أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - تجمع اليسار الماركسي في سورية - جدل - مجلة فكرية- ثقافية- سياسية : العدد الأول: أواسط كانون الأول 2007















المزيد.....



جدل - مجلة فكرية- ثقافية- سياسية : العدد الأول: أواسط كانون الأول 2007


تجمع اليسار الماركسي في سورية

الحوار المتمدن-العدد: 2149 - 2008 / 1 / 3 - 12:31
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


افتتاحية هيئة التحرير
جاء في الوثيقة التأسيسية لـ "تجمع اليسار الماركسي في سوريا" والصادرة في 20 نيسان 2007 التالي : "يصدر التجمع مجلة فكرية تكون منبراً مفتوحاً للفكر اليساري- الديمقراطي ، والماركسي منه خصوصاً" .
وبعد مداولات تم الاتفاق على تسمية هذه المجلة بـ "جدل" . وكانت قد صدرت في أوائل التسعينيات من القرن العشرين مجلة نظرية تحت الاسم نفسه . وقد صدرت منها عدة أعداد ناقشت بشكل أساسي نظريات التخلف والتنمية ونظريات الاقتصاد العالمي . وقد أشرف عليها كل من عصام الخفاجي وعصام الزعيم وغيرهم.
ومجلة "جدل" الحالية مجلة فكرية - ثقافية - سياسية تعنى بقضايا الماركسية وقضايا اليسار العربي والعالمي خاصة القضايا الخلافية . وهي موزعة على عدة محاور هي :
1- المحور النظري في المجلة :
عناوين مفتوحة للاختيار الحر تقريباً . ضمناً، القضايا والطروحات الماركسية مثار الخلاف ضمن التجمّع وخارجه .
2- إضاءات على الواقع السوري والعربي: سياسياً، وفكرياً، واقتصادياً، اجتماعياً، الخ.. مع التركيز إلى أقصى حد على الوضع السوري .
3- عرض كتاب بهدف مضمر هو تزكية للقارئ وإثارة اهتمامه ، عرض كتاب أو أكثر.
4- مقال مترجم لمفكر أو مثقف غير عربي معاصر حول شؤون الفكر والعالم المعاصر أو من الكلاسيكيات الماركسية .
5- قضايا وآراء : نقد أطروحات ، حوار مع فكر، أو مقولات ، حوار مع مفكر .
6- نصوص قصيرة جداً : تعريفات ، أطروحات، مفاهيم، مفكرون ، مؤلفات.
7- الركن الأدبي
إننا إذ نصدر العدد الأول من "جدل" فإننا ندعو جميع المهتمين بـ قضايا اليسار ومنه الماركسي لفتح حوارات جدية حول كافة القضايا التي تخص هذا الشأن ، ولتشكل جدل منبراً مفتوحاً حقاً يساهم في إعادة الاعتبار للفكر الجاد والرصين، ولنؤسس معاً رؤية ماركسية للعالم المعاصر.
هيئة التحرير أواسط كانون الأول 2007





























الماركسية والدين
أعمال ندوة حوارية

نظمت هذه الندوة الحوارية في مدينة حمص بتاريخ 3/10/2007 تحت عنوان "الماركسية والدين" وقد دعي إليها كل من الأستاذ نجيب رومية والدكتور نايف سلوم والأستاذ منصور أتاسي ، وعدد من الشابات والشبان المهتمين بالشأن الفكري والسياسي وقد جرت أعمالها كالتالي :
الأستاذ منصور أتاسي : نرحب بداية بالأستاذ نجيب رومية وبالدكتور نايف سلوم ضيوف هذا الحوار ، ونرحب بالحضور من أصدقائنا. إن فكرة الحوار بين اثنين من المهتمين بالشأن الماركسي النظري أمام مجموعة من الشابات و الشباب المهتمين والمتابعين لأنشطة كهذه ولدت حين جرى حوار بين الأستاذ رومية والدكتور سلوم تبين من خلال تكراره للمرة الثانية أنه مفيد وأساسي ويمس قضايا حاسمة على مستوى الفهم الماركسي والطريقة الماركسية في التعاطي مع مسائل كبيرة وحساسة كمسألة الدين . لهذا السبب كانت ندوتنا الأولى. وبعد الاتفاق الأولي اقترح الدكتور سلوم محاور الندوة الحوارية حيث تم عرضها على الأستاذ رومية والأستاذ منصور ، و المحاور هي:
1- مقاربة الماركسية الكلاسيكية للدين – مقاربة ماركس
2- عالم الدين
3- نقد الدين كمدخل لكل نقد ؛ نقد الدولة ، نقد المجتمع المدني البورجوازي
4- تلقي مقاربة ماركس للدين بشكل قاصر عند مراجعي الماركسية الأوربيين وفي فكر الثورات الاشتراكية
5- الاستعارة من عالم الدين لفهم عالم السلع (البضائع) ، ولفهم استقلال المستوى الأيديولوجي في البنية الاجتماعية
6- الماركسية والإلحاد : التحرر السياسي، والتحرر الإنساني .
د. نايف: لقد وضعنا المحاور وهي خطوط عريضة: كيف قارب ماركس مسألة الدين، عالم الدين ، نقد الدين بالنسبة للفكر العلماني ، مسألة تلقي فهم ماركس للدين من قبل المراجعين الأوربيين والماركسيين وفي الثورات الاشتراكية إضافة إلى الأحزاب الشيوعية العربية. كيف تناولت الحركات الشيوعية العربية مسألة الدين بشكل بعيد كل البعد عن مقاربة ماركس ، أو تهربت من الأمر وقفزت من فوقه .
بالنسبة لعلاقة الماركسية بالإلحاد أقول : الماركسية ليست فلسفة في الإلحاد ولكنها نظرية في الصراع الاجتماعي الطبقي ونقد اجتماعي جذري . والآن دعونا نبدأ حوارنا
أ. نجيب: الدين ظاهرة اجتماعية تخضع لناموس التطور . والتوحيد الذي نراه في الأديان الثلاثة الكبرى قد مر بأطوار عدة ، وتخلص من جهالات كثيرة قبل وصوله إلى ما هو عليه في اليهودية والمسيحية والإسلام . ونشير إلى أن التوحيد ليس موجوداً عند البوذيين ؛ إنهم لا يؤمنون بإله واحد خالق للكون .الهندوس لا يؤمنون بوجود أنبياء . إذن ، فلكل بيئة دينها ، يتكيف معها ويسير وفق تطورها. ولا فصل بين دين ووسطه بحال. لا نريد الخوض في المذاهب والملل وما تفرع عنها ، إنما نود أن نضيء ولو بسرعة قضية التوحيد (الإيمان بإله واحد).
نشأ التوحيد عند الساميين (العرب واليهود والهكسوس) دون باقي الأمم والشعوب والأقوام ، وليس مرد ذلك إلى تفوق الساميين عقلاً على باقي الأمم التي عاشت في عهود الوثنية كاليونان والرومان ، وبعض الآسيويين ذوي الحضارة العريقة . إنما يرجع ذلك إلى أن أمماً مثل اليونان والرومان والمصريين القدماء قد عرفوا فن العمارة والنحت واستخدام الأحجار و المرو والآجر في بناء القصور والمعابد التي تضم الأصنام والأنصاب متقنة الصنع تروق النظر ، وفيها آثار دينية تتناقلها الأجيال ، وطبقة ترعى هذه التقاليد ، ومن مصلحتها المحافظة على هذا النظام الديني ، وهذا بخلاف ما عند البدو الرحل من عرب وإسرائيليين وهكسوس الذين ما عرفوا فن البناء ؛ وبطبيعة الحال ما عرفوا فن نحت التماثيل وصنع المعابد ليكون لهم أصنام مهيبة تستهوي النفوس وتسترعي الاهتمام. ووفق ناموس النشوء والارتقاء الذي يقضي ببقاء الأنسب للبيئة والوسط وزوال ما لا يتناسب مع هذا الوسط ، كانت الأصنام والمعابد لا تناسب بيئة هؤلاء الأقوام . فبسبب من إقامتهم في بيوت من الشعر وارتحالهم الدائم طلباً للغيث والكلأ كانوا يصنعون أصنامهم من أحط المواد ، فكانت ضئيلة ولا هيبة لها ، ينطلقون بها من مكان إلى آخر . لذلك وجدوا أن الأنسب لهم الإيمان بإله واحد موجود في كل مكان ، فيستغنون بذلك عن حمل أصنامهم من مكان إلى آخر .. بعد أن خلت حواسهم وأذهانهم من استرقاق عادات العبادة التي عرفتها الأقوام العريقة في الحضارة . بمعنى لم يكن لهم من شاهد الحسّ ما يتغلبون به على العقل ، فظل العقل لذلك حراً منطلقاً ساعد على الاهتداء إلى التوحيد . فالتوحيد إذن دين أمم بدوية لا تستقر بمكان واحد ولا معرفة لديها بفنون العمارة والبناء والنحت . أما الحديث المستفيض عن ديانات الشعوب جميعها وتنوعاتها فله مقام آخر .لكن ما نريد إثباته هنا أن الإنسان هو الذي يصنع الدين ، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان.
إذاً ، طبيعة الحياة الاجتماعية لعدد من الشعوب قضت أن تكون أنماط من العبادات المختلفة: فالأمم العريقة حضارياً كاليونان والرومان والفرس لم تهتد إلى التوحيد بينما الأمم البدوية المتنقلة المرتحلة اهتدت ، وهذا متعلق بطبيعة الحياة وبنمط الاقتصاد السائد في هذا المجتمع أو ذاك .
د. نايف : دعنا نقف عند مسألتين : مسألة ظهور الأديان ، ومسألة الألوهة عند الإنسان بشكل عام ؛ ظهور الأديان بأشكالها الحسية والتجريدية : الأديان الوثنية؛ الحسية، التعددية عند اليونان والرومان، والتوحيدية بشكل أو بآخر. وأيضاً مسألة "غياب الوحي" في الديانات البوذية و الزارادشتية.
