أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى حسين - الكتابة رفيقة العمر التائه















المزيد.....

الكتابة رفيقة العمر التائه


هدى حسين

الحوار المتمدن-العدد: 715 - 2004 / 1 / 16 - 08:00
المحور: الادب والفن
    


 عندما بدأت الكتابة، لم أكن على الحال الذي أنا عليه الآن، الآن بالتحديد، في الرابعة من فجر الخميس 15 يناير 2004، بعيوني الملتهبة وأجفاني المنتفخة و ويدي التي سقطت عنها السيجارة سهواً وجسمي المحموم المرتعش لدرجة لا تكفي بطاطين العالم أن تدفئه وتهدئه.. كل ذلك حدث الآن. لأنني عرفتُ أن الناشر الذي لم أكتب معه عقداً، واتفقنا ودياً أن ينشر لي ترجمة لرواية ما دون أن يعطيني حق الترجمة، مقابل أن ينشر لي رواية كتبتها دون أن يأخذ مني ثمن النشر، قد انتهي من غلاف الرواية المترجمة وحتى الآن لم يفعل شيء تجاه روايتي المكتوبة.. ذلك متزمناً مع انتظاري لسنة ونصف لصدور ديوان لي في سلسلة أدبية، حتى الآن سكيرتيرتها – وهي شاعرة -  لا تعرف شيئاً عن الديوان، وكذلك قول أحد مديرات سلسلة إبداعية أخرى – وهي روائية -  أن كتابتي مثيرة للقلق وجريئة لأكثر مما تتحمله السلسلة.. كل ذلك يحدث الآن. وأنا تزداد هواجسي حول أنه هناك ضرورة ما لإخراسي. ضرورة يحتمها العقل العام. لا أعرف هل هو عقل الحكومة، أم وزارة الثقافة بمؤسساتها أم الناشرين أم الكتاب الـ"منافسين"، أم ماذا.. لكن يبدو لي أن هناك رغبة تجمعت حولها رؤوس وأكف لإغلاق كل الأبواب، ولقطع لساني اللهم إلاّ كان يترجم عن لسان الغير.. أنا أشعر بالقهر. بالذل وبالمهانة. وأعتقد أنني عرفت لماذا اخترت من أقرب أسلافي جيرار دو نيرفال وألان بو وكامو وغيرهم ممن ماتوا إما في حوادث إثر تناول كمية كبيرة من الكحول أو الأفيون الخ..، إما ماتوا فجأة في سن صغيرة إثر انفجار في المخ أو سكتة قلبية أو جلطة.... وأعرف أن هناك الكثير غير هؤلاء، لو كنت عرفت عنهم لكنت اعتبرتهم ضمن أسرتي.. لكن يبدو أن ألسنتهم قطعت قبل أن تصل إلي... وأنني ربما أكون واحدة من هؤلاء الذين ستنقطع ألسنتهم حتى قبل أن تصل إلى أحد.. كل هذا لم يكن في الحسبان. كل هذا لم يكن حاصلاً عندما بدأت الكتابة. كل المسألة ببساطة، أنني في المرحلة البتدائية لم يجبني أحد نصوص المحفوظات..

 "يا قطن يا قطن  انت كذا وكذا
 يا قطن يا قطن تهدينا كذا
 الخ الخ الخ"

