنه أساس تبلور مفهوم السرير، وبالتالي فإن التأكيد على أن مفهوم المادة يساوي المادية، يعبر عن تصور مثالي. في المقابل فإن اعتبار تعريف المادة انطلاقاً من العلوم الطبيعية، يعبر عن خلط، يفضي إلى مساواة المادية والعلوم الطبيعية، وهذا ما سنلاحظه في أكثر من مجال (فقرة 8).
إننا نبحث في أرسطو الفيلسوف، ولا نبحث في أرسطو "العالم التجريبي"، وبالتالي علينا أن نحدد مفهوم المادة في منظومته الفلسفية، لأننا نبحث في هذه المنظومة، فكيف فهم أرسطو المادة؟ إنها، كما أشرت سابقاً "تجريد مفهومي" (105) "إن المادة من حيث هي كذلك (مادة) لا توجد إنها توجد فقط من خلال أشكال مادة بنيوية عيانية، أما من حيث هي كذلك، فإنها تشكل تجريداً مفهومياً" (104). إنها تجريد مفهومي، وإن وجدت من خلال أشكال عيانية، إذن، وكما أشرت فهو يسقط العياني، يخرجه من منظومته ليبقى العام/ المجرد (المادة)، لهذا يقول: إن المادة "ما هو ليس هذا المشار إليه بحسب التحقق، وإنما هو هذا المشار إليه بحسب الاستطاعة" (ما بعد الطبيعة ص192) (106)، وبالتالي فهي "الإمكان الوجودي الأولي" ، "المجال اللامتعين لتمظهر الصورة"، (غير متعينة) (ما بعد الطبيعة ص172)، وهي "الوجود الكمي أو الهيكل الكمي الأولي للوجود" (107)، إنها، بالتالي ليس العياني بل اللا متعين. واللا متعين مجرد، لتكون المادة ، ليست المشخص/ الملموس، بل المجرد (تجريد المادة)، (ليست الشجرة بل ظلالها)، وبالتالي فالمادة، ليست تجريد مفهومي فقط، ولا شك في أن الوصول إلى هذا التجريد مثل تطوراً مهماً في الفلسفة، بل هي (تجريد المادة)، (المادة المجردة)، والفارق هنا هو في أن التجريد المفهومي، يرتبط بـ "مشخص" (مفهوم الشجرة يرتبط بوجود الشجرة)، وإن كانت المثالية، تجعل من التجريد المفهومي سبب وجود المشخص، لكن (المادة المجردة)، هي "وهم"، "لا تعين"، "إمكان مجرد"، "كم مجرد". لنلحظ الانتقالة من كونها تجريد مفهومي، إلى كونها تجريد مطلق، من كون مفهوم (السرير)، يشير إلى (السريرالمفرد العياني)، إلى كونه مفهوم يحيط بمجموع الأسرة راهناً وفي المستقبل. وهنا لا يعود تجريداً، بل يتحول إلى "مجرد"، أي مطلق. أي يصل التجريد إلى حالته القصوى، التي تفقده العلاقة بالمشخص.
وإذا انتقلنا إلى "الشيء" نجد أنه يوجد، فقط، في وحدة المادة والصورة (ص 107)، حيث تمثل العنصر السلبي المنفعل للصورة، التي هي إيجابية فاعلة، "إن الصورة تطبع المادة، أي تمنحها (مقومات) وجودها الحقيقي" إنها إمكان يتحول إلى وجود متحقق حين اكتساب الصورة، (106ـ107)، فيتشكل "الشيء". إنها وجود (كلي)، يتحول إلى وجود (نوعي) متعين عبر الصورة، فالصورة هي "عامل (التشخيص) والتحديد في نشوء وتطور شيء أو جنس ما" (107)، وبالتالي فإن "الجوهر (الصورة) يطابق النوعية، والنوعية تخص الطبيعة المتعينة تماماً، أما الكم فإنه على العكس، يخص الطبيعة غير المتعينة (ما بعد الطبيعة ص258) (108)، لهذا فالمادة عرض للصورة (الجوهر), (110) التي هي المبدأ الفعال بالنسبة إلى الهيولى اللامصورة، اللامتعينة ، والسلبية. (113).
نحن بالتالي أمام تصور مثالي للمادة، ما دامت علاقة (مادة ـ صورة) هي القضية المركزية، في "النظم الفلسفية القديمة والوسيطة" (112)، تكون "المنظومة الأرسطية" مثالية، لكن إدخالها الإله كفاعل أول يحولها إلى ميتافيزيقا، كما أوضحت سابقاً (الفقرة 4), حيث يجري تجاوز المجرد الفلسفي، المحدد هنا بمقولة "مادة / فكر" إلى مجرد أعلى يحدد بالعلاقة "إله ـ مادة" و "إله ـ عالم" ، بوضع فاعل أول "صورة الصور" فوق الواقع، يصوغ الواقع، وبالتالي فإن تجريد العقل وصل إلى "العقل المجرد" الذي هو الإله.
مع ابن رشد سنلاحظ تطوراً في مفهوم المادة، لكن ابن رشد ينطلق من أرسطو، وبالتالي لا يمكن فهم فكرة ابن رشد حول المادة بدون فكرة أرسطو. يقول ابن رشد: "الموضوع الذي ليس فيه شيء من الفعل أصلاً هو المادة الأولى" (تلخيص كتاب النفس ص 84 ـ 85 . د. طيب ص 383 ) الذي يسميها ـ كما أرسطو ـ الهيولى، وبالتالي فهو يبدأ من المادة المجردة "التي تدخل في باب "الكليات". وفي العلاقة بين (الكلي) و (الجزئي) يعيد تكرار فكرة أرسطو حول (العام) و (المفرد)، حيث "أن بين هذه الكليات، وخيالات أشخاصها الجزئية، إضافة ما، بها صارت الكليات موجودة، إذ إن هذه الكليات ليس لها وجود خارج النفس مما قلناه، وإن الموجود منها خارج النفس، إنما هو أشخاصها فقط" (نفس المصدر ص 81) (د. طيب 361)، هنا يطرح السؤال حول أساس الوجود الكلي أو الجزئي؟ إنه لدى ابن رشد الكلي، فـ "الهيولى جوهره وهي التي موجودة بالقوة" (تفسير ما بعد الطبيعة م 2 ص 1035)، ويكمل "إن الصورة هي الجوهر الذي بالفعل" (نفس المصدر والصفحة) (384 د. طيب )، وابن رشد يميز بين المادة، والجسم والنفس والعقل، فالمادة "إذا كانت شيئاً ما بالفعل فهي ضرورة، إما جسم، وإما نفس، وإما عقل، (تلخيص كتاب النفس ص84ـ85) (د. طيب 383)، وبالتالي فهو يميز بين المادة المجردة (الهيولى) والمادة (الملموسة)، وهو التمييز الأرسطي بين الإمكان والتحقق، والذي يسميه ابن رشد الموجود بالقوة والموجود بالفعل، وهو يحدد أولوية الموجود بالقوة على الموجود بالفعل (أولوية المجرد على الملموس)، حيث يقول" إنه متى قيس بين القوة والفعل الذي في تلك القوة، وجدت القوة متقدمة بالزمان على الفعل" (تفسير ما بعد الطبيعة م2 ص1218) (د. طيب 384). لذا فإن مفهوم المادة المجردة (الكلي) أسبق على وجودها الجزئي (الملموس) والتي يسميها خيالات أشخاصها الجزئية، وهو الجوهر في المجرد.
لكن، كيف تتمظهر "المادة" في الملموس؟ هنا يعود ابن رشد إلى فكرة أرسطو عن الإله، حيث يقول "والفاعل عند الفلاسفة … ليس يفعل الصورة، ولا الهيولى، وإنما يفعل من الهيولى والصورة المركب منهما جميعاً" (تهافت الفلاسفة ق1 ص390) (377د. طيب) وبالتالي فالفاعل يحول ما هو موجود بالقوة إلى وجود بالفعل، وينتج الجسم والنفس والعقل" عن هذا التركيب الذي هو بفعل الإله. وبالتالي فإذا كانت المادة والصورة قديمتين قدم الإله، وهما ليستا من فعله، (وهذا هو أساس نظرية قدم العالم)، فإن المادة الملموسة هي من صنع الإله، أو من إخراج الإله حسب د.طيب. وهذا هو الأساس الميتافيزيقي لفلسفة أرسطو، وابن رشد، ولكل الفلسفة القديمة، كما أشرنا سابقاً. لكننا نلاحظ أيضاً أن في "المادة الملموسة" تكون الصورة هي الجوهر، وليس المادة، في علاقة مادة ـ صورة، رغم أنه يؤكد أنه من غير الممكن أن "تتعرى" المادة عن الصورة (تلخيص كتاب النفس ص4) (383د. طيب)، ونلمس هنا تقدماً في وعي العلاقة بين المادة ـ الصورة  والإله، حيث يبدو أن التركيب (مادة ـ صورة) قديم قدم الإله، لارتباط المعلول بالعلة (ص370)، وهو تطوير وتعميق وتوضيح لفكرة أرسطو ذاتها. لكن ذلك كله لم يلغ الإله أولاً، ولم يلغ أولوية الصورة على المادة ثانياً، (أولوية تجريد المادة على المادة). ولنلاحظ أيضاً أن ابن رشد يحدد المادة الملموسة بـ (جسم أو نفس أو عقل)، وهو هنا يكرر فكرة طاليس، ويوضح المفهوم غير العلمي للمادة، وغير العلمي لا يمكن أن يكون مادياً.
إذا كان ابن رشد يبرز أن المادة والصورة قديمتان ومستقلتان تلقاء الإله (376) فهو كما لاحظنا، يتكلم عن المادة المجردة، وبالتالي فإن المادة المجردة هذه والصورة التي هي  تجريد أيضاً، قديمتان قدم الإله الذي هو تجريد أيضاً، لتصبح هذه المقولات التجريدية "مستقل" كل منها عن الآخر، من حيث الوجود التجريدي، لكن حين تنتقل إلى الملموس، نلاحظ أن الإله هو الذي "يخرجه" (حسب تعبير د.طيب ص 376ـ377) حيث "يفعل من الهيولى، (المادة المجردة ـ س) والصورة (التجريد ـ س) المركب منهما جميعاً (الملموس ـ س)"، الذي هو "المادة الملموسة" و"الشيء" و"الشخص"، والتي هي إما جسم أو نفس أوعقل، وهي مكونات "العالم المادي" ، "الأرضي" ، "الدنيوي". وهو هنا يوحد ـ حسب تعبيرنا المعاصرـ الفكر والواقع، ضمن إطار مفهوم المادة، وهنا بالتالي، يساوي الواقع والمادة، هذه المسألة التي سوف أبحث فيها لاحقاً، لهذا فإن ابن رشد "يتحرك" في إطار المنطق الميتافيزيقي، وإن أساس فهمه للمادة مثالي، مثله مثل أرسطو.
ولهذا يبدو قلباً للحقائق، وتشويهاً للمادة، التأكيد أن أرسطو ينطلق من
1.             أن الأساس الحقيقي للوجود هو المفرد.
2.             أن العام يبرز عبر ومن خلال المفرد.
وأن هاتين النتيجتين تعبران عن الاتجاه الفلسفي المادي آنذاك (102ـ 103). فأرسطو كما لاحظنا ينطلق من العام، وإن كان يتكئ على المفرد، "إن الفكر المجرد يستطيع أن يغض النظر عن" (المفرد). والمادية لا تنطلق من "أن الأساس الحقيقي للوجود هو المفرد" بل تنطلق من الواقع بمجموع "علائقه"، وماديتها لا تتحدد انطلاقاً من هذا الإقرار، بل من تأكيد أولوية الواقع/ الاقتصاد، على الفكر، وبالتالي فلا أرسطو "مادي" وفق التحديد ذاك، ولا ذاك التحديد مادي بالأساس. أو إن فهم العلاقة (مادة ـ صورة، عدم) لدى ابن رشد دعمت "الاتجاه المادي الهرطقي" (ص 382 ). أو إنه يعطي "الأولوية الأنطولوجية" للمادة تلقاء الصورة (ص 387). فحتى لو لاحظنا ذلك، وهو ليس قائماً، فإن ابن رشد في علاقة (المادة ـ صورة) ينطلق ـ كما أشرت ـ من المادة المجردة، وبالتالي فهو "يدور في إطار التجريد، وحين يبحث في المادة الملموسة، يقرر أنها من "إخراج" التجريد (الإله)، إلا إذا اقتنعنا بأن (إله) ابن رشد شخص ملموس، يمكن له أن يصنع (يخرج)من الخشب طاولة!
وانطلاقاً من مفهوم المادة يمكن أن نبحث في معنى "العالم المادي" لدى أرسطو وابن رشد، وسنلاحظ أنه يقوم على أساس مثالي (مثالي أعلى، أي ميتافيزيقي), لكن سنلاحظ أيضاً، أن مفهوم "العالم المادي" مشوش مبهم، وبالأساس غير مادي (إي لا ينطلق من الرؤية المادية). د.طيب يستخدم مفهوم "العالم المادي" بمعنى "العالم الأرضي" ويسميه أحياناً كذلك (111)، وبمعنى "العالم الدنيوي" ويسميه كذلك أيضاً (ص101). والاستخدامان الأخيران يشيران إلى المعنى المقصود، حيث ينطلق من أساس ديني؛ فالأرضي مقابل السماوي، والدنيا مقابل الآخرة، وهي مقولة "إله ـ عالم" في الفلسفة القديمة، لكن هل يمكن اعتبار العالم، المقابل للإله مادياً؟ هذه مسألة سنلمسها في المستوى الثاني من هذه الفقرة، لأنها تشير إلى غياب التمييز بين الميتافيزيقا التي تنطلق من مقولة (الإله ـ الفاعل الأول) والمثالية، التي تنطلق من مقولة (الفكر ـ الفاعل الأول)، وانطلاقاً من غياب هذا التمييز أصبح كل ما يقابل الإله مادياً، والفلاسفة القدامى استخدموا كلمة "العالم" التي تعني بالنسبة لنا الواقع بكل مكوناته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية السياسية، والواقع بهذا المعني لا يساوي المادية، كما سأوضح في فقرة تالية، لكنه مفهوم (مقولة) في المادية، إنه مفهوم إجرائي (آلة). ود.طيب في هذا المفهوم ينطلق من ابن رشد، حيث المادة الملموسة هي (إما جسم، وإما نفس، وإما عقل)، وبهذا يكون هيغل مادياً، لأن الروح المطلق الهيغلية تسكن "العالم المادي" وتصبح كل الفلسفة الحديثة مادية، لأنها تلغي دور الإله ـ المفارق، وتنطلق من الفكر الذي يسكن "العالم المادي" ولكن الفلسفة الحديثة التي ألغت دور الإله كفاعل أول (صانع، مخرج)، أكدت أن الفكر البشري (وعي البشر) هو الفاعل الأول، لهذا سميت بالمثالية.
العالم حسب الفلسفة القديمة، هو الوجود البشري، بنشاطه الاقتصادي وعلاقاته الاجتماعية ووعيه، وبالتالي فإن القول بـ "وحدة الوجود"، (العالم) لا يساوي المادية، وإذا عدنا إلى مفهوم العالم لدى كل من أرسطو وابن رشد، سنلاحظ أولاً: أنه من صنع (إخراج) الإله، فالشيء (الشخص ـ المركب) لا يوجد إلا نتيجة فعل الإله ـ والعالم هو مجموع "أشياء" وهو حسب ابن رشد (إما جسم، وإما نفس، وإما عقل). وبالتالي سنلاحظ ثانياً: أنه يشمل الوجود المادي والفكر معاً. وابالتالي فالعالم ليس مادياً في كل الأحوال، إنه العالم بكل مكوناته "المادية" والفكرية وهو بالأساس من صنع (إخراج) الإله. وهذه نظرة مثالية (انطلاقاً من إلغاء ـ وليس تقليص فقط ـ دور الإله) وميتافيزيقة (انطلاقاً من هذا الدور، الذي ظل محورياً في كل الفلسفة القديمة). والميتافيزيقا هي مركب المثالية. المثالية أس أربعة، خمسة، .. إلخ. ولقد أشرت إلى ذلك سابقاً.
لكن كيف فهم د.طيب هذه المسألة؟ إنه يربط معنى "العالم المادي" بمعنى الشيء لدى أرسطو، أولاً: يقول "والشيء (أي العالم المادي الموضوعي) هو السبب في كون قول (مقولة) ما صحيحاً، وليس العكس"، هنا نحن أمام مسألتين، الأولى: مفهوم الشيء لدى أرسطو، يقول أرسطو: "أكيد أن مقولة الحق ليست السبب في أن يكون الشيء، إنما الشيء هو الذي يظهر في نفس الآن في أن المقولة حق" (المقولات ص75) (101)، ويعلق د.طيب: "هذه الحقيقة الكائنة في أن الوجود الواعي، أو الوعي يشتق من الوجود الموضوعي، وليس العكس"، ويكمل "إن هذه الحقيقة هي الحجر الأساس في الميل المادي لدى أرسطو" (101)، لكن الشيء، حسب أرسطو، وفق ما أوضحنا سابقاً، هو نتاج المجرد (اتحاد المادة ـ التي هو مجرد ـ والصورة ـ التي هي أيضاً مجرد ـ بفعل الإله)، والمقولة مجرد، لهذا لاحظنا أن مقولة الإنسان هي العام، الجوهر، والإنسان العام لا يوجد في الملموس، ليبدو الإنسان الملموس كعرض، وضمن هذه "المقولة" يمكن أن نفهم فكرة أرسطو سابقة الذكر، حيث يتوضح بأن المقولة الحق هي سبب وجود الشيء، وأن وجود الشيء يظهر أن مقولة حق، وعبارة "في نفس الآن" توضح ذلك تماماً، لأنها تحدد الشق الأول من العبارة بحيث تلغي كلمة "ليست" في نفس الوقت الذي يحدد النقيض. وهي هنا تقدم صيغة جدلية، ضمن الأساس العام الذي يحدد طبيعة الشيء، والجدل ليس المادية على الإطلاق. الجدل (آلة). المسألة الثانية: تفسير د.طيب للشيء على أنه "العالم المادي الموضوعي" وهذا شطح، لأن أساس فكرة أرسطو هي: إله ـ عالم، وليس شيء ـ عالم. أرسطو، وإن كان يحدد علاقة المفرد بالعام، فإنه يعتبر العام جوهراً، والمفرد عرضاً، لهذا فالفاعل هو الجوهر، والجوهر يتحول إلى مفرد في تجريد أعلى، يكون العام الأعلى هو الجوهر، الجوهر المتحول إلى مفرد هو العرض وصولاً إلى صورة الصور ـ الإله. الذي هو الفاعل الأول، ليبدو العالم ضمن ذلك، أنه من صنع الإله، أي من صنع "الفكر المجرد" ، "العلم المجرد". وبالتالي فإن الاعتراف بوجود "المُحَس" الذي هو "العالم الخارجي الموضوعي". لم يجعل أرسطو يعتبر أنه أساس نشوء الفكر، بل أكد "أن الفكر المجرد، يستطيع أن يغض النظر عن ... العياني" أي عن المُحَس، لأنه الفاعل الأول، وبهذا يصبح المحس (العالم الموضوعي الخارجي) جزء من العالم الأرسطي، وهو العرض. وفي هذا نفي لأي "ميل مادي" وتأكيد على مثالية مركبة.
ابن رشد ينطلق من فكرة أرسطو حول الفاعل الأول، ومن فكرته حول قدم العالم، وبالتالي فإن فكرة إله ـ عالم هي ذاتها ـ في الجوهر ـ لدى ابن رشد. وإذا كان قد قدم إضافات فهي لم تصل إلى تجاوز هذه الفكرة، حيث يبقى الإله هو الفاعل الأول، بغض النظر عن فهم كل منهما لطبيعة فعله. وأوضح هنا أن ابن رشد، كما أرسطو، يتحدث عن العالم، لكن د.طيب أحب أن يضيف كلمة مادي، وهذه الإضافة توضح طبيعة المشكلة، لأن المسألة حسب ابن رشد وأرسطو أيضاً، ما هو مقابل الإله، وهو يشمل، كما أوضحت، الجسم والنفس والعقل. وبالتالي فهو الوجود البشري الذي يقابل الإله، لكنه بالأساس من صنعه (أو إخراجه). فـ "الفاعل للحركة هو الفاعل للعالم" (تهافت التهافت ق2 ص482) (369 د. طيب)، وإذا كان د.طيب قد فسر الشيء لدى أرسطو على أنه "العالم المادي الموضوعي" فإنه يفسر المادة لدى ابن رشد على أنها "العالم المادي" (369). وبالتالي سنلاحظ التسرع ذاته الذي عالج فيه مسألة "العالم المادي" لدى أرسطو. فالمادة لدى ابن رشد، كما أوضحت، هي "المادة المجردة"، التي يسميها "المادة الأولى"، ولهذا فإن "العالم" قياساً بالمادة هو "العالم المجرد" وليس "المادي" حتى لو أخذنا بمفهوم المادة بالفعل، فهي إما جسم أو نفس أو عقل، وبالتالي فإن "العالم" قياساً بذلك ليس مادياً أيضاً. إن عالم ابن رشد المشخص عالم مثالي لأنه يشمل لا المادة الملموسة فقط، بل النفس والعقل والفكر أيضاً، وبهذا فحتى لو "أهملنا" دور الإله، وهذا مستحيل لأن كل منظومة ابن رشد تقوم على دوره الفاعل في "إخراج" ما بالقوة إلى الفعل، وكذلك في الحركة، حتى لو فعلنا ذلك فإننا لن نخرج من دائرة المثالية، لأن عالم ابن رشد هو ليس المادة الملموسة فقط، بل والنفس والفكر أيضاً، وهنا لم يخرج ابن رشد عن مقولة العقل/ الفكر هو المحرك، فـ "إن الصورة غير كائنة ولا فاسدة إلا بالعرض، وكذلك الأمر في المادة، وإن الكائن الفاسد بالحقيقة هو الشخص المركب من الصورة والمادة، (تفسير ما بعد الطبيعة م2 ص851) ( 383 د. طيب)، وهذه مشكلة الفلسفة الحديثة، التي أكدت الشيء ذاته، لكنها أحالت الأولولة للفكر، وبهذه الإحالة ظلت مثالية، وبالتالي فالمسألة لا تتعلق فقط في التأكيد على "استقلالية" العالم تلقاء الإله، للقول بـ "مادية" النظرة، بل إن المادية تحدد القول بأولوية المادة على الفكر، وأيضاُ أولوية الواقع على الفكر. ابن رشد ربما كان توصل إلى القول باستقلالية ما للعالم تلقاء الإله، لكنه لم يلغ دور الإله أولاً، وهذا ما حدث فيما بعد، ولم تفض هذه "الاستقلالية" إلى القول بأولوية المادة/ الواقع، ولذا فإن القول إن ابن رشد قد أكد " الوجود المادي للعالم"(372)، قول مضلل، لأنه حتى سبينوزا الذي أكد أن العالم "سبب ذاته"، ولم يقل بـ"الوجود المادي للعالم" وإنما أكد أن وجود البشر "سبب ذاته" دون أن ننسى أن في هذا الوجود انقسام بين العمل اليدوي، والعمل الذهني، بين الواقع والفكر، وهو أكد على أولوية الفكر. وبالتالي فإن التأكيد على "الوجود الأرضي" تلقاء السماء أو بنفيها، لا يساوي المادية. لهذا فإن إقحام كلمة مادي على العالم الأرسطي الرشدي، يعبر عن الخلط بين المادية والعقلانية، نفي المادية لمصلحة العقلانية، مع التأكيد اللفظي على كلمة مادي، إن كلمة مادي حينما تتكرر مرافقة لكلمة عالم، فإنها تبدو كمقابل لـ "طبيعي" وبهذا فالمادية هي العقلانية، وبالتالي فهي ليست المادية.
ود.طيب يعتمد في تأكيده "مادية العالم" وفق ابن رشد على تأكيد قدم العالم، لكن هذه الفكرة لدى ابن رشد توضح مدى ميتافيزيقيته، يقول ابن رشد "إن صدور الحادث (العالم ويضيف د.طيب المادي) عن القديم الأول, لا بما هو حادث، بل بما هو أزلي من جهة أنه أزلي، بالجنس حادث بالأجزاء" (تهافت ص 131) (372د. طيب)، ليبدو أن العالم المجرد قديم، بينما العالم الملموس حادث، والمحدث هو الإله، الذي هو العلة والعالم هو المعلول، الإله هو السبب والعالم هو المسبب، إذ إن (العالم… ) يشترط لكي يوجد وجود (الإله). كما أن السبب لا يوجد من طرفه، إلا إذا وجد المسبب (374). وهي علاقة ارتباط فاعل بفعل. وإذا كانت المادة المجردة قديمة قدم الإله، فإن العالم الذي هو الشخص المركب، المجتمع من المادة المجردة والصورة، محدث بفعل الإله، الذي يفعل من الهيولى (المادة الأولى) والصورة. المركب منهما جميعاً، وبالتالي يتحدد فعله في "إخراج" العالم بالذات وهو لذلك "مركز" المنظومة الأرسطية الرشدية، و"مركز" كل الفلسفة القديمة. وانطلاقاً من ذلك قوِّمت على أنها ميتافيزيقية .
 


