أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الاشتراكية أو البربرية















المزيد.....



الاشتراكية أو البربرية


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 792 - 2004 / 4 / 2 - 10:17
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


مقدمة
الاشتراكية أو البربرية عنوان لعدد من الكتب المترجمة، صدرت بالعربية في السنوات الماضية، وهو قبل ذلك شعار ماركسي نادت به روزا لوكسمبورع. ولقد ترددت في اختياره خوفاً من اختلاط الأسماء (وربما المواقف)، لكنني وجدت أن جوهر النمط الرأسمالي العالمي يحدد هذا الاختيار، وبالتالي يفرضه، لهذا لم أجد مناصاً من تثبيته (مع التنبه المسبق لهذا العنوان المتكرر) وأنا ابحث في جوهر النمط الرأسمالي العالمي، وبالأخص انعكاسه على الأمم المخلّفة. وأقول مخلّفة لأنني أقصد القول بأن آليات هذا النمط هي التي تعيد إنتاج التخلّف، بمعنى أن تخلّف هذه الأمم لم يعد نتاج تكوين داخلي يكبح ممكنات تطورها، بل أنه نتاج آليات النمط الرأسمالي العالمي، هذه الآليات التي غدت تكبح ممكنات التطور هذه. وبالتالي غدت، وهي تعيد إنتاجها في إطار النمط ذاته، تعيد إنتاج التخلّف، تحقّق "تراكم التخلف" فيها، في الوقت ذاته الذي تراكم التطور في المراكز، و"تراكم الفقر فيها، كما تراكم الرأسمال في المراكز..
لكنني أبحث أيضاً في حدود اختيارات هذه الأمم، التي أجدها تتراوح بين السعي لتحقيق الاشتراكية (بغض النظر عن أشكال الوصول إليها، أو بشكل أدق مع الأخذ بعين الاعتبار أشكال الوصول إليها)، أو الاندماج في النمط الرأسمالي العالمي، والخضوع لآلياته التي لا تقود سوى إلى البربرية إلى مراكمة تخلّف هذه الأمم وتفككها وتفتتها، لأنها  تغدو مجال فعل آليات نهب (الذي هو أساس استمرار التراكم الهائل في المراكز)، وسوق منحكمة لسياسات الشركات الإحتكارية متعدية القومية، الأمر الذي يعني "تهزيل" دور الدولة، بتحويلها إلى "مخافر شرطة"، و"سلطات ذات حكم ذاتي". وبالتالي إلغاء دورها الحمائي والاقتصادي عموماً، في إطار تشكيل بنى مفككة تعيد المجتمعات إلى أشكالها الأولية (البدائية). إذن يتحدد الخيار هنا في قبول هذه البربرية، أو تجاوز النمط الرأسمالي بمحمله. لتبدو كل الخيارات الأخرى كخيارات واهمة ومضللة، حيث ليس من إمكانية لتحقيق التطور الاقتصادي الاجتماعي في إطار النمط الرأسمالي ذاته. كما تبدو استحالة التطور أيضاً دون الخيار الاشتراكي.
والمنطق الذي أؤسس عليه يتحدد في أن الصناعة هي وسيلة الإنتاج الأساسية في النمط الرأسمالي، ولقد أفضى نشؤها إلى الهيمنة على وسائل الإنتاج الأخرى (الزراعة)، وإخضاعها لمقتضياتها. ولقد تحدد تموضعها في مناطق/أمم محددة، لكن وجودها وتطورها يفرضان هيمنتها على العالم من أجل إعادة إنتاج الصناعة ذاتها، بالتالي النمط بمجمله، لتتحدد استحالة تحقق التوسع الأفقي للصناعة، وبالتالي يعاد إنتاجها في المراكز فقط دون باقي العالم. وإذا كانت العلاقة بين الأمم الرأسمالية (المراكز) تقوم على أساس "النهب" المتبادل، ليتحقق التكافؤ نسبياً، فإننا لا نلحظ إمكانية ذلك في العلاقة بينها وبين الأمم المخلفة. وهذا اللا تكافؤ يؤدي إلى "هروب" الرأسمال إلى المراكز، يتحقق تراكمه هناك، ومن ثم يعاد إنتاجه فيها (وليس عالمياً)، ليعاد إنتاج التخلف في الأمم المخلفة، إلى الحدود التي تؤدي الى دمارها.
هنا تنطرح مسألة تجاوز آليات النهب هذه، لكي يصبح ممكناً إعادة إنتاج التراكم في الأمم المخلٌفة ذاتها. من أجل تحقيق التصنيع ومن ثم تأسيس النمط الاقتصادي "المتمحور على الذات". الأمر الذي يطرح دور الدولة الحمائي، ولكن أيضاً دورها "كرب عمل"،يمركز الرأسمال ويعيد توظيفه في الاقتصاد (الزراعة، الصناعة، البنية الأساسية..). لكن عبر آليات تضمن تمركز الرأسمال، كما تضمن إعادة توظيفه في "القوى المنتجة" أولاً وفي التحديث عموماً. وبالتالي أنا أتحدث هنا عن الاشتراكية (أو عن أشكال للانتقال إلى الاشتراكية عبر الخيار الماركسي)، إن عملية "فك الارتباط" التي قال بها د. سمير أمين تهدف – وفق ما أرى – إلى وقف عملية النهب التي يقوم بها الرأسمال العالمي، من أجل توظيف التراكم محلياً (أي قومياً)، في إطار بنية تسمح بتحقيق التصنيع والتحديث. و"احتكار الدولة" ضروري هنا (في المرحلة الأولى على الأقل)، لأن "تصنيع العالم" ضرورة، من أجل تحقيق التكافؤ. وإذا كان "تصنيع العالم" يفترض الاشتراكية فإنه يفرض – من ثم – تحقيقها عالمياً.
سوف أبحث أولاً في بنية النمط الرأسمالي العالمي، لأوضح جذور الميول التي نشأت نتاج هذه البنية، ميول الحركات القومية (أو ما أسمي حركات التحرر الوطني)، التي هدفت إلى تحقيق التصنيع والتحديث، بالتالي مشكلات التجارب التي أسستها والتي أفضت إلى انهيارها. وميول الاشتراكية ومن ثم مشكلاتها، لكن – بالأساس – ماذا حققت واقعياً، والفارق بينها وبين تجارب حركات التحرر الوطني. لأصل إلى تصور لآفاق التطور انطلاقاً من الوعي بطبيعة النمط الرأسمالي العالمي. وبالتالي من الوعي بممكنات تجاوزه.
وسيبدو هذا الكتاب كتكملة لكتاب "فوضى الأفكار الماركسية واختيارات التطور الاقتصادي الاجتماعي"([1])، حيث أنه يكثف وجه نظري الواردة في ذاك الكتاب والتي تؤسس لاستنتاجات تبلورت في هذا الكتاب.
 
 
 
-1-
 
العالم يهتز، يفقد طابعه الذي تشكل فيه لعقود، ينتهي تكوين نظام، بني، وتنهار ثوابت، تنكسر أحلام، وتدب الفوضى، الفوضى في الواقع و الفوضى في الفكر.
لقد أدى انهيار النظم الاشتراكية إلى تغير عميق في تكوين العالم، فقد انتهى عصر  الاستقطاب الثنائي، وبدا العالم وكأنه يحكم من قطب واحد، كما بدا أن النمط الرأسمالي هو النمط الأوحد، رغم أن انهيار النظم الاشتراكية في "الاتحاد السوفيتي" وأوروبا الشرقية، لم يمنع من استمرار نظم اشتراكية في أمم أخرى "الصين، كوريا الشمالية، كوبا، فيتنام.." رغم ذلك لن نتسرع في القول إن تكويناً جديداً (بنية جديدة) قد تشكلت، لأن ذلك يجافي الوقائع، فما أفضى إليه ذلك الانهيار هو الفوضى، التي تحمل في طياتها اختيارات عديدة.
ولا شك في أن هذا الانهيار قد أطلق موجة تشكك وتساؤل كبيرتين في صفوف الماركسيين، تبدو أنها أقرب إلى حالة من الضياع. وما يمكن أن نقوله ابتداءً أن حكماً متسرعاً أصدره العديد من الماركسيين مفاده أن انهيار النظم الاشتراكية – الذي يسمى لدى هؤلاء انهيار الاشتراكية مطابقين هذه النظم بالنظرية الاشتراكية – دلالة على لا واقعيتها، وأن تسرعاً وإرادوية مفرطة حكما لينين والبلاشفة، حينما قرروا بناء الاشتراكية بعد ثورة أكتوبر 1917، لأن الرأسمالية لم تكن قد استنفذت طاقتها وأساس وجودها بعد. ويستنتجون من هذه الواقعة، حكماً عاماً (قانوناً عاماً) يقضي بأن الرأسمالية لم تستنفذ أسباب وجودها بعد وما دامت الاشتراكية غير ممكنة قبل أن، تستنفذ الرأسمالية كامل طاقتها وأغراضها التاريخية([2]) فإن الرأسمالية هي الخيار الواقعي، لذا فالاشتراكية مؤجلة. وإذا كان من الخطأ المنهجي مقارنة تجربة ولدت في ظرف محدد وأمة محددة بظروف أمة أخرى لم تنتج تجربة مشابهة، واستنتاج أن فشل التجربة المتحققة دلالة على عدم صلاحيتها لأمة أخرى. بمعنى أنه إذا كان السؤال الأهم الذي يجري القفز عنه، هو: لماذا لم تتطور الأمم المتخلفة التي لم تنتصر الاشتراكية بها؟ أو بمعنى أدق: لماذا سارت الأمم المتخلفة هذه في المسار الذي سارت فيه متشكلة في إطار بنية رأسمالية تابعة؟ أي لماذا لم تنتصر الرأسمالية – بمعناها الحديث أي انتصار قوى وعلاقات الإنتاج الرأسمالية معاً – في هذه الأمم؟.
إن السؤال حول إمكانات التطور الرأسمالي في الوطن العربي مطروح منذ القرن التاسع عشر (تجربة محمد علي باشا) ولكن الرأسمالية التي انتصرت فيه هي الرأسمالية التابعة بالذات. أليس لكل ذلك معنى؟ لقد أنتجت التجربة هذا النمط من الرأسمالية  وبالتالي ألا تحتاج الدعوة إلى الرأسمالية إلى تفسير هذه النتيجة كي تكون منسجمة؟؟
وإذا استثنينا تجارب كوريا الجنوبية، تايوان. سنغافورة وهونغ كونغ([3]) فإن كل الأمم المتخلفة سارت في مسار الرأسمالية التابعة، حتى البرازيل التي أطلق على تجربتها في الستينيات والسبعينات "المعجزة البرازيلية" نجدها – كما أوضحت النتائج – تسير في نفس الطريق. إذن السؤال الأولي والأساسي، والسابق على السؤال عن أسباب انهيار النظم الاشتراكية، يتقوم في: لماذا فشل التطور الرأسمالي في الأمم المتخلفة؟ إن هذا السؤال سابق على انهيار النظم الاشتراكية. حيث كان مطروحاً منذ بداية القرن العشرين وكانت الإجابة عليه في أساس تصورات لينين حول الثورة والتقدم وأحقية الاشتراكية. إن العودة إلى البحث في هذا السؤال أصبحت ضرورية إذن، ما دامت الظروف الجديدة قد أدت إلى التشكيك في الإجابات السابقة.
لكن – أيضاً – لا بد من تحليل بنية النظم الاشتراكية، لتحديد أسباب انهيارها. قبل الاستنتاج المتسرع عن فشل الاشتراكية، وعن عدم ملاءمتها للعصر. لماذا هذا الاستنتاج الذي اعتبر أنه متسرعاً؟
إن الشكلانية الماركسية التي حكمت قطاعات ماركسية عديدة،واليقينية المفرطة التي لطت خلف الشعارات البراقة، كانت في أساس هذا التسرع. ولا شك في أننا نحتاج إلى تحليل ذلك، لكن لا بد أن نشير إلى أن خيار التطور الرأسمالي كان يحكم منطق هذه القطاعات بالذات، ولم تكن الاشتراكية في إطار بنيتها الفكرية سوى (حلم مستقبلي) أقرب إلى اليوتوبيا منه إلى الحلم الذي يمتلك أسسه الواقعية فقد دافعت عن أحقية الخيار الرأسمالي في الأمم المتخلفة صراحة أو مداورة. واعتبرت أن الاشتراكية هي المرحلة التالية للرأسمالية، وأنه من غير الممكن القفز عن "المراحل التاريخية" وبالتالي فإن ما تفعله اليوم لا يعدو أن يكون إعادة إنتاج لمفاهيمها القديمة، ولكن ربما بصيغة أكثر صراحة "فظاظة".
إذن لماذا لم تنتصر الرأسمالية في الأمم المتخلفة؟ وهل أن انهيار النظم الاشتراكية يؤكد لا واقعية الخيار الاشتراكي راهناً؟ وبالتالي ما هي أزمة الاشتراكية؟ وهل سقطت لتنتصر الرأسمالية؟
*        *        *
سوف نبحث في الإشكالية التي حكمت رؤية الماركسية، وقادت إلى تلك الاستنتاجات المتسرعة. لكن أيضاً سوف نحدد معنى الاشتراكية والفارق بين المثال الاشتراكي وصيرورة تحققه. ويُقصد بالمثال هنا الصيغة النموذجية للاشتراكية، الاشتراكية في كامل بهائها. وهذه لا تتحقّق "فوراً" أي بمجرد استلام الطبقة العاملة للسلطة، ولا بإلغائها للملكية الخاصة، بل أنها تحتاج إلى تطوير عميق في الاقتصاد يحقق التقدم الصناعي والوفرة، وفي الثقافة يحقق ارتقاء الاشتراكية كنظام تلعب فيه الطبقة العاملة دوراً قيادياً، وبني المثل الاشتراكية. لكن الوصول إلى ذلك يفترض البحث في ممكنات الخيار الرأسمالي في إطار البنية الإمبريالية الراهنة، ولقد انطلقنا هنا من مفهوم "قوى الإنتاج" من اللا تكافؤ في "قوى الإنتاج" حيث بدى العالم في صيغة أمم متقدمة صناعية وأمم متخلفة بلا صناعة. مما يهيئ الأساس لسيطرة الأولى على الثانية. ونقصد بقوى الإنتاج بالأساس، الأدوات التي يستخدمها الإنسان في تحويل الطبيعة للحصول على السلع وإنتاج الأدوات ذاتها. وحين نتحدث عن الرأسمالية فنحن بالتالي نتحدث عن الصناعة التي هي خاصية الرأسمالية بالذات. ونحن نتحدث عن الصناعة بمعناها الشمولي، أي الصناعة بمستوياتها الثلاث: الصناعة التي تنتج الصناعة (الآلات المنتجة للآلات) التي تسمى عادة "الصناعة الأم" والصناعات الأساسية التي تشمل الصناعة الضخمة (مصانع الحديد والصلب، الطائرات والسيارات والسفن، الإلكترونيات..) والصناعة الاستهلاكية وهي المسماة الصناعة الخفيفة. وإذا كنا قد أشرنا إلى مفهوم اللا تكافؤ فلا بد من التوضيح مسبقاً أنه مفهوم نسبي ويعني وضع الأساس للانطلاق في تحقيق التطور الصناعي، ولا يعني المساواة الكمية. فاللا تكافؤ في بنية النظام العالمي يشمل بالأساس المستويين الأول والثاني من مستويات الصناعة وتحقيق التكافؤ يفرض تحققهما.
إن اللا تكافؤ في تطور القوى المنتجة يفرض الخيار الاشتراكي، من أجل تحقيق "المساواة". ولقد أوضحنا أسباب ذلك، مؤكدين على عجز الخيار الرأسمالي حتى في صيغته القسرية، صيغة "رأسمالية الدولة". ومعتبرين أن هدف الاشتراكية في المرحلة الأولى هو تحقيق التكافؤ في القوى المنتجة تحديداً. لأنه الأساس للانتقال إلى الاشتراكية في كل أمة وعلى الصعيد العالمي.
لكن لماذا انهيار الاشتراكية؟ لا شك أن للوضع العالمي دوراً في ذلك، حيث تنمو الاشتراكية في "بقع" محاصرة، مما يفرض عليها مشكلان إضافية، لكن تبقى الصيرورة الداخلية هي ما نبحث فيه أنها الأساس.
وما نبغي الوصول إليه هو أن العالم لا يواجه الاختيار بين خيارين: الاشتراكية أو الرأسمالية فهذا اختيار مضلل، بل أنه يواجه الاختيار بين: الاشتراكية أو البربرية.



 
 
 
-2-
 
خيار "الاشتراكية أو البربرية" يعاد طرحه في صفوف الماركسيين إذن، بعد ما كانت الاشتراكية هي الخيار الوحيد، على الصعيد النظري على الأقل هذه النقلة تحققت بعد انهيار النظم الاشتراكية، والمشكلة في هذه النقلة إن ما يطرح اليوم بوضوح، كان يطرح بالأمس بشيء من الغموض. بمعنى أن التباس الموقف من الاشتراكية كان قائماً في السابق وكان وجود النظم الاشتراكية يسهم في ذلك. لأن تحليل قطاعات من الماركسيين للاشتراكية، واعتبارهم لها كخيار، اعتمد على "المرتكز" الخارجي هذا. حتى أن الذين كانوا يطرحون برنامجاً محلياً يقوم على أساس دعم التطور الرأسمالي، كانوا "يلغون" (من اللغو) كثيراً بالاشتراكية، وبكونها مستقبل البشرية كلها.
اليوم تنقلب الأمور، وتطفو الدعوة إلى الرأسمالية باعتبارها الخيار الممكن والوحيد والضروري. ولا شك في أن هذه الموجة هي نتاج انهيار النظم الاشتراكية، رغم أن هذه الفكرة ليست جديدة، بل قديمة قدم الماركسية ذاتها، وهي في الوطن العربي، والأمم المتخلفة منتشرة منذ عشرينات القرن العشرين، أي بعد ثورة أكتوبر السوفيتية سنة 1917، ورغماً عن خياراتها. إلا أنها كانت "مباركة" من قبل بعض قادتها بعد موت لينين (ونقصد ستالين على وجه التحديد). لكن ما حدث في آب 1991 في الاتحاد السوفيتي (السابق) أطلق هذه الموجه وما حدث بالتحديد هو الانتقال من الصيغ الغامضة من طرح هذه الفكرة، إلى طرحها بشكل واضح وجريء، ومدعمة بسند تاريخي يثبت أحقيتها ألا وهو "فشل الاشتراكية". لهذا يمكن القول أن المشكلة قائمة من الأساس، وهي حسب ما أرى نتاج "جهل" بالماركسية، أو بتعبير أدق نتاج "تقزيم" الماركسية إلى مستوى وعي برجوازية صغيرة طامحة، مما وسم الماركسية بضيق الأفق الذي يميز هذه الفئات. وبالتالي تأسست رؤيتها للواقع وللعالم، ليس انطلاقاً من الماركسية، بل كتعبير مباشر عن مصالحها. لكن هذا التعبير "استعار" من الماركسية تصوراً ما، أفكاراً معينة. ويمكن إيجاد ذلك في صيغتين الأولى: صيغة "المادية التاريخية" التي صاغت التاريخ في خمس مراحل، تبدأ بالمشاع ثم الرق والإقطاع فالرأسمالية ثم أخيراً الاشتراكية (ولا بد أن نشدد على هذه الـ"أخيراً" لأنها كانت تهمش الشيوعية بإحلال الاشتراكية محلها، بينما ليست الاشتراكية سوى مرحلة انتقال إلى الشيوعية. كما ترى فيها نهاية التاريخ، وبالتالي توقف التاريخ) هذه اللوحة الخماسية كانت تعني – وفق الصيغة الرائجة – حتمية مرور كل أمة فيها، أي تدرجها من نمط إلى آخر، وبالتالي كان "المحتم" أن تنتقل الأمم من الإقطاع إلى الرأسمالية قبل أن تصل إلى الاشتراكية. انطلاقاً من ذلك اعتبر الماركسيون الذين تبنوا "نظرية المادية التاريخية" (كانوا أغلبية الأحزاب الشيوعية – وقطاعات من اليسار الجديد) أن دعم التطور البرجوازي في إطار دعم الاستقلال هو برنامجهم، في نفس الوقت الذي حولوا فيه الاشتراكية إلى "حلم" (أي إلى وهم) عن طريق الحديث الضبابي حولها وتقديسها لكن باعتبارها الآخرة (أي الجنة). ومن هذا كانت النتيجة العملية لهذا المنطق هي تكييف وعي الطبقات المسحوقة (وخصوصاً الطبقة العاملة) لتقبّل هيمنة البرجوازية بينما – في المستوى النظري – كان مفهوم "المادية التاريخية" هذا مفهوماً مثالياً، متعارضاً مع الماركسية، فهو في الماركسية شكل تخطيطي (تجريدي) عالمي، لا يتحقق بالضرورة في كل أمة من الأمم، بل – وكما أوضح التاريخ – لم يتحقق في أي من الأمم، وكان "القفز" فوق المراحل، سمة تاريخ كل أمة، رغم أنه – كما أشرنا – كان شكلاً للتطور العالمي.
الثانية: التصور "النظري" للاشتراكية، وهنا لا بد من أن نلاحظ مستويين. المستوى الأول: يتعلق بالصيغة التي أدلجت فيها للاشتراكية، على اعتبار أنها "الجنة". ونقصد التهويل في إضفاء الإيجابية على الاشتراكية، وكأنها الحل لكل مشكلات الإنسان، لهذا جرى تصوير الاشتراكية وكأنها خالية من المشكلات، وكأنها "حياة ساكنة" ليس أمام الإنسان سوى إرضاء نهمه "وإشباع حاجاته" دون كبير مجهود (أي في جو من العطالة). هذا التصور أسس لمفهوم انتفاء التناقضات في المجتمعات الاشتراكية إلى الحد الذي حدى بستالين إلى إلغاء مبدأ من مبادئ  المنهجية الماركسية (الجدل)، وهو مبدأ نفي النفي باعتبار أن الاشتراكية هي نهاية التاريخ، وليس فيها من نفي أعلى (نفي النفي) رغم أن التصور الستاليني – رغم تمسكه الشكلي، بالمادية الجدلية كما أسماها ستالين – ينفي الجدل المادي من أساسه ولا ينفي هذا المبدأ فقط. فهو ينطلق، فيما يتعلق بالاشتراكية، من انتفاء التناقضات في المجتمع، وانتهاء الطبقات، ليصور المجتمع "كصيرورة" تقدم مستمر، خط صاعد في تحقيق التقدم (زيادة الإنتاج، رفاه الإنسان، الغنى الروحي..) دون نشوء ظاهرات سلبية، أو أخطاء أو عوز، أو حتى دون صعوبات. ولا شك في أن هذه التجربة عبرت عن مصلحة البيروقراطية الحاكمة، التي كانت تسعى لتأبيد سيطرتها، فأنتجت بنية فكرية (أيديولوجية) مطابقة، وكانت هذه البنية هي الوهم الذي عمقته الماركسية الرائجة لتغطية القبول الواقعي بالتطور الرأسمالي، في الوطن العربي وفي العديد من الأمم الأخرى، لقد عممت تصوراً مثالياً مناقضاً لواقع البلدان الاشتراكية السابقة، ومخالفاً للماركسية. المستوى الثاني: يتعلق بكيفية التعامل مع التصور النظري للاشتراكية، الذي يفترض تحقيقه مرحلة متقدمة من تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، وبالتالي من تطور البنية الثقافية الإيديولوجية بعامة، حيث جرت مطابقته بالواقع الذي كان قائماً في البلدان الاشتراكية من جهة، ومن جهة أخرى أصبح مقياس الواقع المتخلف في الأمم التابعة. لذلك وبالقدر الذي أصبح "مطبّقاً" لواقع البلدان الاشتراكية. أصبح معاكساً لواقع الأمم المتخلفة وكابوساً عليها، لذلك حين انهارت النظم اشتراكية، أعيدت صياغة المفاهيم انطلاقاً من هذين التصورين وبالقدر الذي كانا في أساس صياغة المفاهيم السابقة، فأصبحت الرأسمالية هي الخيار الوحيد في الأمم المتخلفة وغدت هذه الفكرة تطرح بوضوح "وجرأة" عكس ما كان يحدث سابقاً. وجرى التأكيد على لا اشتراكية البلدان الاشتراكية، أو أن تحقيق الاشتراكية كان سابقاً لأوانه، مما كان يعني حتمية فشلها (ولا بد أن نلاحظ هنا إن الحتمية حافظت على ثباتها في وعي الماركسية الرائجة، لكن هذه المرة بشكل مقلوب) وبالتالي كان الاستنتاج يقول بأن لا إمكانية لتحقيق الاشتراكية قبل "نضج" النمط الرأسمالي ووصول التناقضات فيه إلى مرحلة تفرض الانتقال إلى الاشتراكية.
 وبهذا فالرأسمالية هي الخيار العالمي الراهن. إن مسطرة "المادية التاريخية" أصدرت حكمها "التاريخي" لتقول أن تحقيق الاشتراكية متوقف على انتصار الرأسمالية عالمياً، وصولها إلى منتهاها، أما قبل ذلك فأي نضال من أجل الاشتراكية ليس سوى وهم وطفولة ونزوع إرادوي. هذه المسطرة كانت في السابق تطال أمة في سياق تطورها الخاص، وبالتالي كان من الممكن لأمة أن تنتقل إلى الاشتراكية قبل غيرها، أما اليوم فقد غدت العالمية هي أساس هذه المسطرة رغم أنها – كما أوضحنا سابقاً – تتجاهل العالمية وتختص بكل أمة من الأمم. إن انهيار الاشتراكية أدى إلى ضياع كبير أصاب الماركسية في الوطن العربي، كما في كل العالم. ولا شك في أن اليقين الذي كان يحكم الماركسية، والذي عمّقته الماركسية السوفيتية، كان في أساس هذا الضياع. ولهذا نلاحظ أن "الضائعون" هم ممن اعتبر أن الماركسية السوفيتية ملهمته، لأنها الماركسية الحقة، وأن "العلماء" السوفييت هم أنبياء الماركسية. بينما كان الماركسيين الذين "خرجوا" عن هذا النمط، معتمدين الماركسية الأصلية، ماركسية ماركس وأنجلز ولينين، ومنطلقين من أنها بالأساس المنهج المادي الجدلي، هم الأكثر مقدرة على التماسك في ظل حالة الضياع هذه. لقد نشأت حالة الضياع هذه نتيجة انهيار"المثال"، "المثال" الذي كان يعتبر نهاية التاريخ (كما كان هيغل قد اعتبر أن الدولة البروسية هي نهاية التاريخ، وكما يعتبر مفكرو الرأسمالية أن الرأسمالية هي نهاية التاريخ) ليظهر أن ليس للتاريخ نهاية. وأنه لا زال يعيش حركته الدائبة إلى الأمام، الصيرورة لا تنتهي. و أن كل "أمثلة" لها ستنهزم. والماركسية السوفيتية "امتثلت"، "أسطرت" التجربة الاشتراكية لأن للبيروقراطية الحاكمة ومنظريها مصلحة في ذلك، لأنها تدافع عن مصالحها المتمثلة باستمرار البنية القائمة. "الماركسيون"صدقوا هذه "الأسطرة" و"الأمثلة" على الضد من الجدل المادي الذي يحارب "الأسطرة" و"الأمثلة" لأنه ينطلق من مبدأ الصيرورة، الحركة التي لا تتوقف، وبالتالي "لا تؤسطر" لحظة من لحظاتها. لهذا وجدنا أنه حينما انهار "المثال" ضاع هؤلاء في أتون الحركة. لقد انهارت "الجنة" ولم يبق سوى "الضياع والضياع يفضي إلى قبول "الواقع"، قبول ما هو قائم. لأن من يقبل "المثال" يرضى بالوضع القائم حين يتكسر "المثال". هذه هي النتيجة المنطقية لسيادة المنطق التقليدي (السابق على الفكر البرجوازي) القائم على مبدأ الشيء وعكسه (فصم الشيء عن نقيضه، بالتالي إسقاط مبدأ الصيرورة وكل الجدل المادي). وهذه هي النتيجة المنطقية لسيادة المنطق الوضعي، المنطق الذي ينطلق من الإقرار بالواقع المعطى شكلاً، وبالتالي الخالي من الحركة لأنه خالٍ من النقيض، والمعزز بـ"المثل". والثنائية التي روجتها الماركسية السوفيتية هي ثنائية الرأسمالية الاشتراكية، لهذا حينما انهارت النظم الاشتراكية كانت الرأسمالية هي البديل، بعدما كانت الاشتراكية هي البديل هروباً من جور وظلم واضطهاد الرأسمالية.
 لقد تذكر "الماركسيون" هؤلاء الرأسمالية بعد الانهيار، فتحولت من كونها الشر المطلق إلى كونها الخير المطلق، وبالتالي الخيار الوحيد أمام الشعوب، ليصبحوا دعاة أشداء لها، يجهرون في بزّ كل من "يتلعثم" حول الاشتراكية، ويصدرون فتاوي بحق كل من يدافع عنها متهمينه بالجمود العقائدي و"الستالينية"..الخ، رغم أن ستالين هو "الأب الروحي" لهم، فهم ببساطة يأخذون بمنهجه. وهذه ليست المرة الأولى التي ينزع فيها بعض الماركسيين إلى الدعوة للرأسمالية، إنما يتوضح من دراسة تاريخ الماركسية أنه كلما مرت بأزمة "ينهض" بعض من الماركسيين يدعون للرأسمالية صراحة أو مداورة وانطلاقاً من فكرة أن الرأسمالية لم تستنفذ طاقاتها بعد (هذه هي فكرة برنشتين وليس غريباً أن يطرح أصحاب هذا الاتجاه اليوم أفكار برنشتين ذاتها، لكنها كذلك فكرة الأممية الثانية. وليس غريباً أن نجد صلة واضحة بين هؤلاء وستالين من خلال الفهم الاقتصادوي للماركسية). ولقد فسرت الماركسية هذا النزوع بـ"نشوء ارستقراطية الطبقة العاملة، المستفيدة من فتات الرأسمالية"، ولقد انهزم هذا الاتجاه في إطار الماركسية وتحولت أحزابه إلى أحزاب رأسمالية، رغم أن بعضها لا زال يحمل اسم الاشتراكية (أحزاب الاشتراكية الدولية).
الآن يتذكر بعض "الماركسيين" أن الرأسمالية "خطوة هائلة إلى الأمام" فيندفون للدفاع عنها، ويؤكدون أن مصير الأمم المتخلفة وكل العالم متوقف على انتصارها. لقد أفاق هؤلاء من "حلم" الاشتراكية (أو بتحديد أدق من وهم صيغة للاشتراكية مطابقة للجنة) ليكتشفوا أنهم نسوا "التقدم الهائل" الذي يجب أن تقوم به الرأسمالية لكي يتهيأ الظرف "الموضوعي" لانتصار الاشتراكية. ولكنهم وهم في غمرة اكتشاف الوهم نسو التاريخ كله، نسوا أن الأمم المتخلفة ظلت تعيش أزمة الرأسمالية طيلة ما يقرب من القرنين دون جدوى، وأن العالم لم يكن منقسماً إلى الرأسمالية والاشتراكية فقط، بل أن الأمم المتخلفة الملحقة بالنمط الرأسمالي لم تصبح رأسمالية، وأنها تخلفت أكثر.
وإذا حاولنا وعي أسباب هذا الاندفاع نحو الرأسمالية نجد أنها نشأت، في الأمم الاشتراكية، نتيجة التحولات في بنية الفئة الحاكمة التي أفرزت قطاعات لها مصلحة مباشرة في التحول نحو الرأسمالية، لأنها بعد كل الامتيازات التي حصلت في ظل الاشتراكية، أصبحت معنية بأن تمتلك. أن تحصل على ملكيتها الخاصة. بعدما كانت "تسرق" من الدولة على شكل امتيازات. أما في الأمم المتخلفة فقد نبعث من مصلحة الفئات البرجوازية الصغيرة "المتمركسة"، التي كانت تتبنى برنامجاً يعبر، ي جوهره عن حاجة لتحقيق التطور الرأسمالي لكنه "مغطى" بأفكار اشتراكية، كانت بنية النظام العالمي تستدعيها. لكنها اليوم تعلن ما أضمرت، وتظهر ما كانت تخفي. وبالتالي غدت منسجمة مع مصالحها، رغم أنها لا زالت "تتطفل" على الماركسية، وتعمل على الإغراق في تحويرها بما يخدم هذه المصالح. لكن لا بد من أن نلاحظ الفارق بين ماضيها وحاضرها، فقد دعمت، في السابق، الخيار الرأسمالي المستقل، القائم على أساس الاستقلال وتحقيق التقدم الصناعي، لكنها اليوم تدعم خيار الرأسمالية التابعة، المبني على أساس تعزيز سيطرة النظام الإمبريالي العالمي، وعلى تحقيق "التقدم" ضمن إطاره. لكن يبقى السؤال هو: هل من الممكن أن يتحقق التقدم ضمن إطار النظام الإمبريالي العالمي؟ وهل تستطيعه الرأسمالية ذاتها؟
نشير إلى أن هذين السؤالين طرحا منذ بداية القرن العشرين، وأجيب عليهما بأشكال مختلفة من قبل اتجاهات في الماركسية. وإذا كانت الإجابات السابقة غير كافية اليوم نتيجة التحولات الكبيرة في بنية الإمبريالية، وفي طبيعة النمط الرأسمالي العالمي، فإننا معنيون بمحاولة الإجابة مرة أخرى. لكن قبل ذلك يبقى التساؤل عن الأسباب التي منعت الأمم المتخلفة، التي لم تنتصر فيها نظم اشتراكية، عن التقدم في هذا المضمار؟ ألا تحتاج تجارب هذه الأمم إلى دراسة من أجل الإجابة عن أسباب فشل التقدم الرأسمالي فيها؟؟؟
في هذا الوضع لا بد من تحديد معنى الاشتراكية وتحديد الظروف التي تتحقق فيها. فلا شك في أن تصورات مشوهة حكمت النظر إلى الاشتراكية، أشرنا سابقاً إلى بعض منها، لكن نضيف أن الاشتراكية هي نمط اقتصادي اجتماعي وثقافي عام يتحقق بالارتكاز إلى بنية محددة، ولا يجوز لنا أن ننسى ذلك لأنه يقودنا إلى اعتناق مفاهيم مخالفة للاشتراكية، ونتبّع تصورات لا تفضي إلى تحقيقها. وبذلك نعاود اعتناق الصيغة المشوشة التي تطرح وفقها.
وحين الإشارة إلى مستوى التطور في بنية الرأسمالية كمهيئ لتحقيق الاشتراكية، لا يكون الأمر مخالفاً للتصور الماركسي، لأن الاشتراكية – في كل الأحوال – هي الحل لطبيعة التناقض في البنية الرأسمالية،هي نقيض الرأسمالية، وبالتالي كي تكون بنية الرأسمالية هي الأساس الذي تقوم عليه الاشتراكية، ونقصد هنا قوى الإنتاج، التكوين الثقافي، الدولة – الأمة، البنية السياسية والحقوقية. وانطلاقاً من المنهجية الماركسية تكون قوى الإنتاج هي الأساس الذي تبنى عليه الفروع الأخرى (علاقات الإنتاج، البنية الفوقية، الدولة، الثقافة..) رغم أهمية هذه الفروع، التي لا يجوز لنا تجاهلها، ونحن نبحث في وضعية قوى الإنتاج. إن تحقق الاشتراكية يفترض وجود الصناعة ( والفروع الملحقة بها في الزراعة – التجارة – الخدمات – المال) والطبقة العاملة، بحيث يتمركز الرأسمال (والذي يقوم على أساس الرأسمال الصناعي) في يد أقلية، وتتحول أغلبية الشعب إلى العمل المأجور. لتتشكل طبقة عاملة كبيرة وقوية، كما يفترض تشكل "المجتمع المدني"، المجتمع الذي تجاوز البنية الذهنية والاجتماعية السابقة للرأسمالية (القبلية، الأثنية، الطائفية..) وتشكل على أساس مبدأ المواطنة، أي المجموع الذي ينتمي إلى وطن، وليكون الصراع الطبقي هو الشكل "الوحيد" للصراع. انطلاقاً من انقسام الشعب إلى طبقات (مع ملاحظة الطابع النسبي هنا، والذي يعني عدم تناسي إمكانية وجود هوامش لأشكال صراع قادم من الماضي) وكل ذلك يفترض وجود بنية ثقافية مطابقة، وشعب "مثقف"، هذه كلها عناصر هامة من أجل تحقيق الاشتراكية التي تقوم على أساس إلغاء الملكية الخاصة، بتحويلها إلى ملكية اجتماعية، وإنهاء سيطرة البرجوازية الممثلة لأقلية مستغلة، ليتلاشى الانقسام الطبقي، ويصبح العمل هو المحدد لطبيعة العلاقات (في المرحلة الأولى لكل حسب عمله، وفي المرحلة الثانية لكل حسب حاجته) وهذا يفترض وجود قوى إنتاج متطورة قادرة على تلبية حاجات المجموع، من حيث الوفرة والنوع والشكل. كما يفترض وجود بنية ذهنية (الثقافة، الوعي، الإيديولوجية) قادرة على صياغة، والتعامل مع النمط الجديد.
إن تحقيق الاشتراكية يفترض إذن وجود مستوى من التطور الاقتصادي في مجمل قوى الإنتاج ومن التطور الاجتماعي، وكذلك وجود مستوى من التطور الحضاري العام أيضاً (الثقافة، الوعي المرتبط بالذهنية الإيديولوجية، والسياسية والحقوق) ويفترض ثالثاً تحقق حل للمسألة القومية، وفي تحقيق التفاعل بين مجمل الأمم. ونحن نلمس هنا بنية النظام العالمي الذي تتحقق الاشتراكية فيه، والذي يؤثر بالضرورة في طبيعة التطور في كل أمة.
 ما نطرحه هنا هو صيغة التجريد القصوى، حيث انطلاقاً منها يمكن أن نصل في حال استخدمنا طريقة ميكانيكية في التفكير إلى اعتناق الخيار الرأسمالي ذاته. لأن بنية الأمم المتخلفة غير مهيأة لتحقيق الاشتراكية، وهذه هي الصيغة للاشتراكية التي يجري اعتمادها لإقرار "حتمية" تطور الأمم المتخلفة رأسمالياً. ولكن أيضاً نلاحظ أن بنية الأمم الرأسمالية المتقدمة غير مهيأة لتحقيق الاشتراكية لأنها رغم التطور الهائل في قوى الإنتاج، وفي البنية الحضارية العامة، تعيش حالة استقطاب طبقي لا تؤهلها تحقيقها، حيث لا تشكل الطبقة العاملة (وهي المهيأة أصلاً لتحقيق الاشتراكية) سوى نسبة محددة من بنية المجتمع (لا تصل في كل الأحوال إلى نسبة 40% من مجموع السكان) وأن الفئات الوسطى (البرجوازية المتوسطة والصغيرة، التكنوقراط، الفلاحون، المتوسطون والصغار) تشكل نسبة غالبة فيها. ولا شك في أن لسيطرة هذه الأمم على الأمم المتخلفة دور مهم – وربما أساسي – في تشكل البنية الطبقية هذه، نتيجة الطابع (فوق القومي) لمجمل النشاط القومي (الشركات – الرساميل – النشاط..) حيث ضخمت هذه الواقعة من حجم الدولة، ومن حجم فئة التكنوقراط. وكل الفئات الوسيطة غدت معنية باستمرار السيطرة الأمم المتخلفة، من أجل تحسين وضعها الطبقي. وبالتالي يكون الموقف المؤسس على ذلك على ذلك، ربما أكثر سوداوية من المواقف الراهنة، لأنه يقول بأن الرأسمالية المتقدمة، والتي تأسست فكرة الاشتراكية على اعتبار أنها نقيضها الحتمي، هذه الرأسمالية أيضاً لا تفضي إلى تحقيق الاشتراكية، مما يوجد المبرر لاعتبارها وهماً، وصيغة أخلاقية لا تعبر سوى عن حلم إنساني بتحقيق المساواة أو العدل.
 بينما تقوم المواقف الراهنة على أساس انتظار ما يمكن أن تفرزه بنية الإمبريالية، ضمن معادلة يكون شقها الأول، هو القبول بالنظام الإمبريالي العالمي، ومن ثم – وهذا هو الشق الثاني – السعي لتطوير البنى المتخلفة، على أمل أن يترسمل العالم بالمعنى الشامل، أي ليس فقط في مجال علاقات الإنتاج بل كذلك في مجال قوى الإنتاج، لتصبح الاشتراكية ممكنة في النطاق العالمي. لكن الطريقة الميكانيكية في التفكير وحدها هي التي توصل إلى هذه النتيجة.
في الماركسية ليست صيغة التجريد هي التي تحكم الواقع بل على العكس فإن الواقع هو الذي ينتجها ويكيّفها من جهة ثانية، وبالتالي يخضعها لمشيئته من جهة ثالثة. التجريد هو صياغة ما هو "متناسق" في الواقع، وهو "الشكل" الأمثل "المثال" أو الواقع كما ينتهي في إطار صيرورته. هكذا كان كتاب "رأس المال" الذي حدد قوانين رأسمالية كانت تبدو حينما كتبه ماركس غريبة عنه، لكنها منذ بداية القرن العشرين كانته. كذلك كان توصيف لينين للإمبريالية الذي كانته بعد ذلك بثلاث أو أربع عقود. التجريد في الماركسية (في أحد جوانبه) هو، واعتماداً على "العناصر الأولى"، تحديد شكل البنية "الناجزة". نحن هنا إذن نشير إلى عنصرين حاسمين في المنهجية الماركسية، الأول: يتعلق بضرورة الانطلاق من الواقع لا من التجريد، من الواقعي لا من النظري، وتتقوم مهمة النظرية في المساعدة على وعي الواقعي، والثاني: يتعلق بضرورة وعي الصيرورة الواقعية ونفي السكونية، وبالتالي الانطلاق من ممكنات الواقع ووعي الصيرورة التي توصل إلى الشكل الناجز له. لهذا فالاشتراكية وفق تجريدنا لها، ليست سوى الشكل الناجز للتطور، الشكل "النهائي"، أنها "المثال" إذن.
 مما يفرض وعي طبيعة التطور المنطلقة من الواقع والموصلة إلى هذا "المثال". وهذا يدعونا إلى وعي الواقع ووعي صيرورته، وبالتالي يكون السؤال الأهم هو في الواقع وفي صيرورته، ما يجعلنا نقول بأن الاشتراكية هي الخيار الممكن؟ هنا سوف نقوم بعمل مزدوج فأولاً: لا بد من توضيح حدود التطور الرأسمالي، أي مجمل بنية الإمبريالية، بنية النمط الرأسمالي العالمي وثانياً: لماذا الاشتراكية هي الخيار الممكن؟
 
