أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - نبيل علي صالح - الفساد في العالم العربي معناه، دوافعه وأسبابه، نتائجه وعلاجه















المزيد.....



الفساد في العالم العربي معناه، دوافعه وأسبابه، نتائجه وعلاجه


نبيل علي صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2201 - 2008 / 2 / 24 - 09:48
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


أولاً- مقدمة ضرورية
يشهد عالمنا المعاصر تحولات مذهلة ومتغيرات متسارعة في كثير من مواقعه وجوانبه وامتداداته وبخاصة في المجال الاقتصادي والتقني، حيث يقوم نظام الاقتصاد الرأسمالي المعولم –المالك لثلاثية القوة: الثروة والمعرفة والسلطة- بفرض معايير ونظم ومتطلبات العولمة على باقي المجتمعات والبلدان النامية ومنها بلداننا في العالم العربي والإسلامي، بما يهدف إلى زيادة غناه وترفه وتوسيع مساحة السيطرة لديه على باقي الأمم والمجتمعات.. أي توفير كافة مقتضيات وممكنات بقاء القوة بأيدي حوالي ربع سكان العالم فقط.. وبما يجعل هذه المجتمعات المتقدمة والمترفة بعيدة كلياً عن كل مظاهر ومواقع الفقر والعوز والجهل والتخلف.
أما بالنسبة لمجتمعاتنا العربية والإسلامية التي لا تزال تعتاش على ما يسمى بـ"الحداثة القشرية" الاستهلاكية (التحديث العلمي عبر شراء آلات ومصانع ووسائل جديدة وحديثة، مع بقائها متأخرة معرفياً وتقنياً بالمعنى البنيوي الـتأسيسي) فإن أزمةً كبرى تواجهها على مستوى وجودها وفعاليتها الحضاري، وعلى مستوى ضآلة فرصها في تطبيق مشروعها الحضاري التاريخي التنويري، تتمظهر من خلال ما تكابده من مشقات ذاتية وموضوعية وما تعايشه من تحولات وأوضاع صعبة ومتردية أوصلت بلداننا إلى الدرك الأسفل، أو إلى حافة الهاوية على مختلف الأصعدة وفي مختلف الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وعلى امتداد الوطن العربي كله..
ولا شك أن هذه الأوضاع الصعبة والخطيرة لا تسر الحريصين على أوطاننا وشعوبنا والعاملين في سبيل رفعة وتطور مجتمعاتنا.. وهي حقيقةً تبعث في النفس مشاعر متضاربة ومتناقضة من الشفقة والحزن والإحباط والرغبة العارمة في تغيير أو على الأقل إصلاح الواقع العربي والإسلامي المعاش المنكوب الذي تؤكده أرقام وإحصائيات وبيانات وتقارير التنمية البشرية الصادرة عن منظمات ومؤسسات وهيئات محلية وعالمية تعنى بقضايا التنمية في منطقتنا العربية..
في هذه الدراسة سنبحث في جانب من جوانب المشهد المأساوي الذي تعيشه مجتمعاتنا.. والذي ساهم في تكريس التخلف السائد عندنا، وهو جانب الفساد الذي أصبح قضية مفصلية وتحدياً جوهرياً على اختلاف تعابيره وتلوناته السياسية والاقتصادية (وبصورة خاصة الفساد الإداري والمالي) حتى باتت ظاهرة الفساد ذات جذور عميقة ضاربة في داخل بنية مجتمعاتنا، وشديدة البروز والانتشار فيها تتلقى الدعم والإسناد، وتحظى برعاية من مواقع كبيرة بحجمها المادي والمعنوي.. ولا نغالي إذا ما شبهنا الفساد المستشري في أوساط مجتمعاتنا كالمارد أو كالغول الذي يريد التهام ما تبقى من موارد وثروات عالمنا العربي والإسلامي.

ثانياً- ملخص تنفيذي عام
يلاحظ أنه مع تصاعد سياسات الانفتاح الاقتصادي بين الدول، واتساع رقعة ومساحة النشاط الاقتصادي المتزايد لرفع القدرة التنافسية للمنتجات وضمان تسويقها ووصولها السريع للمستهلك، ينتشر الفساد وتتزايد معطياته وأرقامه في كافة بلاد المعمورة، بقطع النظر عن الطبيعة السياسية لتلك البلدان..
حيث أنه غالباً ما تترافق -مع سياسات الانفتاح الاقتصادي المطبق في معظم دول العالم- عملية توسع كبيرة في نطاق سير وانتقال للأموال، وحركة غسيل كبيرة للأموال التي يمكن أن تكون على صلة بالجريمة المنظمة، وشراء النفوذ والولاءات، وتشديد الرقابة على الحدود الدولية لمنع الهجرة والتهريب.. حيث يلاحظ أنه وبعد انتهاء الحرب الباردة –مع بروز ظاهرة العولمة- انتشرت بكثافة ظاهرة الشركات المتعددة الجنسيات (عابرة للقارات-الكوكبية)، التي تبلغ رساميلها ودورتها الاقتصادية تريليونات الدولارات، مما جعلها تسيطر في الواقع على مجمل النشاط الاقتصادي العالمي.. كما رافق ذلك تغيرات مهمة في آليات الاقتصاد التقليدي السابق، مما يجعل الاقتصاد العالمي الحالي اقتصاداً جديداً يختلف عما سبقه، مع تعزيز وتشديد وتصعيد للاستغلال الرأسمالي، مما يتبعه حتماً انتشارٌ للفقر لا مثيل له، في كل أرجاء العالم.
إن الفساد موجود وقائم في أقوى النظم الديمقراطية وأعتى الديكتاتوريات العسكرية على حد سواء، ولكن المختلف بينهما أسس وطرائق المعالجة من حيث شيوع الإعلام الحر القادر على النقد والمساءلة وملاحقة الفساد والفاسدين، ووجود هيئات ومؤسسات المجتمع المدني، وتوفر مختلف آليات العمل السياسية (الديمقراطية كآلية لممارسة السلطة) التي تسمح لكافة أحزاب وتيارات ومؤسسات ونخب المجتمع -التي تشتغل كحكومة ظل- بالمشاركة في صنع القرار وممارسة الحكم وتسليط الضوء على المناطق القصية والخفية في الدولة لمنع أو التقليل من حجم استشراء الفساد..
فعلى مستوى البلدان الرأسمالية يتواجد فساد ومفسدون وهو يكاد يكون ظاهرة طبيعية في تلك المجتمعات ولكن تختلف درجات هذا الفساد إلى اختلاف تطور مؤسسة الدولة نفسها . أما في بلدان العالم الثالث فإن فساد مؤسسات الدولة وتدني مستويات الرفاه الاجتماعي وشيوع الفقر والحرمان في المجتمع تصل إلى أقصى حدودها، وهذا ناتج عن درجة التخلف وازدياد معدلات البطالة وزيادة تكدس الثروة في أيدي قلة من الأفراد. فالفساد قد ينتشر في مختلف البنى والمواقع التحتية للدولة والمجتمع، وفي هذه الحالة يتسع وينتشر في الجهاز الوظيفي والإداري ونمط العلاقات المجتمعية، فيبطيء من حركة تطور المجتمع، ويقيد حوافز ومغريات التقدم الاقتصادي.
-إذاً هناك تصاعد للفساد في جميع أنحاء العالم تقريباً إلى مديات ومستويات متقدمة غير مسبوقة في تاريخ العالم كله خصوصاً مع تزايد المال، ووفرة الثروات، وتلاشي الحواجز والحدود على حركة نقل الثروة بين البلدان، وكانت له نتائج خطيرة على مستوى تأمين متطلبات استمرارية العيش الإنساني الآمن والمستقر، وعلى مستوى إعاقة النمو الاقتصادي وتخريب التنمية الاقتصادية، فضلاً عن انعكاس ذلك سلباً على طبيعة الوضع الاجتماعي للفساد في أي بلد يعاني من انتشار تلك الآفة الخطيرة.
وقد أخذت هذه المسألة تتفاعل وتأخذ أبعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل ودوافع متعددة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع إلى آخر. إذ حظيت ظاهرة الفساد في الآونة الأخيرة باهتمام المراقبين والباحثين في مختلف الاختصاصات كالاقتصاد والقانون وعلم السياسة والاجتماع، حيث تم تعريفها وفقاً لبعض المنظمات العالمية حتى أضحت ظاهرة عامة لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها.