في المستوى الثاني: الميتافيزيقا والمثالية [المادية والعقلانية]
سنلاحظ أن ثنائية غيبي/ دنيوي، هي المسيطرة على منظومة د. طيب ومنها يشتق مثالي/مادي، وفي ضوئها تتحدد مثالية الفكر أو ماديته، وتتخذ صيغاً مختلفة منها: نص/ عقل، دين/ فلسفة، ود.طيب يحلها محل ثنائية فكر/ مادة، فكر/ واقع، التي هي "المسالة الأساية في الفلسفة"، حسب المادية. ولا شك في أن "استخلاص ملامح" هذه المسألة أفضى إلى نشوء  الثنائية الجديدة، وبالتالي فإن ثنائية غيبي/ دنيوي هي "ملامح" ثنائية فكري/ مادي، فكري/ واقعي!!. وفي ضوء هذه الثنائية الجديدة، تتحدد مادية الفلسفة والفكر والمنطق. لكننا هنا أمام حالة من الخلط، بين لحظتين (انتقالتين)، انتقالة الفلسفة من الميتافيزيقا إلى المثالية، وانتقالة الفكر من المثالية إلى المادية، الانتقالة الأولى، حسمت ثنائية غيبي/ دنيوي ، نصي/ عقلي، ديني/ فلسفي، لمصلحة الدنيوي، والعقلي والفلسفي. لكنها حولت "الفاعل الأول" من الإله إلى العقل/ الفكر، وفي ضوء تحقق هذه الانتقالة أمكن تحقق الانتقالة التالية، لأنها انطلقت من الدنيوي، لكنها اعتبرت العقل/ الفكر ليس "الفاعل الأول"، بل انعكاساً لوجود "مادي" هو "الفاعل الأول" وبهذا فإن تاريخ الفكر شهد سيادة ثلاث ثنائيات، حددت مراحل تطوره، لأنها كانت تعبر عن جوهر كل مرحلة. المرحلة الأولى: وهي الفلسفة القديمة، حيث سادت ثنائية غيبي/ دنيوي، نصي/ عقلي، ديني/ فلسفي. ولقد قلت إن هذه الصيغ الثلاث (هنا) تشكل ثنائية، لأنها متداخلة. لأن الغيبي مرتبط بالنصي، وهما معاً مرتبطان بالديني، ولأن الدنيوي مرتبط بالعقلي، وهما معاً مرتبطان بالفلسفي، لكن يجب أن أوضح أن هذا التقاطب لم يكن قاطعاً، بل إن "الشد" باتجاه أو بآخر قد تم ضمن هذه الثنائية، فالفلسفة والدين انطلقا من ذات الفكرة: الإله في الفلسفة والله في الدين، ومن أن (الإله، الله) هو "الفاعل الأول" لكن الفلسفة قامت على دور العقل، بينما قام الدين على النص، وهنا كانت الفلسفة تعزز الدنيوي، بينما عزز الدين الغيبيَّ (الآخروي)، مع ملاحظة تداخل "الشكلين" (اختراق العقل للدين، والنص للفلسفة)، وتوحيدهما معاً (ابن سينا مثلاُ), ولا شك في أن الفلسفة العربية الإسلامية شهدت كل ذلك، وهو ما أشرت أليه سابقاً (الفقرة 2)، ولقد كان جوهر المنظومة القديمة، هو ثنائية نص/ عقل، وهو ما يبدو واضحاً عند ابن رشد مثلاً. ولأن هذه المنظومة قامت على أساس دور الإله / الله، فقد وسمت بأنها ميتافيزيقية، أي إنها تنطلق من قوة فوق البشر.
المرحلة الثانية: وهي الفلسفة الحديثة، حيث سادت ثنائية فكر/ واقع، لقد انتصر العقل على الإله، وانتصرت الأرض على السماء، والفلسفة على الدين، وألغيت ثنائية إله ـ عالم، لمصلحة العالم، الذي فيه تشكلت الثنائية الجديدة التي هي فكر/ واقع، لكن انطلاقاً من أن الفكر هو "الفاعل الأول" هذه الصيغة التي توحدت مع هيغل بسيادة الروح المطلق، هنا حلت المثالية محل الميتافيزيقا، لكن في هذه الانتقالة نشأت العقلانية، حيث "العقل هو المعيار الحاسم. "لقد انتقل العقل البشري، إذن، من مرحلة إسناد فعله إلى قوة فوقه، إلى مرحلة تحوله هو إلى هذه القوة، وبالتالي سقطت علاقة إله ـ عالم، إذ يتقوَّم دور العقل في معرفة العالم عبر الإله الفاعل، لمصلحة علاقة عقل ـ عالم حيث يتقوَّم دوره في معرفة العالم (وهنا المادي)، وتسييره (هذه المسألة التي كانت من اختصاص الإله). لقد طور العقل دوره إذن من المعرفة إلى الفعل.
المرحلة الثالثة: نشوء المادية، التي قلبت الثنائية السابقة، بحيث أصبح الواقع (المادي) هو محدد الفكر، وفي ضوء ذلك تبلورت الرؤية المادية نتيجة تراكم الفكر، وتحديداً في مجال "المنطق" الذي هو لب الفلسفة، ولسوف أوضح ذلك لاحقاً.
وبالتالي فإن تجاهل هاتين الانتقالتين، واعتبارهما انتقالة واحدة، أو بشكل أدق، تراكماً متتالياً في "ذات المسار"، أفضى إلى اختلاط المادية والعقلانية، الماركسية والفلسفة الحديثة (المثالية)، وضياع معنى المادية والمثالية. لكن سألاحظ هنا أنه شوه تاريخ الفلسفة، وأيضاً طبيعة (جوهر) الفلسفة القديمة، حيث أسمي "مادياً" كل رفض للنص والغيب، وكل تطور في مجال التجريد وتشكل المنطق. وطوعت تلك الفلسفة، لتصور "مادي ـ عقلاني" مختلط. ولا شك في أن الانطلاق من أن "خاصية تاريخ الفكر" هي التناقض بين المادية والمثالية، أفضى إلى كل هذا الاختلاط. حيث حلت ثنائية غيبي/ مادي محل فكري/ مادي، من خلال تفسير دنيوي (أرضي) بمادي، مما ألغى الانتقالة الأولى، رغم أهميتها، ولكنه أيضاً ألغى الانتقالة الثانية. وخلط المادية بالعقلانية، والمادية بالمنطق، والمادية بالفلسفة، وهذا الخلط هو ما سأوضحه هنا، لتمييز الرؤية المادية من الرؤية العقلانية، والمادية من المثالية، حيث أفضى اختلاط المادية والعقلانية (المثالية) إلى "نصنيف" كل  ما هو عقلاني في الفلسفة القديمة، في "خانة" المادية، خصوصاً المنطق الذي نما مع نشوء الفلسفة وتطور في رحمها، وشكل، وكل التراكمات العقلانية في تلك الفلسفة، الأساس الذي أفضى إلى نشوء الفلسفة المثالية الحديثة. ولا شك في أن ثنائية مادية/ مثالية، التي جرى اعتبارها أساس تاريخ الفكر، أفضت إلى أكثر من وسم هذه التراكمات بالمادية، حيث جرى اعتبار كل الفلسفة (والفكر) كذلك، في مواجهة الدين (الغيبي، الأسطوري، النصي) (ص579).
الاختلاط، إذن، بدأ في تحديد طابع الفلسفة عموماً (والفكر أيضاً)، التي اعتبرت مادية (ص64)، حيث أنها امتداد نوعي جديد للميل الواقعي (المادي، بمعنى المادية الطبيعية العفوية ص58)، ضمن الأسطورة. (ص59)، وحيث "أنها حددت واجبها الجوهري ببحث الطبيعة واكتشاف (ذاتها)، وكذلك بتعارض مباشر مع الدين والأسطورة الدينية" (ص61)، ومن هذا التحديد نشأت ثنائية: فلسفة/ دين، مقابل لثنائية مادية/مثالية. وكما أشرت مراراً فإن هذا التحديد للفلسفة كمادية، ولتناقضها مع الدين، كتعبير عن تناقض: مادية/ مثالية، خاطئ ومضلل، فلا شك في أن الفلسفة من نتاج البشر الواقعيين، لكن واقعية الوجود البشري، لا تجعل كل منتوج البشر الفكري مادياً، وإلا تساوى الوجود الواقعي والوعي، أو أصبح الوعي منتوجاً ميكانيكياً لهذا الوجود، فالبشر يفكرون في واقعهم، لكن طبيعة منطلقهم هو المختلف، لهذا فإن التفكير في الواقع ليس هو مقياس المادية أو المثالية. والغريب أن د.طيب الذي يقرر مادية الفلسفة، يعتبر أنها انبثقت من التعارض بين الفكري والمادي، (ص59)، وبالتالي اتسمت في "الموقف المتعالي عن (المادي) أو الممارسة العملية المادية، حيث نظر إليها كشيء سلبي، هو دون مستوى (الفكري) الفعال. (60) فبهذا التحديد تكون الفلسفة مثالية، لكن ثنائية: فلسفة/ دين التي هي ترجمة لثنائية مادي/ مثالي، فرضت أن تكون الفلسفة مادية، لكي يوسم الدين بالمثالية، رغم أن مقصدهما واحد حسب ابن رشد (فصل المقال)، نتيجة أنهما يهدفان إلى معرفة الإله/ الله، فإذا كان نشوء الدين سابقاً على نشوء الفلسفة، فإن هذا النشوء للفلسفة، قد قدم أساساً "عقلانياً" للدين ذاته، و"الإله" الفلسفي المجرد، أصبح هو الله الديني، يتمظهر بشكل "ملموس" من خلال "أنبياء" بينما لا يتمظهر الإله الفلسفي إلا من خلال الفكر المجرد، وبالتالي فالعلاقة بين الفلسفة والدين لم تكن علاقة تضاد على الإطلاق، بل إنها كانت علاقة تفاعل، ولم ينشأ التضاد إلا في فترة متأخرة (القرن الحادي عشر) نتيجة الموقف من دور العقل، لهذا كان التضاد بالأساس هو بين النص والعقل، لأن العقل بات قادراً على الشك في ثوابته (الإله) ومن ثم بثوابت الدين (الله). لذلك شدد الغزالي على رفض العقل، لأنه يفضي إلى الشك. ولقد انطلق ابن رشد من هذه الإشكالية ليؤكد أن كلاً من الدين والفلسفة مقصدهما واحد، وإن تمثل هذا المقصد بطريقين مختلفين، أو مستويين مختلفين: الخاصة والعامة، وأنهما متساويان غير متضادين.
هنا يبرز الموقف من العقل، حيث فسر الدفاع عن العقل بأنه تعبير عن ميل مادي. وهذا يوضح الاختلاط بين المادية والعقلانية، وأوضح هنا أن المادية عقلانية، لكن العقلانية ليست مادية، وأوضح ثانياً أن العقلانية خطوة مهمة في ذاتها، وكذلك خطوة مهمة على طريق تبلور المادية، حيث من دونها لا مادية، لكن هذا شيء والقول بماديتها شيء آخر. إن الاختلاط بين المادية والعقلانية، أفضى إلى التأكيد المستمر على ارتباط المادي بالعقلاني، أو إحلال الواحد محل الآخر، هذا الربط الذي لم يلاحظ مع أرسطو حيث تكرر القول بـ" المادي" و" الجدلي" (على الضد من المثالية والميتافيزيقا)، نشأ مع البحث في ابن رشد الذي مثل "قمة الفكر المادي العقلاني الوسيط" (ص 355)، ولكن تتكرر أيضاً بصيغ مختلفة، مثل "الفلاسفة الإسلاميين العرب العقلانيين والماديين" (357)، ومثل "مضامين مادية وعقلانية عميقة"، (357)، و "العلمية العقلانية والمادية" (358)، و"الفلسفة العقلانية المتضمنة ميلاً مادياً" (358)، و"تأكيده ـ ابن رشد ـالعقلاني المادي" (362)، و "الفكر العقلاني المادي" (373)، وأحياناً يتكرر "الفكر العقلاني" حاف (356)، أو "الفلسفة العقلانية" (357)، وأحياناً أخرى يتكرر "الفكر المادي الهرطقي" (371)، وإذا كان د.طيب أشار إلى تأرجح أرسطو بين المادية والمثالية، فكان أجدى أن يشير إلى تأرجح ابن رشد بين المادية والعقلانية. في ضوء كل ذلك التكرار، رغم أن المنظومات الفلسفية لا تتأرجح ،لأن محدد ماديتها أو مثاليتها هو جوهرها، في ضوء المسألة الأساسية في الفلسفة. ولا شك في أن العقلاني مثالي، حيث يكون"العقل هو المعيار الحاسم". حسب ما يشير د.طيب بمناسبة الحديث عن ابن رشد (فصل المقال ص7) (ص 364). هذا التأكيد لا يساوي المادية، بل يؤكد المثالية، وبالتالي فإذا كان د.طيب قد أكد تأرجح أرسطو بين المادية والمثالية، فإنه ولضرورات التطور في الفلسفة، حاول إخفاء (تمويه) هذا "التأرجح، لدى ابن رشد، بجمع المادية والعقلانية، وهو هنا يجمع المادية والمثالية معاً ويتعامل معهما كمترادفين، وهذا ضلال. في العقلانية يبقي الفكر هو الفعال، والمادي سلبي، وهذا هو منطق الفلسفة الحديثة، (المثالية)، وهو مكون من مكونات الفلسفة القديمة. إن عقلانية ابن رشد، بالتالي هي عقلانية مثالية، وهي خاضعة لجوهر منظومته الميتافيزيقي، لكنها أسست لنشوء العقلانية الحديثة، التي قامت على أساس مثالي، كما أوضحت سابقاً، لهذا فالعقلانية في الفلسفة القديمة جزء من منظومة ميتافيزيقية، وهي خاضعة لجوهرهذه المنظومة، ولقد شكلت التراكم الذي أفضى إلى نشوء العقلانية الحديثة، بنزع الطابع الميتافيزيقي عن الفلسفة، وتطوير المكون العقلاني فيها، ليصبح هو جوهر المنظومة الحديثة، لكن المادية كانت ما تزال بعيدة المنال. وبهذا فإن الانطلاق من الرؤية المادية في دراسة تاريخ الفلسفة يجب أن يخضع لهذه التاريخية، التي تحدد الفارق بين المادية والعقلانية، وإذا كانت المادية قد استندت في تشكلها إلى كل تاريخ الفكر، وإلى الفلسفة الحديثة (العقلانية) عموماً، وتضمنت بعضاً من مقولاتها، فهذا لا يعني أن هذه المقولات المتضمنة في المادية هي مقولات مادية منذ تبلورها، لقد غدت مادية منذ أن غدت جزءاً من الرؤية المادية. إن اعتبار هذه المقولات مادية، فقط، لكونها غدت جزءاً من المادية كان المدخل لنشوء الاختلاط بين المادية والمثالية، وبالتالي إلى تشويه تاريخ الفكر، وسنلاحظ هذا الاختلاط، وذاك التشويه حينما نتناول بعض المقولات، التي اعتبر د.طيب أنها تدل دلالة  قاطعة على الميل المادي بمناسبة الحديث عن ابن رشد وأرسطو.
فمثلاً مفهوم "وحدة الوجود" حيث يؤكد د.طيب أن ابن رشد أكد "وحدة وجود مادية" ( الصفحات 372،378،381،382). يقول د.طيب: "يستطيع الباحث أن يتوصل إلى اليقين بأنه (ابن رشد) يميل إلى ترجيح القول: الفاعل موجود في العالم المادي، وليس هذا الأخير في الفاعل" (374)، ويتوضح ذلك حين دراسة ما يسميه ابن رشد "العقل المحض" أو "العقل الفعال" بالعلاقة مع تأكيده" على وحدة وجودية مادية"، يظهر ذلك حين دراسة العلاقة (إله ـ مادة)، حيث تكتسب المسألة مضموناً مادياً مضاداً للتصور الغيبي الأسطوري، فتبرز المادة، باعتبارها الوجود الحقيقي، حيث يتحول الفاعل الإلهي إلى (عقل) العالم ولولبه" وهو ما ظهر لاحقاً لدى سبينوزا (ص 375)، حيث يستخدم ابن رشد مفهوم "العدم" بهدف إقصاء الفعل الإلهي من العالم "من خلال إكساب الوجود الإلهي مضموناً قائماً على (وحدة الوجود) المادية" (378)، وكذلك حيث ينقشع التناقض لمصلحة "المادة" وبالتالي لمصلحة الاتجاه المادي الهرطقي. عبر "توحيد الإله مع العالم في رؤية قائمة على (وحدة الوجود) المادية" (ص 380ـ 381 )بحيث لا تغدو لديه (ثنائية) بين الإله والعالم "وإنما وحدة وجود مادية" (ص 382). إن مفهوم "وحدة الوجود المادية" قائم إذن، على عنصرين، الأول: علاقة إله ـ مادة، حيث أكد د.طيب كما لاحظنا سابقاً، أن قدم المادة حسب ابن رشد أكد المنحى المادي لديه، وهو ما أوضحت خطله؛ لأن ابن رشد هنا يتحدث عن "المادة المجردة" الهيولى، وهي مقولة نظرية، وبالتالي فهو هنا لا يتحدث عن المادة الملموسة، التي يسميها "المركب" ، "المجتمع" ، "الشخص" ، لهذا فهي خارج الوجود، وتقبع في الذهن، إنها أيضاً ليست "تجريداً للمادة" التي هي، حسب ابن رشد، إما جسم وإما نفس وإما عقل. وهنا تكمن ميتافيزيقية مفهوم "المادة الأولى" لديه، لهذا فهي خارج الوجود تسكن المجرد والمطلق. الثاني: "العقل المحض" أو "العقل الفعال" حيث "يتحول الفاعل الإلهي إلى "عقل" العالم ولولبه"، ينطلق د.طيب من فكرة لابن رشد تقول: والصحيح عندهم (الفلاسفة) أن الأول لا يعقل من ذاته إلا ذاته، لا أمراً مضافاً وهو كونه مبدأ. لكن ذاته عندهم هي جميع العقول، بل جميع الموجودات، (تهافت ج2 ص34،ص376) (382)،وبالتالي فهو "عقل العالم الساري... والممسك به/ (نفس المصدر ق1 ص374) (381)، وحسب د.طيب فإن ابن رشد يرفض بذلك مفهومي "المفارقة" و "العلوية" (382)، التي قال بهما الأشاعرة، وبالتالي "وضعوا مبدأ الموجودات نفساً كلية مفارقة للمادة، من حيث لم يشعروا" (نفس المصدر ج2 ص357ـ358) (382)، ويوضح د. طيب "أن الإله الديني (المفارق) يتلاشى، على هذا النحو، في ملامحه الجوهرية، فـ (المفارقة) كمؤشر أساسي للإله ذاك، تفسح الطريق للـ (وحدة)، التي تميز تلك (القوة العالمية) الإلهية أو الطبيعية. إن الحرف (أو) هنا يعبر بعمق عن طبيعة المسألة. إذ لم يعد من فارق جوهري بين أن نتكلم عن عالم الإلهي وبين أن نتكلم عن عالم طبيعي، فكلا التحديدين يعبران، أولاً وأخيراً، عن العالم الواحد المادي، (382). في الجملة الأخيرة يبدو الشطح واضحاً، لأنه حتى لو كان ابن رشد قد توصل إلى فكرة "العالم الطبيعي" وإلى فكرة أن "الفاعل موجود في العالم المادي" (وهنا الطبيعي). فإن كل ذلك لا يساوي المادية، لا يعبر عن رؤية مادية للعالم، لأن الإله يتحول إلى عقل العالم الساري، ليكون (العقل)هو الفاعل الأول بدل الإله (عقل العالم ولولبه حسب د.طيب) وهذه فكرة الفلسفة الحديثة اللاحقة، وحسب ما يشير د.طيب أنها الفكرة الجوهرية لدى سبينوزا). وبالتالي، يكون العقل هو محرك (العالم الطبيعي)، وهذا جوهر الفلسفة المثالية، ليبدو ابن رشد كمثالي وليس كمادي، رغم أن ابن رشد لم يتوصل إلى هذه الفكرة، رغم أنه هيأ، في فكرته سابقة الذكر للوصول إليها. وبالتالي فقد تقدم خطوة نحوها، فهو يؤكد وجود الإله، ويلغي طابعه المفارق، وهو عنده، غير مفارق للمادة المجردة، وللصورة المجردة، وهو فاعل تركيبهما، كما أنه فاعل الحركة فيهما. وبالتالي فالإله لم يستوِ على العرش، بل إن ذاته هي جميع والعقول والموجودات. هنا نحن أمام صورة الصورالأرسطية، حيث الصورة تطبع المادة، ليتحول المركب إلى "مادة" تطبعها صورة أعلى، ومن ثم لتتحول إلى "مادة" تطبعها أيضاً صورة أكثر علواً، وصولاً إلى "صورة الصور"، التي هي الإله، الذي هو الفاعل الأول. ابن رشد، إذن، يكرر فكرة أرسطو بصيغة أخرى حيث تكون صورة الصور(الإله) هي جميع العقول والموجودات، انطلاقاً من أن العقل "مادة ملموسة" حسب ما لاحظنا مع ابن رشد. هذا هو جوهر الميتافيزيقا، وهو مختلف عما تطور في الفلسفة الحديثة، التي أبقت هذا التجريد في حدود العقل، ملغية فكرة "صورة الصور ـ الإله" حيث أصبح المجرد (العقل المجرد)، (العقل المحض)، هو منتوج العقل البشري، وأصبحت مهمة الفلسفة اكتشاف حدود العقل بالذات، الذي أسمي مع كانط (العقل المجرد) أو (العقل المحض)، بينما انطلقت الفلسفة القديمة من أن هذا المجرد (فوق العقل)، وأن مهمتها هي اكتشاف هذا المجرد (صورة الصور ـ الإله). لقد حلت علاقة (عقل ـ عالم) محل علاقة (إله ـ عالم) وبهذا اختلف مفهوم العالم، حيث أصبح "العالم المادي" في الفلسفة الحديثة، بينما كان "العالم الطبيعي" في الفلسفة القديمة.
وسنلاحظ أن د.طيب يورد مقولات على أنها تمثل الخطوط الأساسية في نظرية ابن رشد حول المعرفة (361) من دون أن يورد استشهادات حولها، مؤكداً أنها دليل ماديته، رغم أنها مقولات عقلانية بالأساس وإن غدت جزءاً من المادية، منها مثلاً، "التجربة العملية"، يقول د.طيب أن "روح التقدم الاجتماعي الاقتصادي والعلمي والتكنيكي في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط، مارست تأثيراً في ابن رشد برز في تأكيده العقلاني المادي على التجربة العملية والعلمية كوسيلة أو كوسيط لا مناص منه في تحصيل المعرفة بين الوجود المادي الموضوعي والوجود الفكري. ويكمل أن التجربة بمعناها الواسع لن تكون طريق المعرفة فقط، بل ومعيار صحتها أيضاً. ويضيف: إن ابن رشد لم يلاحظ هذا الجانب من المسألة "إلا بشكل غامض" (362)، وبغض النظر عن هذا "الغموض" (وأعتقد أن في هذا التفسير تحميل على الفكرة الأصلية، وبالتالي فهو تفسير لاحق لما يمكن أن يستنتج من بعض أفكار ابن رشد)، فإن التجربة كانت جزءاً من العقلانية الحديثة، قبل أن تصبح جزءاً مكوناً في المادية، ومن هذه المقولات ثانياً، تأكيد د.طيب أن "موضوع أو ينبوع المعرفة الإنسانية هو العالم الخارجي الموضوعي" (361)، وأن المعرفة هي "الوجه النظري من الوجود المادي الموضوعي، وأنها بالتالي، وإن لم يصرح بذلك بوضوح، انعكاس لذلك الوجود" (362)، وبغض النظر عن "التحميل" حول مسألة الانعكاس، التي هي فكرة مادية نشأت مع ماركس، فإن الأفكار الأخرى أفكار عقلانية، حيث أقرت الفلسفة المثالية الحديثة بأن "العالم الخارجي" هو موضوع المعرفة، وبـأن المعرفة هي الوجه النظري لهذا العالم. ولكن انطلاقاً من أولوية "الوجه النظري". ومنها ثالثاً "تاريخية المعرفة". وهذه الفكرة عقلانية وإن ظلت خاضعة للأيديولوجية. والموضوعة المادية الوحيدة التي يقحمها د. طيب في منظومة ابن رشد هي موضوعة أسبقية الوجود على الوعي، حيث كما لاحظنا فإن ابن رشد يؤكد أولوية الإله على الوعي والوجود معاً. وبالتالي فإن تأكيد د.طيب أن ابن رشد قد قدم "في إطار نظرية المعرفة، متأثراً بآراء أرسطو في المعرفة، حلاُ مادياً للعلاقة الفلسفية الأساسية بين الفكر والواقع المادي، بين الوجود الفكري (أي الوعي) والوجود المادي (361)، إن هذا التأكيد يعبر عن ضلال، حيث يقحم فكرة حديثة في منظومة قديمة. ومن المقولات العقلانية التي اعتبرها د.طيب تعبيراً عن المادية ،مقولة "الشيء في ذاته" و "الشيء لنا" الكانطية (117، 378)، وكذلك مقولة أن العالم "سبب ذاته" السبينوزية (372)، وكانط وسبينوزا مثاليان كما هو معروف والذي يجعل أفكارهما مادية (أوهذه المذكورة فقط)، هو الانطلاق من أن المثالية تعني الغيبية والأسطورية، والنصية ( الدين عموماً)، وكانط وسبينوزا كانا عقلانيين، رفضا الغيبية والأسطورية والنصية، وبالتالي يصبحان في تفسير د. طيب للمادية والمثالية، ماديين، لهذا نجد د. طيب يقول: "إن ابن رشد في نظريته حول العالم المادي القديم الواحد، وفي نظريته حول التطور وحفظ المادة قد طرح الفكر المادي في وحدة عميقة مع الفكرالجدلي، فأثر بذلك على مجموعة كبيرة من المفكرين الأوروبيين في العصر الحديث...، (387)، ويشير بالتحديد إلى سبينوزا (372)، وإلى كانط (387)، لنلحظ أنه قد قلب العقلاني مادياً، مستفيداً من أن بعض المقولات العقلانية غدت جزءاً من المادية، بمعنى أنه اختار المنطق الشكلي في منظومته، متجاهلاً بالتالي مسألتين:
الأولى: أن المادية والمثالية تتحددان في ضوء "المسألة الأساسية في الفلسفة"، أولوية الواقع/ المادة أو الفكر وانطلاقاً من جوهر المنظومة الفلسفية، وليس باقتطاف مقولة بعيداً عن سياقها.
والثانية: أن المادية استوعبت مقولات هامة من الفلسفة السابقة، وأهمها منطقها (الجدل)، ولكن هذا الاستيعاب لا يجعل هذه المقولات مادية في ذاتها، إنها مادية فقط انطلاقاً من كونها جزءاً من منظومة تقوم على أولوية الواقع/ المادة على الفكر. أكرر أنها ليست مادية في ذاتها. هذا التحديد يجعل للتاريخية معنى، ويوضح أهمية الانتقالات، ويعطي بالتالي للعقلانية قيمتها، من دون أن يخلطها بالمادية. ولكنه أيضاً يوضح معنى المادية ويحدد جوهرها.
وكذلك كان اعتبار كل ما ورد في المادية مادياً طال المنطق أيضاً، حيث اعتبرت كل عمليات المنطق دليلاً على " المنحى المادي". المنطق، الذي قلت إنه (آلة) وهو تعبير ابن رشد، تبلور في رحم الفلسفة منذ نشوئها، وكان لبها، حسب تعبير ماركس. ولا شك في أن قيمتها الأساسية تمثلت في تبلوره واكتماله مع هيغل، لكنه  انحكم لطابع الفلسفة القديمة، (الميتافيزيقية) والحديثة (المثالية)، وانحكامه هذا هو المحدد، ليس له فهو (آلة) بل للمنظومة الفلسفية التي هو جزء منها. حتى حينما أصبح شكله المبلور (الجدل) جزءاً من المادية، لم يعن ذلك أنه غدا مادياً، فلا ذاته تحدد ذلك، ولا انتماؤه للمادية يحدد ذلك أيضاً، واعتباره مادياً لكونه جزءاً من المادية، يعبر عن منطق شكلي. في هذا المجال سنلاحظ أن د.طيب جعل مقولات التجريد: العام والمفرد ، الكل والجزء، المجرد والمشخص، التحول (التغير)، الحركة والزمان، المُحِس و المُحَس، السببية، الجدل، تعبيراً عن منحى مادي لدى كل من أرسطو وابن رشد.
فمقولة العام والمفرد تغدو تعبيراً عن المادية فأرسطو مثلاً يرفض فكرة أفلاطون حول العام والمفرد، (فالعام، الـ "بيت" وظلاله القاتمة، البيوت المفردة العيانية) ويؤكد "أن المرء يستطيع أن يفرض بأن بيتاً ما يوجد جانب البيوت المفردة" (ما بعد الطبيعة ص22)، فيعلق د.طيب أن أرسطو قد تبنى "بذلك المحاولة الشجاعة لطرح نظرية متطورة وأكثر دنيوية حول (المادة) و (العالم المادي) (101)، بينما لم يفعل أرسطو سوى أنه رفض اعتبار المجرد (البيت) مشخصاً (البيت المفرد)، حيث أن العام الذي هو نوعية محددة تملك وجودها العلائقي، ليس شيئاً مستقلاً في نفسه، حسب شرح د.طيب (102) العام حسب أرسطو "لا يوجد … لأن ينبوع الأشياء المفردة هو دائماً مفرد، فالإنسان هو طبعاً بشكل عام ينبوع الإنسان، بيد أنه لا يوجد إنسان عام" (نفس المصدر ص282) (102)، فيستنتج د.طيب "وعلى هذا النحو يشتق العام إذن من المفرد" ويعتبر أنه أصبح مفهوماً.
1.   أن الأساس الحقيقي للوجود هو المفرد.
2.   أن العام يبرز عبر ومن خلال المفرد. ( ص102)
وهذا استنتاج صحيح، لكنه يكمل بأن هاتين النتيجتين تعبران "عن الاتجاه الفلسفي المادي آنذاك" (102ـ 103) رغم أن هذه عملية تجريد، من المفرد إلى العام، الذي هو الجوهري، حيث "أن الفكر المجرد يستطيع أن يغض النظر عن (السرير المفرد العياني) وأن يصل على هذا الطريق إلى مفهوم السرير، وهذا المفهوم لا يحيط بمجموع الأسرة الموجودة راهناً. إنما أيضاً تلك التي يمكن أن تصنع في المستقبل" (105)، لكن رغم هذا التحديد الذي جعل العام يغض النظر عن المفرد، يشطح د.طيب أبعد مؤكداً أن أرسطو"في هذه المسألة يمثل فكراً مادياً جدلياً، بعيداً عن أية ميكانيكية" (105)، إن القول بـ "أن العام لا يوجد إلا في الأشياء والظواهر والعلائق المفردة وهذه كلها تحتوي في ذاتها لحظة من العام (104)، يعبر عن جدل العلاقة بين العام والمفرد، لكنه لا يعبر عن مادية جدلية، لأن هذا التحديد للعلاقة ليس هو محدد المادية. وكما أشرت مراراً، المحدد هو ما يطرحه د.طيب في صيغة تساؤل: "ما الذي يؤدي بـ (الفردي) أو (العياني المشخص) إلى التكون، ومن أين يشتق فعل (التشخيص) في عالم الأشياء الطبيعية"، أي ما هو العامل الأساسي الذي يمنح الشيء شخصه؟ ففي الإجابة عن هذا السؤال تتحدد المادية أو المثالية، وأرسطو هنا ليس مثالياً فقط. بل إنه ميتافيزيقي، لكن د.طيب يخفف من اندفاعه السابق في الحكم على ذات المسألة (علاقة العام بالمفرد)، لكن دون أن يقرر التراجع، لهذا يعتبر أن أرسطو هنا يتأرجح "بين مواقع مختلفة، ولكن في نفس الآن مقترباً من مواقع المادية" (108). حسب أرسطو، فإن الصورة هي عامل التشخيص وليس المادة، وبهذا فهو هنا مثالي، وليس مادياً، ولا مقترباً من مواقع المادية. مع ابن رشد تأخذ هذه الصيغة شكل (كل) ، (جزء)، وابن رشد يكرر فكرة أرسطو حول علاقة العام بالمفرد، حيث يقول "وبالجملة فيظهر ظهوراً أولياً أن بين هذه الكليات وخيالات أشخاصها الجزئية، إضافة ما، بها صارت الكليات موجودة، إذ كان الكلي إنما الوجود له، من حيث هو كلي بما هو جزئي (تلخيص كتاب النفس ص80) (361)، فيعلق د.طيب "وهنا يبلغ ابن رشد النتيجة الفلسفية المادية الأساسية والرئيسية…" (361)، والسؤال هنا هو ذات السؤال الذي طرحه د.طيب سابقاً، ما هو عامل التشخيص؟. وجواب ابن رشد لا يختلف عن جواب أرسطو، وبالتالي بدا أن تكرار مقولة العام والمفرد، الكل والجزء، المجرد والمشخص، يعبر عن ميل مادي، رغم أن المحدد ليس المقولة في ذاتها، بل شيء آخر، هو تحديد الجوهر والعرض في العلاقة بينهما. وفي الفلسفة القديمة، كان الجوهر هو العام، الكل، المجرد، أكثر من ذلك فإن العام، الكل، المجرد، متعال على المفرد، الجزء المشخص الذي يبدو كعنصر سلبي، مقابل العنصر الفعال، الذي هو العام، الكل، المجرد، هنا تنشأ علاقة "دونية" بين العام، الكل، المجرد، والمفرد، الجزء، المشخص، وهي ذات العلاقة بين العمل الذهني والعمل اليدوي، فيقول أرسطو:" إن رجال الخبرة يعرفون فقط الـ (بأن)، أما الـ (لماذا) فلا. أما الفنانون فيعرفون الـ (لماذا) والسبب. لذلك فإننا نقدر في كل الاختصاصات الفنانين القياديين بشكل أعلى، ونعتقد بأنهم يعرفون أكثر، وأنهم أكثر حكمة من العمال اليدويين. لأنهم يعرفون سبب ما ينشأ. (على العكس من ذلك. يشبه العمال اليدويون أشياء معينة غير حية... وكما ينبعث المفرد من الأشياء عديمة النفس (أو الروح)، وذلك بفضل طبيعتها المحددة، كذلك أيضاً العمال اليدويون بفضل العادة)، إننا نقدر من خلال ذلك الفنانين القياديين عالياً من حيث كونهم أكثر حكمة ليس لأنهم قادرون على العمل بشكل خاص وإنما لأنهم يمتلكون (المفهوم) ويعرفون الأسباب" (أرسطو ما بعد الطبيعة. ص18، 19)، (هامش ص60). وانطلاقاً من ذلك، دافع عن العبودية، حيث اعتبرها "شيئاً ضرورياً من أجل ضمان استمرار القاعدة المادية السلبية والمنفعلة للجميع، كما هو الحال تماماً بالنسبة إلى علاقة الجسد المادي السلبي والمنفعل بالنفس الروحية الإيجابية و الفاعلة"(53). رغم هذه العلاقة "الدونية" يؤكد د.طيب أنها تعبر عن "المنحى المادي" لدى أرسطو، كما لدى ابن رشد، وهو هنا يقفز عن الأساس المحدد للمادية أو المثالية، متمسكاً بـ "الشكل" وأقصد هنا تمسكه بكون مقولة العام/ المفرد، الكل/ الجزء، المجرد/ المشخص، التي تندرج في إطار الرؤية المادية، تجعل كل تمظهراتها في تاريخ الفلسفة دليلاً على وجود "المنحى المادي".
وكذلك فإن مقولة التحول (التغير)، التي يسميها د.طيب "الحركة الذاتية للمادة (122) أو "الحركة الذاتية" (363)، التي كانت أساس النظرية "الإسمية" كما أسميت في العصر الوسيط. تغدو "الشكل الأساسي والرئيسي  للفلسفة المادية في العصر الوسيط" (363. وتبرز ابن رشد مفكراً مادياً عملاقاً تجاوز أرسطو والفلاسفة العرب المسلمين السابقين والمعاصرين له..." (378)، ويوضح الدكتور طيب أن تجاوزه لأرسطو، وهو يشرحه، تحقق من خلال حزم ووضوح فكريين ماديين. (ص379) والأساس الذي استند إليه هو كون (عناصر) عملية الانتقال من الإمكان إلى التحقق تخص بشكل جوهري المادة والصورة نفسيهما" لأن "المادة الأولى وإن كانت واحدة فإنها كثيرة بالقوة والاستعداد" (تفسير ما بعد الطبيعة م3 ص1449) و "أنه لا يمكن أن يكون شيء ممكناً لا يخرج إلى الفعل أبداً" (نفس المصدر م2 ص1140) (377). وبالتالي فالمادة "لا يمكن أن تتضمن بالضرورة هذه الصفة الوجودية في ذاتها" (378)، ولأن (كل شيء يتكون ويصير شيئاً فشيئاً فليس يمكن ذلك فيه إلا أن يكون له بالطبع شيء من الذي هو موجود له بآخره) (تفسير م2 ص1185)، فإن "مقومات تكون وصيرورة الأشياء في العالم هي خاصة بهذه الأشياء"، حيث لا حركة أو تأثير دخيل على الشيء "فالبدء والانتهاء في عملية التكون والصيرورة تلك هما أصلاً بدء وانتهاء متقومان بالشيء نفسه الذي يتضمنهما" وبالتالي فإن الوجود الذاتي للشيء المادي، ليس بمعنى أنه جوهري فقط، بل إنه "ينفي تأثيراً خارجياً مقحماً..." (379).لأن "الطبيعة (يفهم منها طبع الشيء. ط.ت) هي محرك للشيء نفسه، أي موجودة في الشيء بذاته لا بالعرض)، (تفسيرم3 ص1459ـ 1460)، ويستنتج د.طيب أنه بهذا يتلاشى تأثير الإلهي (380). طبعاً إذا تجاهلنا البنية العامة لمنظومة ابن رشد فيمكن لنا أن نصل مع د.طيب إلى أنه من غير المشروع "أن نتكلم عن علاقة (سبب ومسبب) بين الفاعل الأول (الإله) والعالم المادي (الصورة والمادة)، وأن ننفي مقدرة الإله على منح المادة والصورة مواصفاتها الوجودية المبدئية والكيفية، أي إن وجودهما وماهيتهما من خصائصهما نفسيهما. وبالتالي فإن تدخل الإله "على نحو كلي أو على نحو جزئي في شؤون العالم المادي يصبح غير وارد" (380) لكن هذا ممكن فقط بـ "كسر" منظومة ابن رشد وإلغاء جوهرها، الذي هو دور الإله، وهذا تفسير لاحق، يتجاوز منطق ابن رشد. فالحركة حسب ابن رشد، هي فعل الفاعل (تهافت ق2ص482)، (369). ولكن يجب أن يكون "للشيء" "القوة والاستعداد" لفعل الحركة وأن يحوي في ذاته، "شيئاً" من الذي هو موجود له بآخره، وبالتالي يجب أن يتضمن (الإمكان)، أي الاستعداد للتحول إلى التحقق. وأن يتضمن شيئاً هو صائر إليه (التحقق)، وهنا فإن فعل الفاعل متضمن في هذه العملية، إنه يسكنها، إنها، حسب ابن رشد، فعل الفاعل، وبالتالي فهو لم يفسرها كفعل "ذاتي" بل كفعل (إلهي)، وأي تفسير ينطلق من الفعل "الذاتي" تفسير مقحم على ابن رشد، وهو استنتاج لاحق، لكن لهذه المسألة جانباً آخر، وهو أن عملية التحول هذه تبدأ من المجرد إلى الملموس، من "المادة الأولى" إلى "الشيء"، وبالتالي فإن عملية التحول لا تتم في المادة الملموسة (الشيء) بل إنها تتم في المادة المجردة. فالمادة الأولى هي الكثيرة بالقوة والاستعداد أو هي التي تتحول من القوة (الإمكان) إلى الفعل (التحقق). إن عدم شمولية المادة الأولى على القوة والاستعداد، لن يجعلها قابلة للتحول إلى الفعل (التحقق)، إلا إذا انطلقنا من الفكرة الدينية حول الخلق من عدم. وابن رشد يرفض فكرة "الخلق من عدم" (365)، ولهذا كان منطقياً أن يجعل المادة الأولى شاملة على القوة والاستعداد. لكي تتحول إلى الفعل (التحقق). لكنه ربط هذا التحول (الحركة) بفعل الفاعل وبالتالي فاختلافه مع الغزالي هو حول طبيعة دور الإله، وليس التشكيك في دوره، وهو بهذا ظل في حدود الميتافيزيقا، رغم أنه يمكن انطلاقاً من تفسيره لدور الإله، الانطلاق إلى أبعد مما أراد هو، لكن هذا تفسير لاحق، حيث يجري الانطلاق من المادة الملموسة ذاتها، والتأكيد أنها تحمل في "ذاتها" إمكانية التحول (التغير) وهو ما تطور في الفلسفة الحديثة، لكن حتى حينما نصل إلى ذلك فنحن ما زلنا في إطار الفلسفة العقلانية، ولم نصل بعد إلى المادية، رغم أن هذه الفكرة، قبل المادية، اندرجت في إطار الفلسفة العقلانية، وأصبحت جزءاً من المادية، حينما حسمت مسألة أولوية المادي على الفكري، أي حينما ننطلق من المادة الملموسة في صيرورتها الواقعية. 
مقولتا الزمان والحركة خضعتا لذات المنطق، حيث يؤكد د. طيب أنها دلالة على تبني المنحى المادي المتميز من قبل ابن رشد (366)، وعلى أنها المنطلق الواضح في ماديته، (366ـ 367). وابن رشد يؤكد "أن تلازم الحركة والزمان صحيح، وأن الزمان هو شيء يفعله الذهن في الحركة، لكن الحركة ليست تبطل، ولا الزمان، لأنه ليس يمتنع وجود الزمان، إلا مع الموجودات التي لا تقبل الحركة، أما وجود الموجودات المتحركة، أو تقرير وجودها فيلحقها الزمان ضرورة" (تهافت ص150) (366)، إن "ما لا أول له فلا آخر له. وما لا آخر له فلا انقضاء لجزء من أجزائه بالحقيقة، وما لا مبدأ لجزء من أجزائه بالحقيقة فلا انقضاء له" (تهافت ص81)، حيث "لا ينقضي إلا ما ابتدأ" (نفس المصدر ص82) (367). لكن "الحركة فعل الفاعل" وبالتالي فالزمان فعل الفاعل، و "الفاعل للحركة  هو الفاعل للعالم" (تهافت ق2 ص482) (369). لهذا فهذه المقولة تخضع للطابع الميتافيزيقي لمنظومة ابن رشد. لكنها كمقولة منطقية، هي مقولة عقلانية، قبل أن "تنضم" إلى المادية، وحين نبحث في تاريخ الفلسفة، لا يجوز لنا تجاهل تاريخية المقولات. كما أنها كمقولة ليست مادية "بذاتها، ككل المقولات الأخرى.


