أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الشيء مسرحية من ثلاث فصول















المزيد.....



الشيء مسرحية من ثلاث فصول


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2488 - 2008 / 12 / 7 - 10:37
المحور: الادب والفن
    


الطبعة الأولى 1966م
فصول المسرحية
الفصل الأول : الزنزانة رقم ( 1 ) في المعتقل العسكري- في يوم من أيام الشتاء .
الفصل الثاني : المنظر السابق نفسه مع بعض التعديلات .
صباح يوم من أيام الربيع – بعد حوالي الشهر .
الفصل الثالث : المنظر السابق نفسه – بعد حوالي خمسة أشهر .

أشخاص المسرحية :
الرئيس : آمر المعتقل العسكري
الملازم : مساعد آمر المعتقل .
نائب الضابط : مساعد الملازم .
فائز الكمالي : صحفي .
محمود سامي : طبيب .
فلا ح الفخري : مهندس زراعي .
نوري الصالح : قاضي .
فاخر الجابر : أستاذ جامعة .
أكرم فتحي : ضابط .
خليل الهاني : موظف .
أدمون ياقو : مصوّر .
حسون محمد : قصّاب .
جنكيز مصطفى : طالب جامعي .
عيوسي علوان : عامل .
عباس خريبط : جندي حارس الزنزانة رقم 1
المعتقل الجديد .
شرطة جنود .

