أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح جبار محمد - صدى العصي















المزيد.....

صدى العصي


صالح جبار محمد

الحوار المتمدن-العدد: 2555 - 2009 / 2 / 12 - 04:12
المحور: الادب والفن
    



داهمني الخوف وارتعاش ساقي المضطربة رهبة تمد خيطا رفيعا يكاد يفصلنا عن الرحيل والبقاء في آتون البؤس ... بقيت مطرقا بصمت وذهول

تطلعت بوجه أخي شاهدته يذرف دموعا تنحدر على وجنتيه لتبلل لحيته . لم أدرك سر بكاؤه ثم سمعته يتلو آيات قرآنية ... وجهه ا لرائق بصفاء
روحي يفيض عليه بعيدا عن الاستلاب والخواء المتمترس في الأرجاء..
أخرجنا من قفص الاتهام بشدة تحركنا إلى وسط القاعة الفسيحة انتبهت لعمق المأساة التي حلت بنا بقي صوت أحدهم يجهش بالبكاء بصوت عال ..
أولئك المحيطين بنا بدو مبتهجين راح أحدهم يستهين بنا ضاحكا :
خونة .. تظنون أنكم أبطال ...

تابع بنشوة غريبة في التشفي وهو يدفعنا نحو السيارة التي كانت بانتظارنا :
أسرعوا أولاد ...
أراد إنهاء عمله باستخدام ألفاظ نابية باستهتار واضح بمشاعرنا المنهارة
جمعنا في رواق طويل و كلمات الجلاد ترن في رأسي المثقل من الوهن فارقني شقيقي لحظة دخولنا البناية الكئيبة أومأ لي قبل رحيله لم أفهم أيمائته فقد كنت واقعا تحت شعور الصدمة
بعدها تم زجنا في معتقل مزدحم لم أجد مكانا يسعني مع الكم الهائل من المعتقلين .. اضطررت للجلوس وسط السجن

أيقنت أن رحلة المعاناة بدأت ولابد من التكيف لهذا الواقع المرير ربما لسنوات لاأعرف مداها أو تنتهي رحلة العمر قبل أن تنقضي ...

فكرت قد أكون تخلصت من جلسات التعذيب والصراخ المستمر وروائح الأعضاء المحترقة من الحوامض التي تسكب على أجسادنا ...

تابعت بنظراتي المنكسرة السحن المحيطة بي لم أكن مطمئنا لأحد وسط هذا القلق المفرط اشتقت لرؤية أخي الذي اختفى ربما إلى الأبد .

بكيت بصمت تحسست الد بق يكسو جسدي النحيل و رائحة العفونة تملاء الفضاء الموحش غرقت في حزن سرمدي وتوق للنفاذ ..

أقترب أحدهم خالط الشيب لحيته وفي عينيه التماعة حادة خاطبني بعبارات ودودة :

هل الأخ جاء منقولا من زنزانة أم ماذا ..؟!
كلا ... محكوم بالمؤبد ...
مسكين ...

تابع حديثه وأصابعه تعبث بلحيته :
غدا سيرسلون في طلبك وسيتم طرح أسئلة مبهمة عليك حاول تجنبها بذكاء

أصغيت باهتمام واضح .. لأنه كسر حاجز الرعب الذي يلفني بغلالة أيقنت أ نه صاحب تجربة في عالم السجون سألته مستفهما :
كيف أحاول الإجابة كما قلت بذكاء ...؟!

حدق في عيني أضاف مسترسلا :

أذا سألوك هل تحب المشمش .. أجبهم : لاأحب المشمش بل أحب نواتها ...

أردف قائلا : هل فهمت .. ؟!

لازال عمودي الفقري منحنيا من الجلوس دون أن اتكأ على شيء يسعف ظهري أو حتى التمدد على الأرض المكتظة بالأجساد ...!

