إضطراب الشره المرضي

جمال الشمري

الحوار المتمدن-العدد: 2174 - 2008 / 1 / 28 - 09:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

مقدمة
اضطراب الشره المرضى او الضّور Bulimia او بوليميا ، هو اضطراب من الإضطرابات النفسية ذات العلاقة بالأكل، وتبدو اضطرابات الأكل ظاهريا على انها مشكلات مرتبطة بمدى الإفراط في تناول الطعام او في الإمتناع عن تناوله، ولكن الأمر ليس كما يبدو في الظاهر، بل ان لهذه الإضطرابات ابعاد نفسية وبدنية عميقة تتجاوز المظاهر البادية للعيان، تخفي تحتها معاناة نفسية من اضطرابات مركبة تفضي الى انماط سلوكية مرتبطة بتناول الطعام . لإضطرابات الأكل خصائص مشتركة، تتمثل في ان جميعها تتمركز حول مشكلة الوزن والبدانة والمظهر الخارجي وقوام الجسم ، وتشترك جميعها في سلوك التحكم بتناول الطعام للتحكم بالأثار النفسية الناجمة عن الخوف والقلق والغضب والضغط النفسي المرافقة لهذه الإضطرابات، وكذلك تشترك في عدد من الأعراض البدنية والنفسية والعقلية والسلوكية، ومن اهم الإضطرابات النفسية المرتبطة بالأكل، الى جانب اضطراب الشره المرضي، هو اضطراب الخلفة او السيطرة على الشهية Anorexia انوريكسيا ، واضطراب البدانة Obesity ، واضطراب الشعور بالقبح Body Dysmorphic Disorder ،واضطراب الأكل القهري Copulsive Overeating .