في المستوى الثالث: التعبير الطبقي للفكر
ينبه د.طيب إلى أنه وهو يرفض "بوعي طرح القضية من خلال منطق ميكانيكي، يرى في الفكر الفلسفي والنظري بشكل عام، امتداداً كمياً لتلك الخلفية (الاجتماعية، الاقتصادية)[18]. إن الاقتصادية Economism تشوه المسألة حقاً حيثما تعتبر مظاهر الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية كلها خاضعة لحتمية اقتصادية خضوعاً اشتقاقياً، بمعنى أن تلك الظاهرة لكي تجد تفسيرها، ينبغي أن تستنبط (تشتق) من الأسس الاقتصادية للمجتمع الذي يحتويها" (45) ولنلاحظ أنه أشار قبلاً إلى مفهوم الانعكاس (121) بمعنى أن الوعي انعكاس للواقع، الذي يعني أن الوجود الاقتصادي، والاجتماعي ينعكس في الفكر، وهذه فكرة مادية أساسية، وأنا ضد الميكانيكية في فهم العلاقة بين الفكر الفلسفي والنظري والأساس الاقتصادي الاجتماعي، لكنني مع مقولة الانعكاس، وبالتالي فإن الوجود الواقعي للطبقات سوف يفضي إلى نشوء فكر معبر عنها، أكرر لكن ليس بشكل ميكانيكي، ولكن أيضاً هذا الانعكاس مرتبط بمستوى "العمل الذهني" لهذه الطبقات، لهذا فإن كل مستويات البنية الفوقية (ومنها الفكر) خاضعة، لكن في التحليل الأخير،[19] للأساس الاقتصادي الاجتماعي، ودون هذا التحديد، "تشطب مقولة الانعكاس. لكن استنباط الفكر لا يشتق مباشرة من ذاك الأساس، إن مقولة الانعكاس تلغي الاستنباط المباشر، لكنها لا تلغي الاستنباط عموماً، بل تفرض شكلاً معقداً من الاستنباط، وبالتالي فإن رفض الميكانيكية يجب أن لا يفضي إلى رفض الارتباط بين الفكر والواقع، ومن ثم أولوية الواقع على الفكر، وإلا دمرت المادية من أساسها. لكن، لماذا يبدي د.طيب هذه الملاحظة؟ أن طبيعة الربط التي يقيمها بن الفكر والطبقات توضح الإجابة. فهو يعتبر أن أرسطو قد مثل "العصر العبودي القديم" (124). وأن نشوء الفكر الفلسفي في اليونان القديمة انطلق من "الجناح الديمقراطي ضمن طبقة مالكي العبيد" (56) المكونة من التجار والباعة وملاك السفن والحرفيين (55). وأن الإيديولوجية القبلية والأسطورية عبرت عن كبار ملاك  الأراضي في "طبقة" ملاك العبيد (55ـ57) وهو يشير إلى دفاع أرسطو عن العبودية (52). وأن "الاتجاه المادي الهرطقي" ومنه ابن رشد قد عبر عن "العلاقات البورجوازية المبكرة التي كانت" تشرئب بعنقها نحو الاستمرار وتطمح في حيازة الوجود الشامل" (124) وعن التقدم الهائل الاجتماعي والعلمي ونشوء الإرهاصات الأولى للعلاقات البرجوازية المبكرة" (379)، ويربط "الأسطورية والغيبية والنصية" بالإقطاع ويسمها بأنها الذهنية (الإيديولوجية) الإقطاعية (356). إنه، إذن يربط المادية بالطبقة المسيطرة في العصر العبودي، وكذلك بإرهاصات نشوء البرجوازية المبكرة بينما يربط (المثالية)، التي تتحدد في القبلية والأسطورية والغيبية والنصية(الدين) بالإقطاع (ملاك الأرض). وبهذا فالمادية هي أيديولوجية الطبقة المسيطرة (المرتبطة بحضارة ناهضة)، وهي تتوسع في المنظومة الفلسفية، بفعل الانتقالات في نمط الانتاج (الذي أساسه التطور العلمي والتكنيكي الهائل)، و(المثالية) إيديولوجية ملاك الأرض، وبالتالي فإن تناقض مادية/مثالية، هو تناقض التجار والصناع / ملاك الأرض. وهذا تخبيص في فهم أنماط الانتاج، (ولن أناقشه هنا)، لكنه يعبر عن لا تاريخية مغرضة، حيث تبدو المادية معبرة عن الطبقة المسيطرة في أكثر من نمط للإنتاج، وبالتالي فإن التغيير في الأساس الاقتصادي الاجتماعي لا يجلب تغيراً في مستوى الفكر، وهنا نلمس ما يهدف إليه د.طيب في تنبيهه سابق الذكر، إنه يهدف إلى شطب مقولة الانعكاس أولاً، كما يهدف إلى فصم العلاقة بين الفكر والواقع، بين الوعي (الفكر) والأساس الاقتصادي الاجتماعي ثانياً، ويهدف ثالثاً إلى تجاوز التحديد المادي حول أولوية الواقع. وإذا كنت قد أبنت الأساس الواهي لمفهوم المادية سابقاً، فإنه هنا يتجلى بوضوح شديد. ويتوضح هنا ما قلته في الفقرة الرابعة، عن الطابع الإيديولوجي لما يطرحه د.طيب، القائم على أساس طموح الفئات الوسطى لتحقيق التقدم البرجوازي، في ظل أزمة هذا التقدم. وفي وضع يتسم (أو كان يتسم) بالتناقض بين الرجعية الممثلة للإقطاع المتخلف المفتت، والمدافع عن الإيديولوجية الغيبية الأسطورية النصية، وبين الفئات الوسطى حاملة لواء العقلانية والتقدم، والمحدد إيديولوجياً بالتناقض عقل/ نص. لكن د.طيب اعتبر هذه الثنائية حاكمة لكل تاريخ الفكر، وهنا تسقط التاريخية. ولكن هذه الثنائية حاكمة للمستقبل أيضاً. ولأن الفكر العقلاني البرجوازي هزيل، كما الطبقة البرجوازية، كان ضرورياً "تشكيله" مادياً، أي كان ضرورياً تكوينه شكلياً في إهاب مادي. ولكن، لأن جوهر المشروع كان عقلانياً بورجوازياً، كان ضرورياً إفراغ المادية من جوهرها، في الوقت ذاته الذي يعلن أنها أساس التحليل. ولكن أيضاً كان ضرورياً شطب الدور الذي يجب أن تقوم به الطبقة العاملة، لهذا نلاحظ أن القول بأن المادية هي إيديولوجية الطبقة المسيطرة في العصر العبودي، ومع نشوء البرجوازية المبكرة، (وتجاهل الإقطاع هنا الموسوم بالغيبية والأسطورية والمثالية، والتفتيت والرجعية، له معنى إيديولوجي راهن)، يسقط دور الطبقة العاملة، ويسقط دور ارتباط المادية بها، خصوصاً مع التأكيد المضخم على مادية ابن رشد وجدليته، وفي الوقت ذاته تعبيره عن العلاقات البرجوازية المبكرة، ليصبح، من المنطقي الاستنتاج، أن المادية هي إيديولوجية الفئات الوسطى، في سعيها لتحقيق التقدم البرجوازي، وبالتالي، كما أشرت سابقأ، فإن "مدمدة" المادية على مدى تاريخ الفلسفة أو اعتبارها سابقة في النشوء على المثالية، وأنها الفلسفة ذاتها، يهدف (أو يقود) إلى إفراغها من معناها الحقيقي، وتشويه مقولاتها، لكي يسهل خلطها بالعقلانية ومن ثم نفيها لمصلحة عقلانية مشوهة، ولهذا لم نجد من المادية سوى كلماتها. فالمادية تؤسس لنفي الاستغلال لأنها تنطلق من إلغاء الملكية الخاصة، والعبودية استغلال، والبرجوازية استغلال وهما يقومان على الملكية الخاصة، والمادية تؤكد المساواة بين البشر، لأنها تسعى لتحقيق الإنسان، بنفيها الطبقات، والعبودية تحول قسم من البشر إلى شيء مساو للحيوان، وهو ما دافع عنه أرسطو كما أشرنا، والبرجوازية تقوم على التمييز بين من يملكون ومن لا يملكون. ما أود قوله إن معنى المادية في المستوى الاقتصادي هو إلغاء الملكية الخاصة، وفي المستوى الاجتماعي تحقيق مقولة الإنسان, والمستوى الفلسفي يقود منطقياً فيها إلى هاتين النتيجتين، وكل الفلسفة، القديمة والحديثة، دافعت عن الاستغلال وعن الطبقات وعبرت أنهما معطى طبيعي.
إن رفض الميكانيكية (الاقتصادية) في تحديد العلاقة بين الفكر والطبقات، يعني رفض إقحام أفكار مسبقة، وبالتالي دراسة الطبقات وأفكارها في الإطار التاريخي، أي دون دراسة للطبقات وأفكارها، "ذهنياً" وبعيداً عن دراسة الواقع/ التاريخ بطبقاته والأفكار المنتجة فيه، وإذا كان د.طيب قد رفض الميكانيكية (والاقتصادية)، فقط أقحم أفكاراً مسبقة، و"رتب" الواقع/ التاريخ بطبقاته وأفكارها، في إطار "ذهني" مغلق، انحكم لإيديولوجية راهنة، فألقى هاجس الراهن على تاريخ الفلسفة وتاريخ الطبقات، فتحولت الميكانيكية والاقتصادية إلى أيديولوجية.
 