الفصل الأول
(زنزانة ضيقة لا تزيد مساحتها على تسعة أمتار مربعة ، ذات نافذة صغيرة في أعلى الجدار المواجه للباب . الزنزانة عارية من الأثاث كليّاً .
حينما ترفع الستارة يسود الزنزانة ظلام قاتم ، ثم يظهر نور تدريجي حتى يتخذ ضوء مصباح خافت النور يتدلى من السقف وقد علاه الغبار .
قبل أن ترفع الستارة تنطلق من بعيد موسيقى هائجة ، وفي أثناء رفع الستار يعلو هياجها تدريجاً حتى تغدو صاخبة يصاحبها أزيز الرصاص . ثم تستحيل تدريجاً إلى موسيقى كئيبة في حين يهدأ أزيز الرصاص حتى يصير طلقات متباعدة . تظل الموسيقى الكئيبة طوال الفصول وتتلون حسب المواقف .
يتسلل نور الفجر من النافذة الوحيدة ويبدّد الظلام شيئاً فشيئاً ، ثم ينعكس على الجدار المواجه لها شعاع ضئيل من أشعة الشمس0
الزنزانة مزدحمة بالمعتقلين ، بعضهم واقف وهو مستند إلى الجدار ، وبعضهم جالس القرفصاء ، والبعض الآخر متربع على الأرض .
الصمت الحزين يخيّم على الزنزانة ، والكآبة العميقة والتعب الشديد يرتسمان على وجوه الجميع .
يُسمع وقع أقدام خارج الزنزانة فينتبه المعتقلون من جمودهم ويبدو على وجوه البعض الفزع والقلق . ينكبّ الحارس على فتح قفل الباب في ضوضاء ثم يُفتح باب الزنزانة ويدخل ثلاثة ضباط ، الأول يحمل رتبة " رئيس " (رائد) ، والثاني يحمل رتبة "ملازم" والثالث رتبة "نائب ضابط " . يحمل " الرئيس " دفتراً صغيراً ، ويتأبط كل من "الملازم" و " نائب الضابط " رشاشة . عند دخول الضباط الثلاثة تنهض طائفة من المعتقلين في تهيّب ، بينما يظل الآخرون غارقين في جمودهم .
يستعرض الضباط الثلاثة المعتقلين بنظرات احتقار ويسود الزنزانة لدقائق جوّ من التوتّر والتوقّع )
0الرئيس : ( وهو يتلاعب بسيجارة في زاوية فمه ) إذن هؤلاء هم الكلاب الذين يتكلمون باسم الشعب !
الملازم : ( في احتقار ) نعم سيدي .. إنهم حثالة الشعب .
نائب الضابط : (بصوت أجشّ) قوادين أولاد القوادة !
(يستعرض الضباط المعتقلين في شماتة وازدراء ) .
الملازم : (يشير إلى شخص قد وضع رأسه بين يديه ) هذا هو فاخر الجابر! (مخاطباً الأستاذ فاخر في شماتة ) مرحباً أستاذ !
الأستاذ فاخر : (يرفع رأسه وينظر في وجه الملازم لحظات ثم يعود إلى إطراقه)...
الرئيس : ( يهزّ رأسه في ازدراء وهو يتفرس في وجه الأستاذ فاخر ) هل أنت فاخر الجابر ؟
الأستاذ فاخر : نعم أنا فاخر الجابر .
الرئيس : ( وهو يسجل في دفتره ) وماذا تعمل ؟!
الأستاذ فاخر : أستاذ في الجامعة.
الرئيس : ( في تهكم ) أستاذ في الجامعة ! جلبتم شهاداتكم من الدول الاستعمارية لتغشّوا الناس وتعبثوا بعقول الطلبة . لكن سمومكم لم تنطل إلاّ على ذوي العقول الضعيفة من طلاب الجامعة.
الملازم : ( وقد طافت على وجهه بسمة شامتة ) هل تتذكرني يا أستاذ ؟
الأستاذ فاخر : ( يرفع رأسه ويطيل في وجهه النظر ) لا !
الملازم : ( في تيه وفخار وهو يختطف نظرات من النجمة فوق كتفه ) كيف لا تتذكرني ؟! كنت تلميذك في السنة الأولى من الجامعة .
الأستاذ فاخر : تلاميذي كثيرون في الجامعة ولا يمكنني أن أتذكركم جميعاً .
الملازم : لكنني كنت شخصية في الصف ، ولا شك أنك تتذكرني . كنت تعتبرني عدواً لك .
الأستاذ فاخر : لا أعتبر طلابي أعداء مهما تكن الأسباب .
الرئيس : ( في حدّة ) كنتم تعادون الطلاب الذي يخالفونكم في الرأي . هذا ديدنكم .
الملازم : إنه ينكر الآن ذلك يا سيدي ، لكنه كان يعاملني معاملة العدوّ لأنني كنت أخالف الآراء التخريبية التي كان يبثّها بيننا . وظللت صامداً أمامه وأمام الأساتذة المخربين أمثاله وتحديتهم جميعاً فكانوا يرسبونني .
الرئيس : ( في احتقار ) مجرمون .
الأستاذ فاخر : ( بهدوء ) لست مجرماً . أنا أستاذ جامعة .
الرئيس : ( في استهزاء ) وإذا كنت أستاذ جامعة !! ما أنت سوى معلّم ، والمثل يقول :"إذا رأيت معلّماً عاقلاً فاسجد له! " كلكم صقعاء !
الملازم : كنتم تدّعون زوراً أنني لا أستحق النجاح . وطالما قلت لي أنت نفسك أنني لن أكون شيئاً في الحياة . وها أنت ترى خطأك . أصبحت شيئاً مهمّاً رغم أنفوكم ( يسترق نظرة سريعة إلى النجمة فوق كتفه ) .
الأستاذ فاخر : ( يهزّ رأسه في صمت ) …
الرئيس : ( في تهكم ) لماذا اعتقلت يا حضرة أستاذ الجامعة ؟
الأستاذ فاخر : لا أدري ، وأنا أسألكم عن سبب اعتقالي .
الملازم : ( يخاطب الرئيس وهو يرمق الأستاذ فاخر بحقد ) كان يلقبني بـ "الغبي" يا سيدي لأنني كنت أتحدى آراءه .
نائب الضابط : ( في هياج ) أتهين سيادة الضابط يا قوّاد ابن القوادة ؟ !
(ينقض على الأستاذ فاخر وينهال عليه رفساً فينكفيء على الأرض وتطير نظاراته بعيداً ) .
الرئيس : أتركه يا ذو النون .. أتركه .. نحن عادلون ولا نؤمن بالعنف .
نائب الضابط : ( وهو يعود إلى موضعه ) قوّاد ابن القوادة !
الرئيس : (مشيراً إلى شخص يقف في احترام بجوار الأستاذ فاخر ) أنت .. ما اسمك ؟
أدمون : أنا سيدي ؟ أدمون يا قو .
( يتقدم منه الملازم ويهوى على رأسه بضربة قويّة فيقفز أدمون متألماً ) آخ .. آخ .. والله سيدي بريء .. والمسيح بريء .
الملازم : قذر ابن القذر ! ابتلينا بكم ! أدمون يا قو .. أأنت أيضا تتكلم باسم الشعب ؟!
نائب الضابط : ( ينهال عليه صفعاً ) قواد ابن القوادة ! أأنت أيضا تتكلم باسم الشعب؟!
أدمون : ( مولولاً ) سيدي.. والمسيح أنا بريء .
الرئيس : بريء !! ها ! انضممتم إلى صفوف المخرّبين ! كفرتم بنعمة البلد الذي آواكم يا شذاذ الآفاق !
أدمون : سيدي أنا بريء .
الرئيس : ( وهو يسجل ) ماذا تعمل ؟ !
أدمون : مصوّر سيدي .
الرئيس : مصوّر ! ها .. مصوّر ! لا شك انك كنت تعلّق صور المخرّبين في واجهة الأستوديو !
نائب الضابط : كيف تعلّق صور المخرّبين يا قوّاد ابن القوادة ؟! ( ينهال عليه صفعاً) .
أدمون : ( وهو يحاول حماية وجهه بذراعيه من سيل اللطمات ) لخاطر الرب .. لخاطر المسيح .
الرئيس : كفى يا ذو النون .. كفى .. سينال هؤلاء المجرمين عقابهم جميعاً فالثورة ستحاكم الجميع بعدالة كاملة . فمن عنده "شيء" نال عقابه ، أما البريء فسيطلق سراحه .
نائب الضابط : ( وهو يتراجع إلى موضعه ) قواد ابن القوادة .
الرئيس : لماذا اعتقلت ؟
أدمون : (متردداً ) هل تضربوني يا سيدي إذا قلت الصدق ؟
الرئيس : تكلم ، نحن لا نعاقب بريئاً .
أدمون : سيدي ، رفضت أن أعطي الجندي الذي اعتقلني إحدى كاميرات المحلّ.
الرئيس : ( مقاطعاً في غضب ) أخرس كلب .
أدمون : خرست سيدي ..خرست .
الملازم : قذر ابن القذر !
نائب الضابط : قواد ابن القوّادة .
الرئيس : ( يستعرض وجوه المعتقلين فيجتذب انتباهه شخص جالس القرفصاء يراقب ما يجري في اشمئزاز ، فيشير إليه متسائلاً ) أنت00 ما اسمك ؟
فائز : (دون أن يبدو عليه الاكتراث ) فائز .
الرئيس : (وهو يسجل ) فائز .. ماذا ؟! ( يرفع رأسه عن الدفتر ويهتف بحدة) لماذا لا تقف يا كلب ؟
نائب الضابط : ( ينقضّ عليه ويصفعه صفعة رنّانة ) انهض قوّاد ابن القوادة .
فائز : ( يقف متثاقلاً وهو يرمق نائب الضابط بنظرات شزرة ) فائز الكمالي.
الرئيس : ( يرفع رأسه عن الدفتر وقد تألق وجهه) فائز الكمالي ! ها ! فائز الكمالي ! أنت لقطة ! ( يتفرس في وجهه لحظات بنظرات شرسة وهو ينقر على الدفتر ) الحمد لله . وقعت في قبضتنا أيها المجرم .
فائز : ( في تعال ) لست مجرماً ولم أحاكم بعد .
الرئيس : وهل أنت بحاجة إلى محاكمة ؟! جرائمك لا تُعدّ ولا تحصى يا كلب . أفسدت عقول الناس بما كنت تبثه من سموم في جريدتك .
فائز : لم أكن أسمم عقول الناس 0كنت أطلعهم على ما يخفى عليهم من حقائق0 وهذا واجب كل صحفي شريف حرّ يكرّس قلمه لخدمة الشعب .
الملازم : قذر ابن قذر . أما يزال لك لسان تتكلم به ؟ كان يجب أن يقطع في الحال . في أي عهد أنت ؟ ! أتحسب نفسك في عهد ما قبل الثورة ؟
نائب الضابط : قوّاد ابن القوّادة . أتحسب نفسك في عهد ما قبل الثورة ؟!
فائز : إنني أدرك جيداً في أي عهد أنا !
الملازم : ( يلتفت إلى الرئيس في دهشة وغيظ) سيدي . لماذا أحضروا أمثال هذا القذر إلى هنا ؟ ! كان يجب أن يرُمى بالرصاص أمام بيته .
نائب الضابط : ( يتخذ هيئة الاستعداد ويُسددّ " رشاشته " إلى صدر فائز فيثير الاضطراب في صفوف المعتقلين ) أأرميه سيدي ؟
الرئيس : ( وهو ما يزال يتطلع إلى فائز في تشفّ وسرور ) لا يا ذو النون00لا 0 من حسن الحظْ أن جيء به إلى هنا0 إنه صيد ثمين لا يستأهل ميتة سريعة . أعددنا لأمثال هؤلاء المجرمين ميتة تليق بهم .
فائز : افعلوا ما شئتم فلن ترهبوني .
نائب الضابط : ( وهو ما يزال في حالة استعداد ) أأرميه يا سيدي ؟ هذا القوّاد ابن القوادة يتكلم بلا أدب .
الملازم : كان يتكلم بلا أدب دائماً . كان صلفاً دائماً .
الرئيس : كم كان يكرهنا ! كان يسبّنا سبّ الضالين !
فائز : لأنكم ضالّون فعلاً .
الرئيس : (وقد استشاط غضباً ) نحن ضالون يا كلب ؟ !
فائز : لست كلباً ، ولكن الذين يعتدون على الآخرين هم الكلاب .
الرئيس : ( يهجم على فائز ويوسعه ضرباً ولكماً ورفساً وقد استشاط غضباً ) أتجسر على شتمنا وأنت في قبضتنا يا كلب ؟
فائز : ( يصرخ وهو يحاول حماية وجهه من الضربات ) فاشست .. فاشست..
( ينقضّ عليه الملازم ونائب الضابط ويشاركان في رفسة ولكمه وهما يصرخان " قذر ابن القذر " و " قواد ابن القوادة " بينما يستمر هو صارخاً "فاشست" ولا يتركونه حتى يسقط على الأرض وقد لوثت الدماء وجهه).
الرئيس : ( وهو يلهث غضباً ) كان يجب أن يقتل هذا الكلب أمام بيته وعلى مرأى من عائلته كما قتُل غيره من الكلاب .. سيكون لنا حساب طويل معه .
الملازم : ( يسير في اختيال) قذر ابن القذر .
نائب الضابط : ( يقف في تأهب ويسدّد رشاشته إلى صدور المعتقلين ) سيدي00لماذا لا
تصدر لي أمر الرمي لأحصدهم جميعاً في الحال ؟! لماذا تدوّخ نفسك بتسجيل أسمائهم ؟!
( يسود الاضطراب صفوف المعتقلين )
حسون : نحن أبرياء .. نحن مسلمون مثلكم .
أدمون : أنا برئ .. والمسيح بريء .
خليل : ارحمونا يا سيادة الرئيس .
الرئيس : أتركهم يا ذو النون .. أتركهم . سنحاسب كل شخص منهم حساباً عادلاً .
نائب الضابط : ( وهو يعود إلى وضعه الطبيعي ) قوادين أولاد القوادة .
الرئيس : سنحاسبكم حساباً عادلاً ، فمن عنده "شيء" نال عقابه ، ومن ثبتت براءته أطلق سراحه . إن ثورتنا ثورة بيضاء قامت لإنصاف المظلومين لا للانتقام من الشعب .
حسون : مولاي ، أنا ما عندي " شيء " .
الرئيس : (يلتفت إلى المتكلم فيقع بصره على شخص ضخم الجسم يرتدي جلبابا طويلاً مفتوحاً ) أنت .. ما اسمك ؟!
حسون : حسون محمد مولاي .
الرئيس : (وهو يسجل ) ماذا تعمل ؟
حسون : كاسب مولاي .
الرئيس : أعرف كاسب 00 عملك ؟!
حسون : قصاب مولاي .
الرئيس : ( يهز رأسه ) ليس فيكم شريف يا كلب .. أنتم القصابون جميعاً غشاشون .
حسون : أنا بريء مولاي .
الرئيس : لا تعرفون الإخلاص لزبائنكم أبداً .. إن لم تغشوهم في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة فلا بد أن تغشّوهم في الرابعة . كلاب .
حسون : ( في حماسة ) أنا والله يا مولاي ما غششت زبائني يوماً . عيب00 لو كنت شرفتني مرة ما ذهبت إلى قصّاب آخر.
الرئيس : ( مقاطعاً في خشونة ) كفى . كفى . هل أحضرناك إلى هنا لتقوم بالدعاية لنفسك ؟!
حسون : لا مولاي .
الرئيس : لماذا اعتقلت ؟
حسون : مولاي في صباح يوم المؤامرة ..
الرئيس : ( مقاطعاً بحدة ) أخرس كلب .. أتسمي هذه الثورة الجبّارة مؤامرة ؟!
الملازم : قذر ابن القذر .. مؤامرة !
نائب الضابط : ( يتقدم منه ويصفعه صفعة رنّانة ) قوّاد ابن القوادة ! أتسمّي هذه الثورة الجبارة مؤامرة ؟!
حسون : العفو مولاي .. صحيح ثورة جبّارة .
الرئيس : (في تهكم ) أي نعم . لماذا اعتقلت أيها البريء ؟!
حسون : مولاي في صباح يوم المؤامرة ..
(ينقض عليه الملازم ونائب الضابط وينهالان عليه لكماً ورفساً وهما يصرخان " قذر ابن القذر " و " قواد ابن القوادة " ) .
حسون : ( يهتف مولولاً وهو يحاول حماية نفسه من الضرب) مولاي الثورة ..أي والله الثورة الجبارة .. لعنة الله على لساني .. والله العظيم جبارة .. مولاي أنا بريء .. والله أنا بريء .. ما عندي "شيء" ) .
الرئيس : (مشيراً إلى زميليه ) أتركاه .. كلب .. مؤامرة ! ( مخاطباً المعتقلين) يظهر أنكم ما تزالون تحسبون أنفسكم في عهد ما قبل الثورة . لم يكن بحسبانكم أن ثورتنا ستكون جبارة إلى هذا الحدّ .
حسون : أي والله مولاي .
نائب الضابط : قوادين أولاد القوادة .
الرئيس : ( يشير إلى شخص قصير يجلس القرفصاء مرتدياً بدلة عمل زرقاء) أنت .. ما اسمك ؟
عبوسي : ( وهو ينهض ) عبوسي علوان .
الرئيس : ( وهو يسجل ) ماذا تعمل ؟
عبوسي : عامل .. أنا بريء . ما عندي " شيء "00 أخذوني من المصنع .
الرئيس : ( وهو يهزّ رأسه بسخرية) بالطبع . كلكم أبرياء . نحن المجرمين ! ولماذا اعتقلوك ؟!
عبوسي : لم يعتقلوني وحدي . اعتقلوا مئات غيري من العمال .
الرئيس : بالطبع ، فأنتم العمال مخّربون جميعاً ( وهو يرميه بنظرات شزرة) ألستم كذلك ؟
الملازم : بلا شك ، كلهم مخّربون قذرون .
نائب الضابط : قوادين أولاد القوادة .
عبوسي : نحن لسنا مخربين00 نحن فقراء مشغولون بعيشتنا .
الرئيس : أتكذبني يا كلب ؟!
نائب الضابط : ( ينهال عليه رفساً ولكماً ) أتكذّب الرئيس يا قوّاد ابن القوّادة؟
عبوسي : ( صارخاً ) أنا بريء .. أنا ما عندي "شيء" 00نحن لا نفهم شيئاً في السياسة .
الرئيس : على كل حال لا تخش شيئاً إن كنت بريئا حقّاً ، فمن عنده " شيء" نال عقابه ، أما البريء فلا خوف عليه . نحن عادلون ولا نظلم أحدا ، وسيقدّم كل واحد منكم إلى محكمة عادلة تحاسبه على جرائمه الكثيرة.
أدمون : سيدي أنا بريء .. سيدي أنا عندي أطفال . متى تحقّقون معي وتطلقون سراحي ؟
الرئيس : ( يلتفت نحوه باحتقار وينهره ) كلب .
أدمون : نعم سيدي0
الرئيس : (يستعرض وجوه المعتقلين باحتقار والسيجارة تتلاعب في زاوية فمه ثم يشير إلى شخص يحاول إخفاء نفسه وراء جاره ) أنت ..
خليل : أنا سيدي ؟
الرئيس : نعم أنت . ما اسمك ؟
خليل : ( يتقدم من الرئيس بتهيّب ) خليل الهاني يا سيادة الرئيس.
الرئيس : ( وهو يسجل ) أين تعمل ؟
خليل : موظف في وزارة التجارة يا سيادة الرئيس .
الرئيس : لماذا اعتقلت ؟
خليل : كان اعتقالي غلطة يا سيادة الرئيس نتيجة وشاية موظف كنت طلبت توقيع عقوبة عليه بسبب إهماله وتقصيره في عمله .
الرئيس : ( في حدّة ) من طلب منك هذه التفصيلات ؟
خليل : العفو يا سيادة الرئيس .
الرئيس : ( بلهجة ساخرة ) كم دخلك الشهري ؟!
خليل : راتبي سبعون ديناراً يا سيادة الرئيس ، وأنا أستحق الترفيع بعد ثلاثة أشهر .
الرئيس : ( ساخراً ) سبعون ديناراً ! ها !
خليل : نعم يا سيادة الرئيس .
الملازم : الرئيس يسألك عن دخلك الشهري لا عن راتبك ، أي أنه يسألك عن مئات الدنانير لتي كنت تنهبها كل شهر من التّجار .
خليل : أنت غلطان يا سيادة الضابط ، فأنا من أنزه الموظفين ، وبإمكانك أن تسأل أي موظف عني .. أنا لا أمس المال الحرام .
نائب الضابط : (يتقدم من خليل ويصفعه عدة صفعات ) كيف يكون الملازم غلطان يا قوّاد ابن القوادة ؟!
الرئيس : ( بحدّة ) ماذا فعلتم بالتّجار ؟! خربتم بيوتهم . لم تكونوا توقعون عريضة من عرائضهم إلاّ مقابل عشرات الدنانير .
خليل : أقسم بالله العظيم يا سيادة الرئيس أنني لم أتقاض يوماً فلساً واحداً عن طريق الحرام .
الملازم : وهل تعرفون الحلال من الحرام أيها القذرون ؟!
الرئيس : والتجارة ؟! ماذا فعلتم بالتجارة ؟! نشرتم الكساد في الأسواق بما وضعتم من قيود لتميتوا التجّار من الجوع.
خليل : اسمح لي يا سيادة الرئيس أن أوضّح لكم هذه النقطة ..
الرئيس : (مقاطعاً) لا داعي للتوضيح الآن . احتفظ بتفصيلاتك الكاذبة إلى وقت المحاكمة 0 الله يعلم كم من فضائح مخزية ستظهر عند محاكمتكم . دمرتم البلاد وسبيتم العباد .
خليل : نعم يا سيادة الرئيس .
الرئيس : ( ملتفتاً إلى ضابط كان يقف في هيئة استعداد بملابسه العسكرية) أنت .. ما أسمك ؟
أكرم : ( وهو يرفع يده بالتحية العسكرية ) الملازم أول أكرم فتحي سيدي .
الرئيس : لماذا لم تلتحق صباح يوم الثورة المباركة بزملائك الضباط المخلصين؟!
أكرم : ذهبت سيدي إلى " وحدتي " حالما سمعت النداء من الراديو ، لكنني اعتقلت عند باب المعسكر .
الرئيس : ( في حدة ) ولماذا لم تكن بجانب زملائك الضباط المخلصين منذ فجر يوم الثورة ؟!
أكرم : لم أكن أعلم بالثورة سيدي .
الرئيس : بالطبع ، وكيف يوثق بالضباط الجبناء أمثالك ؟ ما هي وحدتك ؟
أكرم : " المدفعية " سيدي .
الرئيس : ( ينتفض غضباً ) المدفعية ؟! ( ينقض على أكرم ويوسعه ضرباً ولكماً وصفعاً ) ماذا فعلتم بالضباط المخلصين في " وحدتكم " يا كلب ؟ كم تلقّوا على أيديكم من إهانات !
أكرم : ( يتلقى الضرب بثبات وقد احتقن وجهه) لم أهن زميلاً من زملائي يوماً ولا علاقة لي بهذه الأعمال سيدي .
الرئيس : ( بتهكم وقد استعاد شيئاً من هدوئه ) لا علاقة لك بهذه الأعمال ! ها ! ولهذا اعتقلوك وأحضروك إلى هنا .
الملازم : لو لم يكن له علاقة بتلك الأعمال ما اعتقل في " وحدته " وجيء به إلى هنا .
الرئيس : على أية حال سيكشف التحقيق العادل حقيقته . لن نظلم أحداً ولا نعتدي على الأبرياء .
أدمون : سيدي أنا بريء .. سيدي أنا عندي أطفال .
الرئيس : (يشير إلى شخص واقف بجوار الضابط يقف مرفوع الرأس) أنت .. ما اسمك ؟
جنكيز : جنكيز مصطفى .
الرئيس : ( في استنكار دون أن يدّون اسمه ) ماذا ؟!
جنكيز : جنكيز .. اسمي جنكيز .
الرئيس : (بغضب ) اسمك جنكيز أيها الكلب ؟! ماذا فعلتم بالعرب ؟!
جنكيز : ( في دهشة ) نحن ؟! ماذا فعلنا ؟!
الرئيس : ألا تعلم ماذا فعلتم ؟! أنتم دمّرتم العرب والعروبة . صبغتم نهر دجلة بدماء الآلاف من ضحاياكم حينما احتللتم بغداد .
جنكيز : ( في عجب ) ومتى احتللنا بغداد ؟! بابا ..نحن ما احتللنا بغداد يوماً!
نائب الضابط : ( ينقض عليه وبرفسه رفسات متتالية ) ماذا فعلتم بالعرب والعروبة يا قوّاد ابن القوّادة ؟
الرئيس : ألم تقرأ في كتب التاريخ ماذا فعلتم بالعرب ؟
جنكيز : بابا لا يوجد في كتب التاريخ هذا الشيء . ( ملتفتاً جهة الأستاذ فاخر) هذا أستاذ التاريخ موجود .. اسأله .
الرئيس : وأجدادك التتار .. ألا تعرف عن فظائعهم شيئاً ؟!
جنكيز : بابا أنا كردي .. أنا أجدادي كرد وليسوا تتار.
الرئيس : كلكم تتار . وقد ابتلينا بكم .
الملازم : سنطهر أرضنا منكم يوماً أيها القذرون .
الرئيس : ( وهو يسجل ) وماذا تعمل ؟!
جنكيز : أنا طالب في الجامعة .
الرئيس : ( وهو يرفع رأسه عن الدفتر ويصليه بنظرات شزرة ) من المؤكد أنك كنت من الطلاب المخربين .
جنكيز : بابا أنا لا علاقة لي بهذا الأمر .
الرئيس : ( بحدة ) أأنا أبوك يا كلب ؟! أنا عربي ابن عربي من سابع ظهر .
نائب الضابط : ( يتقدم منه وينهال عليه صفعاً ) تأدّب قواد ابن القوادة .
الملازم : قذر ! أما تزال ألسنتكم طويلة ؟ سنقطعها ونلقمكم إياها .
جنكيز : ( يتراجع نحو الجدار وقد احتقن وجهه وهو يتمتم ) قيناكا.. قيناكا.
الملازم : ( ينقض عليه ويصفعه صفعات رنانة ) أتشتمنا بالكردي يا قذر ؟
الرئيس : أتركه يا خالد .. صدق المثل القائل : " ثلاثة في الأرض فساد ؛ الكردي والجرذي والجراد " .
الملازم : سنطّهر أرضنا منكم يوماً .
الرئيس : ( يشير إلى شخص مستند إلى الجدار) أنت .. ما اسمك ؟
فلاح : فلاح الفخري .
الرئيس : ( وهو يسجل ) ماذا تعمل ؟
فلاح : مهندس زراعي في وزارة الإصلاح الزراعي .
الرئيس : لا عجب أنك اعتقلت فموظفو الإصلاح الزراعي كلهم مخربون .
الملازم : بالفعل كلهم مخربون قذرون .
فلاح : نحن مهندسون وعملنا فنّي لا علاقة له بالتخريب .
الرئيس : (يشتد غضبه ) انتم موظفو الإصلاح الزراعي كلكم مخربون00 لعبتم بعقول الفلاحين السذّج وأوغرتم صدورهم ضد الشيوخ وملاّك الأراضي فأخذوا يناصبونهم العداء ويغتصبون الحاصل ويهملون أعمالهم ويتخيلون أنفسهم شيوخاً وسراكيل ، فتلفت الزراعة وأصبحت أراضي البلاد كّلها بوراً .
فلاح : وما علاقتنا بهذه الأشياء ؟ نحن مسؤولون عن إرشاد الفلاحين إلى الطرق الصحيحة في الزراعة .
الرئيس : ألستم من مؤيدي تحديد الملكية الزراعية وتمليك الأرض للفلاحين ؟! من أين استوردتم هذه الآراء التخريبية يا عملاء ؟! ها ؟! استوردتموها من وراء الحدود !
فلاح : هذه آراء معروفة في كل الدول اليوم ولا تحتاج إلى استيراد من الخارج، ونحن لسنا مسؤولين عنها .
الرئيس : ( وقد اشتد غضبه ) أخرس كلب ، أتريد أن تبثّ آراءك التخريبية بيننا ؟!
نائب الضابط : ( ينقضّ عليه ويصفعه عدة صفعات ) قواد ابن القوادة .
الملازم : يخدعون الشعب بهذه الأفكار البرّاقة .. قذرون !
نائب الضابط : قوادين أولاد القوادة !
الرئيس : ( يستعرض المعتقلين فيقع نظره على شخص يرتدي ملابس أنيقة) أنت أيها المهندم .. ما اسمك ؟
نوري : ( في ترفع ) نوري الصالح .
الرئيس : ( في تهكم ) لماذا أنت مهندم إلى هذه الدرجة ؟
الملازم : (يضحك في سخرية ) يحسب الناظر إليه انه ذاهب إلى سهرة !
نائب الضابط : ( يتقدم منه ويصفعه صفعة رنانة ) أذاهب أنت إلى سهرة يا قواد ابن القوادة ؟
نوري :(محتقن الوجه ) لماذا تضربني ؟! هذه إهانة للقانون وأنا أحتج عليها.
الرئيس : أخرس كلب . أتريد أن تعلّمنا القانون ؟!
نائب الضابط : ( وهو ينهال عليه صفعاً ) أتريد أن تعلّمنا القانون يا قوّاد ابن القوادة؟!
الرئيس : كلاب .. أما تزالون تملكون الشجاعة لتتحدثوا عن القانون ؟! أنتم دستم القانون بأقدامكم ومسحتم به الأرض .
نوري : ( في شيء من الحدّة ) كيف أدوس القانون وعملي هو تطبيقه والحفاظ عليه ؟ !
الرئيس : ( باستخفاف ) أنت ؟ وماذا تعمل أيها الحريص على القانون ؟!
نوري : أنا قاضي .
الرئيس : حقّاً إن المخرّبين مندسون في جميع الوظائف .
نوري : كنت دائما مثال القاضي النزيه ولا يمكن أن أُتّهم بالتخريب .
الرئيس : ( وهو ينقر بالقلم على الدفتر ويهزّ رأسه) سنرى . سنرى إن كانت صادقاً أم كاذباً .
