|
الإنسان حيوان يقيني
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 2191 - 2008 / 2 / 14 - 11:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقول أحد الفلاسفة لا يحضرني اسمه ( الإنسان حيوان يقيني ) ، أي بمعنى أنه دائم النزوع نحو الاعتقاد بعقيدة ما أو بدين ما إلى درجة اليقين المطلق به ، وهو الاعتقاد الذي يوفر له أماناً روحياً وسبباً مقنعاً ولو شعورياً لماهية وحقيقة وجوده في الحياة ، وهو الاعتقاد الذي يجنّبه بالتالي ويلات الحياة كما يؤمن ويعتقد ، ويمنحه تبعاً لذلك هويةً تتمظهر في ثقافته ومسلكه وشكله وطريقته ، ولكن المشكلة عندما تتأسس اعتقادات الإنسان الدينية العقائدية والمذهبية على منظومة ثقافية شديدة التحكم والسيطرة والتوجيه بحياته وبتفكيره وبعقله وباختياراته وبعلاقاته ، وتتجذر في عقله وتفكيره ووعيه وأسلوبه كحقائقَ دوغمائية عاكسة للتعصب والانغلاق والتزمت والنبذ ..
وعادةً ما يتشكل النسق الاعتقادي عند الإنسان ، ويتعمّق ويتنامى ، ومن ثمَّ يتمسرح حياتياً في ترديدات سردية طافحة بصيغ يقينية مكررة ورتيبة ، ويتقولب في طقوس صوتية وشفهية معينة ، ويقدم استعراضاته في أشكال رمزية ، أقول يتشكل هذا النسق عبر منظومة دينية تفسيرية جاهزة ، تتراسل وتتراكم من خلال امتداداتها الوراثية الصارمة ، وتترتب على ذلك الاعتقاد اليقيني جملةً من المسؤوليات الدينية التي عادةً ما تتخذ شكلاً توجيهياً وسلطوياً متوجاً بنبرة الخطاب الوعظي الإرشادي ، والذي بدوره يجب أن يأتي متطابقاً مع أصله الماضوي التوارثي ..
وإذا ما رجعنا إلى تاريخ الإنسان تحديداً في صراعه الدائم مع مفاهيم الوجود والألوهية والكون والحياة عموماً ، سنجد أنه تاريخ طويل من الصراع بين الشك واليقين ، بين السؤال واللاسؤال ، بين الاعتقاد واللااعتقاد ، بين الذاتي والجماعي ، بين الوهمي والواقعي ، ولم تزل تلك المفاهيم إلى يومنا هذا في علاقاتها التداخلية والتشابكية والتشاركية مع الإنسان وجوداً وعقلاً وذاتاً ووعياً تتصارع دائماً في دائرة الشك واليقين ، بينما يبقى أولئك المتيقنون بإطلاقية تامة من تعاليمهم واعتقاداتهم ومعتقداتهم الدينية والمذهبية بحكم نزوعهم اليقيني لها ، ويتوارثونها أباً عن جد ، وينأون بها عن نظريات البحث العلمي وفضاءات الشك وجدية التساؤلات الاستنطاقية المعرفية ، أولئك يجدون أنهم ليسوا بحاجة إلى اخضاع اعتقاداتهم ومعتقداتهم للشك والتساؤل أو للبحث العلمي والدراسة المنطقية ، لأنهم مؤمنين بها تلقائياً وشعورياً ووراثياً ويقينياً ، وكما يقول العالم الفلكي كارل ساغان : لا يمكنكَ اقناع المؤمنون بأي شيء ، لأن عقائدهم لم تبنَ على دليل ، إنه مبني على رغبةٍ عميقة لديهم للإيمان ..