ثالثاً- سير ووجهة البحث
عندما نحلل ونبحث في ماهية أية ظاهرة بهدف فهمها ومعالجتها لا بد من تشخيصها من خلال اتباع منهجية وأسس التحليل العلمي الدقيق، ومعرفة أسباب ظهورها، والعناصر التي تمدها بالقوة، والمناخ الذي يساهم في ديمومتها، ومن ثم تحديد الأسس والقواعد والعناصر اللازمة لمعالجتها..
والمنهج العلمي العقلاني يقوم على الركائز المهمة التالية، التي لا تكتمل أية نتيجة إلا بها:
1. التحرر من الخوف والاتباعية والامعية.
2. التجرد عن الهوى ودوافع الذات، والتحلي قدر المستطاع بالموضوعية والحيادية.
3. الجرأة والشجاعة والحكمة، وتسمية الأشياء بمسمياتها وكما هي في الحقيقة والواقع.
من هنا –وفي إطار بحثنا في ظاهرة الفساد- سنلقي الضوء على مفهوم الفساد، مظاهره، أسبابه، والآثار أو الانعكاسات المؤثرة والمترتبة على وجود وتغلغل تلك الظاهرة في داخل بنى مجتمعاتنا، على مستوى فهم خصائصها وأبعادها، ثم سنحاول وضع الحلول والمعالجات الموضوعية اللازم اتباعها وتبنيها للحد أو للتقليل قدر المستطاع –إذ لا سبيل للقضاء المبرم والنهائي على آفة الفساد- من إمكانية تفاقم وتأثير الفساد على تطور المجتمعات البشرية بشكل عام وعلى مجتمعاتنا العربية بشكل خاص.
طبعاً ولا يمكن للمعالجة الصحيحية لهذا الموضوع الجوهري أن تبدأ بقوة إلا من خلال وقفة حساب متأنية ومحاسبة عادلة تطال الجميع (أفكاراً وأشخاصاً) تنطلق من الأسئلة التالية:
-لماذا وصلنا إلى ما وصلنا من استشراء الفساد والإحباط واليأس وانعدام القدرة على الفعل والخلق والابتكار؟!! ولماذا وكيف وقعت بنا الخسائر والأخطار؟!!
-ثم لماذا ندّعي ونزعم بعد كل تلك الكوارث والهزائم والأزمات (والجرائم المرتكبة التي تسميها نخبنا الحاكمة أخطاء!!) بأننا خسرنا الحرب وانتصرنا بالمحافظة على أرواحنا وأنظمتنا وأحزابنا وأفكارنا وتراثنا وقيمنا؟!!.
-هل الخطأ يكمن في النص والفكر أم في الممارسة والتطبيق؟!!

رابعاً- تحديد معنى مفهوم الفساد
يقتضي الاتفاق في معظم البحوث الأكاديمية على تحديد معنى المصطلحات المستخدمة ومضمونها حتى ينحصر الجدل في إطاره الموضوعي.. وبالنظر إلى ذلك، فإنه يمكن تعريف الفساد بالمعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي.
الفساد لغةً: الفساد في معاجم اللغة هو في (فسد) ضد صَلُحَ (والفساد) لغة البطلان، فيقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل، ويأتي التعبير على معانٍ عدة بحسب موقعه. فهو (الجدب أو القحط) كما في قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون" (سورة الروم الآية41) أو (الطغيان والتجبر) كما في قوله تعالى "للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً" (سورة القصص الآية83) أو (عصيان لطاعة الله) كما في قوله تعالى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم عذاب عظيم" (سورة المائدة الآية33) حيث تركز الآية السابقة على تحريم الفساد على نحو كلي شامل، وتتوعد أصحابه والقائمين به بأشد أنواع العذاب وبالخزي والعار في الدنيا والآخرة.
الفساد اصطلاحاً: ليس هناك تعريف محدد للفساد بالمعنى الذي يستخدم فيه هذا المصطلح في أوقاتنا الراهنة، لكن هناك ثمة اتجاهات متعددة تتفق في كون الفساد "إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص.. أي "استثمار الموظف في الدولة والمؤسسة العامة أو الخاصة للصالح العام بهدف خدمة مآرب ومنافع خاصة".
ويمكن تقديم تعريف عام لمفهوم الفساد عربياً بأنه اللهو واللعب وأخذ المال ظلماً من دون وجه حق، مما يجعل تلك التعابير المتعددة عن مفهوم الفساد، توجه المصطلح نحو إفراز معنى يناقض المدلول السلبي للفساد، فهو ضد الجد القائم على فعل الائتمان على ما هو تحت اليد (القدرة والتصرف).. لذلك يؤسس مفهوم الفساد على ضوء متجهات ومحددات تعين معياراً سلوكياً يميز فاعله عن غيره، في تحقيق صيانة وحفظ ما تحت قدرته وأمرته، خاصة ما يتعلق بالحق العام..
وأيضاً تقترب مفردة الفساد إنكليزياً (Corruption) من أن تكون ذات دلالات قيمية (على مستوى التصرف والممارسة العملية) حيث تطرح كلمة (Corruption=الفساد) وصفاً مشيناً للسلوك غير السليم-Dishounor- الناتج عن تفسخ منظومة القيم الاجتماعية وانهيار المنظومة القيمية.. هذا على مستوى معاني اللفظ.
أما ما يخص التعاريف التي قدمتها المؤسسات الدولية لمصطلح الفساد –وخاصة الهيئات التي تحمل صفة اقتصادية وسياسية كالبنك الدولي مثلاً- فيعرف الفساد من خلال أنه "استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص (الشخصي )غير المشروع (ليس له أي أساس قانوني)".. وهذا التعريف يتداخل مع أطروحة صندوق النقد الدولي (IMF) الذي ينظر إلى الفساد من حيث أنه علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة بالآخرين.. وهنا يتحقق اقتراب المعالجتين (معالجة البنك الدولي وصندوق النقد) من بعضهما البعض على مستوى تأطير الفساد بسلوك وسطوة (قدرة وسلطة) تظهر لنا مخرجات معاني هذا الفساد وتطرح وصفاً أولياً لبنية المجتمع الذي تسوده علاقات الفساد..
ولهذا يصبح (الفساد) علاقة وسلوك اجتماعي، يسعى رموزه إلى انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي، فيما يمثل عند المجتمع المصلحة العامة، لهذا يصنف المختصون في قضايا الفساد أنواعه إلى واسع وضيق، فالفساد الواسع ينمو من خلال الحصول على تسهيلات خدمية تتوزع على شكل معلومات، تراخيص... أما الفساد الضيق فهو قبض الرشوة مقابل خدمة اعتيادية بسيطة.. أي عندما يقوم موظف بقبول أو طلب ابتزاز (رشوة) لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة مثلاً. كما يمكن للفساد أن يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة من دون اللجوء إلى الرشوة وذلك بتعيين الأقارب ضمن منطق (المحسوبية والمنسوبية) أو سرقة أموال الدولة مباشرةً.
-والمحسوبية هنا تعني تفضيل الأقارب أو الأصدقاء الشخصيين في أي عمل أو موقع أو دور متقدم وذلك بسبب طبيعة العلاقة الشخصية، وليس لوجود استعداد وقابلية نوعية لديهم.. والكلمة تستخدم للدلالة على الازدراء. فمثلاً إذا قام أحد المدراء بتوظيف مدير أو ترقية أحد أقاربه الموظفين بسبب علاقة القربى بدلاَ من موظف آخر أكفأ وأقدر على ممارسة الوظيفة والمهام، ولكن لا تربطه أية علاقة بالمدير، فيكون المدير حينها متهماً بالمحاباة. وقد ألمح بعض علماء الأحياء بأن الميل نحو محاباة الأقارب أمر غريزي و شكل من أشكال انتقاء الأقارب.
وحقيقة إن ممارسة الفساد مرجعها –في الأساس- إلى عدم وجود أي مظهر من مظاهر الاستقامة الذاتية للشخص الذي يمارسه.. وبالتالي فهو انتهاك لقيمه وأخلاقه، وقيم المجتمع الذي يمارس ضده هذا النمط من السلوك المنحرف والمنحط.
أما بالنسبة لأصحاب القانون والاتجاه القانوني فيعدون الفساد انحرافاً في الالتزام بالقواعد القانونية، وهناك شبه إجماع على أن للفساد أثراً مدمراً على القانون وعلى القضاء عندما يطاله ويشمله بمؤثراته المهلكة.
هذا وقد اختارت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد للعام 2003 ألا تعرف الفساد تعريفاً فلسفياً أو وصفياً، بل انصرفت إلى تعريفه من خلال الإشارة إلى الحالات التي يترجم فيها الفساد إلى ممارسات فعلية على أرض الواقع، ومن ثم القيام بتجريم هذه الممارسات وهي:
- الرشوة بجميع وجوهها وفي القطاعين العام والخاص.
- والاختلاس بجميع وجوهه.
- والمتاجرة بالنقود.
- وإساءة استغلال الوظيفة.
- وتبييض الأموال.
- والثراء غير المشروع، وغيرها من أوجه الفساد الأخرى.
إذاً إن الفساد جريمة حقيقية يقوم بها المفسد بناءً على تفكير وحساب وتخطيط وتنفيذ، وعليه فهو من الجرائم التي تزيد التراكمات المادية غير الشرعية، والمخالفة للقوانين والمؤثرة تأثيراً سلبياً في بنية المجتمع واقتصاده.
وعليه فالفساد عموماً هو عكس الاستقامة والنزاهة والإيجابية والبناء والنظام والانضباط، وهو ممارسة وسلوك ذاتي لتغليب المنفعة الشخصية على المنفعة العامة، واستغلال المصلحة العامة لتحقيق المنافع الشخصية دون النظر إلى المنفعة العامة.
إن هذه التحديدات والتصانيف والنظرات لأنواع الفساد تكشف عن حدود جغرافيا انتشار الفساد في المجتمع ومؤسساته.. وبالتالي يصبح الفساد موقفاً اجتماعياً إزاء سلم أولويات المجتمع الأخلاقية. ليدخل مظاهر ممارساته (الفساد) كجزء طبيعي في النسق الثقافي-الاجتماعي.