هناك مسألة طرحها الأستاذ نجيب فيها التباس: وهي مسألة التوحيد وعلاقتها بعدم الاستقرار الحضاري، وبالصحراء . أعتقد أنه حتى في الصحراء وعند عرب الحجاز كان هناك ما يشبه المعبد أو تحت- معبد حيث جمعت الآلهة – الأصنام في الكعبة أو البيت العتيق. حيث كان هناك استقرار عبادات ، وكان لكل قبيلة "إلهها- صنمها" داخل هذا البيت ، وكانت تنظم مواسم سنوية للحج والتجارة و التثاقف؛ حيث تنظم أسواق لذلك مثل سوق عكاظ الشهير.
مسألة أخرى مسألة الألوهة؛ مسألة ظهور النوع البشري، فقد أشارت إليها أساطير السقوط أو أسطورة السقوط . المدقق في هذه الأسطورة يرى قضية أساسية : يبدو أن ظهور النوع الإنساني ؛ انسلاخ الوعي وظهور النوع كنوع يتميز بالإدراك والوعي وبالنفس التي هي شفافة نيرة ، تلك التي خلقت مسافة بين هذا الكائن النوعي وباقي الموجودات الأخرى . كان هذا غاية في القسوة وغاية في الصعوبة؛ ظلال غامضة لفجر الوعي البشري هو ما راحت الأساطير و الأديان اللاحقة تتخيله وتحاول أن ترسم له صورة تقريبية . كائن نوعي مرمي في البرية ، غريب في هذا الوجود ، لديه مخاوف هائلة . كان لابد للأساطير ومن ثم الأديان أن تتصور هذا المشهد الأولي الجليل؛ هذه البداية المهيبة، حيث قدمت أساطير السقوط ولاحقاً قدمت التوراة قصة التكوين والسقوط وأخذت الكثير عن الأساطير السابقة.
مسألة أخرى هي مسألة التوحيد أو ظهور التوحيد في شبه جزيرة العرب. يتوجب هنا معالجة الأمر من ناحية التحضر والاستقرار وظهور الملكية الخاصة . ففي رسالة من ماركس إلى انجلز في 2 حزيران 1853 كتب يقول: "كان بيرنيه يعتبر بحق أن الشكل الأساسي لجميع الظواهر في الشرق... هو انعدام الملكية الخاصة للأرض . هذا هو المفتاح الحقيقي ، حتى للسماء الشرقية.." ويرد انجلز على هذا برسالة بتاريخ 6 حزيران 1853 يقول فيها: "إن انعدام ملكية الأرض هو في الحقيقة مفتاح الشرق بمجموعه . سواء بالنسبة إلى تاريخه السياسي أم تاريخه الديني . لكن كيف حدث أن الشرقيين لم يتوصلوا إلى الملكية العقارية ، حتى في شكلها الإقطاعي؟ أظن أن ذلك يعود بصورة رئيسية إلى المناخ" [العامل الجغرافي]
إن سر ديانات الشرق، سر التوحيد في الشرق (اليمن والحجاز وفلسطين ومصر- دلتا النيل) هي في هذا الغياب للملكية العقارية للأرض: مساحات صحراوية هائلة مع وضع طبيعي جغرافي قاس ، لا أحد يملك إلا الملك (مالك الملك) .
أعترض أيضاً على كلمة بني إسرائيل. ذلك أن التراث العبري هو جزء من التراث العربي الجنوبي في اليمن.فالكثير من الأسماء التي وردت في القصص التوراتي هي في الأصل عربية ، وكثير من القبائل اليهودية هي قبائل عربية اعتنقت اليهودية نتيجة استقرارها الزراعي وتميزها عن محيطها البدوي القائم على الترحال.
يقول انجلز: "إن النسب المعطى في التكوين ، الذي يزعم أنه نسب نوح وإبراهيم ، الخ.. هو تعداد مضبوط للقبائل البدوية في ذلك الحين ، وفقاً لقرابتها اللغوية الكبرى أو الصغرى.. وكما نعلم فإن القبائل البدوية سمت نفسها على الدوام حتى الوقت الحاضر بني صالد، بني يوسف، وهكذا دواليك. يعني أبناء فلان وفلان. وإن هذه التسمية ، التي تنبثق عن أسلوب الوجود الرعوي القديم ، تؤدي في آخر المطاف إلى هذا النوع من النسب .وإن تعداد التكوين ليؤكد أكثر أو اقل من قبل الجغرافيين القدامى ، كما أن الرحالة المحدثين يثبتون أن الأسماء القديمة ، مع التغيرات المترتبة على اللهجات المحلية ، لا تبرح موجودة في غالبيتها العظمى. ومهما يكن من شيء ، فإنه يترتب على ذلك أن اليهود أنفسهم لم يكونوا أكثر من قبيلة بدوية صغيرة ، مثل الباقين تماماً ، جعلتها ظروفها المحلية وزراعتها ، وقس على ذلك، في تعارض مع الآخرين "
أريد هنا التركيز على مسألتين: مسألة تطور الألوهة: مثل تطور الألوهة مثل تطور اللغة عند البشر ؛ في البداية وعند فجر اللغة يشير الإنسان إلى الأشياء الحسية دون أن يسميها لأنه لا يمتلك تلك الأسماء ولا تلك اللغة. كذلك الأمر في الدراما الإلهية عند الإنسان ؛ حيث التقدم من الديانات الحسية إلى الديانات الأكثر تجريداً وآخرها الديانات التوحيدية الكبرى. فعوضاً عن حمل الأشياء الحسية حمل الإنسان أسماءها (مفاهيمها) ، والدين تطور في نفس الاتجاه : من الديانات الحسية الوثنية المتعددة (عبادة الطبيعة أو الحيوانات ، عبادة الأموات ، الخ..) إلى الديانات الأكثر تجريداً (التوحيد)
الذي ساعد على تطور هذه المسألة عند العرب (عرب الحجاز وعرب اليمن) واليهود والمصريين هو غياب الملكية الخاصة للأرض ، حيث الملك هو المالك الوحيد (مالك الملك).
أ. نجيب: لست هنا بصدد لا تعريب بني إسرائيل ولا منحهم الرؤية العربية ، أنا هنا أمام تاريخ فيه إسرائيليون وهم من الأقوام السامية و هناك الهكسوس وهناك العرب . هذه حقائق من التاريخ.
الانتقال من الحسي إلى المجرد هذا منطقي وأمر طبيعي . لقد ثبت في مطلع الحديث أن الأديان تخضع لناموس النشوء والتطور كأية ظاهرة اجتماعية وتاريخية وأدبية في الكون. تصور كيف نشأ التوحيد؛ تصور! أنا أتحدث عن الحضارة اليونانية والرومانية كحضارات عريقة، وتحدثت عن أقوام ترتحل من مكان إلى آخر بحكم ظروف متنوعة -لا سبيل إلى ذكرها الآن- إلى أن تصل إلى هذا النوع من الحضارة ؛ إلى فن البناء والعمارة والعمران؛ إلى نحت التماثيل والأصنام . آيات من الفن الرائع في أثينا، حتى الآن!.
الانتقال من الحسي إلى المجرد : هذا أمر منطقي. ما أردت أن أقول: اكتشاف التوحيد من الساميين لا يعني تفوقاً عقلياً من الساميين على الأقوام الأخرى كالرومان واليونان والفرس ، الخ..هذا ما أردت أن أثبته. إنما هناك ظرف اجتماعي- اقتصادي تاريخي مكّن الساميين من الوصول إلى التوحيد. اللغة تطوير في هذا المجال : حين نفتح القاموس ونقرأ: نفس، و نقرأ: روح فنرى أن النفس مشتقة من النفَس، والنفَس الذي يدخل الصدر ويخرج . والروح مشتقة من الريح. المؤدى واحد. فحين أراد الإنسان أن يضع حداً فاصلاً بين الموت والحياة ، لم ير إلاّ هذه النظرة في البداية : هذا نَفَس حين ينقطع تذهب الحياة. يراد من هذا الكلام المقولة: هذا الاعتقاد الإنساني القديم الذي مر بأطوار متنوعة ليس من العلم في شيء ، تجاوزه العلم. وقال العلم الكلمة في هذا الشأن . هذا ما نريد التأكيد عليه الآن كي نلغي أو نبطل من الذاكرة سلفاً بعض الاعتقادات وبعض الأوهام . يعني هناك فارق بين واقع موضوعي مادي أمامي، موجود خارج ذاتي، وبمعزل عن ذاتي، ولا يحتاج لذاتي كي ينوجد، وبين أن أنتج وهماً متخيلاً متصوراً موازياً لهذا الواقع وأدعي أنه هو الواقع الموجود. الحلم شيء والواقع شيء. هذا الوهم الإنساني القديم قبل أن يبلغ العقل الإنساني سن الرشد . هذا الوهم عاش قروناً في عقل البشرية . الفكر المادي قبل ماركس؛ مادية القرن الثامن عشر في فرنسا قاربت هذا الأمر ، الماديون الإنكليز قاربوا هذا الأمر ومنهم هوبز وهو شهير في هذا المجال. الثورة الفرنسية ركزت على مادية البريطانيين وثمّن ماركس تثميناً عالياً ماديتهم . الفكر المادي هو الذي قال لنا ليس هناك قوة خارقة يستحيل إدراكها. جميل صدقي الزهاوي، أذكر نصاً شعرياً بديعاً لكن يحمل فلسفة، يخاطب به الإنسان:
لمّا جهلت من الطبيعة أمرها وأقمت نفسك في مقام معللِ
أوجدت رباً تبتغي حلاً به للمشكلات فكان أكبر مُشكلِ.
حين أقول مثلاً ، هذا من صنع الله ! هذا ليس تفسيراً لظاهرة ، إنما خروج من التفسير إلى شيء آخر . الأخطر في هذا الكلام ؛ هذا من صنع الله أن ننصرف كلياً عن البحث العلمي . المادية أوقفت هذا المد في العصر الحديث وقالت لا: الإنسان يجب أن يقف على قدميه لا أن يقف على رأسه . هذا ليس إلحاداً بالمعنى الذي استخدمه الدين؛ كفراً زندقة، هرطقة. هذه المفردات مقززة تاريخناً، وإرثنا القديم استخدمها بجدية في سبيل أن يحكم بالإعدام على كل رأي حر ، وعلى كل فكر نظري جديد، وعلى كل فكر مادي .