 
 
 
 
(3)
 
لا يمكن لنا أن نعي ما هي الرأسمالية دون أن نعرف ما أضافته في التاريخ، دون أن نحدد عنصر وجودها. فليست الملكية الخاصة هي هذا العنصر، أنها وجدت منذ تشكل المجتمع الطبقي، وليس وجود البرجوازية والطبقة العاملة هو عنصر وجودها، بل أن هذه وتلك رغم أنهما عنصران أساسيان في بنية الرأسمالية هما نتاج تطور في قوى الإنتاج. لقد وجد المالكون منذ تشكل المجتمع الطبقي، لكن اختلف شكل ملكيتهم. ووجد "العمال" منذاك لكن اختلفت طبيعة عملهم. وفي المجتمعات السابقة على الرأسمالية كانت الأرض هي وسيلة الإنتاج الأساسية، وانطلاقاً من ذلك تحدد المالكون (الإقطاع) و"العمال" (العبيد ثم الأقنان، والفلاحون الأحرار). وإذا كان البشر هم أساس المجتمعات فقد تغيرت طبيعة علاقاتهم بالطبيعة والمجتمع. وفي هذا الوضع لا بد من أن نحدد الإضافة التي شكلت الرأسمالية. ما أضافته الرأسمالية هو بالتحديد وسيلة الإنتاج الجديدة – أي الصناعة – التي بدورها أخضعت كل وسائل الإنتاج السابقة لها، لمقتضيات حاجتها، وكيّفتها مع هذه الحاجة.
وبالتالي لا يمكن لنا أن نعرّف الرأسمالية دون أن نشير إلى الصناعة. دون أن نرى هذه الانتقالة في طبيعة قوى الإنتاج التي كانت عنصراً ثانوياً وبسيطاً في المراحل السابقة، وغدت الأساس الذي قام عليه كل البناء الرأسمالي. وحيث انطلاقاً منها تحدد العمل المأجور ورأس المال وتشكلت البنية الاقتصادية بفروعها المختلفة (الزراعة  التجارة – الخدمات – المال). واعتماداً عليها تشكلت البنية الفوقية (الإيديولوجية الدولة، الثقافة..). الصناعة هي الإضافة التي قام على اساسها كل النظام الرأسمالي. هذه الانتقالة تحددت بالتدريج. ولا شك في أن الحرفة التي هي أم الصناعة وجدت منذ القدم وازدهرت في عصر الإقطاع لكنها في سياق تطورها أست لنشوء الصناعة الحديثة، وأصبح ممكناً تشكّل الرأسمالية حين ذاك، أي حين أفضى التطور التقني الذي تحقق في المدن الأوروبية بعيداً عن سيطرة الإقطاع إلى تطور الحرف ونشوء المانيفاكتورة ومن ثم الصناعة، في إطار عملية اقتصادية – اجتماعية وسياسية متشابكة، حيث فرضت الحاجة البحث عن المواد الأولية والسوق مما فرض تحقيق الوحدة القومية. وتشكل الدولة/الأمة، وفرض – بالترافق مع ذلك – التوسع العالمي ونشوء الاستعمار وتقسيم العالم بين الرأسماليات، فتشكل عالم غير متكافئ نتيجة كل ذلك.
وإذا كان اللا تكافؤ يشمل مختلف مناحي البنية، بين الأمم المتقدمة (والتي غدت أمماً إمبريالية) والأمم المتخلفة، سواء في مستوى قوى الإنتاج والتطور التقني أو في مستوى الثقافة والسياسة أو في المستوى العسكري، كذلك في مستوى التمركز الرأسمالي وإنتاج السلعة والتبادل والوفرة وفي نمط الحياة والمستوى المعيشي، فإن اللا تكافؤ في قوى الإنتاج هو أساس كل هذه العملية. وهذه هي نقطة الانطلاق التي لا يجوز القفز عنها أو تجاهلها، أو التقليل من أهميتها، رغم أهمية العناصر الأخرى ودورها وفاعليتها الواضحة أحياناً كثيرة (مثل دور القوة العسكرية). هنا نحن نلمس الفكرة الماركسية التي تقول أن الاقتصاد هو العنصر المحدد في مجمل البنية في التحليل الأخير، نعتقد أنها فكرة جوهرية في الماركسية، رغم الانحراف الاقتصادي الذي ينتج عن النظرة الخاطئة لها، هذه النظرة التي تتجاهل أنها لا تلغي فاعلية العناصر الأخرى، وإنها تعيدها إلى هذا الأساس "في التحليل الأخير". ولا شك في أن لهذه الفقرة الأخيرة معنى، وإلا لما أضيفت. لكن تجاهلها يفضي أيضاً إلى سيادة النظرة الميكانيكية. وفي الاقتصاد تكون قوى الإنتاج هي العنصر المحدد لعلاقات الإنتاج وبالتالي لمجمل البنية.
وكذلك ففي قوى الإنتاج، في الرأسمالية، تلعب الصناعة دوراً مركزياً، لتكون أساس قوى الإنتاج كما أوضحنا ذلك سابقاً. الصناعة هي مرتكز مجمل البنية إذن.
في هذا الوضع – وانطلاقاً من هذه الرؤية – تتوضح أزمة العالم بشكل جلي، إنها اللا تكافؤ في استحواذ الصناعة، وبالتالي مجمل قوى الإنتاج، وأي تجاوز لهذا العنصر المحوري في الأزمة سوف يقود إلى توصيفات خاطئة وبالتالي إلى تحديد حلول وهمية. إن اللا تكافؤ في تشكّل قوى الإنتاج عالمياً هو جوهر الأزمة وفي صميم مأزق تطور الأمم المتخلفة. ولا تعدو كل المظاهر الأخرى عن أن تكون "استطالة" لـ- وتعبير عن- هذا الأساس. ولا نود العودة إلى جذور هذا اللا تكافؤ رغم أهمية هذا البحث الذي يكتسي طابعاً تاريخياً، لكن نود التأكيد أن المصادفة/ الضرورة لعبت دوراً في تقدم أوروبا دون المناطق الأخرى، وبالتالي تحولها إلى أمم متقدمة ومتطورة خلاف باقي بقاع العالم (طبعاً نشير إلى لحاق أميركا، ثم اليابان وتحولهما إلى أمم متقدمة). هذه المصادفة/ الضرورة هي التي أسست اللا تكافؤ لعالم يعاني من "تفاوت" في التطور، لأن رأسمالية الأمم المتقدمة أعادت صياغة العالم وفق مصالحها بالعنف، ولا زالت تعيد إنتاج اللا تكافؤ هذا. لقد لعبت الحروب الاستعمارية دوراً رئيسياً في المرحلة التنافسية للرأسمالية، في تحقيق هذا اللا تكافؤ، وبالتالي كانت تجري إعادة صياغة البنية المتخلفة (التي كانت بنية إقطاعية متفسخة يسودها الاقتصاد الطبيعي) انطلاقاً من واقعة الاحتلال العسكري، وكان هدف الحصول على المواد الأولية، التي كانت في ذلك الوقت زراعية (القطن، الحرير،.. وأيضاً الحبوب) هو الذي يفرض ذلك، من أجل تشغيل قطاعات من الصناعة (طبعاً دون أن ننسى أهداف أخرى برزت أحياناً. واتخذت طابعاً سياسياً).
لقد دمرت الرأسمالية كل هذه المحاولات التي كان هدفها تأسيس قوى إنتاج في المناطق الحيوية للتوسع الرأسمالي، ومنها الهند، ومصر (تجربة محمد علي باشا)، فتكرس اللا تكافؤ في تشكل قوى الإنتاج، وتعمق مع تطور الرأسمالية وتحولها إلى إمبريالية، حيث اتسع هذا اللا تكافؤ. وأخذ شكله "المكتمل". هذه هي طبيعة النظام الإمبريالي العالمي، حيث نلاحظ تمركز الصناعة في عدد قليل من الأمم الإمبريالية، التي شاءت المصادفة/ الضرورة أن تتطور بشكل مبكر، بينما يبدو وضع الأمم المتخلفة كأمم غير صناعية في الغالب، ويتسم النشاط الاقتصادي فيها بتركز رأس المال في قطاع (التجارة- الخدمات- المال) ولتكون وظيفتها، في إطار هذا النظام، هي تصدير المواد الأولية واستيراد السلع، وكأسواق لتوظيفات الرأسمال العالمي. لهذا كانت طبيعة "الدورة الاقتصادية" في إطارها العالمي (وهذه هي سمة الاقتصادي الرأسمالي منذ تشكله، لكن مع ملاحظة الشكل البسيط لها في المرحلة الأولى، والمركب في المرحلة الثانية، مرحلة الإمبريالية). وضمن بنية هذا النظام تعطي الأمم المتقدمة "حق" إنتاج السلعة وتصديرها، بينما تعطي للأمم المتخلفة "حق" تصدير المواد الأولية الضرورية للصناعة (النفط، الحديد، الزنك…)، وفي نفس الوقت استيراد السلع. أي أن خاصية الأمم المتقدمة الإنتاج (رغم أنها سوق استهلاك واسع، بفعل المستوى المعيشي المرتفع فيها) وأن خاصية الأمم المتخلفة الاستهلاك (رغم أنها تنتج أيضاً لكن ضمن حدود ضيقة وفي قطاعات محددة)، لكن لابدّ من ملاحظة طابع اللا تكافؤ في "القيم" بين الأمم المتقدمة والأمم المتخلفة، حيث أن سعر السلع المنتجة في الأولى يخضع للمستوى الاقتصادي الاجتماعي الذي تقوم على أساسه وهو ما يجعل سلعها مرتفعة السعر، هي بذلك تصدر بسعرها المرتفع إلى الأمم المتخلفة وتستورد المواد الأولية بسعرها المنخفض، مما يحقق وضعية أفضل للصناعات الرأسمالية. تسمح بتحقيق أرباح مرتفعة السعر، هي بذلك تصدر بسعرها المرتفع إلى الأمم المتخلفة. وتستورد المواد الأولية بسعرها المنخفض، مما يحقق وضعية أفضل للصناعات الرأسمالية تسمح بتحقيق أرباح ضخمة. وإذا أضيف إلى ذلك دور التوظيفات الرأسمالية في الأمم المتخلفة تتحقق عملية نهب للرأسمال المحلي، الأمر الذي يفضي إلى اللا تكافؤ في توزيع التراكم الرأسمالي، حيث يتمركز في الأمم الإمبريالية بينما تفقر الأمم المتخلفة ويهرب منها الرأسمال العائد لرأسمالييها إلى بنوك الأمم الإمبريالية، أو يوظف في بعض القطاعات الهامشية، مما يجعل الرأسمال المالي يهيمن على مجمل الرأسمال في الأمم المتخلفة.
في هذه المعادلة قوى الإنتاج تجدد ذاتها في الأمم الإمبريالية، وفي إطار ذلك تعيد إنتاج سيطرتها العالمية مكرسة الفقر والتخلف في الأمم الأخرى. ولا يستطيع الرأسمال المالي المهيمن ضمن بنية الإمبريالية الاستمرار دون أن يعيد إنتاج هذه المعادلة. وإذا كان الرأسمال المالي ينحكم للرأسمال الصناعي فإنه يسعى لضمان استمرار احتكار قوى الإنتاج. وبالتالي استمرار صناعية الأمم الإمبريالية ولا صناعية الأمم المتخلفة. ينبع ذلك من حاجات الصناعة ذاتها، حاجتها أولاً للمواد الأولية المحلية (أي في الأمم الإمبريالية) والعالمية لضمان تحقق عملية الإنتاج .
ولا شك في أن مجمل الصناعة تعتمد اعتماداً كبيراً على المواد الأولية (مثل النفط التي تبدو الحاجة إليه حاسمة والحديد والزنك والنحاس واليورانيوم..إلخ ) وبالتالي فإن توسع الصناعة يؤدي إلى زيادة المنافسة عليها من جهة، وتسريع استهلاكها من جهة أخرى. لهذا تفرض البرجوازية الصناعية سيطرة على المواد الأولية لتتحكم بطريقة استهلاكها، ولكن أيضاً للتحكم بأسعارها في السوق العالمي. وهذه العملية تفرض الاحتكار، احتكار إنتاجها واحتكار أسعارها مما يخلق ظرفاً "موضوعياً" أمام أية محاولة للتصنيع، يمنعها من الحصول على المواد الأولية، أو الحصول عليها بأسعار مرتفعة، ليتوجد ظرف صعب أمام محاولات التصنيع يفضي إلى فشلها. وفي المقابل يكون هدف ضمان توفر المواد الأولية مبرراً لمنع نشوء صناعات جديدة. لأن الرأسمالية الاحتكارية تسعى لضمان تدفق المواد الأولية لسنوات طويلة، في هذا الوضع تكون الحاجة للمركزة شديدة وبالتالي ينفرض الاحتكار.
وثانياً: حاجة الصناعة للأسواق من أجل تصريف السلع المنتجة بهدف تلافي ظاهرة الكساد، التي هي اليوم من أكبر أزمات الإمبريالية وتفضي إلى انهيار قطاعات عديدة في المجال الصناعي في كل من أمريكا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، وربما دول أخرى. ومن أجل تحقيق ذلك لابدّ من احتكار الأسواق عن طريق هزيمة المنافسين وبالتالي استمرار مركزة الصناعة ومنع نشوء صناعات جديدة أيضاً، إن حل مشكلة فيض الإنتاج الذي تشهده الإمبريالية وخصوصاً في مرحلة التطور التكنولوجي الهائل الذي أسهم في فيض أعلى للإنتاج لا يتحقق إلا بفتح أسواق جديدة، السيطرة على الأسواق جديدة (ولاشك في أنها تنظر للمناطق التي كانت تحكمها أنظمة اشتراكية من هذه الزاوية) وفي نفس الوقت تصفية المنافسين، وهذه العملية تتحقق داخل بنية الأمم الإمبريالية ذاتها، حيث تفرض صناعة معينة بعد أن كانت سيطرت في أمة بعينها منذ زمن بعيد، وأصبحت هي الصناعة الوحيدة التي تنتج سلعة محدّدة، تفرض نفسها على مثيلاتها في بلد إمبريالي آخر. ولنأخذ صناعة السيارات كمثال، لنلاحظ أن صناعة السيارات اليابانية استطاعت أن تهزم صناعة السيارات الأمريكية التي غدت تقف على حافة الإفلاس.لكن نلاحظ هذه العملية في صناعة السفن حيث تقف صناعتها على حافة الإفلاس صناعات في عدد من الأمم الأوروبية (ومنها بريطانيا) و كذلك صناعة الحديد والصلب في عدد من الأمم الأوروبية أيضاً (ومنها ألمانيا) وهكذا صناعة الطائرات و…إلخ([4]).
إن التمركز يعيد إنتاج حالة الاحتكار عالمياً، وفي هذه العملية تنهار قطاعات صناعية بأكملها لها تاريخها الطويل ليُحكم العالم من قبل حفنة من الشركات الاحتكارية العملاقة.
في هذا الإطار تحاول البرجوازية الصناعية إجهاض أية محاولة لتحقيق التطور الصناعي في الأمم الأخرى، وإذا كانت حققت ذلك في المرحلة الأولى (مرحلة الرأسمالية التنافسية) عن طريق العنف، أي من خلال الاحتلال المباشر والحروب الاستعمارية (أي عن طريق السياسة والحرب هي استمرار للسياسة بوسائل عنيفة) فقد غدت تحققه بعد أن وصلت الرأسمالية مرحلتها الاحتكارية أي مرحلة الإمبريالية([5]) عن طريق تعميم القوانين الاقتصادية التي حكمت مسار تطورها الداخلي (أي داخل حدود الأمة) في المرحلة الأولى وتحويلها إلى قوانين تحكم النظام الإمبريالي بمجمله، هذه القوانين هي السوق الحرة التي هي معبود الرأسمالية والتنافس الذي هو إلهها. هذين القانونين كانا جزءاً جوهرياً في أيديولوجيا الرأسمالية وهما في أساس مفهوم الليبرالية الاقتصادية المقابل لمفهوم الليبرالية السياسية (البرلمان/ الانتخابات، حرية الرأي/ الأحزاب). لكن وفق التحليل الماركسي لبنية الرأسمالية توضحت منظومة القوانين التي تحكم تكوين الرأسمالية ذاته وتبين أن هذين القانونين لم يكونا سوى الجزء الظاهر من القوانين التي تنادي بها الرأسمالية مخفية (أو متجاهلة أو –في المرحلة الأولى- لم تكن تعي) بقية القوانين. وبالتالي حددت الماركسية جملة القوانين الناظمة للرأسمالية انطلاقاً من بحثها في صيرورة تكوينها، وصيرورة تطورها. نجد ذلك في "رأس المال" بالأساس.
ويمكن أن نصيغ هذه القوانين على الشكل التالي: السوق الحرة، بتوسط التنافس، تفضي إلى التمركز، والتمركز بتوسط التنافس أيضاً في إطار السوق الحرة، يفضي إلى الاحتكار، الذي يفضي بدوره بتوسط التنافس ثالثاً إلى نفي السوق الحرة، لكن لابد من أن نوضّح إن نفي السوق الحرة في إطار هذه العملية لا يعني إلغاء السوق الحرة، بل أنها ضرورية كما التنافس، وهما معاً جزء مكوّن في النظام الرأسمالي. لكن هذه القوانين التي تحققت بالتدريج والتي اكتملت في مرحلة الإمبريالية أصبحت تعني مقدرة الشركات الاحتكارية على هزيمة منافسها في إطار سيادة قوانين السوق الحرة والتنافس، وبالتالي مقدرتها على تدمير الشركات الأقل شأناً وإعادة إنتاج الاحتكار. هنا نلمس أساس الصراع بين المراكز الإمبريالية والأطراف المتخلفة، حيث تكون هزيمة محاولات التقدم، التي تعني النزوع لبناء الصناعة (وقوى الإنتاج بمعناها الشامل) محققة نتيجة اللا تكافؤ الذي يوجده الاحتكار.
وإذا كان التنافس في إطار بنية الإمبريالية هو بين الاحتكارات ذاتها، وبالتالي يكون متكافئاً، فهو بين المركز والأطراف يبدو مختلاً بشكل عنيف. إن البنية في الأطراف تقوم على أساس قانوني السوق الحرة والتنافس فقط. وهذا هو الشكل "البدائي" للرأسمالية، مرحلتها الأولى "المسماة المرحلة التنافسية"، بينما تقحم عليها القوانين الأكثر تعقيداً الملازمة لمرحلة الإمبريالية، مما يسمح بإلحاقها بها من خلال هزيمة البنية المتماثلة التي تنزع بعض قطاعات الرأسمالية تأسيسها  في هذه الأمم المتخلفة، وتشكيل بنية ملحقة بقوى الإنتاج في المراكز ما يدفع الرأسمال في هذه الأمم إلى التحول إلى القطاعات ذات المنافسة الأقل، هروباً من عملية التنافس غير المتكافئ ليوظف في القطاعات المكملة لدورة رأس المال الاحتكاري. وهذه عملية "موضوعية" تدفع الرأسمال في الأمم المتخلفة إلى النشاط في قطاع "التجارة- الخدمات- المال" وهو القطاع المسمى عادة بالقطاع الثالث في الاقتصاد (أي بعد قطاع الصناعة وقطاع الزراعة).
واللا تكافؤ الذي تفرضه الاحتكارات واضح في عناصر عدة، منها حجم الرساميل الموظفة في الشركات الاحتكارية التي تضاهي الناتج الإجمالي للعديد من الأمم المتخلفة، ولتبدو التوظيفات في الصناعة في هذه الأمم قزمة أمامها. وينعكس ذلك على حجم السلع المنتجة والأسواق التي وفرتها الشركات الاحتكارية لذاتها نتيجة "أسبقيتها" التاريخية ومن ثم التقنية العالية التي أوجدتها هذه "الأسبقية". بينما ينشأ أي مشروع صناعي في الأمم المتخلفة في وضع معقد، حيث ضآلة الرأسمال وتخلف التقنية، وضيق السوق، مما يؤدي إلى إنتاج سلعة متخلفة التقنية ومرتفعة التكلفة، في نفس الوقت الذي تؤهل ضخامة الرأسمال الموظف في الشركات الاحتكارية هذه الشركات المقدرة على "المناورة" الاقتصادية في إطار المنافسة، ونقصد مقدرتها على تخفيض أسعار السلع بهدف هزيمة المنافسين.
ومن ثم –بعد إنهاء المنافسة- رفع أسعارها إلى مستواها الحقيقي، وربما أعلى من ذلك من أجل تعويض الخسارة المحدودة التي فرضتها المنافسة، إن مجمل هذه المسائل. مضافاً إليها التحكم بالمواد الأولية الأساسية، والضغط السياسي والعسكري، والإفادة من بنى الدولة المحلية في عرقلة النشاط، يؤدي إلى انهيار المشروعات الصناعية. هذه العملية هي الشرط الموضوعي الذي يدفع الرأسمال في الأمم المتخلفة إلى النزوع التبعي من خلال التركز في القطاع الثالث.
إن هذه القوانين التي أسهمت في تشكيل بنية الرأسمالية محلياً (أي داخل كل أمة من الأمم المتقدمة) بتشكيل احتكار لكل قطاع صناعي (السيارات، السفن، الأسلحة. النفط، الإلكترونيات الدقيقة…) تعيد إنتاج العالم وفق نفس الصيغة وإن بشكل معقد، من خلال فرض احتكار عالمي لكل قطاع صناعي (وهذا يمتد إلى البنوك، والنشاط الاقتصادي في القطاعات الأخرى) ويتحقق ذلك في إطار تعميم حرية السوق وإلغاء القيود عن حركة السلع والمال (في نفس الوقت الذي تعمل فيه الرأسمالية في الأمم الإمبريالية، على إصدار القوانين الخاصة بحماية أسواقها الداخلية من أجل التحكم بالمنافسة لمصلحة شركاتها "القومية") وهذا هو هدف "النزعة الليبرالية" الراهنة التي طغت بعد انهيار النظم الاشتراكية وأصبح يلغو بها الإعلام الإمبريالي وتروّجها الرأسمالية التابعة في الأمم المتخلفة (كما حمل لواءها العديد من الماركسيين واليساريين).
السوق الحرة تعني إذن اللا تكافؤ في التنافس وبالتالي إعادة إنتاج الاحتكار، الذي يعني استمرار اللا تكافؤ في تشكل قوى الإنتاج عالمياً. طبعاً من الضروري التنويه إلى أنه لا يجب أن نهمل كل المؤثرات الأخرى. ونحن تركز على الاقتصاد. فهذه العملية التي تتحدث عنها لا تتحقق بشكل نقي. كما يبدو في صيغة "التجريد" هذه، بل هي عملية متداخلة بمجمل مستويات البنية السياسية والأيديولوجية لهذا لا يجوز لنا أن نهمل مسائل الضغط السياسي، والقوة العسكرية كعناصر مؤثرة في إعادة إنتاج اللا تكافؤ، فهي تأتي ضمن مقدرة الرأسمالية الاحتكارية على تحديد سياسة دولها لتشكيل الوضع الدولي المناسب "لحرية" تنافسها عالمياً. فتصبح الدولة ليست أداة ضبط للصراع الطبقي داخلياً فقط. فلقد "تهشمت" هذه العملية كثيراً. بل وأداة سيطرة خارجية بالأساس. ليتأسس نظام عالمي تحكمه القوى العسكرية للإمبريالية عن طريق التهديد فقط، والتدخل عند الحاجة، وتسيطر فيه العلاقات الاقتصادية المتأتية من تأثير الاحتكارات الإمبريالية في إطار سوق مفتوحة.
طبعاً اللا تكافؤ واضح للعيان. كما أن هيمنة رأسمالية الأمم الإمبريالية واضحة أيضاً، معززة باللا تكافؤ في القوى العسكرية والتأثير السياسي. مما يؤسس لنظام عالمي مسيطر عليه.
 