مضغت حديث الرجل المبهم .. تابعته عائدا لمكانه في الزاوية البعيدة لاحظت احترام السجناء له بحضور مبهر لشخصيته المفروضة على البقية

تأرجحت صور مبعثرة في ذاكرتي المتعبة عن الليالي التي أقضيها ساهرا لاقتناص لحظة معينة أستطيع فيها الخروج مع أخي لنخط الشعارات المناوئة على حيطان الحي في الصباح نرى ردة الفعل البادية على وجوه المارة ورعب أزلام السلطة من خلال تشنجهم وعصبيتهم الواضحة يكيلون السباب لمن فعل ذلك و يمسحون كتاباتنا بالأصباغ ...

لم نفكر في الهروب كنا مصرين على المضي لنهاية الشوط .. في المقابل كانوا أكثر إصرارا على مطاردتنا بدون تراجع وعزيمة لاتعرف الكلل ...

زمن طويل من التحدي اللذيذ سافرنا معا إلى مدن بدت لي مجهولة وأسماء لم أتعرف عليها بسهولة لكنها تتقاسم الهم معنا كرغيف الخبز تعرفنا على أسماء سرية كثيرة كلمات سر أصبحت جوازات عبور نحو الممنوع ...

أيام شيقة مكتنزة بالحوادث حلوة رغم مرارتها تبقى محفورة في جدران الذاكرة رغم وهج المعاناة ...

انتبهت للموقف المتأجج الصراخ يعلو بهذيان ينزف سطوة الآخرين بدت واضحة المعالم في سلوكهم ليبدو مثل قاطرة ضخمة تسحب بقايا أناس تركوا خلف الشمس بلا رحمة ...

بدأت آلف المكان والناس المحشورين فيه .. حتى أصبحت جزءا من الحركة البطيئة للعبادات المستمرة والأحاديث الدينية المتواصلة .. تنسيني معاناتي والضغوط النفسية جراء العيش وراء أسوار العتمة ..

أكتشف نسيج الحركة المتغلغلة في الموقف كان ( يحيى ) يدير المجموعة بإشارة منه .. الأمور تسير وفق ما يريد ...

يجلسون حلقات يتحدثوا بهمس مريب ينهضوا لصلاة الفجر بنشاط واضح يخلق جوا من النقاء وسط الركام المتشبث ...
بعد فترة لم أستطيع تقديرها أخبرني أحدهم :
مبروك ... قررنا إدخالك معنا ...

لم أفهم عبارته كنت منشغلا ببعض حاجياتي قال ذلك ومضى مبتعدا نبعت داخلي تساؤلات عديدة .. لكني فهمت أنهم أطمأنوا لمكوثي معهم أرادوني عنصرا يستطيعون الوثوق به ..

لم أهضم علاقتهم فقد كان خضوعهم المطلق ل( يحيى ) يبدو ساذجا من تقبيلهم يده كل صباح وهو يقف مزهوا مثل صنم ..

ثقوب روحي تتسع كهوة ثوب با ل من نافذة الوهم رأيت جداول عذاباتي تمتد على مساحات التأرجح المتأزم بين ما يواجهني من إحباط طقوسهم الشديدة الوطأة حين أخبرني عريفهم :
عليك بتحقير نفسك
قلت مستفهما : كيف .. ؟!
أشار بيده نحو المرحاض , قائلا :
أذهب إلى هناك وضع بعض الفضلات على وجهك .!

صعقني الطلب كان نوع من الجنون صيغة من صيغ الإذلال المقيت .. أشمئزت نفسي لم أعد أطيق البقاء معهم إزاء إصرارهم وفي الجو المشحون برعاف لايتوقف هلوسة لاتنتهي

كنت أدرك أن ضغط السجن يجعل من نزلائه أكثر كآبة و يأسا من الحصول على الخلاص .. لكني لم أع أن الانحراف يصل لهذا المدى ...
واجهتهم بعدم الإذعان لأوامرهم ... اصطدموا بعنادي ما أشعل الشجار بيننا ...

نقلت على أثرها إلى عنبر أخر بعد حجزي انفراديا لمدة لأ امد لها في الردهة الجديدة كان المكان نظيفا بطريقة غريبة استوقفني رجل في الخمسينات من العمر .. قصير القامة تعلو قسمات وجهه علامات تنم عن طيبة مع دماثة خلق عال فهو لايتوانى من أداء أي عمل ..
لمرات عديدة كان يغسل ملابسي رغم عدم قبولي لكنه يصر بتوسل مخجل فأستسلم لطلبه .. رغم شعوري بالخجل الشديد ...