دكتور – أود القول – هذا مرتبط عبر التاريخ بنظام قائم في هذا المجتمع أو في ذاك ، وهذه السلطة يعنيها استمرار الطقوس والأديان والعبادات ، بسلطة تحكم مجتمع ، تحكم بلداً . لأن السلطة السياسية مرتبطة حكماً بمؤسسة دينية أو كنسية ، والمصالح مشتركة ومتبادلة .
د. نايف: هنا ذكرت ظهور العلم. بالطبع الجهل منبع لخرافات كثيرة . سوف نعرّج على مفهوم العلم بالمعنى الماركسي ، كيف تعاطى العلم الماركسي مع الظاهرة الدينية ؛ مع الدين ؟ وماركس كما هو معروف مؤسس هذا العلم بالمعنى الفلسفي وبالمعنى التاريخي ؛ بالمعنى الفلسفي مؤسس لعلم الديالكتيك أو الديالكتيك المادي ، وبالمعنى التاريخي مؤسس للفهم المادي للتاريخ؛ علم التاريخ : انتقال المجتمعات من تشكيلة اجتماعية اقتصادية تاريخية معينة إلى أخرى.
يهمنا هنا مناقشة الأصدقاء الشباب بفكرة العلم التاريخي وعلم الديالكتيك . لكن هناك نقطة تتوجب الإشارة إليها : الدين مثله مثل أي مُنتَج بشري ، يتحول من وسيلة إلى عقبة في سياق التطور التاريخي والإنساني . نضرب مثلاً : المنزل الذي تبنيه ليحميك من النار والرياح هو الذي يعيقك فيما لو اندلع حريق داخله. دائماً نشير إلى عبارة : كيف تنقلب الوسيلة عقبة أو العكس وذلك حسب تغير الشروط ؛ شروط الظاهرة أو الواقعة، هيغل يشير إلى ذلك.
الدين الذي أنتجه الإنسان في ظروف معينة ليخدم الإنسان ويساعده ، وليخفف من مخاوفه وليعينه على تلمس بعض الظواهر الغامضة ، الدين هذا تحول مع ظهور العلم والتفكير العلمي إلى عقبة أمام الإنسان ، عقبة بالمعنى المعرفي ، وعقبة أمام التحرر السياسي عندما تحول في ظروف معينة إلى مِصدّ أمام تشكيل وعي سياسي حق ، كما استخدم لقمع تمرد ثوري أو تفكير حر أو مستقل. لكن الدين لعب دوراً تحررياً وتقدمياً بالمعنى التاريخي عند ظهوره ، مثال ذلك الانقلاب المحمدي؛ لقد قُمع أنصار محمد وطوردوا وعذبوا وتم نفيهم وهاجروا . وأعدم عيسى في سبيل دعوته الخ.. لقد نقل الانقلاب المحمدي عرب الحجاز من نظام القبيلة إلى مجتمع الدولة وهذا تقدم تاريخي. لقد هاجم النبي محمد ديانات الأقدمين وإصرار قريش على عبادة وديانة قديمة . لكن عندما يتحول الدين إلى مظاهر شكلانية وفكر تبريري لكل عسف وظلم، لكل استغلال ، عندما يتحول إلى قشور ميتة وتذهب ريحه المتمردة ، عندها يتحول من وسيلة لتحرر البشرية إلى عقبة أمام هذا التحرر البشري والسياسي حتى.
نسأل الأستاذ نجيب: كيف تقارب مفهوم العلم في الماركسية؟
دائماً ألح على كلمة علوم أكثر مما أختار علم ، أتحفظ على صيغة المفرد من علوم؛ على علم. لكن ما أريد قوله أنه من سوء حظ الماركسية في الوطن العربي أنها وجدت نفسها مرغمة على التصدي لتيارات أيديولوجية مذهبية عشائرية في هذا الوطن ، هذه التيارات مغرقة في بدائيتها وجهالتها وهذا التقديم يعزز ما نقول: لكن البورجوازيات العربية ترى من واجبها التمسك بالأيديولوجيا الدينية وباقي الأيديولوجيات المهترئة بعد أن أفلست هذه البورجوازيات على المستوى الأيديولوجي خاصة لأنها تحن إلى ماضيها الطبقي ، وهي ترى أن زوالها مرتسم في أفق الصيرورة التاريخية . وهي مقززة ومسخ بكل أشكالها وتريد أن تعاكس اتجاه التاريخ وحركته وتطوره فتبدو هزيلة إلى هذا الحد أو ذاك، لذلك لديها هذا الحنين الدائم إلى ماض تريد أن تحييه ولا يمكن أن يكون قابلاً للحياة.
فيما يخص مفهوم العلم أقول: العلوم تنبني على التجارب وتنبني على الاستقراءات . ماركس رأى في العلم حركة ذهنية عقلية معرفية مرتبطة بواقع ، وهذه العلاقة الجدلية بين الإنسان وبين الواقع هي التي تنتج المعرفة ، وكل ما نخرجه من الذهن ولا يمر عبر الواقع ليس بشيء . لذلك ماركس أفاد من جهود الأولين والآخرين وربط العلم بالتجربة ، وثمن عالياً علوم البريطانيين . القراءة الحسية تعطي المعرفة ، العلوم كثيرة و كثيرة جداً؛ العلوم هي هذه المعرفة المستقاة من الواقع الحسي لأن حواس الإنسان هي النوافذ الوحيدة التي يطل من خلالها على هذا الوجود . وهذا الوجود يرتسم عبر الحواس في الدماغ ، والدماغ هو عضو التفكير حسب التعريف الماركسي- اللينيني. يرتسم الواقع في الدماغ الإنساني فينتج معرفة. فالعلم لا يمكن أن نقول عنه علماً ما لم يرتبط بواقع حسي عياني مادي . كل ما يخرج عن نطاق الحواس يتولد فيما وراء الحواس تصورات ، هذه الحواس تمتص الوجود الخارجي تعكسه في الدماغ فتعطيك معرفة نظرية طبعاً ، هذه المعرفة تتحول إلى تصورات . هنا تتوجب الإشارة إلى العلاقة بين الحسي والمجرد.
ترى الماركسية أن هذا الواقع واقع موضوعي – كما ذكرت- وأنه موجود بمعزل عن الإنسان . كل ما هو موجود خارج الذات الإنساني ولا يحتاج إلى الإنسان كي ينوجد هو واقع موضوعي . وهنا يكمن الأمر الأساس؛ في التفكير العلمي المادي الماركسي تحدثنا فيما مضى عن البريطانيين كيف أنتجوا مادية حديثة ، وكيف تلقفها الفرنسيون ، وحسب قول ماركس في "الأسرة المقدسة": "الفرنسيون أعطوا المادية الإنكليزية الروح واللحم والدم والفصاحة . وهبوها المزاج الذي تفتقده والأناقة والرشاقة؛ مدَّنوها"
هذه المادية الحديثة المتسقة هي التي أصبحت على يد ماركس أرفع مادية عرفها التاريخ ، هذه المادية التي استقاها أصلاً من مادية القرن الثامن عشر الفرنسية .
د. نايف: لدي تعليقان، الأول: حتى يكون الحضور في صورة المسألة: الأول، تركيز الأستاذ نجيب على تاريخ المادية ؛ للمادية تاريخ . كثير من الكتب المدرسية في الفلسفة (كتاب الأول الثانوي) تعرّف المذهب المادي وفق معطيات مادية القرن الثامن عشر ، تلك المادية التي قامت أصلاً على مكتشفات نيوتن في علم الميكانيكا ، بقول آخر هي لا تعرّف المادية وفق تعبيراتها الأحدث والأكثر تطوراً : مادية فيورباخ أو مادية ماركس. بل تعرّف المادية عبر أكثر أشكالها فظاظة وابتذالاً وميكانيكية (المادية الفظة الميكانيكية المبتذلة في القرن الثامن عشر؛ دولباخ، ديدرو و هلفسيوس). حسب هذه المادية تظهر النفس وكأنها آلة ميكانيكية ، حيث لا تستطيع هذه المادية فهم المستوى النفسي أو الفكري للحركة كأرقى شكل من أشكال الحركة في مقابل المستوى الميكانيكي، ولا فهم ديالكتيك الروح/ العقل- النفس.
الثاني ، أن الماركسية حددت علماً واحداً هو علم التاريخ : كل شيء؛ كل ظاهرة لها تاريخ . الماركسية نفسها لها تاريخ ، الديالكتيك له تاريخ وكذلك المادية كما رأينا لها تاريخ حيث تبدأ مع التفلسف اليوناني عبر المادية الحسية المباشرة البسيطة (الهيولية) ثم تتطور عبر مادية القرن الثامن عشر الفرنسية والإنكليزية (المادية الميكانيكية) ومن ثم مادية فيورباخ وأخيراً مادية ماركس أو الديالكتيك المادي [بالمقابل هناك الديالكتيك المثالي عند هيغل]
التركيز على تاريخ المادية أمر أساسي حتى لا يحصل التباس ، حتى لا يرجع الفسيح المتطور الراقي إلى الضيق الفظ المتأخر. الفرنسيون مدّنوها ، هذّبوها ، هذه مسألة أولى.
المسألة الثانية : هناك نوعان من التاريخ: تاريخ الطبيعة (العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء، الخ.. ) من جهة وتاريخ البشر من الجهة الثانية: ولا يمكن فصل تاريخ الطبيعة عن تاريخ البشر ما وُجد البشر. الديالكتيك أو منهج العلم في الماركسية وعند هيغل أيضا. يأتي العلم الفلسفي ويقرأ نتائج العلوم ؛ قراءة على القراءة . هناك نتاج علمي حول الخلية الحية ، من ثم تقرأ نتائج هذا العلم في حقله ؛ قراءة على القراءة ، بالنسبة إلى المجتمع تتم دراسة تطور قوى الإنتاج في مرحلة معينة وعلاقة ذلك بأشكال الملكية السائدة أو المسيطرة ، ودراسة أشكال النضالات الاجتماعية.