نوري : أنا لا أكذب , وأرجو أن يجري استجوابي بأسرع وقت ممكن ليطلق سراحي حتى يتسنى لي النظر في القضايا المتراكمة فوق مكتبي.
الرئيس : سنرى .
نوري : آمل أن أباشر أعمالي بأسرع وقت ممكن .
الرئيس : (بحدة ) قلت سنرى .
نوري : شكراً .
الرئيس : ( يشير إلى شخص جالس القرفصاء ) أنت .. ما أسمك ؟
الدكتور محمود : (بعدم اكتراث ) محمود سامي .
الرئيس : (وهو يسجل ) ماذا تعمل ؟
الدكتور محمود : طبيب .
الرئيس : طبيب ! ها ! لا شك انك من صنف الأطباء الذين ينهبون أموال الفقراء، أولئك الذين يخدعون المرضى بحقن الماء المقطّر .
الدكتور محمود: الحقن ليست من اختصاصي ، وأنا لا أتقاضى أجراً من الفقراء كما يشير الإعلان على باب عيادتي .
الرئيس : هذه طريقة خبيثة لاصطياد البسطاء الذين تغشّهم أمثال تلك العبارات. لماذا اعتقلت أيها الطبيب النطاسي ؟
الدكتور محمود: قيل لي أن سبب اعتقالي يتعلق بعريضة كنت وقعتها ضد دكتاتور البرتغال سالازار مستنكراً أعماله الوحشية في أنجولا .
الرئيس : تركتم أعمال الأصلية وانشغلتم بتوقيع العرائض . مالك وهذه الأمور؟ أنت طبيب وجدير بك أن تهتم بعملك لا أن تشغل نفسك بالسياسة وتوقّع العرائض ضد حكّام الدول . ما علاقتك بسالازار حتى توّقع العرائض ضدّه ؟!
الدكتور محمود : لأن سالازار دكتاتور يقاسي شعبه على يديه الويلات ويذوق الأحرار الأفريقيون التنكيل على يد شرطته ، ونحن ضد الدكتاتوريين أينما كانوا وضد الاستعمار بجميع أشكاله .
الرئيس : (مقاطعاً وهو يزداد غضباً ) أظنك ستلقي عليّ محاضرة في السياسة . ولكن أفهمني أيها الدكتور الإنساني ، ما شأنك بسالازار حتى توقع العرائض ضده ؟! أما كان يجدر بك أن تنتبه لعملك ؟!
الدكتور محمود: اسمح لي يا حضرة الرئيس أن أستفسر عن سبب غضبك . فهل تقدّم سالازار بشكوى ضدي وانتدبكم محامياً عنه ؟!
نائب الضابط : ( وهو ينهال على الدكتور صفعاً ) تأدّب قواد ابن القوادة .
الرئيس : كفى يا ذو النون . سينال كل مجرم منهم عقابه في حينه . لا نريد أن نستبق الأحداث ، ( يطبق الدفتر ويضعه في جيبه ثم يخاطب المعتقلين) سيجري تحقيق عادل مع الجميع وسننتزع منكم اعترافاتكم ، فمن عنده "شيء" نال عقابه ، أما البريء فسيطلق سراحه ، فاطمئنوا . نحن أصحاب عقيدة وإن ثورتنا بيضاء قامت لإنصاف المظلومين 0 ونحن نعتقلكم هنا كإجراء احتياطي حفاظاً على ثورتنا ونظامنا ولكي نكشف عن أعداء الثورة والنظام الجديد . وما ظلمناكم ولكن كنتم أنفسكم تظلمون0
أدمون : (مخاطبا الرئيس بلهجة كسيرة ) سيدي أنا بريء . أنا صاحب أطفال. متى ستحقّقون معي وتطلقون سراحي ؟!
الرئيس : (يلتفت إليه في استنكار ) ألم تسألني هذا السؤال قبل قليل ؟
أدمون : نعم سيدي .
الرئيس : ألم أقل لك كلب ؟!
أدمون : نعم سيدي .
الرئيس : إذن فما الداعي إلى السؤال مرة أخرى ؟
أدمون : تؤمر سيدي .
الرئيس : ( يخاطب المعتقلين ) لن تظلم الثورة أحداً فاطمئنوا ولا تلحوا علينا بالأسئلة .
خليل : بارك الله فيكم يا سيادة الرئيس .
حسون : الله يديمك مولاي .
الرئيس : ( يستعرض وجوه المعتقلين في اشمئزاز ثم يلتفت إلى الملازم ويقول باحتقار) تصور ! هذه الحثالة تريد ان تتحكم في مصير البلاد ! كلاب!
الملازم : وكأن البلاد خلت من الرجال ! أولاد القذرة !
نائب الضابط : قوادين أولاد القوادة !
الرئيس : ( يلقي على المعتقلين نظرة أخيرة تفيض بالاحتقار ثم يهزّ رأسه قائلا): كلاب .
(يستعد الملازم ونائب الضابط في وقفة عسكرية ، ويتنحيان للرئيس عن الطريق في حين ينهمك الحارس في فتح الباب . يخرج الضباط الثلاثة ، ويسمع صوت القفل في الخارج وهو يقفل ثانية .
يخيم على الزنزانة صمت حزين وقد فاضت وجوه المعتقلين بالكآبة والألم والاشمئزاز ) .
الأستاذ فاخر : ( وهو يحدث نفسه ) ما أبشع قسوة الإنسان ! غريب أن تبلغ قسوة الإنسان إلى هذا الحدّ !
فائز : ماذا رأيت من قسوتهم بعد يا أستاذ فاخر ؟! هذه صورة مخفّفة جداً .
الأستاذ فاخر : هؤلاء وحوش كواسر ! كأن المدنيّة لم تهذّبهم أبداً !
فائز : هؤلاء فاشست يا أستاذ ، ومتى أصبح الإنسان كذلك خلع عنه ثوب المدنّية وغدا وحشاً لا يختلف عن وحوش الغابة في شيء .
الأستاذ فاخر : كأن المدنّية رداء يمكن أن يخلع أو يلبس متى شاء المرء ! ما أغرب أمر الإنسان ! لقد مضت عليه آلاف السنين منذ هجر حياة الغابة وكوّن المجتمع ، ومع ذلك لا يزال يحنّ إلى أخلاقها ، وما أن تحكّ القشرة الرقيقة التي تغلّف خلقه حتى يظهر عارياً على حقيقته !
الدكتور محمود : أهذه هي المرة الأولى التي تعتقل فيها يا أستاذ ؟
الأستاذ فاخر : نعم .
الدكتور محمود : إذن ستزيد تجاربك عن السلوك الإنساني ولعلها تكون مفيدة للعلم .
الأستاذ فاخر : ما أشدّ مرارة هذه التجارب إذن !
الدكتور محمود: وربما غيّرت آراءك في أمور كثيرة .
الأستاذ فاخر : بدأت أغيّر بعضها الآن بالفعل . كنت أعتقد أن التعليم يمكن أن يهذّب الغرائز البدائية لدى الإنسان ، فإذا به لا يكاد ينفذ إلى ما وراء الجلد الذي يغلّف جسده . وإلاّ فكيف يتصرف أناس متعلمون مثل هذه التصرفات الوحشية ؟! وكيف انقلب هؤلاء الأشخاص بين يوم وليلة إلى وحوش كواسر ؟! إنني أشكّ في صحة ما ندرّسه من نظريات عن الإنسان وسلوكه .
فائز : ستتكشف لك حقائق كثيرة في هذا المعتقل يا أستاذ .
نوري : ( بعد لحظة ) عجيب أمر هؤلاء القوم ! إنهم لا يتورّعون عن إهانة أي إنسان ! أنا لم أضرب في حياتي يوماً ، وها أنا ذا أصفع من قبل جندي ! إنها إهانة صارخة للقانون !
الدكتور محمود: ( بسخرية خفيفة ) أيّ "قانون" تعني يا أستاذ ؟! أتعني "القانون" الذي يُعزف عليه في الملاهي ؟!
نوري : ( في استياء ) أرجوك دكتور .. الظرف غير ملائم للمزاح .
الدكتور محمود : إذن كيف تتحدث في مثل هذا الوضع عن القانون ؟! أفلا تدرك أن حكم القانون قد انتفى في عهد هؤلاء ؟!
نوري : وكيف يمكنهم أن يحكموا بلا قانون ؟! القانون سيدّ الجميع ، ولن تكون هناك دولة بدونه .
فائز : لديهم قانون الغابة وهو يخوّلهم أن يحكموا كما يشاؤون .
خليل : اللهم ألطف بنا .
حسون : يا ساتر يا رب .. يا إلهي الرحمة !
أكرم : ( بعد لحظة ) يستنكرون إهانة الضباط وفي نفس الوقت يرتكبون خرقاً واضحاً للتقاليد العسكرية فيعتدون بالإهانة والضرب على ضابط لم تثبت إدانته !
جنكيز : ( وكأنه يحدّث نفسه ) ولماذا يسبّون الأكراد ؟! الكرد أشرف قوم ! صلاح الدين الأيوبي كردي . فكيف يقولون عن الأكراد جرذي وجراد ؟! قيناكا .. فيناكا !
الأستاذ فاخر : لا تزعل يا جنكيز .. إنهم أهانونا جميعاً .
جنكيز : ( في تأثر ) نعم أستاذي المبجّل ، ولكن ماذا عمل لهم الأكراد حتى يسبَّونهم ؟! إنهم هم الذين يحاربوننا دائما في أرضنا ويقتلون منا الآلاف ويدمرون قرانا بقنابلهم 0(وهو يهز رأسه) قيناكا00قيناكا00
خليل : لقد قاموا بثورتهم فبارك الله لهم فيها 0 فما دخلنا في الأمر ؟
فائز : إنه انقلاب عسكري وليس ثورة ولا بارك الله لهم فيها . وإنه ليوم أسود في تاريخ البلاد .. وسيفرضون علينا ديكتاتورية عسكرية0
أدمون : أنا بريء .. أنا عندي أطفال .
حسون : كلّنا عندنا أطفال .. تركت عائلتي صباح يوم المؤامرة .
خليل : ( مقاطعاً في رعب ) لا ترفع صوتك يا أخ فقد يسمعك الحارس .
أتريد أن توقعنا في بليّة ؟ كيف تسمي ثورتهم مؤامرة ؟! أما رأيت كيف جُنّوا من الغضب ؟!
حسون : لساني تعودّ ذلك يا أخانا لكثرة حديث الناس عن مؤامراتهم.
فلاح : قولك صحيح أيها الأخ .. لا فُضّ فوك . ولكن علينا أن نتجنب إثارتهم. فهؤلاء أوباش ولا ندري ماذا يمكن أن يفعلوا . قد يقتلوننا جميعاً إذا اشتد غضبهم . إنهم يعدّون لنا خطة جهنمية ولا شك في ذلك .
عبوسي : لا مانع لديهم أن يرمونا بالرصاص جميعاً . أنزلونا من السيارة التي نقلتنا إلى هنا عدة مرات في الطريق وصفّونا إلى الجدار وسدّدوا رشاشاتهم إلى صدورنا وكادوا يحصدوننا حصداً لولا أن البعض منهم كان يعارض في ذلك . كانوا يقولون إنهم مزوّدون بأمر الإبادة . وقد رموا بعض المعتقلين بالفعل وشاهدنا جثثهم في الشوارع في طريقنا إلى هنا .
حسون : يا ساتر يا رب .. يا إلهي الرحمة .
خليل : ( في جزع ) اللهم ألطف بنا ! ( بعد لحظة ) تركت الحاجة الوالدة في أشدّ حالات القلق ، وإذا سمعت هذه الأنباء فقد تتصور أنهم رموني في الطريق . ماذا سيحلّ بها لو تصورت ذلك ؟!
فلاح : أهلنا جميعاً يقاسون الآن من قلق شديد ، فهم يجهلون مكاننا ويجهلون مصيرنا ، ولابد ان تصل إلى مسامعهم تلك الأنباء فتزيد من قلقهم . وهذا ولا شك جزء من خطتهم الانتقامية .
خليل : يا لهم من كفرة ! ماذا سيفعلون بنا ؟!
نوري : يفعلون كل شي ما داموا لا يحترمون القانون . كنت أتوقع طوال الوقت أن يضغط نائب الضابط على زناد رشاشته في أية لحظة فيحصدنا جميعاً.
حسون : يا ساتر يا رب . يا ألهي الرحمة .
خليل : اللهم ألطف بنا .
أدمون : مساكين أطفالي .
عبوسي : لا داعي إلى الخوف أيها الأخوان . ماذا يمكن أن يفعلوا بنا أكثر من أن يرمونا بالرصاص ؟!
خليل : ( في جزع ) فاّل الله ولا فألك . ماذا عملنا لهم لكي يقتلونا ؟! أتريد أن تحطّم أعصابنا بهذه الأقوال ؟! ( يخاطب وهو يبحث في جيوبه ) سأقرأ بعض السور لتهدّيء أعصابي . ( يخرج مصحفاً صغيراً وينكبّ عليه) .
فلاح : ( مخاطبا خليل ) كيف سمحوا لك به يا أستاذ ؟!
خليل : سمحوا لي به بعد توسلات طويلة .. ولولا الحاجة الوالدة ما سمحوا لي به . كانوا مصرّين أنني لا أعرف الإسلام .. وكأن الإسلام وقف عليهم وحدهم ! ( يستغرق في القراءة ) .
حسون : يا ليتني أحضرت معي قراناً للتبرّك . لكنهم لم يسمحوا لي بأي شئ . أردت أن احضر بطانيّة فرفضوا وقالوا لي أن الاستجواب لن يطول سوى ساعات قليلة ! يا إلهي الرحمة .
فلاح : كان هذا جوابهم للجميع ، ولم يسمحوا لأحد بشيء . وهذا جزء من الانتقام المعدّ لنا . إنهم صمّموا خطة للانتقام مناّ ولا شك في ذلك ، والنوم على الإسفلت أحد بنودها وما علينا إلاّ أن نصمد .
الدكتور محمود : سيصيب ذلك الكثير مناّ بالمرض ، وخاصة في هذه الليالي القارصة البرد.
حسون : أشعر بوجع في بطني منذ الآن ولعله من أثر البرد.
أكرم : أما شفى غليلهم كل ذلك الضرب والإهانة حتى ينيمونا على الإسفلت؟
فلاح : كان ضرباً وحشياً وخصوصاً الضرب الذي أصاب الأستاذ فائز .
الدكتور محمود : ( مخاطباً فائز) كيف حال جراحك يا أستاذ فائز ؟! كان اعتداؤهم عليك وحشياً حقّاً .
فائز : إنها جراح بسيطة على أية حال يا دكتور . شكراً .
الدكتور محمود : ( ينهض إليه ويفحص رأسه ووجهه) ليس فيها جرح خطر فعلاً .
عبوسي : ( مخاطباً فائز ) كم تمنيت يا أستاذ أن أتلقّي ذلك الضرب عنك كيف يتعرض كاتب وطني حر مثلك لهذا الاعتداء الوحشيّ ؟! مع الأسف .
فائز : شكراً جزيلاً أيها الأخ . هذا جزء يسير مما يصيب الأحرار .
جنكيز : وماذا أقول أنا ؟! أستاذي المبجّل يضرب أمامي ! ( يهزّ رأسه بأسف ) أستاذي يضرب أمامي وأنا ساكت ! ما احترموا حتى العلم !
الأستاذ فاخر : شكراً لك يا جنكيز . هذا ما عهدناه في أبنائنا الطلبة النجباء .
نوري : ولم يحترموا القانون . أهانوا القانون أيضاً .
فلاح : وأية قيّم لديهم حتى يحترموا العلم أو القانون ؟!
الأستاذ فاخر : أية رغبة وحشية كانت تمتلكهم في ضربنا ! كانوا يتصرفون بلا عقل لا تحرّكهم سوى غرائزهم الوحشية .
الدكتور محمود : فعلاً . وإني أهنئك يا أستاذ فاخر على اختيارك لقب " الغبّي" للملازم. إنه مثال الغباء حقاً .
الأستاذ فاخر : ( باسماً ) لقد نال لقبه بجدارة .
الدكتور محمود : كم كان يبدو فرحاً بالنجمة فوق كتفه !
فائز : ما هم سو ى مجموعة من البرابرة0
فلاح : كان نائب الضابط أغبى منه على أية حال .
فائز :ما هم سوى فاشست0
الدكتور محمود: ( بعد لحظة ) لنائب الضابط وجه غريب التعبير .. كأنه وجه جلاّد! وجه لا يعرف الابتسامة . كان يتحرك وينطق كالإنسان الآلي !
فلاح : ( مخاطباً الدكتور محمود) وبماذا يذكّرك وجه الرئيس يا دكتور؟
الدكتور محمود:0( مفكرا) يذكرني؟
فلاح :لو استعدت في ذهنك صورة القادة النازيين لتبادر لك شبيهه حالا0
الدكتور محمود: (يهتف وكأنه عثر على الحل) هملر0
فلاح : بالفعل فهو صورة طبق الأصل منه0
نوري : ( مغموما) فنحن من الآن تحت رحمة هذا الثلاثي الغادر00هملر
والغبي والجلاد0
خليل : ( دون أن يرفع رأسه عن المصحف) اللهم ألطف بنا0
حسون ( وهو يتلوى ألما) يا ساتر يا رب0 0 يا إلهي الرحمة00وجع بطني يشتد00 ماذا أفعل يا دكتور؟
الدكتور محمود : إما أن يكون وجع بطنك ناجماً عن حالة نفسية أو أن تكون أصبت بالبرد . وفي هذه الحالة أحسن دواء لك هو أقراص " سلفاديازول" .
نوري : لعلهم يزودوننا بها لو طلبناها فقد نحتاج إليها جميعاً في المستقبل القريب.
الدكتور محمود : لا أظنهم يفُعلون . إنهم لا يبالون بما يحدث لنا ولا يعاملوننا كبشر لهم حاجاتهم الطبيعية . فهم لم يفكّروا في حاجتنا إلى طعام وشراب وفراش وفي حاجتنا إلى المرحاض .
حسون : لعل بطني الفارغة تؤلمني من شدة الجوع .
أكرم : كلنا جائعون .. لم نأكل منذ خمسة عشرة ساعة .
خليل : كيف تشعرون بالجوع يا إخوان ونحن في مثل هذه الحال ؟!
أكرم : أتريد أن نصوم عن الطعام زيادة في مصيبتنا ؟!
فلاح : ( وهو ينهض ) سأنادي الحارس وأسأله عن الأمر ، فلا يمكن أن يتركونا بلا طعام ولا ماء . ( يطلّ من الكوّة في باب الزنزانة وينادي) حرس .. حرس .. حرس .
الحارس : ( يظهر أمام الكوّة ) ماذا تريد ؟
فلاح : نريد طعاماً وماء .
الحارس : لا يوجد طعام .
فلاح : كيف لا يوجد ؟! ألم يعيّن لنا طعام ؟
الحارس : لم يعيّن بعد .
فلاح : وماذا نأكل إذن ؟
الحارس : لا أدري .
حسون : هل حكم علينا بالموت جوعاً ؟! يا إلهي الرحمة !
فلاح : ( مخاطباً الحارس ) أرجوك أن تسأل لنا عن ذلك .
الحارس : ليس هذا من واجبي .
فلاح : هل ترضى شيمتك أن يموت إخوانك المسلمون جوعاً وعطشاً ؟!
كيف تواجه الله يوم القيامة ؟!
الحارس : ( وقد لانت لهجته ) ليس هذا من واجبي . هذه الأسئلة تعرّضنا للمسؤولية ... ( متردداً ) سأسأل وأمري إلى الله .
فلاح : شكراً جزيلا . ( يختفي الحارس ) .
عبوسي : هذا هو ابن الشعب . سرعان ما لان قلبه . إنهم يقومون بهذه الواجبات مرغمين .
الحارس : ( يطل من الكّوة بعد دقائق ) سألت الرئيس عن التعيين فأجابني ليأكلوا " زقنبوت "
نوري : نأكل " زقنبوت "00 ما معنى هذا ؟! أي نوع من القوانين يطبّق هؤلاء القوم ؟! أمعتقلون نحن أم محكوم علينا بالموت ؟
عبوسي : محكوم علينا بالموت 0
خليل : ( ينتفض في انزعاج ) لماذا تحطّمون أعصابنا بمثل هذه الأقوال يا إخوان؟ اللّهم ألطف بنا .
فلاح : لا شك أنهم أعدّوا خطة جهنمية للانتقام منا ولا فائدة من التمويه على أنفسنا . وإلاّ فماذا يعني حرماننا من الفراش والطعام والماء والمرحاض ؟! وما علينا إلاّ أن نصمد لهذه الخطة ونفشلها .
حسون : ( وهو يعصر بطنه متألماً ) لا أريد طعاماً .. أريد الذهاب إلى المرحاض . يا إلهي الرحمة .
خليل : كلّنا نريد الذهاب إلى المرحاض . منعونا منه عشرين ساعة .
حسون : ( يقفز نحو الباب وقد لاح ألم حاد على وجهه وينادي من الكوّة) حرس .. حرس .. حرس .
الحارس : ( يظهر أمام الكوّة ) ماذا تريدون الآن ؟!
حسون : أريد أن أذهب إلى المرحاض .. بطني توجعني .
الحارس : الخروج ممنوع منعاً باتاً .
حسون : ممنوع ؟! يا إلهي الرحمة .
فلاح :(وهو ينهض إلى الكوّة) أرجوك00 بطنه يؤلمه ولابد أن يذهب إلى المرحاض .
الحارس : لدينا أوامر مشدّدة بعدم فتح الباب مهما تكن الأسباب .
حسون :( وهو يتلوى ألما) أريد الذهاب إلى المرحاض يا أخانا . نحن مسلمون مثلكم فكيف تعذّبوننا ؟! يا إلهي الرحمة .
(يسمع وقع أقدام في الخارج ثم يطل وجه الرئيس من الكوّة) .
الرئيس : ابتعد عن الباب يا كلب .. ابتعد .. ما هذه الضجّة ؟!
حسون : ( متوسلاً ) مولاي ، أريد الذهاب إلى المرحاض00 بطني توجعني ..
الرئيس : (منتهراً ) ألم يقل لك ممنوع ؟!
حسون : مولاي .. لخاطر الله .
الرئيس : قلت لك ابتعد .. ابتعد عن الباب يا كلب .
حسون : مولاي ، ماذا أفعل ؟! لا طاقة لي على الصبر .
الرئيس : ( وهو ينصرف) كسّف على حالك .
(يتراجع حسوّن عن الباب وهو يعضّ شفتيه ويداه تضغطان على بطنه ، ثم ينطرح على الأرض ويتلوى ألماّ وهو يتأوّه مردداً : " يا ساتر يا رب .. إلهي الرحمة " .
الأستاذ فاخر : ( في اشمئزاز ) وحوش .. وحوش كواسر !
نوري : ( ينهض ويتحرك في الزنزانة بعصبية ) البقاء في هذا المكان معناه الموت ، ولا بد من الخروج منه بأسرع وقت . ومن غير المعقول أن يستمروا في حجزي هنا لمجرد أنني أصدرت حكما على بعض المتورطين من جماعتهم بجرائم أخلاقية0
الدكتور محمود : (بسخرية خفيفة ) وكيف ستخرج يا أستاذ وقد أصدرت حكما على بعض جماعتهم ؟
نوري : ولم لا؟ لابد أن تطبق أحكام القانون على كل من يخالفه 0 ولا شك أن الرئيس اقتنع بوجهة نظري وسيجرون معي تحقيقاً سريعاً فلديّ قضايا كثيرة متراكمة ، وسيلحّ الناس في إنجاز قضاياهم ويطالبون الثورة بأن يأخذ العدل مجراه .
الدكتور محمود : وهذه القضايا التي أمامك .. ألا تفكر بدراستها يا سيادة القاضي ؟!
نوري : ( في استياء ) أرجوك دكتور .. لا داعي للسخرية . ليس بيننا من المعرفة ما يخولك رفع الكلفة بيننا .
الدكتور محمود : عفوا يا سيادة القاضي ، ولكن أتصدّق حقّاً أنهم سيطلقون سراحك بهذه السرعة ؟! أتظن أنهم يهمهم حقّاً أن يأخذ العدل مجراه ؟!
نوري : بالطبع سيطلقون سراحي بسرعة . ألم أخبرهم بحقيقة الأمر ؟
الدكتور محمود : وهل تصدق أن الحقيقة تهمهم فعلاً ؟ ستكون محظوظاً إذا أطلقوا سراحك قبل نزول البطيخ إلى السوق .
نوري : (باستياء ) إذا كنت ترغب بالبقاء هنا يا دكتور ، فما الداعي إلى ربط الآخرين بمصيرك ؟!
الدكتور محمود : لا تنزعج يا أستاذ فلست أقصد الإساءة .كل ما أبغيه هو أن تهيء نفسك للواقع المرّ .
نوري : شكراً لك . لا أظن بي حاجة إلى هذه الإيضاحات .
فائز : وما رأيك في قضيتي يا دكتور ؟ هل سيتاح لي الخروج عند نزول البطيخ ؟!
الدكتور محمود : (ضاحكاً ) لا أستطيع أن أجيبك على هذا السؤال يا أستاذ فائز لئلا أسبّب لك الإزعاج أيضاً .
فائز : أنا أخبرك إذن متى يُتاح لي الخروج . لن أغادر هذا المعتقل إلاّ بثورة جديدة .
الدكتور محمود : أنت كفيتني مئونة هذا القول .
فائز : لكن انتظاري لن يطول في هذا المكان يا دكتور فلا يمكن لهؤلاء الفاشست أن يلبثوا في الحكم أكثر من أسابيع معدودات . الأحرار لهم بالمرصاد ولن يتركوهم وشأنهم .
الأستاذ فاخر : ومن بقى أحد من الأحرار خارجا ؟! إنهم الآن جميعاً في المعتقلات بلا شك. لم ينسوا أحداً منهم .
عبوسي : وماذا عن الشعب ؟! سيطيح شعبنا الجبار بحكمهم بأسرع مما يتصورون .
خليل : مالنا وهذا الكلام يا إخوان ؟! لعلّ الحارس يتجسّس علينا وينقل إليهم أحاديثنا .
الدكتور محمود : وهل تتوقع أن تكون حالنا عندئذ أسوأ من هذه الحال؟!
خليل : على أية حال الأمر لا يحتاج إلى ثورة جديدة . سيصحّحون أخطاءهم من تلقاء أنفسهم . والحقيقة أنني شخصياً متفائل وأعتقد أن اعتقالي كان غلطة سببها وشاية من أحد مرؤوسيّ من الموظفين من جماعتهم وهو سيّء السلوك وقد عاقبته يوما 0 وأنا واثق أن رئيسي في العمل سيخبر سلطات الثورة بنزاهتي ويطلب منهم الإسراع بإطلاق سراحي . وهذا ما سيحدث بالنسبة للجميع .
حسون : أنا أيضا مظلوم .. ما فعلت شيئاً سوى أنني دفعت بعض التبرعات ، فهل يسجنوني على ذلك ؟! ( وهو يعصر بطنه ) آخ يا ربي بطني .. يا إلهي الرحمة .
أدمون : وأنا أيضا بريء . . كل المسألة أنني رفضت التنازل عن الكاميرا .. فهل هذا جرم ؟!
خليل إذن فاعتقالنا جميعاً ليس سوى إجراء احتياطي ناتج عن وشايات ولن يدوم سوى أيام قليلة0 وإلاّ فهل من المعقول أن نسجن بلا أسباب ؟!
الدكتور محمود : الإخوان متفائلون والحمد لله ، ولعل ذلك من اثر الجوع والعطش والحاجة إلى المرحاض .
عبوسي : أما أنا فلست متفائلاً يا دكتور إلاّ بانتصار الشعب عليهم . وسأكون لهم شاكراً لو أبقوني حيّاً حتى ينتصر الشعب . وعلى كل حال فما الداعي إلى الخوف ؟؟ماذا يستطيعون أن يفعلوا بنا أكثر من أن يرمونا بالرصاص؟
نوري :(وهو ينظر إلى عبوسي في تعال)ومن خوّلك أن تتحدث بلسان غيرك؟
خليل : ( في استياء ) صحيح يا أخ 00لماذا ترهبنا بذكرالموت ؟ إنهم ليسوا عديمي الرحمة إلى هذه الدرجة . إنهم بشر مثلنا .
فلاح : ( مخاطباً خليل ) لا تخدع نفسك بهذه التخيّلات أيها الأخ. إننا وقعنا بأيد قاسية لا ترحم وما شهدناه اليوم ليس إلاّ أول الغيث 0ولا شك أنهم يعدّون خطة للانتقام منّا 0 ويجب أن نهيّء أنفسنا للواقع المرّ كما يقول الدكتور . ويجب أن نصمد .
جنكيز : بابا .. أنتم تحلمون . كيف يطلقون سراحنا وهم يحاسبوننا على أشياء وقعت قبل أربعمائة سنة ؟!
خليل : وعوائلنا ؟! كيف يعلمون بما يجري لنا ؟! من الضروري أن يعلموا .. الله يساعد الحاجة الوالدة .
أكرم : زوجتي إنجليزية ولا يمكنها التفاهم باللغة العربية وهي غريبة لا تعرف أحداً . ماذا سيحدث لها ؟
الدكتور محمود : ما دامت إنجليزية فلا تخش عليها فستجد في حكومتها خير عون.
الأستاذ فاخر : تركنا أسرنا جميعاً في حالة فظيعة ولا يدرون ماذا حلّ بنا وأين نحن. كان الله في عونهم .
خليل : الله كريم يا إخوان .. الله كريم .
حسون : ( يندفع نحو الباب فجأة كالمجنون وهو يعصر بطنه وينهال عليه لطماً بكفيه وهو يصرخ ) أريد الذهاب إلى المرحاض أيها الناس .. أريد الذهاب إلى المرحاض . أليس في قلوبكم رحمة ؟ ألا ترقّ قلوبكم لمسلمين مثلكم ؟! افتحوا لي الباب . أريد الذهاب إلى المرحاض . أريد الذهاب إلى المرحاض لخاطر الله .
( يصاحب صراخ حسون موسيقى حزينة بعيدة يشتد اقترابها وصخبها رويداً رويداً 0 وحينما تسدل الستارة شيئاً فشيئاً تغدو صراخاً معذّباً يضيع في صخبه صراخ حسون )0



