"أطلب شباب يا وطن وتمنى"، أغنية مجبولة بالدم والتراب، بحكايات العشق، بقمح وزعتر، بعطش أيدي لسواعد الشباب، أغنية بدأت منذ الأزل الفلسطيني ولم يكن لها أن تتوقف، ففي حناياها قوة الحياة، تحركها خيوط الهية لا تريد للحن أن ينتهي قبل أن تنطلق أهازيج الفرح والأعياد وطقوس الحصاد الحر.
"أطلب شباب يا وطن وتمنى"، العرب استوطن الضعف في نفوسهم، فأداروا ظهرهم لنا ولأنفسهم، لقد تآكل ماء وجههم، وسقطت أقنعتهم، وقرروا رفع راياتهم الناصعة كل على طريقته، بل انهم نظموا سباقاً عربياً أصيلاً للهرولة باتجاه الغرب، لقد افترسهم الخوف، لا يضيرهم ذل الفرات
، ولا يزعجهم تململ عظام عمر المختار، لخوفهم هذا كلمة سر معروفة، تتركز في عشق كراسيهم وألقابهم، وفي سبيل الحفاظ على مسمياتهم يقتلون الشهداء مرتين، لقد استوعبوا سر البقاء الأمريكي، ويصدروه لنا على هيئة سيناريوهات هابطة، وبالونات اختبار ومشاريع تسويات لا تسوّي إلا المزيد من الخضوع، ولا تنتج إلا الصفقات المشبوهة العامرة بالتجارة والتواطؤ والخسّة، دون أي اعتبار لارتفاع منسوب مخزون الإباء والإرادة الفلسطيني المتناسب عكسياً مع مخزون الإرادة والكرامة العربية، حيث لا يشغل الشهداء حيزاً في المشهد العربي البائس، بل يشغلهم مشهد جوقات التنازل من المحيط إلى المحيط، لقد تعبوا من البحث عن أفكار خلّاقة لاجتثاث الإرهاب وتدمير بناه التحتية، فالمقاومة لغزاً يحيرهم، ويجهدون لفك طلاسمه، ويبحثون عن أطراف يسمونها معتدلة باسم الحرص على القضية، أفكارهم تُحمل بالحقائب والبذلات الرسمية المصحوبة بربطات العنق المنشّاة، هم يعرفون تماماً بأن المتطرف شارون لا تكمن مشكلته بالمعتدلين وبرامجهم، أو بالمتطرفين وبرامجهم، بل تكمن أصلاً بوجود الشعب الفلسطيني وزيتونه وحجارته ودمائه وأطفاله، مشكلة بني يعرب تكمن في قاماتهم المحنية، هم لا يسألون أنفسهم كيف يجد جورج دبليو بوش حلولاً لمشاكل العالم، ولماذا لا يستطيع أن يقدم لنا سوى آلة الدمار والموت والفيتو الذي يصفع به وجه العالم في كل مرة، ولا يستطيع أن يقدم إلا مقولات الإصلاح ودقات ساعة الحقيقة الأمريكية، ولا يسألون أنفسهم لماذا لا تثور ثائرته إلا إذا نزف الدم العبري، بينما المطلوب أن يجري دم أطفالنا أنهاراً وجداول، ولا يسألون أنفسهم لماذا كل هذه اللجان الإنقاذية العربية والإسلامية للدفاع عن القدس وأكنافها ولا يسمع أحد أو يرى شيئاً يوحي باسمها..
"أطلب شباب يا وطن وتمنى"، الحزن يمشي في شوارعنا، واللحن يجوب حاراتنا دون توقف، فلا آخر يوازيه أو يغيبه، فاللحن مستمر لا يتوقف الا لنقل وقع خطوات الشهداء، تمر الجنازات على وقع اللحن، أمام كل حجر يتنسم هواء العتابا والميجنا، يتوقف في نابلس العتيقة، يأخذ في طريقة أقداماً صغيرة، كل ذنبها بأنها تحتضن أرضاً لها قداسة الجغرافيا وعبث التاريخ، يستمر اللحن بالعزف في نابلس، فالغضب يأكلها وقهرها يشرش بأنفاقها، لقد أراد شارون أن يغير قواعد اللعبة بدءاً بها ليجعلها نموذجاً دموياً ينتصر به، يكسر شوكتها لتكون عبرة يفرض من خلالها التركيع، لكن أهلها العنيدون لهم قواعد لعبتهم، فهم يريدون رسم معالم غدهم القادم على طريقتهم.. ويرتلون الأغنية عينها "أطلب شباب يا وطن وتمنى"، يتوقف اللحن في رفح، يأخذ في طريقة أشلاء لطلاب فقراء، ذنبهم يكمن في حقائبهم المدرسية ولتطلعهم المبكر للانتساب إلى عالم الكبار، يستمر اللحن مجتاحاً البيوت والبيارات وأحلام الصبايا في غزة وخان يونس وجنين، وينفجر الحزن ليورث غضباً وعواصف، ويستمر العزف ملقياً تحياته على طولكرم والخليل وقلقيلية، فيجد أن الشباب قد وقّعوا على عقد مع الأغنية واقسموا أن لا يُذل برتقالهم، ولا تطأطئ كرومهم رأسها، "أطلب شباب يا وطن وتمنى"، ليمر بمدينة يسوع المعتقلة عازفة الأجراس للعذراء الفلسطينية، التي أقسمت أن تسدّ أبوابها بوجه الطغيان، يرتد اللحن إلى أبهى العواصم، قدسنا المجللة بالوجع اليومي الآثم، فيجد أسوارها وقد زاد اتزانها وحكمتها وقد أصبحت مدينة تحترف ترويض الألم وتمضي..
يا وحده الفلسطيني، يا وحدها الفلسطينية.. ومعذرة لكم أيها الشهداء في يوم الشهداء، معذرة وهنيئاً لكم رحيلكم، فقد استطعتم أن تكشفوا الزيف والخداع المتعدد الوجوه والأطراف، لقد نجحتم في كشف الحنجرة العربية الهادرة من الماء إلى الماء، لا حاجة لكم لسماع دقات ساعة الحقيقة الأمريكية، ولا حاجة لكم للإصلاح القادم من بعيد فأنتم المرشحون والناخبون في كل صناديق الاقتراع، ولا حاجة لكم لسماع الكلمات الفصحى المعلبة العاجزة عن وصف الحقيقة، فساعة الحقيقة العربية أعلنت التزامها بالمفهوم الأمريكي، وقد أدارت ظهرها لكم وعقاربها تدور بعكس عقاركم، لقد اكتشفتم أن الأصالة العربية ادعاء، والكرامة طموح لا يسنده الفعل والإرادة، وكل ما قرأناه في كتب التاريخ عن الشجاعة والنخوة أصبح روايات منسوجة من خيال رثّ تتسرب منه الأمجاد والتاريخ، وعليه فإننا نؤكد في يوم الشهيد الفلسطيني بأننا ونحن نبحث بين الشهداء عن أبنائنا وأبناء جيراننا، بأننا لا نريد لأحد منا أن يقدم باسمنا التنازلات المجانية لجيش الاحتلال الذي يعترف عناصره بأنه قد تجرد من القواعد الأخلاقية المتعارف عليها، وأن من لا يستطيع ضبط إيقاعه على أناشيد الشهداء وتطلعاتهم وأهدافهم فليغلق فمه، فمشاريعهم الموهومة لا نحصد من ورائها إلا الفرقة والخلاف والمزيد من التعصب، فليس لدى الشعب من خيار في صراع الارادات هذا إلا أن يقاوم ويصمد، ولنرفع صوتنا موحداً عالياً، ليرتفع ويقوى صوت فلسطين.
7/1/2004
* المكلفة بالأمانة العامة للتجمع الوطني لأسر شهداء فلسطين