موضوع علم الطبيعة هو الطبيعة (الفيزيائية أو الكيميائية ، الخ..) . في العلوم الإنسانية ليست الطبيعة المباشرة هي الموضوع؛ موضوع العلم ، هو الخطاب الإنساني كأثر صوتي أو مكتوب. الموضوع هنا نص أو أثر يصنعه الإنسان نفسه يدل على واقعة أو ظاهرة ، هذا ما يميز علوم الإنسان عن علوم الطبيعة. لهذا السبب اهتم ماركس بأسلوب الخطاب ، استعاراته واستراتيجيته؛ وبأسلوب العرض بعد دراسة الموضوع دراسة مفصلة؛ أي بعد انجاز البحث .
نتيجة خطورة موضوع علوم الإنسان التي هي نصوص تدل على واقع مادي لم يأخذ ماركس مثالاً اعتباطياً . مثلاً عند الحديث عن الانجذاب ، وهذا أحد انتقاداته للدين، يؤخذ الانجذاب العاطفي والانجذاب المغناطيسي ، لتمثيل الانجذاب ، هذا فيه تشويش مثال من علم الفيزياء وآخر من عالم الحب ؛ عالمين مختلفين ولكل قانونه في حقله وله خصوصية . بالتالي فإن جمعهما للتدليل على الانجذاب فيه إرباك ويحدث تشويش . لذلك عند التمثيل أو الاستعارة لابد من أخذ مثال محدد مناسب أو استعارة فعالة ؛ استعارة تبين الأمر وتشرحه وتبينه ، وإلا فهي تغمض الأمر . علينا الاعتناء بإستراتيجية كهذه في قولنا . عندما استعار ماركس من عالم الدين كان الهدف الإبانة والتوضيح . حول منهج العلم ؛ علم الديالكتيك : كيف أعرف ؟ هل أستطيع أن اعرف حقيقة الظواهر ؟ وإذا عرفت كيف أبني إستراتيجية القول والخطاب . العلم الوحيد علم التاريخ؛ هذا معناه أن كل ظاهرة هي تاريخية وكل علم هو تاريخي .
أستاذ نجيب: بخصوص اعتراضك على لفظة منهج ، ماذا تقول؟
بما يخص كلمة منهج تستخدم الكلمة كثيراً . المنهج هو طريق للوصول إلى الحقيقة ؛ أي هو الأدوات المعرفية التي تمكن من الوصول إلى الحقيقة . الأدوات هي السبيل ، أدوات معرفية نظرية ، هذه الأدوات المعرفية هي المفاتيح التي نستطيع من خلالها أن نفضّ ألغاز التاريخ، وألغاز المجتمع . فهم ماركس علم التاريخ ليس كتأمل بل عبر القراءة الناقدة . ركنين أساسين من أركان علم التاريخ الماركسي وهما علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج ، هذا ما جعل من الماركسية علماً . هذه العلاقات الجدلية بين قوى الإنتاج من جهة وعلاقات الإنتاج من الجهة الأخرى ، و التراكم الكمي الذي يؤدي إلى تحول نوعي أو كيفي حين تبلغ قوى الإنتاج مستوى متطور تؤدي إلى كسر إطار علاقات الإنتاج القائمة أو السائدة، تحطم بنية الإنتاج القائمة وتنقلنا إلى طور جديد وبنية جديدة .
التناقض أسّ المعرفة في الجدل المادي؛ هو البؤرة الأساس التي انطلاقاً منها تعالج جميع القضايا . لقد نفى ماركس الاستمرارية التاريخية ، نفى أن يكون الحاضر امتداد للماضي .نفى ماركس هيغل وتجاوزه ، وهنا لي ملاحظة على الدكتور نايف: الدكتور يذكر هيغل مراراً ، الهيغلية هي المدرسة الفلسفية الأم لماركس ، لكن ماركس تجاوزها عبر المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية . إذا ما نزعنا عن الهيغلية القشرة الصوفية يتكشف الجانب العقلاني فيها. لا شك هيغل مبدع الجدل ، لكن الجدل الهيغلي شيء والجدل الماركسي شيء آخر . ماركس أخذ روح الجدل ، ربط الإنسان بواقعه المادي ، هيغل وصل إلى المطلق؛ تفلسف كثيراً في الفكرة المطلقة . ماركس ربط الإنسان بوجوده المادي/ الحياتي فقط، وأسقط المطلق . المطلق الوحيد عند ماركس هو قانون التغير والتحول .
د.نايف: تعقيب سريع على كلمة منهج: منهج، طريق أو طريقة، الخ.. وهو ترجمة للكلمة الإنكليزية method. ويمكن أن نستخدم كلمة مذهب وهو مشتق من الذهاب إلى الماء، الذهاب إلى النبع ؛ إلى أصل التفلسف المقصود . أن تذهب إلى ماركس ؛ إلى ديالكتيك ماركس، أو تذهب إلى ديالكتيك هيغل، الخ..
إذاً طريق؛ طريقة أو منهج هذا صحيح ويمكن أن نستخدم كلمة مذهب doctrine.
أريد هنا أن أعطي مثالاً عن التراكم الكمي في قوى الإنتاج وما يستدعي ذلك من الدفع باتجاه انقلاب كيفي في العلاقات الاجتماعية والسياسية. نعطي الانقلاب المحمدي ، إن تزايد الثروة المتراكمة لدى تجار قريش دفعهم للاعتماد المتزايد على العبيد لحماية القوافل التجارية وطريقها. تزايد العبيد من حماة القوافل القرشية معناه أن قيام الدولة في شبه جزيرة العرب بات من أمر الراهن . محمد ومشروعه لبناء دولة العرب كان يعمل من الجهة الثانية ، لكنه يعمل ديالكتيكياً (اجتماعياً-سياسياً) بعكس جهد تجار قريش الميكانيكي الاقتصادوي . كان محمد قد أسس "الأيديولوجيا" المهيمنة و"الحزب" الضروريين لانجاز الانقلاب التاريخي المنشود ، للانتقال بالعرب من نظام القبيلة إلى نظام الدولة . أسياد قريش وتجارها الكبار لم يكن لديهم الوعي التاريخي بهذه المهمة ، محمد كان لديه هذا الوعي. وهذا ما يفسر رده على أسياد قريش في معرض قدومهم إلى عمه أبو طالب وشكواهم من أن محمد يدمر آلهتهم ، وعبارة محمد الشهيرة : والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهر الله أمره. أسياد قريش لا يعرفون أن التاريخ يوضّب أشياءه : القوافل بحاجة إلى جيش، الثروة تتراكم ، ولكن بناء الدولة لا يكون بالنمو الميكانيكي الاقتصادوي الكمي الذي تصوره القرشيون التجار ، الدولة بحاجة إلى أيديولوجيا قائدة ومهيمنة وإلى تنظيم ؛ إلى حزب يقوم بالانقلاب التاريخي والقطع السياسي ، وهذا ما أنجزه محمد وأنصاره. ومثال الثورتين الروسية والصينية دليل إضافي إلى الحاجة إلى الأيديولوجية المهيمنة القائدة وإلى الحزب لإنجاز الانقلاب التاريخي ومعه القطع السياسي المنشود.
أ. نجيب: جداً مهم ربط المعرفة النظرية بالممارسة السياسية ، وهذه الأخيرة هي الحقل الطبيعي للممارسة النظرية . نحن لا نطرح فكراً للترف ولا للمباراة الثقافية . على هذا الفكر النظري أن يعالج قضايا الإنسان ومشاكله ، الإنسان هو المبتدأ وهو الخبر . كيف نحرر الإنسان من الذل ومن العبودية ومن الاغتراب ومن الظلم، الخ.. كيف نجعل من الإنسان حراً بعيداً عن أية آلة قمع . وهنا يحضرني أن الذي كفل للديانات هذه الديمومة وللفكر الديني هذه السطوة في كل أنحاء العالم هو السلطات الحاكمة . النظام العالمي هو نظام إمبريالي يدخل العالم في شبكة هائلة من العلاقات العالمية الرأسمالية (هو نظام كوني) . في يوم ما كانت السمة الطاغية على العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية ، كان هذا هو التصور ، وهذا هو الواقع . التجربة لم توفق ، دخل العالم في شبكة من العلاقات الرأسمالية العليا. النظام الاحتكاري الرأسمالي العالمي أدخل البلدان الآسيوية ومنها البلدان العربية في هذه الشبكة وأسس سلطات بورجوازية تابعة حافظت على القدسي وربطت مصالحها بالمعبد وبالمقدس . ربطت المعبد بالسلطة السياسية ، ربطت رجال الدين بمصالحها السياسية فصارت هذه المصالح متبادلة بين السلطة السياسية والسلطات الكهنوتية اليهودية والمسيحية والإسلامية . هذه العلاقة المادية القائمة مابين الطرفين ؛ كل يسوّق للطرف الآخر . مجتمعاتنا مجتمعات غيبية تؤمن بالأوهام وقراءة الفأل أكثر من إيمانها بالوقائع الحسية والعيانية ، هذا ما حافظت عليه السلطات البورجوازية الحاكمة ، من له مصلحة ببقاء المعبد. إن الوقف الديني يقف كالخثرة في الدورة الدموية للاقتصاد؛ هذه الطوابير والقوافل والجيوش من رجال الدين وفي كل المجتمعات ليست منتجة ، نصبت من نفسها وسيطة بين الإنسان و الخالق، أخذت المكاسب والامتيازات . هذه مسائل يجب أن نتأملها وأن نعيد النظر بها. الماركسية صفّت حسابها مرة واحدة مع كل هذا الفكر الغيبي ؛ قلت قبل قليل : كان الإنسان يقف على رأسه وأصبح يقف على قدميه.
الأستاذ منصور : ما زلتم في البداية ، في المقدمات ولم تصلوا إلى نتائج.