في الليل أراه يستمر بصلاته التي لاتنقطع حتى الهزيع الأخير .. كسب احترام الجميع بتواضعه الجم ..وثقتهم بمقدرته في كسب رضا هم كان بمثابة لولب يجمع الكل حوله من خلال أحاديثه المستمرة وثقافته الواسعة ..
كان يحمل صفات جميلة وزاده الشيب وقارا .. في صباح يوم غابت ملامحه رأيت في أخر القاعة ستارة من شراشف النزلاء متدلية أشبه بخيمة وقف أمامها رجلين للحراسة ...

تطلعت في عيني زميلي المجاور لعلي أعثر على الإجابة مما أرى لكنه أستغرب الحدث مثلي .. تقدمنا نحو الرجلين القابعين أمام الستارة لنسألهم عما يدور.. فأجاب أحدهم :
أن الرجل الخمسيني , في خلوة مع ربه ...

من يصدق الخرافة فلابد من القناعة بها .. ليعرف أهمية ما يعمل .. حدثت نفسي تطلعت لما يجري أمامي أنها أسطورة قادمة من عالم خرافي .. لتحاك في رأس واهن من الإحساس بالمهانة ...

أنه انحطاط في التفكير وسيخرج علينا ببدعة تمليها عليه حالته النفسية المتعبة .. فالسلوك الشاذ يبدو مألوفا لوقع المعاناة ..

سمعت نحيبه يتصاعد ببطء ثم أشتد وسط صمت السجناء هدأ بكاؤه .. وظل ينشج لفترة طويلة قام بعدها للصلاة بصوت عال ..

أستمر على هذا المنوال لعدة أسابيع بقيت ومعي مجموعة صغيرة نتابع المشهد المثير للجدل اعتقدنا أن مثل هذه الأمور عادية جراء الحجر والمعاملة القاسية الشعور بالمهانة يولد إفرازات تطفو على السلوك للتعبير عن حجم الاضطرابات التي يعيشها المعتقلون ...

أزداد ضجيج الرجل الخمسيني وصلواته التي بدا أنها لاتنتهي أبدا ...

كان يستمر بالحديث في خلواته بصوت واضح وجلي عن الخلاص الذي لابد له من المجيء صار يصرح بقرب قيام الساعة .. وأنه الرجل الموعود للقيام بالمهمة الإلهية


وفي ظهيرة قائضة أرتفع صراخ الرجال المحيطين به ... بتكبيرات وتهاليل وصلوات مجلجلة , بأن الرجل الخمسيني , أضحى هو المنقذ ...!
ساد ارتباك مفزع وأيقنت أنه بدء بتصدير

جنونه في القاعة حيث الفزع المخيف فصار بعضهم يتفوه بجمل تدل على اقتناعهم بما يحصل ليسري الشعور المفعم بالريبة التي ستقودهم للهاوية المحققة ..


ولأول مرة كنت أفكر في مواجهة التخبط بعنف يجعل المخبول يصحو ليعرف خطأ مسعاه .. تحركت مع مجموعتي الصغيرة نحمل عصي غليظة كنا خبأناها لحسم الانحراف الذي يدك أطنابه في الفناء المكتظ والموحش من الغربة والخوف وحين تهاوت العصي على جسده ...

صرخ مستغيثا .. لم يشفع له صراخه حتى يعلن توبته
وإزاء تخلي المحيطين به بعدما رأوا إصرارنا بالضرب المتتابع .. صاح المعتوه , وهو يقفز وسط القاعة

التوبة .... التوبة لقد كنت أكذب عليكم ...

وسط الذهول والدهشة كانت الصدمة بادية على الوجوه البليدة من فرط الانحطاط الذي يأسر تفكيرهم ... لم يبق بعدها سوى الرجل الخمسيني ممددا يتلوى من فرط الضرب الموجع وصدى صوت العصي يرن وهي تلقى على الأرض...




#صالح_جبار_محمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السلام عليكم
- صاحب اللحية الكثة


المزيد.....




- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح جبار محمد - صدى العصي