ما هو اضطراب الشره المرضي
ان اضطراب الشره المرضي هو اضطراب نفسي قاسي، يعاني المضطرب من تناول كميات كبيرة من الطعام بصورة متكررة وفي اوقات قصيرة مقارنة بالأشخاص العاديين، ويعقب تناول الطعام مباشرة، وعند البعض منهم اثناء تناول الطعام، قيام المضطرب بالتخلص من الطعام المتناول بطرق غير صحية وقاسية مثل، التقيؤ الإجباري، او استخدام الأقراص والمواد المسهلة والمدررة، او عن طريق تمارين رياضية قاسية، واحيانا عن طريق الإمتناع عن الأكل والصوم القهري. يلجأ المضطرب تحت ضغط القلق والمخاوف من زيادة الوزن الى سلوك قهري لمقاومة القلق وذلك بتناول كميات كبيرة من الطعام وبصورة متكررة وفي اوقات قصيرة، ولكنه سرعان ما يدرك ان سلوكه هذا يسبب له زيادة في الوزن، ويصاحب هذا الإدراك شعور مؤلم بالذنب ولوم الذات، فيسرع المضطرب الى سلوك تعويضي Compensatory behavior بالتخلص من الطعام المتناول، ويلجأ معظم المضطربين الى سلوك التقيؤ الإجباري او الى تناول الأقراص المسهلة او المدررة للتخلص من الطعام وتطهير جوف البطن Purging ، او الى تمارين رياضية قاسية ومفرطة، وبغض النظر ان كان متعبا او مريضا ، او الإمتناع عن الأكل لفترة مؤقتة والرجوع ثانية الى تناول الطعام بشراهة.
يمر المضطرب بسلسلة متصلة من السلوك الإستحواذي في تناول الطعام، ظنا منه ان سلوكه هذا سيعينه في مقاومة القلق من ان يزيد وزنه ، ويعقب تناول الطعام شعور مؤلم بالذنب ولومه لنفسه، وقلق قهري مفرط يؤدي به الى التخلص من الطعام، ويشعر المضطرب بعد التخلص من الطعام براحة مؤقتة مما يعزز معاودة هذا السلوك بعد تناول كل وجبة ، وهكذا يمر المضطرب بدورة من القلق والخوف المستمر مما يولد عنده مشاعر الحزن والإكتئاب والدونية، و كراهية ذاته، ويؤدي ايضا الى انعزاله عن اصدقائه واقرانه .
ان هذا الإضطراب يؤذي الصحة العقلية والبدنية وقد يؤدي الى الموت ، وهو ليس اضطراب عادي بل تصاحبه اضطرابات نفسية وعقلية مثل اضطراب القلق الإستحواذي القهري Obsessive-Compulsive Disorder OCD واضطراب الكآبة ، والضغط النفسي . وان ما يميز هذا الإضطراب ليس فقط شراهة الأكل والتخلص منه، بل ما يرتبط به من اضطرابات نفسية وحالات شعورية تجعل من حياة الشخص امرا في غاية الصعوبة، وتؤدي به الى الشعور بالحزن الدائم وتقلب المزاج والشعور بالدونية ومرارة الحياة.
ان هذا الإضطراب يصيب الرجال والنساء، ولكنه اكثر انتشارا بين النساء، اذ ان 90% من المضطربين هم من النساء، ويصيب الصغار والكبار، وبغض النظر ان كان الشخص بدينا او نحيفا، ولا يتحدد بمستوى اجتماعي او اقتصادي او بمستوى تعليمي .
هناك نظريات متعددة عن اسباب اضطراب الشره المرضي ، وكل نظرية منها تفسر جانبا محددا من مسببات هذا الإضطراب، ولا توجد نظرية منفردة تغطي جميع الأسباب المحتملة . يرتكز معظم النظريات في تحديدها لأسباب الإضطراب على فكرة اساسية هي كيفية ادراك وتصور المضطرب لقوامه، اي حجم جسمه، ووزنه، ومظهره ، وعلى الرغم من وجود كم كبير من النظريات فلازال الغموض يكتنف اسباب اصابة البعض بهذا الإضطراب وعدم اصابة الأخرين الذين يشاركونهم نفس الظروف والبيئة الإجتماعية والاسرية والثقافية ، وفضلا عن ذلك تواجه تشخيص اسباب الإضطراب صعوبة اخرى هي ان مكوناته ليست عقلية صرفة او بدنية صرفة، بل هي مزيج منهما.
من بين اكثر النظريات انتشارا هي نظرية ، نموذج السلوك المعرفي Cognitive Behavior Model ، وتفترض ان المضطرب يشعر بالحزن وعدم الإرتياح من حجم جسمه وقوامه ويشعر تماما انه بدين، ويثير هذا التصور مشاعر القلق، والغضب، والكآبة، والكراهية لذاته، والإشمئزاز من نفسه، ولتخفيف حدة هذه المشاعر يلجأ المضطرب الى تطهير جوفه او يلجأ الى تمارين رياضية عنيفة وقاسية او الإمتناع القسري عن تناول الطعام ، وان شعور المضطرب بالتحسن انفعاليا بعد هذه الأنماط السلوكية يعزز تكرارها لخلق مشاعر الراحة، وتستحوذ عليه هذه الأنماط ولا يستطيع مقاومتها.
وهناك مجموعة اخرى من النظريات التي يمكن جمعها في نموذج شخصي اجتماعي ثقافي Interpersonal and Sociocultural Model ، ترى ان اضطراب الشره المرضي يصاحب دائما اضطرابات عقلية مثل، الكآبة والقلق الإستحواذي القهري, ويرون ايضا ان من بين الأسباب المؤدية للإصابة بالإضطراب هو الضغط الإجتماعي الذي يمارس على الشخص ليصبح نحيفا، وعندما يتعاضد هذا الضغط الإجتماعي مع مشكلات شخصية وامراض نفسية مثل الكآبة حينئذ يعمل جميع الأسباب مجتمعة في الإصابة بالإضطراب .
ترى نظرية ، النموذج الباثولوجي، ان السبب في الإصابة بالإضطراب هو كيميائيات الدماغ ، وترى ان مستويات تلك الكيميائيات غير طبيعية مع المصابين به، ويشترك هذا الإضطراب مع اضطرابات عقلية اخرى بهذه الخاصية، وترى ايضا ان تناول الطعام يؤدي الى تحسن مستوى كيميائيات الدماغ ، ولايزال البحث جاريا عن مزيد من البراهين لإثبات ان عدم توازن كيميائيات الدماغ يسبب اضطراب الشره المرضي.
اما النماذج البايولوجية التي استوحت نتائجها من الدراسات الجينية ودراسات التوائم والعوامل الوراثية، ترى ان هذا الإضطراب تنتقل وراثيا في الاسرة، وان الدراسات الجينية الجزئية قد شخصت عددا من الجينات التي يحتمل ان لها علاقة بهذا الإضطراب .