د. نايف : أريد أن أعقب على كلام الأستاذ نجيب: يجب أن نلاحظ أنه حدث في سوريا أواخر سبعينيات القرن العشرين أن واجهت السلطة البورجوازية "القومية" حركات سياسية دينية سلفية عنيفة ، أيضاً لدينا اليوم مظاهرات رجال الدين البوذيين ضد الحكم العسكري في بورما ، وهناك حركات دينية مسيحية كاثوليكية في أميركا اللاتينية مناصرة لليساريين وضد الحكومات المستبدة العميلة للنظام الإمبريالي الأميركي. بهذا المعنى يمكن للبورجوازي داخل السلطة وخارجها أن يستخدم العقائد الدينية والأيديولوجيات الدينية لصالح تحركاته السياسية ومصالحه الاقتصادية.
تعقيب آخر على الأستاذ نجيب: علينا أن نفرق وبوضوح بين المسيحية المهوّدة واليهودية الصهيونية من جهة وبين الإسلام ؛ الإسلام كثقافة يجد نفسه في مواجهة مع الغزو الإمبريالي، مع الغرب الإمبريالي ، هذا الغزو المنشغل بالسيطرة على منابع النفط وعلى مصادر المواد النادرة وعلى وجود دولة إسرائيل والمحمل بعقائد وأيديولوجيات مسيحية مهوّدة ويهودية صهيونية . بعض الحركات الإسلامية السياسية داخلة في مواجهة مع الغزو بأشكاله المختلفة ، لكن علينا أن نقر أن الإسلام غير مهيأ لمواجهة ناجحة تجاه الغزو . على الاشتراكيين أن يتقدموا للمواجهة بتنسيق مع الديمقراطيين والوطنيين ، وعليهم أيضاً الاستفادة من هذه المواجهة بين الغرب الإمبريالي والثقافة الإسلامية.
أ. نجيب: الأيديولوجيا؛ علينا مستقبلاً أن نضع الحد الفاصل بين الأيديولوجيا والعلم . الأيديولوجيا الدينية ليست منفصلة، هي جزء من أيديولوجيا البورجوازية . تريد البورجوازية في سبيل كبح الطبقة العاملة ، وفي سبيل زيادة نفوذها على قوى الكادحين أن تضع الأيديولوجيا الدينية في الواجهة . تتمترس البورجوازيات في العالم الثالث خاصة بالأيديولوجيا الدينية ، لكن هذه الأيديولوجيا الأخيرة هي تيار فقط من تيارات أخرى ، وحاضن هذه الأيديولوجيا الدينية هي البورجوازيات الحاكمة في الوطن العربي . أما الإسلام- الدكتور نايف تفضل وقال : الإسلام يواجه الغرب- [يرد الدكتور بأن المواجهة غريزية فحسب ؛ رد على تهديد الثقافات المحلية من قبل الغزو الإمبريالي] . ( الأستاذ نجيب) أنا أقول شيئاً آخر: الإسلام ليس هو الحركات الصراعية التي نراها هنا وهناك، ليس هو الحوادث المنفعلة في أصقاع الأرض التي تسبب أعمالاً عنيفة ، أنا آخذ الإسلام كقشرة، كفكر ديني فقط ، وكيف يتم توظيفه . البورجوازيات هي التي توظف الدين حتى في الولايات المتحدة الأميركية ، حتى في العالم الأوربي الغربي ، لا أعني غرب وشرق أعني العالم الغربي الرأسمالي في سبيل تأبيد المصالح الطبقية ، دعونا نتكلم بهذا الوضوح. فهذه الأيديولوجيا يجب أن تتأبد لأنها تؤبد المصالح الطبقية لرأس المال أولاً وأخيراً .إذاً فقط أشير إلى أن الأيديولوجيا الدينية ليست شيئاً مستقلاً وإنما هي جزء من الأيديولوجيا البورجوازية في الوطن العربي. هذا يجعلني أقول: في مسألة فهم البنية الاجتماعية لدينا ثلاثة مستويات، اقتصادي وسياسي ومستوى ثالث أيديولوجي .وهذا المستوى الأخير يتم التلاعب به . ثقافة الأمة، ثقافة الدولة ليست شيئاً مستقلاً عن التركيبة الطبقية للمجتمع . ليست هناك دولة فوق الطبقات ، فوق المجتمع. الدولة أداة قمع طبقي بيد الطبقة المسيطرة في سبيل الإبقاء على هذه السيطرة ، فهي تقمع كل شيء ، وتنشط جميع التيارات الأيديولوجية التي تديم سيطرتها . كل صراع طبقي هو صراع سياسي، الصراع الطبقي هو سر الصراع في التاريخ.
د.نايف : لدي تعقيبان، الأول؛ مسألة تحميل العقائد الدينية على حركة الغزو الأميركي الإمبريالي تولد تيارين من الأفكار: الأول يقول: الإسلام هو الحل. وأنا أقول الإسلام ليس هو الحل ولا يمكن أن يكون هو الحل . الإسلام كثقافة يرى نفسه في مواجهة مباشرة مع الغزو ومتاعه المسيحي المهوّد واليهودي الصهيوني. ما أن تظهر صور مسيئة للنبي في أوربا حتى تخرج مظاهرات إسلامية مليونية في أندونيسا ولبنان. الرد غريزي وبسيط . المسألة ليست صراعاً بين الإسلام والغرب الإمبريالي لأن الإسلام كثقافة ليس ضد الملكية الخاصة الرأسمالية. الحل هو تحرك سياسي اشتراكي فعلي يستفيد من كل هذه الإيذاءات و الإساءات والضرر ومن كل هذه "المواجهات الثقافية" التي تسببها الدينامية الإمبريالية وسياساتها في آسيا والعالم.
التيار الثاني : يشابه ويماثل بين التيارات السياسية المسلحة التي تقاتل الغرب والإسلام الثقافي من جهة وبين التحرك الإمبريالي وسياساته. هذه المماثلة تصب الماء في طاحونة الإمبريالية . يجب أن نلاحظ الفرق بين الإمبريالي الغازي والمحتل لبلدان بكاملها وبين المسلم المهانة ثقافته ومحتقرة رموزه الدينية وقد تكون أرضه محتلة ، وهذا الفرق أمر جوهري في التحليل السياسي والاستراتيجي.
تعقيب ثان: حتى نعطي الكلام للأستاذ منصور ، هو تعقيب حول مسألة المطلق والنسبي. قال الأستاذ نجيب أن الماركسية ألغت كل مطلق وأبقت على المطلق الوحيد الذي هو الحركة والتغير.
أضيف هنا نقطة: الماركسية تعترف بالمطلق وبالنسبي ، لكنها تعترف بالمطلق ضمن النسبي ،على العكس من الفكر المثالي والغيبي (الميتافيزيقي) القديم الذي يعتبر النسبي جزءاً من المطلق (لاحظ التأثير الميكانيكي في هذا الفهم). أعطي مثالاً، الخط المستقيم له قوانين وهذه القوانين مطلقة ضمن حدود الخط المستقيم ،لكن ما أن نتجاوز الحد إلى الخط المنحني حتى تغدو هذه القوانين نسبية وحتى خاطئة ، مع أن المستقيم جزء من المنحني. إن تجاوز الحد ينقلنا إلى مطلق آخر أكثر اتساعاً ورحابة وهو قوانين المنحني. هكذا تعترف الماركسية بمطلق ضمن حدود معينة وضمن مكان محدد وزمان محدد . كذلك الأمر بالنسبة للمثلث القائم كحالة خاصة من حالات المثلثات. كلما حصرنا أكثر حصلنا على معرفة مقاربة ودقيقة أكثر فأكثر للظاهرة أو الواقعة .أما عندما نتجاوز الحدود ونعالج الظواهر بشكل منفلش ندخل في النسبي ونحصل على معرفة غير دقيقة وحتى غير صحيحة. لذلك الماركسية تفهم المطلق في النسبي وليس العكس.
أ. نجيب: جميل، كلمة واحدة أقول : مجموع الحقائق النسبية تعني المطلق ، وهي علاقة جدل لا تنتهي . وحين أقول أن ماركس رفض المطلق أعني بذلك أنه رفض هذا الوهم المثالي الغيبي .
د. نايف: هناك ندوة في القريب حول الديالكتيك
تفضل أستاذ منصور
أ. منصور : بدعابة – في رأيي أن تتكلم عن الديالكتيك ، لم تترك شيئاً لم تتكلم عنه!.
أ. منصور: أريد أن أقول كلمتين، أريد أن أعود إلى الماركسية في علاقتها بالدين: الدين ظاهرة من الظواهر الاجتماعية التي تناولتها الماركسية بالدراسة والتحليل . في حوار سابق مع الدكتور نايف والأستاذ نجيب استشهد الدكتور نايف بكلام لماركس يقول: "الدين خلاصة النضالات النظرية للبشرية والدولة خلاصة نضالاتها العملية ". لذلك إن الفهم الذي يرى أن الماركسية تتصدى للدين فهم خاطئ ، وأن كل دين هو عميل للبورجوازية وللسلطات الحاكمة قول يراد له أن يصل إلى عقول العمال وهذا خاطئ أيضاً .
قال ماركس في (مقدمة نقد فلسفة الحق عند هيغل) : "الدين أفيون الشعب". لقد طرحت وقتها بمعنى المديح، لقد كان الأفيون مكتشفاً حديثاً كمخدر جراحي ومسكن آلام.. وكم نرى الكثير من السعادة في أحياء بائسة مردها إلى الدين .
من وجهة نظر اجتماعية : ليس كل دين خادم للبورجوازية أو لسلطتها. يجب أن ننظر إلى المسألة من وجهة النظر الاجتماعية . مثال ذلك النظام السعودي يتبنى المذهب السني ومع ذلك أيد احتلال العراق بينما سنة العراق وقفوا في معظمهم ضد الغزو والاحتلال كذلك الأمر بين بعض شيعة العراق الذين أيدوا الاحتلال وبين أغلبية الشيعة في لبنان الذين واجهوا الاحتلال الإسرائيلي بقوة ولهم موقف مماثل من احتلال العراق. فهل المنطلقات دينية أم هي اجتماعية سياسية معقدة. نحن ننظر إلى الدين بوظيفته الآنية بما ينسجم مع مجمل التطور ، فصراعنا ومعركتنا ليست مع الدين هكذا بالتجريد ، بل مع القوى الاجتماعية والسياسية المضادة . كان على المتحاورين أن يقدموا فهماً يخفف من سيادة الفهم الخاطئ للدين ، أن يصحح الفهم الخاطئ لشكل تعاطي الماركسية مع الدين .