 لم أكن أحب أن أجلس في الصف الأول، هناك أشعر أنني مكشوفة، عارية ولا سبيل لتأمل المدرس من مسافة كافية لهامش من الحرية. لم أكن احب الانتباه طوال الوقت. كنت منذ بداية العام أجلس في الصف الثاني. كما أنني لم أكن أحب أن أكون من الأوائل. كنت أستنتج من حجم الأسئلة كمية الدرجات المطروحة لها، وأحل الامتحانات بحيث تكون درجاتي جيدة. لكن أيضاً بحيث لا ينادى على اسمي ضمن الذين يهيلون عليهم كابوس التصفيق أثناء تناولهم الشهادة. لم أكن أحب أن تلتفت إليّ الأنظار. ويبدو أن إلحاحي على التوسط في كل شيء ولو ظاهرياً كان متماشياً بشكل لا واعي مع كوني من أسرة تنتمي للطبقة المتوسطة. كان كل شيء هادئ. وكنت أفعل كل ما يحلو لي في هدوء. هدوء السر. دون أن يدري أحد. حتى جاء ذلك اليوم الذي طلبت منا المدرسة أن نقرأ نشيد القطن. رفعت يدي. فطلبت مني المدرسة أن أقف وأقول ما عندي. فأخبرتها أنني أرى أن القطن مهم فعلاً لكن كيف لا يكون هناك نشيد عن القمح وهو أكثر أهمية من القطن. وأوضحت وجهة نظري معللة: "الشارع مليان شحاتين ومجانين عريانين، لكن كلنا مجانين وعقلين ما نقدرش نعيش من غير ما ناكل، القمح بيتعمل منه العيش ودي أرخص حاجة الواحد ممكن ياكلها، يعني كل الناس ممكن تجيبها، لكن الفانيلة القطن فيه ناس غلبانة مستنية تشحتها وتنذل وتتهان عشان تجيبها." في سنة 79 لم تكن المدرسة بقسوة مقص الرقابة الآن، لم تطردني من الفصل ولم تنقص من درجاتي، فقط بمعاينة الفارق في العمر بيني وبين كاتب هذا النشيد قالت: "طيب يا فالحة ما تكتبي نشيد القمح ونشوف يمكن يخش في المحفوظات!" صدقتها. مع الأسف. صحيح أنني في كل الأحوال كنت سأكتب نشيد القمح – الذي كتبته فعلاً – لكني لم أكن أريد أن نضيف شيئاً إلى المنهج، لأن ذلك سيزيد من عدد ساعات دراستنا.. لذلك لم أقدمه لها. وظللت لفترة طويلة أظن أنني لو قدمته لها كان سيضاف إلى المنهج! طوال هذه الفترة كنت أتحمل منها الابتسامة الساخرة كل حصة وهي تسألني "كتبتِ نشيد القمح؟" وضحك الزميلات، وتضاؤلي في المكان، كل ذلك لأنني لا أريد تحميل المنهج أكثر مما فيه، ومع الوقت تلاشى هذا السبب، وصار سبب عدم تقديمي نشيد القمح لها هو أنني شعرت كل حصة أنه تحول إلى واجب. واجب دراسي مفروض عليّ أن أقوم به. وبدأت أبتسم وأنا أجيب عليها بالنفي، لأنني شعرت بتلذذ الرد بالنفي على مدرسة اللغة العربية.

 كانت هذه هي البداية. تلتها محاولات أخرى. في سن الثانية عشر كتبت رواية خصيصاً لأمي. كنت أقرأ لها مقاطع منها أينما وجدتها، في الحمام في المطبخ أمام التلفزيون.. على الغداء.. كل وقت. كنت أحاول من خلال هذه الرواية أن أرشدها إلى طريقة أفضل في تربية بناتها، أنا وأختي. أمي كانت تستحسن كل شيء أكتبه وأقرأه عليها. دائماً. بنفس الابتسامة: "هائل جميل، تستاهلي أعمل لك رز بلبن" "يجنن، إيه يا هدهد الحلاوة دي، لازم أجيب لك شيكولاتة عشان الكلام الحلو ده"...الخ... كانت تبتسم وتعطيني شيئاً أكله. لم تكن تعانقني. أنا لست معتادة على حضن أمي. ثم إنها لم تغير من طريقة تربيتها لنا شيء مهما قرأت لها. لما أصابني اليأس، قررت ألاّ أقرأ لها. وبدأت تسألني هي:"هدهد حبيبي ماكتبش حاجة النهاردة؟" وكنت أجيب بالنفي. ومن داخل اليأس والشعور بعدم جدوى كتابتي، نبت إحساس لذيذ: عندي سر اسمه ما أكتبه. وبدأت أطالب بدرج له مفتاح.