 
 
 
 
 
6
الفصل الثالث
 
يقول إنجلز "إن الفلسفة القديمة (اليونانية) كانت مادية مبكرة بدائية ومن حيث هي كذلك، لم تكن قادرة على إيصال علاقة الفكر بالمادة إلى النقطة الدقيقة، أما ضرورة أيضاح ذلك، فقد قادت إلى القول بوجود نفس ممكنة الانفصال عن الجسد، وبعد ذلك إلى التأكيد على عدم فناء هذه النفس، وأخيراً إلى القول بإله واحد. فالمادية القديمة نفيت إذن من خلال المثالية"[20]  (72ـ 73). ومن الواضح أن إنجلز لا يتحدث عن اتجاهات وفلاسفة، بل إنه يتحدث عن "الفلسفة القديمة"، وهو كما يتوضح من النص يقصد "الفلاسفة الأول" وعن فلسفتهم و بالتالي فإنه يتحدث عن "المادية" و"المثالية" فيها أي في منظومة  فلسفية واحدة ليتأكد بأن "الميل" أو "المنحى" المادي أو "البذرة" المادية فيها قد نفيت لمصلحة المثالية، وهي بذلك فلسفة مثالية. أن كلمة مادية في النص يجب أن توضع بين مزدوجتين، لأنها تعني تناول المادة، وبالتالي، إنها لا تعني المادية بمعناها المحدد لدى إنجلز، وإن كان فيها ملمس ما منها، وبالفعل فإن بدايات الفكر الفلسفي، تناولت المادة، وحاولت تفسيرها من "ذاتها" لكن "العدد الأكبر من أولئك الذين تفلسفوا لأول مرة، اعتقدوا أن أصول كل الأشياء توجد في شكل المادة" (أرسطو "ما بعد الطبيعة" ص 64) لهذا أعادوا "أصل العالم" إلى "المادة الأولى الكلية" (69), وهو الماء حسب طاليس، والـApeiron حسب اناكسمندر، وهم "يحددون ذلك الشيء باعتباره الأخير حيث الماء ثابت وإنه يتغير فقط في أعراضه (تأثيراته). لذلك فهم يفترضون أن لا شيء ينشأ ويتلاشى حقاً، بحيث أن ذلك النوع من الطبيعة يبقى محفوظاً دائماًُ… وبالمعنى نفسه لا ينشاً أو لا يضمحل أيضاًُ شيء آخر، إذن ينبغي أن يوجد طبيعة ما، سواء كانت واحدة أو أكثر من واحدة، يتكون منها كل شيء، بينما تظل هي نفسها ثابتة" (أرسطو ما بعد الطبيعة ص 69).
لكن هذا التفسير للمادة من "ذاتها" كان يصطدم بالعجز عن وعي كنهها، وهو مرتبط بمستوى التطور العلمي آنئذ (العلوم الطبيعية)، مما قاد إلى القول بوجود نفس ممكنة الانفصال عن الجسد، وأنها غير فانية، ومن ثم إقحام الإله في المنظومة الفلسفية هذه. إن البحث في "المادة" ضمن حدود مكوناتها، انطلق إذن من أساس شكلي (ظاهري)، من أساس حسي دون أدوات تجريدية منطقية، كما دون وعي علمي، وبالتالي فهو "لمس" شكلي للمادة، يعتمد الملاحظة الحسية، البسيطة (أي غير الخاضعة للاختبار)، ولأنه كان يعاني من ثغرات كبيرة، فقد أقحمت النفس كما أقحم الإله. ولأنه، بالتالي، لم يصمد أمام العقل البشري، الذي عجز عن وعي كنة المادة، تحول مسار البحث من البحث في "المادة في ذاتها" إلى البحث خارجها، وفي هذه الانتقالة نشأ التجريد، وتبلور المنطق وإنها الانتقالة التي أوجدت الفلسفة إذن.
لكنها توضح أيضاً مستوى العلوم الطبيعية المنخفض، الذي لم تكن تهيئ للوصول إلى تجريد نظري حول المادة، من "ذاتها" وهي الحالة التي استمرت عقوداً طويلة، حيث بدا الانفصال واضحاً بين العلوم الطبيعية و"العلوم النظرية" كما اعتبر العلم الطبيعي في درجة أدنى من "العلم النظري" وهو ما كرسته الفلسفة، التي أسماها أرسطو "العلم الأول" وكرس في الفلسفة مفهوم أن المادة عرض وأن "العقل التأملي"، "العقل المجرد" أكثر فعلاً، ووعياً، من "العقل العملي"، وهو وحده القادر على معرفة "الحقيقة المطلقة" التي هي "أصل العالم" و"أصل الأشياء والحركة" وبالتالي "أصل الوجود المادي". ولا شك في أن مستوى تطور "العلوم الطبيعية" الضحل آنئذ، كان يهيئ فقط، لهذا الطريق "المثالي" لأنه ،أولاً، عجز عن وعي كنه المادة، ولأنه ثانياً: قدم تصورات عمومية عنها، كانت تفتح الأفق لتفكير تأملي ومجرد، وبالتالي مثالي، (أولاً ميتافيزيقي) حيث أفضى البحث عن "أصل العالم" في إطار العلوم الطبيعية، إلى تفسيرات مثالية أي إلى عجزها عن تقديم تفسيرات "علمية" مما أتاح للفلسفة تقديم تفسيراتها القائمة على أساس وجود "قوة غير طبيعية" (صورة الصورـ الإله، الله)، هي وحدها القادرة على معرفتها.
هنا نلحظ الانتقال من التفكير الحسي إلى التفكير العقلي، فقد فكر هؤلاء الأول, حسياً، بـ "الشيء" الموجود، وهذه هي أيضاً بداية الأسطورة، لأن الإنسان يفكر في محيطه أولاً، لأنه المحيط الملاصق له. ففي وضع اجتماعي بدائي يكون الوعي "بالطبع وبالدرجة الأولى فقط وعياً للمحيط، الحسي القريب، ووعياً للعلاقة البدائية مع أشخاص وأشياء أخرى، ما عدا مع الفرد الصائر على طريق وعي ذاته"[21] (14)، وحسب ما يكمل ماركس "أن تكون الحياة العقلية والطبيعية للإنسان متعلقة بالطبيعة، ليس له معنى آخر، سوى أن الطبيعة تتعلق بذاتها، حيث أن الإنسان جزء من الطبيعة" (ماركس نقد الاقتصاد القومي في المخطوطات الفلسفية الاقتصادية) (19), والفلسفة بدأت من هذا المحيط الحسي قبل أن تحلق في التجريد، وتضيع في التأمل. إن تفسير الشيء انطلاقاً من ذاته، هو الميل الحسي الأولي لدى الإنسان إذن، وبداية التفلسف كانت من هذه النقطة، ولهذا عبرت عن تفسير ساذج لأنه كان يفتقد أدوات التفكير بالأساس، ولأنه بدأ من الشكل وهذه نقطة ضعف التفكير الحسي المباشر آنئذ (وعموماً)، وبالتالي فإن "مادية" الفلاسفة الأول، تمثلت في محاولتهم البحث في المادة، انطلاقاً من "ذاتها" وهو تفكير ساذج في المادة، لا يرقى لأن يعتبر تفكيراً مادياً، أن منطلق التفكير مادي، لأنه يتناول المادة في ذاتها، إذن، هذا هو "الملمس" المادي فيه، لكنه تناول المادة بنظرة غير علمية، مما عمق ميلاً "مادياً" فيه، حيث جرى اعتبار النفس والفكر من المادة، ونتيجة تخلف "أدوات التحليل" وسذاجة التفكير "المادي" تحول هذا المنطق المادي إلى تصور مثالي عن المادة، وبالتالي يكون قد نفي " من خلال المثالية لقد نفي، ليس من خلال مثالية أخرى، بل أنه نفي من خلال مثاليته هو بالذات، لهذا كان "هذا المنطلق المادي لحظة عابرة في تطور الفلسفة، سرعان ما دفنت، ليشاد صرح المثالية العظيم.
وبالتالي فإذا كان التفكير الحسي حول المادة وأصل العالم، عانى من غياب "أدوات التفكير، فتناول المادة من حيث هي شكل وغرق في تفسير شكلي (ظاهري)، فقط كان ضرورياً من أجل وعي كنه المادة الانتقال إلى الفلسفة، التي كانت المرتع الخصب لتطور "أدوات التفكير" بدءاً بالتجريد، وصولاً إلى المنطق، وإذا كان الفلاسفة اللاحقون قد نهلوا من "الفلاسفة الأول" فقد أخذوا عنهم "المفهومات" والقوا ذاك المنطلق المادي، في سلة المهملات، لتحول المادة، من جوهر إلى عرض، وبالتالي لتنعمق المثالية، لأن الذهن انشغل في التجريد، فبعد عن الواقع، وأهتم بالفكرة، فبعد عن المادة، ونشأ هذا الانشغال نتيجة العجز عن تفسير "المادة في ذاتها" لكنه حقق انتقالة هامة في تبلور التجريد، المنطق، والمفهومات، وهي الخطوة الضرورية لنشوء المادية، التي عادت إلى البدء بـ "المنطلق المادي" لكن بتراكم هائل في المنطق، ليتحول "المنطلق المادي" إلى منهجية متماسكة. إذن، لقد لعبت الفلسفة المثالية دوراً هائلاً في تأسيس البنية المنطقية التي تسهم في وعي الواقع، لكن بعد تجاوز "الضلال" بالعودة إلى "المادة في ذاتها" إلى الواقع. وهذا لا يعني أن تلك البنية المنطقية هي مادية منذ البدء، إنها لم تكن كذلك، فقد تطورت في إهاب مثالي (وأولاً ميتافيزيقي). لكن تحويلها من قبل ماركس هو الذي جعلها جزءاً من بنية مادية، لهذا فإن دراستها في المرحلة السابقة لماركس، تهدف إلى دراسة تطور المفهومات والمنطق، أي التراكم في المنطق الذي هيأ لنشوء المادية، لكن دون تناسي أنها ولدت في رحم مثالي، هذه الدراسة تهدف أيضاً إلى التقدير العالي لدور الفلسفة المثالية، حتى بعد تشكل المادية، أليست هي مهيئة نشوئها؟ من هذا المنطلق يمكن اعتبار الفلسفة أنها مسار العقل وهو  يكتشف منطقه، لكن أيضاً مساره وهو يكتشف منطق الصيرورة الواقعية، رغم أنه ظل يبحث في إطار مثالي، نتيجة ميله إلى تضخيم دوره، لهذا كان منطلق الفلاسفة، أن العقل هو فاعل الواقع، والصيرورة الواقعية، بغض النظر عن الفكرة حول الفاعل التي نشأت في الفلسفة، في المراحل المختلفة. الإله، صورة الصور، الفاعل الأول، المحرك الأول، العلة الأولى…). حيث من دون ذلك لم يكن من الممكن العودة إلى "المادة في ذاتها" ليصبح ممكناً تأسيس رؤية مادية متماسكة. لقد عادت الفلسفة إلى المادة باعتبارها جوهراً، وإلى الواقع باعتباره مبتدأ، انطلاقاً من بنية منطقية متبلورة، وفي ضوء تطور علمي ضخم، يهيئان لوعي كنه المادة، ووعي الواقع، وعياً علمياً.
المسافة هنا، تحدَّد في الفارق بين ميل "مادي" لكنه ساذج (حسي) وبالتالي مثالي، وبين رؤية مادية متماسكة. ولهذا حين الانطلاق، الآن، من هذه الرؤية المادية المتماسكة، يجب أن نعي هذه المسافة، وأن نحدد الافتراق، أن نحدد أن "المادية" القديمة تلك لم تكن مادية إلا من حيث الميل للبحث في المادة انطلاقاً من ذاتها، لكن وفق منطق غير مادي، (مثالي، ميتافيزيقي، وربما أسطوري)، وأن نعي أن هذه المسافة طويلة، تبلور ونضج فيها المنطق في إهاب مثالي، على الضد من المادة، ومن الواقع معاُ. وإذا كان المنطق هذا قد أصبح جزءاً مكوناً في الرؤية المادية، فإنه قد ولد في رحم المثالية، ووظف لخدمتها. وإذا كان العقل قد اكتشف منطق الصيرورة الواقعية، فقد اكتشفها على الضد من الصيرورة الواقعية الحقيقية، وفي التعالي عنها، وانطلاقاً من أنها فعل العقل ذاته، وليست حركة الواقع. وبالتالي فإن مهمة ماركس كانت ذات أهمية عميقة في هذا المجال، لأنه كسر المرآة، التي كانت تري الواقع مقلوباً، فقد حطم الفلسفة برمتها، نازعاً منها لبها (المنطق)، لكي يحدد فعل العقل في وعي الصيرورة الواقعية (الحقيقية) ليس كما حدثت فقط، بل كما يمكن أن تحدث. وبالتالي لا يمكن لنا أن نعتبر الجدل الذي هو منطق المادية، بعد تبلورها، معبراً عن مادية ما، قبل ذلك، لقد كان جزءاً من منظومة مثالية، وخدم أهدافها، الرؤية المادية، إذن، لم تخلق "من العدم" وإذا كانت الهيولى في الفلسفة القديمة، تبقى مقولة مجردة، وبالتالي لا تتجسد إلا بفعل الصورة، فإن التراكمات الهائلة في المنطق التي نشأت في الفلسفة المثالية، لا تصبح مادية، إلا حينما تتبلور في الرؤية المادية، إنها قبل ذلك مقولات مجردة، وجزء مكوم في منظومة مثالية، لأنها ليست محدد المادية والمثالية، إنها تبع لمحدد، هو كما أشرت سابقاً، أولوية الفكر أو الواقع/ المادة، وبالتالي فاكتشاف التجريد، و بلورة الجدل، أو تبلور مفهوم المادة، أو العام والخاص، الجوهر والعرض، الجزء والكل، أو الشكل والمضمون، أو الصيرورة، أو المجرد والمشخص ... إلخ. لم يعن، ولا يعني على الإطلاق اكتشاف المادية، أو أن هذه المقولات مادية، إنها تبع للمنظومة الفلسفية التي وجدت فيها، ولكنها غدت (مع تحوير ما)، جزءاً من الجدل المادي، وبالتالي من المنظومة الفلسفية المادية. ودراسة تاريخ الفكر من وجهة نظر مادية، تهدف ـ في هذا المجال ـ إلى دراسة تطور هذه المقولات (التراكمات التي شهدتها) قبل أن تصبح جزءاً مكوناً من الجدل المادي، إنها إذن، (آلة) حسب تعبير ابن رشد، محدد مثاليتها أو ماديتها، ليس "ذاتها" بل المنظومة التي توضع فيها (أو تستخدم فيها). وهنا بالضبظ، يتحدد معنى فكرة إنجلز حول أن المادية والمثالية، يتحددان فقط في الإجابة عن السؤال: أولوية الفكر أو المادة؟ فالاتجاه الذي يجيب بأولوية الفكر يوسم بالمثالية، والاتجاه الذي يجيب بأولوية المادة يوسم بالمادية[22]، سواء استخدم هذه (الآلة) أو لم يستخدمها. هذه الآلة تبلورت في الجدل الذي حوى كل المقولات السابقة ومقولات أخرى (النسبي والمطلق، التناقض، الكم والنوع، ونفي النفي مثلاً).
والافتراق بين "المادية: القديمة تلك والمادية الحديثة، هو كالافتراق بين المشاعية القديمة (النمط المشاعي) والشيوعية. فرغم أنهما يشتركان في غياب الملكية الخاصة، إلا أن الهوة واسعة بين البنية القبلية والانتاج القبلي (الرعوي)، والوعي القبلي (الأسطوري ـ الخرافي) وبين البنية الحديثة، ففي الأولى عابت الملكية الخاصة لأنها لم تكن قد عرفت بعد، وهي تغيب هنا بعدما كانت قد ترسخت خلال آلاف القرون، وبالتالي قد غابت في الأولى نتيجة بدائية التطور، وحيث لم يتبلور الوعي بها بعد، وتغيب هنا بعد تكرس الوعي بها، هذا إضافة إلى التطور الهائل في وسائل الإنتاج وفي الوعي (في البنية التحتية وفي البنية الفوقية عموماً)، وأوصل هذا التطور الهائل إلى الوعي بالحاجة إلى نفي الملكية الخاصة لكي يستمر التطور.
إن مادية تلك الفلسفة، كانت  بدائية، بدائية المشاعة (وأنا هنا لا أربط تلك "المادية" بالمشاعة، لأنني أعرف أنها نشأت في مرحلة الانتقال إلى المجتمع الطبقي، ولكنني أحاول المقارنة فقط)، لهذا قلت أن كلمة "المادية في نص إنجلز آنف الذكر، يجب أن توضح بين مزدوجتين، فأنا لا أنفي وجود ميل مادي ما فيها، كونها تنطلق من "المادة كذات" لكن كان يجب التوضيح بأنها لم تنشأ عن وعي مادي، بل نشأت كميل عفوي (وساذج) في دراسة المادة. ورغم ذلك فقد اشبعت مثالية، لقد "نفيت إذن من خلال المثالية" حسب ما يكمل إنجلز. لهذا "توجب عليها لاحقاً إخلاء الطريق لأساليب أو رؤى نظرية أخرى.[23] (60). هنا دفنت "المادية" وأخلت الطريق لتطور الفلسفة، وبالتالي الميتافيزيقا ومن ثم المثالية، قبل أن تنهض من جديد مستفيدة من كل ذلك التطور، ومؤسسة في صيغة علمية، وبالتالي فقد كانت "المادة" في بواكير الفلسفة اليونانية لحظة عابرة غير واعية، لأنها انطلقت من الإحساس وليس من العقل، وبنيتها المثالية، التي أحاطت بها، هي التي أسست بواكير تلك الفلسفة، التي اتسمت بأنها ميتافيزيقية، وكانت العودة لـ "المادة" عودة واعية، ولكن فصلت بين تلك اللحظة غير الواعية، والرؤية الواعية مرحلة طويلة من سيادة الميتافيزيقا و من ثم المثالية. وتكمن أهمية هذه المرحلة الطويلة في أنها بلورت "الآلة" التي سمحت بالعودة الواعية لـ "المادة / الواقع".
 
 


7
نحن هنا أمام الرؤية المادية، لتاريخ المادة، فهل لنا أن نطابق بين المادية الحديثة، و"المادية القديمة"؟ وهل نستطيع الاستنتاج، من هذه المطابقة، غياب "المادية" في الماضي؟. بمعنى: كيف يمكن للمادية الحديثة أن تبحث في تاريخها؟ المحظور هنا عكس الحاضر على الماضي، والمسألة الإشكالية بالتالي، هي تقويم الماضي بعين الحاضر. إن البحث في التاريخ عموماً، وفي تاريخ الفلسفة على وجه الخصوص، ينطلق من رؤية (منهجية) تحكم الباحث، وهذه هي أهمية اعتناق منهجية محددة، وإلا تحولت إلى شعارات (فارغة). والسؤال هنا يتعلق بامتلاك جوهر (لب) المنهجية، أو العجز عن ذلك، مما يجعل البحث منطقياُ، أو مفككاً، وبالتالي فالبحث يخضع (وأقول خضوعاً صارماً) لضوابط المنهجية تلك. هذا الخضوع يمكن أن يفضي إلى تمسك شكلي بتلك الضوابط، أو يفضي إلى تمسك عميق بها، والخضوع الصارم هذا، وفق التمسك العميق بالضوابط، لا يفضي إلى حدود الجمود على الإطلاق لأن الجمود من سمات الشكلية، بل يفضي إلى المرونة، إلى البحث المتحرر من المنطق الشكلي، بالتالي إلى رؤية المادة المبحوثة من داخلها، ووفق ما تعنيه في لحظتها.
نعود بالتالي إلى السؤال: كيف يمكن للمادية الحديثة أن تبحث في تاريخها؟ يجيب د.طيب "في هذا الإطار من القضية نود التحذير من محاولة (تطويع) التاريخ الفلسفي، ومن ضمنه الفترة الطاليسية (التي أشرت إليها في الفقرة السابقة، س). للصيغة الحالية المعاصرة للمسألة الأساسية للفلسفة… كأن نحاول مثلاً أن (نشتق) ذلك التاريخ من هذه المسألة، وأن نرفض بالتالي ما لا ينضغط تحت هيكلها الحالي المتطور. بل بالعكس من ذلك، نحن نرى ضرورة استخلاص ملامح هذه (المسألة الأساسية) من تاريخها الخاص والتطورات التي طرأت على بنيتها في العصر الحديث والمعاصر، فهنا ضمن هذه الرؤية ينتفي الحديث عن (تطويع) (تاريخ) المسألة الأساسية تلك من قبل وضعها وبنيتها التي أكتسبتها في العصر الحديث، خصوصاً لدى ممثلي الفلسفة المادية الجدلية". (ص 76)
في هذه الفكرة "مرونة" كما يبدو من سياقها، لكنها "المرونة" الناشئة عن شكلية مفرطة، لهذا فإنها تعبر عن "جمود نظري" أشرت في فقرات سابقة إليه، حيث بدا أن التمسك بالمادية يساوي التمسك بكلمة "مادة" وهو ما أسميته "المادوية" وأن التمسك بالجدل المادي (أو كما يسمى: المادية الجدلية) (76) يساوي التمسك بكلمات "جدل، تجريد"، العام والخاص، السبب والنتيجة، الصيرورة، الواقع والإمكان، الوحدة والكثرة... إلخ). وهذا هو المنطق الشكلي، الذي يقارن كلمات بكلمات، دون الالتفات إلى معناها في منظومة ما، ليعني اتفاق الكلمات أو تقاربها، اتفاقاً أو تقارباً للمنظومات، بينما هي تنتمي لمنظومات مختلفة، ومتناقضة.
هنا أبدي الملاحظة الأولى، حول "تطويع" تاريخ الفلسفة للصيغة المعاصرة للمسألة الأساسية في الفلسفة، بمعنى اشتقاق ذاك التاريخ من هذه المسألة، أي التطويع المعكوس. إن تقديم المسألة بهذه الصيغة يفتح الأفق لضياع المسألة الأساسية في الفلسفة، كما لضياع التاريخ الفلسفي، فإذا كنا لا نريد أن يرفض ما لا ينضغط تحت هيكلها، فسنضطر لأن نرفض ما لا ينضغط تحت هيكل "التاريخ الفلسفي" أو على الأقل، أن نقبل هذا وذاك على أنهما شيء واحد، أي مادية، فهل يمكن لنا أن "نمط" المادية، أو أن "نقزمها"؟ كما يبدو فإن مفهوم "المسألة الأساسية في الفلسفة" غائم ومشوش، وينبع ذلك من تشوش معنى المادية والمثالية. وهو ما يدعونا إلى التساؤل: ما هي المسألة الأساسية في الفلسفة؟ لا شك أنني كررت هذه المسألة مرات عديدة، وأشرت إلى موقعها في تأسيس المادية الحديثة (أي الجدل المادي)، وإلى قيمة ماركس انطلاقاً من تحديده إياها، لكن اعتقد أنني مضطر لإعادة تأكيدها. إن المسألة الأساسية في الفلسفة، هي التحديد هل الأولية للفكر أو للواقع/ المادة؟ إنها هكذا بالضبط، وفقط، وهو ما أكده إنجلز بوضوح شديد في كتابه "لودفيع فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية". كيف لنا، إذن، أن نطوع أن نشتق تاريخ الفلسفة منها، أو نشتقها ونطوعها له؟ فالمسألة هي "إما، أو" وهذه أو تلك، في هذا السياق من غير الممكن لا تطويع التاريخ الفلسفي لها، ولا "تطويعها" له، لا "اشتقاقه" منها، ولا اشتقاقها منه. أنها تبدو كـ "معادلة رياضية بسيطة" لكنها، رغم هذه الصيغة البسيطة والصارمة، أكثر تعقيداً من ذلك، لأن لها مستويين، الأول: أننا نتكلم عن فكر وعن فلسفة، وبالتالي عن بنية "منظومة"، وتحديد الأولوية تلك يؤسس في ضوء تحديد جوهر هذه البنية "المنظومة"، فالذي يحدد مادية أو مثالية منظومة ما، هو طابع بنيتها الكلية (العامة)، ليس فكرة فيها. لهذا فحينما درس إنجلز فيورباخ، وضعه في صف المثالية، رغم أن فيورباخ هو اللحظة الأخيرة التي أوصلت ماركس إلى ماديته. هنا يكمن تعقيد التحديد، وبالتالي فإن هذا الشكل البسيط، يخفي تعقيداً جماً، فإذا كنا سننطلق من هذا الشكل البسيط، لوصلنا إلى نتيجة هي أن "الماركسية السوفياتية" وكل تكويناتها الأخرى، هي مادية، لأنها تؤكد، دون لبس، على أولوية المادة/ الواقع على الفكر، لكن دراسة مجمل بنيتها سيوصلنا إلى النتيجة المعاكسة، وهي أنها مثالية، لأنها تعطي الأولوية للفكر، إنها تخضع المادة/ الواقع للفكر, التعقيد نابع إذن من تحديد الطابع الكلي (العام) للفكر/ الفلسفة. في المنهجية، ضبط صارم إذن، لكن المشكلة تكمن في وعي بنية الفكر/ الفلسفة، التي ستخضع لهذا الضبط الصارم، وهنا يتحقق "التطويع" و "الاشتقاق" و "التشويه" و "الضغط" و "المط".
المستوى الثاني: أننا نردد كلمات مادة، فكر، مادية، مثالية. ولهذه الكلمات معان في منظوماتها، وهي، ضمنها، تخضع لتحديد صارم أيضاً، وبدون هذا التحديد الخاضع لمنظومة محددة، فلن يكون لهذه الكلمات معانيها المقصودة، وبالتالي فإن استخدامها لن يفيد المعنى المعطى لها في منظومتها. فحينما يقول إنجلز إن المادية والمثالية، متعلقتان بتحديد أولوية الفكر أو المادة، فليس لكل منها معنى خارج هذا التحديد. ولكن أيضاً لا بد من وعي المعنى المحدد لكلمات مادية، واقع، فكر، هنا أيضاً، يتحقق "التطويع" و "الاشتقاق" و"التشويه" و"الضغط" و"المط". ولقد لاحظت ذلك سابقاً، حيث "نهبت" المادية كل تاريخ الفكر، فقد تكون "هذا الشكل الجديد من الفكر الإنساني، الفلسفة فقط "ضمن مفهوم مادي" (ص64)، حيث "ضغط" كل تاريخ الفكر الفلسفي تحت هيكل المادية، لكن، هنا أكرر ما أكدته في فقرة سابقة، مع إفراغ المادية من معناها المحدد، ليتحقق ما حذر منه د.طيب ومعكوسة معاً، والمنطق الشكلي هو أساس هذه المزاوجة بين "الضدين" (الخيارين المتعاكسين). إن المادية، إذن، هي المادة والتجريد والجدل، والعقل، والصيرورة، والفلسفة والفكر... إلخ. وهذه هي ملامح "المسألة الأساسية" حسب استخلاص د.طيب، الذي لا يلتزم المسألة الأساسية هذه بل يدعو لضرورة استخلاص ملامحها العامة (ص76). وبالتالي لا تعود "المسألة الأساسية" في الفلسفة هي ما أوردته سابقاً، بل تتحول إلى ملامح، إلى ظلال. إنها "تمط" لكي تشمل كل الفلسفة، وهنا يضيع الضبط الصارم للمنهجية، بل تضيع المنهجية ذاتها، لتبقى منها الكلمات، الكلمات فقط، وهو ما لاحظته سابقاً، في الخلط بين المادية والعقلانية، بين الرؤية المادية (الجدل المادي) والفلسفة المثالية، والمقتطف السابق يوضح هذا الخلط، ما دامت الفلسفة، على العموم مادية.
إن استخلاص ملامح هذه "المسألة الأساسية" من تاريخها الخاص ومن التطورات التي طرأت على بنيتها في العصر الحديث والمعاصر، (ص76)، بات يعني، بالتالي، تجاوز المسألة الأساسية تلك للتخلص من ضوابطها، أي إفراغها من محتواها، لأن هذا "الاستخلاص" يقوم بالضرورة على "نزع" ما هو مشترك من معناها في "تاريخها الخاص" وفي التطورات التي طرأت على بنيتها في العصر الحديث والمعاصر، وليس من مشترك بين هذا وذاك سوى الشكل، (بالتالي ، الكلمات، لكن المعطاة معاني غير معانيها في منظومتها)، ويمكن أن نلحظ ذلك من خلال مفهوم "الكم والكيف" ، "التراكم الكمي والتغير النوعي ـ الكيفي" فقد تبلورت المسألة الأساسية في الفلسفة والرؤية المادية، كلها "لدى ممثلي الفلسفة المادية الجدلية" (حسب تعبير د.طيب ص76)، انطلاقاً من التراكم الكمي الهائل طيلة قرون، وبالتالي فقد عبرت عن "تغير نوعي" وإن كان حوى تلك التراكمات فقد نفاها أيضاً، لأن التغير النوعي، يحمل ملامح عامة من ذاك التراكم "الكمي" لكنه ليس التراكم ذاك، لأنه بتحققه، يكون قد أعطى معنى جديداً للمفاهيم المتراكمة، ووضعها في بنية متطورة، هي انتقالة أي صيغة أخرى مطورة. فالتراكم في مفهوم "المادة" يغدو غير المادية، وإن كان هذا التراكم هو الذي أسس (هيأ) لنشوء المادية، وإلا كان التراكم متصاعداً دون تحقيق التغير النوعي، وهنا يسقط مفهوم "الكم و الكيف" ويخرج من بنية الجدل المادي، ليحل محله مفهوم "الكم" فقط، وليصبح ماركس "إضافة كمية" في "تاريخ المادية" الذي هو "تاريخ الفلسفة". ولهذا وضعت تعبير تاريخ المادية، بين مزدوجتين، والمسألة لا تتعلق بماركس الشخص، لكنها تتعلق بالانتقالة التي حققها التغير النوعي (الكيفي) الذي أحدثه في "تاريخ الفلسفة". إن الانطلاق من مفهوم "الكم" وحده يؤسس لتاريخ المادية تصاعداً، حيث المقولات تنضج شيئاً فشيئاً دون نهاية، دون تحول، لهذا يشار إلى "التطور البارز والملحوظ للاتجاه الأرسطي المادي على يد ابن سينا وابن باجه وابن طفيل" (ص357) وابن رشد وأسلافه" ابن سينا وابو بكر الرازي وابن طفيل" وصولاً إلى سبينوزا (ص372) و(ص73) وكانت kant (ص387). ويحدد بأنه "تاريخ الفكر المادي الهرطقي والجدلي، (388). إنه تراكم متصاعد إذن، وماركس مرحلة في هذا التصاعد ليس إلا.
إننا هنا أمام مسألة علاقة "الكم" بـ "الكيف" حيث يطرح السؤال حول طبيعة التغير النوعي الذي يفضي إليه هذا "الكم" لكنه هنا يبدو سؤالاً نافلاً، لأن "الكم" لا يتحول إلى "كيف" بل يبقى كماً متراكماً، وإن متصاعداً، ليبدو مفهوم التصاعد أيضاً، كمفهوم ساكن، وربما التوسع في "ركام المادية" لتبدو "المادية الجدلية" كجمع لهذا الركام، وإذا شئناً إدخال مفهوم الكيف فسوف يبدو من ذلك أن هذا التغير النوعي يتحقق في الأجزاء دون أن يطال البنية العامة، أي دون أن يحقق تغيراً نوعياً في تلك البنية، إنها، بالتالي مسألة توسع المادية، وتراجع المثالية، ضمن تلك البنية، مما يجعلنا نعيد صياغة الفكرة العامة هنا، على الشكل التالي: الفلسفة نشأت مادية، وهي استمرار للاتجاه المادي في الأسطورة (ليبدو الدين كاستمرار للاتجاه المثالي فيها)، لكنها كانت تعاني من تأثير المثالية، بهذا القدر أو ذاك، وقد حقق التراكم فيها التقليص التدريجي لتأثير المثالية، بقدر ما كانت تفرض نفسها، بفعل دور الفلاسفة العظام في تطوير مقولاتها. لكن أيضاً، بفعل تصاعد صراعهما ضد الغيبية والأسطورية والنصية (الدين)، هذه هي "الخاصية الذاتية" لتاريخ الفكر، خاصية التناقض بين المادية والمثالية، في هذا السياق يفهم "تأرجح" أرسطو بين "المادية" و "المثالية" رغم "ماديته"، وتقلص تأثير "المثالية" في فلسفة ابن سينا، وأبو بكر الرازي، ثم ابن باجة وابن طفيل، وتلاشيه في فلسفة ابن رشد، وحسب هذا المنطق فقد نتج التقلص عن خفوت دور "الفاعل الأول" لمصلحة العقل "المادي"، ليتحدد بأن "التغير النوعي" هو هذا التقلص، وهو بالتالي لا يمت لمفهوم "التغير النوعي" بأية صلة، هنا نلحظ التراكم الكمي فقط، يحكمه منطق شكلي.
وتنبع شكلية هذا المنطق من تجاهل "الكيف". إن غياب رؤية الانتقالة التي يحققها "الكم" عبر "التغير النوعي" يجعل المقولات والمنظومات مفترضة مسبقاً، ومن ثم تجري "مطمطة" المقولات والمنظومات القديمة، لمصلحة مقولات ومنظومات حديثة، وإذا عدنا إلى مسألة "الاستخلاص" تلك، نلحظ أن ما هو "مستخلص" هو الشكل/ الكلمات. فهو الموحد بين هذه المقولات والمنظومات (القديمة والحديثة)، وهو ما يطلق عليه "ملامح". وفي إطار هذه العملية تهدر معاني الكلمات /المقولات، حيث تحت مبرر، "استخلاص ملامح", ورفض "التطويع" و"الاشتقاق" تفقد "المسألة الأساسية في الفلسفة" معناها المحدد في الجدل المادي، وتعطي معنى مبهماً، كما يفقد كل الجدل المادي معناه وضوابطه،. ولقد أشرت إلى ذلك في فقرات سابقة. وفي الوقت ذاته، تحور الكلمات/ المقولات في الفلسفة القديمة، وتعطى معاني غير المعاني التي تحددت لها ضمن منظوماتها، حيث "تمط" لكي تطابق ذاك المعنى المبهم، و"المتمرد" على الضوابط. ولقد ناقشت هذه العملية المزدوجة في الفقرة الخامسة، حيث كان يكفي لدى أرسطو تأكيده أن "المادة ـ جوهر" في سياق بحثه الطبيعي، ليؤكد على ماديته، رغم أنه أخرج هذه الفكرة من كل منظومته، التي حدد فيها أن "المادة ـ عرض"، وكان يكفي لدى ابن رشد تأكيده أن "المادة ـ جوهر" بغض النظر عن تحديده أن المادة إما جسم، وإما نفس، وإما عقل". وكذلك كان يكفي تكرار مفاهيم عقلانية مثل التجريد، أو العقل، أو السبب والمسبب، العام والخاص، الكل والجزء، التجربة العلمية، الزمان والحركة، وحدة الوجود، للتأكيد أنها تعبر عن "منحى مادي" و "ميل مادي" وميسم مادي" و" مادية"، رغم أنها تتعلق بالمنطق، الذي نما وترعرع ونضج في رحم المثالية، وفي رحم الفلسفة، التي هي مثالية، ولنتذكر أن عمل ماركس، في هذا المجال، تركز على تدمير القشرة المثالية التي كانت تلف "اللب" الذي هو الجدل، وهو بعد أن نزع هذا "اللب" اعتبر هيغل هذا الذي قلت تكراراً أنه مثل الشكل الأرقى للفلسفة، "؟؟؟؟؟؟ "، كما أنه اعتبر، أنه بفعله هذا، قد دمر الفلسفة، لأنه هدم مبرر وجودها. الذي تمثل في البحث المنطقي العقلي (المجرد), فأوقف بذلك هيغل على قدميه، حيث أصبحت مهمة هذا "اللب" البحث في المادة/ الواقع، وفي هذه النقطة أخذت "المسألة الأساسية" كل قيمتها، حيث أصبح الواقع/ المادة هو محدد الفكر، وبأن مهمة الجدل هي البحث في الواقع/ المادة، وهو مبدأ تشكل الجدل المادي.
إن تجنب "التطويع" و"الاشتقاق" أفضى، إذن، إلى القول بملامح عامة، بدت مبهمة و"مطاطة"، تتخلى عن الجدل المادي، وتشوه تاريخ الفكر الفلسفي، وإننا أمام ملامح قاتمة، غير محددة وضبابية، فيها من المادية الشكل/ الكلمات، ومن المنطق "اللا منطق" (العشوائية). ولا شك في أن "التوحيد الشكلي" يفضي إلى العشوائية, وبالتالي، فإنها، وهي تؤكد المادية، تلغيها، كما أنها، وهي تسم المقولات العقلانية بالمادية تشوهها، لهذا قلت إنها "ملامح قاتمة" وإنها ، أيضاً، وهي تدعو إلى رفض الجمود (التطويع) لا تقود إلى المرونة، بل إلى "السيولة". (تداخل المفاهيم واختلاطها), لهذا فهي غير محددة، بلا ضوابط، لا صارمة، ولا غير صارمة. إن الإجابة عن السؤال: كيف يمكن للمادية الحديثة أن تبحث في تاريخها؟ تبدو نافلة، لأننا لا نجد المادية الحديثة ذاتها، قبل أن نبحث في تاريخها الخاص، كما أننا لا نجد تاريخاً خاصاً لها. لأن تاريخ الفلسفة كلها هو هذا التاريخ، باعتبار أن الفلسفة مادية "بالطبع". وإن شئنا التحديد، فإن تاريخها هو تاريخ الفلسفة كلها، بينما يتحدد تاريخ المثالية في تاريخ الأسطورة، والغيبية والنصية، وتأثيرها في الفلسفة. نلمس هنا، أن إشكالية العصر العربي الإسلامي، التي تمثلت في صراع الفلسفة ـ الدين، العقل ـ النص، تخترق المنطق ذاك، في ثوب حديث، هو ثوب المادية ـ المثالية لكن المعمم على كل التاريخ، وتاريخ الفكر خصوصاً، لتكون الضبابية، ويكون التشويش الذي طال "المادية الجدلية" والعقلانية والفلسفة عموماً، هما الوسيلة لإعادة صياغة تلك الإشكالية القديمة في ثوب حديث. وهنا ألمس ناحية أخرى، من أزمة الفئات الوسطى التي أشرت إليها في الفقرة الرابعة، هذه الفئات التي حاولت السعي لانتصار العقلانية وهزيمة الأسطورة والغيبية والنصية (الدين)، وكان أحد أشكال ذلك "التكويش" على تاريخ الفلسفة، وحتى على بعض الاتجاهات "العقلانية" في التاريخ العربي الإسلامي (المعتزلة مثلاً)، هو منطلق البحث في التراث، منطلق "النظرية التراثية" لدى د. طيب. نحن هنا، بالتالي، في مواجهة الإيديولوجية وليس العلم (وأساسه الجدل المادي)، في مواجهة محاولة أيديولوجية لصياغة تاريخ الفكر، والأيديولوجية عادة تهرب من ضوابط العلم،  بالتالي فإن صيغة "على طريق الوضوح المنهجي" (وهو عنوان المدخل ص5) يجب أن تصاغ بطريقة أخرى وهي "على طريق الغموض المنهجي" لأن الأيديولوجية تطل برأسها، لتفكك المنهجية وتشوهها، فتجعل الواضح غامضاً، والمحدد "منساباً".
إن البحث في تاريخ الفلسفة، من وجهة نطر مادية، يجب أن ينطلق من "المسألة الأساسية في الفلسفة"، أولوية الواقع/ المادة أو الفكر، فهذه المقولة محدد منهجي من غير الممكن التمسك بالمادية والجدل المادي دون اعتبارها كذلك. وقيمة المنهجية أنها تصبح ضابطاً للبحث، ولقد أشرت من قبل أن الذي يفضي إلى الجمود (التطويع). ليس هذا الضبط الصارم، بل إن التمسك الشكلي بالمنهجية هو الذي يفضي إلى ذلك.إن التمسك بهذا المحدد المنهجي، يقود إلى التحديد العلمي، لمادية أو مثالية الفكر، وهذا أساس جوهري في المادية، التخلي عنه يقود إلى التخلي عن المادية، لأن المادية هي القول بأولوية الواقع/ المادة، وبأنه منتج الفكر (وهنا يتحدد مفهوم الانعكاس)، وبالتالي فإن رفض هذا الأساس، صراحة أو مداراة، يفضي إلى العكس، أي إلى القول بأولوية الفكر، إي إلى المثالية. هنا إذن التحديد صارم، لأن المبتدأ والمنتهى، هو أولوية الواقع/ المادة أو الفكر، وهو الانطلاق من "الأرض" أو من "الفضاء"، وهو القول بأن المادة عرض والصورة جوهر، أو العكس، الصورة تنتج المادة، أو المادة تنتج الصورة، وهنا بالضبط يكمن تحديد مادية الفكر أو مثاليته، وليس في أي مجال آخر، بمعنى أن لا معنى لتحديد مادية أو مثالية الفكر خارج هذا الأساس، هذه هي فكرة إنجلز، التي أعتقد أنها دقيقة، ولقد صاغها وهو يقيِّم فيورباخ وهيغل معاً (إنجلز لودفيع فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية) وخصوصاً وهو يقيِّم إنجاز فيورباخ، الذي كان "المحرض" المباشر لماركس لبلورة ماديته. وحسب إنجلز فإن فيورباخ، في التحليل الأخير، مثالي، لأنه أقحم "الحب" في منظومته، وبالتالي غلب "الروح" على الواقع/ المادة[24]. المسألة هنا، تكمن ليس في توافق مقولات ومفاهيم في فلسفة ما والمادية، فهذه من التراكم الكمي الذي أسس لنشوء المادية، بل في تحديد المآل الأخير للمنظومة التي تحوي تلك المقولات والمفاهيم، من زاوية تحديد الأولوية للواقع/ المادة، أو للفكر/ الروح، وإلا اعتبر هيغل "أبو" المادية، لأن جدل ماركس مستمد مباشرة من هيغل. وبالتالي ليس من الممكن استيعاب جدل ماركس دون جدل هيغل. أو لاعتبر فيورباخ "أبو" المادية، لأن "واقعية "ماركس مستمدة مباشرة من فيورباخ، لكنهما (هيغل وفيورباخ) حسب ماركس وإنجلز، التراكم الأعلى في الفلسفة المثالية، الذي أنجب الجدل المادي كانتقالة نوعية وليس كاستمرار لذاك التراكم. لهذا عمل ماركس (وكذلك إنجلز)على تحديد القطيعة معهما (هيغل وفيورباخ)، إلى الحد الذي دفعه في لحظة، إلى اعتبار هيغل "؟؟؟؟؟؟؟ "وإذا كان قد أعلى من شأنه في مقدمة "راس المال"[25] فإن تعبير ".؟؟؟؟؟" كان يهدف إلى تحديد القطيعة، لتأكيد تحقق الانتقالة النوعية.
أما انطلاقاً من التعامل الشكلي مع المادية، فسنلاحظ الجمود، حيث يبقى من المادية كلماتها، كما لاحظنا سابقاً، لتصبح هذه الكلمات هي محدد مادية أو مثالية الفكر، ولأن الكلمات تتكرر في كل الاتجاهات الفلسفية يحكم على الفلسفة بأنها مادية (ص64). المنطق الشكلي إذن، يتحرر من المعنى لمصلحة الشكل، يسقط معاني الكلمات، يسقطها كمفهومات، كما هي في منظوماتها، ويطبق الكشل هذا بطريقة أكثر صرامة وضبطاً، وهنا تتحدد الفلسفة بأنها كلمات، وليست أفكاراً. لهذا لا يعود أي وجود للانتقالات، والتغير النوعي لأن الكلمات هي الكلمات، والمعاني (الأفكار) هي التي تتراكم وتتغير. كلمة مادة، مثلاً، وجدت منذ نشوء الفلسفة، ولكن معناها تراكم وتغير في المستوى العلمي الطبيعي، وفي المستوى الفلسفي، وعلاقة المادة بالصورة وجدت، كذلك منذ نشوء الفلسفة، لكنها تراكمت في سياق تطور الفلسفة، ومن ثم تعيرت نوعياً (انقلبت). إننا هنا، إذن أمام عملية "تطويع" فلسفة لأخرى، انطلاقاً من الملامح المستخلصة، التي تتقوَّم في الشكل/ الكلمات، وبذلك فقد عُدَّت الفلسفة، الميتافيزيقية القديمة، والفلسفة المثالية الحديثة، مادية، أي طُوِّعت لـ "الفلسفة المادية الجدلية". وفي الحقيقة فإن كلاً من الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة، و "المادية الجدلية" طوعت "لملامح مستخلصة" هي كلمات/ شكل مختارة من هذه الأخيرة، لكنها أيضاً هي كلمات /شكل كل هذه الفلسفات. ولا شك في أن أية "ملامح مستخلصة" ستكون هذه، أي الشكل/الكلمات، لأنها الشيء الوحيد المشترك بينها، إذا ما أخذت كمنظومات، أما الأفكار فهي التي تطورت ومن ثم تحولت، وبالتالي فلا مشترك بينها. سنلاحظ مثلاً، أن الفاعل الأول في الفلسفة القديمة هو "صورة الصور، الإله" الذي هو قوة فوق الطبيعة وبالتالي فوق العقل،(رغم أنه منتوج العقل)، بينما هو في الفلسفة الحديثة العقل البشري ذاته، والأفكار التي ينتجها، وفي هذه وتلك فالأساس المثالي واضح (رغم الاختلاف الذي اشرت إليه سابقاً، بين الميتافيزيقا والمثالية، وهو في الجدل المادي، الواقع/ المادة، ولهذا أصبح الجدل مادياً، فما المشترك بين أن يكون الفاعل الأول، فوق البشر، وفي البشر (العقل/ الفكر)، وفي العلاقات الاقتصادية الاجتماعية للبشر؟ أليست الكلمات المتكررة في كل هذه الفلسفات هي المشترك الوحيد؟ وما المشترك بين أن تكون المادة عرضاً (مظهراً) لجوهر (هو الصورة في الفلسفة القديمة، والفكر في الفلسفة الحديثة)، وبين أن تكون جوهراً لعرض، لمظهر هو الفكر؟ أليست كلمة "مادة" هي المشترك؟ وهكذا... في المعنى، أي في الأفكار في إطار المنظومات الفلسفية، سنلاحظ الانتقالات (التغير النوعي)، أما في الشكل، أي الكلمات المتكررة في هذه المنظومات الفلسفية، فلن نلاحظها إطلاقاً، سنلاحظ فقط تراكم تكرارها، أي توسع تكرارها.
نحن هنا لسنا أمام المادية وهي تبحث في تاريخها الخاص، بل إننا أمام أيدولوجية راهنة (العقلانية) وهي تطوع التاريخ الفكري لأهداف راهنة، وبالتالي، لسنا أمام العقلانية وهي تبحث في تاريخها الخاص أيضاً، لهذا قلت إنها أيديولوجية تطوع تاريخ الفكر في "حرب" راهنة، ولتحقيق هذا "التطويع" كانت في حاجة إلى المنطق الشكلي. ولكي تكسب هذه "الحرب" "كوشت" على تاريخ الفكر الفلسفي. ليصبح هو ذاته، تاريخ المادية، وهذه أيضاً شكلية مفرطة، لقد حاربت المنطق الشكلي (الأسطورية والغيبية والنصية) بمنطق شكلي؛ لهذا كان طبيعياً أن ينتصر المنطق الشكلي الأكثر رواجاً.
إن التأريخ للجدل المادي يتخذ، ولا شك سياقاً آخر، هو سياق تشكل مساقيه: الجدل والمادية، لكن مع التأكيد أنه شكل انتقالة نوعية، وبالتالي فإن سياق تشكل هذين المساقين، هو سياق تحقق التراكم الكمي في كل منهما، ضمن الفلسفة، الميتافيزيقية والمثالية، وبالتأثيرغير المباشرة والمباشر للعلوم الطبيعية. وهنا سنلاحظ بأن التراكم الكمي المتحقق في الفلسفة،، هو بالأساس التراكم المتحقق في المنطق (الجدل)، لهذا أكدت أن الفلسفة هي رحلة العقل في بحثه عن منطقه، ولقد تبلور ذلك مع هيغل وهذا هو قمة إنجازه وعظمته، وهو "لب" الهيغلية، الذي أخذ به ماركس ولفظ القشرة، وبهذا فإن التأريخ لهذا التراكم يعني التأريخ لنشوء التجريد، ولمجمل المقولات الأخرى. التي غدت جزءاً مكوناً في المنطق، مثل التناقض والكم/ كيف، ، نفي/ النفي، الشكل/ المضمون (العرض والجوهر)، السبب/ النتيجة، الخاص/ العام، الجزء، الكل، الإمكان/ التحقق، الفكر/ الواقع، المجرد/ المشخص، الوحدة/ الكثرة، والصيرورة ... إلخ. وهو بالتالي تأريخ للفلسفة، لأن المنطق هو زاد الفلسفة، التجريد الأعلى الذي تختص به الفلسفة، إنها بالتالي "العقل المجرد" لكن يجب التأكيد هنا، أن هذا التأريخ ليس هو التأريخ المباشر للجدل المادي، بل هو تاريخ نشوء وتبلور ونضج المنطق في رحم المثالية، ولقد أصبح المنطق جزءاً من تاريخ المادية، منذ لفظ ماركس هذا الرحم (القشرة)، حيث دمر المنظومة المثالية التي كانت تلفه، وأعاد دمجه في المساق الآخر، المادية، التي تحققت عبر الإجابة عن السؤال: أولوية المادة/ الواقع أو الفكر، ليشكل في ضوء ذلك منظومة جديدة، مادية، لكن يجب أن نلاحظ أن ليس المنطق هذا بمقولاته، هو محدد مادية أو مثالية الفكر، إنه "آلة" تخدم المنظومة التي تفعل فيها، ولهذا فإن تكرار هذه المقولات في أية فلسفة، لا يعبر عن "ميل مادي" على الإطلاق. إنها مقولات مجردة، يمكن أن توضع في السماء، أو على الأرض، ويمكن أن تقف على رأسها أو على قدميها. والمحدد هنا هو الإجابة عن السؤال سابق الذكر فقط. أن اعتبارها محدد المادية (الميل المادي، المنحى المادي، الميسم المادي)، إقحام لها في مجال غير مجالها، يعبر عن "مادوية"
وعن شكلية مفرطة، نبعت من اعتبار كونها جزءاً من الجدل المادي، لتصبح كل مقولة فيه مادية، وهذه نتيجة طبيعية في المنطق الشكلي.
وأود أن أوضح هنا أنه إذا كان العقل يبحث عن منطقه في الفلسفة، فقط كان يكتشف الصيرورة الواقعية، ولقد تحقق ذلك، لأنه كان ينظر عبر المرآة، التي كانت تعكس الواقع/ المادة (المشخص). لكن العقل حينها اعتبر أن الصورة، المنعكسة في المرآة هي الحقيقة، وأن الواقع/ المادة (المشخص) هو العرض (الظلال)، لهذا كان سهلاً على ماركس أن يدمج المنطق بالمادية (أن يؤسس التركيب منهما) بعد أن حدد أن الواقع/المادة (المشخص) هو الحقيقة وأن الصورة هي الانعكاس؛ لأن الواقع / المادة (المشخص) هو الأصل لأن هذا المنطق هو منطق الصيرورة الواقعية، وبذلك يكون ماركس قد لفظ الفلسفة بعدما استوعب "لبها" ليؤسس منظومة جديدة، هي ليست فلسفة، لأنها نفت "العقل المجرد"، وغدت ترى دور الفكر في حدود الواقع، باعتباره انعكاساً له. وهنا يكون الفكر قد حط على الأرض، بعد تحليق على مدى قرون طويلة. المنظومة الجديدة مع ماركس، هي علم المجتمع،
في مجال البحث في تاريخ المادية، المسألة أكثر تعقيداً، لأن تناول المادة في الفلسفة، راوح بين "اللمس" العفوي. والرؤية المثالية، فإذا كان طاليس قد اعتبر المادة جوهراً، فإن مفهوم الصورة لم يكن قد تشكل بعد، وبالتالي لم تكن ثنائية مادة ـ صورة قد طرحت؛ ولهذا فإن تناوله كان حسياً وبعيداً عن العلم ومتأثراً بالأسطورة بشكل مباشر، وبالتالي ليس من الممكن أخذه على محل الجد من الناحية العلمية. والمنحى الفلسفي، الذي تشأ لديه، كان ذا منحى ميتافيزيقي ومن ثم تحولت المادة في الفلسفة اللاحقة إلى عرض، وهي سلبية منفعلة، و"دون مستوى (الفكري) الفعال، (ص60)، ولا شك في أن تطوراً في مفهوم المادة قد تحقق، لكن دراسته تفرض الانتباه إلى مسألتين، الأولى: يجب تقسيم المنظومات الفلسفية (وبالتالي الفلاسفة)، كمنظومات من زاوية المادية والمثالية (المسألة الأساسية في الفلسفة). لأن المنظومة هي محدد طابع الفلسفة، وفي هذا المجال أكدت أن الفلسفة مثالية.
الثانية: وبعد ذلك، يمكن تقسيم الأفكار في ضوء تلك المسألة، حيث يمكن أن نلحظ "لمس" أقرب أو أبعد للمادة، ووعي أبسط أو أعمق لها، لكن مع التأكيد أن كل ذلك كان جزءاً من منظومة مثالية، وإذا كانت المسألة لا تتعلق بالمادة فقط، بل وبالواقع أيضاً، فقد اعتبر في الفلسفةـ كما المادة ـ عرضاً، لكن اللاسفة عبروا عن نظرة طبقية أيضاً، لكن في مصلحة الطبقة (أرسطو "السياسة") (ص52)، وابن رشد ص357)، ويمكن أن نلاحظ "لمس" الواقع لدى المؤرخين، حيث أشير إلى أهمية الاقتصاد في الصراعات السياسية (مثلاً مسكويه "تجارب الأمم" ج3، وابن خلدون "المقدمة"… )، لكن هذا اللمس اتسم أولاً: بأنه توصيفي أكثر منه تحليلياً، وثانياً: أنه جاء من منظور مثالي. لهذا فأنا أعتبره مجال بحث في الواقع، (حقل من حقول البحث) ولا يعبر عن "ميل مادي" وإلا اعتبر البحث الاقتصادي الرأسمالي مادياُ، فلا شك أنه أسس لنشوء مقولات ومفاهيم، أسهمت في تبلور المقولات والمفاهيم التي استخدمت في الماركسية (صراع الطبقات مثلاُ) أو طورت فيها، وإذا كان لينين قد اهتم "اهتماماً" شديداً بمؤلف الفيلسوف العربي ابن خلدون، (المقدمة)، الذي يتناول دور العوامل الاقتصادية وتساءل "ترى أليس في الشرق آخرون أيضاً من أمثال هذا الفيلسوف" (لينين وغوركي، رسائل وذكريات ووثائق موسكو دار التقدم، ص230/401 عن د. طيب تيزيني ص396)، فلأن هذا التناول لدور العوامل الاقتصادية، كان يفتح الأفق لبحث أوسع في الواقع، ويتناول المجال، الذي غدا في الماركسية، محدد المادية، لكن هذا التناول كان لايزال أولياً ومثالياً، فمسكويه وابن خلدون، لم يعتبرا الواقع محدد الفكر، والاقتصاد محدد الواقع، بل انطلاقاً من أن "الواقع عَرَض.  ولكن "انطلاقاً من المسألة الثانية، آنفة الذكر، يمكن أن نلحظ لمساً للواقع يقترب من المادية، مع وضع المادية هنا بين مزدوجتين. إن تناول الاقتصاد لا يساوي المادية على الإطلاق، لأن المحدد هو طبيعة المنظومة التي تقوم بهذا التناول.
هذا التراكم في "المادية" ظل بطيئاً إلى العصر الحديث، وبالتالي لم تتحقق انتقالة فيه إلى ذلك العصر، وبعد زمن منه، كما أنه تحقق في الفلسفة، التي شهدت الانتقال من الميتافيزيقا إلى المثالية، رغم أن المنطق فيها، ظل يتطور دون تحقق انتقالة، وإن كان منطق أرسطو (القياس) كان قد فقد مبرر وجوده، مع الفارق أن المنطق كان قد تبلور ونضج مع هيغل، بينما المادية، بدأت "تطورها الحقيقي منذ ماركس، بمعنى أن ماركس وجد المنطق (الجدل) مبلوراً بينما كان هو من أوقف هيغل على قدميه، بتأكيد أولوية الواقع/ المادة، على الفكر، وفي ضوء تحويل مهمة الجدل، انطلاقاً من هذه الأولوية، بدأت المادية تبلورها، بمعنى بدأت بالتشكل نتيجة فعل الجدل في الواقع، (التاريخ ـ الراهن ـ المستقبل). إن التراكم الكمي الذي أفضى إلى تحديد هذه الأولوية، كان نتيجة مباشرة، لتأثير توسع البحث في الواقع، وخصوصاً فب مجال الاقتصاد ( الاقتصاد السياسي الإنكليزي) كما بتأثير المادية الميكانيكية في إطار الفلسفة، كما بأثير فيورباخ المتأثر بكل تفرعات "الميل المادي" في الفلسفةالمثالية، وفيورباخ هو اللحظة الأخيرة التي عبر منها ماركس.
أشير هنا، بشكل عابر إلى دور العلوم الطبيعية التي ربما أسهمت في تبلور المادية أكثر من الفلسفة، فهي تبحث في الطبيعة العيانية، المشخصة، لكنها، أيضاً أثرت في الفلسفة في مجال، تغيير النظر إلى المادة، السلبية المنفعلة، والأدنى من الفكر، لتعطي قيمة "أقل احتقاراً" ومن ثم قيمة أكثر فأكثر (لكن مع بقاء الفكر ذا أولوية). لقد انعكست المكتشفات العلمية في النظر الفلسفي، حيث كان العلماء فلاسفة، حيث غذت تطور المنطق (الشك لدى ديكارت مثلاُ)، كما غذت الوعي الأعمق بالمادة، وبـ "دورها" (فعلها)، لهذا توصل ابن رشد إلى اعتبارها قديمة قدم الإله، وأنها ليست من فعله، بل إن فعله يتمثل في التركيب بينها وبين الصورة، وأنها تحوي التغير والحركة، وأكد كانت "الشيء في ذاته" و "الشيء لنا".(117) لكن التطور المذهل في العلوم الطبيعية نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، هو المحرض المباشر على نشوء المادية، التي كانت ميكانيكية أولاً، لكنها ظلت مثالية، بشكل أو بآخر، ومثاليتها نابعة من ميكانيكيتها، ثم باندماجها و "لب" الفلسفة، أي الجدل، أصبحت مادية جدلية، أي وحدت بين الوجود الموضوعي للمادة/ الواقع، وأولوية هذا الوجود على الفكر الذي هو انعكاس له وبين الصيرورة التي ينشئها هذا الوجود، المتبلورة نظرياً في الجدل.