وإذا ما أردنا أن نفهم كيف يتأسس الاعتقاد الديني بتفسيراته الماورائية اليقينية والغيبية ، وباستحقاقاته المرجعية الإلزامية على الفرد ، ويتحول فيما بعد إلى محرك ثقافي ونفسي وتاريخي وأسطوري أيضاً ، يدفع بأتباعه دائماً نحو التمسك به إيمانياً وقيمياً ومسلكياً وكلامياً ، علينا أن نفهم أن المنظومة الدينية عموماً إنما تتأسس على فكرة الاعتقاد الغيبي وعلى الثقة النظرية بها ، الثقة الكاملة بها من حيث كونها منظومة منزّهة عن الخطأ والهنات ، ومنظومة متألهة ومتكاملة لا تشوبها الثغرات أو النقائص ، وهي الثقة التي تجعل الفرد يُكثر من الاستشهاد بمرجعياته النصيّة الدينية الاعتقادية على إنها نهائية وقطعية ولا زمنية ، وعادةً ما يؤمن الأفراد بمنظومتهم الدينية بعيداً عن الدخول الواقعي بها في عملية الاثبات التجريبي ، على اعتبار إنها في غنىً عن اثباتها تجريبياً على الواقع ، بل تكفي الثقة والاعتقاد الغيبي بها ، وهما يغنيان عن اثباتها عملياً وواقعياً ، ولذلك نجد أن الكثير من الاعتقادات الدينية تبقى تحتفظ بأدبياتها ومنقولاتها ونصوصها التراثية في الفضاء النظري فقط ، وتبقى مجرد أفكار يستحيل تطبيقها على الواقع ، أو في حالةٍ أخرى قد تحمل بذور فشلها إذا ما جُربت على الواقع ، أو إنها تتلاشى بمجرد أن تلامس تعقيدات وإشكالات الحياة المتغيرة والمتصاعدة والمتطورة ، أو إنها تظلّ عاجزةً عن تقديم الحلول للمشكلات المعاصرة التي تفرزها الطبيعة المتغيرة للحياة ، أو إنها تضمر توحشاً مسبقاً من مسألة التعايش مع الأفكار الأخرى المختلفة عنها ، ولذلك ربما يصح القول أن الاعتقاد الديني المبني على الثقة فقط ، من دون الدخول به في معترك الاثبات التجريبي ، قد يساوي الجهل من ناحية أخرى ، الجهل بمدى جدوائية تفعيله واقعياً وعملياً في الحياة ، وهو الجهل الذي يُوفر لصاحبه راحةً عقلية ، ويُبعد به عن البحث عن أي دليل علمي أو منطقي أوعقلي لاعتقاداته الدينية ، فالثقة النظرية والاعتقاد الغيبي بالمنظومة الثقافية الدينية لا تعنيان إنها منظومة مناسبة للإنسان وللحياة بشكل عام ، من غير أن نجد لها مدلولات عملية وملموسة وصالحة في الميدان التجريبي ، وكما يقول العالم الفيزيائي ريتشارد فينمان : لا يهم كم جميلة هي نظريتك ، ولا يهم كم ذكي أنت ، إذا لم تتفق مع التجربة فهي خاطئة ..
وليس من المبالغة القول أن التسليم المطلق والخضوع الكامل للاعتقادات الدينية اليقينية والغيبية والجاهزة ، إنما ينشأ أساساً من حالة نفسية ، ارتضت أن تكون مهيأة تماماً للتماهي والتطابق مع سلطة الاعتقاد الديني المتوارث والسائد والمتداول ، وانقيادها بالتالي ليقينية أفضليته المطلقة على باقي الاعتقادات الأخرى ، من دون اخضاعه للنقد أو التفكيك أو التمحيص أو التجريب العملي ، وهذه الحالة النفسية المنقادة طوعاً أو جبراً للاعتقاد السائد والمتوارث ، تسلبُ من الفرد حريته في الاختيار من بين المعتقدات والأفكار الأخرى وفقاً لحقه الإنساني في التفضيل بينها بحرية تامة ، واختيار ما يناسبه منها ، من دون الادعاء والتبجح بأفضليتها المطلقة وصفائها الكامل ، وعادةً ما تكون الحالة النفسية هذه ، والمعبأة تلقائياً بقوة الموروث الديني وتبعاته ، عاكسة فعلية لنموذجها النفسي الذي تراه يأتي أمامها في تجلياته التاريخية الماضوية مصحوباً بهالاتٍ من القداسة والأسطرة والتنزيه ..
وفي جانب آخر ربما يجدر بنا أن نتساءل : لماذا تتمتع الاعتقادات الدينية بكل هذه الهيمنة الكاملة على الفرد المسلم التقليدي وغير التقليدي ، وتتمتع أيضاً بالقدرة الهائلة على صياغة تفكيره وأسلوبه وطريقته وحالته النفسية والشعورية ، ولكي نجيب على ذلك علينا في الحقيقة أن نفهم طبيعة العلاقة بين الفرد وبين الاعتقاد النصي الديني في أبجديات وتراكمات الفكر الديني ، وبوضوح شديد أستطيع القول أن العلاقة بينهما تقوم على مبدأ تبعية الفرد وانصياعه الكامل للنص الديني ، فالنص الديني هو الطرف الأقوى والمهيمن في هذه العلاقة ، وعليهِ فهي في الأساس علاقة أحادية يتحكم بها طرف واحد استحواذي وتسلطي ، والنص الديني في هذه العلاقة يملك كل الحق في الهيمنة والتوجيه والحاكمية والوصاية ، بينما الفرد في هذه العلاقة لا يملك أية حقوق على النص الديني ، الطرف الذي يفترض منه في هذه العلاقة أن يبادل الفرد حقوقاً أخرى ، كحقهِ في الاعتراض عليه أو كحقه في التساؤل حوله أو كحقه في التشكيك فيه ، فهي دائماً تنتهي إلى علاقة سالبة وقامعة لحق الطرف الآخر فيها ، وهي العلاقة التي ترسخ وتجذر في الفرد تبعيته وخضوعه واستسلامه للنص الديني ..