 في الخامسة عشر كتبت بحثاً عن الانتماء لدى اللصوص. قال أبي أنها قصة جميلة وبها روح شعرية. أبي مدير تجاري. وليس في بيتنا كتب غير تجارية ودينية وكتب مصطفى محمود وأنيس منصور. في ذلك السن نشرت لي قصيدة في مجلة ماجد وأخذت عنها مكافئة 30 درهم. هذه القصيدة كنت كتبتها بعد وفاة جدتي كان مطلعها: "أين أنتِ وأين نور الشمس منكِ". عندما رأتها أمي بدأت تنزوي بعيداً في ركن الصالون بشكل دوري وفي يدها دفتر وقلم، تحث نفسها على البكاء فتنتفخ وجنتيها وتحمران وتكتب شعراً إما للحبيب، أو للنبي محمد أو لله. تشكو فيه من الهجران، أو البين، أو قسوة الأولاد. أما أبي فأخذ يحلل القصيدة تحليلاً نقدياً، يقنعني من خلاله أن الأموات لا يجوز عليهم سوى الرحمة، وأنه يمكنني أن استثمر موهبتي هذه في كتابة أشعار تسمو بنفوس الناس وتغير من المجتمع وتجعلني كل يوم ضيفة في برنامج في التلفزيون، خصوصاً لما أكون مهندسة وشاعرة دي حاجة جديدة. أما أختى فبدأت عادة جديدة في المذاكرة. بدأت تحفظ دروسها بصوت عالٍ. وعندما تجدني أفعل أي شيء غير الواجب المدرسي تطلب مني أن أذاكر لها، بما إني فاضية وماوراييش حاجة.
 بصراحة، سد هذا الحال نفسي عن أي شيء. توقفت عن أن ألوم نفسي، أنا بنت مدرسة الراهبات والبيت الطاهر، على كذبي على المدرسة وعلى أمس وعلى أبي الذي ظللت أقول له أنني لا أكتب شيئاً حتى بعد ما صدر ديواني الأول "ليكن" سنة 1996، وعلى أختى حيث أنني ظللت أقول لها أن لدي واجبات كثيرة، وتأقلمت مع الكتابية بينما صوتها عالٍ في المذاكرة، إلى أن تذوجت ورحلت عنا للأبد. أما أمي فظلت تكتب في ركن الصالون مجبرة دموعها أن تنزل على الورق أولاً قبل الحبر. بينما أنا ينبغي عليّ في ذلك الوقت أن أغسل المواعين ذلك إن لم يكن عندي مذاكرة.
 بعد صدور ديواني الأول "ليكن" خاصمتني أمي فرتة لا أتذكر مداها الآن. وأبي كان دائم التجهم كأنما أمله قد خاب مرة أخرى، بعد أن خاب أمله بدخولي القسم الأدبي في الصف الأول الثانوي، أي أنني لن أكون مهندسة. كان هذا الخصام والتجهم مريح جداً بالنسبة لي، فكيف يمكنك أن تتحدث عن رغبتك في تدمير هذا المجتمع الآثن، ليس لأنه آثن فقط، لكن لأنه يسعى إلى تدميرك أنت شخصياً، كيف يمكنك أن تقول ذلك لبشر كان سيسعدهم أن يندرج نشيد القمح ضمن محفوظات المنهج الدراسي، لا لقيمة فيه، لكن لأن من كتبه هو فرد من عائلتهم. كيف يمكنك أن تشرح لأسره أنك تكره الأنساق الاجتماعية، وأ، أصدقاءك خانوك وأحباءك خانوك، أي أصرة مصرية تضع ابنتها في مدرسة راهبات تسمع كلمة "أحباءها" ولا تنهار من الصدمة؟ كيف يمكنك أن تشرح لبيت متدين كما يقول الكتاب طبيعة علاقتك بالله؟...السكوت أسهل. وهم بخصامهم وتجهمهم  جعلوني أتفرغ للهجوز الخارجي على الديوان. صحيح لم يكن أحد معي. كانوا ضدي بحكم انتمائهم المجتمعي للأنساق المتعارف عليها. وكان الهجوم على الديوان يزيدهم تأكداً من أنني أتيت لهم بالعار بدلاً من العزة، وأن صورتي دخلت الجرائد من باب الخارجين على القانون. لم أفعل شيئاً تجاه الهجوم من النقاد والصحفيين على ديواني. فقد كنت مشغولة بكتابة رواية. روايتي الأولى "درس الأميبا" التي صدرت عام 1998. بعد الانتهاء من كتابتها دخلت علاقة حب جديدة. لم يكن عندي وقت للرد على أي هجوم. كان النبذ الاجتماعي هو العقاب الأمثل في بيتنا، وكان هذا هو ما قررت أن أقوم به تجاه أي هجوم على أي عمل لي. لم أكن أقول أبداً "اللي مش عاجبه يكلمني" كنت أقول "اللي مش عاجبه ما يعملش زيي" وبعدها توالت الأحداث على نفس المنوال، غير أن رواية درس الأميبا سُكِت عنها وكذلك ديوان فيما مضى وديوان عشوائية وكأنها إبداعات لم تحدث. وكأن المجتمع يرد لي نبذاً بنبذ.. لكنني على الأقل حتى ذلك الحين كنت أستطيع أن أنشر أعمالي بدون حذف. وبدون مماطلة. وكانت تأتيني من وقت لآخر كلمة من أحد الأصدقاء حول هذا العمل أو ذاك. كذلك عندما نشرت ديواني أقنعة الوردة، أعتقد صدر عنه خبر في أحد الجرائد.... الآن لا أعرف مصير ديواني "نحن المجانين" في تلك السلسلة الحكومية، ولا أعرف مصير روايتي "الجسر" في تلك الدار الخاصة... ولا أعرف إلي أي مدى سيتم قطع لساني.  ومتى بالتحديد سأموت بحادث ضد مجهور أو بسكتة قلبية، أو انفجار في المخ.



#هدى_حسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحدث
- قصائد
- عشـوائـية
- سأقول أعرفها
- إنهم يصنعون الخبز
- لأمي
- قِدر الطعام


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هدى حسين - الكتابة رفيقة العمر التائه