يرى معظم الخبراء في الإضطرابات النفسية ان هناك مجموعة من العوامل تتعاضد معا لإحداث اضطراب الشره المرضي وهي :
1- العامل الثقافي ، ان الثقافةالغربية الحالية، والثقافات الاخرى المتأثرة بها، ترى ان قيمة الجمال تكمن في الرشاقة والنحافة، وتحت ضغط هذا الإعتقاد تسعى النساء الى التخلص من الوزن ، ويتعدى هذا الإعتقاد النساء الى الرجال ايضا ، اذ يرون ان القبول الإجتماعي والمهني مرتبط بمدى رشاقة قوامهم ، ويظهر هذا الإعتقاد بصورة جلية عند الفنانين والرياضيين ومقدمي البرامج التلفزيونية.
2- العامل الأسري، كأن تهتم الأسرة بفكرة تقليل الوزن، وخاصة ان كان هناك من في الاسرة يعاني من هذا الإضطراب فيدعم هذا التوجه داخل الاسرة ، او ان تكون العلاقات الأسرية مضطربة وتسبب مشكلات شخصية لأفرادها تمهد للإصابة باضطرابات نفسية.
3- العوامل النفسية، كأن يكون تقدير الشخص لذاته متدنيا، وان يشعر بعدم القدرة في السيطرة على امور الحياة ، او ان يعاني الشخص من اضطرابات نفسية مثل الكآبة والقلق الإستحواذي وتقلب المزاج .
4- العوامل الشخصية، مثل صعوبة التعبير عن انفعالاته، او ان يكون موضع سخرية واستهزاء بسبب حجمه او وزنه، او سبق وان تعرض لإساءة جسدية او جنسية.
5- تغيرات واحداث ضاغطة، مثل الأحداث التي تسبب الصدمات النفسية، او الإغتصاب، او مرور الشخص بفترات تحصل فيها تغيرات في اعضاء الجسم ووظائفها التي ترافق مراحل النضج والتقدم في السن.
6- العوامل البايولوجية، مثل الجينات ومستوى الهورمونات وكيميائيات الدماغ.