عندما يطرح بوش الحرب ضد "الإرهاب" كحرب صليبية ، نأخذ نحن هذا الكلام من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية . فقط من خلال البحث الاجتماعي السياسي نصل إلى فهم صحيح للدين وموقعه كأيديولوجيات ومعتقدات في الصراع. لا نريد العودة بالقضايا إلى الماورائيات . وجهة نظري ، شكل تناول الدين في الماركسية ما يزال غامضاً وغير كاف كما طرحته الندوة . الدين حمّال أوجه ، في نظام رجعي، تبني الدين معرقل للتقدم ، في سياق آخر، تبنيه قد يدعم هذا التطور.
د.نايف: هذه الندوة حلقة في سلسلة ندوات ، والحديث عن الماركسية والدين لم ينته بعد.
الكلام الذي تحدث به أ. منصور مهم وأعطى أمثلة حول ذلك. يجب تفسير أية ظاهرة دينية بالشروط الاجتماعية السياسية وليس العكس . يتوجب عدم تفسير الفكر الديني و مظاهره بالفكر الديني نفسه ، عدم تفسير الدين وتحرك الظواهر الدينية على أنها مسألة دينية بل مسألة سياسية واجتماعية بامتياز.علينا مراقبة الشرط وملاحظته ودراسته لتحديد موقع التمظهرات الدينية بدقة ضمن هذا الشرط .
أ.نجيب: الدين كنص ما كان يوماً إلا ضمير أمة ، لكن حين ينخرط الدين في المعترك السياسي تبدأ الحكاية .الدين النص شيء وهو ضمير أمة ويتوجب نقده ، والدين السياسة شيء آخر داخل في الصراع . الصراع ليس ضد الدين كنص هذا موضوعه النقد . الصراع مع الدين – السياسة ، ضد استلاب الإنسان ، ضد رأس المال وجشعه ، ضد أعداء البشرية مدبري الحروب ، ضد هذه القوى التي لا تشبع ، ليست المعركة لا مع إله ولا مع ضمائر.
أردنا أن نقارب هذه المسألة لغرض بسيط ، أن نفكر تفكيراً علمياً مادياً سليماً ، لكن هناك جانب روحي يريد أن يستريح فيقيم الفرد من خلال ذلك علاقة بينه وبين مطلق هو الله ، والذي يرمز إلى المحبة والسلام والعدل، الخ.. ، ولا يشبه الإله اليهودي "يهوه" المدجج بالسلاح . الدين ضمير ، لكن حين يغدو الدين سياسة تبدأ اللعبة القذرة و يتلبس أمر الدين.
حين قلت أن السلطات البورجوازية في العالم ورأس المال يريد أن يؤاخي الدين فذلك لا حباً بالدين ، هي مظلة ، متراس سلاح يحاول أن يقاتل به وبضراوة كل فكر علمي مادي ، وهو الفكر الاشتراكي . لماذا يستخدم الدين هذا الاستخدام الرديء ، ألأن الرأسمالي يحب الإله أكثر من العامل ، أ لأن هذا الخالق هو خالق الرأسمالي ولا يخلق الفقير ، طبعاً لا . المسيحية تقول : لا يدخل غني ملكوت السماوات أكثر من دخول جمل في ثقب إبرة .الصراع مع رأس المال وليس مع الدين ؛ المعركة هنا وليست هناك . لكن يريدون تصويرها هناك؛ مع الدين تعمية وتضليلاً . قالوا الماركسية ضد الإله، وضد الدين وضد كل المقدسات لدى البشر . أنت أيها الرأسمالي الجشع مع كل هذا ، أنت تخرق الإله وتعاليمه في اليوم ألف مرة ، أنت حين تقتل وتجوع وتنهب و تحرق وتقذف بالخيرات في البحار وتحرم الجائعين منها ، أنت تعمل بوصايا الله !؟ علة البشرية الكبرى هي سيطرة رأس المال على مصيرهم وحياتهم ، ولا تحرر للإنسان إلا بتحرره الاقتصادي . التحرر الاقتصادي هو الكفيل بأن يحرر الإنسان اجتماعياً وثقافياً . من يملك السلطة في العالم كله، من يملك القرار الاقتصادي يملك القرار السياسي ، صح إن العامل السياسي أو المستوى السياسي هو مستوى مسيطر في البنية الاجتماعية ، لكن العامل المحدد المرجح هو العامل الاقتصادي. ليس الدين هدفاً يتوجب إسقاطه هذه كانت قبل الماركسية فريق من الماديين، جيل من الماديين قبل الماركسية سعت لإسقاط الدين ، وتعتبر نقد الدين هو منتهى كل شيء و نهاية المطاف. جاءت الماركسية و وضعت الأمور في نصابها لتنقد ذلك وتعتبر نقد الدين مدخلاً . اعتبر ماركس الدين تياراً أيديولوجياً تستخدمه البورجوازية كما سبق .
د.نايف : لذلك حتى لا يُفهم الأستاذ نجيب فهماً غير صحيح نحن هنا في سياق طريقة التفكير الديني وليس ضمير المتديّن. النقد الذي قدمته الماركسية هو نقد طريقة التفكير الديني، هذه فقط . إذا أردت أن تفسر الواقع وتبحث عن حقيقته عليك بالتخلي عن طريقة التفكير الديني .اعتماد الديالكتيك ونبذ التفكير الوضعي الديني؛ نبذ المثالية الدينية. إذن نقد الدين هو نقد طريقة في التفكير، الجبل خلقه الله، الأوبئة أبادت ربع أوربا ، لم تستطع الآلهة القضاء على الفيروسات والجراثيم حتى جاء باستور مشكوراً واكتشف العامل الممرض واكتشفت اللقاحات ضد الأوبئة. لذلك نقد الدين عند ماركس هو نقد طريقة في التفكير، نقد فهم مقلوب للأمور وليس الهدف محاربة المتدينين . ليس هدف الماركسية نزع دينية الإنسان ولا مطاردة الآلهة في الوديان والغابات، الهدف هو نقد هذه الطريقة في التفكير التي تبعدنا عن التفكير العلمي بالمعنى الماركسي ، أي علم الديالكتيك ، وعلم التاريخ.
أ. منصور: النقد ليس له معنى التقويض والتهديم بل يحوي معنى التجاوز والاحتفاظ

نعرض هنا أسئلة الأصدقاء الحضور ومداخلاتهم:

الأستاذ منصور : من يريد أن يسأل سؤالاً أو يداخل فليتفضل :
عارف: هل أفهم أن وصية الندوة أو توصيتها هي العودة إلى محاباة الدين؛ العودة إلى الدين؟
الأستاذ منصور : لا، على العكس ، المطلوب كيف نتعامل مع الظواهر الدينية في ظروف كظروف منطقتنا العربية .
صديق1: إذا كان الدين عبارة عن ظاهرة بشرية (من صنع البشر) ، هل النقد أو إعادة التقييم ينصب على الفكرة الدينية بحد ذاتها أم ينصب على الفهم الديني ، الفهم الخاطئ للفكرة الدينية؟ بكلام آخر ، إذا كان الدين قد تم تشويهه ؛ شوهه الناس فهذا يحتاج إلى مقولة أخرى. أما إذا كان الدين بحد ذاته فيه إشكال فهذا أمر آخر . أتمنى التوضيح. حتى لا نخلط الأوراق يوجد فرق بين الدماغ والفكر ؛ الدماغ هو الوعاء ، وعاء الفكر . يمكن إجراء عمليات ملموسة فيزيائية حسية على الدماغ ، أما الفكر فإصلاحه مختلف ؛ معنوي .
د. نايف: الأستاذ منصور ، أتمنى أن يكون نقاش كل مداخلة أو سؤال من الأصدقاء الحضور منفرد ، أي لا يفضل التعامل مع الأسئلة والمداخلات بشكل إجمالي ، أنا مع التفصيل والتدقيق في كل سؤال أو تساؤل.
صديقنا يطرح التساؤل التالي: النقد أو إعادة التقييم موجه إلى هذا الدين بنصه أم إلى هؤلاء المتدينين؟
أقول: النقد قصده طريقة التفكير الديني من حيث تعتمد أساساً على التمثيل؛ تمثيل الحقيقة. جاء في القران الكريم: "نحن نضرب الأمثال للناس لعلهم يتفكرون" يمكن في الفكرة الدينية أن تضرب مثلاً أي شيء ليشير إلى عظمة الخالق وحكمته الخ.. من النملة إلى الجبال إلى الكواكب والأفلاك. لكن هذا ليس علماً بالمعنى الحديث . التخصيص والتعيين والحصر من سمات العلم الحديث . أريد دراسة الجسم البشري أشرّح هذا الجسد . أريد دراسة الفيزياء النووية أدرس الذرة على سبيل التعيين والحصر. الفكرة الدينية تضرب مثل الجسد الإنساني والذرة معاً ليدلا على عظمة الخالق ! هذا ليس علماً بالمعنى الحديث للكلمة. نقد الدين؛ نقد الطريقة الدينية في التمثيل ونقد شكل التفسير الديني هو القصد وهو الهدف من نقد الدين.
أما الفكر الديني اليومي والنفاق الديني اليومي والأكاديمي ، وما يتصف به من التبرير والابتذال فهذا بحاجة إلى النقض والتهديم والتشهير إذا اقتضى الأمر وهذا ما قام به الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه "نقد الفكر الديني"
أ. نجيب: نقطة البدء ، أيهما أسبق في الوجود المادة أم الوعي، الفكرة أم الكائن؟ علمياً ؛ مادياً المادة أسبق ، والوعي إنتاج المادة ، وليس العكس. علمياً ، المادة تسبق الوعي . هذا "المطلق " منتج بشري. الدين نص وتعاليم . النصوص المحفوظة جاءت في فترة تاريخية محددة ، وفي بنية اجتماعية محددة ، بشرط الزمان والمكان ؛ بشرط البنية .اليهودية والمسيحية والإسلام مرتبطة كل منها ببنية اجتماعية محددة وبشرط تاريخي محدد . وهذه الأديان هي الترجمة الحرفية لحقبة تاريخية ما . الدين تاريخي بالمعنى العلمي للكلمة .البشرية تغير أديانها كما تغير أزياءها ، وكما تغير أنماط تفكيرها.