الفصل الثاني
(الزنزانة السابقة نفسها وقد فرشت بالبطانيات . ترتفع بجوار الباب كومة من الأحذية المتنوعة وكوّمة من الحقائب المختلفة الحجم .
جدران الزنزانة الأربعة قد غطيت بملابس المعتقلين المعلقة فوقها بمسامير كبيرة .
ترتفع فوق رفّ النافذة الصغيرة كومة من المعلبات تكاد تحجب نور النافذة , وبجوارها دورق ماء .
تطل من أعلى النافذة أغصان مورقة لشجرة كالبتوز 0
الوقت الصباح الباكر .
المعتقلون يتوزعون في أركان الزنزانة بلا نظام . بعضهم ممدّد , وبعضهم جالس القرفصاء ورأسه بين ركبتيه , وبعضهم الآخر واقف وهو مغمض العينين وقد استند إلى الجدار . يرتدي الجميع (البيجامات) أو (الدشاديش) . الجميع نيام عدا فائز . يقف فائز في مواجهة النافذة مستنداً ألي الجدار وعيناه معلقتان بالنافذة وهو يدخن سيجارة وقد استغرق في التفكير .
تنبعث موسيقى هادئة فيها مسحة من الحزن تسمع من بعيد . وتستمر الموسيقى حتى يستيقظ الموجودون فيعلو ضجيجهم عليها) .
فلاح : (يفتح عينيه ويفركهما بيديه وهو جالس القرفصاء , ثم يدير عينيه في
أركان الزنزانة فيقع بصره على فائز وهو يدخن مستغرقاً في التفكير ) صباح الخير فائز .
فائز : صباح النور فلاح0
فلاح : (وهو يتثاءب) متى استيقظت ؟!
فائز : لم تغمض جفوني منذ الساعة الواحدة يا فلاح . لا يمكنني النوم وأنا واقف.

فلاح : إذن لابد أن تُعفى من نوبة الوقوف .
فائز : لا يعفيني عجزي من هذا الواجب . وعلى أية حال نمت في أول الليل قليلاً بعد عودة جنكيز من التحقيق , وقد اكتفيت .
فلاح : أنا أيضاً لم يطاوعني النوم لفترة طويلة بعد عودة جنكيز من التحقيق ..
كانت حاله مؤلمة .
فائز : ذلك متوقع من هؤلاء الفاشست . إنهم يحقدون على أمثاله حقداً مضاعفاً .
فلاح : بلا شك .
فائز : (بعد لحظة) سأحاول أن أغفو بعض الوقت خلال النهار . (يتنفس بقوة وهو يطلق نظراته عبر النافذة وقد انبسط وجهه) . على أية حال أُتيحت لي الفرصة لأستمتع بالشروق .
فلاح : وماذا بوسعك أن تشهد من الشروق وأنت في هذه الغرفة المغلقة ؟!
فائز : في الإمكان أن أرى بعض آثاره من أعلى النافذة .. أرى الآن قطعة زرقاء
لازوردية من السماء في صفاء مدهش . وأرى بقعاً صفراً ووردية مبعثرة فيها من أشعة الشمس المشرقة . ووراء هذه البقع تطل أغصان شجرة الكالبتوز بأوراقها الخضر الداكنة . (وهو يهزُ رأسه) ما أبدع الطبيعة يا فلاح ! وما أقسى أن يحرم الإنسان من التمتع بها . من الغريب أننا لا نقدرها حق قدرها إلا إذا حيل بيننا وبينها !
فلاح : أثرت أشواقي للرسم يا فائز . من لي بفرشة وأصباغ ولوحة للرسم ! ليتهم يسمحون لي بمزاولة الرسم . نذر عليّ أن تكون أول صورة أرسمها للثلاثي الغادر .

فائز : (يلتفت إليه باسماً) إنك تثير بهذا القول لهفتي للكتابة والورق والأقلام وقد سبق لنا أن اتفقنا ألا نثير أمثال هذه الأحلام . كسرت الاتفاق يا فلاح .
فلاح : أنت المسؤول عن تجاوزي للاتفاق بحديثك عن الطبيعة . فكيف تُذكر الطبيعة دون أن يذكر الرسم ؟! يخيل إليّ أحياناً أن عليّ أن أكرُس كل جهودي للرسم وألاّ أشغل نفسي بأعمال الزراعة0 إنها لقسوة بالغة أن أحرم هكذا من فرشاتي .
فائز : القسوة البالغة حقاً أن نسجن في هذه الغرفة فتسجن في صدورنا آلاف الرغبات الصغيرة و الكبيرة . ولعل أقسى عقاب على الإنسان هو السجن0 فلم يخلق الإنسان ليحبس بين جدران أربعة !
فلاح : من المؤلم حقاً أن يسجن الأخيار ويظل الأشرار طلقاء !
فائز : وماذا تتوقع أن يكون مصير الأحرار ما دام هؤلاء الفاشست هم الحاكمون ؟!
نوري : (يتمطّى ثم يجلس مبعداً عنه البطانية) صباح الخير .. أراكما بدأتما نقاشكما السياسي اليوم مبكراً !
فائز : ليس هذا نقاشاً سياسيّاً يا نوري بل تقرير حقائق . (يعاود النظر ألي النافذة حالما) بدأت الأشجار تزهر , ولا شك أن حديقتي تفوح الآن بأريج البرتقال و الليمون و التفاح . (متلفتاً ألي فلاح) كنت أتمنى أن ترى حديقتي يا فلاح . إنها حديقة رائعة 0 كنت أرعاها بنفسي وأخصص لها جزاء كبيراً من وقتي فأنا من هواة الزهور . (بلهجة أسيفة) لكنها ستفقد رونقها وتعبث بها يد الإهمال .
فلاح : حرمنا الأوباش من التمتع بأجمل فصول السنة .. فصل الربيع 0 إن الرسم يحلو في هذا الفصل , فهو فصل النزهات في الهواء الطلق .

( تجري همهمة وحركة بين النائمين تشير إلى استيقاظهم , ثم يجلس بعض المتمددين وهم يتثاءبون ويتبادلون التحية )0
الدكتور محمود :(وهو يتثاءب ويتمطى) من الذي يتحدث عن النزهات في الهواء الطلق في هذا الوقت الباكر ؟! هل بدأتم يومكم بالأحلام ؟ ! نريد مزيداً من الهواء في هذه الغرفة لا نزهات في الهواء الطلق !
نوري : (وهو يتنفس بقوة) صحيح . هواء هذه الغرفة فاسد تماماً . علينا بعلاج لهذه الحالة و إلا اختنقنا .
أكرم : إنه فصل النزهات في الهواء الطلق بالفعل .. كنا نقوم أنا وزوجتي كلَ جمعة في هذا الفصل بنزهات خلوية في الهواء الطلق طوال النهار. (بعد لحظة) لست أدري ماذا تفعل الآن !
الدكتور محمود: هي نائمة الآن يا أكرم فما يزال الوقت مبكراً ، ولا ريب أنها تحلم بك.
أكرم : لا أظنها تحلم بي كما أحلم بها . الإنجليزيات باردات العواطف !
فلاح : ( مخاطباً أكرم ) هل ستفتتح لنا يومنا بالحديث عن النساء يا أكرم ؟! ألم نقل إن الحديث عن النساء محرم ؟!
أكرم : أنتم تريدون أن تعتقلوا ألسنتنا بالإضافة إلى أجسادنا . دعونا نستمتع بالحديث عن النساء على الأقل ما دمنا لا نطولهن . ما قيمة الحياة بدون نساء ؟!
نوري : ( مخاطباً الدكتور محمود ) ماذا نفعل بهواء الغرفة الفاسد يا مدير الصحة العام ؟! ألا تلاحظ أن جوّ الغرفة صار خانقاً ؟! أراك تتهرب من مسؤوليتك !
الدكتور محمود : ليست هذه مسؤوليتي . إنها مسؤولية مدير الأبواب والشبابيك العام. يجب أن يتّخذ إجراء سريعاً لتلافي ذلك ، فالمعلّبات والأواني تحجب ثلثي النافذة وتكاد تسدّ منافذ الهواء ويجب ترتيبها بشكل آخر .
فلاح : وكيف لمدير الشبابيك والأبواب العام أن ينجز واجباته وهو على هذه الحال ؟!
عبوسي : سأتولّى هذا العمل بدل جنكيز .
الأستاذ فاخر : الغرفة كلّها تحتاج إلى تنظيم . ومن الممكن القضاء على هذه الفوضى وترتيب الأحذية والحقائب بصورة أفضل .
فلاح : أويّد الأستاذ فاخر ، وأنا مستعد أن أضع خبرتي الفنية في تزويد مدير الفرش العام بالاقتراحات البناءة على أن يباشر مهامه بعد الفطور مباشرة .
عبوسي : تؤمر يا مدير العلاقات العام .. الشعب في الخدمة .
أكرم : ( وهو ينهض ) من هم حزب الحلاقة اليوم ؟
فلاح : أنا .
الدكتور محمود : وأنا أيضاً .
أكرم : فلنبدأ قبل حضور " الشورباء" .
(ينهمك الثلاثة في إعداد أدوات الحلاقة ويُسائل بعضهم بعضاً عن الأمواس والصابون والمرآة ويتبادلونها في أثناء انشغالهم في الحلاقة )
نوري : ( مخاطباً الأستاذ فاخر ) هل أضفت لنا خطاً جديداً هذا اليوم يا مدير التواريخ العام ؟!
الاستاذ فاخر : ( ينهض إلى موضع في الجدار قد عُلّم بخطوط متجاورة ويعلّم خطّاً بجوارها ) هذا هو اليوم الجديد .
خليل : اللهم اجعل مقدمه خيراً .
نوري : ألا تتفضل بعدّ الأيام التي مضت علينا في هذا القفص يا أستاذ فاخر؟
الأستاذ فاخر : ( يعدّ الخطوط ) ثلاثون يوماً بالتمام والكمال .
نوري : ما أعظم مقدرة الإنسان على الاحتمال ! كنت أتصور أنني لا أحتمل الحبس في هذه الغرفة أكثر من أربع وعشرين ساعة . وإذا بي أمضي فيها شهراً والحبل على الجرّار!
الدكتور محمود : الباقلاّء نزلت إلى السوق الآن يا نوري ، لكن موعد البطيخ ما يزال بعيداً .
نوري : قبلنا بموعد نزول البطيخ إذا كان لنا أن نغادر هذا السجن يوماً ! (بعد لحظة ) وعلى أية حال زوّدني هذا السجن بخبرة جديدة قد تفيدني في عملي في المستقبل . فلم أكن أتصور أن السجن قاسٍ على الإنسان إلى هذا الحدّ . وكنت أوقع عقوبات السجن البسيطة والشديدة دون أن يخطر على بالي ما سيلاقيه المحكوم عليه من عناء0 وما أسهل ما كنت أعاقب بالحبس شهراً في المخالفات والجنح دون أن يخطر على بالي أن شهر السجن طويل إلى هذا الحدّ . ويخيّل إليّ أن من الخير للقضاء أن يمرّوا بتجربة السجن قبل أن يمارسوا علمهم ليحققوا الجانب الإنساني في مهنتهم .
الدكتور محمود : ( ضاحكاً ) أي أن يأخذوا " كورساً " عملياً في السجن قبل أن يعيّنوا قضاة .. أنا أؤيدك في ذلك . كما أنني أعتقد مثلك إن الأطباء ينبغي ان يمروّا "بدورة " مرضية حتى يقدروا آلام المريض حق قدرها ولا يستهينوا بها.
فلاح :لا فض فوك يا محمود0
الأستاذ فاخر : ما شاء الله على الاقتراحات البنّاءة ! أعتقد أنني سأخرج بتجارب ثقافية مفيدة فعلاً !
فائز : ( ضاحكاً ) ومن قال لك أنك ستخرج من هذا المعتقل يا فاخر وهؤلاء الفاشست في الحكم ؟
خليل :( بجزع ) أتعني أننا سنمضي حياتنا كلها هنا يا أستاذ فائز ؟! فأل الله ولا فاّلك !
فلاح : كل شيء جائز ! ألم يعلنوا في صحفهم أننا عضو فاسد في المجتمع يجب بتره والتخلص منه ؟ ألم يقترح بعضهم أن ننفى في معتقل في الصحراء ونترك لنموت هناك ؟ فلا شك أنهم يعدّون خطة جهنمية لنا وعلينا ان نتوقع أسوأ الاحتمالات ، وأن نصمد لهذه الخطة .
أكرم : ( بعد لحظة ) حقاً إن يوم السجن بشهر ولا أكاد أصدّق أنه مضى علينا شهر في هذا المكان . لكأننا مكثنا هنا عاماً ! الحياة تفقد معناها في السجن . لا نساء ولا تسلية ولا متعة ، الموت خير منها .
خليل : يا فتاح يا عليم ! ما بالكم تتداولون هذه الأفكار السود ونحن ما نزال في بداية اليوم ! إن رحمة الله واسعة وقد تهبط علينا في أية لحظة فيطلقون سراحنا . الله كريم يا إخوان ، الله كريم .
أدمون : ومتى تهبط علينا رحمة الله ؟! أطفالي تبهدلوا بدوني ولا يدلّلهم أحد غيري . أمهم لا تدللّهم .
عبوسي : أنت قلق لحرمان أطفالك من الدلال يا أدمون ،فماذا نقول نحن وقد تركنا أطفالنا بلا خبز !
الأستاذ فاخر : كان الله في عونك وعون أمثالك من المعتقلين فلا شك أن عوائلكم تلاقي صعوبات قاسية في تدبير أمورها .
عبوسي : لا تحمل همّنا يا أستاذ ، فعوائلنا تعودت البؤس . كم من مرة ظللت عاطلاً اشهر وليس لديّ ما أنفقه على عائلتي سوى قروش زهيدة أدبّرها بشقّ الأنفس .
نوري : صحيح00كان الله في عونكم يا عبوسي .
حسون : ( وهو ما يزال متعدداً وقد غطّى وجهه بمنشفة ) كان الله في عون الجميع .
فلاح : اجلس يا حسّون . كفاك نوماً .
حسون : أتركني أنام يا أخانا فلاح فلم أشبع من النوم بعد 0 أتريدني أن أجلس مبكراً حتى في مثل هذا المكان ؟! خلّصني الله من الجلوس المبكر والذهاب إلى الدكان فاتركني أستمتع بالنوم .
الدكتور محمود : إذن فأنت مرتاح من الاعتقال يا حسون ؟!
حسون : لولا قضية المرحاض والأكل القليل والخوف من التعذيب والقلق على العائلة لكنت مرتاحاً جداً .
فلاح : وكيف لا تكون مرتاحاً وأنت تنام هذه الساعات الطويلة ؟! اجلس يا حسون وكفاك نوماً .
حسون : ( وهو يجلس ) أمرنا إلى الله وإلى الله ترجع الأمور .
( يتململ جنكيز في موضعه ويزيح عنه الغطاء قليلاً محاولا الجلوس) .
الدكتور محمود : هل استيقظت يا جنكيز ؟!
فلاح : لا تجلس يا جنكيز . أبق مستريحاً في مكانك فأنت اليوم معفو من الجلوس .
الدكتور محمود : ( يفرغ من الحلاقة فيقبل على جنكيز ويزيح ثوبه عن جسده فتظهر آثار جراح ) أما تزال الجراح تؤلمك كثيراً يا جنكيز ؟!
جنكيز : ( يحاول الظهور بمظهر اللامبالي لكنه يعض على شفتيه متألماً كلما ضغط الدكتور محمود على موضع في جسده ) قيناكا دكتور00 قيناكا.
خليل : هذه القيناكا هي التي جلبت عليك البلوى يا أخ جنكيز . كم مرة نصحتك بألاّ تقولها فهم يتصورون أنك تشتمهم بالكردي.
الدكتور محمود : الحق معهم إن تشددوّا معك يا جنكيز0 ماذا فعل أجدادك بهم؟
فلاح : دمّروهم .. صبغوا نهر دجلة بدماء الآلاف من ضحاياهم.
أكرم : نحن السابقون يا جنكيز وأنتم اللاحقون . وكلّنا في الهوا سوا .. كرد وعرب " فد " حزام !
نوري : يظهر أن هذا مصير الجميع ما دام قد انتهى حكم القانون .
الدكتور محمود : (مخاطباً حسون ) لم تحسن القيام بواجبك أمس يا حسون .. لم تدلّك جسد جنكيز كما ينبغي ..
حسون : والله أنا لم أقصّر يا دكتور . التقصير ليس مني .. جسده مبضّع ، وكان يتوجّع كلما وضعت يدي على مكان منه .
خليل : الله كريم يا أخ جنكيز .. ما من ظالم إلا ظُلم .
جنكيز : أشكركم يا أخواني .
أكرم : ( ينهض وقد فرغ من الحلاقة ) والآن حلّ وقت الرياضة أيها السادة قبل حضور الشورباء . استعدوا 0
فلاح : ( وهو ينهض ) مستعدون يا مدير الرياضة العام .
(ينهض بعض الموجودين ويتجمعون في صفوف ، ويمرّ عليهم أكرم محاولاً تنظيم صفوفهم مردّداً " هكذا " و " هكذا أفضل " .. الخ ثم يقف أمامهم معلناً بدء التمرينات ) .
أكرم : ( ملتفتاً إلى جنكيز ) أما أنت يا جنكيز فسنعفيك اليوم من درس الرياضة على أن تعد لنا تقريراً طبياً ، ولكن عليك أن تباشر معنا غداً .
جنكيز : ( باسماً ) أشكركم يا مدير الرياضة العام .
( يقوم اللاعبون بأداء التمرينات السويدية بإرشاد أكرم . تمضي فترة من الوقت ثم تسمع خطوات الحارس وهي تقترب من الباب ثم يطلّ وجه الحارس في الكوّة )
الحارس : صباح الخير يا إخوان .
أصوات : صباح الخير يا عباس .. أهلاً بك يا عباس .
الحارس : حضّروا صحن الشوربة .
( يتفرق اللاعبون ويتجه فلاح إلى الكوّة )
فلاح : افتح الباب يا عباس لنغسل صحوننا .
الحارس : ( منهمكاً في فتح الباب ) واحد فقط يخرج .
فلاح : ( يخاطب الجميع ) فليخرج أكثرنا حاجة للمرحاض .
نوري : وهذه الصفيحة ، هل ستتركونها ؟ رائحتها لا تطاق .
فلاح : إذن يجب أن يخرج اثنان .
حسون : (وهو ينهض ) أنا أخرج فأنا بحاجة شديدة إلى المرحاض وسآخذ معي الصفيحة .
أكرم : أتظل طول عمرك تزاحم الآخرين في الذهاب إلى المرحاض يا حسون ؟!
حسون : ماذا أفعل يا أخانا أكرم ؟ بطني لا ترحمني أبداً .
الدكتور محمود: قلل من أكلك يا حسون تسترح ويستريح بطنك .
حسون : وهل تسمّي هذا أكلا يا دكتور ؟ الله يرحم أيام زمان !
فلاح : ( موجهاً الخطاب للآخرين ) من سيخرج لغسل الصحون ؟
عبوسي : أنا يا أستاذ فإني بحاجة شديدة للمرحاض .
أكرم : ألا تعطوني فرصة يوماً لأذهب إلى المرحاض مرتين ؟!
الدكتور محمود : من المؤسف أن يزاحم مدير الرياضة العام تلامذته على الذهاب إلى المرحاض . أنت قبطان السفينة والقبطان آخر من يغادر سفينته الغارقة.
أكرم : غرقنا وانتهى الأمر يا دكتور .
فلاح : (يخاطب الحارس وقد فتح الباب وأطلّ منها ) سيخرج أثنان منّا يا عباس ، واحد لغسل الصحون والثاني لتنظيف الصفيحة .
الحارس : ممنوع .
فلاح : أسفي عليك يا عباس . كيف ترضى شهامتك أن نأكل فطورنا ورائحة الصفيحة تكتم أنفاسنا ؟!
الحارس : ( متضايقاً وقد بدا عليه الاستسلام ) ستوقعني في بليّة يوما يا أخوي فلاح .. يجب أن تنفّذ أوامرهم وإلاّ عاقبونا . ( وهو يفتح الباب ) أخرجا بسرعة قبل ان يحضروا الشوربة .
( يخرج عبوسي حاملاً الصحون وفي أعقابه حسون وهو يحمل صفيحة الفضلات ، ثم يقفل الحارس الباب . يعود فلاح إلى موضعه) .
الدكتور محمود: فليعش مدير العلاقات العام .
أصوات : يعيش .. يعيش .
فلاح : ( وهو يحني رأسه ) متشكر أيها السادة .. متشكر .
نوري : لا شك أن مدير العلاقات العام سيفوز بالجائزة الأولى لو وزعت الجوائز على المدراء العامين .
فائز : أنا أرشحه لنيل الجائزة الأولى أيضاً .
فلاح : أخجلتم تواضعنا أيها السادة .
(يدخل عصفور من النافذة ويطير في الزنزانة حائراً ويرتطم بجدرانها).
الاستاذ فاخر : ( وهو يتابع العصفور بنظراته ) ليس هذا مكانك أيها العصفور المسكين.
فائز : بل على العكس يا أستاذ فاخر . هذا هو المكان الطبيعي للأحرار اليوم .
فلاح : لا فضّ فوك يا فائز .
(يحطّ العصفور على رأس خليل لحظات ثم يطير متجهاً نحو النافذة ويفلح في الانطلاق منها) .
خليل : ( متهلّل الوجه ) حضر العصفور خصيصاً من أجلي أيها الأخوان ليحمل إليّ بشرى سارّة .
نوري : أية بشرى يمكن أن يحمل لك وأنت في هذه الزنزانة الملعونة ؟!
خليل : ( متهلل الوجه ) بشرى إطلاق السراح طبعاً . من يدري ؟! لعلهم شعروا بغلطتهم أخيراً .. الله كريم !
الدكتور محمود : تهانينا القلبية يا شيخ خليل .
خليل : شكراً .. شكراً يا دكتور . يوم قريب للجميع إن شاء الله .
نوري : أنت تتحدث وكأنهم سيطلقون سراحك اليوم يا خليل .. أرى أن تنتظر نزول البطيخ مثلي على الأقل حتى نخرج معاً .
خليل : تفاءلوا بالخير تجدونه يا أخ نوري .. الله كريم .
( تُسمع ضوضاء في الخارج ، ثم يُدق الباب ويطلّ وجه الحارس من الكوّة)
الحارس : أين القدر ؟ حضرت الشوربة .
( يفتح الباب ويدخل عبوسي حاملاً الصحون وحسون حاملاً الصفيحة . يقف حسون بجوار الباب ويناول الحارس قدراً متوسطة الحجم) .
حسون : ( وهو يناول القدر للحارس ) تفضل يا أخانا عباس .
( يتناول الحارس القدر خارج الزنزانة . ثم يعيدها بعد لحظات فيتناولها حسون وينظر إلى داخلها وقد عبس وجهه) .
أكرم : كيف حال الشورباء يا مدير الطعام العام ؟
حسون : باردة وقليلة مثل كل يوم .
الدكتور محمود: أعط جنكيز كفايته أولاً يا حسون .. الشوربة نافعة له .
فلاح : طبعاً .. طبعاً .
حسون : ( وهو يملأ أحد الصحون بالشوربة ) ممنون .. وهل لدينا أغلى من أخينا جنكيز ؟!
جنكيز : أشكركم .. أشكركم يا إخواني . ( يتعاون عبوسي وأدمون على إنهاض جنكيز ، ويستند جنكيز بظهره إلى الجدار ، بينما يحمل عبوسي صحن الشوربة ويطعمه بالملعقة ) .
جنكيز : والله ما أشتهى يا كاكه عبوسي.
الدكتور محمود : يجب أن تأكل يا جنكيز وإن لم تشته فالغذاء ضروري لك.
الأستاذ فاخر : كل يا جنكيز فالأكل يفيدك .
فلاح : يجب إطاعة أوامر مدير الصحة العام .
( ينتهي جنكيز من صحنه فيعيده عبوسي وأدمون إلى فراشه برفق0 يقوم حسون بتوزيع على صحون ثلاثة ، وتشترك كل مجموعة من الموجودين في صحن ) .
أكرم : ( مخاطباً حسون ) أكثر لنا من الشوربة يا حسون .
فلاح : لماذا ؟! هل تملك معدة أكبر من معداتنا ؟
أكرم : لكنني أملك معدة تطحن الصخر يا حسون 0
( ينهمك الجميع في أكل الشوربة وتتصاعد أصوات الملاعق ) .
أدمون : الشوربة ماسخة اليوم يا جماعة . يظهر إنهم نسوا الملح .
أكرم : ليست هذه شوربة ولكنها شورباء .. على وزن حرباء .. أي كل يوم بلون ، وهي أرداً من شوربة الجنود بكثير .
حسون :صدقت با أخانا أكرم0
( يفرغ الجميع من طعامهم فيضعون الصحون بالقرب من الباب )
فلاح : ( ينهض إلى النافذة ويتناول دورق الماء ويشرب قدحاً ) هل من شارب للماء؟
فائز : نعم من فضلك ( يناوله فلاح قدح الماء ) .
فلاح : ( وهو يتناول من فائز قدح الماء الفارغ) هل من شارب آخر ؟
خليل : أسفنا يا أخ فلاح سقاك الله وسقانا من رحيق الجنّة .
الدكتور محمود: هذا حلم لن يتحقق لنا يا شيخ خليل .
خليل : فأل الله ولا فألك يا دكتور .
فلاح : ( مخاطباً أدمون ) والآن جاء دورك يا مدير التنظيفات العام .
أدمون : أنا حاضر يا جماعة . اجمعوا البطانيات .
( يعكف الجميع في جلبة على رفع البطانيات عن أرض الزنزانة ).
نوري : ( مخاطباً جنكيز ) لا تنهض يا جنكيز .. ابق في مكانك .
جنكيز : ( وهو يحاول النهوض ) أشكرك كاكه نوري . أنا أقدر أقف ( يحاول الوقوف فيتهاوى على الأرض فيتلقاه عبوسي وفلاح بأيديهما) .
فلاح : قلنا لك ابق في مكانك يا جنكيز ، أنت معفوّ اليوم من الجلوس .
الأستاذ فاخر : استرح في مكانك يا جنكيز .
جنكيز : ( وهو يحاول الرقّاد) أشكركم يا إخواني .
(يحمل الجميع بطانياتهم ويتجمعون في زاوية في الزنزانة ، فيعكف أدمون على كنس الأرض ومسح البقع القذرة حتى يفرغ من عمله ) .
فلاح : والآن جاء دورك يا مدير الفرش العام .
عبوسي : أنا حاضر يا أستاذ ولكن معاوني مريض ، فمن يحلّ محلّه ؟
حسون : أنا أحل محلّ جنكيز .
(ينصرف عبوسي وحسون إلى نفض التراب عن البطانيات ، ثم يطويانها ويفرشان بعضها فوق بعض ، ثم يوزّعان الوسائد حول الجدران ، وفي أثناء انهماك عبوسي وحسون في عملهما0 يتبادل الآخرون الملاحظات حول الفرش . ولدى الانتهاء يجلس الجميع حول الجدران ملتصقين بعضهم ببعض ويجلس البعض الآخر في الوسط ) .
أكرم : ( مخاطباً خليل ) أعطني مخدة يا خليل . أنت تستأثر دائماً بهذا الركن المريح وتجمع أكبر عدد من المخدات وراءك .
خليل : ( وهو يناول أكرم مخدة ) العفو يا أخ أكرم . هذه الزاوية تساعدني على الاستغراق في قراءة القرآن بمعزل عن الضوضاء .
الدكتور محمود: سيقوم الشيخ خليل بمعجزة يوماً تخرجنا من هذا السجن .
خليل : ( وهو مكبّ على المصحف ) الله كريم يا دكتور .. الله كريم.
الأستاذ فاخر : ( بعد لحظة ) وُعدنا بإعادة تنظيم الغرفة ، فهل غيّرتم رأيكم ؟! هل تتركون الحقائب والأحذية على هذا النحو من الفوضى ؟
عبوسي : وأين نضعها يا أستاذ ؟
فلاح : فلنجمع الأحذية في إحدى البطانيات ونعلّقها في كلاّب في السقف ولا نترك سوى زوجين من النعال لحاجتنا فلن يغادر الغرفة أكثر من اثنين منّا في وقت واحد . ويمكننا التخلّص من بعض الحقائب الصغيرة بتعليقها على الجدران بمسامير كبيرة .
الدكتور محمود: أحسنت يا فلاح . ستكون الغرفة أفضل من الناحية الصحية .
فلاح : موافقون على هذه الاقتراحات ؟
أصوات : " موافجين " .. " موافجين " ..
فلا ح : إلى العمل إذن .
( ينهض عبوسي وحسون وأدمون إلى كوم الأحذية ، وينصرفون إلى العمل، بينما ينكب فلاح وأكرم على تعليق الحقائب ) .
فلاح : ( مخاطباً خليل) ألا تكلّف نفسك بعض الجهد يا خليل وتساعد في العمل؟ يظهر أن قراءة القرآن وسيلة ممتازة للتخلص من المساهمة في الأعمال .
خليل : ( وهو يطبق المصحف وينهض ) العفو يا أخ فلاح .. أنا في الخدمة . ماذا تريدون أن أعمل ؟
فلاح : أعد تنظيم المعلّبات في الشباّك نيابة عن جنكيز إذا سمحت .
خليل : في خدمتكم وخدمة جنكيز .
جنكيز : أشكرك كاكه خليل .
( ينصرف خليل إلى ترتيب المعلبات ووضع بعضها في الحقائب الصغيرة فينكشف من الشبّاك جزء أوسع وتبدو الزنزانة أكثر إنارة 0 وفي هذه الأثناء تنطلق التعليقات والإرشادات من الموجودين: " أحزموا الربطة جيداً " و " حاذروا أن تسقط الأحذية على رؤوسنا " و " أصبحت حزمة الأحذية ثقيلة جداً " و " قد تخلع الحقائب المسامير " الخ .. بعد الفراغ من هذه العمليات تتدلّى كرة الأحذية في وسط السقف و تتدلّى الحقائب الصغيرة على الجدران ، بينما ينفذ نور قوي من النافذة الصغيرة . يعود الجميع إلى موضعهم بعد الفراغ من أعمالهم ) .
نوري : تغيّرت الغرفة بالفعل وهي تبدو الآن أوسع وأنظم وأحسن منظراً .
الأستاذ فاخر : الفضل في ذلك يعود إلى اقتراحات مدير العلاقات العام البناءة وإلى جهود المدراء العاملين الآخرين المشكورة .
الدكتور محمود : على الشيخ خليل ان يتضرع إلى الله ألا تسقط هذه الأحذية على رؤوسنا.
خليل : سأدعو الله لذلك يا دكتور . وقد قال الله تعالى في كتابة الكريم "ادعوني أستجب لكم " .
(صمت )
أكرم : متى يحين دورنا اليوم للذهاب إلى المرحاض ؟ أشعر بضيق شديد . لو لم يزاحمني حسون وعبوسي لما قاسيت هذا الضيق.
عبوسي : متأسفين ملازم أكرم .
حسون : أعذرنا يا أخانا أكرم . العتب على البطن .
نوري : لن يحين دورنا اليوم إلاّ حوالي الظهر ، فقد خرجنا قبل الغرف الأخرى أمس . وربما انتظرنا حتى الثالثة بعد الظهر .
فلاح : أفضّل أن يتأخر دورنا ، فأنا أجد لذة في التفكير بأنه سيتاح لي أن أتنفس الهواء الطلق خارج الغرفة والتقي ببعض الأخوان من الغرف الأخرى .
خليل : أية فرصة هذه يا أخ فلاح ؟ نحن ندخل المرحاض والرشاشة مسددة إلى ظهورنا ، وإذا تأخرنا دقيقة واحدة دقّوا الباب علينا يستعجلونا0 وأصارحكم القول أيها الأخوان أنني لا أستطيع قضاء الحاجة لعلمي أن الحارس يقف وراء باب المرحاض في انتظاري وهو يتنكب رشاشته ، فأصبح لديّ إمساك دائم .
فائز : ماذا يقول إذن أولئك الذين يُرسلون إلى المرحاض وأيديهم مقّيدة إلى الخلف ؟!
حسون : هؤلاء مساكين الله يساعدهم .
نوري : أما المغسلة فالأرحام حولها لا يطاق ولا يكاد يستطيع المرء أن يغسل وجهه . والأدهى من ذلك ان يغسل بعض الإخوان ملابسهم فيها .
فلاح : وما حيلتهم في الأمر ؟
أكرم : ما رأيكم دام عزّكم أنني لا أستطيع المقاومة حتى الظهر وأن وجع بطني بدأ يشتدّ ؟
خليل : الصفيحة موجودة إذا ما دعت الضرورة يا أخ أكرم .
الدكتور محمود : لا تفكروا بالصفيحة رجاء فذلك يُضعف صبركم على المقاومة وهو أمر غير صحي .
أكرم : إذن علينا أن نشترك جميعاً في لعبة نقتل بها الوقت لننسى أنفسنا.
فلاح : ( مخاطباً أكرم) هيّء لنا إذن لعبة يا مدير التسلية العام بالوكالة.
خليل : أنا أعتذر عن الاشتراك في أية لعبة يا إخوان لأنني سأكون مشغولاً بقراءة القرآن في انتظار البشرى .
الدكتور محمود: قد يطول انتظارك للبشرى أشهراً يا شيخ خليل فتحرمنا أنسك.
خليل : فأل الله ولا فألك يا دكتور . الله كريم . ( يخرج المصحف وينكبّ عليه).
أكرم : فلنهيء ألعاباً فردية إذن .. من هم حزب الدومينو ؟
عبوسي : أنا .
فلاح : أنا أيضا .
أدمون : وأنا كذلك .
(يجلس الأربعة معاً ويستخرجون لعبة الدومينو المصنوعة من الورق المقوىّ وينهمكون في اللعب ) .
حسون : أنا من حزب النوم . ( ينتحي ركناً من الغرفة ويلفّ رأسه بمنشفة تغطي جزءاً من وجه ويتمدد ) .
الدكتور محمود: ما أكثر ما تنام يا حسون !
حسون : فرصة يا أخانا الدكتور .. فرصة . ماذا بقى لنا من مُتع الحياة ؟! حرمونا من نسائنا وجوّعونا ولم يبق غير النوم .
أكرم : صدقت يا حسون ، حرمونا من نسائنا عليهم اللعنة !
فلاح : ألا تكفّ عن التفكير في امرأتك يا أكرم ؟! ألا يشغل ذهنك أمر آخر غير النساء ؟!
أكرم : وكيف تريدني أن أنسى زوجتي بهذه البساطة ؟ لو كنت متزوجاً ما قلت هذا الكلام .
نوري : أنت تغريني على البحث عن زوجة حال إطلاق سراحي يا أكرم .
فائز : لا تنس نفسك يا نوري وتنساق وراء الأحلام .
نوري : لولا الأحلام ما احتملنا هذا الاعتقال .
الدكتور محمود : تسقط الأحلام وتعيش الزنزانة رقم "1" .. من المبارز في الشطرنج ؟
نوري : تفضل يا دكتور محمود .
(يخرج الدكتور محمود أدوات الشطرنج المصنوعة من العجين وينهمك من نوري في اللعب ) .
فائز : ( ملتفتاً إلى الأستاذ فاخر بعد لحظات ) من الضروري أن نزاول رياضتنا اليومية يا فاخر وإلاّ خدرت أرجلنا .
الأستاذ فاخر : ساقاي تؤلمانني بالفعل من كثرة الجلوس ، وقد أصبحت قدماي تخدران كثيرا وبسرعة . فلنبدأ .
فائز : تفضل .
(ينهضان ويقفان متجاورين ويراوحان في مكانهما ببطء )
الأستاذ فاخر : ( بعد لحظة ) ذكرّتماني بالكتب وشوّقتماني إليها حينما كنتما تتحدثان أنت وفلاح عن فرش الرسم والورق والأقلام .
فلاح : ( وهو منكب على اللعب ) آزنيف ! أية أقلام يا أستاذ فاخر ؟! لم يبق لدينا أقلام . أخذوا أقلام الحبر منّا جميعاً ساعة اعتقالنا.
نوري : ( منهمكاً في اللعب ) كش ملك يا أستاذ . أما زلت تتحدث عن القانون أيها القانوني ؟! إنهم ألغوا " القانون " في ملاهي العاصمة واكتفوا بـ " الطبل " . ماذا تقول فيمن صودرت منه سيارته ؟! صادروا سيارتي وأخذوا يستخدمونها في أغراضهم الشخصية
فلاح : صادروا مئات من سيارات المعتقلين .
فائز : وما رأيكم فيمن احتلوا بيته ؟ احتلوا بيتي وجعلوه مقراً لهم .
أدمون : احتلّوا عشرات البيوت وجعلوها مقرّات لهم .
الدكتور محمود : كأن البلاد غزيت بجيوش احتلال أجنبية !
عبوسي : إنهم جاؤوا للانتقام من الشعب .
حسون : يا ساتر يا رب .. يا إلهي الرحمة !
فائز : ( مخاطباً الأستاذ فاخر بعد لحظات ) إذن كنت صاحياً منذ الصباح الباكر . كنت أحسبك مستغرقاً في النوم .
الأستاذ فاخر : أنا يا فائز قليل النوم وإن كنت أغمض عينيّ متظاهراً به .
فائز : كنت أغبطك ظانّاً أنك نائم بالرغم من الضوضاء .
الأستاذ فاخر : الضوضاء لا تمنعني من النوم . لكنني أصارحك يا فائز بأن ذهني يعاني دوامة من الأفكار المتصارعة التي لا ترحمني من إرهاقها ساعة واحدة منذ دخلنا هذا المعتقل .
فائز : لم يكن الأمر سهلا عليك بالطبع خاصة إنها المرة الأولى التي تدخل فيها المعتقل .
الأستاذ فاخر : لا أدّعي أن الأمر سهل عليّ ، فقد كنت أحسبني لا أستطيع العيش يوماً واحداً بلا كتاب 0 فلم يفارقني الكتاب منذ كنت في العاشرة من عمري ، وإن حرماني منه عقاب قاس جداً . لكن الإنسان يتميز عن غيره من المخلوقات بتكيّفه للظروف وسرعان ما تكيّفنا جميعاً لظروفنا الجديدة وتجاهلنا رغباتنا على اختلافها . لكن أفكاري المرهقة لا ترحمني يا فائز، وحدّتها لا تخف على مرّ الأيام . فأمامي سؤال يستعصي عليّ جوابه .. كيف يقسو الإنسان على أخيه الإنسان المخالف له في الرأي هذه القسوة الوحشية ؟! إنه موقف يعجزني فهمه مهماً أتعمّق في تحليل دوافع السلوك البشرى .
فائز : لا أظنه موقفاً يستعصي على الإدراك يا فاخر ، فالتعصب الأعمى يفقد الإنسان صفته البشرية فينقلب حيواناً لا يختلف إلاّ في المظهر عن حيوان الغابة . ونحن للأسف مشهورين بتعصبنا الفكري . وإلإّ فهل نسيت ما حدث من فظائع في تاريخنا القديم والحديث بسبب الاختلاف الفكري ؟ ثم أن هؤلاء الفاشست في الحقيقة هم أعداء الحرية والكرامة الإنسانية ولا يفهمون غير وجهة نظرهم الفاشية 0
الأستاذ فاخر : المفروض أن يؤمن الإنسان بالأفكار وسيلة من وسائل تحقيق السعادة للمجتمع . وكل يبغي الوصول إلى هذا الهدف بطريقته وأفكاره الخاصة . فإذا ما أدّت تلك الأفكار إلى القتل والبطش ، فما قيمتها ؟! وأيّ نفع فيها للإنسان؟ ولست افهم كيف يزعم هؤلاء أنهم أصحاب عقيدة !
فائز : أية عقيدة يا فاخر ؟! إنهم يتحججون بالعقيدة للاستئثار بالسلطة وما يلحقها من مكاسب إنهم فاشست 0 وإذا كان بينهم أصحاب عقيدة حقاً فهم مظللون أو مغلوبون على أمرهم .
نوري : حاذر على قلعتك يا دكتور .. العقائد براء من أمثال هؤلاء القوم . أصحاب العقائد الحقيقيون لا يمكن ان يسلكوا مثل هذا السلوك اللاقانوني واللاأخلاقي .
أكرم : ( وهو مكبّ على اللعب ) إنهم يبتكرون الحجج والأعذار لاعتقال كل من يخالفهم في الرأي ، بل وكل من لا يظهر تأييده لهم .وكل من ليس معهم فهو ضدهم0
عبوسي : كل الشعب ضدهم .
الأستاذ فاخر : ولكن ما الداعي إلى كل هذه القسوة ؟! ما الذي يبرّر هذه القسوة البشعة ؟! أين ولّت إذن جهود الإنسان المضنية عبر آلاف السنين لتثقيف عقله وتهذيب سلوكه وتنمية حضارته ؟ ! كيف يمكن أن تلُغي تلك الجهود الجبارة في غمضة عين ؟! إن ما لقيه فائز وأكرم وعبوسي وجنكيز والعديد ممن نراهم عند خروجنا إلى دورة المياه من تعذيب فظيع يثبت أننا ما نزال نعيش في القرون المظلمة0 وإذا كان يمكن أن يبرر مثل هذا السلوك السياسي في القرون المظلمة حيث كانت الثقافة ما تزال مقصورة على عدد محدود من الناس فلا يمكن أن يبرّر اليوم بعد أن بلغ الإنسان هذه المرحلة من الرقيّ 0 ولكن يبدو أن بإمكان أي حاكم متجبّر أو جماعة متسلطة أن تعيد عجلة الزمن إلى الوراء .. إلى أيام البربرية ، وأن يتنكروا للكرامة الإنسانية ولحقوق الإنسان المتعارف عليها ، ويبدو أن الإنسان لا حيلة له في تحمل قسوة أخيه الإنسان مهما تقدمت به الحضارة .
جنكيز : أستاذي ، ابتكروا طرقاً في التعذيب ما قرأنا مثلها في كتب التاريخ.
أكرم : وأغرب من ذلك أن يقوم بالتعذيب شخص قد يكون على معرفة بك وبالفعل كان أحد الذين اشتركوا في تعذيبي زميلاً من زملائي القدماء .
الأستاذ فاخر : ( وهو يهزّ رأسه ) أنا عاجز عن فهم هذا كيف يمكن أن ينقلب الإنسان إلى وحش خلال يوم وليلة ؟! ثم ما نفع الآراء التي يبشرّ بها المرء إن كانت تتخذ وسيلة للتنكيل بالإنسان ؟!
فلاح : إنهم أوباش يا أستاذ فاخر وما علينا إلاّ أن نصمد أمامهم ونفشل خططهم .
( يسمع وقع أقدام عديدة في الممرّ مقتربة من الزنزانة فيقفز فلاح مطلاً من الكوة ، ثم يهمس : " هملر والجلاد قادمان ، اجمعوا ألعابكم بسرعة"
خليل : اقلبوا صفحة عن هذا الحديث رجاء لئلا يصل إلى سمعهم .
( يجمعون ألعاب التسلية في عجلة ويخفونها تحت الأفرشة ، يفتح الباب ويدخل الرئيس وبرفقته نائب الضابط معلقاً الرشاش في كتفه )
الرئيس : ( باسماً والسيجارة تتراقص في زاوية ، فمه وقد وقف خلفه نائب الضابط وهو عابس الوجه ) صباح الخير .
أصوات : " صباح النور سيدي " و " أهلاً وسلا سيدي" 0
الرئيس : كيف أحوالكم ؟
أصوات : ( " بخير سيدي " و " الحمد لله سيدي " و " شكراً سيدي" )
الرئيس : ( وهو يجيل أنظارً فاحصة في الزنزانة ) أرى أنكم نظمتم غرفتكم تنظيماً جيداً .
أدمون : نعم سيدي .
الرئيس : وكيف تجدون المعاملة ؟
خليل : إنصافاً ، إنها أحسن معاملة يا سيادة الرئيس .
الرئيس : أنتم إذن مرتاحون .
حسون : نحن مرتاحون جداً يا مولاي .
الرئيس : ( في زهو) هذا شيء طبيعي ، فنحن لم نتولّ السلطة لغرض الانتقام من أحد 0 لقد قمنا بهذه الثورة كي نعيد للمظلومين حقوقهم فثورتنا ثورة شعبية غرضها خدمة الشعب ، إنها لا تهدف للانتقام من أحد ، بل تهدف إلى تحقيق العدالة للجميع0 وستجري محاكة عادلة للجميع ، فمن عنده شيء نال عقابه أما البريء فسيطلق سراحه0 وما ظلمناكم ولكن كنتم أنفسكم تظلمون ( وهو يبتسم مختالاً) لقد جعلتنا الثورة خطباء !
أدمون : عاش العدل ، أنا بريء سيدي . أنا ما عندي" شيء" .
الرئيس : ها أنتم ترون أن معاملتنا لكم هي خير معاملة ، بماذا تطمعون زيادة على هذه التسهيلات ؟! سمحنا لكم بالمعلّبات بجميع أنواعها أنظروا إلى النافذة . إنها معرض للمعلبات بجميع من كل صنف ولون .. ودورق الماء النظيف الصافي الذي يلمع في الشمس . وهذه البطانيات التي تفيض عن حاجتكم . ماذا تشتهون أكثر من هذا ؟! حتى الأسفنيك سمحنا لكم بها لتعقيم غرفتكم. لم يبق لكم إلاّ أن تطالبونا بأن تناموا مع زوجاتكم0
حسون : أي والله مولاي0
خليل : الحقيقة أنها معاملة ممتازة يا سيادة الرئيس .
نوري : ألا يمكنكم التخفيف من الازدحام في غرفتنا يا حضرة الرئيس ؟
الرئيس : هذا غير ممكن بتاتاً . جميع الغرف مزدحمة ، بل أكثر ازدحاماً من غرفتكم . غرفتكم لا تعتبر مزدحمة بالقياس إلى الغرف الأخرى .
خليل : طبعاً ، طبعاً يا سيادة الرئيس .
الرئيس : إن ثورتنا ثورة شعبية بيضاء لم ترق فيها قطرة من الدم . وسنجري تحقيقاً عادلاً مع الجميع ، فمن عنده شيء يساق إلى المحاكم ، أما البري فسنطلق سراحه . نحن عقائديون نحترم عقائد غيرنا ولا نسيء إلى أحد .
حسون : مولاي أنا بريء .
أدمون : وأنا أيضا سيدي بريء .. أنا ما عندي" شيء" .
عبوسي : كلّنا ما عندنا" شيء" .
خليل : كان اعتقالي غلطة يا سيادة الرئيس بسبب وشاية موظف من زملائي . وإن رئيس دائرتي مستعد أن يشهد ببراءتي لو أنكم سألتموه .
الرئيس : هل من المعقول أن يعتقل أيّ واحد منكم بلا سبب ؟! كلكم مجرمون . ( يلتفت إلى خليل وهو يخرج مجموعة من الرسائل من جيبه ) . هذه رسالة لك يا سيد خليل من دائرتك ( يناوله الرسالة) وهذه رسالة لك يا أستاذ فاخر . ( يناوله الرسالة ثم يلتفت إلى أدمون ) أما أنت يا قاقو فتعال معي .
أدمون : ( وقد استخفه الفرح ) هل ستطلقون سراحي سيدي ؟
الرئيس : قم كلب .. قم 00نطلق سراحك ! بريء وعندك أطفال . دّوختنا ! كنت أشك ان تحت رأسك بلايا .
أدمون : ( مرتعشاً وقد شحب وجهه ) أنا بريء سيدي . والمسيح بريء0 أنا ما عندي شيء0
نائب الضابط : ( يتقدم منه ويصفعه صفعة رنانة ) انهض قواد ابن القوادة .
(ينهض أدمون وهو شاحب الوجه ويبحث عن سترته المعلقة على الجدار في ارتباك ويرتديها عجلاً . ثم يخرج بصحبة الرئيس ونائب الضابط ، ويقفل الحارس الباب . يخيّم على الزنزانة صمت مقبض بينما ينكبّ خليل والأستاذ فاخر على قراءة رسالتيهما ) .
أكرم : ( بعد لحظة ) هل أخذوا يحقّقون في النهار أيضاً ؟!
فلاح : ربما كان لديهم استفسار ، أما التحقيق فلا يجري إلاّ في الليل ، فالليل ساتر جميع الفضائح .
فائز : هل تحسبهم يخشون الفضائح يا فلاح ؟ إنهم يكذبون علناً وجهراً . أما سمعت كيف يتحدث عن ثورتهم البيضاء والجميع يعلم بأنباء الإعدامات بالجملة بلا محاكمات قانونية وبموت العشرات بل المئات إثناء التحقيق ؟! أما سمعت كيف يتحدث عن حسن المعاملة وأمامه جنكيز معصوب الرأس محطم الجسد ؟
الدكتور محمود : كلما تكلّم هذا الجلف شعرت بالغثيان .
نوري : ما داموا لا يحترمون القانون فباستطاعتهم أن يكذبوا ما شاء لهم الكذب وإنهم يتبعون سياسة أكذب ثم أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس . وهم يطبقون هذه السياسة في جميع الأمور .
فلاح : الأفظع من كل ذلك أن يطمعوا في امتداح معاملتهم ولدينا والحمد لله عدد من الطباّلة والزمّارة حاضر لامتداحهم .
الدكتور محمود : من المؤسف أننا لم نستطع التخلص من عادة النفاق والاستخذاء للحكام طوال عهودنا التاريخية ، وأظن أن الأستاذ فاخر يشهد بذلك .
الأستاذ فاخر : ( وهو يرفع رأسه عن الرسالة ويقول بصوت مرتبك نوعاً ما ) قولك حق يا دكتور محمود00 قولك حق . ( يعاود الانكباب على الرسالة ) .
حسون : ماذا نفعل يا إخواننا ؟ ! إنه بلاء ابتلينا به .
عبوسي : هذا خطأ0 يجب ألاّ ننافق لهم فيفرحون بمذلتنا .
فائز : وأنا كذلك يا محمود من أشق الأمور على نفسي أن أستمع إلى هذا الجلف وهو يلقي علينا خطبه0 إن متاعب الاعتقال في كفة والاستماع إلى خطب هذا الجلف في كفة ، وهو يحسب أن الخطابة إحدى مستلزمات الزعامة التي يحلم بها على طريقة هتلر وموسوليني وهو يدرب نفسه على حسابنا .
أكرم : أيمكن أن يحلم مثل هذا التافه بالزعامة ؟
فائز : وما العجب في ذلك ؟! الزعامة مفتوحة أمامكم أيها الضباط بمجرد قيامكم بانقلاب عسكري وزماننا بعد كل شيء أصبح زمن التافهين وهناك عدد كبير من الزعماء التافهين اليوم ممن تدين لهم بلدانهم بالطاعة حيث يسود حكم الحديد والنار وهم لا يحسنون سوى إلقاء الخطب الفارغة .
أكرم : أنت تظلمنا يا فائز ، فليس جميع الضباط كما تصورهم .
فلاح : بالطبع فهناك فئة الضباط الوطنيين الواعين .
فائز : مهما يكن أمرهم ، أليست اللغة التي يتفاهمون بها هي لغة الحديد والنار ؟!
أكرم : وهل هم الوحيدون الذين يتفاهمون بهذه اللغة ؟! أليس هناك من الزعماء المدنيين ممن يتفاهمون بهذه اللغة أيضاً ؟!
فلاح : صحيح ، إنهم سواء في أساليبهم مادام هدفهم واحد وهو الإنفراد بالسلطة وفرض الدكتاتورية على الشعب .
خليل : ( يرفع عينيه عن الرسالة التي كان مكباً على قراءتها وقد اكفهر وجهه ويقول مقاطعاً الكلام بصوت منفعل ) لست أفهم هذا .. لا يمكن أن أصدقه .. هناك غلطة واضحة في الأمر . اللهم ألطف بنا .
فلاح : خير يا خليل .
الدكتور محمود : هل جاءتك الرسالة بالبشرى يا شيخ خليل ؟
خليل : ( في ذهول) أية بشرى ؟! خراب بيتي ؟ إنها رسالة من دائرتي تنبئني بأنني فصلت من وظيفتي خمس سنوات ! ماذا ستقول الحاجة الوالدة حينما تسمع بالنبأ ؟!
الدكتور محمود : ألم يكن المفروض أن يطلب إليهم المدير تصحيح غلطتهم تجاهك يا خليل ؟!
خليل : ( وقد اشتد به الذهول والألم) هذا غير ممكن 0كيف أفصل من وظيفتي ؟ قضيت السنوات الطوال في الوزارة وأنا مثال الموظف الكفء النزيه الذي لا يطعن أحد في نزاهته 0 وقاومت إغراء التجار بكل صلابة0 وكنت شغوفاً بعملي حتى أنني كنت أنجز بعض مهام العمل بعد الدوام الرسمي والمدير أعرف من غيره بسلوكي0 أهذه مكافأتي في النهاية ؟ أفصل من وظيفتي لمجرد وشاية ؟!
فائز : هذا أمر طبيعي0 أصبحت الدولة ملكاً خالصاً لهم فأخذوا يتلاعبون بوظائفها كما يشاؤون ويتقاسمون المناصب الكبيرة فيما بينهم كما يتناهب اللصوص أموالاً مهدورة ، وهو أمر لم يكونوا يتصورونه حتى في الحلم .
فلاح : كل من لا يؤيدهم فصل من وظيفته0 لم يعد لأبناء البلد حق في بلدهم فقد أصبحت حكراً لهم ولمن والاهم .
خليل : ( بذهول) ولكن خمس سنين ! كيف ستنقضي هذه السنوات الخمس ؟! الهم ألطف بنا .
فائز : وهل تحسبهم باقون خمس سنين في الحكم يا خليل ؟! هذا تشاؤم منك يجاوز كل حد .
الدكتور محمود: ( بسخرية خفيفة) تفاءلوا بالخير تجدوه يا خليل ، فما بالك نبذت التفاؤل ؟ !
خليل : أي تفاؤل بعد هذه المصيبة يا دكتور ؟ ماذا سأعمل أثناء هذه الفترة الشاقة ؟ ماذا سأعمل ؟! وكيف سأعيش ؟
فلاح : أصمد يا خليل فلست وحدك المفصول0 فصل الآلاف من الموظفين غيرك ، وسؤالك هذا سؤال الآلاف من الأسر .
نوري : ما أفظع أن يحارب المرء في رزقه وأن تتحمل عائلته وأطفاله وزر سلوكه .
فلاح : إنهم يطبقون سياسة التجويع وذلك جزء من خطتهم الإرهابية فماذا باستطاعة المفصولين أن يعملوا وقد بلغ عددهم عشرات الآلاف وليس هناك مصانع أو شركات أهلية تمتص هذا العدد الهائل من العاطلين والكساد قد عم الأسواق ؟
حسون : صحيح الكساد عم الأسواق .
عبوس : استغنت المعامل عن ألاف العمال .
فائز : قد تضطر نساء بعض الأسر التي فقدت معيليها ومصادر رزقها إلى المتاجرة بأجسادها لتطعم الأفواه الجائعة .. فيا له من حكم !
أكرم : أخبروني ، ماذا بوسع ضابط متقاعد مثلي أن يعمل ؟! أنت يا خليل تعرف بعض التجار وربما ساعدوك في الحصول على عمل أما أنا علم أكمل مدة التقاعد ولا أحسن عملاً أخر ، فما هو مصيري ؟!
الدكتور محمود : أقترح عليك يا خليل أن تفتح بالاشتراك مع أكرم دكاناً لبيع المؤونة والمعلبات وسأكون أول زبائنكما .
الأستاذ فاخر : ( وهو يطري الرسالة بين يديه) وسأكون شريكاً ثالثاً لكما إن قبلتماني ، فقد وردني في هذه الرسالة نبأ العزل من الجامعة .
الدكتور محمود : يالها من خسارة للعلم !
( يسمع وقع أقدام في الممر ، ثم يفتح الباب بعنف ويقذف منه شخص ممزق الملابس قد قيدت يداه إلى الخف ويسمع صوت نائب الضابط وهو يهتف : "أدخل قواد ابن القوادة "0 يتعثر الشخص ويسقط بين أحضان الموجودين ، بينما يغلق الباب بعنف يتنحى فلاح عن موضعه ويساعد المعتقل الجديد بمعاونة عبوسي على الجلوس في مكانه فيهمهم بعبارات الشكر يسود الزنزانة صمت ثقيل بينما يلوح على المعتقل الجديد الإنهاك والاضطراب والفزع ) .
المعتقل الجديد : ( يخاطب فلاح) أرجوك أن تخرج لي علبة سجائر من جيبي .
فلاح : ( يبادر بتقديم علبة سجائره) تفضل 00تفضل .( يتناول سيجارة ويضعها في فم المعتقل الجديد ويشعلها فيسحب منها المعتقل الجديد أنفاساً نهمة) هل عذبوك؟!
المعتقل الجديد : ( يبتسم ابتسامة شاحبة ويشير بعينيه إلى ملابسه ) كما ترى .. ومزقوا ملابسي .
خليل :و هل نقلوك من معتقل آخر أيها الأخ ؟!
المعتقل الجديد : لا00 اعتقلوني صباح اليوم .
فائز : إذن كنت طليقاً طوال هذه المدة 0
المعتقل الجديد : نعم00 اعتقلوني من الدائرة صباح اليوم . واستلموني بالركلات والصفعات حالماً دخلت المعتقل قبل أن يلقوا عليّ أي سؤال ، ( بعد لحظة) يظهر أن الإشاعات التي يتناقلها الناس عما يجري في المعتقلات صحيحة .
فائز : وبماذا يتحدث الناس ؟ !
المعتقل الجديد : يتحدثون عن تعذيب وحشي يتعرض له المعتقلون .
فلاح : كل ما يتحدثون به صحيح أيها الأخ ، وأمامك عينة من هذا النوع .
الأخ جنكيز ( يتفحص المعتقل الجديد جنكيز في فضول وفزع)
فائز : ( بعد لحظة)و بماذا يتحدث الناس أيضاً ؟ ! أعذرنا أيها الأخ عن كثرة أسئلتنا وأنت في هذه الحال فإننا نكاد نكون معزولين عن العالم الخارجي منذ دخلنا المعتقل . هل يتحدثون عن ثورة وشيكة ؟
المعتقل الجديد : الواقع أن الناس يعيشون على هذا الأمل . وفي كل صباح يتوقعون قيام الثورة .. ( بعد لحظة) ولكن من يقوم بالثورة ؟ ! الإرهاب بلغ القمة والاعتقالات لم تفتر عن اليوم الأول للانقلاب ، والكلّ يعيشون في رعب دائم .
أكرم : تلك إشاعات للتنفيس فقد حطّموا الجيش واعتقلوا آلافاً من ضباطه0 فمن يقوم بالثورة ضدهم ؟ !
فائز : وهل تأمل خيراً من انقلاب عسكري جديد يا أكرم ؟! أما يكفينا ما نعاني الآن على يدي هذا الانقلاب؟
عبوس : والشعب ؟ ! هل نسيتم الشعب ؟ !
المعتقل الجديد : وماذا بإمكان الشعب الأعزل أن يفعل ؟ الناس يخرجون صباحاً إلى أعمالهم ولا يدرون إذا كانوا سيعودون إليها في المساء أم يبيتون ليلتهم في المعتقلات .
أكرم : وهل يمكن للشعب الأعزل أن يفعل شيئاً بدون العناصر الوطنية في الجيش ؟ !
فائز : إن لم يقم الشعب نفسه بالثورة فلا فائدة فيها يا أكرم ، فستتحول عاجلاً أم آجلاً إلى ديكتاتورية عسكرية .
المعتقل الجديد : ( بعد لحظة) أنتم لا تتصورون مدى الإرهاب الذي يعانيه الناس في الخارج0 فالطّيبون يعيشون في عذاب الانتظار ويتوقعون أن يلقى عليهم القبض في أية لحظة من الليل أو النهار ، أكانوا في مراكز أعمالهم أم في بيوتهم أم سائرين في الشارع0 والعاصمة باتت أشبه بمقبرة مهجورة ، وما تكاد تغرب الشمس حتى تغلق جميع الحوانيت وتخلوا الشوارع من الناس ويخيّم على المدينة صمت لا تعكرّه سوى أصوات طلقات بعيدة تأتي دائماً من مكان ما.. الواقع أن الناس يعيشون في الخارج في معتقل كبير .
الأستاذ فاخر : كان الله في عونهم .
نوري : هذا هو المتوقع ما دام القانون قد أهمل .
حسون : يا إلهي الرحمة .
المعتقل الجديد : ( بعد لحظة) الإشاعات كثيرة عن الذين يموتون من جراء التعذيب في المعتقلات .فهل هي صحيحة؟
فلاح : هذا أكيد يا أخ فضحايا التحقيق كثيرون فعلا .
المعتقل الجديد : (بعد لحظة) أما العذاب الذي يلاقيه الناس عند مراجعتهم للمعتقلات فلا يوصف ، وإن ما يلاقونه من إهانات وانتظار ومشقة قد يفوق مصاعب الاعتقال نفسه0 إنهم يتجمهرون دائماً على أبواب المعتقلات وكأنهم في يوم الحشر .
الأستاذ فاخر :كان الله في عونهم .
خليل : هؤلاء الكفرة لم يعتقلونا وحدنا بل اعتقلوا عوائلنا معنا .
فائز : ( بعد لحظة) المهم أن الناس ما زالوا يترقبون قيام ثورة جديدة .
المعتقل الجديد : الواقع أن حديث الناس في ذلك لم ينقطع أبداً وفي كل يوم نسمع إشاعات أنها قد تحدث غداً .
عبوسي : شعبنا الأبيّ لن يسكت على ظلمهم0 سيقوم بالثورة حتماً وسيحطهم تحطيماً .
جنكير : إن شاء الله كاكه عبوسي 00إن شاء الله .
( يسمع وقع أقدام كثيرة في الممر فيقفز فلاح نحو الكوة) .
فلاح : عاد أدمون بصحبة الجلاد .
خليل : شش .. اقلبوا صفحة عن هذا الحديث رجاء .
( يخشخش المفتاح في القفل ويفتح الباب ويدخل أدمون ويسمع صوت نائب الضابط وهو يهتف : " أدخل قواد ابن القوادة"0 يخلع أدمون سترته ويعلقها على الجدار ثم يتهاوى على الأرض وهو مكفهر الوجه وفي حركاته اضطراب شديد . يخيم على الزنزانة صمت خانق ) .
الأستاذ فاخر : خيراً يا أدمون .
أدمون :(مدمدما) أي خير يتوقعه الإنسان هنا يا أستاذ؟
فلاح :هل عذبك البرابرة يا أدمون؟
أدمون : ليتهم فعلوا ذلك . ( يشتد اكفهرار وجه أدمون وتغيم عيناه ، وفجأة يدفن رأسه بين ركبتيه ويجهش ببكاء مكتوم فيهتز جسده اهتزازاً عنيفاً . يريم على الزنزانة صمت مطبق ويعلو الوجوه وجوم شديد 0 تمضي دقائق ثقيلة خانقة) .
فائز : خبرّنا يا أدمون ماذا جرى لك .
أدمون : ( مغمغماً) الأحسن لي أن أنتحر وأتخلص من هذه الحياة 0 لولا أطفالي لانتحرت الآن .
خليل : أنت حطّمت أعصابنا يا أدمون . أعصابنا خاست ولم تعد تحتمل الهزّات أخبرنا بما جرى لك .. اللهم ألطف بناء .
أدمون :( بصوت فيه رنّة بكاء) المسألة تتعلق بزوجتي .. اعتقلوا زوجتي 0
الدكتور محمود : اعتقلوا زوجتك ؟ ! فهمنا أنهم اعتقلوك من أجل الكاميرا 0فهل اعتقلوها هي أيضاً لهذا السبب ؟ !
فلاح : وهل عذبوها ؟
أدمون : ( بصوته الباكي ) علّقوها من يديها وكووا جسدها بالنار0 بصمات الحبال حول معصميها وآثار الحروق ظاهرة في كل مكان من جسدها (تمتليء عيناه بالدموع ) .
الأستاذ فاخر : ( في اشمئزاز شديد) أي نوع من البشر هؤلاء ؟ إنهم أشد وحشية من الوحوش !
جنكيز : مجرمون00 مجرمون .
حسون : يا إلهي الرحمة .
نوري : أي نوع من الحكام هؤلاء ؟ يظهر أنهم لم يكتشفوا القانون بعد .
فلاح : ( بعد لحظة) وأين قابلتها ؟
أدمون : قادوني إلى مكان لا أدري أين هو فإنهم عصبوا عينيّ0 وأدخلوني إلى غرفة ورفعوا العصابة عن عيني فرأيتها .. ويا ليتني ما رأيتها !
( يهتز جسده هزّات قوية ويعلو نشيجه)
خليل : ( بعد لحظة صمت رهيبة) كفاك يا أدمون .. أنت مزّقت قلوبنا.
أدمون : ( في نشيج متقطع) رأيتها منطرحة على الأرض وهي شبه عارية وجسدها مغطّى بالجروح والكدمات .
خليل : يا لهم من كفرة .
الأستاذ فخري : وحوش .. وحوش كواسر .
أدمون : ( مواصلاً نشيجه ) صرخت كالمجنون :" ماذا فعلوا بك يا بهية ؟ ماذا فعلوا بك ؟!" ففتحت عينيها وهمست :" أنظر ماذا فعلوا بي يا أدمون .. لكنني صمدت 0 الأسرار هنا في صدري ولم يحصلوا مني على شيء0 أرخصت كل شيء ولم أعترف 0 اغتصبوني ولم أعترف" .
فلاح : ( باعتزاز) هي إذن واحدة من بطلاتنا .
عبوسي :( في حماس) نعم 00إنها بطلة من بطلاتنا فعلا0
خليل : ( يصرخ) كفى ، لا أحتمل سماع هذا ، لا أحتمل سماعه ، يا لهم من كفرة .
فائز : فاشست .
خليل : ( بلهجة معذبة وقد ترقرقت الدموع في عينيه ) أرجوك .. أرجوك أدمون .. كفى .. لا أحتمل سماع هذا . أين نقمة الله وغضبه ؟! أين ذلك من هؤلاء الكفرة ؟!
حسون :يا ساتر يا رب00يا إلهي الرحمة0
جنكيز : مجرمون .. مجرمون .
أدمون : ( يرتفع نشيجه ويهتز جسده بعنف) سيعذبونها حتى الموت إن لم تعترف ، وسيتيتّم أطفالي .
الدكتور محمود : ( بعد لحظة) لا تيأس يا أدمون .. ستزول هذه الغمة حتماً .
أدمون : (باكياً) تحطمت حياتي00 تبهذل أطفالي .
نوري : تصبّر يا أدمون00 تصبّر .
الأستاذ فاخر : هدّئ روعك وتجمّل بالصبر يا أدمون . إنها مصيبة الناس جميعاً .
فلاح : أصمد يا أدمون .. أصمد .
خليل : الله كريم يا أخ أدمون .. الله كريم.
( يستعيد أدمون هدوءه شيئاً فشيئاً ويخّيم على الزنزانة صمت خانق حزين 0 تمضي فترة من الوقت ، ثم يسمع وقع خطوات كثيرة في الممرّ فيطل فلاح من الكوّة ثم يعود إلى موضعه مسرعاً ) .
فلاح : (هامساً) جاء حشد كبير من الشرطة والجنود بصحبة هملر والغبي والجلاد .
عبوسي : ( في قلق) لعلهم جاؤوا للتشخيص .
حسون : يا ساتر يا رب .. يا إلهي الرحمة .
نوري : ألا يتركوننا لحظة في سلام ؟! تباً لهذه الحياة التعيسة .
( يُدار المفتاح في القفل بضوضاء ويفتح الباب ثم يدخل الرئيس والملازم ونائب الضابط ووراءهم عدد من الشرطة والجنود0 يتفرس الجميع في وجوه المعتقلين بينما يسود صمت مشحون بالتوتر ).
الرئيس : ( ملتفتاً إلى الملازم وهو يشير إلى المعتقل الجديد والسيجارة تتراقص في زاوية فمه ) لماذا وضعتم هذا الكلب في هذه الغرفة ؟!
الملازم : لم نجد له مكاناً في الغرف الأخرى يا سيدي .
الرئيس : يستحسن أن تنقلوه إلى غرفة الخطرين ( يوجه الكلام إلى المعتقل الجديد) انهض كلب ، انهض .
نائب الضابط : ( يتقدم منه ويلكمه لكمة قوية فيرتطم رأسه بالجدار) أنهض قواد أبن القوادة ( ينهض المعتقل الجديد فزعاً مرتبكاً ).
الرئيس : ( يوجه الخطاب إلى نائب الضابط) أرسله إلى غرفة الخطرين مع أحد الحراس .
نائب الضابط : ( وهو يسوق المعتقل الجديد أمامه) تؤمر سيدي.
( يخرج نائب الضابط وهو يدفع أمامه المعتقل الجديد ، ثم يعود بعد حين0 يستمر الشرطة في التفرّس في وجوه المعتقلين ) .
معاون الشرطة : ( يهتف بانتصار وهو يحدق في وجه عبوسي) أنظر من هنا يا سلمان .. صاحبنا الملقّب " دعبلة" .
مفوض الشرطة : ( وهو يتفرس في وجه عبوسي) صدقت والله .. هذا " دعبلة" ( موجهاً الخطاب إلى عبوسي) أين أخفيت نفسك يا نذل ابن النذل ؟ بحثناً عنك في كل المعتقلات ( يلوح شحوب واضح على وجه عبوسي ) .
معاون الشرطة : ( يخاطب الرئيس) ظل هذا النذل يا سيدي يقاوم نهاراً كاملاً وقتل العشرات .
عبوسي : ( بلهجة ثابتة) أنا ؟! أنت غلطان .. أنا ما عندي" شيء" .
الرئيس : أنهض كلب ، أنهض وارتد ملابسك .. ما عنده "شيء" .
نائب الضابط : ( بتقدم منه وينهال عليه رفساً) انهض قواد أبن القوادة انهض وارتد ملابسك .
( ينهض عبوسي متباطئاً ويشرع في ارتداء ملابسه ) .
الرئيس : 0(يلتفت إلى معاون الشرطة ) هل تعرفتم على شخص أخر بين هؤلاء الكلاب ؟
معاون الشرطة : لا يا سيدي هو المقاوم الوحيد ( ملتفتاً إلى عبوسي وهو يقول بلهجة ساخرة) يا هلا بدعبلّة .. يا هلا ..!
مفوض الشرطة : نذل ابن النذل .. كم شخصاً قتلت ؟
الملازم : ( بلهجة هازئة) ما عنده "شيء" .. كلهم ما عندهم" شيء" .. كلهم أبرياء00 أولاد القذرة .
الرئيس : ( مخاطباً نائب الضابط) أحضره معك .
نائب الضابط : نعم سيدي ، هل يحضر فراشه معه يا سيدي ؟
الرئيس : سنبعث فراشه إلى أهله فيما بعد ( يلتفت إلى الشرطة والجنود) فلنذهب إلى الغرفة الأخرى ( يخرجون ماعدا نائب الضابط ) .
نائب الضابط : يا الله بسرعة قواد أبن القوادة .
(يخرج نائب الضابط وينتظر وراء الباب0 يرين على الزنزانة صمت مطبق بينما ينهمك حسون وأدمون في ربط فراش عبوسي) .
عبوسي : ( يخاطب الدكتور محمود وهو يضحك ضحكة شاحبة) ألم أقل لك يا دكتور أنني سأكون شاكراً لهم إن تركوني حيّاً ولم يقتلوني ؟! لكنني لا أخافهم .. لا أخاف الموت ، وقد استوفيت حقّي منهم مقدّماً .
الدكتور محمود : ( بتأثر عميق ) سنحزن حزناً شديداً لفراقك يا عبوسي .
عبوسي : ولِمَ الحزن يا دكتور ؟! أهناك ميتة أحلى من الميتة في سبيل الشعب؟! نحن زائلون والشعب هو الباقي 0 يكفيني فخراً أنني عرفتكم ورافقتكم وأنتم زبدة الشعب .
نوري : ما أعظم سروري يا عبوسي إذ تهيأ لي أن أعرف أبناء الشعب البسطاء على حقيقتهم بمخالطة أمثالك .
فائز : لسنا سوى قشور .. أنتم يا عبوسي قلب الشعب ، تحملون العبء كله .
عبوسي : العفو يا أستاذ .. ما نحن بدونكم ؟!
جنكيز : أنا تشرفت بمعرفتك يا كاكه عبوسي0
0عبوسي :أشكرك كاكه جنكيز 0
نائب الضابط : ( يطل من الكؤة ) يا الله بسرعة قواد أبن القوادة .
عبوسي : أرسلوا فراشي وحقيبتي إلى أهلي .. ( بصوت متهدج) وسلّموا لي عليهم .
فلاح : أصمد يا عبوسي .. أصمد ، نحن الباقون في النهاية وهم الزائلون .
الدكتور محمود: هذا صحيح يا عبوسي0 فنحن الباقون في النهاية وهم الزائلون0
عبوسي : أنا صامد يا رفاق ، فالشعب هو الباقي رغم أنوفهم .
خليل : ( وقد ترقرقت الدموع في عينيه) الله كريم يا أخ عبوسي .. الله كريم0 لا تيأس من رحمة الله فقد تدركك في آخر لحظة .
عبوسي : أنا لا أخاف الموت يا أخ خليل .. وضعته نصب عينيّ منذ نذرت نفسي لخدمة الشعب ( مخاطباً الجميع) أعذروني يا إخواني عن التقصير .
حسون :شهداؤنا في الجنة يا أخانا عبوسي .
( ينهض الجميع بوجوه واجمة ويصافحون عبوسي فرداً فرداً وقد ترقرقت الدموع في عيون بعضهم ، بينما يعانقه العض الأخر ويتبادلون معه القبل 0 يتجه عبوسي إلى الباب وقد لاحت بسمة شاحبة على وجهه ثم يهتف :" الوداع يا إخوان0 أتمنى لكم التوفيق0 عاشت قضية الشعب"0
يفتح نائب الضابط الباب ويسحب عبوسي من يده بعنف ثم يطبق الباب ، فيمد عبوسي يده من الكوة ملوحاً بالوداع ويهتف من الخارج : " في أمان الله يا إخوان .. في أمان الله "0 تتعلق عيون الجميع بالكوة وقد وجمت وجوههم0 تنبعث موسيقى حزينة ذات لحن جنائزي بينما تهبط الستارة ببطء ) .