أعراض اضطراب الشره المرضي
تشتمل اعراض اضطراب الشره المرضي على اعراض سلوكية وعقلية وبدنية ، قسم من هذه الأعراض واضحة المعالم يستطيع ان يلاحظها الأهل والأصدقاء ، ومنها اعراض يكتشفها الطبيب او المتخصص النفسي فقط . وقد يلاحظ الأهل والأصدقاء سلوك المضطرب في نهم كميات كبيرة من الطعام بشراهة وبسرعة، والتخلص منها عن طريق الذهاب المتكرر للمرافق الصحية للتقؤ اثناء تناول الطعام او بعده، اوعن طريق تناول اقراص والمواد المسهلة والمدررة لتطهير جوفه من الطعام والسوائل، ومعاودة ذلك باستمرار، او قد يغير بسرعة رغبته بانواع الطعام، او يتلافى المشاركة في الولائم والمناسبات التي يقدم فيها الطعام وذلك لإستبعاد ملاحظة الأخرين لكيفية نهمه وتناوله للطعام، ولكن قد يتطور الإضطراب في بعض الأحيان دون ان يلاحظه احد نظرا لتعمد المضطرب الى اخفاء سلوكه، وخاصة سلوك التخلص من الطعام، فقد يلجأ الى فتح صنابير الماء لإخفاء الأصوات عندما يتقيأ، او تناول مواد مطيبة لرائحة الفم لإخفاء رائحة القئ. وقد يتطور الإضطراب دون ان تظهر اية تغيرات على وزنه او على جسمه، على عكس ما هو عليه في بعض الإضطرابات الأخرى المرتبطة بالأكل مثل، اضطراب الأنوريكسيا الذي قد ينمو على جسم المضطرب شعر ناعم خفيف .
ومن الأنماط السلوكية الأخرى اعتذاره المتكرر عن تناول الطعام مع الأخرين، وعدم ارتياحه الواضح من مشاركة الأخرين في تناول الطعام، وقد يشتري كميات كبيرة من الطعام ويختفي عن الأنظار دون ان يعطي مبررات لذلك، او يخفي كميات من الطعام لأوقات اخرى, ويأكل كمية قليلة في الوجبات العادية عندما يتناول الطعام مع الأخرين، يخلط الطعام مع بعضه، ويقطع الطعام الى قطع صغيرة ويمضغ كل قطعة بافراط، و يلجأ الى شرب كميات كبيرة من الماء.
اما المضطرب الذي لا يلجأ الى اسلوب التقيؤ والإسهال للتخلص من الطعام، فيلجأ الى تمارين رياضية قاسية وعنيفة للتخلص من السعرات الزائدة او خوفا من ان يزيد وزنه، وقد يصعب في بعض الأحيان اكتشاف الإضطراب عنده، نظرا لصعوبة التمييز هل انه يتمرن بسبب الخوف من ان يزيد وزنه ام لتحقيق نتائج رياضية افضل. وقد يلجأ البعض الى اجبار نفسه على الإمتناع عن
تناول الطعام خوفا من زيادة الوزن ، وغالبا يجد مبررات لذلك، وتجده كثير الإعتذارعن تناول الطعام .
اما من الناحيةالنفسية والشعورية، فتجده مندفعا بصورة مفرطة ، ومكتئبا، ويعزل نفسه بأختياره عن اصدقائه وعن افراد عائلته ، يخاف ويقلق بشكل مفرط من ان يزيد وزنه، ولا يستطيع مقاومة هذه المخاوف ، يكره ذاته ، يعتقد ان لا قيمة له ، ومتقلب المزاج، ويخجل كثيرا.
اما الأعراض البدنية التي تظهر على المضطرب فهي :
تورم الخدين والفك والحنك، وتورم الغدد اللعابية، ومشاكل الأسنان واللثة، ووجود فجوات كثيرة في الفم، وجفاف واحمرار وتشقق الشفتين وخاصة عند زوايا الشفتين، تصلب وتقشر وتغير لون الإصبع عند المفاصل ان كان يستخدم اصبعه في احداث التقيؤ، تمزق وتهيج الحنجرة، اجهاد العضلات وجفاف الجلد، آلام في البطن واضطرابات الأحشاء والقرحة، عدم انتظام ضربات القلب ، الأنيميا، عدم انتظام او فقدان الدورة الشهرية واختلال مستوى الهورمونات.

علاج إضطراب الشره المرضي
يتردد الكثير من المتخصصين في اضطراب الشره المرضي من استخدام مصطلح الشفاء من الإضطراب، ويفضلون استخدام مصطلح تخفيف اثر الإضطراب او تحسنه، خشية من عدم القدرة على التعامل مع جميع الأسباب ذات الطبيعة المختلفة المؤدية للإصابة بالإضطراب، ومن ثم ارتداد اليه ثانية، وعلى الرغم من ذلك فان معاجة هذا الإضطراب تقلل من شراهة الأكل عند المضطرب، وتوقف دورة سلوك تناول الأكل والتخلص منه، و انماط السلوك الأخرى الإستحواذية التي يلجأ اليها المضطرب.
تتنوع اساليب علاج هذا الإضطراب، ان اكثر انوع العلاج شيوعا هو العلاج النفسي والعلاج بالأدوية. ويتضمن العلاج النفسي انوعا مختلفة موجهة للمضطرب او لأسر المضطربين او لمجموعات من المضطربين، ويعد كل من العلاج المعرفي السلوكي Cognitive behavior therapy CBT ، والعلاج السلوكي Behavior therapy BT ، من اكثر الأساليب العلاجية استخداما منذ سنوات عديدة.

#جمال_الشمري (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات