جنازة سيدة الشعر كسرت القاعدة ، فلم يكن الغاوون من تبعوا نعش الشاعرة الكبيرة، بل كانت نابلس بتنوعها الديني والثقافي والعائلي ، نساء ورجال ساروا جنبا الى جنب في مشهد حضاري غاب طويلا عن وجه المدينة العريقة ، تستحضره فدوى طوقان وهي أحد معالمها المميزة كجبالها وأقواسها وحمامتها وكنافتها وأزقة مدينتها القديمة ، جمعت فدوى مجددا جميع محبيها ليستمعوا الى قصيدتها الاخيرة ، فقصائدها طالما ألهبت مشاعرهم واذابت قلوبهم في وقت كان الحب يهرب خلسة كالممنوعات بين القلوب ، فانتظم الحزن خلف النعش على وقع موسيقى بطيئة المفردات ، تمسك سرعتها وانطلاقتها القلوب ، ترجوها إيقاعا أبطأ ، فلا أحد يريد أن ينتهي المشهد، الثقافي النادر مؤخرا لمدينة تشقى تحت ضربات الاحتلال المتواصلة ، وتعاني بذات الدرجة من قسوة أبنائها عليها ، ما من أحد يريد ان يودع السيدة التي شعر الجميع بشكل ما بأنه يمتلكها ، وبانها جزء منه ومن تجربته ، ويطمع ان تتواصل القصيدة الأخيرة ويطول زمنها ردحا ليكفر عن جفائه للشعر وللشاعرة ويعتذر عن انشغاله عنهما ، السيدة متفهمة تماما فهي متواضعة بطبعها ، وسقف مطالبها لم يكن يوما محلقا كشعرها ، لذا انسحبت بهدوء من الحياة كما تسللت إليها بروية.
نعم ،انسحبت فدوى طوقان من حياتنا ، لكنها لن تنسحب من الحياة ، خمدت أنفاسها لكن صوتها لن يخمد، فهي راية من رايات الإصرار ، وهل لصوت الشعر الذي يندغم به الحب الشاعري مع حب الوطن ان يخمد… سكنت حركتها ولكنها كرمز من رموز التحدي والإصرار لن تسكن ، وهل لرموز الشجاعة التي لم تخدش رمزيتها ان تتوقف عن الفعل والتأثير ، وستبقى مصدر الهام لكل المظلومات ممن ترفع أمامهن الأسوار بشجاعتها وتقدمها الصفوف دون تردد أو حسابات صغيرة ، فلم تكن تبحث عن الشهرة بل كانت تقدم نفسها بخفر الفتيات، ولم تقتحم الحياة العامة عنوة ، بل دخلتها كشاعرة ومن خلال النموذج الذي قدمته ومثلته ، نموذج تثقيف الذات ، نموذج التمرد الواعي ، نموذج المطالبة بالتحرر كقضية اجتماعية عامة، نموذج الانتصار على التقاليد البالية والمفاهيم الرجعية بالعلم والحرية ، علمتنا كيف نحفر الصخر بالأظافر ، وكيف للجرح ان يتألق ويكون حاضنة للإبداع ، علمتنا كيف نستمع لخفقان القلب ولفناء المقاومة فهي امرأة منسوجة بخيوط الحب، علمتنا كيف نجتاز الماضي وان نمتلك الحاضر والمستقبل بامتلاك نسغ الحياة، علمتنا كيف نعتز بقاماتنا دون افتعال او ادعاء.
يا فدوى …
سألتك مرة منذ عام ونيف ماذا تتمنين …قلت موت مفاجئ … وما الذي يبكيك رغم إعلانك بلا للبكاء … قلت شيئان لا زالا يدفعان الدمع الى مقلتاي ولا أتمالك نفسي أمامهما.. الجمال والجموع الجماهيرية … أنت في نعش فوق الرؤوس .. بإمكانك البكاء .. فالجمع الذي خرج خلفك ربما فرقته السياسة والألم المبرح ، لكن جمال الثقافة جمعهم لاجل دموع عينيك..
يا فدوى ..