وبحكم هذه العلاقة يبقى الفرد في مقابل النص الديني ، طرفاً متلقياً فقط ، وتابعاً ومنقاداً ، ومسلوب الحق والإرادة والقرار والاختيار ، وفي ظل هذه العلاقة يعمل النص الديني بتراكماته وبتفسيراته وباستعراضاته وبوعيده وبتوعداته على تغييب حق الإنسان في الاختيار ، فيطمس فيه حقه في القرار والتفكير باختيار آخر قد يراه في مرحلةٍ ما من حياته مناسباً لميوله ولحالته الذاتية ولطريقته وأسلوبه في الحياة ، ولذلك يعمل النص الديني في هذه العلاقة على ترسيخ قناعة في أتباعه تتمثل في أنه الطرف الوحيد الذي يملك الحق في احتكار الحقيقة ، وهو الطرف المانح للفرد وعيه العدائي الخاص ، القاضي بضرورة التصدي للاعتقادات الأخرى والنيل منها وعدم الاعتراف بها والانتقاص منها ، وهو الطرف الذي يسد في وجه الفرد نوافذ الأسئلة وفضاءاتها الكثيرة ويعمل على مصادرتها فوراً قبل أن تتوالد وتتشعب ، فالاعتقاد الديني الدوغمائي عادةً ما يقتل في الفرد ثقافة السؤال ، ويحيله إلى طرف متلقٍ للجواب الجاهز واليقيني والسائد والمعلب والساذج فقط ، لأن الفرد كلما كان مسكوناً بزخم الأسئلة الكثيرة والجريئة والإحراجية وغير المألوفة ، كان في مقابل ذلك تواقاً للمعرفة وساعياً لها ومفتشاً عنها ، فثقافة السؤال طريق للمعرفة ، والمعرفة المشرعة على مختلف العلوم الإنسانية فضاء حاضن للتنوع والتعدد والاختلاف ، عكس الاعتقاد الديني الذي ينكفأ على نفسه ويفضّل الارتداد إلى الداخل ، ويتوجس من الانفتاح على العلوم والمعرفيات والفلسفات الإنسانية الطافحة بالتساؤلات الحائرة والجريئة والمتغايرة ، وأشد ما يتوجس ويحذر منه الاعتقاد الديني القائم على الغيبيات واليقينيات ، هو الانفتاح على تلك الأسئلة التي تتوالد في مدارات الحيرة ، لأنها الأسئلة المعجونة بالشك والتشهي المعرفي والتوقد التفكيري ، وهي في النهاية نقيض اليقين ، وما تلك التساؤلات التي تُشعل في الذهن شرارة البحث والتفكير والتقليب والنقد ، إلا تمارينَ تأهيلية تمنح العقل لياقة الاقتحام الجريء في مستويات تفكيرية ونقدية متنوعة ومتعددة وخلاقة ، ولذلك كلما ارتادَ الإنسان بأسئلته وتساؤلاته فضاءات عالية ورحبة وممتدة ، كانَ صانعاً لفضائه التفكيري الملهم والرفيع والعميق والمتغير والناهض والطموح والناقد ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحياة عُرفت بالتنوع وثقافة الاختلاف
-
حلميَ الموشّى بزهر الندى
-
حمّوديات
-
المثقف الحر في مواجهة التخلف والأدلجة
-
تلك الأنثى الحُلم
-
الموروث الديني وثقافة الخوف
-
عن حق الإنسان في التفكير والاختيار
-
العقل وصراع المفاهيم
-
أيها الألم كم أنتَ جميل !
-
التعصب الديني وصناعة الكراهية
-
الرفض .. جمال الموهبة وشجاعة التمرد
-
تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 4 ) الأخيرة
-
تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 3 )
-
تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 2 )
-
تجربتي مع الأيديولوجيات الدينية ( 1 )
-
الكاتب العربي .. أين يقف .؟
-
العقل في معركة التحرير
-
أشخاص ومواقف
-
القراءة ... ممارسة الحضور الذاتي
-
رحيق المواقيت المقدسة
المزيد.....
-
-حماس- تعلن تلقيها رد إسرائيل على مقترح لوقف إطلاق النار ..
...
-
اعتصامات الطلاب في جامعة جورج واشنطن
-
مقتل 4 يمنيين في هجوم بمسيرة على حقل للغاز بكردستان العراق
-
4 قتلى يمنيين بقصف على حقل للغاز بكردستان العراق
-
سنتكوم: الحوثيون أطلقوا صواريخ باليستية على سفينتين بالبحر ا
...
-
ما هي نسبة الحرب والتسوية بين إسرائيل وحزب الله؟
-
السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية تسوق للحج التجاري با
...
-
اسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت إلى كييف ومركبات مدرعة ودب
...
-
السعودية.. إغلاق مطعم شهير في الرياض بعد تسمم 15 شخصا (فيديو
...
-
حادث جديد يضرب طائرة من طراز -بوينغ- أثناء تحليقها في السماء
...
المزيد.....
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
-
المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب
...
/ حسام الدين فياض
-
القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا
...
/ حسام الدين فياض
-
فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
يوميات على هامش الحلم
/ عماد زولي
-
نقض هيجل
/ هيبت بافي حلبجة
-
العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال
...
/ بلال عوض سلامة
-
المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس
...
/ حبطيش وعلي
-
الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل
...
/ سعيد العليمى
-
أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم
...
/ سعيد زيوش
المزيد.....
|