خامساً- مظاهر وأنواع الفساد
يمكن تصنيف الفساد -من حيث تمظهراته السلبية الواقعية على مستوى الفرد والمجتمع- في الأنواع التالية:

1. الفساد السياسي:
يتعلق هذا النمط من أنماط الفساد بطبيعة الحكم والممارسة السياسية وآليات العمل السياسي السائدة في مؤسسات الدولة (حيث أنه وبرغم وجود فارق أساسي بين طبيعة المجتمعات التي تنتهج أنظمتها السياسية أساليب الحكم الديمقراطي وتوسيع مشاركة الناس في صنع القرار، وبين الدول التي يكون فيها الحكم شمولياً وديكتاتورياً، لكن العوامل المشتركة لانتشار الفساد في كلا النوعين من الأنظمة تتمثل في نسق وآليات الحكم الفاسد.).. ويتمظهر هذا النمط واقعياً من خلال إساءة استخدام السلطة العامة (الحكومة) من قبل النخب الحاكمة لأهداف غير مشروعة، وعادة ما تكون ممارساتها سرية من أجل تحقيق مكاسب نفعية شخصية، تتجسد (في سياق عمل إدارات الدولة) في عجز مؤسسات وقطاعات الدولة المتعددة والمتنوعة عن القيام بمهامها ووظائفها وواجباتها الملقاة على عاتقها، والمتمثلة في البناء السليم المتوازن والحديث لإنسانها ومجتمعاتها (تحقيق مستوى معيشي نوعي متطور، وقدرة مشاركة كبيرة في الحكم، وو..الخ)، بسبب شخصنة عملها (هيمنة فئة صغيرة على هيئة نظام حكم على مقدرات الاقتصاد الوطني ككل) وتكريس مختلف خطوط ومواقع الانحرافات المالية ومخالفات القواعد والأحكام التي تنظم عمل النسق السياسي (المؤسسات السياسية) في الدولة.
ومن المعروف أن كل أنواع الأنظمة السياسية معرضة للفساد السياسي التي تتنوع أشكاله إلا أن أكثرها شيوعاً هي: المحسوبية والرشوة والابتزاز وممارسة النفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب. ورغم أن الفساد السياسي يسهل النشاطات الإجرامية من قبيل الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال والدعارة إلا أنه لا يقتصر على هذه النشاطات ولا يدعم أو يحمي بالضرورة الجرائم الأخرى.
1-1: حجم تأثيرات الفساد السياسي على حاضر ومستقبل أي بلد:
يمكن تحديدها في النقاط التالية:
آ- التأثيرات السلبية للفساد على السياسة والقضاء ومختلف إدارات البلد:
يمثل الفساد تحدياً خطيراً وعائقاً كبيراً في طريق التنمية لأي مجتمع. فهو على الصعيد السياسي يقوض أسس وأركان حكم الديمقراطية والتعددية السياسية، وينسف دعائم الحكم الصالح من خلال تغيير مسار العملية السياسية الرسمية.
أما الفساد في الانتخابات والهيئات التشريعية فإنه يوصل إلى سدة البرلمانات والمجالس النيابية وغيرها أشخاصاً غير جديرين وغير مناسبين لتحمل مسؤولية التمثيل الصحيح للشعب في عملية صنع القرار السياسي وغيره من القرارات المصيرية للبلد، كما أنه يقلل من مساحة النقد والمساءلة.
أما الفساد القضائي فإنه يعرض سيادة القانون للخطر، ويجعله مطية يركبها أصحاب النفوذ والحظوة والثروة والسلطة.
وأما الفساد في الإدارة العامة فيؤدي إلى انعدام التوزيع العادل للخدمات التي تقدمها الدولة للفرد والمجتمع.
أي بمعنى أوسع يؤدي انتشار الفساد السياسي في أي بلد –وخصوصاً البلدان المتخلفة، ومنها بلداننا العربية- إلى نخر القدرة العملية الإنتاجية للحكم المؤسساتي وذلك بسبب قيام الفاسدين باستنزاف جائر لمصادر قوة البلدان والحكومات، ومواردها وثرواتها. وبسببٍ من وجود واستشراء الفساد السياسي يمكن لأيٍ كان ممن ينتسبون للطبقة المترفة الغنية النافذة شراء المواقع والأدوار والكراسي والمناصب الرسمية.. كما ويؤدي هذا النوع من الفساد إلى تقويض شرعية الحكومة وبالتالي يقوم بتحريف معاني المبادئ والقيم الديمقراطية للمجتمع المدني: كالثقة والتسامح وتكافؤ الفرص والتوازن وو..الخ.
ب- التأثيرات الاقتصادية السلبية للفساد السياسي:
-يؤدي الفساد السياسي (على الصعيد الاقتصادي التنموي، كما نراه في معظم مجتمعات العالم المتأخر) إلى تقويض ونسف دعائم التنمية البشرية من جذورها وذلك لتسببه في حدوث تشوهات وحالات عجز ضخمة.
-كما ويؤدي انتشار الفساد في القطاع الخاص إلى زيادة كلفة العمل التجاري من خلال زيادة سعر المدفوعات غير المشروعة نفسها.. وكذلك لازدياد النفقات الإدارية الناجمة عن التفاوض (ونعني بها عمليات التراضي وتسوية الصفقات مع أولي الأمر!!) مع المسؤولين ومخاطر انتهاك الاتفاقيات أو الانكشاف.
-ورغم أن البعض يدّعي بان الفساد يقلل من النفقات الإدارية عن طريق تجاوز الروتين الإداري، إلا أن وجود الرشوة يمكن كذلك أن يدفع المسؤولين لاستحداث تعليمات وحالات تأخير جديدة في إنجاز المعاملات. ومع إسهامه في زيادة تضخم النفقات التجارية فإن الفساد يشوه الحقل التجاري لأي بلد، إذ يحمي الشركات والمؤسسات ذات المعرفة والحظوة لدى الحكومة من المنافسة ما يعني بالنتيجة استمرار وجود شركات غير كفوءة وغير منتجة تعتاش على دمار غيرها.
-وعلاوة على ذلك يولد الفساد تشوهات اقتصادية في القطاع العام عن طريق تحويل استثمار المال العام إلى مشروعات رأسمالية تكثر فيها الرشى. ويلجأ المسؤولون إلى حيلة زيادة التعقيدات الفنية لمشاريع القطاع العام لإخفاء أو لتمهيد الطريق لهذه التعاملات غير المشروعة، ما يؤدي بالنتيجة إلى زيادة تشويه استثمار المال العام.
-ويؤدي الفساد كذلك إلى خفض معدلات الالتزام بضوابط البناء والمحافظة على البيئة والضوابط الأخرى، وإلى تردي نوعية الخدمات التي تقدمها الحكومات، وزيادة الضغوط على ميزانياتها الرسمية.
وفي هذا المجال يؤكد بعض خبراء الاقتصاد على أن أحد أسباب اختلاف معدلات التنمية الاقتصادية بين أفريقيا وآسيا يعود إلى أن الفساد في أفريقيا قد اتخذ شكل اشتقاق الإيجارات الذي ينجم عنه تحريك رأس المال إلى الخارج بدلاً من استثماره في الداخل (وهو النمط التقليدي والمحبط الذي نشهده في قيام الحكام المستبدين كبعض حكام أفريقيا مثلاً بإنشاء حسابات مصرفية لهم في بنوك سويسرا). أما الإدارات الفاسدة في آسيا (من قبيل إدارة سوهارتو السابقة في أندونيسيا) فغالباً ما اتخذت هيئة الحصول على حصة في كل شيء (طلب الرشى)، إلا أنها تمكنت بخلاف ذلك من توفير جميع شروط التنمية عن طريق الاستثمار في مشاريع البنية التحتية ودعم سيادة القانون و ما إلى ذلك.
هذا ويقدر الباحثون في جامعة ماساشوسيتس أن تهريب رؤوس الأموال من 30 دولة أفريقية خلال الفترة بين عامي 1970 و 1996 قد وصل إلى أكثر من 187 مليار دولار.. وهو ما يفوق مديونيات هذه الدول مجتمعة.. وهذا ما يمكن أن تكون نتيجته الوحيدة، تخلف هذه البلدان، أو على الأقل وجود تنمية منقوصة فيها.. وهو ما أطره الاقتصادي "مانكور اولسون" في نظرية وضعها بهذا الشأن.
1-2: وسائل وأدوات الفساد السياسي:
أ- استخدام الرشوة المادية والمعنوية:
الرشوة بالتعريف الاصطلاحي العملي -وكما وردت في مختلف القواميس والموسوعات العربية والعالمية- هي: "أن يدفع الإنسان مالاً من أجل أن يستفيد حقاً ليس له، بل من حق غيره أو من حق الصالح العام.. أو أن يعفي نفسه من واجب عليه تجاه مجتمعه والواجب العام".. طبعاً لا بد لحدوث الرشوة من توفر أكثر من عنصر وطرف، فهناك الشخص الذي يعطي الرشوة والشخص الذي يأخذها.. وحكمها الديني في هذه الحالة ما قاله رسول الله(ص): "الراشي والمرتشي في النار".. أما إذا كان هناك ظرف خاص يجعل الإنسان غير قادر على استيفاء حق له إلا بأداء الرشوة للظالمين أو الحكام؛ فإن ما يدفعه في هذه الحال من أجل الوصول إلى حقه لا يعتبر رشوة، كما يرى بعض علماء الدين والاجتماع.
ب- استخدام وسائل الابتزاز السياسي والضغط الأمني:
الابتزاز هو نوع من الضغط المادي أو المعنوي المباشر الذي يقوم به شخص متنفذ وصاحب سطوة في أي موقع من مواقع الدولة ضد مسؤولين آخرين أو تجار أو اقتصاديين أو من في حكمهم، بهدف الحصول على أموال أو مواقع أو هدايا أو غيرها.. أو هو –على وجه العموم- قيام المسؤول السياسي بنفسه (على اختلاف موقعه ومنصبه الكبير المتقدم في تراتبية الحكم ضمن الدولة إذ قد يكون السياسي هنا صاحب مكانة ونفوذ اقتصادي، أو أمني، أو حزبي، أو ..الخ) بالاستفادة من الأموال العامة بطرق غير قانونية. ويمكن مقارنة الابتزاز بالاتجار بالمنصب.
لقد ادعى جورج واشنطن بلنكيت ممثل نيويورك في مجلس الشيوخ الأمريكي ذات مرة، إدعاءه الشهير بأن هناك اختلافاً بين الابتزاز "الشريف-النظيف" و الابتزاز "غير الشريف". فالمثال التقليدي للابتزاز يتمثل في استغلال المسؤول لمعرفتة –على سبيل المثال لا الحصر- بالقرارات المتعلقة بمسح الأراضي في شراء هذه الأراضي التي يعرف بأن منظمته السياسية مهتمة باستغلالها ومن ثم بيعها، وذلك بهدف تحقيق أرباح مالية كبيرة لتلك المنظمة.
أما الهدايا والعطاءات المقدمة من أحد الأحزاب المشتركة مثلاً في الحكومة فتصنف هي الأخرى على أنها ابتزاز غير مشروع.. ومعظم الدول لها قوانين وأنظمة تحظر مثل هذا النوع من الأعمال.. (ففي الولايات المتحدة، تعتبر كل هدية تتعدى قيمتها 200 دولار يتم تقديمها إلى رئيس البلاد بمثابة هدية مقدمة إلى مكتب مقام الرئاسة، وليس إلى شخص الرئيس. ويمكن للرئيس أن يشتريها ويدفع ثمنها للدولة إذا ما أراد الاحتفاظ بها بعد انتهاء مهام ولايته في رئاسة الدولة).
ج- المساهمات (المادية والمعنوية) في الحملات الانتخابية
(استخدام النفوذ والسلطة، والأموال المشبوهة):
قد يصعب إثبات الفساد في الميدان السياسي، ولكن يستحيل كذلك نفي وجوده.
ففي كثير من الدول تقوم فئات ذات قوة مادية أو معنوية مقوننة في المجتمع –كالتجار ورجال الأعمال وأصحاب النفوذ من نخبة الحكم السياسي أو الأمني أو..الخ- بالتعاون والتعاضد مع بعضها البعض لإيصال هذا المرشح أو ذاك، أو إسقاط هذا الحزب أو ذاك، باستخدام المال والنفوذ والحظوة والمكانة، وو..الخ.. وبسبب من حاجة بعض المرشحين للانتخابات البلدية أو النيابية مثلاً إلى حشد الدعم المالي –غير المتوفر لهم- لحملاتهم الانتخابية فإنهم يكونون في موقع ضعيف، ويعرضون حياتهم وسمعتهم المستقبلية للخطر. ولذلك يظهرون لاحقاً بعد حصولهم على الدعم من طرف أو جهةٍ ما وكأنهم يعملون لصالح هذه الجهة التي قامت بتمويل حملاتهم وتحمل تبعات ذلك كله، وهو ما يفتح المجال للحديث عن فسادهم السياسي.. حيث أن الإنسان عبدٌ لمن يخدمه (خصوصاً في مجتمعات الفقر والعوز والحاجة).
2. الفساد المالي:
ويتمثل بمجمل الانحرافات المالية ومخالفة القواعد والأحكام المالية التي تنظم سير العمل الإداري والمالي في الدولة ومؤسساتها، ومخالفة التعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية كالجهاز المركزي للرقابة المالية المختص بفحص ومراقبة حسابات وأموال الحكومة والهيئات والمؤسسات العامة والشركات العامة التابعة لها..
ويمكن ملاحظة مظاهر الفساد المالي هنا من خلال الوسائل التالية: الرشاوى والاختلاس والتهرب الضريبي وتخصيص الأراضي والمحاباة والمحسوبية في التعيينات الوظيفية والإدارية.
إن الفساد المالي هو الآفة الكبرى وهو كالفيروس الذي يأكل من صحة الجسد المعافى رويداً رويداً ومن دون أن يشعر بمخاطره في البداية.. ولذلك لا بد من التنبه له ولاحتمالات تفاقمه منذ البداية من خلال نشر المعلومات واعتماد الشفافية الواضحة المقوننة، ووجود أنظمة ثابتة للمقاولات وتقديم العطاءات.
3. الفساد الإداري:
ويتعلق بمظاهر الفساد والانحرافات الإدارية والوظيفية أو التنظيمية.. وتلك المخالفات التي تصدر عن الموظف العام خلال تأديته لمهام وظيفته الرسمية ضمن منظومة التشريعات والقوانين والضوابط ومنظومة القيم الفردية.
و تتمثل مظاهر الفساد الإداري هنا من خلال النقاط التالية:
- عدم احترام أوقات ومواعيد العمل في الحضور والانصراف.
- تمضية الوقت في قراءة الصحف واستقبال الزوار وتناول المأكولات والمشروبات والتنزه في الحديقة أو في مكاتب الموظفين.
- الامتناع عن أداء العمل أو التراخي والتكاسل قصداً أو عن حسن نية.
- عدم تحمل المسؤولية الإدارية والقانونية لدى العامل، إما لضعف الوعي القانوني لديه، أو عدم استيعابه لحقوقه وواجباته (وعدم معرفة الآليات والنظم الإدارية التي تتم من خلالها ممارسة الوظيفة، وهو أمر يتعلق بعامل الخبرة والكفاءة لإدارة شؤون العمل في أي موقع وظيفي)، أو قد يكون أحياناً تهاوناً مقصوداً منه في عدم الرغبة بتحمل المسؤولية الإدارية عن أي عمل، أو أحياناً لشعور عارم بالغبن والظلم عند هذا الموظف أو ذاك (حيث تمتلئ نفسه بمختلف أحاسيس المظلومية والمهانة) قد يجتاحه عندما يجد أنه مهضوم الحقوق، ولا يحصل على أي مكافآت ولا إضافات والخ...
- إفشاء أسرار الوظيفة، وطبيعة الأعمال المنجزة أو تلك التي ستنجز الخاصة بهذه المؤسسة أو تلك، والخروج عن العمل الجماعي في الأداء الوظيفي العام إلى العقلية الفردية الخاصة..
والواقع أن مظاهر الفساد الإداري متعددة ومتداخلة، وغالباً ما يكون انتشار أحدها سبباً مساعداً على انتشار بعض المظاهر الأخرى.
4. الفساد الأخلاقي:
وهو يتمظهر في العمل الوظيفي من خلال مجمل الانحرافات الأخلاقية والسلوكية المتعلقة بسلوك الموظف الشخصي وتصرفاته الخاصة والعامة تجاه نفسه وتجاه محيطه العملي.
أ- كالقيام بأعمال مخلة بالحياء والآداب في أماكن العمل.
ب- أو أن يجمع بين الوظيفة وأعمال أخرى خارجية دون الحصول على موافقات مسبقة من إدارته.
ج- أو أن يستغل السلطة لتحقيق مآرب شخصية نفعية له على حساب المصلحة العامة.
د- أو أن يمارس المحسوبية والزبائنية بشكلها الاجتماعي الذي يسمى (المحاباة الشخصية) دون النظر إلى اعتبارات الكفاءة ومعايير الجدارة المهنية وتوافر المهارات الاكتسابية والخبرات النوعية.

سادساً- النتائج الميدانية الناجمة عن الفساد
1. يساهم الفساد في تدني كفاءة الاستثمار العام وإضعاف مستوى الجودة والكفاءة في البنية التحية العامة، وذلك بسبب الرشاوى والعمولات التي يتلقاها المشرفون والمتنفذون وأصحاب القرارات.. ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى تقليص حجم الموارد المخصصة للاستثمار، وإساءة توجيهها وزيادة كلفتها على الفرد والمجتمع ككل.
2. للفساد أثر مباشر في حجم ونوعية تدفقات موارد الاستثمار الأجنبي، ففي الوقت الذي تسعى فيه البلدان النامية إلى استقطاب موارد الاستثمار الأجنبي لما تنطوي عليه هذه الاستثمارات من إمكانات نقل المهارات والتكنولوجيا الحديثة، فقد أثبتت الدراسات أن الفساد يضعف هذه التدفقات الاستثمارية وقد يعطلها في أحايين كثيرة، الأمر الذي يمكن أن يسهم بشكل فعال في تدني إنتاجية الضرائب كمورد أساسي من موار الميزانية لأي بلد، وبالتالي تراجع مؤشرات التنمية البشرية خاصةً فيما يتعلق بمؤشرات التعليم والصحة (حيث تشكل الضرائب واجباً وطنياً على المواطن في بلدان العالم الأول، بينما هي لدينا شعور ضاغط على كاهل الفرد، وهي بمثابة خوة يقدمها لدولته يتمنى أن يتهرب منها بأي شكل كان.. وتقول الأرقام أن حجم التهرب الضريبي في بلداننا يفوق حجم ميزانيات دولنا).
3. يرتبط الفساد ارتباطاً مباشراً بتدني وتردي حالة توزيع الدخل والثروة في الدولة، من خلال استغلال أصحاب النفوذ والحظوة لمواقعهم المميزة في المجتمع، وفي النظام السياسي، مما يتيح لهم الاستئثار بالجانب الأكبر من المنافع الاقتصادية التي يقدمها النظام.. بالإضافة إلى قدرتهم على مراكمة الأصول بصفة مستمرة مما يؤدي إلى توسيع الفجوة بين هذه النخبة وباقي أفراد المجتمع.
4. يزيد من الإفقار وتراجع تطبيقات العدالة الاجتماعية نتيجة تركز الثروات والسلطات كلها في أيدى فئة قليلة من المجتمع، وسوء توزيع الدخول والقروض والخدمات في الدولة، وانعدام ظاهرة التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي، وتدني المستوى المعيشي لطبقات كثيرة في المجتمع، وما قد ينجم عن ذلك الإفقار من ملابسات كثيرة قد تؤدي بهذه الفئات المسحوقة إلى ارتكاب الرذائل، وبالتالي تعطيل قوة فاعلة في المجتمع يمكن الاستفادة منها لو أحسن التعامل معها.
أي أنه –وبالتعبير الواقعي- تجري عملية سحق كامل للطبقة الوسطى (حاملة قيم التغيير والإصلاح باعتبارها طبقة المثقفين والمتعلمين والمهنيين من ذوي الدخول المتوسطة)، ويقسم المجتمع إلى طبقتين، غنية تملك كل شيء تشكل حوالي 4% فقط من مجموع السكان، وفقيرة لا تملك شيء سوى قوتها اليومي وهي تشكل 96 % من السكان كما هو واقع الحال في مجتمعاتنا.
والنتيجة الطبيعية لهذا السحق هو تهشيم النسيج الاجتماعي، وما يمكن أن يتسبب به من دمار لإمكاناته، وزعزعة أسس بناءاته، وتفكيكه إلى بناه التقليدية الهشة وسريعة الاشتعال.
5. تخلخل البنى الأخلاقية ومنظومة المبادئ السامية العليا في المجتمع، وأخلاقيات العمل والقيم الاجتماعية؛ونشوء قيم وعادات وأعراف جديدة تتحكم بها (وتديرها) عقلية السوق والمنافع الخاصة الخاضعة لمعيار الكسب والجشع والطمع حتى لو أدى ذلك إلى إحداث أضرار بالغة بالفرد والمجتمع.
إن الفساد يغير من سلوك الفرد الذي يمارسه، ويسقطه إنسانياً وأخلاقياً، ويجره للتعامل مع الآخرين بدافع المادية والمصلحة الذاتية، دون مراعاةٍ لقيم المجتمع العليا(التي تتطلب من هذا الفرد النظر للمصلحة العامة).. إضافة إلى الإخلال بكل قواعد العمل ومعاييره.. فالمهم هنا –لدى أي فرد في هكذا مجتمعات فاسدة- هو مراكمة أكبر قدر ممكن من المال والثروة عن طريق النهب غير المشروع من جيب (خزينة) الدولة، ومن جيوب الناس (بعضهم من جيوب بعضهم الآخر)، فالكل –في هذا المجتمع الملتهب بالكسب اللصوصي الجنوني- ينهب من الكل، والكل يرغب بالوصول السريع إلى تكديس الثروة والسلطة.
6. تأثير الفساد على قيم العمل، وهو ما سيؤدي حتماً إلى إلغاء أو إضعاف مفعول وتأثير الحوافز الموضوعية العادلة، حيث أنه بطبيعته الديناميكية القاتلة يثبط عزيمة المنتجين والعاملين الجادين، ويجعل أغلب الإدارات متثاقلة وأقل فعالية في منح الحوافز، نتيجة تغلغل الفساد فيها والذي يلغي معه الجدية في العمل.
7. تهشيم الصلة الطبيعية التي يمكن أن تقوم بين الفرد وبين دولته ومؤسساته المتعددة. حيث أنه من المعروف فكرياً وعملياً وتاريخياً –حيث أن الدولة ظاهرة تاريخية حية- أن هناك علاقة تعاونية وتكاملية بين الفرد والدولة تتمثل بصيغة الحقوق والواجبات، فعندما يلاحظ الفرد استشراء الفساد في مؤسسات الدولة وحتى في أركانها العليا، فقد لا يعير أهمية لما يصدر عنها من قرارات ولا ينظر لها نظرة احترام بل ويخالفها لعدم جدواها في محاربة الفساد، وربما تكون هي منغمسة فيه وممهدةً له، وتلك الوضعية ربما تشجع البعض على الانغماس في ممارسة الفساد لاعتقادٍ جازم عندهم بعدم فاعلية وجدوى تطبيق القوانين اللازمة لمعاقبة المخالفين، واطمئنانهم بعدم وقوعهم تحت طائلة المسؤولية والقانون لضعفه وتهاونه في هذه المسألة.
-وبالإضافة إلى ما تقدم، ووصولاً إلى فهم طبيعة الفساد، وكيفية مكافحته كظاهرة اجتماعية، يمكن أن تنمو وتتزايد بفعل عوامل اجتماعية ضاربة في بنية وتكوين المجتمعات البشرية ونسق القيم السائدة، فقد تلعب العادات والتقاليد الاجتماعية وسريانها دوراً في نمو هذه الظاهرة أو اقتلاعها من جذورها.. وهذه العادات والتقاليد مرتبطة أيضاً بالعلاقات القبلية السائدة في المجتمع.. كما أن التنظيم الإداري والمؤسسي له دور بارز في تقويم ظاهرة الفساد من خلال العمل على تفعيل النظام الإداري القانوني، ووضع ضوابط مناسبة لعمل هذا النظام، وتقوية الإطار المؤسسي المرتبط بخلق تعاون وتفاعل ايجابي بين الفرد والمجتمع، والفرد والدولة استناداً إلى علاقة جدلية تربط بينهما على أساس ايجابي بناء يسهم في تنمية وخدمة المجتمع.

سابعاً- أسباب الفساد وتأثيراته على الفرد والمجتمع
الظروف الملائمة للفساد:
• تركز السلطة فئوياً بيد قلة من الناس (سيطرة الحكم الفردي) يديرون البلد، ويصنعون قراراته الحساسة والمصيرية انطلاقاً من الهمّ والهاجس الأساسي الذي يتحكم بوجودهم وهو البقاء على الكرسي مهما كانت الظروف والأحوال، وحتى لو دخل المجتمع في حالة حرب أهلية، أو في حرب مع الدول الأخرى.
• ممارسات كثير من الدول والمواقع والقوى الدولية الكبرى التي تدفع العمولات والرشاوى لمسؤولي هذه الدولة أو تلك من أجل الحصول على عطاء هنا أو صفقة هناك، والدول الكبرى التي تقوم بذلك تعتبر هذا العمل الجاري –بالنسبة إليها- بمثابة مصروفات تحددها هذه الدولة لتسهيل أمورها خارج البلد، ولا تعدها رشوة يعاقب عليها القانون، بل تقوم بخصم هذه المصروفات من الضرائب التي تدفعها الشركات والأفراد للحكومة. وهذا يعني بالتطبيق العملي، أن الدول المتقدمة تساهم وتشارك في تدعيم الفساد والمفسدين، وتغذية ثقافة الفساد في البلدان النامية. ومعنى ذلك أيضاً أن الرشوة والفساد هما جزء من ثقافة وقوانين هذه الدول، وليست جزءاً من سياسة وثقافة الدول النامية فقط.
• وجود البنى الحكومية المتناحرة والمتضاربة المصالح والتوجهات، والتي لا تتحكم بها مشاعر المصلحة العامة، وحقوق المجتمع، وبناء مستقبل زاهر ومنتج للبلد، بل تعيش هاجس المنفعة والأنانية المنغلقة وشبكات المعارف والمحسوبيات والزبائنية.
• غياب وتغييب الديمقراطية والنهج التعددي السلمي في تداول السلطة وحكم المجتمع.
• انعدام الشفافية في الممارسة الفردية والجمعية والحكومية (عدم وجود حرية تداول المعلومات والبيانات والإحصائيات لمختلف مواقع الحكم على مستوى الوزارات والشركات والمؤسسات ووالخ) الأمر الذي يؤدي إلى صنع القرار من أعلى الهرم إلى قاعدته، من دون التوفر على حاضنة مجتمعية له يمكن أن ترعاه وتنفذه عن طواعية وحسن إدراك.
• عدم قيام المجالس الشعبية والبرلمانات (المنتخبة!؟) بواجباتها في المحاسبة والمساءلة والنقد وتوجيه دفة الحكم، والإشراف المباشر على مجمل السياسات التنفيذية للحكم القائم.
• ضعف (أو على الأصح: تضعيف) السلطة القضائية عن عمد، بهدف تقزيمها أمام الناس، وزعزعة ثقتهم بها، وأن هناك أشخاصاً متنفذين أعلى منها وأقوى.
وفي الواقع، إن عدم استقلالية القضاء أمر مرتبط أيضاً بمبدأ الفصل بين السلطات في أي بلد، إذ يلاحظ في معظم البلدان المتقدمة والديمقراطية -التي تحترم نفسها، وتحترم مجتمعاتها، ويقوم فيها حكم القانون لا حكم الشخص- وجود استقلالية حقيقية للقضاء عن عمل وأداء باقي أجهزة ومؤسسات النظام السياسي القائم، وهو ما يعطي أبعاداً أوسع فعالية للحكومة أو النظام السياسي تتمثل بالحكم الصالح والرشيد. فإذاً: استقلالية القضاء مبدأ ضروري وهام. وهو يستمد هذه الأهمية والمكانة المميزة من وجود سلطة قضائية مستقلة نزيهة تمارس عملها بشكل عادل وتمتلك سلطة رادعة تمارسها على عموم المجتمع دون تمييز أو تباين أو تفاضل بين هذا أو ذاك. وهنا تكون السلطة القضائية التي تتوفر فيها تلك الشروط والمقومات بمثابة السلطة الرادعة التي تأخذ دورها الحقيقي والطبيعي المناط بها في تحقيق وإشاعة العدل والمساواة بين أفراد المجتمع كلهم.
• احتقار (أو على الأقل إهمال) ممارسات حرية الكلام أو الصحافة التي تحولت في معظم دول العالم الثالث –بشكل عام- إلى مجرد مهنة ووظيفة إدارية، تكمن الغاية الأساسية منها في حصول "الصحفي-الموظف" على راتبه في آخر الشهر فقط، "وكفى الله المؤمنين شر القتال".. في الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه رسالة توعية ونقد وشفافية للمجتمع والسلطات الحاكمة، تعكس الصورة الحضارية المشرق للبلد كسلطة رابعة تساهم من موقعها النقدي التوعوي في تقدم البلد وتحضره.
• انخفاض رواتب الموظفين الحكوميين، وتعميم سياسة التفقير العام الشامل مما يجعلهم يفكرون في تجاوز حدود واجباتهم الوظيفية، ومد أيديهم لجيوب الآخرين (من زملاء في العمل، أو مراجعين أو مقاولين متعهدين أو غيرهم..) سرقةً أو رشوةً أو ابتزازاً أو غيره، من أجل تحسين أحوالهم المعاشية.
• وجود عدد كبير من القرارات التي تتخذ في القطاع العام، واللامركزية الإدارية التي تزيد من مصادر اتخاذ القرار، حيث أن عدم وضوح المركزية، يؤدي إلى خلخلة التعامل مع ما يصدر من قرارات بشكلٍ صحيح، كما أن عدم تحديد الجهة الرئيسية في اتخاذ القرارات يؤدي إلى حالات فساد متعمدة بالنظر إلى وجود تعدد في الجهات التي تصدر القرارات، إضافة إلى عدم وضوح النظام الضريبي وعدم كفاية شفافية القوانين والإجراءات الضريبية.
• سيطرة ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة الهائلة في سرعتها وتعدديتها وتنوعها، على كثير من مواقع ومعطيات الحياة الراهنة، ودخولها مباشرةً إلى أدق تفاصيل حياة الفرد والمجتمع.. وقد قامت تلك الثورة بفتح عقول الكثير من الأفراد من مواطني الدول الفقيرة على مستويات ووضعيات معيشة عالية، ومن هنا تبدأ المقارنة بين أوضاعهم وأوضاع الآخرين ومحاولة الوصول إليها برغم ضعف الإمكانيات، والتي قد تؤدي بالتالي إلى حالات فساد متعددة لغرض الوصول إلى مستويات الرفاهية المتوافرة لدى الآخرين. وهذه مسألة خطيرة إذ أن جل سلبيات الثورة المعرفية المعلوماتية تتمثل بأنها خلقت حالة من الانبهار بأوضاع الآخرين، ومحاولة الوصول إلى مستويات معيشتهم، وحتى وإن كان ذلك بالطرق غير المشروعة.