أمام هذا الوضع في النظام العالمي. كانت تنتشر أفكار حول نزوع لدى الرأسمالية في الأمم الإمبريالية نحو بناء الصناعة في الأمم المتخلفة. ولقد انتشرت هذه الأفكار منذ السبعينات وخصوصاً بعد نشوء ظاهرة الشركات متعددة الجنسيات (أو الشركات العابرة للقومية كما تسمى أحياناً) وإن كانت خفّت في الثمانينات فقد عادت بعد انهيار النظم الاشتراكية. ويعزى هذا النزوع إلى عاملين: الأيدي العاملة الرخيصة في هذه الأمم. والتخلص من الصناعات  التي تجاوزها "التطور الحضاري" في الأمم الإمبريالية، والتي تؤثر على البيئة. ونشير مسبقاً أنه رغم انتشار هذه الأفكار، لم نلحظ أي اتجاه جدّي في هذا المجال، الذي يتعلق بصناعات منخفضة مستوى التطور. وغير المرتبطة بتطوير مجمل البنية الصناعية، وبالتالي التي تحقق مستوى منخفضاً من التطور وظلت توظيفات الرأسمال المالي متمركزة في نفس القطاعات ونقصد قطاعات المواد الأولية (خصوصاً النفط). البنوك. التجارة، والخدمات ولهذا نسأل: لماذا لا يتجه الرأسمال المالي الذي يسعى للاستثمار في الأمم المتخلفة، إلى التوظيف في القطاع الصناعي؟ أوضحنا كيف أن مرحلة الإمبريالية قامت على أساس احتكار حفنة من الشركات للأسواق العالمية وأصبح بإمكانها هزيمة أية محاولة لنشوء منافسين، عن طريق القوانين الاقتصادية ذاتها، وبالتالي نزوع الرأسمال في الأمم المتخلفة إلى القطاع الثالث. لتتشكل دورة اقتصادية "عالمية" مصدرها قوى الإنتاج في المراكز. وتنجدل حولها عملية استيراد المواد الأولية من الأطراف وتصدير السلع لها بينما هو في الأمم المتخلفة: توزيع –استهلاك فقط-. في حين أن اكتمال هذه الدورة يتحقق بالارتباط بقوى الإنتاج في الأمم الإمبريالية.
ولا في شك أن الرأسمال المالي ينشط في الأمم المتخلفة، فلماذا لا ينزع إلى التوظيف في القطاع الصناعي؟ أنه يوظف في الغالب في قطاعات المواد الأولية (خصوصاً النفط، النحاس..) والبنوك وبعض القطاعات الخدمية. أما في قطاع الصناعة فنجد أن الرأسمال الموظف فيه لا يخرج عن إطار الأمم الإمبريالية ذاتها (مثل توظيفات الرأسمال الأمريكي في أوروبا واليابان…)، وربما نشأت حالات استثنائية فيما يتعلق بالتوظيفات في هذا القطاع في بعض الأمم المتخلفة (بعض دول أمريكا اللاتينية وخصوصاً البرازيل، بعض دول جنوب شرق آسيا وخصوصاً كوريا الجنوبية وتايوان). إن تركز التوظيفات في قطاع المواد الأولية نابع من الربحية العالية التي يوفرها، في نفس الوقت بسبب الحاجة الماسة للمواد الأولية لكونها عنصراً أساسياً في الصناعة، لكن الربحية العالية للتوظيفات في هذا القطاع لا تلغي إمكانية التوظيف في الصناعة. وربما كان للعاملين آنفي الذكر سحراً يدفع إلى ذلك على شكل فروع للشركات الاحتكارية ذاتها. لماذا لا يتحقق ذلك إذن؟
يمكن أن نلحظ جملة مسائل تعيق هذه العملية نلخصها في مسألتين:
الأولى : تتعلق بإعادة إنتاج البنية في الأمم الإمبريالية ذاتها من خلال التوظيف الاستثماري واستيعاب الأيدي العاملة، توسيع فروع الصناعة وتطويرها، أي تطوير مجمل الاقتصاد للحفاظ على البنية… إلخ، ولا شك أن هذا الموضوع يحتاج إلى بحث مستفيض لتوضيح صيرورة إعادة إنتاج الصناعة في الأمم الإمبريالية لكن ما يهمنا هنا هو أن هذه العملية تفرض استمرار فيض الإنتاج، لأن الحاجة لتحقيق ربح أعلى تفرض فيض إنتاج أعلى. هنا تبرز مسألة السوق حيث أن فيض الإنتاج لدى فرع صناعي معين يدفع الرأسمال إلى السعي للاستفراد بالسوق المتاح من خلال تصفية المنافسين، لكي يتجاوز مشكلة فيض الإنتاج، التي هي ملاصقة للصناعة ذاتها، لكن نتيجة البنية المتشكلة في الإطار الإمبريالي حيث تأسست أمم صناعية عديدة تتنافس فيما بينها، في إطار سوف معلوم وفي سياق سعي كل فرع من فروع الصناعة إلى تصفية الفروع المشابهة له، وبالتالي في سياق حاجته إلى تمتين صفة التنافس يجد نفسه منتجاً في البلد الأم، لأن فيض الإنتاج المتحقق لديه يفرض عليه الاستنكاف عند إنشاء فروع جديدة في الأمم الأخرى. إن الصناعات الأساسية في وضعها الراهن تعاني من ظاهرة الكساد نتيجة عملية فيض الإنتاج وإمكانات السوق، مما يفضي إلى إفلاس قطاعات بأكملها (صناعة السيارات والطائرات الأمريكية صناعة السفن الأوروبية..). إن إعادة إنتاج الصناعة في الأمم الإمبريالية وفي إطار التنافس بينها، تحوّل عملية فيض الإنتاج إلى ظاهرة كساد عالمي، لتكون عملية تركز الصناعة في هذه الأمم في صلب التكوين الاحتكاري المحدد لبنية الإمبريالية.
طبعاً يمكن أن نُخرج من هذه العملية بعض الصناعات الاستهلاكية التي من غير الممكن احتكارها نتيجة ملازمتها لحاجة الإنسان وبالتالي يظل سوقها أكبر من مقدرة الشركات الاحتكارية (صناعة النسيج، الصابون، التبغ..)، لكن بالنسبة للرأسمال المالي تبدو هذه الصناعات ثانوية فلا يغامر بالاستثمار فيها في أمم أخرى. ولابدّ من أن نشير إلى أن الرأسمال الموظف في قطاعات صناعية في الأمم المتخلفة وظف لأسباب استراتيجية بالأساس (كوريا الجنوبية- تايوان- هوانغ كونغ..) أو نتيجة حسابات اقتصادية لم تكن دقيقة (البرازيل) حيث تبين أن النزوع للاستفادة من قرب المواد الأولية والأسواق ورخص الأيدي العاملة، يفضي إلى زيادة فيض الإنتاج بدلاً من تسهيل عملية التسويق وزيادة الأرباح، مما عمق من أزمة الشركات التي حاولت ذلك، لتبدو الشركة التي تقوم بذلك وكأنها تنافس ذاتها.
الثانية: تتعلق بالجانب السياسي، ورغم ارتباطها بالاقتصاد، حيث تؤسس الشركات الاحتكارية (والرأسمالية الاحتكارية عموماً) نشاطها انطلاقاً من مدى مقدرة دولها على ضمان الأمن والاستمرار في إطار النظام الإمبريالي العالمي. وإذا كانت في مرحلة الاستعمار قادرة على تكييف البنى في المستعمرات بالعنف فقد اضطرت للرحيل عنها، ويبدو الوضع أكثر تعقيداً في إطار عالمي تأسس انطلاقاً من "استقلال" الأمم، وإذا كانت الأمم الإمبريالية قادرة على استخدام العنف، فإن نظرة شك، أو فلنقل نظرة حذر تحكم نشاطها الاقتصادي في الأمم المتخلفة، حيث تنطلق من أن أي اختلال في استقرار الوضع الدولي وفي الأمم المتخلفة، أو في بعضها، يشكل خطراً على مصالحها بالذات، ليس من زاوية فقدانها لصناعتها في تلك المناطق فقط (وهي لذلك توظف في قطاعات المواد الأولية والبنوك والخدمات، لأنه لا يحتاج إلى رأسمال ثابت. وبالتالي يكون أكثر ضماناً) بل أيضاً من خطر تطورها صناعياً اعتماداً على الخبرات المتكونة، ومن ثم تحولها إلى قوة منافسة. وهي بذلك لا تفقد السوق المحلي فقط بل وربما تنافسها في الأسواق الأخرى.
إن التدقيق في توظيفات الرأسمال المالي الأمريكي في الصناعة توضح أن المنطقة الوحيدة التي تحقق فيها ذلك خارج إطار الأمم الإمبريالية هي أمريكا اللاتينية، وهي المجال الحيوي للولايات المتحدة منذ عقود وحيث استطاعت التحكم بمسارها بطريقة أعلى من أي منطقة أخرى في العالم. ورغم ذلك وجدنا أن نسبة التوظيفات في مجال الصناعة محدودة جداً قياساً بتوظيفاتها في الخارج.
 
إذن إن مسألة تركز قوى الإنتاج في الأمم الإمبريالية ظاهرة مرافقة للإمبريالية وليست ظاهرة طارئة أو ناتجة عن التفاوت التاريخي في تحقيق التقدم. وإذا كان رخص الأيدي العاملة ميزة يمكن الإفادة منها فقد عملت الرأسمالية على تحقيق ذلك عن طريق استقطاب أعداد كبيرة من عمالة الأمم المتخلفة لتشغيلها في الأمم الإمبريالية نفسها (مثلاً العمالة من دول المغرب العربي في فرنسا. ومن تركيا في ألمانيا ومن مختلف دول العالم في أمريكا) رغم أن هذه العملية، مع تصاعد أزمة الاقتصاد الإمبريالي وبالتالي تزايد عدد العاطلين عن العمل، أدت إلى نزوع لطرد هؤلاء وإلى ميل عنصري لدى قطاعات من العاطلين عن العمل في هذه البلدان.
إن الرأسمال المالي مكتفٍ بالتوظيف في القطاع الصناعي في الأمم الإمبريالية، وهو ينتج ليس فقط ما يكفي الأسواق العالمية بل ينتج أكثر من ذلك. لهذا فالإمبريالية تعيش أزمة كبيرة، المسماة أزمة الكساد العالمي حيث تتعرض قطاعات كاملة في العديد من الصناعات للإفلاس وهو ما أشرنا إليه سابقاً. ومن هذا المنطلق تشتد المنافسة بين المراكز الثلاث الأساسية (أمريكا. اليابان. أوروبا) وتفرض الأزمة الراهنة حلها عن طريق هزيمة قطاعات وانتصار أخرى في إطار هذه المنافسة، كما قادت إلى عمليات اندماج ضخمة طيلة السنوات العشر الماضية، ولا زلنا نلحظ استمرارها.
إن ضمان إعادة إنتاج البنية في الأمم الإمبريالية (أي ضمان تماسكها وتطورها) يقتضي إعادة إنتاج النظام الإمبريالي العالمي في الصيغة المتكون بها، أي من خلال اللا تكافؤ في قوى الإنتاج، اللا تكافؤ في التطور. واللا تكافؤ في الظروف المعيشية. وتكون أية مراهنة على أن يسمح الرأسمال المالي المهيمن بتغيير هذه المعادلة طيشاً، ووهماً. وهي في صفوف الماركسيين عودة لما أسماه لينين "الإمبريالية الاشتراكية" وهو توصيف لتكيف قطاعات من البرجوازية الصغيرة معتنقة الماركسية. مع بنية الإمبريالية واستسلامها للوضع القائم.
فلا بدّ من أن نلاحظ أن تشكل النظام الإمبريالي العالمي قد أفضى إلى تعميم العلاقات الرأسمالية. فترسملت كل بقاع المعمورة الملحقة بهذا النظام، لتكون الدعوة للرأسمالية سطحية ومضللة، فأية رأسمالية هذه التي يدعي إليها ما دام العالم قد ترسمل؟ ربما انطلقت هذه الدعوة من تقليد "المثال" أي تقليد الأمم المتقدمة. لكنها تقوم على أساس القبول ببنية النظام الإمبريالي العالمي أملاً في أن تسمح رأسمالية تلك الأمم بأن تتقدم الأمم المتخلفة صناعيا.ً فلا شك في أن الرأسمالية هي بالأساس الرأسمالية الصناعية، حيث لابدّ من أن نشير إلى قوى الإنتاج قبل أن نتحدث عن علاقات الإنتاج، وكما أوضحنا سابقاً فإن إضافة الرأسمالية هي بالتحديد الصناعة. الصناعة هي التي أنتجت الرأسمالية حيث قامت على أساس وجودها علاقات الإنتاج الرأسمالية في مجمل بنية الاقتصاد. وحين تنشأ علاقات الإنتاج الرأسمالية قبل نشوء الصناعية فإن خللاً في التطور يكون قد حصل. ويتفاقم الخلل حينما تصبح علاقات الإنتاج الرأسمالية هذه عائقاً أمام نشوء قوى الإنتاج، أي الصناعة. وهنا يظهر كيف أن قوى الإنتاج، التي هي محددة علاقات الإنتاج، تنحكم – في لحظة ولأسباب محددة – لعلاقات الإنتاج (هذه الحالة يجب أن تدرس بشمولها. ووفق الظروف المحلية والعالمية التي توجدها).
 فالرأسمالية بدون الصناعة ليست رأسمالية مكتملة ولا مستقلة ويجب أن تفهم ضمن الشرط العالمي الذي أنجبها. ولهذا فهي تخضع للرأسمالية الأرقى، أي للرأسمالية الصناعية، نتيجة ما تضيفه من تطور هائل في قوى الإنتاج "يستوعب" البنية المفوتة والمتخلفة. والصناعة هي الفارق بين رأسمالية الأمم المتقدمة ورأسمالية الأمم المتخلفة. وهو فارق هائل أوجد حالة اللا تكافؤ التي تحكم النظام الإمبريالي العالمي حسب ما أوضحنا سابقاً، حيث نجد أن الصناعة في الأمم الإمبريالية هي وسيلة الإنتاج الأساسية، وأن نصيب الإنتاج الصناعي في الدخل القومي الإجمالي مرتفع. بينما نجد أن وسائل الإنتاج في الأمم المتخلفة هي خليط من صناعة استهلاكية نسبتها محدودة في مجمل الدخل القومي وزراعة ضعيفة وضعها أحسن قليلاً من وضع الصناعة الاستهلاكية، لكن نسبتها في مجمل الدخل القومي محدودة أيضاً، بينما يشكل تصديرها المواد الأولية وقطاع التجارة – الخدمات – المال النسبة الكبيرة فيه.
ويتمظهر ذلك في توزيع الرأسمال المستثمر فنجد أنه يتمركز في الأمم المتقدمة، في الصناعة أولاً، بينما يتمركز في الأمم المتخلفة في قطاع التجارة – الخدمات – المال. يفضي هذا التوزع إلى هروب الرأسمال من الأمم المتخلفة بفعل آليات النظام الاقتصادي الذي يتأسس (التبادل غير المتكافئ، استثمارات رأس المال المالي.. وفي المرحلة الأخيرة المديونية) الذي يستتبعه ميل البرجوازية المحلية إلى إيداع أموالها في البنوك في الأمم الإمبريالية، والاستثمار هناك في بعض القطاعات الاقتصادية (العقارات، البنوك، الفنادق..).
ونتيجة هذا الفارق تكون النظام الإمبريالي العالمي في صيغة أمم صناعية متقدمة، هي المركز الذي يستقطب الرأسمال وينهب المواد الأولية الضرورية للصناعة، وأمم متخلفة تتشكل انطلاقاً من كونها سوق للرأسمال والسلع المنتجة في المركز مما يفرض إلحاقها بالمركز وتبعيتها له، وحيث تتشكل البنية في الأمم المتخلفة على أساس سيادة القطاع "الهامشي" في الاقتصاد، أي قطاع التجارة – الخدمات – المال، لتكون مجبرة على تصدير المواد الأولية ("صاغرة" أو بالعنف) واستيراد السلع من المركز، مما يتسبب في "إهمال" القطاع الصناعي وتهميش الزراعة. لتخسر موادها الأولية الضرورية لأية صناعة، وينزح التراكم الرأسمالي إلى المركز، مما يزيد من إفقارها وتتعاظم مديونيتها نتيجة الهوة بين الاستيراد واسع النطاق، والتصدير محدود النطاق وتفاقم الاستهلاك وهامشية الاستثمار وتضخم مصروفات الدولة.
إن مشكلة الأمم المتخلفة ليس في أن تصبح أمماً رأسمالية فقد أصبحت كذلك منذ عقود، بل في أن تصبح أمماً صناعية، وفي الوضع العالمي الراهن تبلورت مشكلات هذه الأمم، حيث نجد أن غياب قوى الإنتاج (أي الصناعة) كان المشكلة الأساس، التي تنجدل حولها جملة مشكلات مهمة تتعلق بكلية البنية، لأن غياب الصناعة أدى إلى تضاؤل التراكم الرأسمالي، وبالتالي إلى بطئ في التطور في كل المجالات الأخرى، في الاقتصاد كما في السياسة كما في الثقافة، مما حوّلها إلى أمم متخلفة ليس بالمعنى الاقتصادي فقط بل بالمعنى الشامل أساساً. لقد تحول التخلف إلى تأخر حيث استمرت كل مشكلات البنية الاقتصادية (الإقطاعية المنحطة، القائمة على أساس الاقتصاد الطبيعي) في مستوياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية حاضرة في مجتمع تحوّل إلى الرأسمالية، في نفس الوقت الذي فرض فيه نمط الرأسمالية التابعة المسيطر، حالة من الإفقار طالت قطاعات واسعة من الجماهير الشعبية بفضل آليات النهب الذي تقوم به الشركات الاحتكارية الإمبريالية والبرجوازية التابعة المحلية. هذه الآليات التي تفضي، بنتيجة هزال الدخل القومي الإجمالي، إلى تأزم الدولة ونزوعها إلى نهب المجتمع أيضاً. لتتأسس مجتمعات بعيدة عن الاستقرار ومأزومة.
وبهذا تتحدد مشكلات الأمم المتخلفة في مستويين. الأول: تخلّف قوى الإنتاج، وبالتالي استمرار كل مخلفات الماضي. والثاني: حالة الانسحاق الطبقي التي تتولد عن عملية النهب، مما يفتح الآفاق لصراعات كبيرة ويدفع الجماهير إلى الصراع ضد البنية القائمة بشكلها المحلي وطابعها العالمي.



 
 
 
-4-
 
إن السعي لتحقيق التكافؤ هو المشكلة العالمية الراهنة، وهو في أساس صراعات الأمم المتخلفة من أجل تقدمها. وإذا كنا قد أوضحنا حدود النظام العالمي وطبيعة البنية المتشكلة فيه، حيث استطاعت رأسمالية الأمم الإمبريالية أن تصيغه وفق ذلك، فلا نستطيع القول أن هذا النظام قد تكون بشكل سلمي، وأن محاولات للتطور البرجوازي لم تتم، بل على العكس فقد تشكل في إطار صراعي في مواجهة حركات التحرر القومي، ومحاولات التقدم الاقتصادي. لقد حاولت برجوازيات الأمم المتخلفة تحقيق ذلك، وكان هذا هو معنى نضالها من أجل الاستقلال لكن الاستقلال أسفر عن تشكل دول رأسمالية تابعة. سوى في الهند. حيث استطاعت برجوازيتها تأسيس دولة رأسمالية مستقلة كما حققت مستوى من التقدم الصناعي. رغم أنها لم تستطع تحقيق التكافؤ، وظلت تعاني من مشكلات عميقة.
وإذا لاحظنا وضع الأمم المتخلفة اليوم نجد أن العديد منها قد "تقدم" بعض الشيء، بفعل المحاولات التي قامت على أساس التناقض، إلى هذا الحد أو ذاك، مع النظام الإمبريالي العالمي، يهدف تحسين وضع هذه الأمم ضمن هذا النظام. ولعل تجربة دول عدم الانحياز هي الصيغة الواضحة في هذا المجال حيث نشأت تجارب العديد من دولها في سياق السعي لتحقيق التكافؤ من خلال تطوير القوى المنتجة محلياً. ولقد تحقق ذلك بفعل الدور الذي لعبته الفئات الوسطى (وخصوصاً البرجوازية الصغيرة ذات الأصول الريفية) في المرحلة التالية للحرب العالمية الثانية، حيث أدى تكيف البرجوازية المحلية مع النظام الإمبريالي العالمي من جهة، والطابع العام لهذا النظام عبر تأطير الأمم المتخلفة ضمن صيغة محددة تسحق بنيتها وهويتها وأساس وجودها من جهة أخرى، أدى كل ذلك إلى تبلور وعي شعبي عام مناهض لهذا النظام ولتمظهراته المختلفة، وأسس لنشوء اتجاه يسعى إلى تحقيق التقدم رغماً عنه. ولقد كان التحديث بشكل عام. والتصنيع بشكل خاص هدف هذا النزوع الفاعل والشامل المقاد من قبل تلك الفئات.
وإذا كانت هذه المحاولات اتسمت بمسميات اشتراكية فإن طابعها الرأسمالي كان واضحاً انطلاقاً من تعلّق فئاتها القائدة بالملكية الخاصة، وبالتالي استمرار بقاء الملكية الخاصة هي النمط السائد برغم الدور الجديد للدولة كرب عمل. ولقد تأسست أوهام اشتراكية هذه التجارب من جملة مسائل أهمها:
1- نزوعها إلى القطع مع النظام الإمبريالي العالمي. حيث ارتبط هذا النزوع منذ ثورة أكتوبر 1917 في روسيا بالدول الاشتراكية.
2- دور الدولة في التخطيط الاقتصادي الذي ارتبط بدوره بالحركة الاشتراكية.
3- سياسة التصنيع وتحديث بنية المجتمع.
4- الإصلاح الزراعي الذي كان يعني توزيع الأرض على الفلاحين انطلاقاً من نزوح "مساواتي" كان يردّ عادة إلى الاشتراكية.
 
ولا شك في أن كل هذه المسائل لا ترتبط بالاشتراكية وحدها، بل أنها في جوهر عملية التقدم الرأسمالي، ولقد أفضت إلى تعميم التطور الرأسمالي واقعياً. لكن الطابع العام للنظام الإمبريالي العالمي الذي كان يكرس التبعية والإلحاق وينفي إمكانية التطور الصناعي، وكان يكرس العلاقات الإقطاعية في الزراعة، ويدفع الرأسمالي إلى النشاط في قطاع التجارة – الخدمات – المال، كان يجعل كل السياسات الهادفة إلى تحقيق التكافؤ، وكأنها سياسات اشتراكية. هكذا أسمتها الفئات الوسطى التي قادت عملية التقدم، مميزة إياها عن الاشتراكية الماركسية بكونها لا تلغي الملكية الخاصة. بل تعلي من شأنها. وهكذا اعتقد بعض الماركسيين. ولقد أطلقت "الماركسية السوفيتية" عليها تعبير "طريق التطور اللا رأسمالي" إيغالاً في الوهم، الذي كان يظهر مدى الانحطاط الذي وصلت إليه الماركسية الرائحة نتيجة عجزها عن فهم بنية النظام الإمبريالي العالمي، وبالتالي عن فهم النزعات التي تتحكم بأوضاع الأمم المتخلفة والأزمة العميقة التي تعيشها.
و نحن نستطيع أن نفهم التجارب التي قادتها الفئات المتوسطة، إلا بكونها محاولات لتحقيق التطور الرأسمالي اتخذت شكلاً قسرياً بسبب من طبيعة النظام الإمبريالي نفسه. لقد اتخذت شكلاً غير تقليدي في التطور الرأسمالي بفعل آليات الضبط والسيطرة التي يفرضها النظام، حيث بدا واضحاً أن أية محاولة للتقدم تفرض "القطع" مع بنية هذا النظام، أو بشكل أوضح تفترض تجديد الصيغ التي كانت الرأسمالية القومية تمارسها لحماية مصالحها ضمن الحدود القومية (المسماة في تاريخ الرأسمالية بالسياسة الحمائية أو الحماية الجمركية) عن طريق تحكم الدولة بالتجارة وبمجمل العلاقات الاقتصادية مع الخارج، هادفة إلى الحد من تأثير "عصر الاحتكار"، من أجل تحقيق التقدم الصناعي بالأساس. وكان يعبر ذلك عن أن التقدم الرأسمالي في المرحلة الاحتكارية اختلف عما كانته في المرحلة التنافسية، وأن صيغة جديدة للتقدم قد فرضت نفسها، واتخذت الشكل الذي رأيناه في البلدان التي سيطرت فيها الفئات الوسطى.
إذن لقد أصبح للدولة دور جديد. حيث لم تعد أداة سيطرة طبقية فقط، بل غدت أداة تطوير شامل أيضاً (نشير هنا إلى أن دور الدولة كأداة سيطرة طبقية لم ينته، بل على العكس ظل قائماً، وإن كان قد اتخذ صيغاً مموهة أحياناً، نتيجة الطابع الشعبي لهذا التنظيم. ولقد ساعد الدور الجديد لها على نشوء هذا التمويه) حيث غدت مفصل التطور، وأداة التمركز الرأسمالي في نفس الوقت. ويمكن رصد خمسة محاور لنشاطها الجديد:
1- السعي لوضع حد لتأثير قانونيات النظام الإمبريالي العالمي على النشاط الاقتصادي المحلي من خلال ضبط حركة التجارة وتدفق رؤوس الأموال من والى الخارج.
2- إعادة تشكيل البنية الاقتصادية من خلال الاستحواذ على فائض رأسمالي كبير ومن ثم إعادة توزيعه بما يحقق بناء قوى منتجة في الصناعة والزراعة.
3- إعادة تدوير الثروة في المجتمع بما يحقق قدراً من التكافؤ بين الريف والمدينة، وبالتالي تجاوز الظلم الذي تعرض له الريف طيلة عقود عن طريق تحديث الريف كما عن طريق توظيف الفلاحين في أطر الدولة.
4- تصفية العلاقات الإقطاعية في الريف وإعادة توزيع الأرض على الفلاحين.
5- التحديث الثقافي العام بتعميم التعليم والتطور العلمي.
ولقد أفضت هذه السياسات إلى تعميم الرأسمالية في بنية المجتمع وأوجدت الأساس لتحقيق التطوير الصناعي عبر توفير الفائض اللازم لذلك (الرأسمال) من جهة، والأيدي العاملة (بفعل تحرير الفلاحين) من جهة ثانية وإذا كانت الدولة قد امتلكت البنية الاقتصادية الأساسية وقطاع التجارة الخارجية. وبعض فروع التجارة الداخلية – وتدخّلت في الزراعة – إضافة إلى دورها في تطوير البنية الأساسية(الكهرباء – الطرق – المواصلات – الاتصالات البريد) فقد ظلت الملكية الخاصة هي أساس النمط السائد. والمتمثلة في سيادة الملكية الخاصة في الزراعة وفي الحرف والتجارة الصغيرة والمقاولات والبناء والعقارات، وهي قطاعات واسعة وتشكّل المصدر الرئيسي للدخل الإجمالي. أنه بحر من الملكيات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة تغوص فيه ملكية الدولة، رغم أنها تمثل احتكاراً كبيراً ضمن ذلك، ولذلك كان صحيحاً أن يطلق عليها "رأسمالية الدولة" حيث يتحقق احتكار الدولة للعديد من القطاعات الاقتصادية في ظل سيادة الملكية الخاصة.
لكنها صيغة التقدم في ظل النظام الإمبريالي الراهن. من منطلق السعي لتحقيق التكافؤ في القوى المنتجة. إنها إذن الرأسمالية في صيغتها المضادة لبنية النظام الإمبريالي العالمي، وهي – بالتالي – صيغة الرأسمالية المستقلة. حيث أن تدخل الدولة في الاقتصاد كان يهدف إلى الحد من مفاعيل قوانين الاقتصاد الإمبريالي عن طريق الحد من تأثيرها على السوق المحلي، وتقييد حرية السوق بما يحقق وضعاً يجري فيه التحكم بالمنافسة، في نفس الوقت الذي يدفع فيه إلى توظيف جزء من التراكم المتحقق بيد الدولة في تأسيس قوى الإنتاج، وخصوصاً في الصناعة. لهذا نلحظ أن التجارب التي قامت على هذا الأساس، حققت مستوى "متقدماً" من التطور في الصناعة أولاً. وفي مجمل القطاعات الأخرى، بما فيها الثقافة والتطوير العلمي ثانياً.
لكن قبل المضي في البحث في هذه المسألة لا بد من أن نشير إلى أن دور الدولة في تحقيق التطور الرأسمالي لم يكن من "اختراع" الفئات الوسطى، فقد استفادت من الصيغة التي سادت في البلدان الاشتراكية في هذا المجال (التخطيط – الدولة كرب عمل – القطاع العام) وربما كانت استفادت من نظرية كينز الداعية لتدخل الدولة في الاقتصاد من أجل حل مشكلات الإمبريالية بعد الأزمة التي عاشتها سنة 1929. لكن نود التوضيح أن تدخل الدولة في العملية الاقتصادية أقدم من ذلك، حيث تحقق التطور الرأسمالي في عدد من الأمم التي غدت أمماً إمبريالية (ألمانيا واليابان) عن طريق الدولة، حيث حققت البرجوازية تراكمها الأولى من خلال نهب الدولة ثم أعادت توظيفه في تحقيق التطور الصناعي، وبالتالي في مجمل القطاعات الاقتصادية. ولا شك في أن تقدم أمم بريطانية وفرنسا وأمريكا قبل غيرها فرض هذه الصيغة من التطور في كل من ألمانيا واليابان من أجل اللحاق عن طريق تسريع عملية الرسملة. ونؤكد أن هذا الطريق أصبح هو طريق التطور الرأسمالي مذّاك، وإن كان لم ينجح سوى في هاتين الأمتين . ولقد حاول محمد علي باشا ذلك لكن الأمم الأوروبية هزمته، ومنعت بالعنف تحقق المشروع، وكان يشير ذلك إلى أن الرأسمالية في مرحلتها التنافسية. كانت تحارب انتصار الرأسمالية في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية لها.
لكن من الضروري أن نوضح أن دور الدولة الاقتصادي كان هذه المرة أكثر تعقيداً مما كان عليه في القرن التاسع عشر. وإذا كان الفشل هو مصير التجارب الراهنة فلن نعزو هذا الفشل إلى هذا التعقيد بالذات. لكننا لا نشك في أن له دور في ذلك، بسبب اختلاف تأثير الوضع الدولي نتيجة انتقال الإمبريالية من مرحلة التنافس إلى مرحلة الاحتكار، حيث لم يعد من الممكن للفئات التي استفادت من نهب الدولة أن توظف رأسمالها في الصناعة، وفي تأسيس القوى المنتجة، بل مالت إلى توظيفه في قطاع التجارة – الخدمات – المال. ولقد فرضت طبيعة النظام الإمبريالي أن يتجه الرأسمال المكدس إلى هذا القطاع . بينما كان الوضع في القرن التاسع عشر يسمح بأن يتجه الرأسمال المكدس عن طريق النهب إلى القطاع الصناعي. لذلك كان رد الفعل الرأسمالي على محاولات التقدم، التي لا تخدم مصلحة النظام الرأسمالي العالمي، هو الردع العسكري المباشر. ونشير إلى أن نفس الطريقة يمكن أن تستخدم في الوقت الراهن، وهي تستخدم على كل حال. لكن يتقوم الاختلاف بين المرحلتين في أن التراكم الأولي المتحقق آنذاك كان يميل نحو التوظيف في القطاع الصناعي لأنه الأكثر ربحية في إطار سوق يقوم على أساس التنافس، وفي ظل تطور صناعي كان لا زال في مرحلة أولى يمكن اللحاق بها، وفي ظرف لا تأخذ مختلف مناطق العالم نفس الأهمية بالنسبة لرأسمالية الأمم المتقدمة. بينما فرض تكوين الإمبريالية الراهن (أي تكوين النمط الرأسمالي العالمي) أن يكون قطاع التجارة – الخدمات – المال هو القطاع الأكثر ربحية في إطار سوق يقوم على أساس الاحتكار. وفي وضع يحتاج اللحاق بالتقدم الهائل في الصناعة إلى عناء كبير، وفي وقت أصبح فيه العالم كله سوقاً للإمبريالية. لتكون الحاجة إلى الردع العسكري مقتصرة على الدول التي تستطيع أن تحقق تقدماً مضطرداً (بفعل ظروف محددة) قد تفضي إلى انتصار الرأسمالية (ونقصد هنا بالرأسمالية المكتملة وليس الرأسمالية التابعة) انتصاراً تاماً.
إذن لماذا لم تستطع هذه التجارب أن تحقق التكافؤ؟ لماذا استطاعت تحقيق بعض التقدم، ثم ما لبثت أن انهارت؟ لماذا لم تستطع الفئات الوسطى التي قادت هذه التجارب، اعتماداً على دعم شعبي كبير وانطلاقاً من برنامج طموح، أن تحقق التكافؤ. أن نؤسس لرأسمالية مكتملة؟
لا نغفل، ونحن نناقش هذه المسألة، تأثير النظام الإمبريالي الذي يعبر عن ذاته عن طريق الضغوط السياسية والحصار الاقتصادي والتدخل الذي يصل أحياناً درجة التدخل العسكري السافر. حيث يفضي كل ذلك إلى نشوء مشكلات تضعف هذه التجارب. لكن لنلاحظ – فيما عدا التجارب التي هزمت عن طريق التدخل العسكري – أن تحولات البنية الداخلية كانت الأساس الذي أفضى إلى انهيارها، وإن كانت ترافقت مع تأثير النظام الإمبريالي ذاته، برغم ذلك تبقى هذه التحولات هي العنصر الأساسي. مما يشير إلى نقص في تماسك الفئات الوسطى هذه، ونقص في تطابق مصالحها الخاصة مع مصلحة التقدم بجملة، الذي يعني في هذه الحالة مصلحة الوطن ومصلحة مجموع الشعب. وبالتالي، ورغم أن برنامج هذه الفئات الطموح كان يتقاطع مع مصلحة الوطن ومصلحة مجموع الشعب، إلا أنه اختلف بعد استلامها السلطة وأصبح يتناقض مع مصلحة الوطن والشعب، كيف يتوضح ذلك؟
لن نناقش هنا البنية الفكرية التي حكمت هذه الفئات، ولا التكوين السياسي الذي أنشأته، ولا طبيعة رؤيتها للظروف الدولية، لأننا نعتقد أنها تنحكم كلها لطبيعتها، لمصالحها، ونزعاتها، وليست تلك القضايا سوى نتاج هذه الطبيعة. لهذا ما يهمنا هنا هو إشكالية هذه الفئات في مستواها الاقتصادي بالتحديد، هذه الإشكالية التي أفضت إلى تدميرها لمشروعها، وتحوّل قطاعات منها إلى المشروع المعاكس، أي تحولها من السعي لانتصار الرأسمالية المكتملة إلى أن تكون رأسمالية تابعة، وتحولها من السعي لتحقيق التكافؤ في إطار النظام الإمبريالي العالمي إلى القبول بالتكوين الواقعي لهذا النظام، وبالتالي تخليها عن مشروع التصنيع والتحديث.
إن الأصول الريفية هي الطابع العام، في الغالب، لهذه الفئات (ولا شك في أن بعضها من فئات فقيرة في الريف)، مما كان يوسم هذه التجارب بطابع ريفي عام. حيث بدا وكأن الريف، وهو يسعى لتجاوز حالة التهميش التي يعيشها، يحمل مشروعاً يهدف إلى تقدم الأمة كلها، خصوصاً وأن الريف كان المصدر الأساسي للدخل القومي، وكان الإقطاع هو السلطة، مما جعل الصراع الطبقي في الريف صراعاً سياسياً يشمل كل المجتمع. لقد نشأت هذه الفئات في مرحلة سيادة النمط الإقطاعي الآيل إلى التفكك بفعل بدء تغلغل العلاقات الرأسمالية، وضغط النظام الإمبريالي العالمي. مما أسس لأن تربط بين الصراع ضد الإقطاع والصراع ضد الاستعمار، كما تربط بين السعي لتحقيق الاستقلال والسعي لتحقيق التقدم ، حيث كانت ترى أن تصفية الإقطاع وتحقيق الاستقلال سوف يحققان مصالحها. هل كانت تعي مصالحها؟ في الغالب لا، لهذا كانت تصوراتها ضبابية، وأفكارها عامة ورومانسية، لكن كانت تُحركها "نزعات" خاصة، وسوف نجد أن طموح الملكية الخاصة كان جامحاً إلى حد كبير، وكان في جذر كل مشروعها، لهذا عنت الاشتراكية التي طرحتها تحقيق المساواة في الملكية، وليس إلغاؤها. وهذا ما عبرت عنه قوانين الإصلاح الزراعي التي أفضت إلى رسملة الريف عن طريق إعادة مركزة الملكية. كما عبّر الاندفاع نحو التعليم عن الطموح للارتقاء الطبقي حينما لم تعد الأرض هي هذه الوسيلة، وأظهر التطور العالمي أشكال أخرى في المستوى الثقافي. لقد كان طموح التملك الخاص طاغ حتى وهو يغلّف بأفكار حول الاشتراكية إلى الحد الذي يجعلنا نقول أن الملكية الخاصة رفعت إلى حد "المقدس" وكانت هاجس هذه الفئات الصريح أو الضمني.
وحتى الفئات الوسطى المدينية، التي أسهمت في تكوين السلطة الجديدة، كانت تمتلك نفس الطموح في الغالب. ونضيف هنا كلمة – في الغالب – لأننا نحاول تلافي التعميم سواء فيما يتعلق بالفئات الريفية أو المدينية، حيث يمكن أن نجد أقساماً من هذه الفئات ليس لديها مطامح التملك الخاص، وكانت لدى البعض منهم "أوهام" اشتراكية ونزوع مساواتي واضح. لكنهم جميعاً لم يكونوا ضد التملك الخاص، بل أقروا بقدسية الملكية الخاصة، ألم يؤكدوا أنها الفارق بين اشتراكيتهم والاشتراكية الماركسية. هنا لا يبدو الاختلاف كبيراً بين من يطمحون إلى التملك الخاص ومن لا يطمحون، لأن ما يطبق عملياً يفضي بوعي الطامحين وبدون وعي غير الطامحين، إلى الرأسمالية. لكن، في الغالب، يقتنص الطامحون بوعي الفرصة المتحققة، لكي يتحولوا إلى رأسماليين بينما يهزم الآخرون.
إن الوصول إلى السلطة، ومن ثم مركزه التراكم الرأسمالي بيد الدولة من خلال تحكمها ببنية الاقتصاد، وكونها غدت الوسيلة التي تعيد إنتاج المجتمع في بنية جديدة وفي إطار سيادة حق التملك الخاص، وفي سيادة السعي لتحقيق التصنيع، هذه السياسات التي كانت تقود إلى سيادة النمط الرأسمالي، كلها أفضت – كما نلاحظ عند دراسة مختلف التجارب – إلى تحقيق حالة من "الفرز الطبقي" داخل الفئات الوسطى المسيطرة. فقد عملت أقسام منها على "نهب" الدولة والاستفادة من سلطاتها (هنا تندرج مسائل التسهيلات المالية، واستملاك الأرض والعقارات والقومسيون إضافة إلى الرشوة) لتحقيق التراكم الخاص، الذي تبدّى بداية على شكل رأسمال مصرفي. وبالتالي أصبح التراكم المتحقق بيد الدولة، بدل أن يعاد توزيعه اجتماعياً، وبدل أن يوظف في الاستثمار، يُقتطع من قبل فئات مسيطرة ليحّقق لها تراكماً أولياً للرأسمال يأخذ شكلاً مصرفياً في الغالب.
وترتبط هذه العملية بتحقيق إعادة التمركز الرأسمالي في الريف وفي نشوء رأسمالية المقاولات، لكن بالتداخل "مع رأسماليي الدولة" وبالتحالف معهم. كما ترتبط بالتحالف – والاندماج أحياناً – مع البرجوازية القديمة ذات الطابع التجاري. لتكون كلها روافد لطبقة رأسمالية جديدة لها مصالحها وتصوراتها المخالفة لتدخل الدولة في الاقتصاد الذي نشأ بالأساس من أجل الحد من النشاط الرأسمالي المنفلت والتابع الذي كان سائداً. لينشأ التناقض داخل بنية الدولة (أو يمكن القول السلطة) بين طابعها العام المتشكل في مرحلة التحرر والمعبر عن حاجة لتحقيق التكافؤ، وبين الفئات التي حققت تراكماً رأسمالياً. وغدت معنية بأن تمتلك الاقتصاد عوضاً عن الدولة أو أن تمتلك كليهما معاً.
هذا التناقض أدى إلى تحوّل في بنية الدولة بتقلّص دورها وعودتها أداة سيطرة طبقية فقط. ولم يتخذ هذا التحول شكلاً واحداً في كل التجارب. لكنه استند إلى أساسيين (لأحدهما أو لكليهما) وهما: الأزمة التي عصفت بالدولة بفعل عملية النهب التي طالت مؤسساتها الاقتصادية. أي عملية النهب التي طالت مؤسسات "القطاع العام" مما حولها إلى عبئ على الدولة، إضافة إلى مجمل السياسة الاقتصادية التي أدت إلى تأزم الدولة (العجز في الميزانية، المديونية، التضخيم..) حيث انقرضت الحاجة إلى تغير في السياسات الاقتصادية. ولقد أضعف هذا المأزق الفئات المعنية باستمرار التجربة، وقوى من مواقع الفئات الأخرى، مما جعلها أكثر مقدرة على حسم التناقض لمصلحتها. هذا هو الأساس الأول، الذي كان يُحلُّ التناقض فيه داخل بنية الدولة وبمعزل عن الصراع في المجتمع. الأساس الثاني: هو أن عملية النهب هذه أدت إلى تحقيق التمايز الطبقي في المجتمع، بعكس المرحلة الأولى من تطور هذه التجارب حيث أدت إلى الحد منه، بفعل توزيع الأرض على الفلاحين وسياسة التوظيف في الدولة وضبط حركة الأسعار، الأمر الذي كان يفضي إلى تحسين وضع الجماهير الشعبية عموماً. لقد أدت عملية النهب التي فرضت تأزم الدولة إلى تقليص التوظيف في الاستثمار وفي دعم الوضع المعيشي (الذي كان يتمظهر في الرواتب، وفي التراجع عن دعم السلع الأساسية) مما أدى إلى انحطاط أوضاع فئات واسعة وتدهور وضعها المعيشي، الأمر الذي كان يفضي إلى حدوث انفجارات شعبية. تتيح حسم التناقض داخل بنية الدولة لمصلحة الرأسمالية الجديدة، أو يفضي إلى إسقاط السلطة وسيطرة الرأسمالية القديمة.
وسنلحظ هنا بأن التجربة تنتكس قبل أن تحقق أهدافها، لتفشل في تحقيق التكافؤ في قوى الإنتاج وإن حققت بعض التقدم في الصناعة يتجاوز الحدود التي يفرضها النظام الإمبريالي العالمي.
إذن يمكن القول أن الرأسمالية (الفئات الوسطى) في تناقضها مع النظام الإمبريالي العالمي (الذي هو سبب إعادة إنتاج التخلف) تسعى، وهي تعمل لتحقيق مصالحها، وبتوسط دور الدولة إلى تجاوز التخلف في قوى الإنتاج، لكنها على ضوء سيطرتها على الدولة وتحولها إلى سلطة، وبتوسط الملكية الخاصة تعيد إنتاج التمايز الطبقي لتتحول أقسام منها إلى رأسمالية معنية بالاندماج بهذا النظام، لأنها بعد ما راكمت الرأسمال تعمد إلى توظيفه في القطاع الأكثر ربحية، وهو في الوضع الراهن وكما أشرنا سابقاً، قطاع التجارة – الخدمات – المال طبعاً نشير إلى أن هذه الحالة، هي عكس حالة الرأسمالية الأوروبية التي حققت التراكم الأولي – وبعضها حققته عن طريق الدولة – لكنها وظفته في الصناعة القطاع الأكثر ربحية آنذاك) أنها تغدو معنية بالاندماج بالنظام الإمبريالي العالمي. فيسقط طموحها لتحقيق التكافؤ في قوى الإنتاج.
وهذا يوضح أنه في ظل النظام الإمبريالي العالمي، الذي يصيغ الأمم المتخلفة وفق الصيغة التي أشرنا إليها سابقاً، يفشل حتى الحل القسري في تحقيق التطور الرأسمالي. ونقول قسري لأنه يسعى لتحقيق التكافؤ في قوى الإنتاج رغماً عن السياسات الإمبريالية وعلى الضد منها. ونوضّح أن مصالح الفئات التي حملت المشروع الرأسمالي وطبيعتها لا يؤهلانها تحقيق هذا التكافؤ، حيث سرعان ما تطفو المصلحة الخاصة لأقسام منها على مجمل المشروع الهادف إلى التقدم، لينتهي التماثل بين مصالحها وبين هذا المشروع، مما يدفعها إلى التخلي عنه والاندماج بالنظام الإمبريالي معيدة إنتاج التبعية، بعد سلسلة من الفرز الداخلي الضروري.
لقد حاولنا توضيح هذه المسألة بالذات. أي أننا حاولنا توضيح أن التطور الرأسمالي بات مستحيلاً في "عصر الاحتكار" دون أن نتجاهل إمكانية حدوث استثناء ما، سواء في إطار النظام الإمبريالي أو بالتمرد عليه. هذه نتيجة هامة وأساسية من الضروري أن نعي أبعادها لأنها تلغي صيغة في تقدم الأمم المتخلفة وبالتالي تسقط أطنان من الأوهام التي علقت بتيارات ماركسية عديدة.
وانطلاقاً من ذلك، يمكن لنا أن نطرح المشروع الماركسي كبديل، رغم أنه لا يقوم على أساس انتفاء البدائل الأخرى، بل يمكنه أن يتصارع معها، خصوصاً أنه يعبّر عن مشروع الطبقة المضطهدة في سعيها لإزالة الاضطهاد عن ذاتها وعن الشعب عموماً، وبالتالي في سعيها لتحقيق تقدم المجتمع وهي تسعى لتحقيق تقدمها. لكن طبيعة النظام الإمبريالي العالمي حسمت إمكانية انتصار رأسمالية مكتملة في الأمم المتخلفة. بهذا نشير إلى أنه إذا كان السعي لتحقيق التكافؤ في قوى الإنتاج هو المشكلة العالمية الراهنة، فإن المشروع الماركسي يطرح ضمن ذلك والاشتراكية تطرح ضمن ذلك. أي كعامل تطوير للقوى المنتجة قبل أن تكون صيغة تحقق المثل الاشتراكية. إذن علينا أن نعي هذه المسافة بين تطوير القوى المنتجة وبالتالي تطوير المجتمع وبين المثل الاشتراكية. وهي مسافة تترجم في زمن قد يمتد إلى عقود. ولذلك فإن السعي لتحقيق المثل الاشتراكية قبل تطوير المجتمع عموماً والصناعة خصوصاً سيكون ضرباً من الوهم.
إن مهمة الماركسية في الأمم المتخلفة، تتمثل في "ردم الهوة" من خلال تطوير القوى المنتجة وإنتاج المجتمع في صيغة حديثة قبل أن تشرع في بناء الاشتراكية.
 
 
 
 
 
 



 
 