اقسم بأنك فرحة لان إبراهيم قد عاد من جديد ليأخذك بيديك في رحلتك نحو الخلود ، بل انه آثر ان يعود بك الى حارة الياسمينة ليطوف بك أرجاء الدار العتيقة لوداع غرفها وساحاتها التي شهدت على خروج المارد من القمقم ، فلم يعد هناك مكان للخوف من السيطرة والسطوة الذكورية الخانقة ، ولم تعودي تخشين ولوج قاعات الحريم فعندما سألتك حول ماذا تفعلين لو عاد بك الزمن الى الوراء … أجبت ارغب ان أشكل حياتي بطريقتي ،ولكني لا أستطيع فقدري وقدرهم في داخلنا وتكويني في أعماقي ، سيسلك بنا ذات المسلك … يأخذك إبراهيم الى مكتبة البيت الغنية التي أعانتك في التعلم بعد رحيل المعلم المبكر، أنت ممتنة لها فهنا تفجرت الموهبة وتطوع القدر .. اقسم بأنك طلبت اخذ بعض الأوراق من " اعطنا حبا" و " على قمة الدنيا وحدي" فهم الأعز للبقاء قرب القلب وفي رحم الأرض ، وحرصت قبل الخروج من الدار ان تضعي قليلا من احمر الشفاه وبعض المحابس للشعر المعقوص للخلف بكبرياء ، فهذه النزهة الأخيرة بين جرزيم وعيبال، وترغبين فيها بان تكوني في كامل أبهتك المعروفة بالملابس الزاهية ، إبراهيم يستجيب لكل طلباتك فهو الشاعر الذي صنع الشاعرة ، أنت أيضا ترغبين بمراجعة وهج القواميس وبرق القصائد والوقت لا زال يسمح لمزيد من الدروس فالموت لم يكن مفاجئا كما أردته ، اقسم بأنه تقدم الجنازة ، فهذه نابلس التي يعرفها لا زالت عصية ويخاف عليك السير وحدك في دروبها الوعرة ، فأنت رقيقة وضئيلة الحجم وأكاليل الزهر والفل تتبعك ولا زال يخاف عليك من زهر الفل اذا ما اقترب او اذا ما بادر احدهم بنثره عليك ، .. إبراهيم الفارس لن يتركك الآن في مبارزتك الأخيرة وحدك ، فالجبهة الاجتماعية لا زالت مفتوحة على مصراعيها ولكنك لست وحدك .
غياب فدوى وجنازتها يجب ان يفتحا الباب أمام نقاش المشهد الثقافي العام لمدينة نابلس وماذا حل به ، الجنازة تشي بوضوح بضعف الحركة الثقافية والتواصل الثقافي بين مختلف الأجيال ، الأمر الذي يدق ناقوس الخطر ، وينبئ بأن الهوية الثقافية في خطر فالفئة العمرية المشاركة بموكب تشييع الشاعرة الكبيرة غير ممتدة ومحصورة وكانت خالية من جيل الشباب الذي هو رهان المستقبل ورافعة المجتمع ، المدينة تبدو ضيقة منطوية ومغلقة على ذاتها ، بعد ان كانت موئلا للثقافة والعلم منذ عقود مضت ، وحاضنة للمثقفين ومركز إشعاع بتصديرها للكتاب والشعراء والمؤرخين والباحثين ، نابلس اليوم تخلو من المسارح والسينما والمنتديات، والمراكز الثقافية نادرة ولا يقدم ثقافة جماهيرية ، وهذا يعني فيما يعنيه تأكيد على تراجع مفهوم الانتماء والمواطنة الذين يغذيا التنوع الثقافي وتقبل الآخر والديمقراطية ، واستشراء للثقافة المحافظة والشعبوية التي تقف سدا منيعا أمام الانطلاق الثقافي وانتعاش الحركة الثقافية ، ان تهلهل المشهد الثقافي وانزوائه إلى هذا الحد ليدعو مجددا كل المثقفين والمهتمين بقضايا الفكر والإبداع وكذلك القوى الديمقراطية والتقدمية ان يشحذوا هممهم ويعيدوا بناؤه بما يليق بنابلس، وبما مثلته في التاريخ القديم والحديث ، من صفحة مشرقة تبهج القلب والعقل ، وبما يليق بفدوى وإبراهيم طوقان وكل المبدعين الذين اصبحوا منارات للفكر والثقافة ، تخطوا حدود الزمان والمكان الى فضاءات واسعة وعوالم اكثر اتساعا ، ومعها رفعوا اسم مدينتهم ووطنهم.