ثامناً- خطة أولى سريعة لمعالجة الفساد الضارب في مجتمعاتنا ومؤسساتنا
يمكن الإشارة إلى النقاط المهمة التالية المطبقة بشكل صحيح في كثير من الدول، حيث كانت لها نتائج ميدانية كبيرة على مستوى نوعية العمل والإنتاج ومكافحة الفساد:
1. معاقبة بعض كبار المخالفين واللصوص والمفسدين المحترفين. وغالباً ما تكون إحدى أهم الاستراتيجيات الناجحة التي تقوم بها أية دولة على هذا الصعيد هو: (قلي قليل من السمك الكبير)، فعندما تكون هناك مشاركة كبيرة في أعمال الفساد مع الإفلات من العقاب يكون الحل الوحيد هو إدانة ومعاقبة عدد من كبار الشخصيات الفاسدة، ويبقى للحكومة أن تكشف وبسرعة عن بعض المتهربين من الضرائب ومانحي الرشاوى الكبيرة ومتعاطي الرشوة على المستوى الداخلي والخارجي في الحكومة، وعليه فربما تكون أول سمكة يتم قليها تكون من الحزب الحاكم في السلطة.
2. التركيز على الفساد الموجود في القطاع الخاص، حيث درجت العادة عندنا بأن الفساد بدأ وترعرع ونما ضمن القطاع العام، وخرج إلى النور من مشاكله، إلا أن الفساد في القطاع الخاص ليس أقل حجماً وأثراً، لذلك يجب مكافحته والقضاء عليه.
3. تبسيط وسائل العمل، وتحديد مهل إنجاز المعاملات. وذلك لأن هذا التبسيط يتصل بأمرين أساسيين يعول عليهما المواطن الأهمية الكبرى، وهما:
أ. تحقيق وتنفيذ معاملاته بأقل نفقة ممكنة.
ب. تحقيق وتنفيذ معاملاته بأسرع وبأقرب مكان ممكن، وبالتالي بأسرع وقت ممكن.
4. إجراء تنقلات دورية بين الموظفين (كلما أمكن ذلك) مما قد يعمل على تخفيض حالات الرشوة السائدة.
5. تشكيل لجان خاصة لوضع نظام متكامل لأداء الموظفين، تقوم بإجراء تفتيش دوري بين الدوائر والوزارات وإعداد التقارير الخاصة عن سير العمل.
6. وضع مصنف يتضمن تقسيم الوظائف العامة على وفق طبيعة مهامها إلى فئات ورتب تتطلب من شاغليها مؤهلات ومعارف من مستوى واحد (أي اعتماد معيار الكفاءة والخبرة فقط، واختيار الموظفين من ذوي المهنية والاختصاص).
7. تحديد سلسلة رواتب لكل فئة من الفئات الواردة في المصنف بعد إجراء دراسة مقارنة للوظائف المتشابهة في القطاعين العام والخاص.
8. إنشاء نظام رقابي فعّال مستقل مهمته الوحيدة هي في الإشراف المباشر على العمل، ومتابعة الممارسات التي تتم من قبل الوزراء والموظفين العاملين في كل وزارة ومؤسسة.
9. تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في المساهمة بالحد من الفساد وبأشكاله المختلفة، حيث من الممكن لهذه المنظمات أن تلعب دوراً كبيراً في ترسيخ محبة الوطن وحكم القانون، وذلك لتشعبها في كل مفاصل المجتمع وفي كل القطاعات والفئات.. كما أن بإمكانها مراقبة نشاط الحكومة بكل مفصل تعمل فيه. ومن الممكن أن تشكل هذه المؤسسات حكومة ظل ضاغطة على الحكومة الفاعلة القائمة.
10. لا بديل عن زيادة دخل الموظف، وهذه الزيادة المتواصلة والمدروسة باستمرار، هي أكبر ضمانة للتقليل من حجم ومساحة الفساد القائم، حيث أنه عندما يشعر الموظف بأنه بدأ يأخذ حقه ونصيبه الحقيقي من موارد الدولة وثرواتها فإنه ينطلق من فوره لزيادة العمل والإنتاج، وعند ذلك تكون الدولة في موقع القوة المعنوية والمادية لفرض نظامها الإداري القانوني عليه ضمن مبادئ ونظم العمل ككل، مهما كانت الظروف والأحوال.
11. إصلاح أنظمة الحوافز القائمة في مؤسسات الدولة، حيث تكون معدلات الأجور في القطاع العام منخفضة في العديد من الدول، إلى الحد الذي لا يستطيع معه الموظف من إعالة أسرته دون العوز، إضافة إلى أن القطاع العام يفتقر إلى مقياس النجاح، فما يتقاضاه الموظف لا علاقة له بما ينتجه.
12. تفعيل إدارة الخدمات.. وضرورة أن يطال ذلك جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات. أي أن تعطى إدارات الخدمات ذات العلاقة بالجمهور الأولوية الأولى. والتفعيل هنا يقتضي أن يتناول أربع قضايا أساسية هي:
أ. هيكلية هذه الإدارات وبنيتها، وتحديد مهامها وصلاحياتها بحيث يُعاد تكوينها على أسس علمية ومسلمات معروفة، لعل من أبرزها ضرورة خلو هذه التنظيمات والهيكليات من الازدواجيات وتنازع الصلاحيات إيجاباً كان أم سلباً، وبالتالي ضياع المسؤولية، وهدر النفقات، وسوء تحديد المهام وتقادم شروط التعيين.
ب. العنصر البشري في هذه الإدارات بحيث يقع الاختيار دائماً على صاحب الجدارة والمهارة على قاعدة تكافؤ الفرص، والمؤهلات والتنافس والندية، والعمل على إيجاد حلول لمعالجة ظاهرة البطالة الحقيقية والبطالة المقنعة.
ج. أساليب العمل. وهنا ينبغي أن يعاد النظر في آليات وأساليب العمل القائمة لجهة تبسيطها، وخلوها من التعقيدات الإدارية والعملية، وجعلها أكثر مرونة وشفافيةً، مع تحديد أصول إنجاز المعاملات، لتصبح أكثر فاعلية وإنتاجية.
د. وسائل العمل من أدوات وتجهيزات وآلات ومعدات تعتبر من لزوميات أساليب العمل.
13. العمل على إيجاد السبل اللازمة للخروج من نفق الفساد، والأزمات السياسية الداخلية والخارجية. وأيضاً لا بد من التحرك الفاعل على مستوى إصلاح الدمار الهائل الحاصل في المنظومة القيمية، وأنماط التفكير، نتيجة تفشي ظاهرة الفساد، وما يرافقها من أمراض كالانتهازية والسلبية، واستبدال لغة التحاور المشوهة القائمة حالياً مع الذات والآخر، بأخرى حضارية قائمة على الاحترام المتبادل والمعرفة العلمية والابتعاد عن شخصنة الكلمة والموقف والعمل.
14. العمل بمبدأ الشفافية والوضوح الكامل في جميع مرافق ومؤسسات الدولة.
15. إشاعة المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية والحضارية بين عموم المواطنين.
16. تفعيل الجهاز الإعلامي لما له من أثر كبير في الكشف عن عمليات الفساد الصغيرة والكبيرة، ودوره في توجيه الجماهير نحو محاربة الفساد والتعريف بمؤثراته وما ينجم عنه من أضرار.
17- تعزيز الاتفاقيات الدولية التي من شأنها أن تكافح الفساد العالمي والجريمة المنظمة، وإقامة التشريع الوطني بما ينسجم معها.
18- ضرورة قيام تحالفات دولية بين بعض الدول والدول المجاورة لها لمراقبة الفساد عبر الحدود الدولية وضبطه.
19- إقامة المؤتمرات وإعداد البحوث والدراسات بشكل مكثف لتسليط الضوء وبشكل واسع على الفساد وآثاره المختلفة، لغرض تطويقه ووضع الآليات المناسبة للحد منه.
وخلاصة القول: إن مكافحة الفساد الإداري لا يمكن أن تتحقق من خلال حلول جزئية، بل ينبغي أن تكون حلوله شاملة وناجعة على المستوى البعيد، بحيث تتناول جميع مرتكزات الإدارة من بنيتها وهيكليتها، إلى العنصر البشري العامل فيها، إلى أساليب العمل السائدة فيها.

تاسعاً- خاتمة البحث
لا شك بأن الفسادَ –وبصرف النظر عن أنواعه ومواقعه وأوجهه المتعددة التي يمكن أن يتجلى بها في بنى المجتمع ومؤسسات الدولة- داءٌ ومرض اجتماعي وإنساني خطير للغاية، وهو يمكن أن يدمر أمماً وحضارات بأكملها إذا لم تتوافر له العلاجات الفكرية والسياسية والاقتصادية المناسبة.
ونحن عندما نطالب بوجوب المبادرة الفورية لعلاج مختلف أنواع الفساد المتفشي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية –والذي أصبح عملاً مقونناً، له رموزه ودعاته المدافعين عنه- فإننا نتطلع إلى ضرورة علاج مقدمات الفساد لا نتائجه فقط.. وألا يقتصر العلاج على الفساد الصغير والمفسدين الصغار، وإنما ضرورة أن تطال العملية الإصلاحية المطلوبة على هذا الصعيد الفساد الكبير قبل الصغير، فالقضاء على الفساد الصغير غير مجدٍ مع بقاء الفساد والمفسدين الكبار.
والعملية هنا تستوجب القضاء على كليهما، كما إن المسألة هي ليست المناداة بالقضاء على الفساد دون وضع الأسس العقلانية الممهدة فعلياً لعلاجه، وأنا هنا أشدد على أنه من الاستحالة بمكان سحق الفساد أو القضاء عليه قضاءً مبرماً كما يقال، ولذلك فالمطلوب هو أن تجري –بدايةً- عملية واقعية وذات نَفََس طويل الأمد للتقليل من حجم الفساد وتقليص رقعة تأثيراته السلبية على الفرد والمجتمع والدولة. أما أن نرفع الشعارات الواسعة والفضفاضة (الخارجة عن حدودنا وطاقاتنا وإمكاناتنا) لمكافحة الفساد والقضاء عليه، من دون أن نبادر عملياً لاتخاذ الإجراءات العملية والتنفيذية البسيطة المطلوبة فإن هذا العلاج المرفوع الحدي الإطلاقي لا يعدو أن يكون أكثر من تكريس لمعادلات الفساد القائمة.
لذلك ينبغي أولاً –وقبل أي شيء- الالتزام بمنظومة قيم وأخلاق إنسانية ودينية وقانونية في مجتمعاتنا، وهي أساساً موجودة ولكنها تحتاج إلى تفعيل على مستويات ثلاثة: فردية ومجتمعية ومؤسساتية (سياسية-اقتصادية)..
- فعلى الصعيد الفردي من المهم والحيوي إعادة التركيز على غرس الوازع الديني والسلوك الأخلاقي الذي هو عنوان الوطن المزدهر والمواطن الصالح.
- وعلى المستوى المجتمعي العام يجب اختيار القائد أو الرئيس الإداري والموظف المناسب في المكان المناسب، بناءً على صلاح المعتقد وسلامة المنهج والقيم الروحية والأخلاقية والفضيلة والأمانة والمؤهلات والخبرة والكفاءة والجدارة، بعيداً عن الأغراض والعواطف الشخصية والمحسوبية والعلاقات القرابية والزبائنية المشخصنة.
- وأما على صعيد المؤسسات والدولة فإننا نجد هنا أنه إن لم تجرِ فورياً معالجة متكاملة للإشكالية السياسية القائمة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً (إشكالية الحكم والديمقراطية والحريات العامة وإطلاق سراح المجتمع المدني)، سنبقى نلف وندور في حلقة مفرغة، ولن يحقق أي مشروع مكافحة فساد (أو إصلاح اقتصادي، أو إداري أو تطوير أو تحديث) جدواه وأهدافه المرجوة منه، بما ينسجم مع متطلبات تقدم وتنمية وتطور البلاد لمواجهتها التحديات والمخاطر المنتصبة أمامها والمحدقة بها، ولنستفيد من إنجازات التقدم والتطور الذي يشهده العالم المتشابك والمتداخل في علاقاته ومصالحه.
وإذا ما أردنا أن يكون لنا موقع ودور ومساهمة حضارية فاعلة ومنتجة في هذا العالم الكبير، فليس لنا من بديل إلا التحرك على هذا المسار الصعب والشائك، ولكن الممتلئ بالنتائج الإيجابية الباهرة على صعيد الفرد والمجتمع والدولة.

عاشراً- أهم مصادر البحث
1. الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية، مجموعة من الباحثين، ضمن بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية. ط1 كانون الأول 2004.
2. نادر فرجاني، حول الحكم الصالح: رفعة العرب، في صلاح الحكم في البلدان العربية، مجلة المستقبل العربي، العدد (256) حزيران: 2000 -بيروت.
3. خطة لمكافحة الفساد في الإدارة، بحث غير منشور، مركز الدراسات التشريعية في جامعة نيويورك- 1998.
4. داود خير الله، الفساد كظاهرة عالمية وآليات ضبطها، مجلة المستقبل العربي، السنة 27، العدد 309، بيروت، 2004 م.
5. د. نوزاد عبد الرحمن، الفساد والتنمية: التحدي والاستجابة، مجلة الإداري، السنة 23، العدد 86، 2001م، ص80.
6. سوسن قاسم المياوي، خطوات على طريق معالجة الفساد الإداري، مقال منشور في صحيفة المدى على الانترنيت: http://www.almadapaper.com
7. زياد غصن، مكافحة الفساد في المؤسسات الخاصة، مقال منشور على موقع أخبار الشرق، على الانترنيت: http://www. Thisissyria.net
8. سالم بولص، دور الديمقراطية في مكافحة ظواهر الفساد، مقال منشور في جريدة الصباح على الانترنيت: http://www.alsabaah.com/20040228/world-24k.
9. عماد صلاح، الفساد والإصلاح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003م، ص32.
10. صحيفة الحياة اللندنية، 25/8/2007م.
11. موقع موسوعة: "ويكيبيديا" على شبكة الويب.


* كاتب وباحث سوري





#نبيل_علي_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى الصدر الصغير: العراق بين الدولة المدنية أو الدولة الطائف ...
- محنة الاستبداد السياسي والاجتماعي في العالم العربي 1/2
- الإعلام العربي بين واقع التضليل وطموح التغيير


المزيد.....




- مئات الشاحنات تتكدس على الحدود الروسية الليتوانية
- المغرب وفرنسا يسعيان إلى التعاون بمجال الطاقة النظيفة والنقل ...
- -وول ستريت- تقفز بقوة وقيمة -ألفابت- تتجاوز التريليوني دولار ...
- الذهب يصعد بعد صدور بيانات التضخم في أميركا
- وزير سعودي: مؤشرات الاستثمار في السعودية حققت أرقاما قياسية ...
- كيف يسهم مشروع سد باتوكا جورج في بناء مستقبل أفضل لزامبيا وز ...
- الشيكل مستمر في التقهقر وسط التوترات الجيوسياسية
- أسعار النفط تتجه لإنهاء سلسلة خسائر استمرت أسبوعين
- -تيك توك- تفضل الإغلاق في أميركا إذا فشلت الخيارات القانونية ...
- المركزي الياباني يثبت الفائدة.. والين يواصل الهبوط


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - نبيل علي صالح - الفساد في العالم العربي معناه، دوافعه وأسبابه، نتائجه وعلاجه