8
قلت إن د.طيب يعتبر أن المادة تساوي المادية، لكنه يوضح هذه المسألة على الشكل التالي: "نحن إن أخذنا هذه المسألة من زاويتنا الفلسفية المعاصرة، فإنه ينبغي علينا أن تميز بين (المادة) وبين (المادي)، ذلك لأننا حسب ذلك نعتبر(الفكري) (مادياً) وليس مادة، بمعنى أن (الفكري) ظاهرة تخضع في وجودها على وجه العموم لقوانين العالم المادي" (72). وهو يقدم هذا التوضيح في سياق حديثه عن طاليس والفلاسفة الأيونيين، الذين اعتبروا (الفكري ) أو (النفسي) في آخر تحليل شيئاً مادياً، (71) من منطق "أن كل شيء ذو طبيعة مادية، وهو مادي" (72). "إن طاليس اعتبر (الفكري) أو (النفسي) نفسه مادة" (72)، بمعنى أن د.طيب يرفض اعتبار (الفكري) مادة، لكنه يعتبره مادياً. وهذا يعيدنا إلى تحديده للفلسفة بأنها مادية.
فلا شك في أن المادة (التي هي شيء ملموس ـ جسم) غير المادي الذي يطلق على فكر محدد، لكن هل أن كل فكر مادي؟ د.طيب هنا أوجد التباساً كبيراُ، بدل أن يوضح لكن يبدو الالتباس استكمالاً للمنطق المتقدم، الذي أشرت إليه سابقاً، فلا شك في أن الفكر يخضع في وجوده لقوانين العالم "المادي"، ولكنه بهذا المعنى واقعي وليس مادياً لأن الواقعي لا يساوي المادي في التحديد الفكري. وإلا تساوى المادي، بالمعنى الطبيعي (أي المادة) والمادي بالمعنى الفكري، أو اعتبر كل فكري مادي، فالمادي هو الوعي المطابق للوجود، هو الفكر المعبر عن الوجود، المنعكس في الذهن انعكاساً حقيقياً، وهو من "زاويتنا الفلسفية المعاصرة" الجدل المادي، والفكر الذي ينتجه. أما الواقعي فيشمل الوعي المطابق، والوعي غير المطابق (المفارق) للوجود، الفكر المادي، والفكر المثالي،والدين والأسطورة، وبالتالي فالفكر واقعي أي إنه موجود في الواقع، لكن ليس بالضرورة أن يكون مادياً، وربما كان هذا التحديد يخلق التباساً، فيما طرحته في الصفحات السابقة، حيث وضعت الواقع/ المادة مقابل الفكر، وبالتالي ساويت ، بمعنى ما، بين الواقع والمادة، لهذا يجب البحث في هذه المسألة من أجل إزالة الالتباس. لكن قبل ذلك، أود الإشارة إلى فكرة د.طيب حول هذه المسألة التي يمكن تحديدها بالتالي: الفلسفي مادي، والفكري مادي، ليس بمعنى "المادة"، بل بالمعنى المستخلص ملامحَ من المسألة الأساسية في الفلسفة، من تاريخها الخاص ومن التطورات التي طرأت على بنيتها في العصر الحديث والمعاصر. هذا هو "الإطار العام" انطلاقاً من ذلك يجري التعامل مع المادي والواقعي كمفهوم واحد، لهذا غالباً ما يشير د.طيب إلى الميل المادي ثم يضع كلمة واقعي بين مزدوجتين (ص36). أو على العكس، يشير إلى الميل الواقعي، ويضع كلمة مادي بين مزدوجتين (ص38)، أو يشير إلى "اللحظة المادية (الواقعية) واللحظة المثالية (اللا واقعية)" (ص27،24،25)، وإلى الميل المادي (الواقعي) والميل المثالي (اللا واقعي) (ص36) وإلى الواقعية (المادية) واللاواقعية (المثالية) (ص39)، وكما أشرت سابقاً فالمادي، وفق رؤية د. طيب، هو الفكر الفلسفي، والمثالي هو الدين (الأسطورة، الغيبية، النصية). لكن الفكري "أو اللحظة الفكرية نفسها في دماغ الإنسان قد جرى تملكها وتفسيرها من هذين الميلين الفلسفيين الأصليين (المادي والمثالي) بدرجة ورؤية مختلفتين" (ص32)، وهنا لا يعود الفكري (مادياً) فقط، بل و (مثالياً) أيضاً. ولكن أيضاً في الميل المادي، اللحظة المادية تتضمن "اللحظة الروحية أو الفكرية، مفهومة ومأخوذة من خلال رؤية واقعية" (32)، بمعنى أنه في الواقع (في الوجود الواقعي" وانطلاقاً من "الميل المادي" اللحظة الفكرية متضمنة في اللحظة المادية، لأن الفكر يتحول إلى مادي (ص27)، هنا يطرح السؤال حول الفرق بين اللحظة المادية والميل المادي، وبينهما وبين الرؤية الواقعية؟ هل تعنى أنه انطلاقاً من المادية، يكون الفكر جزءاً من الواقع؟ يجيب د.طيب " إن (الفكري) ظاهرة تخضع في وجودها، على وجه العموم، لقوانين العالم المادي" وهذا صحيح لكن هذه النتيجة تحدد بأن (الفكري) عموماً بـ "ميله" المادي والمثالي، خاضع للوجود الواقعي، وبالتالي لا يعود الفكري مادياً على الإطلاق، بل إنه واقعي، ولا يعود أيضاً المادي واقعياً، والمثالي لا واقعي، لأنهما معاً واقعيان وما دام الفكر، يتملك في دماغ الإنسان وفق أحد ذينك الميلين، وهو متضمن في "اللحظة المادية" فسنكتشف أننا أمام إبهام، يتعلق بمعنى "اللحظة المادية" في الميل المادي. الفكر، وفق ما لاحظنا متضمن في الواقع، لهذا يتحدد معنى "اللحظة المادية" بأنه الواقع، لكن لهذه "اللحظة المادية" مفهومة ومأخوذة من خلال رؤية واقعية، وهنا انقلبت المسألة فاللحظة مادية والرؤية واقعية، أي إن تعبير مادية يستخدم بدل تعبير واقعية وبالعكس. لكن أيضاً فإن النتيجة تتبدى بمساواة الرؤية الواقعية والميل المادي.
سنلاحظ أيضأ، أن الفكر هو "مادة" وليس "مادياً" لدى د.طيب بعكس ما يريد التوضيح. إن الفكرة التي "يلف" حولها هي حسب المادية: أن الفكر (أي فكر) نتاج الواقع، وهو خاضع في تطوره لهذا الواقع، أي إنه جزء من الموضوع (وبالتالي فهو موضوعي)، إنه كذلك استناداً إلي الذات المادية (التي هي موضوعية أيضاً). وبالتالي حين نعتبر أن الفكري مادي، سوف نصل إلى إحدى نتيجتين الأولى: أن كل فكري مادي، وهنا تناقض مع التأكيد على وجود ميلين مادي ومثالي في الفكر،بما يعني إما أن المثالي خارج الفكري، وهو لدى د. طيب يربط بالدين الذي يبدو أنه خارج الفكر، وإما أن التحديد بأن "الفكر المادي" معنى آخر، وهو النتيجة الثانية: أن الفكر جزء من الموضوع، لكن هنا، مقابل الفكر، في مقولة فكر ـ واقع. أو فكر ـ مادة، بمعنى أنه "مادة" للنتيجة الأولى. يستند هذا التأكيد على مادية الفلسفة والفكر الفلسفي، مقابل مثالية "الأسطورة والغيبية والنصية" (أي الدين)، وهنا يتساوى تعبير الفكر وتعبير الفلسفة. لهذا يبدو تناقض "المادية" و"المثالية" هو تناقض الفكر الفلسفي و "الأسطورة والغيبية والنصية" (أي الدين) ليكون الفكر مادياً. لكن أين موقع "الأسطورة والغيبية والنصية" (أي الدين) من "العالم المادي" من الواقع؟ هل هو خارجه؟ ألا يخضع في وجوده لقوانين "العالم المادي"؟ الإجابة بلا، هنا تجعل الدين محلقاً في الفراغ (العدم). أو ربما في السماء، لكنه ـ حسب ما يتوضح لدى د.طيب ـ وعي بشر و مشارك في الصراع الواقعي بين فلاسفة، كما بين بشر، إنه أفلاطون، والغزالي، والأشعرية، و"جماهير الشعب" المتعصبة (356، 357). وبالتالي فهو يخضع في وجوده لقوانين العالم المادي، كما الفلسفة، لكنه هنا كما الفكر، مادي. إذن إن كل ما يخضع في وجوده لقوانين "العالم المادي" هو مادي. لكننا هنا نعود إلى ذات المشكلة إلا وهي: تناقض ذلك مع القول بالميل المثالي (المادية والمثالية) وسنكتشف أن المثالي محلق في السماء فعلاً، حيث أن المثالي هو اللا واقعي، كما أسلفنا، لكن د.طيب يحدد أكثر في هذه السمألة ليقول: "العنصر المثالي (اللا واقعي، أو الماورائي)" (ص415 مكررة مرتين) هنا نحن أمام تعبير أرسطو: الطبيعة، ما بعد الطبيقة، ميتافيزيقا، وبالتالي فالمادي هو الطبيعي (الفيزيقي) وهو الواقعي، والمثالي هو ما وراء (بعد) الطبيعة (الميتافيزيقي) وهو لا واقعي. إن المادي، إذن، لا يساوي الواقعي فقط، بل يساوي الطبيعي أيضاً، وبما أن الفكري مادي فهو، إذن، طبيعي، أي إنه "مادة" لتبدو المثالية أنها ليست من الطبيعة، ما وراء الطبيعة، وبالتالي ليست واقعية، إنها إذن محلقة في السماء (عند الله). إن التناقض مادي مثالي، في هذه الحالة تناقض وهمي، لأنه تناقض الطبيعة وما وراء الطبيعة (الطبيعة والإله)، وهو لذلك ليس تناقضاً في الفكر، بين بشر(فلاسفة)، وبالتالي لا يخضع في وجوده لقوانين "العالم المادي" وهنا أوضح لم وضعت تعبير "العالم المادي بين مزدوجتين، فوفق ما أشرت إليه تواً، يكون العالم المادي هو العالم الطبيعي، ولا شك في أن الفكر يسكن "خارج" هذا العالم، وأن مجال وعيه هو العلوم الطبيعية وليس الفكر والفلسفة، وإن كان وعيه عبر تلك العلوم ينعكس بشكل أو بآخر في الفلسفة والفكر، ولقد أشرت إلى ذلك سابقاً، أن المادي ليس الطبيعي على الإطلاق، ولا هو وعي الطبيعة أيضاً، المادية هي رؤية تهدف إلى وعي المجتمع، لهذا قلت إنها علم المجتمع، بموجوداته المختلفة (البشر، الاقتصاد، الفكر، والسلطة... ).
إننا إذن أمام جملة التباسات، تفضي إلى "العدم" إلى تشويش كثيف، لا يسمح لنا بتحديد ضوابط لأية قضية، إننا أمام تصور "هلامي" تطل من بين ثناياه الأيديولوجية، كي تقدم لنا هدفها، ألا وهو معاداة الأيديولوجية الغيبية التبريرية. في المنهج هناك سديم، مفاهيم مختلطة، متداخلة ومتنافرة، غير محددة، وبالتالي تفضي إلى أفكار متخالفة وإلى بنية مفككة، تصدمنا بتكرار هائل لكلمات مادة ومادي ومادية، دون أن نجد للمادية أي وجود. إنه المنطق الشكلي، الذي يكرر الكلمات ويهمل المنهجية، والمقولات. فالجدل المادي يقر بالتصور المادي، وبالتالي بالمسافة بين المادة والفكر، والواقع والفكر، لهذا يقرر أن الفكر هو انعكاس للواقع، مما يزيل الخلط بين الفكر والواقع، الفكر والوجود الواقعي والعلاقات التي تنشأ فيه. هو وإن كان يفيد من العلوم الطبيعية، فإنه يميز "كيانه" عنها ويعتبر أن الفكر واقعي، أي إنه مكون من مكونات الواقع، ولكنه لا يعتبر أن كل فكر مادي، لأن مادية الفكر نابعة من مسألة مركبة، تتعلق بتحديد الأولوية في علاقة الفكر بالمادة، وفي علاقة الفكر بالواقع ولكن الفكر عموماً بكل اتجاهاته نتاج وعي البشر، ومعبر عن مصالحهم ورؤيتهم للكون والطبيعة، لهذا فهو ظاهرة واقعية (ويدخل الدين والأسطورة ضمن ذلك). وبالتالي فإن واقعية الفكر، ليست هي محدد ماديته، هذه التي يخضع تحديدها لتلك المسألة المركبة فقط.
إذا كنت قد حددت المسألة الأساسية في الفلسفة، بأنها في تحديد أولوية الواقع/ المادة أو الفكر، وبالتالي بدا أنني ساويت بين الواقع والمادة، لكن ولإزالة هذا اللبس، أشير إلى أن هذه المسألة هي مسألة مركبة، المستوى الأول فيها هو علاقة الفكر بالمادة، وهذه مسألة فلسفية عامة، مجردة، فهي تشمل علاقة أية مادة بالفكر، وهذا هو طابع التجريد فيها. إنها، بالتالي العلاقة بين المادة المجردة والفكر المجرد، وتحديد أولوية المادة، هنا على الفكر كان الخطوة الضرورية للانتقال إلى المادية، لكن هذا الانتقال تحقق ضمن الفلسفة، أي قبل نشوء المادية، ولهذا لم يكن محدداً كافياً لنشوئها، إنها هنا مبدأ فلسفي، هذه مثلاُ مشكلة فيورباخ، وقبله المادية الميكانيكية، لقد كان هذا التحديد إذن، الخطوة الأولية للانتقال إلى تحديد آخر، أكثر أهمية لأنه يتعلق بالوجود (المجتمع)، وأقصد تحديد الأولوية في العلاقة بين الفكر والواقع، في هذه النقطة يكمن التباس ما، فالواقع، حسب ما أشرت إليه في أكثر من فقرة سابقاً، هو كلية الوجود، بمعنى أنه الوجود البشري في نشاطه من أجل إعادة انتاج الحياة (العمل)، وفي علاقاته المبنية على العمل (الطبقات) وعلى مجمل الظواهر القائمة بينها (القبيلة، القومية...)، وعلى صيغة التنظيم التي تحكم كل ذلك (الدولة)، ولكن أيضاً، الوعي الذي ينتجه هذا الوجود، وتؤسسه تلك العلاقات والظواهر (أي الفكر)، وبالتالي، فنحن هنا، حينما نتحدث عن علاقة الواقع بالفكر، نكون قد نزلنا من منطق التجريد العام الذي هو في صلب الفلسفة، إلى التجريد في إطار محدد هو التكوين البشري، وبالتالي نكون قد تجاوزنا الفلسفة، إلى علم المجتمع. إننا إذن نتحدث عن علاقة الفكر بالواقع في إطارالمجتمع، حيث "دمرت" الفكرة التي تجعل فوق المجتمع قوة فاعلة، تحدد مساراته وبالتالي أصبح المجتمع بنية فاعلة، ويتحدد الفعل فيها، في العمل والفكر، والعمل الذي ينتج حياة البشر، والفكر الذي يحدد وعيهم لحياتهم، ومصالحهم فيها، ويساعدهم على تطوير هذه الحياة، إنه بالتالي، نشاط البشر الإنتاجي، ونشاطهم الذهني، وضمن هذا النشاط تطرح علاقة الواقع/ الفكر، وهنا إذن "يسحب" الفكر من الواقع، وهو تحديد إجرائي لأن الفكر كما أشرت جزء من الواقع أيضاً يهدف إلى تحديد "الفاعل الأول" ضمن الواقع أي تحديد حدود فاعلية كل من الفكر و "الوجود الطبيعي" وما ينتج عنه من نشاط وعلاقات، ويهدف إذن، إلى تحديد أولويات الفعل ضمن الواقع ذاته، انطلاقاً من أن لا فعل خارج هذا الواقع، فالوجود الواقعي ينتج فعله، وهنا تعني المادية، أنها الواقع "غير الواعي" الواقع بمعزل عن وعي البشر، وهذا تحديد إجرائي أيضاً. كما سنلاحظ تالياً أنه يهدف إلى تحديد أولوية الوجود وما ينتجه من نشاط وعلاقات على الوعي/ الفكر، لكنه أيضاً تحديد مبدئي، وربما كان تحديد العلاقة بأنها بين الوجود والوعي/ الفكر، يزيل التباساً، لكن في كل الأحوال فإن الوجود والوقع يشتملان على الوعي/ الفكر. وهنا تكمن الدقة في التحديد، وتجاهلها كان يفضي إلى ميل "مادي" حيث يجري التعامل مع الوجود/ الواقع، كأنه بدون وعي/ فكر، أو أن الوعي/ الفكر يسكن خارجه مما كان يشوه وعي (تفهم) مقولة أخرى، هي مقولة الذات (الفكر)/ الموضوع(الواقع) فالفكر الذي هو نتاج الوجود الواقعي الذي هو وعي هذا الوجود يتحول في لحظة إلى "فاعل" وهو ما حاولت توضيحه في فقرة سابقة. لكنه أيضاً يتحول إلى موضوع، وهو ما نلاحظه في العلوم الطبيعية (المكتشفات العلمية). لكن نلاحظه أيضاً في المجتمع، فمثلاً فكرة إلغاء العبودية، التي كانت حلماً يوماً ما، تتحول شيئاً فشيئاً إلى موضوع حيث انتفت العبودية من بنية المجتمع، كذلك فكرة سيادة الصناعة وتحولها إلى وسيلة الإنتاج الأساسية، التي تحققت مع انتصار الرأسمالية وهكذا إنكار العلمانية والديمقراطية، التي كانت "حلماً" رافق الفلاسفة الرأسماليين الأوائل لكنها أصبحت "واقعاً" في النظم الرأسمالية، وكذلك "حلم" إلغاء الملكية الخاصة الذي تحول مع انتصار الاشتراكية إلى جزء مكون من الواقع.
هنا تكمن أهمية تحديد أن الفكر جزء من الواقع، وفي التحديد أن أولوية الوجود الواقعي على الفكر هي مسألة مبدئية عامة، لأنهما معاً لا يسمحان بتجاهل دور الفكر، وبالتالي بتجاهل مقولة العلاقة بين "الذات والموضوع"، ومن ثم "تجميد" الجدل. الذي يربط بين الذات والموضوع، بتحول الذات (الفكر) إلى موضوع (واقع)، ولكن أيضاً بتحول الموضوع (الواقع) إلى ذات (فكر) (وهو المسمى حلماً حيث يفرض المجتمع الحاجة إلى تقدم ما، لكي يستمر في تطوره، هذا التقدم يكون في لحظة حلماً، لكنه يتحول إلى واقع، لأن استمرار المجتمع يفرضه). إن القول بالعلاقة بين الواقع والفكر بدون هذين التحديدين يفضي إلى "مادوية"، حيث يعتبر كل فكر مادياً، لأنه واقعي وهو ما حاولت توضيحه سابقاً، أو يفضي إلى اعتبار مبدئية هذه المسألة فكرة عامة، تتجاهل أن مبدئيتها يعني أنها أساس في مجمل التحليل الواقعي، وبالتال فهي محدد علاقة الذات بالموضوع، ليصبح التمسك المبدئي بها تمسكاً شكلياً، ينتج رؤية مثالية في التعامل مع الواقع، حيث يصبح الفكر هو المحدد. وهذه هي مشكلة "الماركسية السوفياتية" عموماً، وهذه تختلف عما أسميته "الحلم" لأن "الحلم" هو الإجابة عن أسئلة الواقع ذاته وبشكل علمي أيضاً وبالتالي فهو الممكن أن يحتمل الواقع تحقيقه بينما يغدو "الفكر العام" (المجرد) هو " الحلم"، أي، وهنا "الوهم". لكن هذه الرؤية المثالية، تفعل أكثر من ذلك، لأنها تميل إلى تحديد الواقع ذاته انطلاقاً من الفكر، يغدو الواقع هو الفكر، ولا شك في أن هذين المنحيين (ولنقل الانحرافين)، يفضي الواحد منهما إلى الآخر، لأن المنطق الشكلي هو أساس كل منهما، وسنجد أنهما متحدتان في الغالب، حيث يظهر "التضخم" في الكلمات "المادية"، وفي تحويل الفكر الذي يكرر بعض الكلمات التي غدت جزءاً من المنظومة المادية إلى فكر مادي في الوقت نفسه الذي يطغى فيه التصور المثالي في التحليل.
إذن، تبدو كلمة واقع كأنها تستخدم وفق معنيين: الأول عام، يتعلق بالوجود البشري عموماً، وبعمله وعلاقاته، ومنتوجه اليدوي والذهني، والثاني محدد يتعلق بالواقع الاقتصادي ـ الاجتماعي تحديداً، وهو المسمى في المادية، البنية التحتية، حيث يكون العامل الاقتصادي هو الحاسم،" في التحليل الأخير" حسب توضيح إنجلز (إنجلز "رسائل حول المادية التاريخية" دار التقدم ـ موسكو ص). هذه البنية هي المقابل للمادي في علاقة مادة/ فكر، هي الأساس المادي للوجود البشري، الرؤية المادية (الجدل المادي) تحوي المعنيين، الواقع بمعناه العام والواقع بمعناه المحدد، وترى أن العلاقة الواقع/ فكر تتمظهر في المعنى الأول، تسكن فيه وتتحدد فيه، لكن ماديتها تتحدد في تأكيد أولوية المعنى الثاني ضمن علاقة واقع/ فكر، حيث الوجود البشري أسبق على الوعي، والعمل من أجل إعادة أنتاج الحياة، أسبق على وعي مقولة العمل، وطابعه ومجمل العلاقات التي تحكمه. والملكية الخاصة قبل الوعي بها وتنظيرها، وتشريعها، وتشكل الطبقات والعلاقات فيما بينها أسبق على الوعي بهذا الوجود وهذه العلاقات، مثلما أن "التبادل" أسبق على وجود النقد…إلخ. ولقد تبلورت في الوعي (الفكر، التشريع) نتيجة الحاجة التي فرضها الوجود الواقعي الأسبق (التبادل فرض الحاجة إلى النقد، لكي تتطور عملية التبادل، والملكية فرضت الحاجة إلى تكريسها كمبدأ قانوني مقدس ـ حق، والطبقات فرضت ـ في الوعي ـ تكريس قدسية الانقسام واللاعدالة في توزيع الثروة، كما فرضت الحاجة إلى تنظيم مجمل العلاقات في المجتمع، وقوننتها ونشوء الدولة). المادية هي الإقرار بكل ذلك والانطلاق منه في التحليل وعلى أساسها يقوم مفهوم الانعكاس، لكن المادية، انطلاقاً من ذلك فقط، لا ترتقي إلى الرؤية المادية (إي الجدل المادي). وإن كانت محدد ماديته، إن تحولها إلى جدل مادي، فرض الانطلاق من الواقع بمعناه الأول، ووفق علاقة الذات بالموضوع، كما فرض الانطلاق من مفهوم الصيرورة، لوعي، ليس الواقع كبنية ساكنة، بل كبنية في صيرورة مستمرة، وفي الصيرورة تسكن مفاهيم التناقض، والتراكم الكمي وغير النوعي، ونفي النفي، بهذا تشكلت رؤية علمية للواقع في صيرورته، تبلورت المادية الحديثة (الجدل المادي)، وهي الوحيدة المنسجمة.


9
المنطق الشكلي حكم تحديد العلاقة بين التكوين الاقتصادي والبنية الاجتماعية، إذ بدت المثالية واضحة. والمنطق الشكلي مثالي، لأنه يعطي الأولوية للشكل (المظهر). لهذا ففي العلاقة اقتصادي/ اجتماعي، تُحدد الأولوية للاجتماعي رغم أن الاجتماعي هو علائق الوجود الاقتصادي. يكرر د.طيب هذه العلاقة على الشكل التالي: "الخلفية الاجتماعية" (44). "الأطر الاجتماعية الاقتصادية" (137،138)، "تشكيلات اجتماعية اقتصادية" (138). "بناها الاجتماعية ـ الاقتصادية" (142). "التمايز الاجتماعي الاقتصادي" (149)، وفي كل الحالات الاجتماعي سابق للاقتصادي، والمسألة هنا ليست مسألة أسبقية كلمات، إنها مسألة منطق، فالمادية تنطلق من أولوية الاقتصادي الاجتماعي على الوعي (الفكر)، ولكنها تحدد أيضا أن الاقتصادي هو الحاسم "في التحليل الأخير"، لهذا فهو الأساس في العلاقة: اقتصادي ـ اجتماعي، وما الاجتماعي سوى العلائق التي تنشأ انطلاقاً من هذا الأساس، فالاجتماعي، إذن، علاقة، ولهذا فإن تغيرها خاضع للتغير في الاقتصادي، إن نشوء الملكية الخاصة هو الذي فرض نشوء المجتمع الطبقي وتفكك المشاعة، كما أن إلغاءها يفرض غياب الطبقات، واكتشاف الزراعة فرض (بالترافق مع نشوء الملكية الخاصة) التحول إلى الاستقرار الاجتماعي، ونشوء طبقات محددة: ملاك الأرض، والفلاحون. ونشوء النقد فرض التحول إلى الاقتصاد السلعي وتوسع التجارة ، وهكذا في الصناعة، التي فرض نشوؤها التحول في طبيعة وسائل الإنتاج (من الزراعة إلى الصناعة)، والتحول، أيضاً، في وضع الطبقات (بنشوء طبقات جديدة: البورجوازية، والبروليتارية). وبالتالي فالمادية تبدأ من الأساس (الاقتصادي)، ومن ثم تعبر إلى جملة العلاقات التي تنشأ في ضوئه (الاجتماعي)، وإلى، بالتالي، الوعي الذي ينشأ في ضوء كل ذلك (الفكر)، وتعبير إنجلز حول أن الاقتصادي هو المحدد "في التحليل الأخير". لا يهدف إلى التأخير والتقديم في تلك العلاقة، بل يهدف إلى تجاوز المنظور المبسط للمسألة، لهذا فهو ينتقد الرؤية التي جعلت هذه العلاقة أشبه بحل "معادلة رياضية بسيطة" (نفس المصدر). إنه، إذن، يشير إلى الطابع المعقد للعلاقة: اقتصادي/ اجتماعي، ومن ثم للعلاقة: اقتصادي ـ اجتماعي/ فكري، وبالتالي يوضح أن استقلالية نسبية تسكن هاتين العلاقتين. إنه، يحارب التبسيط، ليؤكد أن المسألة أعمق وأعقد، وبالتالي، وإن كان الاقتصادي هو المحدد فيجب التحديد الدقيق والملموس للوضع الاجتماعي الفكري، والتأثير الذي يحدثه في الاقتصادي انطلاقاً من الاستقلالية النسبية التي يحظى بها، وأن هذا التأثير يمكن أن يجعلها، في لحظة ما، محدداً، لكن هذا التحول من كونها محدداً إلى كونها محدِّداً، يتأتي من الاقتصادي ذاته والرؤية التبسيطية تعجز عن رؤية هذه العملية، لأنها تستنتج آلياً (ميكانيكياً)، الاجتماعي من الاقتصادي، والفكري من الاقتصادي الاجتماعي. وبالتال فهي تهدر الحاجة إلى التحديد الدقيق الملموس للوضع الاجتماعي والفكري، وتتجاهل التأثير الذي يمكن أن يحدثه كل منهما في الاقتصادي، وفي كل ذلك تهدر الحاجة إلى التحديد الدقيق والملموس للاقتصادي ذاته. إن الانطلاق من عملية نقد ـ سلعة ـ سوق، وبالتالي تجارة، وهذه عملية ترتبط بالاقتصادي، لسوف يفضي بالاستناد إلى رؤية تبسيطية، إلى استنتاجات ساذجة، وهو ما نلاحظه لدى د.طيب، حيث أفضت إلى القول بنشوء "برجوازيات مبكرة" على الصعيد الاجتماعي، وإلى القول بنشوء المادية على الصعيد الفكري، ففي المستوى الاجتماعي توصل إلى الاستنتاج الساذج أن النقد ـ السلعة ـ السوق، تنتج البرجوازية، وبالتالي يتحدد نشوء البرجوازية بتبلور علاقة: نقد ـ سلعة ـ سوق، وهذا تحديد ميكانيكي ومضلل معاً، لأن علاقة: نقد ـ سلعة ـ سوق، التي هي جزء من "الدورة الاقتصادية" تستند إلى أساس هو الإنتاج، حيث من دون الإنتاج ليس من الممكن تشكل هذه الدورة، فالسلعة هي منتوج يفرض نشوؤها وجود وسيلة إنتاج، وتحولها إلى سلعة يفترض وجود النقد والسوق معاً، النقد يتحول إلى سلعة عبر العمل، لتتحول السلعة إلى نقد عبر السوق، ليتحول النقد من جديد إلى سلعة عبر العمل، وهكذا يتحقق التراكم الرأسمالي، ولهذا أشرت سابقاًُ، إلى أن الوصول إلى التجريد (النقد). نتج عن الوجود الواقعي  للمنتوج الفائض، الذي جرى تبادله عيناً أول الأمر، لكن تراكم المنتوج مترافقاً مع الحاجة، فرض الوصول إلى التجريد (النقد)، وبالتالي فرض نشوء السلعة والسوق معاً، إن النقد ـ السلعة ـ السوق، علاقة مظهر للإنتاج، التي تشكل كلها الأساس الاقتصادي، وبالتالي فإن تحديد الطبقات لا يستند إلى هذه العلاقة المظهر بل يستند إلى وسائل الإنتاج. لتنشأ العلاقة الاجتماعية بالأساس، بين مالك ومنتج، وليس بين بائع (تاجر) ومشتر، ليكون ما يحدد نشوء بورجوازيات (مبكرة أو متـأخرة)، ليس نشوء التجارة، بل نشوء وسيلة الانتاج المحددة التي هي الصناعة، والصناعة، ليست الحرفة، رغم أن الحرف هي الشكل الأولي (البدائي) للصناعة، ومن ثم تحولها إلى وسيلة الإنتاج الأساسية.
 إن محدد الدورة الاقتصادية هو الإنتاج ووسائل الإنتاج هي محددة نشوء أنماط الإنتاج  لأن في ضوئها تنشأ علاقات الإنتاج، التي تؤسس لنشوء الطبقات المحددة في نمط الإنتاج. وبالتالي فالأساس هنا هو علاقة مالك/ منتج، التي تنشئ علاقة بائع مشتر، فالمالك يتحول إلى بائع (وإلى مشتر أيضاً)، والمنتج يتحول إلى مشتر (لكن إلى بائع أيضاً، لأنه يبيع قوة عمله)، وبهذا حدث التداخل بين المالك لوسائل الإنتاج (الأرض، الصناعة...) والتاجر، لأن المالك يتحول إلى تاجر أيضاً، ولأن مصلحة التاجر ترتبط بمنتوج المالك، وانطلاقاً من هذه الوحدة تنشأ الطبقة المسيطرة التي أساسها مالك وسائل الإنتاج وفرعها التاجر، وإن كان يمكن للتاجر في لحظة ما، أن يتحول إلى "أساس" نتيجة التراكم الهائل لرأس المال لديه، وبالتالي تحكمة بالسوق، لكن هذا التحول يحدث في مراحل متأخرة من تطور نمط الإنتاج، ويؤذن بزواله، لأنه يعبر عن نشوء اختلال في الدورة الاقتصادية لغير مصلحة الإنتاج، حيث لا يعود الرأسمال المتراكم يوظف في الإنتاج، وهو هنا يخرج من الدورة لاقتصادية، ليهلك في مجالات أخرى (البذخ ـ الاستهلاك ـ المضاربة)، ولكن لنلاحظ هنا أن التاجر يتحول أيضاً إلى مالك لوسائل الإنتاج.
إن التبسيطية في الاستنتاج، و"الجهل" في التحليل الاقتصادي، فرضا القول بنشوء طبقة التجار، كما بنشوء البورجوازية بمعزل عن أساسها، الذي هو وسائل الإنتاج، وملاكها، أكثر من ذلك، بالضد منه، لهذا أقام التناقض في اليونان القديمة بين ملاك الأراضي التجار (ص53 وص49 حيث يعطي هذا الصراع تعبيرات سياسية ـ الأرستقراطية المالكة للعبيد والديمقراطية المالكة للعبيد)، متجاهلاً أن "توسع وتشعب دائرة التبادل البضائعي" (48) نتج عن "توسع وتشعب" الإنتاج، وهو هنا قد أوجد تناقضاًُ في "الدورة الاقتصادية" ذاتها، بين وسيلة الإنتاج والعلاقات الاقتصادية التي تقوم على ضوئها، لتصبح العلاقة نقد ـ سلعة ـ نقد، ضد الإنتاج، أي لتصبح علاقة نقد ـ سلعة ـ نقد (التجارة) ضد علاقة: سلعة ـ نقد ـ سلعة (الإنتاج)، رغم أنهما يشكلان علاقة واحدة، كما أوضحت سابقاً، حيث تبدأ بالإنتاج الذي يتحقق عبر وسيلة الإنتاج والعمل (المسمى قوى الإنتاج)، الذي يتحول إلى سلعة عبر النقد، التي تقود إلى نقد عبر السوق، الذي يعود إلى الإنتاج، عبر الأجر واهتلاك وسائل الإنتاج وتحسينها، والهدف من ذلك هو (النتيجة المباشرة لذلك هي) الوصول إلى أن نشوء طبقة التجار، وإنشائها النقد أسسا لنشوء الفلسفة، المادية، حيث "أن النقد، الذي تتجسد فيه قيم اجتماعية واقتصادية يحمل طابع وسيط مجرد غير شخصي، وبالتالي طابع خالق للحياة اليومية بكل قيمها، (50) وهو يتضمن "الصفة لأن يكون كونياً وقهاراً، نجده يجسد درجة عليا من التجريد" (50) و"عملية التجريد من كل البضائع التي توصل إلى مفهوم (النقد) هذه العملية التجريدية قد أنجزت بشكل أساسي من قبل المالكين "من التجار" الذين مارسوا التبادل البضائعي" (50)، ولقد استلزم نشوء النقد المعدني "درجة عالية من تطور الفكر النظري المجرد لدى المفكرين و(الحكماء) ضمن طبقة التجار وأصحاب الأعمال ومالكي السفن آنذاك" (50-51)، ليتبدى هنا أن التجريد النظري يساوي المادية، لكن غير التامة (المتأرجحة). وفي العصر العربي الإسلامي الوسيط، ينطلق من التناقض ذاته، التجار وملاك الأرض (الإقطاع)، لكن مع التأكيد أن تطور النقد والتجارة أفضيا إلى نشوء بورجوازية مبكرة، وبالتالي "مادية مكتملة"، ولقد أشرت سابقاً (الفقرة الخامسة) إلىملاحظته حول رفض الميكانيكية و الاقتصادية، لكنه يتبدى هنا كاقتصادي، وكميكانيكي، حيث انطلق من النقد ـ السلعة ليقول بوجود طبقة (التجار)، وحيث ربط بين "طبقة" التجار والفلسفة، التي وسمها بالمادية، وإضافة إلى أنه اقتصادي وميكانيكي، فإن نتائجه خاطئة، بل مريعة في خطئها، لأنها مؤسسة على شكلية مفرطة.
الانطلاق من الاجتماعي (قبل الاقتصادي)، أفضى، أيضاً، إلى تجاهل الاقتصادي لهذا فإن د.طيب حينما يتحدث عن انتصار أو هزيمة العلاقات الاجتماعية لا يبحث إمكانيات ذلك في الأساس الاقتصادي، فهو يشير مثلاً إلى خطر "انتصار العلاقات الاجتماعية الإقطاعية" (358)، وإلى "نشوء إرهاصات البورجوازية المبكرة" (379، وأيضاً 124)، كل ذلك في زمن ابن رشد، ليبدو التناقض كأنه تناقض علاقات. وفي هذا تجاهل لكون التناقض ينشأ نتيجة نشوء وسائل الإنتاج، ليتبلور التناقض بين مللاك وسائل الإنتاج الجديدة، والقديمة، وبالتال مجمل العلاقات التي تنشأ في ضوئها. ولم تفرض العلاقات الجديدة إلا بعد حسم هذا التناقض وبالتالي فالتناقض هو بين طبقة تملك وسيلة إنتاج وطبقة أخرى تملك وسيلة إنتاج، حين نتحدث عن أنماط مختلفة يحاول نمط فرض وجوده بدل آخر، لكن د.طيب يهرب عادة من الملموس إلى المجرد (العلاقة)، لهذا نراه يتحدث عن النزاع الاجتماعي والسياسي بين ملاك الأراضي الكبار، والجناح الديمقراطي من طبقة مالكي العبيد (56) وعن التناقض "بين علاقات الإنتاج البطريركية القديمة، المتجمدة والمتكلسة اقتصادياً وبين النمط الجديد من الإنتاج للحياة الاجتماعية المادية، وهو الإنتاج البضائعي" (47). المسألة إذن، هي: علاقة ضد علاقة، وهنا لا يبرز سبب تحديد الاجتماعي أولاً، ولكن يبرز أيضاً معنى الاجتماعي، الذي لا يبدو أنه يعني الطبقي، خصوصاً إذا لاحظنا أن أولوية الاجتماعي تلغي الاقتصادي، كما أوضحت سابقاً، وبالتالي فإن تحديد الاجتماعي أولاً يعني أن التناقض هو تناقض علاقات، مما يعيدنا إلى المعنى البورجوازي (القديم) للاجتماعي، أي الخالي من الأساس الطبقي.
إن المحدد الحاسم هو الاقتصادي (العمل، وسائل الإنتاج...)، ومن ثم العلاقات التي يفرزها (مالك/ منتج). العلاقة هنا تحوي الوجود، لكنها لا تجبه، فالوجود هو الذي ينشئ العلاقة. وبالتالي، في التحديد المادي، يبدأ من الوجود وصولاً إلى العلاقة وليس العكس. رغم أنه لا وجود دون علاقة، لكن العلاقة هي المظهر (الشكل) والوجود هو الجوهر. وإذا كان الاقتصادي هو محدد الاجتماعي، فإن الاقتصادي الاجتماعي يصبح وجوداً محدِّداً للوعي (الفكري)، لكن المنطق المثالي (الشكل هنا) يبدأ من العكس، أي من الوعي (الفكر) كمحدد أول، نزولاً إلى الاجتماعي كمحدد ثان (تابع). ولتكون الإشارة إلى "الأطر الاجتماعية الاقتصادية" و"الخلفية الاجتماعية الاقتصادية" و "التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية" عنصر تكميل ليس إلا، أي إضافة كمية فقط. جزء من "بريستيج" التحليل.


10
سنلمس هذه المسألة بطريقة أخرى، لنتحقق من النتيجة التي وصلنا إليها من خلال البحث في العلاقة بين "الأطر التاريخية والاجتماعية ـ الاقتصادية" ونشوء وتطور الفكر (126)، يقول د.طيب "إننا نقول بكون هذه الأطر (التاريخية والاجتماعية والاقتصادية) قد هيأت بشكل غير مباشر ومتوسط إمكانية نشوء وتطور الفكر العربي الإسلامي الفذ، ولا نقول ضرورة ذلك. أما تحول هذه الإمكانية إلى ضرورة فقد كان نتاج المنطق والبنية الداخليين الخاصين بالفكر الإنساني منذ الحضارات الكلاسيكية قبل العصر العربي الإسلامي حتى هذا العصر الأخير" (126). هنا يبرز تهميش "الأطر الاجتماعية الاقتصادية" حيث أنها تعطي الإمكان لنشوء الفكر، وبهذا فإن الأساس الاقتصادي الاجتماعي، ليس هو محدد الفكر، أو بصيغة أخرى، فإن الفكر ليس انعكاساً لـ "الواقع المادي" بل إن هذه الواقع يهيئ بشكل غير مباشر (أولاً)، والإمكانية (ثانياً) لذلك. أما ما يحول الإمكانية إلى ضرورة فهو الفكر ذاته. وبهذا فإن تطور الفكر مستقل عن تطور الواقع. إننا إذن أمام مفهوم الإمكانية والتحقق الأرسطية، وترجمتها العربية، القوة والفعل الرشدية، إذا كان الإله هناك هو الذي يحول الإمكانية إلى تحقق (القوة إلى فعل) فإن الفكر هنا هو الذي يحقق هذا التحول، من الإمكانية إلى الضرورة، وكما أن "المادة المجردة" الرشدية تحوي في ذاتها إمكانات التحول، فإن الأطر الاجتماعية الاقتصادية تهيئ الإمكانية، لكن التحقق (الضرورة) هنا بفعل "خارجي"، الإله هناك والفكر هنا، وبالتالي فإن الفكر يطور الفكر، أما تطور الواقع فيهيئ فقط وبشكل غير مباشر أيضاً، الإمكانية (فقط الإمكانية) هنا تسقط الفكرة المادية، التي تؤكد أن التطور الواقعي يفرض تطوراً في الفكر، ورغم استقلالية الفكر النسبية فإن تطوره يخضع لهذا التطور الواقعي.
إننا هنا أمام تاريخ "خاص" للفكر، غير مساوق للتاريخ الواقعي، في حالة فصام معه، وهو ما حاولت توضيحه سابقاً، حيث نشأت الفلسفة مادية منذ البدء (لكن متأرجحة)، لكنها نمت وتكورت إلى أن نضجت في العصر العربي الإسلامي الوسيط (مع ابن رشد). بانقصال عن التطور الواقعي كله، ولقد أحدث هذا الانفصال من خلال ربطها بـ "طبقة التجار" والإنتاج البضائعي، الدي أوضحت مدى خطله، وبتجاهل كامل لتاريخ التطور الاقتصادي الاجتماعي مند العصر العبودي إلى  "البورجوازية المبكرة" أي لتصبح الفلسفة "المادية" المعبر عن "العصر العبودي" (وتحديداً عن الجناح الديمقراطي من ملاك العبيد ـ التجار)، كما المعبر عن "البرجوازية المبكرة" (التي هي طبقة التجار).  في الوقت نفسه فإن المثالية (التي هي الأسطورة الغيبية النصية الدين)، نشأت هكذا واستمرت كذلك، منذ تطور الأسطورة إلى " المادية والمثالية"، لهذا فهي المعبر عن العلاقات القبلية (البطريركية) وملاك الأراضي في اليونان القديمة، وعن الإقطاع في العصر العربي الإسلامي الوسيط. وكما أشرت سابقاً فالتطور كمي في الاتجاهين.
أسس الدكتور طيب لنشوء الفكر في عصر محدد (اليونان القديمة) بالصيغة المحددة الحاملة أساس التناقض بين اتجاهين ليبدو تاريخ الفلسفة كأنه تاريخ تراكم متتال حتمي لهما. ولأنه تطور كمي فقط فهو ما يفرض ضرورة نشوء الفكر في عصر محدد بالصيغة المحددة. لأن التراكم يفرض بشكل حتمي تطور الفكر (إنها إذن متوالية عددية) بغض النظر عن تطور الواقع، لهذا فإن التطور الواقعي غائب هنا، ولكننا أمام "اختراع" لواقع ما، فالفكر يحدد واقعه، ما دام الفكر يطور الفكر دون ارتباط بالواقع الحقيقي. الاستقلالية النسبية للفكر تتحول إذن إلى استقلالية مطلقة، والانعكاس يصبح انعكاساً مقلوباً. ليتبين هنا أن رفض الربط الميكانيكي بين الواقع والفكر، الطبقات ووعيها يفضي إلى رفض لكل ربط، حيث يتحرر الفكر وينشئ تارخه الخاص "من ذاته". وهنا نعود إلى فكرة أفلاطون عن العالم وظلاله القاتمة، عن "المثال" الذي ينشئ الشيء ليكون ظله الباهت (99-100)، لهذا صاغ المثال (وهو هنا تاريخ الفكر حسب د.طيب) "الأطر الاجتماعية الاقتصادية" لتكون ظلاً باهتاً لهذا المثال.
المادية تحدد أن التطور الواقعي يفرض ضرورة نشوء وعي (فكر مطابق)، وهنا فإن الأساس الاقتصادي الاجتماعي لا يهيئ لإمكانية نشوء الفكر، بل يحدد ضرورته، والإمكان يتعلق بمستوى الفكر ذاته. الفكر السابق بالتالي يهيئ لإمكانية تطور لاحق فيه. والأساس الاقتصادي الاجتماعي يفرض ضرورة تحقق هذا التطور. وبهذا فإن الواقع يفرض نشوء الفكر المطابق، ومن ثم، فإن تطور الواقع يفرض ضرورة تطور هذا الفكر ليطابق الواقع الجديد. التراكم في الواقع يفرض تحقق التراكم في الفكر، والانتقالة في الواقع تفرض الانتقالة في الفكر. وإذا كان هذا التحديد يبدو ميكانيكياً فقد أوضحت سابقاً طبيعة الاستقلالية النسبية للفكر وأكدت أنها استقلالية نسبية، ونسبيتها نابعة من أنها تتحدد "في التحليل بالأساس الاقتصادي الاجتماعي، وإلا تحولت إلى استقلالية مطلقة. وتعبير"في التحليل الأخير" هذا الذي يراد منه نفي الميكانيكية والاشتقاق المبسط للفكر من الواقع، لا يفضي إطلاقاً إلى إلغاء التحديد بأن الفكر هو انعكاس للواقع وبالتالي لا يقود إلى تحول الفكر إلى أساس الوجود الواقعي وإلا تحقق التحول من المادية إلى المثالية. وهو ما لاحظته لدى د.طيب الذي انطلق من أن الأساس الاقتصادي الاجتماعي يهيئ لإمكانية نشوء تطور الفكر العربي الإسلامي الوسيط. وأيضاً بشكل غير مباشر ومتوسط، أما تحول الإمكانية إلى ضرورة فارتبط بالمنطق والبنية الداخليتين الخاصتين بالفكر الإنساني في الحضارات السابقة، وبالتالي فقد قلب الضرورة إمكانية والإمكانية ضرورة. طبعاً لم أعرف أنه هنا يقصد الفلسفة تحديداً حيث نشوء التجريد والمقولات حول المادة والعالم والمنطق منذ اليونان القديمة قد أوجد الإمكانية لتطورها في العصر العربي الإسلامي. فالتطور يتحقق بفعل تراكمات سابقة، وبالتالي فإن المستوى المتطور الذي نشأ في هذا العصر كان نتاجاً لإفادة العرب من الفلسفة اليونانية، وهذا صحيح وخاطئ معاً: صحيح من زاوية التراكم، بمعنى أن تبلور مقولات محددة سوف يفضي إلى تعمق يفرض توضيح هذه المقولات بلورة مقولات أخرى، وهذا يتعلق بالمنطق تحديداً (البنية الأكثر تجريداً). وخاطئ لأن نشوء فلسفة في مجتمع محدد يفرض مستوى من التطور في الأساس الاقتصادي الاجتماعي، وتطورها يفرض تطور هذا الأساس، وبالتالي فهذا التراكم في المنطق مرتبط بالتراكم في التطور الاقتصادي الاجتماعي. لكن د.طيب يتكلم عن نشوء الفكر، الفكر أعم من الفلسفة التي هي شكل محدد له ـ الدين شكل أخرـ وكلها تعبر بشكل أو بآخر عن وعي طبقي؛ لهذا عبر أرسطو عن الطبقة المسيطرة في اليونان القديمة (مع رفض تقسيم د.طيب لأجنحتها) كما عبر ابن رشد عن الطبقة المسيطرة في العصر العربي الإسلامي الوسيط (مثل الفارابي والكندي وابن سينا وابن طفيل وابن باجة). ولنلاحظ أن هؤلاء عبروا عن رؤى سياسية أيضاً. وبالتالي فإذا لم تحدث انقالة نوعية بين أرسطو وابن شد فيعود ذلك إلى طبيعة الأساس الاقتصادي الاجتماعي الذي ساد منذ نشوء المجتمع الطبقي إلى بدء نشوء البورجوازية (ليست المبكرة)، وهذا الأساس هو ما يحتاج إلى بحث لكي يفهم التطور الفكري انطلاقاً منه وفي إطاره. ولا شك في أن د.طيب حدد الخلفية الاجتماعية الاقتصادية لهذا الفكر. لكن إضافة إلى ملاحظتنا السابقة على ذلك سنلاحظ أن هذا التحديد لم ينطلق من منهجية متماسكة، لهذا بدا مفككاً، فهو ـ وإن أخذ بمقولة العصر العبودي لليونان القديمة ـ فإنه فيما يتعلق بالعصر العربي الإسلامي الوسيط بدا مشوشاً، حيث انطلق من مقولة أن نشوء التجارة (نقد ـ سلعة ـ سوق) يعبر عن نشوء للبورجوازية مترافق مع تمسك بالفلسفة والدفاع عنها، وأن الميل إلى التفتت والتمسك بالغيبية وبالنصية والأسطورية (الدين) يعبر عن نشوء للإقطاع، وبالتالي فإن التناقض الذي أحدثه في العصر العبودي بين وسائل الإنتاج والعلاقات الاقتصادية التي تنشأ في ضوئها، والمحدد ـ طبقياً ـ بين التجار وملاك الأرض قد توسع ليصبح تناقضاً بين نمطين: العلاقات الاجتماعية الإقطاعية وإرهاصات البرجوازية المبكرة. لكن مع تأكيد أن البرجوازية المبكرة هي الطابع العام للنمط الذي ساد، وأنها كانت مهددة بانتصار العلاقات الاجتماعية الإقطاعية.
طبعاً، يمكن لنا أن نستنتج أن هذا التقسيم استمد مفهوماته من تناقض البرجوازية والإقطاع في أوربا، ولكنه لاحظ أن تحديد طبيعة كل منهما قد طاله التشويه، حيث فهمت البورجوازية بأنها نقد ـ سلعة ـ سوق وأهملت وسائل الإنتاج (الصناعة)، وأساس هذا الفهم كما أوضحت هو النظرة الشكلية التي ترى المظهر (الشكل) فقط، فهذه شكل لعلاقة أعمق وأوسع أساسها وسائل الإنتاج والعمل. كما فهم الإقطاع بأنه مجزأ (مفتت) وغيبي. وأيضاً نلمس هنا النظرة الشكلية. وبالتالي فنحن نواجه "منطق" الفهم سواء بما استنتجه من تاريخ أوربا أو بما "شكله" في التاريخ العربي الإسلامي. إن المنهجية العامة هي التي حكمت كل ذلك، فالتناقض بين المادية والمثالية الذي هو المحور الجوهري في هذه المنهجية فرض البحث عن ظلاله (تعبيره الملموس)، فكانت طبقة التجار هي الشكل الملموس للمادية، عبر التجريد، بربط نشوء النقد المصرفي (الذي هو تجريد) بها. ولأن المادية غدت تعني التجريد (بمقولاته المختلفة). لهذا كان وعيها مادياً (وهو هنا الفلسفة). ولأن تناقض مادية/ مثالية يفرض بالملموس وجود طرف آخر. فلقد اعتبر ملاك الأرض هم الشكل الملموس للمثالية التي عنت الغيبية والأسطورية والنصية (الدين). وبهذا أصبح التضاد الواقعي تضاداً بين التجار وملاك الأرض وهو المحدد اقتصادياً بين وسائل الإنتاج التي هي آنئذ الأرض والعلاقات الاقتصادية التي تنشأ في ضوئها، أي التجارة (وهنا أهدر التحليل الاقتصادي) الذي سرعان ما يتحول إلى تضاد بين نمطين من العلاقات "البورجوازية المبكرة" و "الإقطاعية" في العصر العربي الإسلامي الوسيط. وإذا كان د.طيب لم يعتبر أن التضاد في اليونان القديمة هو تضاد بين نمطين من العلاقات فنتيجة وجود العبيد وتملك التجار لهم (كما ملاك الأرض). رغم أن نشاطهم هنا لم يكن في الإنتاج حيث العبيد مملوكون لكبار ملاك الأرض. والذين عملوا في  الأرض (الزراعة) هم من أعطى العصر سمته حسب الماركسية (ربما أبقى د. طيب هذا التحديد نتيجة عدم وجود اختلاف في الماركسية حول ذاك العصر). والذي يفرض هذه الملاحظة هو أن كل سمات البرجوازية المبكرة وجدت هناك (سيادة طبقة التجار والفلسفة "المادية"). لكن ربما اعتبره "وجود بالقوة" تحول إلى وجود بالفعل في العصر العربي الإسلامي الوسيط (تحول الإمكان إلى تحقق). وهنا يطرح السؤال: ما الذي حول الإمكان إلى تحقق، القوة إلى فعل؟ يشير د.طيب إلى "روح التقدم الاجتماعي الاقتصادي والعلمي والتكنيكي في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط" (362) لكنه ينطلق من ذات الأسس التي عالج بها العصر العبودي، توسع دور النقد والتبادل البضاعي والوضع المسيطر لطبقات التجار مقابل الإقطاعية التي اكتسبت أهمية متعاظمة، ومن ثم أصبحت "الشكل الرئيسي في العلاقات الاجتماعية الإنتاجية" (193)، حيث اتخذ التطور ثلاثة اتجاهات مجتمعة هي الإقطاعي والعبودي وإلى حد ما البورجوازي الأولي المبكر" (191)، وبالتالي لتبدو "روح التقدم الاجتماعي الاقتصادي والعلمي والتكنيكي" إضافة كمية، لإنها لم تفض إلى تغير في وسائل الإنتاج التي هي الأرض أساساً، إضافة إلى أن البورجوازية المبكرة" قامت على أساس التوسع في دور النقد والتبادل البضائعي، بمعنى أن وسائل الإنتاج مهملة مسبقاً كما لاحظت سابقاً. وبالتالي فإن التراكم شمل هذا التوسع تحديداً. إضافة إلى أن د.طيب لا يتكلم هنا عن التقدم الاقتصادي الاجتماعي والتكنيكي الواقعي، بل يتكلم عن "روح" التقدم ذاك، وعن التقدم العلمي، أي إنه يبقى يدور في إطار "النظري". ولتأكيد ذلك أبرز أن الإقطاعية هي التي اكتسبت الأهمية المتعاظمة لتصبح الشكل الرئيسي في العلاقات الاجتماعية الإنتاجية وليتبين بأن "روح التقدم" تلك رافعتها في الواقع تقدم ومن ثم انتصار العلاقات الإقطاعية الإنتاجية وتراجع في العلاقات البورجوازية المبكرة. لكن د. طيب يؤكد "نشوء الإرهاصات الأولى للعلاقات البورجوازية المبكرة في زمن ابن رشد كانت الخلفية العميقة للمواقع المادية والانتقادية الدينية لابن رشد" (179) وأسست لإسهامه في تطوير الفلسفة المادية الهرطقية والجدلية إلى أمام (387-388) وفي تحقيق خطوة هائلة "في تاريخ الفكر المادي الهرطقي والجدلي" و"مكتسب كبير للفكر المادي الهرطقي والجدلي" (ص 388). وهنا بعكس تحليله الاجتماعي الاقتصادي يربط تطوير المادية والجدل بذاك النشوء لإرهاصات العلاقات البرجوازية المبكرة. التي قال إنها تراجعت لمصلحة الإقطاعية، طبعاً يوضح ذلك مدى إلحاقية الوجود بالفكر، بتكييفه وفق مقتضيات (الفكر). إنه "تهميش" للأساس الاقتصادي الاجتماعي وإيراده ليس أكثر من "برستيج" كما أشرت سابقاً. لتبقى المسألة متعلقة بالفكر (بالتناقض مادية ـ مثالية) وما دام الأساس الاقتصادي الاجتماعي محدداً في ذاك الإطار فإننا سنلحظ أن التحول من الإمكان إلى التحقق، من القوة إلى الفعل، مرتبط بالفكر ذاته. يقول د.طيب: لقد مثل أرسطو العصر العبودي القديم بقوة وبفكر وثاب. وتجاوزه أرسطو في كثير من النقاط المثالية الميتافيزيقية قد تحقق فعلاً من قبل مفكرين عظام عاشوا في مجتمع كانت فيه البورجوازية المبكرة تشرئب بعنقها نحو الاستمرار وتطمح في حيازة الوجود الشامل، وإن لم يتحقق لها ذلك كله. والمقصود هنا المجتمع العربي الإسلامي الوسيط (124). فإذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة فهم د.طيب لوضع الأساس الاقتصادي الاجتماعي كملحق (هامش) للفكر، فسيتوضح لنا أن التحول من الإمكان إلى التحقق من العصر العبودي الذي يحمل إمكان بورجوازي (أولي مبكر) إلى البورجوازية المبكرة قد تحقق نتيجة التراكم في الفكر، حيث تحقق تطور بارز وملحوظ للاتجاه الأرسطي المادي على يد ابن سينا وابن باجة وابن طفيل ... هذا الاتجاه الذي اكتسب مضامين مادية وعقلانية عميقة (357)، وحيث اختط ابن رشد كأسلافه ابن سينا وأبي بكر الرازي وابن طفيل اتجاهاً فكرياُ جديداً في المجتمع العربي الإسلامي الوسيط، نستطيع أن نسمه بقناعة بميسم المادية (372) والمسمى في تاريخ "المادية الفلسفية" بالمرحلة الرشدية (372). إن نشوء إرهاصات العلاقات البرجوازية المبكرة قد تحقق إذن نتيجة تطور المادية وتجاوزها كثيراً من النقاط المثالية الميتافيزيقية لدى أرسطو، رغم أن الأساس الاقتصادي الاجتماعي كان يسير شيئاً فشيئاً منذ تكون الخلافة لمصلحة الإقطاعية التي أصبحت الشكل الرئيسي للعلاقات الاجتماعية الإنتاجية منذ العهد الأموي ومن بعده العباسي (193). إن تراكم التطور في المادية إذن قد أفضى إلى نشوء برجوازية مبكرة، ولكن في الذهن، وسيبحث عن "وجودها" الملموس في دور النقد والتبادل البضائعي وفي المركزية (193) ما دامت الإقطاعية هي التي انتصرت كما يشير، رغم أن هذا الوجود الملموس للنقد والتبادل البضائعي وكذلك المركزية ليس سمة غريبة عن "الإقطاعية"، بل إن فهم النمط الذي ساد الدولة العربية الإسلامية يفترض دراسة كل ذلك، حيث تشكل نمط (ما قبل رأسمالي) يقوم على وجود النقد والتبادل البضاعي. لكن "هيمنة" شكل الإقطاع الأوربي فرض هذا التفكيك للنمط، وتفسير كل عنصر فيه كنمط مستقل. ولا شك في أن هيمنة هذا الشكل هي التي أفضت إلى تأسيس بورجوازية مبكرة. لهذا قلت إنها نشأت في الذهن.
الفكر إذن يصنع الواقع. وإذا كان الإله في الفلسفة القديمة هو هذا الصانع (الفاعل) فإن فكرة التناقض مادية/ مثالية هي صانع الواقع لدى د.طيب. إنها تحدد بنية الفكر وتناقضاته، كما أنها تحدد "ظلاله القاتمة" الوجود الواقعي ومسارات تطوره وتناقضات طبقاته. وهو ما يؤكد ما قلته قبلاً بأننا أمام خليط من "المادية" و "العقلانية"، المادية فيه شكل (كلمات فقط)، والعقلانية مشوهة مهزوزة. إننا أمام ليس فقط ميكانيكية مقلوبة واقتصادوية مشوهة، بل إننا بالأساس أمام مثالية مفرطة مختلطة بالميتافيزيقا. وبهذا فقد أهدرت المادية ودمرت العقلانية. كل ذلك في إطار سيطرة منطق شكلي فض.


* سلامة كيلة "ملاحظات أولية حول أشكالية رؤية التراث لدى الماركسيين العرب" مجلة دراسات اشتراكية العدد الثقافي 8 خريف 1990 (ص 39-44)
· سأشير أيضاُ إلى أن هذه التقسيمات وسمت بها الاتجاهات المثالية الحديثة في عصر النهضة الأوروبي من قبل الاتجاهات المحافظة وكانت "وحدة الوجود" أحد أسس هذا التقسيم، حول ذلك يمكن مراجعة يوسف كرم "تاريخ الفلسفة الحديثة"
¨ د.طيب تيزيني " مشروع روية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط" دار دمشق ـ دمشق (د.ث) الصفحات (332 –342)
[1] ـ إنجلز، لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، عم ماركس إنجلة منتخبات في ثلاثة مجلدات م3 ج2 ، دار التقدم، موسكو ط1 1981 ، ص 197
[2] ـ كارل ماركس، رأس المال، م1 ج1 ، دار التقدم، موسكو، ط1 1985 ص 28
[3] ـ كارل ماركس
[4] ـ انظر النص في فريدريك إنجلز، لودفيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، دار الطبع والنشر باللغات الأجنبية، موسكو (د. ت) ص72 .
[5] ـ انظر إنجلز في ماركي ـ إنجلز، منتخبات، سبق ذكره، ص189
[6] ـ انظر ضد دوهرنغ، دار التقدم، موسكو، ص11
[7] ـ نصر حامد أبو زيد، التص، السلطة، الحقيقة، المركز الثقافي العربي، ط1 1995 ص83
[8] ـ ابن رشد، فصل المقال، دار المشرق، بيروت.
[9] ـ كارل ماركس وفريدريك إنجلز، بيان الحزب الشيوعي، دار التقدم، موسكو، ص40
[10] ـ وضع ماركس هذه النتيجة كاحتمال، أما الاحتمال الآخر فهو انتصار الطبقة المضطهَدة. لكن دراسة التاريخ توضح أن كل أنماط الإنتاج المكتملة لم يفض سوى إلى الدمار. حول رأي كاركس يمكن مراجعة ماركس/إنجلز، البيان الشيوعي، دار التقدم، موسكو،(د.ت) ص41
[11] ـ إنجلز، لودفيغ فويرباخ، مصدر سابق، ص197 ، مع ملاحظة الاختلاف في الترجمة.
[12] ـ بليخانوف، المؤلفات الفلسفية، م1 دار دمشق، ص369
[13] ـ المصدر نفسه، ص347
[14] ـ المصدر نفسه، ص374
[15] ـ كارل ماركس، رأس المال، دار التقدم، موسكو، م1 ج1 ط1 1985 ، ص27 ، مع ملاحظة اختلاف الترجمة.
[16] ـ إنجلز، ضد دوهرينغ، مصدر سبق ذكره، ص162
[17] ـ ابن رشد، فصل المقال، سبق ذكره.
[18] ـ يمهد د.طيب لبحثه الفلسفي ببحث الوضع الاقتصادي الاجتماعي في اليونان وفي الجزيرة العربية. انظر: طيب تيزيني، مشروع رؤية جديدة، مصدر سبق ذكره، الصفحات 43و 63 و137 و193
[19] ـ إنجلز، رسائل حول المادية التاريخية، دار التقدم، موسكو، ص6
[20] ـ إنجلز، ضد دوهرينغ، مصدر سبق ذكره، ص162
[21] ـ ماركس ـ إنجلز، الأيديولوجية الألمانية، دار دمشق، ص 39 . مع ملاحظة اختلاف الترجمة.
[22] ـ إنجلز، لودفيغ فويرباخ، مصدر سبق ذكره ص197
[23] ـ المصدر السابق ص162
[24] ـ كارل ماركس، رأس المال، م1 ج1 دار التقدم، موسكو، ص27
[25] ـ إنجلز، لودفيع فويرباخ، مصدر سابق ص 206



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المفكر والباحث الفلسطيني سلامة كيلة :المجتمعات المعاصرة تميل ...
- حول مشكلات السلطة والديمقراطية في الأمم التابعة ملاحظات في ص ...
- الاشتراكية أو البربرية
- العراق حدود-الوجود- الأمريكي والاستراتيجية البديلة -1
- نقاش حول العولمة في موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الس ...
- رحيل الأسد: إطلالة على التغيير المحتمل
- العـولمة آليات إعادة إنتاج النمط الرأسمالي العالمي
- الخيار الفلسطيني من الدولة المستقلة إلى الدولة ثنائية القومي ...
- في النقاش الماركسي الراهـن ضرورة الخروج من فوضي الأفكار
- الماركسية والثورة الديمقراطية ثورة أم ...........إصلاح؟!
- الماركسية والعقل الأحادي
- ملاحظات على ورقة المهام السياسية المقدمة إلى الإجتماع الثالث ...
- نقد التجربة التنظيمية الراهنة
- ملاحظات عن ماركس والعولمة
- عسكرة العالم: الرؤية الأمريكية لصياغة العالم
- بعد العراق نهاية عصر و بدء آخر
- صدام مصالح و ليس صدام حضارات - وضع الثقافة في الحرب الإمبريا ...
- جريدة الكترونية هائلة يمكن أن تلعب دورا كبيرا في هذا الوضع ا ...
- الانتفاضة والسياسة
- الماركسية في الصراع الراهن


المزيد.....




- “اعرف صلاة الجمعة امتا؟!” أوقات الصلاة اليوم الجمعة بالتوقيت ...
- هدفنا قانون أسرة ديمقراطي ينتصر لحقوق النساء الديمقراطية
- الشرطة الأمريكية تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة ...
- مناضل من مكناس// إما فسادهم والعبودية وإما فسادهم والطرد.
- بلاغ القطاع الطلابي لحزب للتقدم و الاشتراكية
- الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي (الإتحاد المغربي للشغل) تدعو ...
- الرفيق جمال براجع يهنئ الرفيق فهد سليمان أميناً عاماً للجبهة ...
- الجبهة الديمقراطية: تثمن الثورة الطلابية في الجامعات الاميرك ...
- شاهد.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين في جامعة إيم ...
- الشرطة الإسرائيلية تعتقل متظاهرين خلال احتجاج في القدس للمطا ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - مناقشة لفكر ملتبس المادية والمثالية في الماركسية