- - ستار –

الفصل الثالث

(المنظر السابق نفسه .
المعتقلون في ملابس صيفية خفيفة ، وأغلبهم بملابسهم الداخلية .
الأشخاص الموجودون في الفصل السابق أنفسهم عدا عبوسي .
الوقت عصراً 0
موسيقى بطيئة تصوّر الملل والسأم0
بعض المعتقلين يلعب الورق ، وبعضهم يلعب الدومينو ، وبعضهم الآخر يلعب الشطرنج وهم يتبادلون الملاحظات أثناء اللعب .
حسون متمدد في زاوية من الزنزانة وقد غطّى وجهه بمنشفة ، الأستاذ فاخر وفائز يجلسان متجاورين وقد ران عليهما الصمت وهما يراقبان اللاعبين .
نوري يذرع الغرفة ضجراً وهو بملابسه الداخلية وقد حمل قطعة من المقوّى يروّح بها على وجهه ، يقترب بين حين وأخر من النافذة ويقف على أطراف أصابعه متنسما هواء الخارج ) .
نوري : يكاد الحرّ يقتلني إنه حرّ لا يطاق .( مخاطباً الموجودين) يا سادة00 أأنا وحدي الشاعر بقساوة الحرّ أم تراكم مثلي ؟!
فلاح : ( دون أن يرفع عينيه عن ورق اللعب ) أنت لا تحاول أن تشغل نفسك بشيء يا نوري، لذلك فأنت أكثرنا شعوراً به .
الأستاذ فاخر : أناخ علينا حرّ تموز يا نوري .
فلاح : لذلك فجوّ الغرفة كالفرن 0 فأشعة الشمس تنصب على جدرانها طيلة النهار .
نوري : لا أدري كيف سنقضي الصيف في هذه الغرفة .. سيهلكنا الحرّ ولا شك .
خليل : ( وهو مكبّ على لعبة الشطرنج ) كان الأمر سهلاً في الشتاء .. أما الآن فالله يساعدنا .
الدكتور محمود : ( وهو يلاعب خليل) ومن قال إنك ستقضي الصيف في هذه الغرفة يا شيخ خليل ؟! ربما خرجت اليوم أو غداً أو بعد غد .
خليل : بات أملي بالخروج ضعيفاً يا دكتور00 سيحبسنا هؤلاء الكفرة هنا طول حياتنا .
نوري : وإلى متى سنظل نقضي الوقت في هذه البطالة القاتلة ؟ إن تمضية الوقت بلا عمل يكاد يتلف أعصابي .
الأستاذ فاخر : الحق معك يا نوري00 إنني أقاسي مثلك من هذا الفراغ والتبطّل أضعاف ما أقاسي من أية متاعب أخرى في هذا المعتقل .
خليل : يكاد الواحد منا لا يصدّق أنه سيرى عائلته وبيته مرة ثانية .
الدكتور محمود : لكن حالتك يا خليل تختلف عن حالتنا 0 كم مرة ختمت القرأن ؟
خليل : كانت الأخيرة هي السابعة .
الدكتور محمود : إذن فلاشك أنك ستخرج بعد الثامنة .
خليل : لن ينفع القرآن مع هؤلاء الكفرة يا دكتور فهم لا يؤمنون بشيء وليس في قلوبهم ذرة من رحمة .و إلاّ فما ذبنا حتى نظل هنا بعيداً عن عوائلنا ونعامل كما يعامل مجرمو الحرب ؟! الله يساعد الحاجة الوالدة . إنها يئست من رؤيتي طليقاً .
حسون : ( دون أن يزيح المنشفة عن وجهه) الله يساعد الجميع !
خليل : لم أعد أطمع بالخروج .. غاية ما أطمع به أن ينقلوني إلى معتقل مريح .
حنكير : لا يا كاكه خليل .. الأحسن أن نكون مع بعضنا .
فلاح : جميع المعتقلات تتشابه في ظروفها السيئة يا خليل .
خليل : لا أظن أن هناك معتقلا أسوأ من هذا المعتقل يا أخ فلاح.
الدكتور محمود : أنا واثق أنك ستخرج من هنا بعد " الختمة " الثامنة يا شيخ خليل ، وربما أنبأك بذلك عصفور آخر .
خليل : لا أحب بشارة العصافير يا دكتور .. حمل إليّ العصفور الأول نبأ خراب بيتي .
نوري : وماذا بشأن قضيتي يا محمود ؟!ألم تعدني بالخروج من هنا عند نزول البطيخ إلى السوق ؟! وها قد نزل منذ أسابيع وما أزال هنا .
الدكتور محمود : أنت الذي اضطررتني إلى تحديد موعد قريب . كنت ترغب في إنجاز القضايا المتراكمة على مكتبك بأسرع وقت ممكن .
نوري : ( بعد لحظة في جد) لم يعد يهمني البقاء في الاعتقال لولا هذا الحرّ اللعين ، فما فائدة الخروج من هذا السجن الصغير إلى سجن أكبر ؟! وكيف لي ان أمارس مهنتي بنزاهة وجوهر مهنتنا هي النزاهة وهؤلاء لا يعترفون بقداسة القانون؟ لقد جعلوا البلد سجناً كبيراً بسحقهم القانون .
الدكتور محمود : ( ملتفتاً إلى جنكيز) وما رأيك أنت يا جنكيز ؟
جنكيز : ( وهو يلعب الدومينو ) بابا .. مكاني هنا جيدّ0 الامتحان وحرمت منه ، والجامعة وفصلت منها ، ومعي هنا أستاذي المبجّل .
الأستاذ فاخر : شكراً لك يا جنكيز .
الدكتور محمود : ( مخاطباً أدمون) وما رأيك أنت يا أدمون ؟ لم تعد تتحدث هذه الأيام عن إطلاق سراحك .
أدمون : ( منكباً على لعبة الدومينو ) وكيف يطلقون سراحي وقد انكشف لهم كل شيء ؟ كنت قلقا على مصير أطفالي وزوجتي ، فماتت زوجتي وتكفلّ ابن عمي بأطفالي .. وأنا محظوظ .. حصل لي الشرف أن أكون مع أمثالكم0
أكرم : ( وهو يلاعب فلاح الورق) أما أنا فباق هنا ولا أشعر برغبة في الخروج0 سافرت زوجتي إلى لندن ولن تعود ، وحياة الضابط المتقاعد لا تطاق 0 الشيء الذي ينغّص عليّ الحياة هنا حقيقة هو حرماني من المرأة .
فلاح : اعتبر نفسك أعزب وانتهى الأمر .
أكرم : وإذا اعتبرت نفسي أعزب ، هل أترك التفكير في المرأة ؟ أو كد لك أن القضية ستكون أكثر صعوبة لأنني سأطلق العنان لخيالي .
فلاح : أرجوك .. لا تطلق العنان لخيالك فوضعك لا يساعد على ذلك .
الدكتور محمود : ( بعد لحظة) يظهر أن الجميع راضون باعتقالهم عدا فائز والأستاذ فاخر 0
فائز : من قال إنني غير راغب بالبقاء هنا ؟! كل ما هنالك أن الرغبة في الكتابة تؤرقني ، وإن كنت لا أدري أين أنشر كتاباتي لو خرجت . أنا لا أستطيع أن أتصور نفسي طليقاً تحت حكم هؤلاء الفاشست0 لن أخرج إلاّ بثورة جديدة .
أكرم : ( بتهكم) أما تزال تتحدث يا فائز عن ثورة جديدة ؟! كان المفروض أن تقوم منذ خمسة أشهر وألاّ يدوم حكمهم أكثر من أسابيع معدودة .
فائز : لا تتهكم يا أكرم ، قد تُفاجأ في أية لحظة بقيام الثورة . أنت لا تدري متى تلتهب النار الخامدة تحت الرماد .
أكرم : خمدت النار وانتهى الأمر .
الدكتور محمود : وما رأيك أنت يا أستاذ فاخر ؟
الأستاذ فاخر : ماذا يهمهم لو سمحوا لي ببعض الكتب ؟! الرغبة في القراءة تقضّ مضاجعي وتجعل حياتي في هذا المعتقل شاقة للغاية . أنا لا أطمع إلاّ بتوفير الكتب لي .
الدكتور محمود : حرمانك من الكتب عقاب ناجح جداً لك يا أستاذ فاخر . وهذا هو المطلوب .
فلاح : وماذا عني ؟! تحدثتم عن القراءة والكتابة 0أما الأصباغ والفرشاة والرسم فلم يكن لها في أحاديثكم مكان .
نوري : أمرك يا فلاح شبيه بأمر ماري أنطوانيت التي طلبت من أفراد الشعب أن يأكلوا الكيك وهم لا يجدون الخبز 0 أين نحن من الرسم ؟! نحن نطالب بأبسط الضروريات وأنت تطالب بوسائل الرفاهية0 كيف تطالب بمثل هذا الأمر أيها الصامد ؟!
فلاح : لكن الرسم لي كالخبز يا نوري0 أعطني فرشاة وأصباغاً وانظر إذا كنت سأتذمر من وجودي هنا 0
نوري : ومتى رأيتك متذمراً من وجودك هنا ؟! لكأنك خلقت لتعيش في المعتقل0
فلاح : أنا واقعي وعليّ أن أكيّف حياتي وأصمد للظروف القاسية .
خليل : نحن لا نريد كتباً ولا رسماً ولا رفاهية يا اخوان0 فليدعونا نقضي حاجاتنا الطبيعية ، فليدعونا نذهب إلى المرحاض متى نشاء .
حسون : ( يزيح المنشفة عن وجه ويهتف ) صدقت يا أخانا خليل0 صارت هذه أمنية العمر . ما ضرّهم لو تركونا نذهب إلى المرحاض متى نشاء ؟! حلفت لأقضي نصف عمري في المرحاض عند إطلاق سراحي .
الدكتور محمود : نِعم الاختيار يا حسون .
خليل : يريد هؤلاء الكفرة تعذيبنا بكل طريقة يا أخ حسون .. لا بارك الله فيهم .
جنيكز : أي والله كاكه خليل .
أكرم : ( بعد لحظة) بمناسبة الحديث عن الخبز والكيك ، ألا تشعرون بالجوع ؟! جاوزت الساعة الخامسة ولم يحضروا لنا الغداء .
حسون : بطني تقرقر من الجوع ولا أقدر على النوم .
ادمون : وأنا مثلك يا حسون .
الدكتور محمود : إنهم يختصرون لنا الغداء والعشاء في وجبة واحدة تطبيقاً للقواعد الصحية0
فلاح : ( ينهض إلى النافذة ويتناول دورق الماء ) هل من شارب للماء ؟
خليل : ( وهو يرفع إصبعه ) نعم ، عافاك الله .
فلاح : ( يهز الدورق في يده) إنه فارغ .. سأطلب من عباس أن يحضر لنا ماء (منادياً من الكوة وهو يحمل الدورق ) عباس .. عباس .
الحارس : ( يظهر أمام الكوة ) نعم .
فلاح : نريد بعض الماء يا عباس .
الحارس : ( بصوت منخفض) أنت تعلم أن الأوامر صريحة بعدم إحضار الماء إلاّ في المواعيد المقرّرة ، ونحن نخاف على أنفسنا وإن كانت قلوبنا معكم 0 إنهم قساة ولا مانع لديهم أن يرمونا بالرصاص إذا ما علموا أننا نحسن معاملتكم .. عمل الخير اليوم يؤدي بصاحبه إلى التهلكة يا إخوان .
فلاح : لا تقل ذلك يا عباس .. ما جزاء الخير إلاّ الخير .
الحارس : لماذا أنتم في السجن إذن ؟! كلّكم طيبون وربما عملتم كثيراً من الخير في حياتكم فكان جزاؤكم السجن .
خليل : صدقت يا عباس00 والله إني لم أؤذي أحداً في حياتي .
فلاح : هذه فترة عابرة يا عباس ولن تدوم .
الحارس : ( بحرارة) إن شاء الله ، هذه أمنية يحتاج تحقّقها إلى حظ كبير ( يمد يده من الكوة ويتناول الدورق) لعنة الله على آبائهم أجمعين .
الدكتور محمود : ( مخاطباً فلاح ) لمدير العلاقات العام الفضل في التأثير على عباس 0 من سيحلّ محلّك لو أطلقوا سراحك يوماً لا سمح الله ؟!
أدمون : ومن قال لكم إنه يرغب في أطلاق سراحه ؟
نوري : سنقدّم للمسؤولين عريضة احتجاج نطالب فيها بإبقائه حتى يخرج آخر شخص منا وندعمها بالحجج القانونية .
فلاح : اطمئنوا فسأبقى معكم حتى النهاية . سأخرج حينما يخرج فائز0
خليل : الله كريم يا أخوان .. الله كريم .
( يسمع ضوضاء في الممرّ ثم يطلّ عباس من الكؤة وهو يحمل دورق ماء)
الحارس : ( وهو يناول الدورق لفلاح) حضر الغداء فاستعدوا .
فلاح : ( وهو يتناول الدورق مخاطباً فائز) استعد يا مدير الأنباء العام .
فائز : ( ينهض ويحمل الصحون الموضوعة بجوار الباب) أنا حاضر ( يفتح الحارس الباب لفائز فيخرج ) .
فلاح : ( مخاطباً حسون) وأنت يا مدير الطعام العام ، انهض وألق عنك كسلك ( مخاطباً الجميع) استعدّوا يا إخوان .
أدمون : نحن حاضرون .
حسون : ( وهو يجلس) إذا حضر الطعام غاب الكسل ( ترفع أدوات اللعب ، ويدبّ النشاط بين الموجودين ، ويُفرش خوان في وسط الغرفة ، ويستخرج حسون أرغفة الخبز الأسمر وينهمك مع أدمون وجنكيز في تقطيعها ) .
أكرم : ( يتجه إلى النافذة ويقلّب المعلبات ) علبتين " بيف" وعلبة سلطة خضار . ( يحمل المعلبات إلى حسون) .
حسون : ( وهو منهمك فتح المعلبات) يحسبون هذا علينا لحماً ! لا ادري كيف يعيشون عليه في بلاد الإنجليز !
أكرم : ( يتناول قطعة من اللحم ويقضمها بنهم ) لذيذ ! أنت غلطان يا حسون ، فهذا اللحم لذيذ جداً 0 أنت لم تعتد على أكله .
حسون : ولماذا أترك اللحم الطري وأكل اللحم المعلّب ؟ حكمتك يا رب ! ما كنت أتصور أنني سآكل يوماً لحم المعلبات ! أنا الذي كنت أبيع أحسن أنواع اللحم وأتخير للعائلة أفضل لحوم الدكان .
حنيكر : أي والله كاكه حسون .. لحومنا أحسن اللحوم خصوصاً لحوم الأغنام الكردية .
الدكتور محمود : أسكت يا حسون . من حسن حظنا أنهم سمحوا لنا بالمعلّبات وإلاّ لأصبنا جميعاً بأمراض نقص الغذاء .
أكرم : ( يختطف قطعة أخرى من اللحم ) لذيذ .. لذيذ !
فلاح : كفاك يا أكرم .. هذا اللحم للجميع وليس لك وحدك .
أكرم : هل تحكمون علينا بالموت جوعاً ؟! أنا جائع ولا أصبر على الانتظار0 (يفتح الباب ويدخل فائز فينهض حسون ويتناول منه القدر ويقف بجوار الباب مطلاً من الكوة )
حسون : ( مخاطباً الجنود بصوت جهوري) كيف حالكم يا إخواننا ؟
أصوات : ( من الخارج) أهلاً .. أهلاً بك يا حسون .
حسون : ( وهو مطلّ من الكؤة) أهلا ..أهلاً بالحبايب . ( بعد لحظة) لا تنسوا جماعتكم يا إخواننا . كثّّروا من اللحم .
أصوات : ( من الخارج) تدلّل يا حسون .. تدللّ .
حسون : أحسنتم يا إخواننا .
( يناول الحارس القدر إلى حسون فيحمله إلى الداخل ويغلق الباب)
أكرم : ( وهو يقبل على القدر ) ما غداؤنا اليوم ؟
حسون : إحزر .
أكرم : لا يمكن لأي إنسان أن يحزر نوع هذا الطعام .. إنه أردأ من طعام الجنود بكثير ( يوزع حسون الطعام على الموجودين في مجموعات ثلاث)0
الدكتور محمود : ( وهو مقبل على الطعام ) تحتاج الخضرة إلى مكرسكوب لتمييزها بين هذا الخليط العجيب أما للحم فعظام وغضاريف . ولا أدري كيف يتفق هذا الغذاء وما يحتاج إليه الجسم من عناصر غذائية إنه يتنافى وأبسط الشروط الصحية .
نوي : ومتى كانوا حريصين على صحتنا يا محمود حتى يهتموا بغذائنا ؟! لا شك إنهم يتمنون أن يصيبنا وباء يقضي علينا جميعاً ليتخلصوا منّا0
جنكيز :أي والله كاكه نوري0
خليل : ( بعد لحظة) أية معاملة هذه أيها الكفرة ؟! تمنعوننا من الذهاب إلى المراحيض ، وتطعموننا طعاماً تعافه الحيوانات ، حتى مجرمون الحرب لا يعاملون هذه المعاملة .
الأستاذ فاخر : ( بعد لحظة ) ما وراءك من أنباء يا فائز ؟
فائز : سمعت أثنين يتحدثان عن عدد جديد من الضباط ماتوا أثناء التحقيق 0 ويظهر أن الحكومة أعلنت رسمياً عن تنفيذ حكم الإعدام فيهم تغطية للحقيقة ، ورأيت أيضاً وجهاً جديداً لم أره من قبل لشاب في الثلاثين من عمره ، وكان منتفخ الوجه مربوط الساقين بالسلاسل قد حُزّت رقبته بجرح عميق وكانت ثيابه مصبوغة بالدماء .
نوري : عجيب أمر هؤلاء القوم .. ألم يشبعوا من التعذيب ؟! ألم يملّوا هذه اللعبة ؟! مضى عليهم خمسة أشهر وهم على هذا الحال . ألم يحن لهم الوقت ليتذكروا أن هناك قوانين وضعت لمحاكمة المتهمين وأن التعذيب ليس جزءا ًمن تلك القوانين ؟!
أدمون :إنهم يتونسون بالتعذيب .
جنكيز : أي والله كاكه أدمون .
فائز : ( متردداً) أحب أن أنقل إليكم نبأ وإن كنت أعلم أن بعضكم سيهزأ به كالعادة . إن الشاب الجديد سر بمعرفتي حينما عرفني ، وانتحى بي جانباً وهمس في أذني بأن نتوقع خبراً ساراً في فرصة قريبة جداً .
أدمون : ( يفرح) هل سيطلقون سراحنا ؟!
الدكتور محمود : أما تزال تحلم يا أدمون ؟
أدمون : ( بخيبة أمل) أي خبر يسرنا إذن ؟!
فائز : الثورة المأمولة طبعاً .
أكرم : هذه أحلام لا فائدة فيها .. ما هي إلاّ إشاعات للتخدير ، وربما كانوا هم أنفسهم يطلقونها لإلهاء الناس ، العناصر الوطنية في الجيش سحقت وانتهى الأمر ، متى ستكفّون عن هذه الأحلام ؟!
فائز : لا تستبعد يا أكرم أن تكون هذه الإشاعة صحيحة ، والظاهر أن ذلك الشاب استقاها من مصدر موثوق .
أكرم : هذه الإشاعة تتردد بين الناس منذ اليوم الذي دخلنا فيه المعتقل
( يسمع وقع أقدام في الممرّ فيطل فلاح من الكوة)
فلاح : هملر و الجلاد قادمان ، فلنجمع أواني الطعام بجوار الباب .
( ينصرف البعض إلى رفع أواني الطعام ووضعها بجوار الباب ، ويرُفع الخوان ،ويجلس كل في موضعه ينتهي وقع الأقدام عند باب الزنزانة ، ثم يفتح الباب ويدخل الرئيس ونائب الضابط ) .
الرئيس : ( وهو يرمق الجميع بنظرات متعجرفة والسيجارة تتلاعب في فمه ) جئت لأخبركم بالموافقة على التماسكم وقد تقرر أن يسمح للمعتقلين بالاستحمام في منتصف كل شهر ابتداء من الغد .
نوري : هذا خبر سارّ حقاً يا حضرة الرئيس 0 بدأ القمل يغزوا أجسادنا بشكل لا تنفع فيه الأدوية المعقّمة .
الدكتور محمود : وكيف تنفع الأدوية المعقمةّ إذا لم نكن استحممنا منذ أكثر من خمسة أشهر ؟!
الرئيس : ( بتهكم) لم نحضركم إلى هنا من أجل الراحة والاستجمام أيها الدكتور النطاسي .
نوري : ولكن المعاملة القاسية للمعتقلين السياسيين غلط يا حضرة الرئيس 0 ونحن معتقلون سياسيون لا مجرمون عاديون 0 إن المجرمين العاديين لا ينبغي معاملتهم مثل هذه المعاملة السيئة .
الرئيس : ( بشيء من الحدّة ) أنتم تستحقون أكثر من ذلك .
نوري : ولكننا لم نذنب بحقّ الثورة يا حضرة الرئيس ، فلماذا نبقى في الاعتقال ونعامل هذه المعاملة ؟! وجدير بنا أن نُحال إلى المحاكم أو أن يطلق سراحنا 0 ولا يصحّ قانوناً أن نعتقل أكثر من خمسة عشر يوماً على ذمة التحقيق .
الرئيس : ( في حدة) لا تتعجل الأمور أيها القانوني ، إنها ثورة وليست لعبة !
نوري : لنا عوائل يا حضرة الرئيس تنتظر إطلاق سراحنا بفارغ الصبر وهي تعاني من الضيق معاناة شديدة . وقد فقد بعضها مصدر رزقها الوحيد ولم يبق لها من يقوم بإعالتها 0 نحن مواطنون أبناء هذه البلد ولسنا أسرى حرب .
أدمون : سيدي00 عندي ثلاثة أطفال ولا معيل لهم غيري .
الرئيس : ( في غضب) إلى جهنم وبئس المصير 0 وما ظلمناكم ولكن كنتم أنفسكم تظلمون .
نائب الضابط : قوادين أولاد القوادة .
( يخرج الرئيس مع نائب الضابط ويغلق الباب وراءهما بعنف)
فائز : ( بعد لحظة ) لا جدوى من الدخول مع هذا الجلف في نقاش
منطقي أو مع أيّ جلف أخر منهم يا نوري0 إنهم لا يعترفون بالحقائق وإن كلامهم مليء بالأكاذيب والمغالطات .
نوري : ولكن لابد أن نلفت نظرهم إلى أحكام القانون .. لا بد لنا أن نحتجّ على هذا الخرق الصارخ للقوانين 0 ولا بد لهم أن يطبّقوا القوانين ويلتزموا بها وإلاّ فلن تكون دولة .
خليل :وما نفع الاحتجاج يا أخ نوري؟ إن ذلك يثير غضبهم ويزيد من سوء معاملتهم لنا0
نوري : اسمحوا لي أن أصارحكم بأن تخاذلنا هو الذي أوصلنا إلى هذه الحالة . ولو أن جميع المعتقلين قد اتبعوا وسيلة من وسائل الاحتجاج لما تمادوا في هذه المعاملة اللإإنسانية التي تتنافى وأبسط أحكام القوانين المرعية .
فلاح : أنت محق فعلاً .
فائز : هذا صحيح جداً .
خليل : ولكنهم قد يجدون ذلك عذراً للقضاء علينا يا أخ نوري 0 فهم لا يكترثون بمصيرنا 0 وقد يرحبون بعذر يخول لهم سحقنا باعتبارنا خطراً على الثورة .
جنكيز : أي والله كاكه خليل .
حسون : يا إلهي الرحمة .
نوري : إنهم ما فتئوا يرددون على سمعنا منذ اليوم الأول بلا كلال أو ملل بأن من عنده" شيء" ينال عقابه والبريء يطلق سراحه ، ومع أننا أبرياء جميعاً فما نزال منذ أكثر من خمسة أشهر ننتظر أن يظهر هذا " الشيء0" وهذا شأن عشرات الألوف غيرنا من المعتقلين الأبرياء الذين ينتظرون أن يكشف عن " الشيء" لديهم .
فائز :أتريد الحقّ يا نوري ؟! نحن جميعاً عندنا " شيء" في عرفهم .
نوري : وكيف ذلك ؟ نحن أبرياء جميعاً بحكم القانون ، فنحن لم نقم بأي عمل ضدهم0 ثم من فينا مجرم حقاً ؟ إذا كنا مجرمين فجرائمنا من نوع عجيب ! فأنت كاتب وطني والدكتور محمود يعالج الفقراء مجاناً ، وأنا أحكم بعدالة ، والأستاذ فاخر صاحب آراء حرة ، وفلاح مهندس مخلص، وخليل موظف نزيه ، وأكرم ضابط وطني 00 إلى آخره . فهل نستحق السجن على ذلك ؟! ليس هناك قانون في الدنيا يعاقب على مثل هذه الأفعال .
خليل : الله كريم يا أخ نوري0 سينال هؤلاء الكفرة عقابهم يوماً جزاء ما اقترفت أيديهم 0 إن الله يمهل ولا يهمل وإلاّ فهل من المعقول أن يكون مصير النزيهين أمثالنا السجن ؟! كلّنا أبرياء .
فائز :إذن فاسمحوا لي أن أسألكم هذا السؤال0 أفلسنا جميعا بشكل أو بآخر نؤمن بالحرية والعدالة الاجتماعية وندافع عن الكرامة البشرية و نستنكر الظلم والطغيان ؟ .
حسون : ( بحماس) فعلا كلنا كذلك يا أخانا فائز.
جنكيز : طبعا كلنا كذلك يا كاكه فائز .
أدمون : طبعا00طبعا0
الأستاذ فاخر : لا خير في الحياة إن لم تقم على مثل تلك المبادئ والقيم النبيلة .
فائز : هذا هو لبّ القضية00 فنحن جميعا عندنا "شيء" في عرفهم0
فلاح : لا فض فوك يا فائز0فنحن بالفعل ندفع ثمنا "للشيء" الذي يبحثون عنه عندنا0نحن ندفع ثمن المباديء السامية والمثل العليا التي نؤمن بها ونناضل من أجلها0
الدكتور محمود : ( ضاحكا ) فلا تلومونهم إذن فنحن جميعا نملك هذا "الشيء" الذي يبحثون عنه0
خليل : إذن فسيسجننا هؤلاء الكفرة طول حياتنا ، ماذا ستنفعنا مثلنا العليا ومبادئنا السامية ؟
الأستاذ فاخر : المثل العليا تقتضي التضحية دائماً ولا تفيد صاحبها فائدة مادية يا خليل ، لكنها تسعد ضميره 0 وإلاّ ما الذي يدفع امرأة مثل المرحومة زوجة أدمون إلى التضحية بحياتها ؟ وإن مجتمعاً بدون مثل عليا مقضي عليه بالتفسخ والانحلال 0 ونحن مدينون بتقدّمنا ورقّينا إلى حملة المثل العليا الصادقين الذين لا يبتغون جزاء ولا شكوراً .
جنكيز : ( باعتزاز) هكذا كنت تحدثنا دائما يا أستاذنا في محاضراتك وتلقننا المباديء والقيم السامية0
الأستاذ فاخر:شكرا يا جنكيز0
أدمون : ( بفخر) كانت المرحومة أم جانيت مثالية في كل شيء يا أستاذ فاخر0
خليل : ( مغموما) جلبت علينا مثاليتنا البلوى ، وسنظل محبوسين هنا طول عمرنا .
فائز : وكيف تسمح لنفسك يا خليل بالاستسلام لليأس إلى هذا الحدّ ؟ أفتعتقد حقاً أنهم يستطيعون الاستمرار في الحكم سنين طويلة ؟
خليل : ولماذا لا يستمرون سنين طويلة يا أخ فائز ماداموا يحكمون البلاد بالحديد والنار ؟ بإمكانهم أن يستمروا في حكم البلاد أجيالاً طويلة ماداموا معتمدين على هذا الأسلوب . أليس هذا شأن الكثير من بلدان العالم ؟
فائز : ومتى نجح هذا الأسلوب في تثبيت حاكم من الحكام ؟! متى نجحت النار الحديد في كسر شوكة الشعب وإخماد صوته إلى النهاية ؟ سيقوم الشعب بالثورة عليهم حتماً .
أكرم : وماذا يحسن الشعب سوى القيام بمظاهرات استنكارية ؟ النصر للقوة لا للكثرة 0 ولقد كانت القوة بيد الضباط الوطنيين وكانوا يسيطرون على الجيش بكل أسلحته .. الدبابات والطائرات و المدفعية 00ومع ذلك لم يفعلوا شيئاً وتركوهم يقومون بمؤامرتهم ويدمرون البلاد0 فماذا فعل الجيش آنذاك وماذا فعل الشعب حتى نأمل الآن بثورة يقوم بها الشعب ؟
فائز : أنا معك يا أكرم في أن الشعب أخذ على حين غرة ولم يستعد لمنازلتهم ولكن علينا ألا نستهين بما يمكن أن يفعله 0 ويجب ألاّ يتطرق اليأس إلى قلوبنا 0 ولا خير في ثورة لا تنبثق من الشعب .
أكرم : لا أمل إلاّ بثورة يقوم بها الجيش يا فائز وهو أمر بعيد الوقوع بعد أن سحقوا العناصر الوطنية فيه .
فائز : لا يا أكرم .. لا تستهن بالشعب 0 قد تراه خاملاً وجلاً غير قادر على مواجهة الطغيان ، ولكنه إذا هبّ يصنع الأعاجيب .
خليل : ( بعد لحظة) ما رأيكم بدور تسلية يا إخوان ؟! دعونا من الجدّ فحالنا لا تحتمل مزيداً من الهموم0 إننا نقرّر في كل مرة ألاّ نخوض في أحاديث الجدّ ، ثم نعود إليها فنكسر القرار .
نوري : وكيف نستطيع أن ننسى واقعنا الأليم ؟ !
خليل : ما رأيكم بلعبة " محيبس" ؟
فلاح : أنا شخصياً موافق يا مدير التسلية العام بالوكالة .
خليل : ( مخاطباً الحاضرين ) وأنتم ؟ موافقون ؟!
أصوات : ( ترفع بعض الأيدي تعلن الموافقة ) موافجين ... موافجين ..
( ينقسم الموجودون في شيء من الصخب إلى فريقين يترأس أحدهما خليل ويترأس الثاني حسون 0 تمضي فترة من الوقت وهم يمارسون اللعبة في شيء من الصخب والضجيج والمرح ، تسمع ضوضاء فتح الباب الخارجي فيكف الحاضرون عن لعبهم ويصيخون السمع وقد ارتسم الوجوم على وجوههم) .
فلاح : الباب الخارجي يفتح .
حسون : يا ساتر يا رب .. يا إلهي الرحمة .
( ينهض فلاح ويطل من الكوة )
فلاح : حضر الجلاد وحده .
( يصغي الحاضرون إلى وقع خطوات نائب الضابط في الممر وقد ارتسم القلق على وجوههم ) .
أدمون : ( بعصبية) ألا يرحموننا ليلة من حضور الجلاد ؟!
خليل : وكيف ينعم الكفرة بنومهم بلا تعذيب يا أخ أدمون ؟!
نوري : هذه أسوأ ساعات اليوم .. ساعة ترقّب التحقيق الليلي ، ولن أنسى وقع هذه الخطوات الكريهة ولو عشت مائة عام .
الدكتور محمود : ترى من " المحظوظ" هذه الليلة ؟!
فلاح : ( وهو ينظر من الكوة) دخل الجلاد الزنزانة رقم 3 0
الأستاذ فاخر : كان الله في عونهم .
فلاح : ( بعد لحظة) خرج مع شخص طويل .. أظنه الرئيس أول قاسم خلف (يعود إلى موضعه وقد خيّم الصمت على الزنزانة )
فائز : ( بعد لحظة) مساكين هؤلاء الضباط ، لم يكونوا يتخيلون يوماً أنهم سيلاقون هذا المصير .
أكرم : ومتى أهين الضباط على هذا النحو ؟ وفي أي بلد ؟ ! القوانين العسكرية تمنع إهانة الضابط حتى لو وقع أسيراً بأيدي الأعداء 0 ينبغي أن يعامل باحترام حتى لو حُكم عليه بالموت ، أما هولاء فيسخّرون لضربنا وإهانتنا قبل أن تثبت علينا أية تهمة كيف سيطيعنا الجنود لو عدنا ثانية إلى مراكزنا ؟!
نوري : ومن الذي سلمِ من الإهانة يا أكرم ؟ ! إنهم وزّعوا الإهانات بالعدل والقسطاس على الجميع ولم يسلم منهم ضابط ولا أستاذ ولا قاضي ولا موظف ، هذا هو الأمر الوحيد الذي طبقوا فيه العدالة تطبيقاً كاملاً .
جنكيز : لم يفرقوا بين أستاذ وطالب .
خليل : والله كريم يا أخوان .. الله كريم .
حسون : ( بعد لحظة) دعونا نكمل لعبتنا يا إخواننا ، فريقنا هو الرابح فلا تتهرب يا خليل .
خليل : نعم خير لنا أن نكمل لعبتنا فلن يفلت مني " المحبس" هذه المرة .
( يعودون إلى إتمام اللعبة في غير حماس وقد دبّ البرود إلى لعبتهم تمضي فترة من الوقت ، تسمع ضوضاء القفل الخارجي فيكفّون عن اللعب في الحال ، ويقفز فلاح نحو الكؤة ) .
فلاح : ( وهو يطل من الكوة) دخل الجلاد ومعه الرئيس الأول قاسم ( بعد لحظة في ارتياع ) ما هذا ؟! وقع الرئيس الأول قاسم على الأرض .. يحاول الجلاد أن ينهضه .. يبدو أنه محطم تماماً .. الجلاد يسحله نحو زنزانته .. دفعه داخل الزنزانة . ( يواصل فلاح النظر من الكوة وقد ساد الزنزانة سكون عميق) .
الأستاذ فاخر : ( في اشمئزاز شديد) وحوش .. وحوش كواسر !
فلاح : ( في انزعاج) يتجه الجلاد نحو زنزانتنا .. إنه قادم إلينا .
( يعود فلاح مسرعاً إلى موضعه يسود الجزع والقلق الحاضرين بينما يسمع وقع خطوات في الممرّ ، تتوقف الخطوات عند باب الزنزانة ويطل وجه نائب الضابط من الكوة) .
نائب الضابط : الدكتور محمود سامي .
الدكتور محمود : نعم .
نائب الضابط : البس وتعال معي .
( ينهض الدكتور محمود وقد شحب وجهه قليلاً . يفتش عن سترته بينما ينهمك الحارس في فتح الباب ) .
خليل : ( هامساً) الله كريم يا دكتور .. الله كريم .
( يفتح باب الزنزانة ويخرج الدكتور محمود ، يصغي الموجودون إلى وقع الخطوات المبتعدة في الممرّ وقد خيمّ عليهم الوجوم وفاضت وجوههم بالقلق ، تطول فترة الصمت ) .
نوري : إلى متى تدوم هذه الحال ؟ تباً لهذه الحياة التعيسة .
حسون : متى تحلّ نهاية هؤلاء الظالمين يا رب ؟!
خليل : الله كريم يا أخ حسون .. الله كريم .. ما من ظالم إلاّ ظلم .
جنكيز : ولكن إلى متى يصبر الله على ظلمهم ؟!
خليل : الله كريم يا أخ جنكيز .. الله كريم .. إن الله يمهل ولا يهمل .
فائز :سيحاسبون يوما حسابا عسيرا0
خليل : الله كريم يا إخوان .. الله كريم إن عين الله ساهرة .
( يمضي الوقت في بطء والصمت يخيّم على الزنزانة ، ويداعب النوم عيون البعض فتسقط رؤوسهم على صدورهم )
الأستاذ فاخر :كم مضى من الوقت على ذهاب الدكتور محمود ؟!
فلاح : ( وهو ينظر في ساعته ) ساعة على الأقل .
أكرم : وربما أكثر من ذلك .
( يستمر الصمت 0 يسمع الباب الخارجي وهو يفتح فينتبه الموجودون جميعاً ويلوح على وجوههم التوقّع والقلق ، تقترب الخطوات من الزنزانة ثم تتوقف عند الباب 0 يفتح الباب ويسمع صوت نائب الضابط وهو يهتف " أدخل قواد ابن القوادة "0 يدخل الدكتور محمود ويغلق نائب الضابط الباب 0 يستند الدكتور محمود إلى الباب وقد لاح على وجهه إعياء شديد ولطّخت وجهه الدماء0 يهرع إليه الموجودون في لهفة وقلق ويحيطون به من كل جانب ) .
فلاح : كيف حالك يا محمود ؟
نوري : طمئنا يا محمود .. طمئنا .
الدكتور محمود : ( وهو يبتسم ابتسامة شاحبة) بسيطة .. بسيطة .
حسون : بطل يا دكتور .. أي والله بطل .
جنكير : ( وهو يهزّ رأسه متوعداً) قيناكا دكتور .. قيناكا .
خليل :الله كريم دكتور .. الله كريم .. ما من ظالم إلاّ ظلم .
الأستاذ فاخر : ( في اشمئزاز شديد) وحوش .. وحوش كواسر !
فائز : دعوه يستريح رجاء .
( يتنحى عنه الموجودون 0 يحاول الدكتور أن يخطو في الغرفة ، وما يكاد يتحرك حتى ينهار على الأرض فيتلقاه أكرم بين يديه . يهيءّ أدمون وحسّون الفراش ، ويتعاون فلاح وأكرم وخليل على إراحته على الفراش في شيء من الضجة والارتباك وتبادل الملاحظات ) .
أدمون : ( متألماً) ما تستأهل يا دكتور .
( يقوم جنكيز وفلاح وحسون بخلع ملابس الدكتور محمود 0 تظهر الجراح والكدمات الزرق على جسده وذراعيه وساقيه ) .
خليل : ( يتأثر عميق) ماذا فعل بك هؤلاء الكفرة يا دكتور ؟! ماذا فعلوا بك؟!
أكرم : ( في حنق) سفلة 00 مجرمون 0 أهكذا يُعامل أّمثالك من الأطباء الإنسانيين ؟! ستحلّ ساعة قصاصهم يوماً .
الدكتور محمود : ( وهو يبتسم ابتسامة شاحبة) بسيطة أكرم .. بسيطة .
( ينشغل الجميع في تدليك جسد الدكتور محمود وربط ذراعيه وساقيه بالضمادات وهم يتبادلون الملاحظات ) .
الأستاذ فاخر : ( بعد فترة من الوقت ) الدكتور متعب والوقت متأخر وخير ما نفعله أن نتهيّأ للنوم .
فلاح : فعلاً .
( ينهض الجميع ليتهيئوا للنوم 0 ترتب الأفرشة بإرشاد فلاح ويهيأ للدكتور محمود موضعاً بجوار الجدار ) .
فلاح : سينام الأستاذ فاخر بجوار الدكتور محمود فهو خير من يحافظ على راحته .
الأستاذ فاخر : حاضر .
فلاح : وأنت يا فائز تنام مقابل الدكتور لتحافظ على راحته عندما تتمدد .
فائز : وهو كذلك .
فلاح : جنكيز بجوار فائز ، وأكرم في الطرف .
أكرم : ( في احتجاج) لماذا لا تعيّن لي يوماً مكاناً مريحاً للنوم يا فلاح؟! إنني أنام في الطرف دائماً .
فلاح : أين تحب أن تنام إذن ؟!
أكرم : سأنام اليوم بجوار فائز .
فلاح : كما تشاء00 نوري بجوار الأستاذ فاخر، وخليل بجواره .
نوري : أرجوك ، أعفني من النوم بجوار خليل .. شخيره يطيّر النوم من عيني ، سأنام بجوار أكرم .
فلاح : طيب ، أدمون بجوار نوري ، وخليل بجوار الأستاذ فاخر ، وحسون في الطرف ، وأنا بجوار الباب .
الأستاذ فاخر : أنت تظلم نفسك دائماً يا فلاح ، أنت تتخيّر المكان السيّء دائماً .
فلاح : لا بأس يا أستاذ فاخر ، بوسعي أن أنام في أيّ مكان ، لو كنت تدري في أي نوع من الأماكن كنا ننام أثناء جولاتنا في الريف ، وكان البعوض يأكلنا .
حسون : وأنا أيضاً مستعد للنوم في أي مكان 0 النوم نعمة من الله في أي مكان كان0
الأستاذ فاخر : النوم من أعقد مشاكلنا هنا ، ولم نستطيع حل هذه المشكلة منذ دخلنا هذا المعتقل .
فائز : هذا أمر طبيعي يا فاخر 0 فهذه الغرفة مخصصة لحبس شخصين فقط .
( يتمدد الجميع في مواضعهم بعد أن يهيّئوا أفرشتهم ويتهيّئون للنوم) .
فائز : حصرتني مع الحائط يا أكرم .. تنحّ قليلاً .
أكرم : لا يمكنني أن أتزحزح سنتمتراً واحداً . فنوري ينام فوقي 0إنه ينام على ظهره رغم أن المكان لا يكفي للنوم على الظهر .
فلاح : النوم على الظهر ممنوع 0 عليكم بالنوم على جوانبكم .
نوري : ما حيلتي إذا كنت متعوداً النوم على ظهري ؟!
فلاح : تعوّد النوم على جنبك .
نوري : ( بعد لحظة) ليس هذا نوماً .. إنه أشغال شاقة .. إن أصعب ساعات اليوم علىّ هو وقت النوم 0 الله يلعن الزمان الذي أرانا هذه الرزايا .
خليل : الله كريم يا أخ نوري .. الله كريم . لا بد لهذه الحال من نهاية 0 كل حال إلى زوال .
نوري : ألا يكفيهم أنهم يعتقلوننا بلا سبب حتى يعذّبونا هذا العذاب ؟!
الأستاذ فاخر : ( بعد لحظة) رجل من هذه ؟ّ تكاد تدخل في معدتي . أهي رجلك يا أكرم ؟
أكرم : متأسف يا أستاذ فاخر ، إنها رجلي ، ولكن ما حيلتي إذا كانت ساقي طويلتين ؟ ماذا أفعل بهما ؟! هل أقطعهما ؟!
فلاح : أعقفهما قليلاً يا أخي 0 أمن الضروري أن تمدّد جسمك بطوله ؟!
أكرم : لم أتمنّ في حياتي يوماً أن أكون قصيراً إلاّ حينما دخلت هذه المعتقل الملعون .
فائز : ( بعد لحظة ) متى نطفيء النور ؟!
فلاح : لم يحن بعد ميعاد إطفاء النور .
أكرم : ( وهو ينهض) سأطفيء النور الآن وليفعلوا ما يشاؤون ( يطفيء أكرم النور فيسود الظلام الزنزانة ، تمضي دقائق تسمع خلالها التنهدات والنحنحات) .
فائز : والآن بعد أن استقرّ وضعنا حان دورك أيها القصخون .
فلاح : ألا يكون من الأفضل أن تؤجل الحكاية إلى ليلة أخرى خاصة وأن محمود متعب ؟!
الدكتور محمود : ( بصوت مرهق) بالعكس .. الحكاية تسليّني يا فلاح .
أصوات : نريد الحكاية .. نريد الحكاية .
فلاح : طيب .. أبن وصلنا في حكايتنا في الليلة السابقة ؟!
حسون : تركنا الهصيص الملعون أخو الزناتي خليفة يجمع قومه لنزال بني هلال .
فلاح : ( وهو يتنحنح) قال الراوي ، يا سادة يا كرام 0 لما علم بنو هلال بقصد الهصيص ركب الأمير حسن وديّاب والقاضي وأكابر بني هلال في نحو ألف فارس يلاقونهم من غير عدد سوى المزارين ، لأن الدوري أبن وماح رمحه كتفه 0 فلما قاربوا الهصيص ركب ولاقاهم ودق طبله ونشر الأعلام وشهر الحسام ، وهجم على بني هلال كالسبع الغضبان وتفرق قومه في كل مكان وأغاروا على البيوت ونهبوا الأموال .
خليل : يظهر أن هناك قرابة ، بين جماعة الهصيص وهؤلاء الكفرة .
جنيكز : أي والله ، كاكه خليل .
فلاح : ( مستمراً) وما لوا يمين وشمال ، وأخذوا الخيل والجمال ومائة بنت فائقات الجمال .
أكرم : ( مقاطعاً) الله .. الله .. ليتنا كنا معهم فنفوز فوزاً عظيماً .
فلاح : ( مستمراً) وساروا نحو قومهم فرحين كاسبين ، وقال الهصيص : أنا ما نظرت الأسمر ولاسمعت صوته ، ولعله يكون قد قتل اليوم ( بقصد أبو زيد) وأما أبو زيد فكان نائماً من الضعف ، فسمع الضجة فقام من نومه وقال : ما الخبر ؟ فخبرّوه بحيلة الهصيص وما فعل في بني هلال ، وكيف نهب البوش والمال ، وسبى النساء والعيال ، وكيف هرب الرجال0 ومال عليهم في الحال فصاح من قلب جريح وفؤاد قريح ..
حسون : ( مقاطعاً) بطل الأبطال أبو زيد .!
خليل : ما أحوجنا إلى أبو زيد لينتقم لنا من هؤلاء الكفرة !
فلاح : ( مستمراً) ونهض من ساعته ، وركب حمرته ، ودق طبله ، وعدل رأيه ، فاجتمع عنده بنو هلال أثناء عشر فارساً كانوا هاربين على رؤوس الجبال وأخذ الحاضرين ، وساروا إلى القوم ، وربطوا هلم الطريق وصاح فيهم : يومكم ورفرفت النساء على أبو زيد مثل رفرفة الحمام ، وقالت : إلينا بالصور الحريم ، فقال : أبشرن يا بيض ، وقوّم عمود الحمام 0 فصاح في القوم وقال : خذوا الحريم والمال ، وهجم عليهم بالحسام ، فدعاهم رمام0 وكانت ساعة تحيّر الإنس والجان 0 وأغار على الفرسان كفرخ حمام وهو يميل على المياه من المياسر ، فأتى الهصيص إلى ناحية أبو زيد وهو كالسبع الكاسر ، وتقاتل مع أبو زيد ، واصطفت جيوش ووقعت العيون على العيون 0 وقال الهصيص : أنت باق حيّ وفي كل موضع أراك فقال أبو زيد : الآن أريك أفعالي ..
( في هذه الأثناء ترتفع أصوات الشخير وتتنوع ، ويتميز منها صوت مرتفع ذو نغمة غريبة ) .
فلاح : ( يقطع حكايته ويصمت لحظة ثم يتساءل ) ألم تنم يا محمود ؟
الدكتور محمود : لا ، لم أنم بعد .
فلاح : يبدو أن الجماعة ناموا جميعاً .
الدكتور محمود : يبدو ذلك .
فلاح : بدأ خليل ينفخ في بوقه .
الدكتور محمود : ( ضاحكا) أو قل يطلق صواريخه .
فلاح : ( بعد لحظة) ربما كنت تجد صعوبة في النوم با محمود0 أذكر أنني لم يغمض لي جفن في تلك الليلة التي عُذّبت فيها رغم شدة تعبي ( بعد لحظة) هل اشتدّوا في تعذيبك ؟!
الدكتور محمود : كثيراً ، علّقوني أولاً في المروحة وفتحوها بأقصى سرعتها0 ثم عادوا فعلّقوني من يديّ وأخذوا يتقاذفونني بالركلات والرفسات . ثم عرّوني وطرحوني على منضدة وانهالوا عليّ بالخيزران والصوندات .. ومع ذلك قهرتهم بلامبالاتي ولم يستطيعوا أن يحصلوا مني على شيء0وكنت طيلة الوقت أفكّر بفقراء الهنود وكيف يسيطرون على مراكز الألم في أجسادهم وأحاول أن أفعل مثلهم .. وكانوا يصرخون غيظاً كالمجانين كلما أمعنت في لامبالاتي .
فلاح : المهم أننا احتفظنا بالأسرار في صدورنا ولم نعترف .
الدكتور محمود : ( بعد لحظة) بالطبع0إذا استطاعوا أن يقهروا أجسادنا فهم عاجزون عن أن يقهروا أرواحنا .
فلاح : بلا شك . ( بعد لحظة) حاول أن تنام يا محمود لعل النوم يمنحك بعض الراحة .
الدكتور محمود : سأحاول .
فلاح : تصبح على خير .
الدكتور محمود : تصبح على خير .
( يسود الصمت الزنزانة تعكره أصوات الشخير المتنوعة ونحنحات الدكتور محمود وفلاح التي يطلقانها بين الحين والحين 0 تمضي فترة من الزمن يسمع في أثنائها الحارس في الخارج يهتف بين حين وآخر : " قف " ولدى سماعه كلمة السرّ يهتف ثانية : " تقدم " 0تسمع فجأة طلقات بعيدة متقطعة ) .
فلاح : ( في انفعال) هل تسمع شيئاً يا محمود ؟
الدكتور محمود : أسمع طلقات بعيدة .
فلاح : ( بعد لحظة في انفعال شديد ) ما معنى ذلك ؟!
الدكتور محمود : ربما كانوا يعدمون بعض المعتقلين .
( تقترب أصوات الطلقات وتتلاحق وتتميز بينها أصوات الرشاشات) .
فلاح : ( بصوت مبهور) إنها الثورة يا محمود .. الثورة المنتظرة .. انتفض الشعب أخيراً .
الدكتور محمود :(في انفعال) نعم انتفض الشعب أخيراً .
( تزداد الضجة والطلاقات حدّة ويحدث هرج ومرج في الخارج وتنطلق موسيقى هائجة ) .
فلاح : ( وهو يقفز في سرور ويشعل النور ويصرخ فرحاً) استيقظوا أيها الرفاق .. استيقظوا .. إنها الثورة .. الثورة المأمولة ,
( يستيقظ النائمون وقد سادهم الاضطراب ) .
خليل : ( في رعب ) ماذا حدث ؟! ماذا حدث ؟!
فائز : ( في انفعال شديد ) يظهر أنها الثورة المنتظرة فعلاً .
خليل : ( في اضطراب وفزع) إذن انتهينا . سيقتلنا الكفرة انتقاما منّا قبل أن يخلّصنا جماعتنا . اللهم ألطف بنا .
فلاح : ( وهو يرتدي ملابسه في عجلة) فلنستعد يا إخوان .. ارتدوا ملابسكم وتهيئوا فقد يحتاج إخواننا إلى عوننا .
حسون :(في حماسة) نعم فلنستعد لهم 00والله سأقتل عشرة منهم0
أكرم : ( وهو يختطف ملابسه العسكرية ) نعم ، فلنستعد ، حانت ساعة القصاص.
( يهرع الجميع إلى ملابسهم ويرتدونها على عجل وقد شاع في جوّ الغرفة الحماس مشوياً بالانفعال . ثم يتحركون داخل الزنزانة في ارتباك واضطراب لا يدرون ماذا يفعلون . يطلون من الكوة بين حين وآخر ، ويتسلقون إلى النافذة ويصغون إلى الضجة في الخارج ) .
نوري : ( وهو يحدث نفسه ) أيّ نفع فيّ ؟! لم أجرب مسدساً في حياتي ولا
يمكنني أن أقتل إنساناً مهما تكن الحال .
الأستاذ فاخر : أمثالنا عاجزون عن القتل يا نوري مهما تكن الأسباب0 وكان يجب ألاّ ننشغل بالأفكار الطيبة المجردة يا نوري وأن نكون بمستواها عند الضرورة .
أكرم : سأقتل مائة منهم .
جنكيز : سأريهم كيف يكون القتال !
فائز : سأختطف لي رشاشة وأجرّب استخدامها وإن لم أفعل من قبل . يجب أن نقاتل مع إخواننا الثوار .
حسون :( في حماسة) وأنا أيضا سأختطف رشاشة لي .
خليل : ومن قال إنهم سيتركوننا لنقاتلهم ؟ سيحضرون بعد حين ويرموننا بالرصاص جميعاً .. اللهم ألطف بنا .
حسون : ولكننا سنشفي غليلنا منهم يا أخانا خليل .
الدكتور محمود : ( ضاحكاً) ما كنا نتصورك هكذا يا حسون . لقد خدعتنا0
حسون : ( بعتاب) وماذا كنت تتصورني يا دكتور وأنت تراني بينكم ؟ نحن القصابون نحب وطننا مثلكم .
الدكتور محمود : أكيد00 وربما أكثر منا يا حسون .
فلاح : قد نستطيع أن نفعل شيئاً قبل أن يقتلونا يا إخوان ويجب أن نصمد لهم0
أدمون : سأختطف لي مسدساً لأقاتل به وسأقتل عدداً منهم .
خليل :يا ليتني أعرف كيف أستخدم السلاح لكي أقاتلهم فمقاتلة هؤلاء الكفرة واجب ديني0
( تخفت حدة الطلاقات شيئا فشيئا)