الفكر العلمي أجرى هذه النقلة النوعية ، بدل أن يدور الإنسان حول أوهامه بدأ يدور حول شمسه الواقعية كما قال ماركس.
إذا أردت أن تحتفظ بالدين كثقافة ووجدان فأنت حر ، لكن أن تجعل منه دستور حياة ، هذا ما يعترض عليه الفكر العلمي. أن تجعل من الدين نظاماً سياسياً ، هذا انتكاس إلى الوراء . حين تقول هذا الواقع المادي موجود خارج ذاتي ولا يحتاج لذاتي كي ينوجد فأنت مادي . أما أن تقول : لو لم أر هذه الطاولة وأحس بها لما وجدت فهذا فكر مثالي يمكن أن نمر على ذلك لاحقاً .
الإسلام شيء والمسلم شيء أكيد. الماركسية شيء والماركسي شيء هذا أكيد. الجهاز النظري يعين نماذج ، وصانع الفكر النظري بقدر ما يقترب في الممارسة و السلوك من النموذج تتحقق صدقيته. لا ندعو أحداً لكي يكون قديساً أو شيطاناً . حين ننتقد فكراً يجب أن ننقده من موقع اختلاف لا من موقع تماثل. الفكر الغيبي فكر تماثل ولا يحيل إلى الاختلاف. الفكر العلمي المادي نقيض لكل علاقات الإنتاج السائدة . وهو ينفي علاقات الإنتاج الرأسمالية نفياً قاطعاً. أذكر كلمة لجان جاك روسو : لعن الله أول من أمسك بغصن شجرة وقال هذا لي" . معنى ذلك أنه مع نشوء الملكية الخاصة نشأت شرور الإنسان وعجلة الصراع ، وهذه الشرور لا تنتهي إلا بانتهاء الملكية الخاصة.
صديق1 : الطاولة موجودة بمعزل عني ، لكن هي الواقع المادي المتجسد للفكر الذي فكرت به ؛ الفكرة هنا متجسدة بشكل مادي . هنا الفكرة تسبق الواقع ، تتجسد واقعاً.
أ. نجيب: علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة جدل لا تنتهي . لكن أقول هذا موجود خارج ذاتي ، بمعزل عن ذاتي . الإنسان يدخل في علاقة جدل مع الطبيعة. الدماغ له تاريخ . الدماغ عضو التفكير .الفكر واقع مادي يتفكر في الدماغ ، ينتج فكراً في الدماغ ثم تعود الفكرة لتتفاعل مع الواقع. لكن الدماغ لا ينتج الفكر كما الكبد تفرز عصارتها ، هناك جدل . تسلسل وتركيب علمي منطقي. الفكرة تسبق المادة . لما كانت هناك فكرة الطاولة ، كانت هناك طاولة ، علاقة الكائن مع الوسط ، الفكرة لا تأتي من العدم.
د. نايف: هذا سؤال هام وهو من القضايا الإشكالية حتى عند بعض "الماديين" ؛ مسألة الفكر استباق للواقع؟ أنا أنتج طاولة لم تكن موجودة كشكل من قبل!؟ أنا خلقت طاولة !؟ فكري خالق لشكل الطاولة !؟ هذه ميزة للدماغ الإنساني . الفكر ليس منفعل سلبياً بالواقع. الفكر فاعلية ، فاعلية المفهوم المتخذة هدف. الدماغ البشري لديه قابلية التذكر والربط بين عدة عناصر وعدة دالّات. الإنسان هو الكائن الوحيد بين الحيوانات الذي يستطيع الربط بين الدالات بقوة التذكر. الحيوانات الأخرى تتعامل مع دالات منفصلة . فإذا شكل الفرد فكرة عن الأشكال المنحنية ، وبعد زمن شكل فكرة عن الزاوية الحادة ، ثم عن الدائرة وهلمجرا يمكنه بعد وقت وفي شروط معينة ومدروسة أن يبدع أشكالاً جديدة غير موجودة في الطبيعة كالطاولة وغيرها أو يتخيل كائنات خرافية كالحصان المجنح الخ..لكن هذه المخلوقات وعند صنعها ما هي إلا تحويل لشكل في الطبيعة إلى شكل مبتدع جديد بقوة الربط الدماغية (العقل) وقدرة التذكر. وعقل الدابة ربطها وفي المثل : أعقلها وتوكل. إن فاعلية المفهوم تجعل الدماغ البشري يبتدع أشكالاً جديدة ، وهذا مختلف كمفهوم عن مسألة الاستباق في الفكر الفلسفي التي ترجمتها الأصح هو الحدس الفكري أو الظن والتخمين الخ..anticipation الفعل الإنكليزي anticipate يعني التوقع أو الحدس ، وهذا يدخل في دائرة الظن لا العلم اليقيني .
أ. نجيب: ما دام الإنسان في هذا الكون هناك جدل لا ينتهي بين الإنسان والطبيعة .
أ. منصور : بخصوص مسألة التأويل في الفكر الإسلامي، هناك ابن تيمية وهناك حسين مروة وآخرون
نبيل: أريد أن أسأل بخصوص النص الديني كقضية مطروحة للقراءة في الفكر العربي؛ أي إعادة إنتاج الفكر الديني نقدياً على مستوى الفكر العربي. وإنجاز بنية نظرية جديدة أو الغوص أكثر في التراث وإعادة إنتاجه.
د. نايف: الإسهام في نقد التراث ، هذه قضية كبيرة ومهمة من مهمات البحث والنقد الماركسي والديمقراطي . المهمة تتلخص بنبش كل ما هو فعال ونابض في التراث ورمي ما تبقى. هذا الفعل النقدي في التراث العربي ما يزال في بواكيره . نقطة أخرى مسألة الاستعارة من عالم الدين وصياغاته ، أي استعارة عبارات جيدة الصنع من الفكر الديني لتوضيح مسائل وقضايا معاصرة ومحدثة. نأخذ مثالاً: فالح عبد الجبار مفكر عراقي معروف ومهم وصاحب تآليف وترجمات هامة منها ترجمته لجزء من رأس المال لماركس. له دراسة في مفهوم الاغتراب. يتحدث خلالها عن مراحل النفي عند هيغل: .. عندما يصل النفي إلى المرحلة الأخيرة يقابل بالكلمة العربية ؛ (التجاوز) يستخدم فالح عبد الجبار بدلاً منها كلمة (الرفع) القرآنية : "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا." في سياق قصة يوسف يظهر أن رجوع فالح عبد الجبار إلى كلمة الرفع حدسية بما يتعلق بالقصة القرآنية وهذا واضح من السياق . رفع أبويه : أي رفع كل ما هو طيب ونابض في التراث إلى مستوى العصر ؛ رفع الفكرة الطيبة في التراث إلى مستوى العصر الراهن ، وخروا له سجدا أي أخوة يوسف وهذا رمز إلى كل ما هو فائت في التراث وخبيث. هذه المهمة ما تزال في البواكير وهي راهنة ومطلوبة من الماركسيين ومن الباحثين ذوي النزاهة ومن الديمقراطيين العرب.
أ. نجيب: الفكر العربي اليوم فكر مأزوم ، وأزمته من أزمة البورجوازيات العربية . التي تعيش تناقضاً مأزقياً متجدداً. الفكر العربي مأزوم وهو فكر البورجوازيات العربية ، وأقصد بالفكر العربي الفكر السائد في المدارس والجامعات التي تقدم نفسها كمدارس للفكر العربي . هذه المدارس وتلك الجامعات التي هي منابر لترويج فكر البورجوازيات الحاكمة . وهي مراكز لإنتاج أيديولوجيات الطبقات المسيطرة في الوطن العربي. الفكر العلمي كي يتأسس في الفكر العربي لا يمكن أن يكون من داخل الجامعات ولا من داخل المدارس ، لا بد أن يكون في معمعان النضال والممارسة . هذا قدر الفكر العلمي هنا ، كفكر نقيض . أزمة الفكر العربي هو أزمة هذه البورجوازيات . وبذلك كي يتحرر الفكر العربي ويخرج من أزمته لا بد من أن يخرج من كنف هذه البورجوازيات الرثة.
الماركسية حين قدمت نفسها ، قدمتها لا على أنها استمرار وتواصل للتقاليد والطرائق القديمة السابقة ، بل قدمت نفسها على أنها حققت هذا القطع المعرفي ؛ هذه القفزة النوعية في مجال الفكر والنظرية . مطلوب من كل الشرفاء في الفكر العربي رواد الفكر العلمي الحقيقي النهوض بهذا الدور .
ما قيمة هذه المعرفة التي نتمتع بها ؟ حققناها لنتسلى بها ، لنقول نحن أنتجناها ؟ لا ، يتوجب أن تكون هذه المعرفة رافعة كما قال الدكتور نايف للفكر وللحياة المادية. نحن نتوخى من كل هذا الجهد تغيير واقع الإنسان العربي لا تفسيره فحسب، وهذا التغيير يمر حكماً عبر تغيير نمط التفكير العربي السائد . لأن الفكر السائد فكر مأزوم وهو فكر البورجوازيات السائدة ، حيث يطغى عليه الطابع السلفي. نريد أن نؤسس من خلال النضال لفكر علمي تاريخي مادي يقرأ التاريخ بعين تاريخية ، ولا تقديس لنص.
مناف: فهمت من الكلام أن الفكر الديني هو فكر البورجوازية ، وكان قد قيل أن الأقوام السامية أنتجت كل هذه الديانات التوحيدية؟! لماذا لا نقول أن أفراداً بورجوازيين منعزلين ومأزومين يقومون بالمطالعة والتفكير وينتجون هذه الأفكار الدينية ، وهذه الأفكار المأزومة. دائماً الإنسان بحاجة للدين ، لا أتكلم عن الدين كحاجة اجتماعية ولا كحاجة تغييريه ، أتكلم عن الدين كفكرة فردية بحد ذاتها ، كإنتاج لأفراد وحالات معزولة .