 
- 5-
 
قلنا بداية أن التشكيك أصاب هذه النتيجة بالذات، ليس بفعل الانهيار الذي حدث بداية التسعينات فقط بل وبالأساس بفعل "هزال" الوعي الماركسي، الذي كان أفضى منذ زمن بعيد إلى الزيغان عن هذه النتيجة، واعتناق الصيغة المعاكسة، أي اعتناق صيغة التطور الرأسمالي. لهذا استند نضال قطاعات من الماركسيين إلى مشروع وهمي، لا يحمل الواقع ممكنات تحقيقه. وإن ما نلاحظه اليوم من نزوع رأسمالي لدى هذه القطاعات ما هو إلا "الإفصاح" عن هذه الصيغة، إعلانها بوضوح، وبالتالي التأكيد على "تأجيل" الاشتراكية. ولقد حاولنا التحقق من ممكنات التطور الرأسمالي لتصل إلى تأكيد استحالته، مؤكدين على "وحدانية" الخيار الماركسي، الخيار الاشتراكي. ليس انطلاقاً من "نزوع نظري" ولا اعتماداً على "ميل عاطفي" أو استناداً إلى شعارات عامة" بل بالاستناد إلى التحليل الواقعي، تحليل الإمبريالية، وتحليل طبيعة التكوين الذي صاغت الأمم المتخلفة فيه. مما أوصلنا إلى تحديد الخيار الممنوع، أي خيار تقدم هذه الأمم، الذي يعني بالأساس تحقيق التكافؤ في القوى المنتجة. وهو خيار ممنوع في إطار التطور الرأسمالي حتى في صيغته القسرية، فهو غير ممكن أيضاً كما أوضحنا. لهذا أشرنا إلى أن الخيار الاشتراكي هو البديل الممكن، لكن حينما يطرح أولاً ضمن حدود السعي لتحقيق التكافؤ في القوى المنتجة. وبالتالي لتحقيق مهمات تطرحها ظروف محددة في المستويات الاقتصادية والسياسية والفكرية. أي دون أن يهدف راهناً إلى تحقيق "المُثُل الاشتراكية". دون أن نفهم منه أنه سوف يحقق، راهناً، هذه "المثل".
لكن انهيار الاتحاد السوفيتي تحديداً "وبالأساس"، وإنهيارعدد من البلدان الاشتراكية، أفضى كما قلنا إلى الشك في ذلك، حيث بدا وكأنه خيار مسدود الآفاق. فهل هو مسدود الآفاق حقاً؟ ألا يحمل الواقع ممكنات تحققه؟ هذه المسألة تعيدنا إلى البحث في أزمة النظم الاشتراكية، لتحديد أسباب انهيارها، وهل انهارت لأن الاشتراكية غير ممكنة التحقيق؟ أم لأن الظروف الواقعية لم تنضح بعد لتحقيقها؟ أم لأسباب تخص التجربة ذاتها؟
لكن قبل البحث في كل ذلك لنحاول المقارنة بين التجربة الاشتراكية، وتجربة "رأسمالية الدولة" من زاوية السعي لتحقيق التكافؤ في قوى الإنتاج في الإطار العالمي، محيدين مسألة هل أن الاشتراكية قد تحققت أم لم تتحقق، أي أننا نتناول التجربة الاشتراكية من زاوية مقدرتها على "ردم الهوة" وإزالة اللا تكافؤ. ولا شك في أن هذه المقارنة سوف تجعلنا نلمس أزمة الاشتراكية من زاوية جديدة، ومن منطلق هو غير المنطلق الذي يجري تناولها فيه. وتعني أننا نبحث في أزمة الاشتراكية، ليس بالقياس إلى "المُثُل" بل بالقياس إلى واقعيتها، أي لموقعها في صيرورة التقدم، بممكنات تحققها واقعياً، وفي إطار وعي لمشكلات هذا التحقيق. وهذا يجنبنا الرؤية "النظرية" ويبعدنا عن الفهم المثالي لأسباب انهيارها. ويقودنا إلى التحديد الصحيح لإمكانات الاشتراكية.
إن التشابه بين هذه وتلك في طبيعة النظام السياسي (في شكل النظام السياسي)، وفي دور الدولة الاقتصادي عن طريق التخطيط. واحتكار التجارة، وبناء "القطاع العام" كان يفضي إلى اختلاطات، حين النظر من هذه الزوايا فقط. وهي زوايا جزئية، تلمس الشكل أكثر مما تلمس الجوهر. ولعل النظر من هذه الزوايا فقط هو الذي جعل، ليس القوى المعادية لهذه وتلك، بل "والماركسية السوفيتية" أيضاً، التي أطلقت عليها تعبير "التطور اللا رأسمالي" حيث تندفع قطاعات من البرجوازية في خضم صراعها مع الإمبريالية، إلى تحقيق الاشتراكية وهي الصيغة التي أصبحت نظرية قطاعات من الماركسيين أيضاً. أن النظر من هذه الزاوية هو الذي أفضى إلى التأكيد على التشابه، وتجاهل عمق الاختلافات، بل وكون كل منهما يعبر عن سياق مختلف عن الآخر.
ومن هذا المنطلق يحق لنا المقارنة. لكن نود أن نوضّح أن دور الدولة الاقتصادي حسب ما توضّح في هذه التجارب كان خطوة هائلة إلى الأمام، وكانت سياسة تقليص أثر قانونيات النظام الإمبريالي العالمي على البنية المحلية ميزة كبيرة، لأن مفاعيل التطور الداخلي لا تسير وفق آلياتها الموضوعية إلا عن طريق لجم الأثر الخارجي. وهذه وتلك مورستا من قبل تجارب "رأسمالية الدولة" والتجارب الاشتراكية، ولقد أشرنا سابقاً إلى أن تجارب "رأسمالية الدولة" استفادت من التجربة الاشتراكية، وبالتالي كان من المحتم أن يحدث هذا التشابه. لكن هذا التشابه لم يلغ التفارق بينها، ولقد أشرنا إلى هذا الموضوع سابقاً أيضاً. وكانت مسألة الملكية الخاصة في جوهر التفارق وأفضت إلى اختلافات أخرى حاسمة. هل هذه المسألة عديمة الأهمية؟ وذات أهمية ثانوية؟ هذا ما سوف يتوضّح لاحقاً. لكن يتبدى الاختلاف واضحاً في النتيجة التي وصلت إليها كل منها، حيث لا يمكن لنا الشك في أن الصيغة الاشتراكية حققت أو وضعت الأساس لتحقيق التكافؤ في القوى المنتجة، وهو ما لم تحققه تجارب "رأسمالية الدولة" كما أوضحنا سابقاً. وهذا تفارق كبير. يفضي إلى نتائج مختلفة.
هذا واضح في تجربة روسيا التي كانت سنة 1917 في "ذيل السلطة الإمبريالية" حسب ما وصفها لينين، لتصبح في أواسط القرن مكافئة للأمم الرأسمالية من حيث التطور الصناعي، ولتصبح بعد ذلك مكافئة للولايات المتحدة، قائدة النظام الإمبريالي العالمي على الأقل في مستوى التطور الصناعي العسكري (ومعروف أن تحقق التطور في مستوى يمكن أن يقود – وكان يقود دائماً – إلى تحقيق التطور في المستويات الأخرى داخل بنية الصناعة). والصين التي كانت بلداً زراعياً متخلفاً "شبه إقطاعي شبه مستعمر" إلى نهاية الأربعينات. حسب ما وصفها ماوتسي تونغ. أصبحت الآن قوة اقتصادية هامة. ليبدو اليوم أن كل من روسيا والصين من القوى الخمس المحدِّدة للاقتصاد العالمي .(إضافة إلى الولايات المتحدة، اليابان وأوروبا) وهذه نقلة هامة وكبيرة، أوضحت الطاقة التي تضيفها الاشتراكية من أجل تحقيق التقدم. ولا شك في أن أمم أوروبا الشرقية التي حكمتها اشتراكية، حققت من التقدم ما جعلها تصنف ضمن الأمم الصناعية (بولندا – هنغاريا – بلغاريا – رومانيا – يوغسلافيا، إضافة إلى شرق ألمانيا، وتشيكوسلوفاكيا البلدين اللذين كانا صناعيين قبل سيطرة النظم الاشتراكية فيهما)، رغم أنها كانت بالكاد تخطو عتبة التطور الرأسمالي أو كانت لا زالت أمماً زراعية متخلفة.
وبالتالي يمكن القول أن الصيغة الاشتراكية كانت قادرة على تحقيق تطوير في القوى المنتجة أعلى بكثير مما حققته صيغة "رأسمالية الدولة". حتى الهند – التي قلنا أنها تطورت وفق صيغة رأسمالية – التي حققت تطوراً أعلى من تجارب "رأسمالية الدولة"، فإن تجربتها لا توازى، ولا تقارن بتجارب روسيا والصين، وحتى بدول أوروبا الشرقية رغم حجمها الكبير، وسوقها الواسعة، وهي أكبر من سوق الاتحاد السوفيتي ومن دول أوروبا الشرقية. فإذا كانت الصيغة الاشتراكية قد حققت التكافؤ في قوى الإنتاج فقط، فلا شك في أنها أنجزت خطوات هائلة إلى الأمام. لقد أنجزت ما عجزت عنه الرأسمالية في الأمم المتخلفة. وهذه نتيجة تدعم ما أكدنا عليه سابقاً، حول أحقية الخيار الماركسي وجدارته.
ولا شك في أن الربط بين "المُثُل الاشتراكية والتقدم المتحقق واقعياً أو أن القياس إلى المُثُل الاشتراكية وتجاهل التقدم المتحقق واقعياً، قد أفضيا إلى الميل للاعتقاد بإمكانية ارتداد هذه الأمم، أو أسساً لفكرة ارتدادها فهل هذا ممكن؟ رغم أن التصور حول الارتداد مبهم كما هو مبهم تصور الاشتراكية لدى من يتحدث عن الارتداد. إلا أننا سوف نفصل بين الارتداد عن نمط الإنتاج، والارتداد عن التقدم المتحقق في القوى المنتجة. فلا شك في أن الارتداد الأول قد تحقق لكن ما هو انعكاس ذلك على قوى الإنتاج. هل من الممكن أن تصفى، أن تدمر، وبالتالي أن تعود الأمم  التي تقدمت وفق هذه الصيغة إلى أمم بلا قوى إنتاج؟ طبعاً إن طرحنا لهذا السؤال يشير ضمناً إلى أننا نعتبر أن التقدم المتحقق في قوى الإنتاج يشكل خطوة هائلة إلى الأمام بغض النظر عن استمرار النظام الاشتراكي أو انهياره وانتصار الرأسمالية في هذه الأمم، لأنها حينها سوف تكون رأسمالية مكتملة، فهل من الممكن أن تدمر قوى الإنتاج لتتشكل فيها رأسمالية تابعة؟ ليست المسألة بسيطة إلى هذا الحد لأن ما تحقق أصبح جزءاً من تكوين المجتمع، غدا جزءاً من الواقع ليس من السهل تدميره، لأن هذا يفترض تدمير المجتمع برمته. نفس هذه المسألة عاشتها تجارب "رأسمالية الدولة" المنهارة. والتي كانت قد حققت مستوى منخفضاً من التقدم، إلا ن الارتداد عن مشروع التقدم لم يفض إلى تدمير البنية المتحققة في مجال الإنتاج وبالخصوص في المجال الصناعي. لهذا نلاحظ أن محاولات تصفية مؤسسات القطاع العام في مصر بدأت منذ بدأ الانفتاح الاقتصادي وسيطرة الرأسمالية التابعة، لكنها لا زالت دون حل رغم أن كل المحاولات المطروحة لا تقوم على أساس تدميرها بل تهدف إلى تخليص الدولة منها عن طريق بيعها مما يبقيها قائمة. مع تحويل ملكيتها من الدولة إلى الرأسمالية وهنا يتوضح أن التقدم المتحقق سوف يبقى قائماً.
إذن فما دامت تأسست بنية اقتصادية جديدة تقوم على أساس صناعي، لا يكون من الممكن تدميرها لأنها تتداخل مع بنية المجتمع من خلال دورها في العملية الاقتصادية ووضع العاملين وغياب البدائل. في هذه الحالة يمكن أن نقول أن التاريخ لا يعود إلى الوراء، لأن العودة تعني الفناء، نتيجة التدمير الذي يطال الناتج الإجمالي. وافتقاد أية قوى منتجة، وتشريد قطاعات كبيرة من العاملين، وبالتالي تدمير المجتمع بمجمله، لتقف قوى المجتمع عاجزة عن ذلك، أنها تدافع عن ذاتها. حتى الدولة تقاوم هذا الميل، لأنه يقود إلى تدميرها. لهذا نلاحظ أن الدعوة للانتقال من ملكية الدولة للقطاع العام إلى الخصخصة (هذه الكلمة اختراع جديد أطلقت على عملية بيع القطاع العام) ترتبط ليس بتدمير المؤسسات والشركات المملوكة من قبل الدولة بل ببيعها للرأسمال الخاص. لتبقى جزءاً من بنية الاقتصاد بغض النظر عن شكل ملكيتها رغم الصعوبة التي تواجهها عملية تحويل الملكية هذه (الخصخصة) نتيجة تكوين الإمبريالية ذاته. حيث يبدو الرأسمال المالي غير معني بهذه "المغامرة"، بل أنه يدفع باتجاه تدمير ما هو متحقق فعلياً، لأنه يحتاج إلى الأسواق والمواد الأولية، كما أوضحنا سابقاً، مما يجعله يستنكف عن شراء هذه المؤسسات والشركات. كما أن الرأسمال المحلي ينزع إلى النشاط في قطاع التجارة – الخدمات – المال، ولا يميل إلى النشاط في القطاع الصناعي. وكانت هذه العوامل في أساس مشكلة الخصخصة في مصر مثلاً. وهي مشكلة أضخم في البلدان الاشتراكية السابقة، نتيجة ضخامة قطاع الدولة، وغياب الرأسمال الخاص المحلي. مما يقود إلى الحفاظ على ملكية الدولة لها (نشير إلى أن القطاعات المباعة من "القطاع العام" هي قطاعات تجارية أو خدمية فقط) وهذا عنصر إيجابي في كل الأحوال.
نعود لنقول أنه بغض النظر عن شكل ملكية قوى الإنتاج هذه فإنها تبقى جزءاً من أية صيغة اقتصادية جديدة، مما يحسن من وضع البلدان التي حققت التقدم حين اندماجها من جديد في إطار النظام العالمي. أن الارتداد في طبيعة العلاقات ممكن، ولكن الارتداد عن البنية المتكونة في قوى الإنتاج فمستحيل. ونحن نتحدث في إطار الحالة التي نحن بصددها لأن التاريخ شهد حالات من انهيار المجتمع وهي حالة – كما يبدو – خاصة بتأزم نمط إنتاج محدد، ووصوله إلى نهاياته حيث يكون التدمير هو الشكل المرجح([6]) طبعاً نستبعد هنا صيغة التدمير الناتج عن فعل خارجي عن طريق العنف، وهو ما فعلته الولايات المتحدة في كل من العراق ويوغسلافيا.
وبالتالي، فمن زاوية تطور قوى الإنتاج، أفضت الاشتراكية إلى تبلور وضع جديد بنشوء أمم صناعية قادرة على إقامة علاقات متكافئة (ويمكن لنا أن نضيف كلمة نسبياً لأننا نعرف أن تمايزات في التطور لا تزال قائمة وهي قائمة حتى بين الأمم الإمبريالية وكذلك في القطاعات الاقتصادية المختلفة) حين تعود للاندماج في إطار النظام العالمي. وهذه النتيجة تعزز فكرة "القطع" مع النظام الإمبريالي العالمي، وإن كان قطعاً مؤقتاً، ليبدو وكأنه ضرورة. فربما ترتسم طريق التطور في صيغة قطع – اندماج – قطع، في سياق التطور الموضوعي، ولا شك في أن هذه الصيغة متوافقة مع المنهجية الماركسية، أي الجدل المادي، الذي يفترض أن الحركة لا تتحقق بشكل خطي صاعد بل تتحقق في شكل لولبي، نتيجة الانتقال من الفرضية إلى نقيضها وصولاً إلى الفرضية الأعلى.
إذن القطع (أو فك الارتباط حسب د. سمير أمين، أو التمحور على الذات حسب د. محمد دويدار) ضروري. ولقد تفوقت صيغة "القطع" الاشتراكية، على صيغة "رأسمالية الدولة" القائمة بدورها على "القطع"، ولقد أسست لنشوء أمم صناعية. لنستنتج أن الرأسمالية كانت قادرة على بناء أمم صناعية في القرون السابقة للقرن العشرين بينما لم تعد قادرة على ذلك بعد ذلك، ولقد غدت الاشتراكية هي القادرة على ذلك منذ بداية القرن العشرين. لذا لم يعد من الممكن أن تتشكل أمم صناعية دون الطريق الاشتراكي. لقد غدت الاشتراكية هي الصيغة القادرة على "ردم الهوة" وتحقيق التكافؤ في القوى المنتجة. وهذه – كما أسلفنا – نقلة هائلة إلى الأمام، لأنها ترسي أسس تشكل أمة حديثة في مستوياتها الاقتصادية الاجتماعية والثقافية الإيديولوجية والسياسية، وبالتالي حتى لو عادت الأمم التي انتصر فيها هذا الخيار إلى الرأسمالية فلسوف تفرض تشكل نظام عالمي من نمط جديد يحد من ثنائية التقدم/التخلف، المركز الأطراف، ويؤسس لنشوء مشكلات أعمق في الأمم الإمبريالية، وفي النظام العالمي بمجمله.
ومن أجل توضيح الأسباب التي تجعل الخيار الاشتراكي قادراً على تحقيق ذلك نسأل: لماذا نشأ هذا الفارق بين التجارب الاشتراكية وتجارب "رأسمالية الدولة" ما دامت كلها قد تماثلت في "القطع" مع النظام الإمبريالي، وقامت على أساس دور الدولة في الاقتصاد؟
لا شك في أن الفارق يتخذ مستويات عديدة، من المستوى الإيديولوجي، إلى المستوى السياسي والاقتصادي. هناك أولاً الفارق في وعي الواقع، حيث بدت تجارب "رأسمالية الدولة" كاستجابة عفوية لازمة الواقع، بينما كانت في تجارب الاشتراكية استجابة واعية وبالتالي كانت المقدرة على وعي مجمل الظروف الواقعية مختلفة. وهناك ثانياً الفارق في أنماط الثقافة والفكر التي كانت تحدد مدى اتساع وعمق عملية التحديث (تصفية الأمية. والتطور العلمي). وهناك ثالثاً الفارق في التخطيط في المجال الاقتصادي، والمقدرة على تطوير مجمل بنيات الاقتصاد. رابعاً: في المقدرة على بناء القوة العسكرية، وخامساً: في المستوى المعيشي المتحقق لمختلف فئات الشعب. لكن الفارق يتوضح أصلاً في المدى الذي وصل إليه تطور القوى المنتجة، المرتبط بمجمل المستويات سابقة الذكر، والمؤثر فيها، والمحدِّد لها في النتيجة. لماذا كان من الممكن أن يتحقق هذا المستوى من تطور القوى المنتجة؟ هنا نعود إلى البحث في أهمية طابع الملكية السائدة في المجتمع من جهة وطبيعة الفئة الحاكمة من جهة أخرى. وإذا حاولنا استقراء التجارب الاشتراكية نقول أن التراكم المتحقق بيد الدولة، والذي كان ضخماً في هذه التجارب نتيجة إلغاء كل ملكية، استمرت عملية إنتاجه اجتماعياً لسنوات طويلة، بعكس تجارب رأسمالية الدولة. لأن الفئات المسيطرة، وفي بلد ألغى الملكية الخاصة، لم تجرؤ على، أو لم يتوفر لديها النزوع الكافي لمراكمة الثروة، وبالتالي الاهتمام بمشروعها الخاص، بل أن كل ما استطاعت فعله هو توسيع امتيازاتها بشكل بطيء وتدريجي وطويل المدى، مما فرض عليها الإيغال في التماهي بدور الدولة الاقتصادي (والشمولي)، وأدى في النتيجة إلى تعميق التوسع في التصنيع وتطوير المجتمع إلى المدى الذي أرسى فيه لأساس صناعي متين، حيث أنجزت مرحلة التوسع الأفقي التي تشكل المرحلة الأولى والضرورية في التطور الصناعي وكانت المرحلة الأولى في التطور الرأسمالي أيضاً. كما أفضى إلى عدم تبلور فئة رأسمالية جديدة، حتى الفئات التي حظيت بالامتيازات لم يكن بمستطاعها أن تكنز الثروة وتراكم الرأسمال.
لهذا حينما انهارت الاشتراكية لم تكن قد تشكلت بعد فئة رأسمالية، بعكس تجارب رأسمالية الدولة حيث نلاحظ بروزاً رأسمالياً سرعان ما أصبح هو السلطة. بينما نلاحظ أن الرأسمالية في البلدان الاشتراكية آخذة في التشكل بعد انهيارها، مستفيدة من ميل الفئة المسيطرة في المستوى السياسي (السلطة الجديدة) نحو الرأسمالية، وحالة الفوضى التي يعيشها الاقتصاد وعملية الانفتاح التي حصلت. لهذا يمكن أن نقول أن الاختلال في النظام السياسي الاشتراكي سابق لتكون فئة رأسمالية بينما هو في رأسمالية الدولة لا حق لها.
المسألة تتعلق إذن بكيفية الحفاظ على تمركز الرأسمال بيد الدولة. باستمرار إعادة إنتاجه، ومن ثم استمرار إعادة إنتاجه اجتماعياً عن طريق التخطيط، بحيث تستمر عملية توزيعه في الاستثمار في الصناعة أولاً. وعلى مستوى اضطراد تحسين الوضع المعيشي للشعب ثانياً، وعلى تحقيق التحديث عموماً ثالثاً. ولتحقيق ذلك تترابط مسألة نمط الملكية السائدة وطبيعة الفئات المسيطرة، وبالتالي طموحاتها وميولها. ولقد كانت التجارب الاشتراكية الصيغة الأجدر، لهذا أفضت إلى تأسيس أمم صناعية حديثة.
 



 
 
 
-6 –
 
والآن ما هي أزمة الاشتراكية ؟ هل هي أزمة الماركسية بالأساس؟ هل هي أزمة خيار في التقدم أم هي أزمة في الصيرورة؟
لا شك في أن إجابات عديدة جرى تداولها خلال الفترة القصيرة الماضية. أي منذ انتصرت "البيريسترويكا"، وخصوصاً منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. ولقد طالت هذه الإجابات الماركسية، كما طالت اختيار الاشتراكية، وانطلقت من مفهوم "انهيار الاشتراكية". و"نهاية الاشتراكية". البعض اعتبر أن الحلم تكسر لأنه كان مستحيلاً وليس من طريق سوى القبول بـ"الواقع". وفي الواقع لم ير سوى الرأسمالية.([7]) والبعض اعتبر أن كابوساً قد زال مما يجعل الدعوة إلى الرأسمالية مبررة تماماً. لكن – في كل الأحوال – غدت الاشتراكية من ذكريات الماضي، على الرغم من أن الانهيار طال الاتحاد السوفيتي ودول شرق أوروبا. لكنه لم يطل العديد من الأمم الأخرى مثل الصين، كوريا الشمالية، فيتنام، كوبا التي لا زالت تحكمها أنظمة اشتراكية([8]). ويوضح هذا الميل أن الاشتراكية اندغمت بالاتحاد السوفيتي، أو أن الاتحاد السوفيتي بدا وكأنه الاشتراكية. ولا شك في أن التجربة السوفيتية كانت النموذج بمعنى ما، خصوصاً أنها كانت التجربة الأولى، وكانت التجربة الأهم. لكن من الضروري أن لا نعمم الانهيار الذي طال تلك الدول، ليحكم على الاشتراكية بمجملها.
لقد سقطت بعض النظم الاشتراكية ولا زالت نظم أخرى قائمة كما أن مناقشتنا اللاحقة سوف توضّح حدود الانهيار الذي أصاب الاتحاد السوفيتي، ولقد ابتغينا من هذه الإشارات توضيح الفارق بين الاشتراكية كخيار، والتجربة المتحققة في بعض الدول، من أجل تناول التجربة الاشتراكية من زاوية تختلف عن وجهات النظر السائدة التي تناولت الانهيار بتسرع شديد وانطلاقاً من المنطق ذاته الذي كانت تضفي به هالات المديح والتقديس على التجربة قبل انهيارها.
المسألة تحتاج إلى تحليل الظروف الواقعية، وتوضيح الصيرورة ذاتها، بمعزل عن تناقضها أو عدم تناقضها مع الأفكار المسبقة، لأن الواقع هو الذي يحدد و"يحكم" الأفكار في كل الأحوال (وفي التحليل الأخير، أي ليس انطلاقاً من منطق ميكانيكي. بل من الجدل ذاته).
وإذا كانت الماركسية قد حددت بعض سمات الاشتراكية، فإنها لا تدعي أنها حددت صيغة مسبقة، لكي تحكم هذه الصيغة الواقع، بل أكدت أن الواقع هو الذي ينتج صيغته، ويحدد مسار تحقق الاشتراكية. وبالتالي فإن كل السمات التي حددتها الماركسية حول الاشتراكية لا تعدو أن تكون سوى "مؤشرات" و"علامات" ليس إلا. إننا لن نقيس الانهيار وفق "مقاس" التصور النظري للاشتراكية، وإن كنا لن نهمل ذلك، بل سندرس صيرورة تحقق الاشتراكية، أي سندرس الظروف الواقعية التي أنتجت الاشتراكية (وهنا نشير إلى أننا سوف نلمس التجربة السوفيتية كمثال) وانطلاقاً من الماركسية ذاتها، أي انطلاقاً من الجدل المادي، الذي هو المنهجية الماركسية، جوهر الماركسية، حجر الزاوية فيها.
لكن هل أن الأزمة، هي أزمة الماركسية بالأساس؟ الذين اعتبروا الماركسية "فلسفة" ناجزة كما عممتها الماركسية السوفيتية، واعتبروا أنها صيغة نظرية متكاملة، ودعموا كل مكوناتها وساووا بينها، وبالتالي همشوا الجدل المادي وأبدلوه بمنهجية أخرى تعتمد النصي "القياس"، ليعيدوا إلى الفكر الأولوية، وبالتالي لتصبح صورة الاشتراكية وصورة التطور التاريخي، كما رسمتها هذه "الماركسية" هي مقياس الواقع ومحدد مساراته، هؤلاء وصلوا إلى نتيجة أن الأزمة هي أزمة الماركسية بالأساس، لأنهم "اكتشفوا" أن فكرة فيها خاطئة. لقد أدى انهيار فكرة إلى انهيار كل البناء الفلسفي المعتمد. ونقول أن "ماركسية" كهذه عاجزة وضالة، وهي وفق ما أرى ليست ماركسية، لأنها تقوم على أساس مثالي، وتتبع منهجية مثالية، وتؤلف تصورات مثالية. وهذه الماركسية لم تكن تفضي سوى إلى "مديح" الاشتراكية القائمة بالفعل لأنها ابنتها، وليدتها، غطاؤها الأيديولوجي، وبالتالي لم تسمح بوعي مشكلات الاشتراكية لأن هدفها تمثل في تعمية الواقع من خلال تشويش العقل. وهي لن تسمح بوعي أسباب الانهيار الحاصل وبالتالي كان منطقياً أن ينهار البناء الفلسفي هذا حين انهارت فكرة فيه.
لهذا نقول أن الذي انهار هنا هو هذا الشكل من أشكال الفلسفة المثالية، لكن ليحلّ محله شكل آخر متسق ومنافٍ للاشتراكية والماركسية صراحة أو مداورة. وهو الشكل الذي بدأ في الرواج منطلقاً من فكرة ضرورة الرأسمالية.
الماركسية هي بالأساس طريقة في التفكير قبل أن تكون نظاماً اقتصادياً أو سياسياً، قبل أن تكون علماً في التاريخ أو فلسفة للممارسة أو نظرية في الاقتصاد، إنها بالأساس الصيغة الحديثة لقوانين نشاط الدماغ التي قامت على أنقاض منطق أرسطو، الذي ساد لقرون طويلة، والمؤسسة على قوانين الصيرورة الواقعية، على قوانين الحركة في الطبيعة والمجتمع، عكس منطق أرسطو المؤسس على الستاتيك، على طبيعة الحركة الظاهرية، القائمة وفق ذلك على السكون، وبالتالي فإن الانتقال من منطق أرسطو إلى منطق ماركس، كان انتقالاً من المظهر الساكن في الطبيعة والمجتمع إلى الجوهر فيهما، الذي هو الحركة (الصيرورة). ألم يقل أنجلز أن هذه الحقيقة هي وحدها الحقيقة المطلقة؟ أما التوسطات البرجوازية (ديكارت، كانط، هيغل) فلم تتجاوز هذه الحدود. أي أنها كانت توسطات الانتقال من الصيغة الأولى إلى الصيغة الثانية، من أرسطو إلى ماركس.
إن القول بأزمة في الماركسية يفترض مناقشة هذا المستوى أولاً، أي تحديد (تعيين) الأزمة في مستواها "الفلسفي"، في مستوى المنهجية، قبل الحكم عليها انطلاقاً من تصور حول الاشتراكية، كما هو حاصل، فالاشتراكية ليست سوى الصيغة المطابقة لنظام الطبقة العاملة، وليست "مثالاً" ناجزاً، ولهذا فهي خاضعة للواقع، وليست مقحمة عليه. وانطلاقاً من الجدل المادي ترتبط فكرة الاشتراكية وآلية تحققها، بالصيرورة الواقعية بالذات، وفي سياق الصيرورة يمكن أن تتحقق، لكن يمكن أن تنهار أيضاً لتتحقق مرة أخرى.([9]) وهنا نلمس دور الماركسية السوفيتية وستالين خصوصاً، في إحداث التباس كبير حول صيرورة تحقق الاشتراكية، حينما روجت فكرة أن قوانين الجدل المادي تفقد مفاعيلها في المرحلة الاشتراكية بينما كان الجدل المادي لا زال يفعل فعله.
إن القول بفشل الماركسية يفترض البحث في المستوى "الفلسفي" وليس تقرير حكم سياسي، نتيجة حادث ربما يكون عارضاً. إن الهروب من مناقشة هذه المسألة يوضّح مدى تهافت القائلين بأزمة الماركسية والاشتراكية، ولتنكشف حالة الضياع التي أحدثها الانهيار، التي تخفي مصلحة طبقة معينة، مصلحة تنزع إلى الحسم في مسألة نهاية الماركسية والاشتراكية لتأكيد أن الرأسمالية وحدها هي نهاية التاريخ.
وما دام النقد لا يطال المنهجية الماركسية. وينطلق من انهيار صيغة للاشتراكية فقط، فلا معنى له فيما يتعلق بالماركسية بمجملها، ويبقى نقداً "خارج السياق" ولا يمس جوهر المسألة. فالنقد يجب أم يطال المستوى "الفلسفي" بالذات، قبل أن يطال الصيغة الاشتراكية، خصوصاً وأن الفشل يعزى للماركسية برمتها، حيث لا يجوز أن يعمّم نقد الجزء على الكل، دون أن يدرس الكل بالذات.
 لن نتناول هذا الموضوع هنا، رغم أننا نرى أهمية البحث فيه، من أجل توضيح ما هي الماركسية، على الضد من معتنقيها الأدعياء، الذين أشرنا إليهم في الصفحات السابقة، لكن أيضاً من أجل "حك معدنها" وتبيان نقاط ضعفها بعد كل الذي جرى طيلة قرن ونصف، سواء في انتصارها، أو في أزمتها، أو على ضوء النهاية التي تبلورت في مصير التجربة الاشتراكية. لكن نؤكد في كل الأحوال أن الماركسية هي الأقدر على تحليل أزمتها وأزمة الاشتراكية، فالجدل المادي لا زال المنهج العلمي الوحيد، وهو حده المنهج المتسق في العصر الصناعي، أما كل "المناهج" الأخرى، فقد كانت مقدمات له، ثم غدت بعدما تبلور تفرعات عنه حيث أسس مفكرو الرأسمالية، اعتماداً على هذه الفكرة أو تلك منه، مدارس "متخصصة" في سياق نزوعهم نحو التجزيء (التفكيك، المعطى اسم التخصص). وهذا ملاحظ في علم الاقتصاد البرجوازي وعلم الاجتماع، وعلم التاريخ، والسياسة، وحتى "الفلسفة" التي غدت كلها ممهورة بأثر الماركسية، رغم أنها أسست لخيار طبقي أيديولوجي نقيض. لذا فنحن ننطلق من الجدل المادي في رؤية الواقع بمجمله كما في رؤية أزمة الماركسية والاشتراكية.
ولا شك في أن النقاش مع الذين يقولون بفشل الماركسية يتخذ منحى آخر لأنه يخرج عن كونه نقاشاً ينطلق من أساس مشترك (مفهومات مشتركة)، ليتحول إلى شكل من أشكال الصراع الطبقي في المستوى الإيديولوجي. ولعل البحث السابق حول بنية الإمبريالية يفي بغرض الرد، خصوصاً أنه تناول – بالأساس – الجانب "التقني" جانب الحاجة لتأسيس قوى الإنتاج، دون أن يتناول جوانب أخرى هامة، وأساسها مسألة الصراع الطبقي. بمعنى أننا تناولنا مسألة التقدم في سياقها العام دون التحديد المسبق لخيار طبقي. أننا أردنا أن نصل أولاً إلى تحديد الخيارات الممكنة قبل أن "نقحم" خيارنا الطبقي، لكي نصل إلى تحديد هل أن خيارنا الطبقي متوافق مع خيار التقدم وبالتالي مع الصيرورة الواقعية أم أننا نحل أحلامنا محل الواقع؟
طبعاً النتيجة التي توصلنا إليها تقول بأن الخيار الماركسي هو الخيار الممكن والوحيد، انطلاقاً ليس من البدء بالإفصاح عن أحلامنا بل إنطلاقاً من تحليل للظروف الواقعية، من تحليل بنية الإمبريالية وطبيعة التكوين الذي يضفيه على العالم، وخصوصاً على الأمم المتخلفة، وبالتالي الخيارات التي تفرضها عليها. بمعنى أننا ابتدأنا من البداية لنؤكد أن الماركسية هي خيار التقدم في العصر الإمبريالي قبل أن تكون خيار تحقق الاشتراكية.
هذه النتيجة لم يكن متفق عليها في صفوف الماركسيين، وكانت في أساس انقسام حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي إلى بلاشفة ومناشفة، وأحد مسائل الصراع بين لينين ورموز الأممية الثانية. وإذا كانت الحركة الماركسية موحدة كما بدت منذ انتصار ثورة أكتوبر، بفعل "هيمنة" الماركسية السوفيتية، والسياسية السوفيتية، فقد كان يخترقها نفس الانقسام. حيث انتصر الخط "البلشفي" لدى أخزاب، وهي الأحزاب التي انتصرت (الصين – فيتنام – كوريا – كوبا) في الغالب، بينما انتصر الخط (المنشفي) في أحزاب أخرى، ومنها الأحزاب في الوطن العربي. ولقد كان الفارق بين هذه وتلك هو في الإقرار بهذه النتيجة أو رفضها، والتأكيد في المقابل – على أحقية التطور الرأسمالي. "البلاشفة" انطلقوا من الإقرار بهذه النتيجة، ولا شك في أن آراء لينين واضحة في هذا المجال([10]). وهي واضحة لدى ماوتسي تونع، هوشي مينه وكاسترو..الخ. أما المناشفة فقد انطلقوا من الإقرار بأولوية التطور الرأسمالي مستندين إلى برنشتين الذي اعتبر الرأسمالية لا زالت تتطور وبالتالي فالاشتراكية لا زالت بعيدة. وكذلك مستندين إلى أفكار كاوتسكي "بعد أن ارتد".
وحين انتصرت الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، انتصرت بناء على تحليل يقرر أن البرجوازية غدت عاجزة عن تحقيق ثورتها، لتصبح الثورة الديمقراطية من مهمات الماركسيين، في سياق سعيهم لتحقيق الاشتراكية. فحسب تصورات لينين كان على الماركسيين تحقيق ثورة ديمقراطية الطابع. ولقد انطلقت بعض التحليلات وهي تحدد سبب الانهيار من أن الخلط بين مهمات الثورة الديمقراطية ومهمات الثورة الاشتراكية، وبالتالي التسرّع في الانتقال إلى الاشتراكية كان في جذر الانهيار. وربما كان التدقيق في هذه المسألة مفيداً لأنها تلمس مسألة تقدم بلد متخلف لم يحقق ثورته الديمقراطية. لكن في كل الأحوال لا بد من أن نشير إلى أن الواقع يفرض صيغة تقدمه، ويحدد مسارات تقدمه، وبالتالي مهما بدت هذه الفكرة وجيهة فإن دراسة صيرورة تحقق الاشتراكية تحدد بشكل أدق أسباب انهيارها اللاحق.
ما هي أزمة الاشتراكية إذن؟
هل هي أزمة خيار في التقدم، أم أزمة صيرورة التقدم ذاتها؟ هل هي أزمة إقحام غير واقعي، أم أزمة خيار ممكن عانى من مشكلات تتعلق بالمسار الذي اتخذه؟
كان من نتائج الانهيار أن فسرته الماركسية الرائجة، بأنه نتاج "حرف لمسار التاريخ" بمعنى أن المسار كان يحتم انتصار الرأسمالية، ليقحم الخيار الاشتراكي رغماً عن التاريخ بفعل إرادوية لينين بالذات([11]) ليتحدد سبب الانهيار بكونه نتاج "خطيئة أصلية" نتجت عن "هوس" قائد "أهوج" قرر أن يفرض أحلامه على التاريخ. لهذا فإن الاشتراكية خاطئة كخيار راهن، حيث لا زالت الرأسمالية قادرة على تجديد ذاتها، من خلال تطويرها لإمكاناتها المادية([12]).
لقد حاولنا في الأقسام السابقة البدء من البداية، أي من الواقع قبل أن نناقش "الحلم"، والتجربة التي قامت على أساس هذا الحلم، هادفين القول بأن الرأسمالية استنفذت "إمكاناتها المادية" وأنها حددت الصيغة النهائية للعالم، رغم أننا لا نتجاهل إمكانية أن يعاد إنتاجها وفق أشكال جديدة. ولقد تقصدنا استخدام كلمة أشكال هنا، لأن إعادة الإنتاج هذه لا تمس الجوهر، ولا تلغي، أو تعدل في الصيغة النهائية للعالم، بل أنها تعمق من مشكلاتها. وبالتالي فإن الخيار الاشتراكي خيار واقعي وممكن في إطار السعي لتحقيق التكافؤ في القوى المنتجة، ومن ثم لتحقيق "المُثُل الاشتراكية".
ومن هذه النتيجة نحدد أسباب انتصار الاشتراكية في ما يقرب من نصف العالم. لقد انتصرت لأنها خيار واقعي وممكن، ونضيف أن ما يتحقق في الواقع هو الممكن فقط، ما يحوي الواقع إمكانية تحققه، ما يحمل الواقع ممكناته، ولا يمكن لخيار طارئ أن ينتصر بأي حال من الأحوال، لأن للواقع منطقة الصارم ومساره المتحتم، رغم أنه يشتمل على خيارات عديدة، فيه أساس لخيارات عديدة (نظرياً وطبقياً)، لكن الخيار الذي ينتصر هو الخيار الذي يحوي الواقع عناصر تحققه. وهنا نحن لا نخرج عنصر الإرادة، العامل الإرادي، من بنية الواقع، فالإرادة في المجتمع هي جزء من الموضوع من الواقع الموضوعي، ونحن هنا ننفي عنصر المصادفة بمعناه المبتذل (المصادفة تساوي (الطارئ) مؤكدين على أن المصادقة ضرورة أيضاً وفق الجدل المادي وبالتالي "الطارئ) ضروري ما دام يتجاوز ذاته.
إن تقدّم أوروبا وانتصار الرأسمالية فيها، أوجد "حالة عالمية"([13]) تنزع نحو تحقيق التماثل ولم يعد ممكناً بقاء البنية السابقة للرأسمالية. وبالتالي غدا هذا النموذج ضرورة. لقد غدا جزءاً من الواقع، ولقد غدا السعي لتحقيق "المثال"، غدا طموح التقدم جزءاً من الواقع، جزءاً من حاجات المجتمع، وبالتالي غدا حقيقة واقعية حقيقة ملموسة رغم أنها ليست "مادية" بالمعنى الضيق "بالمعنى المادي"، إنها حقيقة مادية بالمعنى الماركسي. أكد ماركس أن البلدان الرأسمالية تبدو للبلدان المتخلفة "صورة مستقبلها هي([14]) ليقول أن حلماً سكن بنية المجتمعات المتخلفة وأندعم بطموح التحرر والانعتاق لدى طبقات جديدة، الذي على ضوءه تندفع لتغيير بنية المجتمع. لقد أصبح التقدم ضرورة وتأسس وعي يرفض البنية القائمة في صيغتها المحلية، وضمن الظرف العالمي المؤسس لها. ولا شك في أن هذه الضرورة غدت جزءاً من الواقع، رغم أنها ضرورة، لأنها أصبحت محدد لحركة الواقعية، وتتجسد في صيغة ملموسة وهي صيغة نزوع الطبقات الجديدة الهائل نحو التقدم، الذي يظهر بشكل عفوي أحياناً وغير واع أحياناً أخرى، لكن الذي يظهر بشكل واع أيضاً.
 لهذا لا يعود من الممكن تلمّس الصيرورة الواقعية دون لمس هذا العنصر فيها. وفي الغالب يسقط الاتجاه الوضعي هذا العنصر، ولا شك في أن الماركسية الرائحة تفعل ذلك لهذا تهمله، وتتجاهل أنه يتمظهر في العامل الإرادي بالتحديد، مما يجعلها تقدّس العفوية في التطور، وبالتالي فهي تهجر الجدل المادي، وهنا يتوضح الفارق بين الوضعية والماركسية، الوضعية تسكنها فكرة أن كل ما هو واقع معقول، والماركسية تنطلق من فكرة أن كل ما هو معقول واقع أي أن كل ما هو معقول يصبح في سياق الصيرورة واقعاً. والفكرة هذه لهيغل بالأساس حينما أعتمد شقها الأول أصبح رجعياً في السياسة([15]) لأنه اعتبر أن ما هو قائم هو نهاية التاريخ.
إن حلم التقدم أصبح حاجة واقعية. وبالتالي لا بد من أن ينتصر الخيار الذي يعبر عن هذه الحاجة. طبعاً يتبدى هذا الحلم في مستويات عديدة منها حلم التقدم الصناعي وهو الحلم الأساس، الذي يتمظهر في صيغة التماثل مع الأمم الرأسمالية، والذي كان يشجع على نشوء اتجاه "تقني" لا يرى سوى هذا الأساس في صيغة كمية. ومستوى التحديث الثقافي العام. ولقد استطاعت الماركسية أن تقدم حلاً شمولياً لمختلف هذه المستويات، مضيفة إليها مستوى آخر يتعلق بالتطور المضطرد لأوضاع الجماهير الشعبية وهو المستوى الذي يقوم تطور الرأسمالية على النقيض منه. وإذا كانت الاختيارات الطبقية لتحقيق التقدم عديدة. فقد أوضحنا أزمة الخيار الرأسمالي، ونلاحظ أنه في البلدان التي لم تلعب الماركسية دوراً في تحقيق التقدم فيها، أفرزت الضرورة خياراً قسرياً هو خيار رأسمالية الدولة الذي فشل بدوره كما أوضحنا سابقاً، ليتوضح لنا أن الخيار الماركسي هو الخيار الوحيد الممكن.
لينين وعى هذه الحقيقة. وعى أن الواقع يحمل ممكنات الانتقال إلى الاشتراكية، أنه بالأحرى يفرض أن ينهض الماركسيون بدور تحقيق التقدّم، الذي كان يعرف أنه يعني بناء الصناعة أولاً وتحديث المجتمع عموماً. لهذا فقد اعتبر في السنوات الأولى بعد ثورة أكتوبر أن "كهربة الريف" تساوي تحقيق الاشتراكية. لا شك أن في هذه الفكرة مجاز راقٍ، تعبيرية هائلة. لأنه قصد تحديد مدى الأهمية التي تحتلها خطوة مثل كهربة الريف في صيرورة الانتقال إلى الاشتراكية، وإن بناء الصناعة مسألة حاسمة حتى وإن تمت عن طريق الرأسمال الأجنبي (السياسة الاقتصادية الجديدة – النيب)، واعتبر أن كل ذلك يتحقق عن طريق "رأسمالية الدولة" وكانت تنعني تدخل الدولة في الاقتصاد عن طريق الاستثمار في القطاعات الأساسية، وأساسها الصناعة. لكن لنوضح أنه كان يتحدث عن الدولة التي تحكمها الطبقة العاملة، حيث حدّد أن هذا العنصر هو العنصر الاشتراكي الوحيد في المرحلة الأولى من الاشتراكية والساعية إلى تصفية أشكال الملكية الخاصة، ومركزه الملكية بالدولة، وهذه – كما قال خطوة هائلة على طريق الانتقال إلى الاشتراكية.
وحين نقول إن في الواقع ممكنات انتصار الاشتراكية، نؤكد على دور الماركسيين، نشاطهم، فاعليتهم، حيث الإرادة جزء من الموضوع. وبهذا يتحدد موقع الفكر. وموقع الحزب في الصيرورة الواقعية. أنهما عنصراً فعل في هذه الصيرورة. ولا شك في أن تحقق "المثال" تحقق "حلم التقدم" يتم بتوسط الإرادة التي تتمظهر في الفكر والحزب معاً.
وإذا كان من الممكن لأشكال أقل وعياً وتنظيماً – وحتى عفوية – أن تحقق التقدم، في المراحل الأولى للرأسمالية، فقد فرضت بنية الإمبريالية تزايد أهمية عنصر الوعي والتنظيم في إطار النشاط الواقعي من أجل التقدم. ولعل شرحنا السابق حول أزمة تقدم الأمم المتخلفة يلقي الضوء على هذه المسالة، حيث فرض "عصر الاحتكار" مواجهة واعية من أجل تحقيق التقدم الذي بات يستند إلى حركة واعية من خلال الحزب، وتنظيم النشاط الاقتصادي من خلال الدولة بتوسط التخطيط. لقد تهمشت العفوية وتزايدت أهمية عنصر الوعي في بنية الإمبريالية كما في صيرورة تجاوزها أيضاً.
والتأكيد على هذه المسألة، يوضح مدى خطل النقد الذي بات يوجه إلى لينين باعتباره غلب إرادته على مسار الواقع، ويوضح من جهة أخرى مدى الاستسلام للحركة العفوية لدى منتقديه ومدى اندفاعهم للتكيّف مع بينة الإمبريالية.
إن الأزمة ليست أزمة إختيار. وما دام انتصر الخيار الاشتراكي فلأن في الواقع ممكنات تحققه، وبالتالي لم يكن انتصاره طارئاً. إن عجز الخيار الرأسمالي وفر إمكانية تحققه من جهة، ومن جهة أخرى لأن في الواقع عناصر تفرض تحققه، لهذا يجب أن نبحث عن الأزمة في الصيرورة ذاتها، أي في صيرورة تحقق الاشتراكية. لكن قبل أن نبحث في ذلك نطرح سؤالاً نظرياً وهو: هل أن انتصار الاشتراكية يعني أبديتها؟ يعني أن لا إمكانية لسقوطها؟ بمعنى هل الصيرورة خط مستقيم صاعد إلى الأعلى دائماً؟ ولقد تناولنا هذه المسألة في الصفحات الأولى لهذا سوف نلمسها في الصفحات التالية بشكل ملموس، أي من خلال البحث في أزمة الاشتراكية.
لقد كان الخيار الاشتراكي ضرورياً وأفضى – كما أوضحنا - إلى تحقيق التكافؤ، وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لم تستطع الاشتراكية، في صيغتها المتحققة وضمن الحدود التي أشرنا إليها، الانتقال إلى مرحلة جديدة بعد أن حققت التكافؤ في القوى المنتجة؟ أي لماذا لم تحقّق تطور القوى المنتجة ذاتها إلى مرحلة أعلى؟ ولماذا لم يتحقّق التطور في النظام السياسي بعدما تطورت البنية التحتية؟
إننا معنيون بالبحث في صيرورة تحقّق وتقّدم الاشتراكية ذاتها.



 
 
 
-7-
 
لن نحلل مسار التطور بمجمله ونحن نبحث في أزمة الاشتراكية، لأن لهذا الموضوع بحث آخر، لكن سوف نحدد المشكلات الأساسية التي أفضت إلى الانهيار، منطلقين من أنه نتج عن اختلالات في مسار التطور ذاته، ترتبط بطبيعة تكوّن البنية الاقتصادية الاجتماعية، وبالأخص البنية الفوقية (الدولة/ الإيديولوجيا)، لكن النابعة من مشكلات تطور البنية التحتية ذاتها. ومؤكدين أن الانهيار نتج عن رفض الشعب للبنية الفوقية، وعجز هذه البنية عن إعادة إنتاج ذاتها. بمعنى أن أزمة في الاقتصاد وأزمة في المجتمع ترافقنا وأفضتا إلى تلك النتيجة.
وإذا كانت هذه قضايا عامة، أي تخص مجمل البلدان الاشتراكية وإن بسويات مختلفة، فإننا سوف نخصص هنا وضع الانحاد السوفيتي كونه الدولة الاشتراكية الأولى والمثال الذي يرسم مسار التجارب الأخرى، حتى تلك التي اختلفت معه.
ومن الواضح أننا، ونحن نحدد جوهر الأزمة التي عانت منها الاشتراكية السوفيتية، نقلل من أهمية تأثير العامل الخارجي دون أن نلغيه، فلا شك في أن الاتحاد السوفيتي تشكل اشتراكياً في ظل السيطرة العامة للإمبريالية، وكان الدولة الأولى التي تحقق ذلك. لهذا بدا شاذاً في بنية العالم. حتى حينما قاربت الاشتراكية من أن تسيطر على نصف العالم، ظل خارج بنية العالم، وظل معزولاً سوى من علاقات محددة مع العالم الرأسمالي، ومع الأمم المتخلفة. ولقد كان الحد الفاصل واضحاً بين "العالمين" الرأسمالي والاشتراكي. كل له سوقه، رغم انفصال الصين عن السوق الاشتراكي، ورغم "الاختراقات" التي حققها الاتحاد السوفيتي في الأمم المتخلفة منذ الخمسينات، والتي توضحت مع انتصارات حركة التحرر الوطني في هذه الأمم([16]) .وبدا – على ضوء القطيعة بين العالمين – وكأن حصاراً تفرضه الإمبريالية على النظم الاشتراكية، كما بدا وكان الاقتصاد الاشتراكي ذو ميل محدود نحو "التوسع" الخارجي، رغم كل محاولات الإفادة من انفكاك الأمم المتخلفة عن النظام الإمبريالي العالمي.
نشأ هذا الوضع منذ سنة 1917، إثر انتصار ثورة اكتوبر، لكنه لم يؤدِ إلى الانهيار طيلة هذه السنوات، رغم أن الظروف كانت أكثر صعوبة في السنوات السابقة على الحرب العالمية الثانية، سواء نتيجة وضع الاتحاد السوفيتي الذي كان لا زال يعاني من التخلف والضعف، أو لأنه كان وحيداً في بنية العالم، قبل أن تنتصر الاشتراكية في أمم أخرى (أوروبا الشرقية، الصين، كوريا الشمالية، منغوليا، كوبا، فيتنام..)، ولتسيطر على ما يقرب من نصف العالم. وبالتالي فإن كان للعالم الخارجي، (نقصد بالتحديد الحصار الإمبريالي) دور مؤثر، ألا يجب أن نتساءل: لماذا أحدث تأثيره بعد سبعين سنة؟ ألا يرتبط هذا التأثير – بالتالي – بالوضع الداخلي؟
ألا يخضع – بالتحديد – للوضع الداخلي؟ بمعنى أن التأثير الخارجي لم يُحدث فعله إلا حينما وصلت صيرورة التطور الداخلي إلى مستوى محدداً؟ لهذا فنحن معنيين – في كل الأحوال – بتحليل البنية الداخلية على وجد التحديد؟
وإذا حاولنا تحديد أشكال التأثير التي يكن أن تقوم بها عناصر خارجية نرى أنها إما أن تتحقق باستخدام العنف، أو من خلال ممارسة ضغوط محدّدة، وما مارسته الإمبريالية هو الفعل الثاني على وجه التحديد، حيث فرضت حصاراً على الاشتراكية بهدف منعها من الحصول على السواق والمواد الأولية، والمساعدات التقنية، كما صعدت من حدة التنافس في مجال التسلح، ولم تقم بأية خطوة تهدف إلى التدخل العسكري المباشر، بعد فشل تدخلها بُعيد ثورة أكتوبر مباشرة. ولا شك في أن الضغوط من هذا النوع لا تفعل سوى أن تلعب دوراً مساعداً في تحقيق "التدمير الذاتي"، وهذا هو هدفها الأساسي.
وبالتالي يبقى البحث في البنية الداخلية هو مجال تحديد أسباب الانهيار، ويمكن في سياق ذلك تلمس بعض المشكلات التي أوجدها "الحصار" الإمبريالي، وهي مشكلات متفاوتة الأهمية، مثل سباق التسلح، وبالتالي حاجة الدولة السوفيتية إلى اقتطاع جزء كبير من الدخل الإجمالي لمصحلة التسلح والجيش وامتيازات الضباط، مما كان يخفض الرأسمال الموظف في الاستثمار، وفي تحسين وضع الشعب. وكذلك مثل انعكاس الظروف الاستثنائية التي يوجدها الحصار على التطور الاقتصادي الاجتماعي، وعلى بنية الدولة، ونقصد التوتر المصاحب لمواجهة الحصار الخارجي. وأخيراً مثل مدى تأثير غياب السوق الخارجي على التطور الصناعي بالتحديد، حيث ورغم طبيعة السوق السوفيتي، واسواق الأمم الاشتراكية الأخرى، التي هي واسعة – لا يمكن أن نقلل من أهمية حاجة الصناعة إلى الأسواق الواسعة لكي تستطيع الاستمرار والتطور، وبالتالي إنهاض البنية الاقتصادية. وهذه مشكلات مكملة لأزمة داخلية، ولا شك في أنها ملازمة لأي تطور مناقض للنظام ألإمبريالي العالمي، وبالتالي يجب أن تؤخذ في الاعتبار، حين رسم استراتيجية التقدم. رغم ذلك نشير إلى محدودية تأثيرها في الأزمة السوفيتية، لأن التسلح مثلاً، الذي كان "ينهب" حصة كبيرة من الدخل الإجمالي، كان في أساس تحقيق التطور الصناعي، كما كان ينعكس على تحسين وضع قطاعات من الشعب (الجيش، العاملون في الصناعات العسكرية، وحتى بعض العاملين في الصناعات المدنية)، ثم إنه إذا كانت الصناعة تحتاج إلى السوق الواسعة، فإننا نلحظ أن أزمة الاقتصاد السوفيتي لم تتمظهر في فيض الإنتاج نتيجة ضيق السوق، بل تمظهرت في نقص الإنتاج، نتيجة لأسباب أخرى، سوف نوضحها لاحقاً. لهذا أشرنا إلى الميل المحدود لـ"التوسع" الخارجي، لكننا
-في كل الأحوال – لا نهمل تأثير العامل الخارجي، الذي نعتقد أنه أثر بهذا القدر أو ذاك في مسار تطور الاتحاد السوفيتي.
إذن: ما هي أزمة اشتراكية، التي قلنا انها أزمة صيرورة، وليست "خطيئة أصلية"؟ طبعاً يستتبع هذا السؤال سؤال آخر هو: هل انقطعت الصيرورة، أو أن ما يجري سوف يحقق استمراريتها؟ بمعنى هل أن الانهيار نهائي، ليس على المدى البعيد فقط، بل وعلى المدى القريب أيضاً، وبالتالي سقطت الاشتراكية، ربما لعقود طويلة، أم أنه في صلب الصيرورة ذاتها، وأنه سوف يؤسس لنفي النفي؟
حين نناقش الأزمة، لا بد من بحثها في صيرورتها أيضاً، حيث نلمس أزمة في البدء، وأزمة في صيرورة التقدم، وهي التي أفضت إلى الانهيار، لكنها كانت نتاج الأزمة الأولى.
الأزمة الأولى: هي أزمة تحقق الاشتراكية في بلد متخلف، لم تنتصر الرأسمالية فيه، وكانت لا زالت تسوده العلاقات الإقطاعية في الإقتصاد، خصوصاً في الريف الذي كان زال يمثل بنية المجتمع العامة. وعلى مستوى الدولة التي كانت تتخذ طابعاً بطرياركياً واضحاً (إمبراطورية من النوع القديم، كما الإمبراطورية العثمانية). لهذا كانت مهمة تطوير القوى المنتجة الحديثة، أي الصناعة، وتطوير البنية "الحضارية" للمجتمع، ملقاة على عاتق السلطة الجديدة، بمعنى أنها كانت تقوم بخطوة إلى الوراء، قبل انتقالها خطوة إلى الأمام. أنها، وهي المعنية بتحقيق المثال الاشتراكي، كانت معنية بتحقيق مهمات كانت البرجوازية هي التي تحققها، كما أبان مسار تطور الرأسمالية، والتي تسمى عادة مهمات الثورة الديمقراطية. حيث لم تكن الإشتراكية تعني سيطرة الطبقة العاملة على السلطة من أجل إلغاء الملكية الخاصة وتعميم الرفاه، بل كانت السلطة الجديدة أمام مشكلات عميقة، سابقة على هذه الخطوة، منها حل المسألة القومية، من خلال إقرار مبدأ حق تقرير المصير للأمم الملحقة بالإمبراطورية القيصرية، وحل المسألة الزراعية بتصفية العلاقات الإقطاعية وتوزيع الأرض على الفلاحين. والتحديث الثقافي العام بتعميم التعليم، والنهوض بالصناعة التي كانت بالكاد قد نشأت([17]). لذا فالطبقة العاملة التي سيطرت على السلطة، كانت تُحقِّق ثورة ديمقراطية، هذه هي الخطوة إلى الوراء، لكنها الخطوة الهامة والضرورية من أجل الانتقال إلى الاشتراكية.
لقد كانت الصيرورة تفرض العودة خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، لأن الصيرورة ذاتها لا تستقيم دون ذلك، لأنه دون التقدم الصناعي، والتقدم "الحضاري" العام، وحل المسألة القومية، ليس من الممكن تحقيق "المثل الاشتراكية". وكما أوضحنا سابقاً، غدت البرجوازية عاجزة عن تحقيقها، في نفس الوقت الذي تهيأت فيه ظروف محددة لكي تلعب الطبقة العاملة هذا الدور، هنا يأتي موقع الماركسية/الوعي، أي الإيديولوجيا الخاصة بالواقع العياني والمؤسسة على ضوء الماركسية، والتي على ضوء تأسيسها، وبتوسط الحزب، تكون قادرة على توحيد الطبقة العاملة، والفلاحين، والفئات المتوسطة للقيام بحركة واعية من أجل تحقيق التقدم.
وهذه الخطوة إلى الوراء أسماها لينين: مرحلة رأسمالية الدولة، لأن هدفها هو إنجاز مهمات ديمقراطية، وفي نفس الوقت تصفية أشكال الملكية السابقة للرأسمالية (بقايا المشاعية، الملكية الإقطاعية)، والملكية الرأسمالية (بشكليها ملكية الرأسمالية، وملكية الإنتاج الصناعي الصغير)، ومركزتها بيد الدولة عن طريق المنافسة. ولقد اعتبر أن الطابع الاشتراكي للمجتمع يتمثل فقط في قيادة الطبقة العاملة للسلطة([18])، رغم أنه كان اعتبر أن الثورة الديمقراطية قد تحققت مع ثورة شباط سنة 1917، ودعا في حينها لتحقيق الثورة الاشتراكية. لكن لا بد لنا من أن نربط هذه الدعوة بفكرته عن رأسمالية الدولة، لكي لا يتملكنا الشطح "الفكري" فنتجاوز مهمات الواقع، وبالتالي نحاكم التجربة الاشتراكية انطلاقاً من محددات ذهنية، بمعارضة الواقع بالمثل الاشتراكية، أي بتطبيق صيغة مفترضة لمرحلة على مرحلة سابقة لها. فما يؤكده لينين هو أن الاشتراكية هي السلطة فقط بفعل قيادة الطبقة العاملة لها، وبالتالي فهي مطمح ولم تصبح واقعاً بعد، لكن المجتمع "رأسمالي" بمعنى ما، أي بمعنى استمرار مختلف أشكال الملكية، وهو هنا ينفي مسألة إلغاء الملكية، بل يعتبر أن مهمة السلطة، أن تدفع المجتمع باتجاه الاشتراكية سلمياً، من خلال مقدرة الدولة التي غدت فاعلة في الاقتصاد، على منافسة أشكال الملكية الرأسمالية و"تذويبها" أي دفعها للتلاشي، في سياق نشاط الدولة والمالكين لتحقيق خطوات في مجال تطوير الاقتصاد (بناء الصناعة، الزراعة الخدمات..).
بالنسبة للطبقة العملة، هذه العودة هي خطوة استرجاعية، بينما هي في الواقع، خطوة في إطار الصيرورة ذاتها، حيث بدونها لا تستقيم صيرورة التقدم. لكن هذه "العملية الاسترجاعية" وإن التكوين الطبقي في البنية المتخلفة، كان يشير إلى ضعف الطبقة العاملة، حيث لم تكن تشكل سوى نسبة محددة من السكان، مما كان يضعها أمام "خطر" حقيقي، خصوصاً وهي تشارك مع طبقات أخرى في تحقيق التقدم، وبالتالي كان من الطبيعي أن "تغزو" تلك الطبقات السلطة. فقد كانت تحتاج إلى التخلف مع الفلاحين وشعار "التحالف بين العمال والفلاحين" هو شعار لينين، وهم الذين كانوا يعانون من سيادة العلاقات الإقطاعية، ومن الحرمان من ملكية ولا شك – أفق التطور الرأسمالي، وليس تحقيق الاشتراكية.
وبهذا كانت القوى التي سيطرت على السلطة، من خلال الحزب والجيش والبيروقراطية، متناقضة المصالح، وإذا كانت الطبقة العاملة، والماركسيين المنحدرين من الفئات الوسطى الحديثة هم قوام الحزب، فقد كان الميزان يميل لمصلحة الفلاحين، في الجيش والبيروقراطية مما أفضى إلى سلطة من طبيعة محددة، هي في الغالب ليست متقدمة جذرياً عن البنية البطريركية السائدة، بل أن هذه البنية أمكن لها أن تتضمن في البنية الجديدة، من حيث طرف الفهم والتعامل والممارسة، وإن كانت تسعى لتحقيق مهمات كبيرة، وتخترقها مفاهيم حديثة.
وهذا التكوين كان في أساس الاختلافات اللاحقة لموت لينين، والمتعلقة باختيارات التطور، وحل المسألة القومية، وإذا كان تحقيق التصنيع وتطوير الزراعة (كهربة الريف ومكننة الزراعة)، والتحديث العام للمجتمع هي الخطوات التي سعي لينين لانجازها، فقد تصارع، بعد موته، خياران، الأول يدعو إلى التصنيع السريع، والثاني يدعو إلى تطوي رالزراعة، وهو الخيار الذي أصبح السياسة العامة للدولة حتى عام 1929، حيث توضح بروز رأسمالي في الريف (الكولاك) أخذ يهدد السلطة بمجمله. ليتبلور بعد ذلك خيار جديد سعى لتحقيق التصنيع السريع والتطوير القسري للزراعة، وإلغاء الملكية الخاصة. وإذا كان لينين يعتقد بأن مشروعه يمكن أن يتحقق من خلال المنافسة بين أشكال ملكية مختلفة، بما فيها ملكية الدولة، على أمل أن تستطيع هذه الأخيرة – في ظل المنافسة وليس خارجها – تصفية أشكال الملكية الأخرى، لكي تكون رأسمالية الدولة هي خطوة إلى الأمام على طريق تحقيق الاشتراكية من خلال تمركز الملكية بيدها سلمياً. إذا كان لينين يعتقد بذلك فقد أوضح التطور اللاحق أن الدولة عاجزة عن تحقيق ذلك بتوسط المنافسة، وأن الكولاك هو الذي مركز الرأسمال بيده، واصبح يشكل خطراً على سلطة الطبقة العاملة، التي فشلت في تحقيق أي تطور هام، رغم أنها استطاعت ترميم ما دمرته الحرب الأولى، والحرب الأهلية، لكنها لم تستطع وضع أساس لتحقيق التطور الصناعي.
لقد توضح أن رأسمالية الدولة لا تستطيع القيام بدورها في تحقيق التقدم، إلا بـ:نهب" المجتمع، بإلغاء الملكية الخاصة، وبالتالي تستطيع تحقيق التصنيع الذي هو "جوهر" عملية التقدم، من خلال مركزة الرأسمال بيدها من جهة، ومن جهة أخرى بتحرير الفلاحين (مد الصناعة بالعمالة اللازمة) وكانت في هذه العملية تلغي ذاتها، تحول من طبيعتها لأنها بإلغائها الملكية الخاصة، تحولت إلى دولة اشتراكية. وبالتالي فإذا كانت سلطة الطبقة العاملة هي السمة الاشتراكية الوحيدة في مجتمع تسوده الملكية الخاصة، فقد غدت الاشتراكية، منذ أواسط الثلاثينات هي السمة العامة للمجتمع. رغم أن الطابع الريفي – بما هو شكل ممارسة، وأحلام، وأوهام أيديولوجية – هو الذي انغرز في البنية الفوقية، بفعل "اندلاق" الريف، واقتحامه كل بنيات المجتمع (الجيش، البيروقراطية، الطبقة العاملة، التعليم).
لكن في هذا التطابق بين سلطة الطبقة العاملة وسيادة الملكية الاجتماعية، كان يتأسس عدم تطابق جديد، أزمة جديدة، نابعة من التكوين الجديد للسلطة والمجتمع.
وقبل أن نبحث في هذه الأزمة، لا بد من أن نسأل: هل كان التطوير القسري، وإلغاء الملكية الخاصة، ضروريان؟
لا شك في أننا معنيون بالإجابة على ذلك، خصوصاً أن المرحلة التي تحقق فيها كل ذلك، والتي تبلورت فيها الستالينية كما عرفناها فيما بعد، تحمل كل أعباء الانهيار، من قبل بعض الماركسيين، أو تصور على أنها مثال "الفاعة" و"الهمجية"، انطلاقاً من أنها كانت مرحلة قمع شامل طال الحزب والفلاحين والفئات المتعلمة. وبالتالي تصور وكأنها أتت خارج السياق الترايخي، وأنها من فعل "همجية" فرد هو ستالين الذي تحول إلى دكتاتور محرفاً الاشتراكية عن مسارها. إنها – وباختصار – مقحمة على التاريخ، كما كانت ثورة أكتوبر بالضبط، وكلاهما نتجا عن "إرادوية" مفرطة، متحللة من كل "قوانين" التطور التاريخي.
 
رغم ذلك نعود مرة أخرى إلى التأكيد على أنه لا ينتصر إلا ما هو ضروري، فالتاريخ لا يحتمل "الطارئ" أو "المقحم"، أي الذي لا أساس له في الواقع، لهذا فالضرورة صارمة، فهي لا تتحقق بفعل إرادة لا تنبع منه، لا تتأسس على ضوء ممكناتها. فالإرادة/الفكر لا تصنع التاريخ، إلا إذا كانت انعكاس للواقع، أي إذا كانت جزء من التاريخ، وبالتالي فما دام التطوير القسري قد تحقق، في إطار من إلغاء الملكية الخاصة، فلا بد من أن نؤكد حتميته، وأن نبحث عن البنى الواقعية التي أنتجته. فالتصنيع كان حاجة، كان ضرورة، حيث لا إمكانية لتحقيق التقدم إلا بتحققه، وفي ظل سيادة النظام الإمبريالي العالمي لا يتحقق التصنيع إلا بمركزة الرأسمال بيد الدولة، وتهديم كل البنى السابقة للتطور الرأسمالي، التي تعيق تحققه، وبالتالي لا يمكن تجنب الدور المتسع الذي باتت تقوم به الدولة، في ضبط تأثير العلاقات الاقتصادية الإمبريالية، والاستثمار في مجال تأسيس قوى الإنتاج.
طبعاً يمكن القول أنه يمكن تحقيق ذلك في صيغة أخرى "إنسانية"، دون إلغاء التام للملكية، وكذلك دون القسر من خلال التطوير السريع، خصوصاً وأن الاشتراكية هي حل "إنساني"، يهدف تحقيق رفاه الإنسان وحريته. ولا شك في أن خياراً من هذا القبيل كان قد طرح في إطار الصراع في الحزب الشيوعي السوفيتي، لكنه مثل قطاعاً من المثقفين، ومن الطبقة العاملة على الأرجح، ولقد كان متضمناً في التحليل اللينيني الذي انقطع بموت لينين، وكذلك في الحلول الأخرى التي انهزمت، لكن كانت بنية المجتمع تغذي الخيار الذي انتصر. لقد كان "الطابع الريفي"  هو الأساس الذي استند إليه ذاك الخيار، والذي صاغ بنية الدولة والإيديولوجيا، والذي عبر عن نفسه من خلال اختراق الريف لبنية الدولة، عن طريق الحزب والجيش والبيروقراطية، حيث جرت إعادة صياغة للحزب، ليصبح حزب سلطة ولتتشكل سلطة ذات "طابع بطرياركي"، تتسم بالوحدانية المفرطة (في الرأي، والحكم)، وبالمركزة الأشد، ولتتشكل أيديولوجيا السلطة، التي تتسم بكونها خليط من الماركسية والفكر المثالي السابق للرأسمالية، والفكر المثالي الرأسمالي، مما وسم تلك الماركسية بالنصية (منطق القياس) بصيغتها اللا هوتية، وبالاقتصادوية، والمادية الميكانيكية، لتتحول إلى فلسفة مثالية، انتشرت باسم "الماركسية اللينينية"، والتي يجب أن تسمى "الماركسية السوفيتية".
وبالتالي، حين ندرس هذه المرحلة، لا بد من ملاحظة الطابع المزدوج الذي يحكمها، حيث أنها قادت إلى تحقيق التطور في القوى المنتجة، وفي الثقافة، كما أفضت إلى تحقيق الاشتراكية، بما هي سيادة للملكية الاجتماعية. لكنها في المقال أفضت إلى تشكيل بنية فوقية "محافظة"، نتيجة امتصاصها لعناصر البنية البطرياركية، وأحلام الريف. ولقد نتجت هذه الإزدواحية عن "الطابع الريفي" بالذات، الذي كان، وهو يسعى لإلغاء ذاته، على صعيد الاقتصاد (تدمير بقايا الإقطاع، وتأسيس علاقات حديثة)، كان يكرس ذاته في البنية الفوقية، ومن جهة أخرى نتجت هذه الإزدواجية، عن كونه الطبقة العاملة، التي أصبحت في السلطة وهي تعمل على إنهاض المجتمع، بتخليصه من طابعه الريفي، عن طريق تعميم الصناعة، وبالتالي تعميم ذاتها، غرقت في "بحر الريف"، أي "تزيفت". أي بمعنى أنها استندت إلى الفئات الريفية في الحكم، كما أنها توسعت بفعل الفلاحين المتحولين إلى عمال، بينما كان المجتمع، وبنتيجة عملية التصنيع التي يشهدها، ينزع نحو التمدين والحداثة.
 
وهذه الازدواجية هي التي هيأت لنشوء تناقض جديد، حيث تقدمت البنية التحتية، بينما تعمق الطابع المحافظ للبنية الفوقية، وهذا هو جذر الأزمة الأخرى، أزمة التقدم.
إذن يمكن القول، أنه بنتيجة التكوين المتخلف (السابق للرأسمالية) الذي كان يسم المجتمع السوفيتي، كان ضرورياً، أن يسير التقدم في صيرورة معقدة، متناقضة، تخرجه عن بساطة التقدم الذي حددته الماركسية لتحقيق الاشتراكية (سيطرة الطبقة العاملة المتحولة إلى أغلبية على السلطة، إلغاء التناقض بين الشكل الاجتماعي لعملية الإنتاج، والتملك الخاص لها، بتكريس الملكية الاجتماعية، وتعميم الرفاق)، ولا شك في أن هذا التعقيد يقود المجتمع إلى "منزلقات" لا بد منها، لا يمكن تجاوزها. إن القسر في تحقيق التصنيع ضرورة، لتجاوز البنية الإقطاعية، لأن التصنيع يحتاج إلى التراكم الرأسمالي([19]) الذي ينشأ أول ما ينشأ في الزراعة، كما يحتاج إلى الأيدي العاملة، المأسورة ضمن العلاقات الإقطاعية. وكان ذلك يفترض تفكيك الريف و"نهبه"، ولقد تحدّد شكل التفكيك هذا، وكذلك شكل "النهب"، بطابع الفئات التي أصبحت هي السلطة في السنوات بين 1917 و 1929، فإذا كان الحزب البلشفي يضم فئات من المثقفين، ويمتلك قاعدة في الطبقة العاملة، كما كان يضم فئات فلاحية، فقد أفضى وصوله إلى السلطة إلى أن تتشكل أغلبية ريفية، من الفلاحين، أو من الفلاحين "المتمدنين" عن طريق التعليم والعمل في المدينة، وبالخصوص تحولهم إلى عمال، أصبح لها تأثيرها في السلطة ذاتها، وكما أشرنا سابقاً ظهر هذا التأثير في الدولة، حيث أفضت إلى تعميم أساليبها في الحكم، وفي الإيديولوجيا، حيث تشكلت إيديولوجيا مثالية (في شكل اقرب إلى اللا هوت) رغم أنها تنهل من الماركسية. رغم أن السلة المكونة من كل هذه الفئات كانت تحقق مهمات اشتراكية.
هنا يتحدد موقع ستالين بالذات، كمركز لـ"اندغام" كل هذه التأثيرات، ومحقق المصالحة بين الماركسية والإيديولوجية اللا هوتية، التي كانت بالكاد تُخترق بالفكر البرجوازي، وبين مصالح الطبقة العاملة بتحقيق الاشتراكية، واندفاع الريف لتجاوز تخلفه. فهو يحمل حلم الحزب القديم (الحزب البلشفي) حتى وهو يلغيه لكي يؤسس حزب السلطة، ذاك "الجيش" المنضبط المتراص، كما أسماه هو، ونقصد حلم تحقيق الاشتراكية، التي كان يختزلها في انتصار الملكية الاجتماعية، وسيادة دكتاتورية البروليتاريا، لكنه كان يحقق هذا الحلم بأساليب الريف، أنه يحققه بأدوات ريفية، وفي مجتمع مشبع بالإيديولوجية "البطريرطية"، بمعنى أنه لم يكن يستوعب مفاهيم العصر الحديث بعد، سوى لدى قطاعات مدينية. وبالتالي كانت هذه الأساليب متوافقة مع الضرورة، ضرورة التطوير القسري، وتحقيق الاشتراكية. ولا شك في أن هذا التوافق بين الأساليب وتحقيق الاشتراكية، التي تتضمن دكتاتورية البروليتاريا، أعطى لهذا المفهوم معنى آخر غير المعنى الأصلي له، حيث أصبحت دكتاتورية البروليتاريا تعني "الاستبداد الشرقي"، بينما كان شكل الحكم هذا نتاج الظرف المحدد.
لهذا لا يمكن اعتبار أن ستالين انحرف عن الماركسية، أو عن توجه الحزب، بمعنى أنه حالة فردية، فعل ما فعل بإرادة شخصية، بل أنه تكثيف لظاهرة، عنوان لظاهرة، عبرت عن هذا الالتقاء المركزي والمتناقض لمهمات ومشكلات وبنى واقعية، التقاء الحلم بالواقع، والتقاء الماركسية بالإيديولوجية اللا هوتية التي تحكم وعي الريف في بنية إقطاعية، والتقاء المهمات الديمقراطية والمهمات الاشتراكية، والتقاء الطبقة العاملة والفلاحين في السلطة. وهذه الالتقاءات المتناقضة في جذر بنية المجتمع الإقطاعي (والذي كان بالكاد يهتز أمام التغلغل الأسمال)، لكن الطامح للتقدم. المتخلف لكن الذي استطاعت إيديولوجيا حديثة (الماركسية) اختراقه. ولقد انتصر لأنه كان مؤهلاً للتعبير عن كل هذه المتناقضات، حيث أضعف الحزب بتدعيم السلطة، ومن ثم ليعيده في صيغة حزب السلطة. واضعف الريف بأدوات ريفية، من اجل أن يحقق التصنيع، وهزم الطبقة العاملة لكي يؤسس طبقة عاملة ضخمة العدد. لقد كان مع الخيار اللينيني، لكنه بعد موت لينين، وقف مع خيار بوخارين الداعي لتطوير الزراعة (لتحقيق التراكم الأولي من خلال تطوير الزراعة)، ثم انقلب عليه حينما لمس أنه أفضى إلى تشكل طبقة من الريف هي التي مركزت التراكم الأولى بيدها، وباتت مصالحها تتناقض مع مصلحة الطبقة العاملة، ومع حلم التقدم الصناعي. ليطبق برنامج تروتسكي الداعي للتصنيع السريع، والذي كان قد رفضه قبل ذلك، لكنه حققه بشكل عنيف، وعن طريق إعادة "ترتيب" الحزب والدولة، بتهميش الطبقة العاملة والمثقفين فيهما (وحققه أيضاً على جثة تروتسكي، وكل قيادات الحزب) ولكن أيضاً- إلغائه الملكية الخاصة وبالتالي بتحقيق الاشتراكية.
لقد كان بحق مؤسس اشتراكية "البنية البطريركية"، لكنه كان – أيضاً – محقق التقدم الصناعي، والاقتصادي عموماً، وفي نفس الوقت محقق التقدم الثقافي العام (التعليم، التقدم العملي، تحديث الوعي)، وهو ما أنجزته الرأسمالية بعد عقود من انتصارها([20]) وبالتالي فقد أسهم في إنجاز المهمات التي تطرحها البنية المتخلفة، ليحقق التكافؤ في قوى الإنتاج، وينقل المجتمع إلى مرحلة جديدة، لها طبيعتها المختلفة. حيث اتسمت بحركية عالية في اتجاه تحقيق التقدم العام للمجتمع، من خلال تصفية البنية الاقتصادية الاجتماعية القديمة، وبناء الصناعة والتحديث الثقافي، لتتأسس بنية اقتصادية اجتماعية جديدة، يغلب عليها الطابع المدني الحديث (توسيع الطبقة العاملة، وغلبة الفئات المتعلمة). هذه هي صيرورة التقدم التي بدأت بالفعل منذ الثلاثينات، والتي كانت تطرح مشكلات جديدة، خصوصاً أنها تلازمت مع استمرار نمط السلطة البطريركية، مما كان يفضي إلى نشوء هوة بين البنيتين التحتية والفوقية واتساعها، حيث كان المجتمع يسير خطوات هائلة إلى الأمام، في نفس الوقت الذي تكرس فيه نمط السلطة المستمد من "الوعي الريفي"، من "البنية الريفية"، إذن، لقد انقلبت المعادلة، حيث أخذت في التشكل بنية حديثة، لكنها تحكم برأس "ريفي"، بعدما كانت البنية القديمة تقاد برأس حديث.
وهذا هو التناقض الذي طبع المرحلة مذاك، وأفضى إلى نشوء مشكلات عميقة، تراكمت خلال العقود الأربعة وأفضت إلى الانهيار. بدأت هذه المشكلات بحالةِ من الاغتراب السياسي ولتفضي إلى نشوء أزمة اقتصادية شاملة، أجبرت السلطة البيروقراطية على التفكك، وبالتالي إلى انهيار الشكل القائم، ونشوء سلطات جديدة، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بفعل "الصراع" القومي الذي كان مكبوتاً فيه([21]) لكنها ولدت من رحم السلطة القديمة، إنها بيروقراطية السلطة القديمة الأشد نزوعاً للتملك والنهب. وإذا كانت هذه المشكلات قد تتالت، وتبلورت في مراحل مختلفة، فإنها مجتمعة أفضت إلى انهيار.
فأولاً: يمكن أن نتحدث عن ظاهرة الاغتراب السياسي، ونعتقد أنها مظهر الأزمة الأول، حيث أدت ديناميكية التطور الاقتصادي إلى تحقيق تقدم مضطرد للشعب، بتأمين العمل، وتوازن الأجور والأسعار، والتعليم والضمان الصحي، وكانت هذه نقلة هائلة لشعب كان يعيش حالة فقر مدقع وتخلف عميق. لقد اشتغل الاقتصاد وفق قوانين جديدة، قامت على أساس تطوير سريع للصناعة، وتحديث للزراعة وكانت هذه الخطوات توفر مصادر دخل لقطاعات واسعة من الشعب، مما حسن من مستواها المعيشي، ونقلها من مرحلة الكفاف في ظل سيطرة الإقطاع إلى مرحلة جديدة، وفي هذه المحلة لم تكن أزمة الاقتصاد قد طرحت بعد، على العكس من ذلك، ورغم ما يمكن أن يحدد الآن من أخطاء بخصوص السياسة الاقتصادية والتخطيط، فإن تسارعاً كبيراً في التطور عاشه الاقتصاد السوفيتي، وهو التسارع الذي حقق انتقاله إلى مرحلة الدولة الصناعية الحديثة. ورغم فظاعة الممارسات الستالينية في الثلاثينات (التهجير القسري للفلاحين، إعدام قيادات وكادرات الحزب، ضبط المثقفين)، فقد انحصر الشعور بكل ذلك في قطاعات محددة لم تستطع فعل شيء أمام دينامية التقدم المتحقق في المستوى الاقتصادي.
لكن هذا التقدم بالذات، كان يؤسس لنشوء حالة من الاغتراب السياسي، حيث كان تمدين المجتمع بتدمير العلاقات البطريركية، ونشوء طبقة عاملة حديثة، وتعميم التعليم في المجتمع، كان يفضي إلى نشوء نمط من الوعي الاحتماعي مناقض لنمط السلطة السائدة، أي نشوء علاقات طبقية حديثة، غدت تتناقض مع العلاقات البطريركية التي ترسخت في بنية السلطة وحيث أصبح الشعور بالفردانية (الاستقلال الفردي)، والنزوع للتعبير عن الذات، مرادفين للشعور بالحاجة إلى تغيير نمط السلطة القائم على اساس الشمولية (تذويب المجموع في واحد، وتحول الواحد من تجريد إلى شخص، هو الحاكم)، والنابذ لكل ميل انقتادي أو تمايزي، وحيث تنتفي فيه أية إمكانية للتعبير السياسي عن الذات، سواء على شكل أحزاب أو نقابات، أو حتى على شكل أفكار وآراء أو على شكل نشاطات محددة (إضرابات، احتجاجات، مظاهرات). على الرغم من أن التطور الذي أصاب المجتمع كان يؤسس لمثل هذه الحاجة، سواء نتيجة تشكل شرائح اجتماعية جديدة، لديها تطلعاتها ومطامحها وأفكارها، أو لأن مصالح الطبقة العاملة كانت تفضي إلى نشوء تمايزات داخلها، تفرض الحاجة إلى وجود تعبيرات سياسية أخرى، وبالتالي فقد أفضى تشكل "المجتمع المدني" من جهة، تشكيل وضع طبقي جديدة، إلى حاجة عارمة لنمط جديد من السلطة.
إن تطور المجتمع أفضى إلى الشعور بالحاجة إلى تجاوز الوحدة القسرية التي فرضتها السلطة على المستوى السياسي (الحزب، النقابات، الصحافة، التعليم.)، من اجل تاسيس نظام تعددي، لكن السلطة الشمولية كانت تكبح هذا الميل، عن طريق قوة القمع التي تشكلت في سياق تاسيس الدولة الشمولية مما كان يدفع فئات متزايدة من الشعب، التي لم تكن بعد تشعر بأزمة اقتصادية، إلى الاغتراب، إلى الشعور بالتناقض متزايد الحدة مع بنية السلطة القائمة، في إطاره السياسي فقط، مما كان يطرح مسألة الديمقراطية بحدة متزايدة([22]).
وإذا كان خروتشوف قد وجه نقداً قاسياً لستالين سنة 1956، خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، مبرراً "الفظاعة" التي مارسها، فقد تجاهل أن هذه الممارسة كانت نتاج طبيعة النظام السياسي، بالذات، وليست نتاج "انحراف" شخص، وهو ما كان يرمي إليه خروتشوف، لأنه كان يهدف إلى تكريس سلطة الحزب الواحد، والطابع الشمولي للسلطة، وبالتالي فقد عجز عن معالجة جوهر المشكلة التي طحت وقتذاك، وهي بالأساس مشكلة نظام سياسي بمجمله (الوحدانية فيه). لقد أنصبت محاولته على معالجة "الأزمة الأخلاقية" الناتجة عن الممارسات التي حدثت في الثلاثينات، وعلى طبيعة الممارسات القمعية التالية لذلك، والتي كان الشعور بفظاعتها قد تعمق. لنؤكد أن هذا النقد، لم يكن سوى نقد أخلاقي للتسالينيةن يهدف إلى إنقاذ البيروقراطية الحاكمة، بتبرئتها من كل تلك الممارسات، وبالتالي تأكيد سيطرتها بعد موت ستالين. ورغم صحة هذا النقد، فلا بد من الانطلاق، من أن هذه الممارسات هي من فعل البيروقراطية الحاكمة ذاتها، وليس من فعل ستالين وحدة، رغم أهمية دور ستالين.
إذن، نتجت ظاهرة الاغرتاب السياسي عن التناقض بين السلطة الشمولية (البطريركية) والمجتمع الذي ينزع نحو التمدن. ولقد كان يتفاقم كلما تعززت المدنية، وتماسكت السلطة بطابعها البطريركي. وإذا كان الاتجاه الداعي للديمقراطية قد عبر عن نفسه من خلال فئات من المثقفين والأكاديميين وبعض قطاعات الطبقة العاملة، إلا أنه كان يتسع ويتعمق، ليطرح منذ الستينات مهمة دمقرطة المجتمع بتكريس التعددية. وربما كان النزوع "المتهور" الذي نشأ بعد الانهيار، والاندفاع الداعم لأي "مقاول" ينادي بالديمقراطية، هو تعبير عن مدى الإحساس بالحاجة إلى الديمقراطية والتعددية، والذي كان من الأسباب الأساسية التي أطاحت بالاشتراكية، وأظهرت وكأن الديمقراطية هي البديل "الحقيقي" للاشتراكية.
المستوى الثاني للأزمة، وتمثل في ظاهرة الاغتراب الاقتصادي. وإذا كانت السنوات الأولى من التطور الصناعي قد أفضت إلى تحقيق تقدم عام في الوضع المعيشي للشعب عموماً، فإن السنوات التالية، قد أفضت إلى تحقيق شكل من أشكال التمايز "الطبقي". ولقد بدأت هذه الظاهرة ما بعد ثورة اكتوبر مباشرة لكن بشكل فردي ومحدود([23]) لكنها تعمقت واتسعت بعد التحول في بنية الحزب والسلطة منذ أواسط الثلاثينات، بعدما انتهى "الحزب المناضل" وأخذ يتشكل "حزب السلطة"، من الفئات ذات الأصول الريفية، التي تعلمت لتشكل الفئات الجديدة في المجتمع، حيث أصبح هدف الحصول على امتيازات في أساس انتمائها إلى الحزب، الذي أصبح ممر تشكيل البيروقراطية الحاكمة. وبالتالي سعت من خلال سيطرتها على المراتب الأساسية في السلطة، والاقتصاد، إلى تعزيز امتيازاتها، ومراكمتها بشكل مضطرد. وإذا كانت لا تستطيع التملك الخاص نتيجة إلغاء الملكية، فقد سعت بشكل حثيث إلى تعزيز الامتيازات التي تستطيع الاستحواذ عليها، وربما تعززت هذه الظاهرة عن طريق توزيع الميزانية العامة للدولة، حيث أخذت البيروقراطية تستحوذ على قسم متعاظم منها، وتهمش من المخصصات المتعلقة بالوضع المعيشي للشعب (الأجور، التأمين الصحي، التعليم..) وبالخدمات العامة. حيث ظهرت البيروقراطية الحاكمة كفئة متميزة، في بنية المجتمع، ذات امتيازات متزايدة باستمرار، في نفس الوقت الذي حافظ فيه الوضع المعيشي للشعب على ثبات كامل لعقود (ثبات الأجور والأسعار)، مما أظهر تمايزاً في المستوى المعيشي بين الفئتين (البيروقراطية والشعب)، استمر في الاتساع، وتبدى واضحاً منذ السبعينات.
ولقد أوجد هذا التمايز تحليلات تقول بتشكل طبقة جديدة. لكن نقطة ضعف هذه التحليلات أنها تتجاهل أن هذه "الطبقة الجديدة" لا حق لها في التملك، وبالتالي فإن أقصى ما تستطيعه هو "البذخ"، هو التصرف في ميزانيات التي تتضخم، وهو – بالتالي – تعميم للاستهلاك، لا يفضي لتبلور طبقة رأسمالية، وهذا ما توضح بعد الانهيار، حيث قاد النزوع الرأسمالي أشخاص، هم أعضاء في الحزب الشيوعي لا يملكون، ولم يسندوا، وهم يقبضون على السلطة، من قبل رأسماليين، بل كان الشعب سندهم. وربما بدأت تتشكل طبقة رأسمالية في المرحلة التالية للانهيار، مستفيدة من الفوضى، ومن الحق بالتملك الذي لم يصبح قانوناً بعد، لكنه أصبح مشروعاً، ومن ثمّ أصبحوا هم زعماء المافيا، وملاك المصانع والسماسرة..إلخ.
لذا فإن التمايز "الطبقي" المتحقق، لم يكن حقيقياً، ولا عبّر عن نشوء طبقات، لكنه أفضى إلى نشوء "صراع طبقي"، حالة من حالات الصراع الطبقي. لقد كان هذا التمايز وهمياً من حيث الملكية، فلا حق بالملكية، لكنه كان حقيقياً من حيث المستوى المعيشي، وهذه الحالة هي التي أوجدت صيغة التناقض بين "الطبقات" الذي كان يتوسع كلما توسعت امتيازات البيروقراطية الحاكمة، وكلما حافظ الشعب على ثبات وضعه، إلى الحد الذي بدا فيه وكأنه "صراع طبقي".
إذن، فإذا كان تحكم البيروقراطية بالسلطة السياسية، أفضى إلى الاغتراب السياسي لدى الشعب، وجعل مطلب الديمقراطية، بما يعنيه من إقرار بالتعددية وحرية الرأي، وحرية تشكيل الأحزاب، والحرية الفردية، مطلباً عاماً، فإن تحكم البيروقراطية بفائض القيمة، وتوزيعه بشكل غير متكافئ، قد أفضى إلى الاغتراب الاقتصادي، نتيجة الشعور "الوهمي" بالتمايز الطبقي.
المستوى الثالث للأزمة، يتعلق بوضع الاقتصاد عموماً، الذي كان قد شهد دينامية عالية في الثلاثينات والأربعينات، والخمسينات، حيث استطاعت البيروقراطية الحاكمة تطوير الصناعة تطويراً حقيقياً، وحققت ما يعرف في عملية التطور الصناعي، بمرحلة التوسع الأفقي، حيث تأسس المجتمع على أساس الصناعة، ولقد أنهضت هذه الخطوة مجمل قطاعات الاقتصاد، ومجمل بنية المجتمع. لكن أزمة بدأت منذ أواسط الستينات، تعمقت في السبعينات، لكنه انفجرت بشكل عميق منذ بداية الثمانينات، ولقد تمظهرت الأزمة في تناقص الدخل الإجمالي، والعجز عن الإيفاء باحتياجات الاقتصاد، (الديون والتضخم) وبالتالي باتت البيروقراطية الحاكمة عاجزة عن إعادة إنتاج ذاتها.
ويمكن تحديد أسباب ذلك في عنصرين، الأول يتعلق بطبيعة البنية المتكونة، والثاني يتعلق بأزمة تطور قوى الإنتاج، والعجز عن الانتقال من مرحلة التوسع الأفقي، إلى مرحلة التوسع العامودي، وضمن هذه المسالة تطرح مشكلة العجز عن تحقيق "الثورة العلمية التكنولوجية".
ففي المجال الأول، يمكن الحديث عن بحث البيروقراطية، التي وسعت من امتيازاتها إلى الحد الذي قادها لأن تكون عبئاً على المجتمع، لقد زائدة، حيث ارتفعت نسبة الرأسمال المنفق في "البذخ" في المصروفات الاستهلاكية، مقارنة بالرأسمال المنفق في إعادة بناء وتوسيع قوى الإنتاج، بما فيها العمال، مما أفضى إلى عجز قوى الإنتاج، ليس عن زيادة الدخل الإجمالي، بل والحفاظ على مستوى متواز مع النمو الاجتماعي العام. وبالتالي غدت الدولة غير قادرة على الالتزام بالحقوق الاجتماعية المقررة، وكذلك غير قادرة على استمرار سباق التسلح، وأكثر من ذلك، غدت عاجزة عن إعادة إنتاج بيروقراطيتها. ولقد حلت البيروقراطية هذه الأزمة التي توضحت في الستينات عن طريق احتياطات الاتحاد السوفيتي من النفط والذهب، خصوصاً بعد الارتفاع الهائل في أسعار النفط بعد عام 1974 لكن هذه الأزمة تفجرت بقوة أكبر بعد تراجع احتياطات الذهب، واستقرار، ثم تراجع أسعار النفط، وتراجع الاحتياطات النفطية ذاتها. وبالتالي لم يعد من الممكن حلها عن طريق البيروقراطية ذاتها.
كما أدى نشوء التمايز "الطبقي" إلى حدوث شكل من أشكال "الحرب الطبقية" بين الطبقتين" المتصارعتين، لكنه اتخذ شكل "الحرب السلبية"، تمثلت في "الهروب" من العمل، مما كان يفضي إلى تدني الإنتاجية بنسب كبيرة وبالتالي كانت هذه "الحرب" تعزز تناقص الدخل الإجمال، مما كان يعمق من أزمة الدولة عموماً، ومن أزمة البيروقراطية الحاكمة خصوصاً، لتطيح بها بعدما أقدمت على تقديم تنازلات عديدة (سياسة البيرويستريكا) من أجل إعادة إنتاج سيطرتها.
والمجال الثاني يتعلق بتطوير القوى المنتجة ذاتها. ولقد أشرنا سابقاً إلى انحدار وضع القوى المنتجة، لأن البيروقراطية الحاكمة، لم تعد معنية بتطويرها، كما فعلت في المراحل الأولى، لأنها غدت معنية بـ"نهب" الفائض لذا فقد اعتبرت أن القوى المنتجة اتخذت شكلها النهائي، كما اعتبرت أنها أنجزت مهمتها "التاريخية" في هذا المجال، بينما سرعت في رفع مستواها المعيشي وبالتالي فإن البحث في أسباب عدم تطوير القوى المنتجة مرتبط مباشرة بهذه المسالة، لكن حينما نتحدث عن عدم تحقق "الثورة العلمية التكنولوجية" التي كانت ضرورة فرضها التطور الصناعي الداخلي كما فرضتها الظروف العالمية، من أجل أن يحافظ (ولا نقول أن يتقدم رغم مشروعية ذلك وضرورته أيضاً) الاتحاد السوفيتي على موقعه في بنية تطوير قواها المنتجة تطويراً هائلاً. حينما نتحدث عن هذه المسألة نلمس أسباب أخرى منعت البيروقراطية عن السعي من أجل تحقيقها.
ولا شك في أننا ننطلق في هذه المسألة من قناعتنا بمقدرة الاتحاد السوفيتي على تحقيق هذه "الثورة"، لأننا لمسنا تحقيقها في مجال الصناعة العسكرية، وبالتالي كان من الممكن تحقيقها في الصناعات المدينة، ولا ش: أنه حتى لدى الرأسمالية، تحقق التقدم في الصناعات العسكرية قبل أن يتحقق في الصناعات الأخرى، التي انتقل إليها بعد ذلك، وتحديد هذه المسألة يهدف إلى كشف زيف الآراء التي هولت من عجز الاتحاد السوفيتي عن تحقيق "الثورة العلمية التكنولوجية"، وربطت هذا العجز بالاشتراكية بالذات، باعتبار أن التقدم العلمي والتكنولوجي، هو من اختصاص الرأسمالية. أي أن هذه الآراء تعيد المسالة إلى خطأ بنيوي في الاشتراكية، وهذا مجافٍ للحقيقة ومضلل لأنه يخفي السبب الكامن وراء "العجز" عن تحقيق التقدم العلمي في الصناعة عموماً، بعد تحقيقها في الصناعة العسكرية. لكنه أيضاً يؤكد على القدرات الخارقة التي تمتلكها الرأسمالية!!
لقد وصل التقدم العلمي في الاتحاد السوفيتي إلى مرحلة تسمح بتحقيق "الثورة العلمية التكنولوجية"، على ضوء التطور العام في الثقافة والتعليم عموماً، وفي الصناعة خصوصاً. وتوضح ذلك في الصناعات العسكرية إلى الصناعة عموماً؟ ربما يتوضح هنا تأثير الصراع العالمي على تطور الوضع الداخلي، حيث فرض الاهتمام العالي بتطوير الجيش، والحفاظ على سرية هذا التطور، فرض النزوع إلى فصل الصناعات العسكرية عن الصناعات المدنية، وإحاطة الأولى بسرية تامة، واعتبار أن كل تقدم يتحقق فيها، يتعلق بقضايا الاستراتيجية العسكرية. ولا شك في أن في ذلك قدر من الحقيقة، وربما كان من الأسباب التي جعلت بعض قطاعات البيروقراطية والحزب، تقبل بالعزل بين الصناعيين، والحفاظ على استقلالية كل منهما، لكن لابدّ من ملاحظة أن هذا السبب شكلي إلى حد كبير، وكان يخفي مصالح البيروقراطية ذاتها، التي اعتبرت أن التطور المتحقق في الصناعة هو نهاية المطاف، لأنه أصبح الصيغة المثلى لتحقيق مصالحها، وتبرير سيطرتها، وضمان حصولها على الامتيازات، بينما كان تحقيق "الثورة العلمية التكنولوجية" يعني الحاجة إلى تحقيق تحول حقيقي في بنية السلطة ذاتها، في صيغة الإدارة، وفي حجم البيروقراطية، وفي صيغة الحكم، وكذلك في وضع القوى العاملة، لأنها تفضي إلى تقليص حجم العاملين في مختلف قطاعات الصناعة.
باختصار، كان تحقيقها يفرض إعادة بناء المجتمع والدولة، وهذا ما كانت ترفضه البيروقراطية الحاكمة، لأنه كان يفضي إلى انشقاقها من جهة، نتيجة الحاجة إلى خفض حجمها، ويفضي إلى التخلي عن "النظام البطريركي"، وإقرار التعددية من جهة ثانية. كما يفضي إلى إيجاد أساس لتشكيل حركات احتجاج شعبية نتيجة نشوء البطالة من ثالثة.
ولا شك في أن هذا التكوين البيروقراطي، والامتيازات التي حققتها، جعلاها تدافع عن "الواقع القائم"، عن البنية المتشكلة، في مواجهة صيغة تجهلها، ولكنها تحمل مؤشرات لا تروقها، فإذا كانت غير قادرة على خفض حجمها، فإنها ترفض إعادة صياغة النظام السياسي، لأن ذلك سوف يهدد امتيازاتها، ويعددها بالإجمال. لهذا تذرعت بمختلف الأسباب "الأمنية" لمنع تحقق التقدم التكنولوجي في الصناعة المدنية، مما أفضى إلى تخلف قوى الإنتاج، الأمر الذي أفضى بدوره إلى تعميق أزمة الاقتصاد، والى نشوء أزمات "مكملة"، منها أزمة تناقص السلع (أزمة الاستهلاك)، أزمة التضخم والمدينونية، وانهيار قيمة الروبل.
إذن لقد وصل الوضع إلى المرحلة التي كان قد حددها لينين، وهو يتحدث عن "الأزمة الثورية، والتي أعاد لوكاش لتأكيد عليها، حيث لم تعد الطبقة الحاكمة قادرة على الاستمرار وفق الصيغة ذاتها، كما أن الشعب لم يعد قابلاً باستمرار الوضع القائم. لكن تحقق الحل، على عكس ما كان يجري في الأمم الرأسمالية، وحسب تصور لينين، بأن تفككت البيروقراطية الحاكمة، وهي تسعى لإعادة إنتاج ذاتها، فسيطرت فئة منها، تحمل أراء وتصورات مناقضة لكن ما كانت تطرح طيلة عقود (الديمقراطية والرأسمالية)، وطردت أخرى. ولم يتحقق ذلك بدون مساعدة الشعب، الذي وعلى خلفية الأزمات التي يعيشها (أزمة الديمقراطية، أزمة التمايز "الطبقي"، الأزمة الاقتصادية..)، وبفعل "حلم" صاغه انطلاقاً من معارضته للسلطة القائمة بما هي سلطة اشتراكية، و"بطريركية"، وأملاً في تحسين ظروفه، ساند الاتجاه الرأسمالي، ذاك الاتجاه من البيروقراطية الحاكمة، الذي لم يعد يرضى بالامتيازات فقط، بل اندفع للحصول على التملك الخاص، مغلفاً كل ذلك بخطاب ليبرالي، وبحديث جياش عن الديمقراطية، ولقد ساند هذا الاتجاه حلماً بأن يحقق له "الجنة الموعودة"، جنة الرأسمالية، حيث تتلازم الديمقراطية والرخاء الاقتصادي، لهذا وبعد أن كانت البيروقراطية الحاكمة قد أقرت حق الانتخاب دعم كل من دعا إلى نبذ الاشتراكية واقر بأنه سوف يعمل من أجل انتصار الرأسمالية، فتحقق الانقلاب الكبير الذي أنهى الاشتراكية، في المستوى السياسي، أي أنه أنهى السلطة الاشتراكية، ولأنه أنهى السلطة الاشتراكية فقط، فقد أسس لمرحلة من الفوضى الشاملة.
وبالتالي فإذا كانت البنية الفوقية متقدمة عن البنية التحتية في السنوات 1917-1929، وعملت على إنهاضها، بتصفية النمط الإقطاعي، وتحقيق الثورة الديمقراطية في الاقتصاد (تطوير القوى المنتجة) وفي السياسة (حلّ المسالة القومية، إعادة بناء الدولة بتأسيس دولة حديثة)، وإذا كان تطابقاً قد تحقق منذ أواسط الثلاثينات بين البنيتين، بإلغاء الملكية الخاصة وضمان المستوى المعيشي للشعب (العمل، الصحة، التعليم..)، فقد أصبحت البنية الفوقية، بعد ذلك، متخلفة عن البنية التحتية، وأدى تحولها من أداة لتحقيق التقدم إلى وسيلة لتكريس ما تحقق، وسعيها لوقف الصيرورة على اعتبار أن ما تحقق هو "نهاية التاريخ"، أنه الشكل الأرقى، والنهائي للتطور التاريخي، أدى إلى نشوء أزمة عامة في المجتمع، بدأت بنشوء ظاهرة الاغتراب السياسي (ظاهرة البحث عن الديمقراطية)، ثم ظاهرة الاغتراب الاقتصادي (ظاهرة السعي من أجل إلغاء التمايز "الطبقي" وتحسين الوضع المعيشي)، ومن ثم أزمة الاقتصاد بمجمله، العميقة إلى الحد الذي أفضت فيه –وبالترافق مع الظاهرتين هاتين- إلى تدمير البنية الفوقية، التي بدت على ضوء كل تلك الأزمات، وعلى ضوء الدور الذي تحددت فيه، أنها زائدة، زائدة لابدّ من أجل استمرار الصيرورة، لقد كان الانهيار، إذن، ضرورة حيث كان لابدّ من استئصال الزائدة، لكي تستقيم الصيرورة، ولقد أبانت الأزمة، أنها من العمق بحيث لم يكن من الممكن حلها دون تدمير البنية الفوقية برمتها.
وإذا كان "الحلم" في المرحلة الأولى، متقدماً عن الواقع، مستقبلياً، وإذا كان تحقق في صيغة ما، بعد ما ترك الواقع بصماته عليه، ليتحقق التقدم على شكل اندغام بين الحلم والواقع، فقد غدا الواقع، بعد تقدمه، دون "حلم"، لقد أصبحت حركته عفوية، وغدا مساره بلا حلم، وبالتالي كان من الطبيعي أن يتحقق النفي السلبي، ولقد تعزز النفي السلبي هذا، لأن الشعب، ليس لم يمتلك أي حلم، بل أنه حمل "حلماً معكوساً"، حيث حلم بمعكوس الوضع القائم، بسلب الوضع القائم، باعتبار أن الرأسمالية هي المثال لتبدو الديمقراطية وكأنها بديل الاشتراكية، والنزوع الفردي كبديل للتطور الجمعي، وفوضى السوق كبديل لـ "انضباطه"، وأمل الاغتناء الفردي بدل "استقرار" الدخل والوضع المعيشي، والملكية الفردية كبديل للملكية الاجتماعية، لقد كان حلماً معكوساً، سلبياً، حالماً تحقق بدا ككابوس، أنه أبان عن وحشية الرأسمالية، وهي الحالة التي لم يتصور أحد أنها يمكن أن تلازم المثال، الذي كان وردياً، رأي في الرأسمالية ما ليس فيها.
لكن إذا كان نمط الملكية في المرحلة الأولى كان يتراوح ما بين الملكية الاجتماعية – وهي الغالبة – والملكية الرأسمالية – الاقتصاد البضاعي الصغير، الرأسمالية الخاصة، رأسمالية الدولة – فقد غدا منذ أواسط الثلاثينات ملكية اجتماعية. وبعد انهيار البنية الفوقية، انفتحت آليات نهبها فبيعت بأبخس الأثمان لمصلحة البيروقراطية ذاتها، أو رجالات المافيا، أو أهملت (الصناعة، مما يهدد بدمارها. رغم أن الدولة لا زالت تمتلك جزءاً من هذه التركة الهائلة (الصناعات العسكرية..).
إذن يمكن أن نجمل أن الاشتراكية كانت ضرورة في بلد متخلف، لهذا استطاع الحزب الشيوعي الانتصار. لكن التخلف الذي كانت تعانيه روسيا أفضى إلى صيرورة محددة، صيرورة واقعية، فقد كانت مهمة الماركسية تحقيق تطور ديمقراطي، لكن تحقيق هذا التطور كان يؤسس لنشوء سلطة من نمط محدد. سلطة استنفذت إمكانية تحقيق أي تطور، وانغلقت على ذاتها، فارضة الحكم الشمولي. بينما أدت ديناميكية تطور المجتمع إلى انتقاله إلى مرحلة جديدة، أوجدت فيه ضرورة جديدة، تمثلت فيه الديمقراطية، وتحسين الوضع المعيشي. وبالتالي ففي اللحظة التي غدت فيها السلطة زائدة، أصبح التغيير هدف الشعب الأول.
لكن هل هذا المسار حتمي؟ رما، أو بشكل أدق كان حتمياً نتيجة طابع البنية ذاته، حيث فرضت مسيرة التقدم صيغاً أصبحت عائقاً في اللحظة التي تحقق فيها التقدم، فانكسر ولم يستمر، وربما كانت الضرورة تفترض صيغاً أخرى، ولعل الواقع كان يحملها، لكن الحتمية فرضت الصيغ المتحققة، وبالتالي كانت النتيجة حتمية أيضاً. ففي اللحظة التي أصبحت البنية الفوقية فيها زائدة، كان محتماً تدميرها.
ولقد أوضحت المحاولات التي بدأت منذ عام 1985، والتي أسميت (سياسة البيروسترويكا)، هذه النتيجة حيث فشلت كل محاولات تقديم التنازلات التي قامت بها البيروقراطية الحاكمة، والتي بدأت بسيطة، ثم تصاعدت، إلى أنه انهارت الدولة السوفيتية. فتقاسمت هذه البيروقراطية أممها، على اعتبار أنها تسهم في حل المسألة القومية، التي سحقها النظام الشمولي([24]).
وهذه النتيجة تفتح ثلاث مسارات، الأول: كنت قد أشرت إليه سابقاً، إن المسألة المهمة هنا ونحن نناقش مسار التطور في بلد متخلف، ضمن الظرف العالمي المحدد، هي أن هذه الصيغ في التطور، قد حققت مستوى من التقدم الصناعي، أفضى إلى تحقيق التكافؤ في القوى المنتجة، وهذه "النهاية" مهمة، بغض النظر عن طبيعة المسار التالي، أي أنها مهمة لأنها وضعت الأساس لتشكيل دولة حديث بغض النظر أكانت اشتراكية أم رأسمالية. وهي مهمة بسبب من تأثيرها في تكوين النظام العالمي ذاته، لأنها تفضي إلى "توسيع" الأمم الصناعية. وصيرورة هذه العملية سوف تقود إلى تشكيل نظام عالمي صناعي، يلتغي فيه اللا تكافؤ في قوى الإنتاج، وفي محمل العلاقات الاقتصادية والسياسية، مما يحتم انتصار الاشتراكية، لأن فوضى التنافس عندها، لن تحل إلا بإلغاء الملكية الخاصة، وإعادة تنظيم  الاقتصاد العالمي اشتراكياً، وهذا احتمال من احتمالات تحقيق الاشتراكية، وإن كان الاحتمال الأضعف.
والثاني: هل أن هذا المسار محتم في كل الأمم؟ طبعاً حتى وإن كان محتماً، فلا شك في أنه يحقق التقدم، بغض النظر عن كل ملاحظاتنا ونقدنا (الأخلاقي، والسياسي، والاقتصادي)، إنه، كما أشرنا، خيار التقدم الوحيد، لكن نضيف أن هذا المسار، هذه الصيغة في التقدم ليست حتمية، لا ضرورية فقد كانت نتاج ظرف محدد، حاولنا توضيحه سابقاً، ولا شك في أن بعضاً منه لا زال قائماً في العديد من الأمم المتخلفة، لكن التغير الذي حصل في العقد الماضية تحاز ذاك الوضع "البطريركي"، حيث أصبحت كل الأمم المتخلفة رأسمالية، في شكلها التابع، وتهدم "الريف البطريركي" الذي هو أساس ذاك المسار، ليتشكل وضع جديد، يحتاج إلى تصورات جديدة، ويفرض مساراً آخر، ربما هو ليس الحلم الديمقراطي الاشتراكي، لكنه يتضمن بعضاً منه، ونحن هنا نلمس المسار الواقعي، المشروع كما يمكن أن يتحقق واقعياً، الحتمية وليست الضرورة. فالمشروع اللينين كان مشروعاً ديمقراطياً، لكنه سار فوفق المسار الستاليني، بفعل طبيعة ا لبنية ا لواقعية. ولا شك في أن أحد مهمات الماركسيين الأساسية هي الإفادة من التجربة، من بلورة تصورات أعمق، تجعلهم أكثر قدرة عل وهي الحركة الواقعية، التأثير فيا، وفي نفس الوقت وعي تأثير ل واقع في بنيتهم من أجل ضمان مقدرتهم على امتلاك "الحلم"، "حلم المستقبل"، حتى وهم في السلطة. وبالتالي فإن تحليل التجربة الاشتراكية يهدف إلى تجاوز مشكلاها، وليس ملاحظة الجانب السلبي فيها، باعتباره حتمياً، للوصول إلى نتيجة أن الاشتراكية مشروع صد الإنسان أو أنه يحتاج إلى "عالم" آخر، من أجل "الهروب" إلى "حلم ديمقراطي" موهوم.
والثالث: يتعلق بالتساؤل: حول مصير البلدان التي كانت تحكمها نظم اشتراكية، هل انقطعت الصيرورة؟ هل انتصرت الرأسمالية إذن، وتكرست نهاية التاريخ؟
يمكن أن نلاحظ أن البنية التحتية لا زالت تقوم على أساس تملك الدولة للقوى المنتجة، ولا تعدو الملكية الرأسمالية أن تمثل هوامش في الاقتصاد، تتسع في بعض البلدان  وتضيف في أخرى (نستثني هنا ألمانيا)، وهي في روسيا ضيقة، وتنحصر في "تجار السوق السوداء" أصحاب المتاجر، وفي الإمبراطوريات الإعلامية، وبعض شركات  النفط، وكذلك بعض الصناعات وبالتالي فإن الطابع العام لهذه البنية لا زال "اشتراكياً"، وإن "الرأسمالية" تتمركز في البنية الفوقية (الدولة)، رغم أنها غير مستقرة بعد. وبالتالي فإن معكوس الوضع الذي ساء بعد ثورة أكتوبر هو الذي يطبع روسيا راهناً، حيث غدت البنية التحتية تتقدم البنية ا لفوقية، وهذا تناقض يحتاج إلى حسم، فلا بد من المطابقة من جديدة، فهل يتحقق نفي النفي، أم تتكرس الرأسمالية؟ هل تعيد البنية الفوقية صياغة البنية التحتية، وفق رؤيتها، ومطامحها رأسمالياً، أم يحدث العكس، حيث تفرض البنية التحتية نظاماً سياسياً مطابقاً؟ ونفي النفي هنا يتحدد في صيغة للاشتراكية تحل المشكلات القائمة، في البنية التحتية، والبنية الفوقية معاً، لكي يتأسس نظام جديد، يقوم على أساس الديمقراطية الاشتراكية.
إن مطابقة البنية التحتية للبنية الفوقية يتطلب تكريس الملكية الخاصة، إذ كان من الممكن تحقيق ذلك في بعض القطاعات من خلال الترخيص القانوني (ملكية بيوت، النشاط التجاري)، فإنه أكثر صعوبة فيما يتعلق بقوى الإنتاج، حيث أنها مملوكة من قبل الدولة، وهي مصدر دخلها، ولا يمكن وهبها  التالي، لهذا فإن الحل الوحيد لها ضمن سياسة التحول إلى الرأسمالية، هو بيعها نشير هنا إلى أن هذه المسألة لم تتحقق بعد، نتيجة الخلاف حولها في مؤسسات السلطة، ويبدو إن إقرارها لا زال عباً نتيجة ازدواجية السلطة والصراع بين مؤسساتها) لكي تملك ملكية خاصة. هذا يطرح السؤال عن إمكانية تحقيق ذلك؟ حيث أن تحويل الملكية يحتاج إلى الرأسمال، وهو في بلد كروسيا يحتاج إلى رأسمال ضخم خامة القوى المنتجة ذاتها، هو رأسمال لا تملكه قوى محلية، حيث – وكما أشرنا سابقاًً – لم تتبلور فئة رأسمالية من خلال نهب الدولة طيلة العقود الماضية، بسبب من سيادة الملكية الاجتماعية، التي كانت تحرم ذلك. ولا شك في أن الفوضى الراهنة وفرت لفئات حاكمة نهب المجتمع والدولة، بطرق غير اقتصادية (السوق السوداء). لكن في كل الأحوال لن تتشكل فئة قادرة على امتلاك قوى الإنتاج، أو حتى قطاعاتها الأساسية. وكذلك، كما أشرنا سابقاً، فإن الرأسمال العالمي لا يقدم على هذه الخطوة، وهو على العكس من ذلك يسعى للتخلص من البنية  ا لصناعية المتحققة، لكي لا تشكل منافساً جديداً في السوق العالمي، وهو يسعى – بالتالي – إلى تحويل روسيا (وكل البلدان التي حكمتها نظم اشتراكية) إلى بلد تابع، لهذا فهو يدعم الرأسمالية التابعة فيها، يدعم – بالتالي – المافيات والسماسرة.
لهذا يطرح الخيار الآخر، خيار مقدرة البنية التحتية على تأسيس بنية فوقية متوافقة، فهنا تبدو المسألة وكأنها مسألة إسقاط سلطة، فئة حاكمة، وتسويد أخرى، وبالتالي إسقاط نمط وتسويد آخر. وهو ما يرتبط بتطور الأزمة الاجتماعية، والنضال الشعبي الذي تعززه الأزمات العميقة التي ولدتها سيطرة الرأسمالية في المستوى السياسي، وسياساتها الاقتصادية التي أفضت إلى تعميق المشكلات السابقة، بدل أن تحلها (انحطاط الوضع المعيشي للشعب). الذي هزم الاشتراكية فإن تحول الموقف الشعبي، بعد تعمق الأزمات، هو الذي يمكن أن يفضي إلى انتصار الاشتراكية من جديد. وهذه الحركة هي التي تولد نفي النفي بتوسط انهيار الاقتصادي وانهيار والوضع المعيشي للشعب، ولكن فقد حينما يمتلك الشعب حلماً جديداً، حلم تحقيق الديمقراطية الاشتراكية.
هنا يطرح من جديد دور الماركسيين الروس، لكن انطلاقا ً من مقدرتهم على إعادة صياغة المفاهيم والتصورات، وبنية الحزب (الأحزاب)، بحيث تحقق القطع مع البنية القديمة، وتحدد الحلم الجديد.



 
 
 
-8-
 
"الاشتراكية أو البربرية" هي صرخة روزا لوكسمبورع منذ بدية القرن، وهي بنبوءتها في نفس الوقت، لكنها اليوم الشعار الأكثر أهمية، الشعار الذي يعبر عن حقيقة المسار العالمي. وإذا كانت هذه الصرخة ذات أهمية مذاك، أي منذ أن أطلقتها روزا لوكسمبورغ، فإن انهيار النظم الاشتراكية، وأزمة الإمبريالية جعلا منها شعاراً حاسماً. ولقد أبان التطور العالمي، إن الأمم المتخلفة التي لم تتطور رأسمالياً في القرن التاسع عشر، سارت إما نحو الاشتراكية، وبالتالي حققت التكافؤ في القوى ا لمنتجة، وفي التطور "الحضاري" العام، أو تحولت إلى دول تابعة متخلفة في إطار النظام الإمبريالي العالمي، وبالتالي عجزت عن تحقيق التطور في قواها ا لمنتجة، وفي بنيتها "الحضارية".
اليوم، بعد انهيار العديد من ا لنظم الاشتراكية، يتبين كم هي صحيحة صرخة روزا لوكسمبرغ: الاشتراكية أو البربرية، ويتوضح أكثر فأكثر كم هي شاملة. حيث لم تعد الأمم المتخلفة وحدها المعنية بالاختيار بين الاشتراكية والبربرية، بل أن العالم كله يعيش هذا الاختيار. فالإمبريالية، وهي تعيد إنتاج ذاتها عالمياً، وبالتالي تكرس العالم كما هو مصاغ راهناً، تقطع إمكانات التطور الرأسمالي  (تطر قوى الإنتاج رأسمالياً) في الأطراف، وتحدد لنفسها وللعالم خياراً بين الاشتراكية أو البربرية، فهي وفق البنية ا لتي تشكلها لذاتها وللعالم تفرض ذلك. ولا شك في أن البلدان التي كانت تحكمها نظم اشتراكية، غدت تقف أمام اختيار: إعادة الاشتراكية أو البربرية.
وإذا كان الخيار الاشتراكي لا زال ممكناً، وضرورياً، في الأمم المتخلفة. وفي الأمم التي حكمتها نظم اشتراكية، فإنه يبدو مستحيلاً في الأمم الإمبريالية ذاتها، حيث أن انتقالها إلى مرحلة الإمبريالية، وطبيعة صياغتها للعالم، ولبنيتها القومية (المحلية – أي في المركز) من خلال تهميشها لحركة الصراع الطبقي، وطبيعة التكوين الطبقي الذي تشكل فيها اعتماداً على سيطرتها العالمية (تقليص حجم الطبقة العاملة، وتوسع الطبقة الوسطى – البيرقراط والتكنوقراط – لتشكيل الأغلبية) أفضى إلى تهميش القوى الطامحة إلى تحقيق الاشتراكية، أسس لبنية طبقية متوافقة مع التكوين الإمبريالي في المراكز وفي الأطراف.
إن هذه الأمم هي الأكثر بعداً عن تحقيق الاشتراكية، وأي تأكيد على إمكانية انتقالها إلى الاشتراكية، أولوية ذلك وأسبقيته، على اعتبار أن تكوينها الرأسمالي متوافق مع النص الماركسي الذي يحدد تحقيق الاشتراكية (أي متوافق مع المثال الاشتراكي) ليس سوى "خطاب" مضلل يكرس البنية الراهنة للعالم. إنها أمم تنزع نحو البربرية، لأن البنية الطبقية العامة فيها، متكيفة مع ا لبنية ا لراهنة للعالم، إنها أمم تنزع نحو البربرية، لأن البنية الطبقية العامة فيها، متكيفة مع البنية الراهنة للعالم، لأنها نتاجة، بالتالي لا تطرح أي من الطبقات برمتها، لأنه سوف يفقدها مصادر استمرار قواها المنتجة، ومصادر المراكمة الهائلة لرأس المال (المواد الأولية، الأسواق، نشاط الرأسمال المالي) وبالتالي الحظ من المستوى المعيشي لشعوبها. لكن، ربما أنهض تحرر ا لأمم المتخلفة، وتلازمه مع تفاقم أزمات الإمبريالية، الطبقة العاملة لكي تتجاوز وعيها الزائف القائم على أساس القبول ببنية العالم، وتتجاوز مصالحها الضيقة، لترى أن مصلحتها مرتبطة بمصلحة العالم بمجمله، وأن مصالحها لا تتحقق إلا بتحقيق الاشتراكية. لكي تجنب ذاتها، وتلك الأمم بمجملها مصيراً مأساوياً، شهدنا مثيلاً له في مختلف مراحل التاريخ (مصير الأمم التي أنهضت الإمبراطوريات/الحضارات القديمة).
إذن الاختيار هو: الاشتراكية أو البربرية:
البربرية تعني استمرار سيطرة الرأسمالية التابعة، من خلال استمرار النظام الإمبريالي العالمي. وتعني الاشتراكية السعي من أجل القطع مع هذا النظام، من خلال الدور الذي يجب أن يعلبه الماركسيين ولا شك في أن "الصيرورة العفوية" أو "التطور الموضوعي"، لا تفعل سوى تكريس ذاك النظام، لأنها لا تحدد لنفسها صيغة تتجاوزه، بل أنها تسعى – في الجوهر – إلى تحقيق التطور الرأسمالي، وهذه صيغة باتت مستحيلة منذ انتصرت الإمبريالية (ولقد كانت مستحيلة قبل ذلك في بعض المناطق). وكما أوضحنا سابقاً فإنه حتى الصيغ القسرية، تفشل في تحقيق تطوير القوى المنتجة، وبالتالي التطوير الشامل للمجتمع، رغم أنها حققت بعض التقدم.
ولا شك في أن الالتحاق بالنظام الإمبريالي العالمي، وطابع ا لنهب الذي تمارسه الرأسمالية المسيطرة فيه، ومن ثم تكريسها للرأسمالية التابعة في الأمم المتخلفة، وما يجره ذلك من نهب تلك الأمم، مما يؤدي إلى تعميق الصراع الطبقي فيها، يفضي بالضرورة إلى نشوء نضالات شعبية، وصراعات محلية، مناهضة للنظام الإمبريالي العالمي، وللرأسمالية المحلية، وهي صراعات تشتد كلما اشتد النهب. لأنه يعمق عملية التمايز الطبقي، ويفضي إلى إفقار قطاعات من الشعب، إفقاراً مطلقاً، ويفضي بشكل أكبر إلى إفقار الطبقة العاملة. ولا شك في أن النضالات الشعبية المتكلة عل أساس ذلك، كانت قوام الحركات المعادية للاستعمار، حركات  التحرر الوطني، التي أفضت إلى تشكل تجارب  "رأسمالية الدولة".
واعتماداً على هذه النضالات انتشرت الاشتراكية. وفي الأمم التي عجز فيها الماركسيون عن وعي الواقع، وعن النضال من أجل انتصار الخيار الماركسي، فشلت في تحقيق تقدمها، وعاشت متاهات البربرية. لهذا نؤكد على الخيار الماركسي، على ضرورته، وإن كنا نؤكد أن مهمته في المرحلة الأولى تتمثل في "ردم الهوة"، وتحقيق المهمات الديمقراطية. ونحن نرى أن الخيار الماركسي ضروري من أجل تطوير القوى المنتجة، تحقيق التكافؤ في القوى المنتجة. لكن لا بد من أن نوح أنه في سياق حل هذه المسألة ماركسياً، ولكي تنجح، لا بد من حل كل المسائل (المشكلات) الأخرى، ونقصد بالتحديد المسألة القومية (وبضمنها تندرج مسألة الهوية والاستقلال، والتوحيد القومي)، التحديث الثقافي، المسألة الديمقراطية، والوضع المعيشي للشعب، فالماركسية ليست إيديولوجياً تقنية، بل إنها خيار طبقي، إذن سياسي وإذا كنا قد ناقشنا مسألة التقدم، بمعنى قوى الإنتاج، فلأنها في جوهر عملية التقدم، وليس لأنها منفصلة عن كلية عملية التقدم.
إن حل مشكلات الأمم المتخلفة في مستوياتها الاقتصادية الاجتماعية، والسياسية الثقافية مرتبط أشد الارتباط بدور الماركسية، وبالخيار الماركسي لهذا سنردد مع روزا لوكسمبرغ: الاشتراكية أو البربرية ونؤكد مع فيدل كاسترو: الاشتراكية أو الموت. ونضيف: الاشتراكية يجب أن تنتصر.
 
 
 
 
 



([1])سلامه كيله: "فوضى الأفكار الماركسية واختيارات التطور الاقتصادي الاجتماعي - دار الينابيع - دمشق - ط1 /2001.
([2])في هذا المجال يستفاد من نص لماركس يقول: "إن أياً من التشكيلات الاجتماعية لا تهلك قبل أن تتطور كافة القوى المنتجة التي تفتح هذه التشكيلة مجالاً كافياً لها".  انظر كارل ماركس "اسهام في نقد الإقتصاد السياسي"ترجمة انطوان حمصي،منشورات وزارة الثقافة - دمشق 1970 ص26
([3]) لا بد من ملاحظة الجانب السياسي في تطور هذه البلدان، بمعنى أنه لا بد من ملاحظة طابع الصراع الذي نشأ في تلك المنطقة ضد الاشتراكية حين البحث في أسباب تطورها والآن يتوضح هذا الهدف، حيث لم تعد المراكز الرأسمالية مضطرة إلى هذه الصيغة، منذ بدء تطور العلاقات مع الصين، وخصوصاً بعد انهيار النظم الاشتراكية، لهذا بدأ أنها تتخلى عنها أكثر من ذلك، دفعتها نحو الهاوية.
([4]) ولقد قادت هذه المنافسة إلى عملية اندماج ضخمة بدأت منذ التسعينات، لكن دون أن تلغي المنافسة ومنعكساتها المؤدية إلى الإفلاس.
([5]) لابد أن نلاحظ أن مسافة تفصل بين نشوء الإمبريالية (نهاية القرن التاسع عشر) و"التخلي" عن الاستعمار (بعد الحرب العالمية الثانية تحديداً) وبالتالي فإن فعل القوانين الاقتصادية أخذ معناه بعد الاستقلال" وحينها تأسس نظام التبعية كبديل عن الاستعمار).
([6]) نشير إلى أن الإمبراطوريات القديمة كلها اتخذت هذا الشكل، مما ساعد قوى قبلية على تدميرها.
([7]) هذا التصور يقوم على أساس رؤية غير ماركسية على الإطلاق، تنحو منحى الوضعية التي لا ترى من الواقع سوى الظاهر فيه، أما كل الواقع، أما حقيقة (جوهر) الواقع، أما تعدد الواقع وتناقضه، ما هو قائم فيه وما هو ممكن، ما هو عقلاني، وما هو غير عقلاني، فهي عاجزة عن استيعابه.
([8]) رغم كل الملاحظات التي يمكن أن نبديها هنا، ورغم التشكيك في السياسات التي تتبعها أنظمة هذه الدول، وبالتالي احتمالات تحولها إلى الرأسمالية، خصوصاً فيما يتعلق بالصين.
([9]) هذه الفكرة أشرت إليها عام 1983، في كتاب "نقد الحزب" دار الجليل – دمشق، قبل أن يتنامى شعور بإمكانية انهيار الاشتراكية.
([10]) يمكن العودة إلى مؤلفات لينين خصوصاً "مهمات الاشتراكية الديمقراطية الروس" 1897، كذلك "خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية" 1905. ولا شك أن تحليل لينين للإمبريالية هو الإطار النظري لهذه الرؤية رغم أن صياغته تأخرت قليلاً عن رؤيته لتطور روسيا. بهذا الخصوص يمكن مراجعة "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" دار التقدم - موسكو.
([11]) مسكين لينين، فلقد بدا، بكل علمه وسعة ثقافته وبكل مجهوده لوعي الواقع الروسي والعالمي كقزم في نظر "ماركسيين" لم يعرفوا ألف باء الماركسية. وكل ما حصلوه هو شذرات مشوهة روجتها الماركسية السوفيتية على شكل "كراريس" لا مكان لها سوى سلة المهملات. وفي معالجة هذه المسألة يمكننا أن نلاحظ كيف تنقد الماركسية العامية التي هي ليست سوى الماركسية الرائجة تنقذ الماركسية الأصلية التي ليست سوى الماركسية العالمة أنه نقد فلاح القرون الوسطى لنتاج عالم في الذرة فهل لنا أن نتخيل هذا النقد؟
([12]) حول ذلك يمكن مراجعة نقدي لهذا الاتجاه في: سلامة كيلة "فوضى الأفكار: الماركسية واختيارات التطور الاقتصادي الاجتماعي" – دار الينابيع – دمشق – ط1 – 2001.
([13]) ويمكن القول: ميل عالمي، مصلحة عالمية، وبالأساس ضرورة عالمية.
([14]) كارل ماركس "رأس المال" – م1 ج1 – دار التقدم – موسكو – ط1 /1985    (ص13)
([15]) انظر معالجة انجلز لهذه الفكرة في انجلز "فيورباخ" ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" – دار الطبع والنشر باللغات الأجنبية – موسكو – د.ت – ص7-9.
([16]) رغم أن هذه العلاقات سلبية على الاقتصاد السوفيتي، لأنها قامت على أساس تقديم المساعدات، ومراكمة الديون، والأسعار المتدنية للسلع.
([17]) نضيف إلى هذه المهمات وقف الحرب العالمية الأولى، التي كانت روسيا طرفاً فيها، ولقد كان السلام أحد أهداف ثورة أكتوبر.
([18]) انظر، لينين "رأسمالية الدولة في مرحلة الانتقال الى الاشتراكية " دار التقدم – موسكو1983 (ص48).
([19]) حينما نتحدث عن التراكم الراسمالي، لا نقرنه بالرأسمالية، فنحن نتحدث عن رأس المال – الثابت والمتغير – دون أن نتحدث عن شكل ملكيته الرأسمالي – أي البرجوازي-.
([20]) حول هذا الموضوع يمكن مراجعة: جورج لوكاتش، "البديل الحقيقي، ستالينية أم ديمقراطية اشتراكية"- دار الفارابي – بيروت – 1990.
([21]) لا شك أن حلاً للمسألة القومية قد تحقق حينما انهارات الإمبراطورية القيصرية، وتشكل الاتحاد السوفيتي، كاتحاد لأمم، لكن التطور الذي تحقق وانعش النزوع الديمقراطي، أعاد طرح المسألة القومية من جديد، لتحتاج إلى حل أكثر استيعاباً لعناصر المسألة القومية.
([22]) هذه المسألة بالذات هي التي يستنتجها لوكاتش في سياق بحثه عن أزمة المجتمع السوفيتي حين كتب مؤلفه "البديل الحقيقي" سابق الذكر فهو يرى – وهو يكتب هذا المؤلف سنة 1969 – أن الديمقراطية هي مشكلة هذا المجتمع، لهذا يطرح بديلاً للستالينية، هو الديمقراطية الاشتراكية.
([23]) حول هذه المسألة يمكن مراجعة رواية الكسندر كولنتاي "حب عاملة النحل" مؤسسة الأبحاث العربية بيروت، وهي توضح بداية نشوء هذه الظاهرة منذ العشرينات.
([24]) لن نبخس العامل القومي حقه، ونحن نحلل مسألة انهيار الدولة السوفيتية، فرغم أن الحل الذي تحقق بعيد ثورة أكتوبر سنة 1917، والذي على ضوءه تشكلت الدولة السوفيتية كاتحاد لأمم مختلفة، قد امتص العامل القومي هذا، فوجدت الشعوب أنها تصيغ وضعها وفق مشيئتها، فإن تطورها المضطرد، قد أعاد الشعور بأنها لم تحل مشكلتها القومية، لأنها تحتاج إلى صيغة جديدة، تعيد بناء الدولة السوفيتية بما يحقق مطامحها وشخصيتها. لهذا أسهمت في تفكيك الدولة الموحدة.




#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق حدود-الوجود- الأمريكي والاستراتيجية البديلة -1
- نقاش حول العولمة في موضوعات المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الس ...
- رحيل الأسد: إطلالة على التغيير المحتمل
- العـولمة آليات إعادة إنتاج النمط الرأسمالي العالمي
- الخيار الفلسطيني من الدولة المستقلة إلى الدولة ثنائية القومي ...
- في النقاش الماركسي الراهـن ضرورة الخروج من فوضي الأفكار
- الماركسية والثورة الديمقراطية ثورة أم ...........إصلاح؟!
- الماركسية والعقل الأحادي
- ملاحظات على ورقة المهام السياسية المقدمة إلى الإجتماع الثالث ...
- نقد التجربة التنظيمية الراهنة
- ملاحظات عن ماركس والعولمة
- عسكرة العالم: الرؤية الأمريكية لصياغة العالم
- بعد العراق نهاية عصر و بدء آخر
- صدام مصالح و ليس صدام حضارات - وضع الثقافة في الحرب الإمبريا ...
- جريدة الكترونية هائلة يمكن أن تلعب دورا كبيرا في هذا الوضع ا ...
- الانتفاضة والسياسة
- الماركسية في الصراع الراهن
- تساؤلات حول الراهن السوري
- ســؤال الازمة فـي سوريــا تـجـاوز الـبـنـيـة الـشـمـولـيـة
- اليسار ومشروع النهضة في الوطن العربي


المزيد.....




- الشرطة الإسرائيلية تفرق متظاهرين عند معبر -إيرز- شمال غزة يط ...
- وزير الخارجية البولندي: كالينينغراد هي -طراد صواريخ روسي غير ...
- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران
- بالفيديو.. اتساع نطاق التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غز ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الاشتراكية أو البربرية