نوري : ( بعد لحظة ) إذا فشلت هذه الثورة فسيقتلون الناس بلا رحمة وسيذهب ضحيتهم البريء والمذنب على حدّ سواء .
خليل : قل لن يصيبكم إلا ما كتب الله لكم يا أخانا نوري .
حسون : صدق الله العظيم .
أكرم : ( في انفعال وهو يروح يغدو في حركة دائبة ) حانت ساعة القصاص .. حانت ساعة القصاص .
جنكيز : أي والله كاكه أكرم حانت ساعة القصاص والقتال00وكان يجب أن نقاتلهم منذالبداية0
( في هذه الأثناء ينحسر الظلام تدريجياً ، بينما يستمر إطلاق النار المتقطع 0 تتلون والموسيقى في علوّ وخفوت واقتراب وابتعاد 0 وحينما تتسلل أشعة الشمس من نافذة الغرفة تهدأ الضجة تماماً وتقتصر على أصوات سيل من الطلاقات الرشاشات بين حين وحين ، بينما تتحول الموسيقى إلى حزينة خافتة ) .
فلاح : ( في قلق) ما معنى هذا السكون ؟!
الدكتور محمود : ( في مرارة ) ليس له سوى معنى واحد وهو أن الثورة قد فشلت .
حسون : ( في خيبة أمل شديدة) مع الأسف .. مع الأسف .
الأستاذ فاخر : كان الله في عون الثوار .
أكرم : ( في خيبة مرة) ضاعت الآمال .
جنكيز : قيناكا .. قيناكا .
فلاح : لم تضع الآمال يا أكرم ، سيكون لنا جولة أخرى ما دام هناك مناضلون في سبيل حرية الشعب وخيره .
فائز : بلا شك يا فلاح0 إذا فشلت هذه الثورة فستعقبها ثورة ثانية وثالثة ورابعة حتى تنجح إحداها في القضاء على هؤلاء الفاشست0 ستستمر الثورات مادام هناك شعب حيّ يرفض الظلم والطغيان والاستبداد .
أدمون :0( في حماس) أكيد00أكيد0
خليل : ( وهو يهز رأسه في شدة) أيمكن أن يخذل الله الأخيار وينصر هؤلاء الكفرة الأشرار ؟!
حسون : مع الأسف .. مع الأسف .
( تسمع ضجة قرب الباب الخارجي ثم يفتح ، تعلو أصوات أقدام كثيرة في الممر حتى تتوقف عند باب الزنزانة 0 يبدو الاضطراب على وجوه الموجودين 0 يفتح الباب بعنف ويدخل الرئيس والملازم ونائب الضابط وهم يحملون هراوات غليظة يتبعهم عدد من الجنود وهم يحملون أكواماً من الحبال المقطّعة ) .
الرئيس : ( يتصفح الموجودين بنظرات ساخرة شامتة والسيجارة تتراقص في زاوية فمه ) أراكم ارتديتم ملابسكم وتهيأتم للخروج أيها الكلاب ، هل ظننتم أن المؤامرة نجحت ؟! أنتم مخطئون ، فلن تنجح مؤامرة ضدنا ، عيوننا مفتوحة ، أبشرّكم بأننا قمعنا المؤامرة نهائياً وأبدنا القائمين بها عن بكرة أبيهم .
الملازم : لن تفلتوا من أيدينا أيها القذرون مهما تدبرون من مؤامرات .
نائب الضابط : ( صارخاً) قوادين أولاد القوادة .
الرئيس : أما سمعتم سيل الاطلاقات قبل قليل ؟ أعدمنا مائة من المقبوض عليهم وهم الوجبة الأولى وسنلحقها بعد قليل بوجبات أخرى .
فائز : هذه مذبحة وحشية .
نوري : ( بلهجة مذهولة) هذا مستحيل ! إنه خرق فظيع للقانون ، لابد من محاكمتهم أولاً .
الرئيس : أخرسوا أيها الكلاب 0 أتريدون إذن أن نعفو عنكم وأنتم تدبرون المؤامرات ضدنا ؟!
نوري : قد يكون بينهم أبرياء .
الرئيس : كلكم متآمرون .
الملازم : قذر أبن القذر ، يدافع عن المتآمرين .
نائب الضابط : ( يتقدم من نوري وينهال عليه بهراوته فيصرخ مستغيثاً ) قواد أبن القوادة .
فائز : هذا عمل إجرامي فظيع .
الرئيس : ( في غضب محتدم) أسكت كلب00 أما تزال لديكم ألسنة تتحدثون بها يا كلاب ؟ كان يجب أن نقطعها منذ اللحظة الأولى .
الملازم : ( في حقد وغضب) دمرني هذا القذر بصلافته ( يتقدم من فائز وينهال عليه بهراوته فيعلو صراخه ) .
فائز : ( صارخاً) ستحاسبون يوماً حساباً عسيراً . ستظل جرائمكم تقضّ مضاجعكم إلى آخر لحظة من حياتكم أيها الفاشست0
( تنهال الهراوات على المعتقلين جميعاً بلا تمييز فيرتفع صراخهم واستغاثتهم ، بينما يصرخ الضباط في هستيرية : "كلاب" و " قذرون " و " قوادين أولاد القوادة "0 يكف الضباط عن الضرب بعد حين وهم يلهثون تعبا والشتائم ما تزال تتدفق من أفواههم ) .
فائز : ( صارخاً فجأة في هستيرية) أين المفرّ من غضب الشعب ؟ ! أين المفرّ من عقاب الشعب ؟!
الرئيس : ( مخاطباً نائب الضابط في هياج) أسحب هذا الكلب إلى الخارج وارمه بالرصاص حالاً .. صبرنا على صلافته طويلاً .
( ينقض نائب الضابط على فائز ويسحبه إلى خارج الزنزانة بالاستعانة مع بعض الجنود ) .
فائز : ( صارخاً في هستيرية وهو يقاوم) سيكون لكم الشعب بالمرصاد أيها الفاشست00 ستهبون من نومكم مذعورين من خشية الحساب .. الموت لكم أيها الفاشست .
الرئيس : ( بعصبية) أغلق فم هذا الكلب بسرعة .
( يفلح الجنود في سحب فائز إلى الخارج ، ويسمع صوته لدقائق وهو يزمجر في الخارج ، ثم ينطلق سيل من طلقات الرشاش فيسود الزنزانة وجوم شديد ، يعود نائب الضابط وبصحبته الجنود ) .
نائب الضابط : انتهى كل شيء سيدي .
الرئيس : سيكون هذا مصيركم جميعاً أيها الكلاب ، أنتم تستحقون السحق بالنعال .. كالحشرات السامة التي يلزم إبادتها .
الملازم : أنتم أجزاء متقيحة من جسد الأمة لابد من بترها .
الرئيس : ( مخاطباً الجنود) قيّدوا هؤلاء الكلاب .
( يتقدم الجنود من المعتقلين وهم يحملون الحبال ، وينهمكون في شدّ أيديهم إلى الخلف0 ترتفع في هذه الأثناء صيحات الاستغاثة والألم من بعض المعتقلين ) .
خليل : هذه أعمال لا يرضى عنها الله .
الملازم : ( وهو يضربه بالهراوة على كتفه ) أسكت .. متآمر .. قذر .
نوري : لم نغادر هذه الغرفة ، فما علاقتنا بالمؤامرة ؟! أنتم تدوسون القانون بأقدامكم .
الرئيس : كلاب .
الملازم : قذرون .
نائب الضابط : قوادين أولاد القوادة .
فلاح : ( وكأنه يحدث نفسه) هذه على أية حال ليست الجولة الأخيرة وستكون لنا جولة أخرى فلابد أن ينتصر الشعب في النهاية .
الرئيس : ( بسخرية بالغة) في المشمش كما يقول المصريون 0فهذه الجولة هي الأخيرة وستكون فيها نهايتكم .
أكرم : ( برباطة جأش) وماذا ستفعلون بنا ؟! هل سترتكبون مجزرة أخرى معنا ؟!
الرئيس : ( بسخرية شديدة) ليس الآن أيها الضابط الهمام .. سننقلكم إلى معتقل " ممتاز " لئلا يفكر أحد بإنقاذكم مرة أخرى .. وقد أعددنا لكم قطاراً خاصاً مكيّف الهواء ومزوداً بكل وسائل الراحة .
( يقهقه في سخرية حادة يشاركه الملازم) قطار جميل ستحشرون فيه كالحيوانات0 وأحذركم من الآن ألاّ تفكرّوا بالماء أو الطعام أو حتى الهواء . ( وهو يضحك بسخرية بالغة ) وإن شاء الله ستصلون سالمين غانمين .
الأستاذ فاخر : أنتم إذن تحكمون علينا بالموت 0 إنكم مسؤولون أمام التاريخ عن موتنا0 تذكروا حساب التاريخ فإنه لا يرحم .
الرئيس : أبصق في وجهك و وجه التاريخ ( يبصق في وجه الأستاذ فاخر) .
الدكتور محمود :( بسخرية) ما الفائدة يا أستاذ فاخر ؟ إنهم لا يعرفون تاريخ ولا جغرافيا .
جنكيز : ( يتمتم) أي والله كاكه محمود .
نائب الضابط : ( يلتفت إلى الرئيس) انتهينا سيدي.
الرئيس : سوقوهم إلى الخارج مع الجماعات الأخرى .
( يتقدم الجنود من المعتقلين ويدفعونهم بأعقاب الرشاشات في ظهورهم بينما يقف الرئيس وسيجارته في زاوية فمه وبجواره الملازم ونائب الضابط وهم يستعرضونهم بنظرات شامتة 0 في أثناء خروج المعتقلين من الزنزانة واحداً بعد الآخر تتحول الموسيقى الكئيبة إلى موسيقى هائجة تصرخ ألماً وغضباً 0 وحينما تبدأ الستارة بالهبوط يدوّي نشيد حماسي من كورس ضخم :
الشعب ما مات يوماً
وإنه لن يموتا

إن فاته اليوم نصر
ففي غد لن يفوتا

إن كان خاب رجاء
فلاتهن يا رفيقي

ليس النضال وروداً
على امتداد الطريق

نضالنا أنت أدرى
صخر وشوك كثير

والموت عن جانبيه
لكننا سنسير


وتنسجم الموسيقى مع النشيد ويندمجان حتى يدويًا في ضجة كبرى0 وتستمر الضجة بضع
دقائق بعد هبوط الستار إلى أن ينتهي النشيد وتنقطع الموسيقى .
- ستار الختام -




















#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تساؤلات وخواطر فلسفية
- حكايات من بلدتنا
- دكتور القرية
- بداية النهاية
- حياة قاسية
- صراع


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الشيء مسرحية من ثلاث فصول