د. نايف: السؤال، كيف نفسر استمرارية الدين والعبارة الدينية عبر تشكيلات تاريخية مختلفة؟ تفسير استمرارية العبارة الدينية والدين كطريقة تفكير ؟ القرآن حمال أوجه كما قال الإمام علي. العبارة الدينية تتميز بعمومية شديدة وبمجازات مرسلة تصلح لأوقات مختلفة. كل مرحلة تاريخية تعيد إنتاج الدين والفكر الديني حسب مصالحها ؛ مصالح الطبقات السائدة فيها. الدين ملحق دائماً بشرط اجتماعي وتاريخي محدد . كيف يعد الشرط إنتاج الدين والفكر الديني ، هذه مسؤولية الفكر العلمي ؛ الديالكتيكي المادي. الفكر العربي في الخمسينات والستينات كان مشغول بالفكرة القومية كما طرحتها الأحزاب البورجوازية القومية (البورجوازية الصغيرة؛ بعثيين وناصريين وغيرهم) . لم يكن التدين في سوريا في الستينات وحتى منتصف السبعينات بهذا الانتشار الكبير . في الخمسينات حتى الأخوان المسلمين كان فكرهم يحمل "لوثة" اشتراكية على يد مصطفى السباعي مراقب أخوان سوريا في تلك الفترة. اليوم الفكر القومي نكس وتدين ، أضحى مملوء بأفكار دينية. وهذا بسبب انحطاط دور البورجوازية الصغير وتحولها إلى بورجوازية كولونيالية تابعة ورثة في الكثير من الأقطار العربية.
الفكرة الدينية فكرة يعاد إنتاجها باستمرار وفق الشروط المستجدة والفترات التاريخية المحدثة، ووفق احتياجات هذه الفترات التاريخية. وهذا لا يعني أن الفكرة الدينية لا تنتج إلا في كنف البورجوازيات السائدة ، لا بل يمكن أن تعيد إنتاجها حركات سلفية ظلامية وعنيفة محاربة لهذه السلطات أو تعيد إنتاجها حركات بورجوازية صغيرة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي أو الأميركي.
بالنسبة للصديق مناف أقول: الدين ليس شأناً فردياً في النتيجة، الدين شأن اجتماعي بامتياز ، وانتشاره وانحساره؛ أي حركه مده وجزره محكومة بالشرط الاجتماعي والسياسي والدولي ، تماماً كما يحكم القمر بحركته المد والجزر . حتى عزلة الأفراد يفسرها الشرط الاجتماعي والسياسي والدولي (تقدم سيطرة الإمبريالية وميلها للغزو والاحتلال المباشر لبلدان بكاملها). الدين ظاهرة اجتماعية لكن كيف يتمظهر فهذا أمر آخر : قد يتمظهر حزباً سياسياً دينياً أو مؤسسات خيرية أو متعبد فرد بوجدانه المنعزل هذه قضايا واردة وصحيحة.
مناف: تكلم عن الإطلاق، الدين فكر مطلق . الذي أوصل الإنسان إلى هذا الحد هو الفكر البورجوازي (ناتج احتياجات البورجوازية ) هذه النظريات الدينية لها توظيفاتها وتطبيقاتها ، لكن الحضارات السامية هي التي أنتجت الديانات التوحيدية الكبرى.
أ. نجيب: البورجوازية لم تنتج ديناً ؛ بقول آخر : ليس الدين منتجاً بورجوازياً . المدخل إلى حوارنا كما أسلفنا أن الشعوب تباينت في إنتاج الأديان حسب شروط حياتها الواقعية. لماذا اهتدى الساميون إلى التوحيد وهم بدو رحل، بينما بقيت شعوب متحضرة كالرومان واليونان والفرس في كنف أديان تعددية وثنية أو شبه وثنية. لم يكن أيام اخناتون ومحمد بورجوازية .
الإنسان في مرحلة من مراحل تطوره رأى أن هذا الوجود بحاجة على تفسير ، أراد فض الغاز الكون ، أراد أن يجيب عن أسئلة طرحتها الطبيعة كالرعد والبرق والبراكين. قدم أجوبة عبر الفكر الديني ، عبد الشمس والرياح والقمر . اليونانيون والرومان عرفوا فن البناء .
أرجع إلى الشرط المادي الذي تكلم عنه الدكتور نايف . البدو الرحل ، أعرج على الكعبة ، وأن البدو من العرب عرفوا الأصنام والمنحوتات والمعابد، ومع ذلك اهتدوا إلى التوحيد؟! أقول: الساميون من العرب والهكسوس والإسرائيليون قوم رحل ليس من مصلحتها أن تحمل آلهتها وأصنامها طوال الوقت ، أصنامها الرديئة .
الاقتصاد السياسي للرومان واليونان ؛ هناك معابد وكهنة وسدنة يشرفون ويديرون هذه المعابد ويتقاضون أجورهم من الطبقات الحاكمة ، لكي يبقون الشعب والعوام تحت السيطرة ومن هنا ارتبطت مصالح الكهنة بمصالح الحكام والسلطات الحاكمة.
طبيعة الحياة تبقي ما هو صالح وتنفي ما ليس بصالح ؛ بدل نقل الإله من مكان إلى آخر ، هذا حصل عبر سيرورة تطور حياة البشر وضمن منطق الفكر.
البورجوازية المعاصرة وقبلها الإقطاعيون استثمروا ما هو جاهز ، أذلوا الناس بالدين ، لا لأن الدين أراد إذلالهم، استخدموا الدين كأيديولوجيا ضد مصالح الفقراء.
مناف: أخيراً، فهمت أن التجريد حالة متطورة في الأديان . المفكرون نتاج مجتمعاتهم ؛ أفلاطون يعبر بطريقته عن مجتمعه ، ومنظر إسلامي يعبر عن مجتمعه وبطريقته أيضاً .
أ. نجيب: هذا الفرد العبقري هو نتاج تاريخ طويل ومجتمع وعلاقات اجتماعية مركبة جداً. النص يجب أن نغير النصوص طالما الحياة متغيرة.
د. نايف: مناف يلمح إلى ديالكتيك الجمعي والفردي؛ يمر الجمعي/ الطبقي عبر الفرد فيخرج على لسانه قولاً هو كلام فرد. أنت حين تتكلم تعبر عن مصالح الطبقة في الحقل الأيديولوجي ككلام لفرد . الفرق بين الحديث النبوي وبين النص القرآني أن الأخير يعبر عن نفس الأمر ، أي عن حقيقة مصلحة الجماعة البشرية المتقدمة نحو انجاز مصالحها ودورها التاريخي في التغيير والانتقال من القبيلة إلى الدولة.
أ. منصور: البورجوازية عملت ثورة ، هذه الثورة فصلت السياسة عن الدين ، لذلك كان دور البورجوازية هناك غير دورها هنا عند العرب .
تقدم نقد الفكر الديني والتنوير مع تقدم الوضع الاجتماعي والاقتصادي والعملي وتراجع مع تراجعه. هناك قراءات جديدة بدأها طه حسين ، قراءات تحررية للدين ، ثم جاءت كتابات مهمة جداً كقراءة نصر حامد أبو زيد .
جاءت الهجمة الإمبريالية على المنطقة العربية وتطور الآن فكر سلفي وتراجعنا ، يمثل فكر القاعدة هذا النموذج الرجعي . مع التراجع الاجتماعي في المنطقة تراجعت القراءات التحررية للدين.وتراجع البحث العلمي وتراجعنا. لكن ، هل الدين واحد في كل مكان؟ الإسلام في تركيا يعمل ضمن نظام علماني يمثل بورجوازية قادرة ، وفي إيران أعمل النظام السياسي الديني نهضة اقتصادية إلا أن الأحادية ستدمره. الظاهرة الدينية الحالية تراجع عما سبق ، يوجد الآن أزمة اجتماعية .
مناف: الدين ما يزال في جدل مع نفسه ، لذلك لا يتطور ، هو فكر أشخاص.
أ. نجيب: عامر تحدث عن المسيحية المهودة والأدق المتصهينة. ظاهرة المسيحية المتصهينة . أما المسيحية المهودة فهذا تحصيل حاصل؛ فمن رحم اليهودية جاءت المسيحية و من رحمهما جاء الإسلام. بعض الكتاب يتحدث عن اليهودية المتصهينة . إن الغرب ونحن لا نقصد الغرب بالمعنى الجغرافي بل الغرب الرأسمالي هو الحاضن الطبقي للفكر الصهيوني. هناك خطأ شائع مفاده أن الصهيونية هي التي تدير البيت الأبيض ، الصحيح هو العكس . الإمبريالية تقود الصهيونية ؛ النظام الإمبريالي العالمي ينتج الصهيونية والفاشية والإسلام السلفي العنيف . الفكر العلمي يعاني كثيراً في منطقتنا حين يواجه هذه التيارات الأيديولوجية .
الحكاية تكمن في كيف يوظف الدين من قبل الرأسمال.
صديق2 : أنا أقوم بنقد المقدس (القرآن الأناجيل ) ربما نقد عميق وقد أسقطه على أرض الواقع وهو قائم من 1400 سنة. مثال كلام أبو زيد أن النص المقدس كان محفوظاً عند رب العالمين في اللوح وعندما نزل إلى الأرض أصبح منتج تاريخي .
النقطة التالية أن المجتمعات لدينا يؤمن الأفراد فيها بالغيبيات. العملية- بغض النظر عن الاقتصادي والاجتماعي – لدينا معركة على المستوى التنويري.
د. نايف : خصوصية الشرق والصدام بين الماركسية والدين . أقول في هذا السياق : النقد ليس إسقاطاً وقراءة النص الديني المقدس وغير المقدس ليس إسقاطا وليست نقضاً . في الثلاثينات من القرن العشرين هناك كتاب "الفن القصصي في القرآن" ، وكتابات علي عبد الرازق وطه حسين وكتاب "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل وغيرها ومن ثم كتابات حسن حنفي وأبو زيد و محمود سيد القمني ، هذه القراءة للنص ليست إذاً نقضاً بل إحياء ما هو نابض في هذه النصوص ودمجه بالعلم الماركسي الجديد و المعاصر.
مفهوم الرفع الذي سبق ذكره هو قراءة . النص القرآني خبرة تاريخية ، وخبير بالانقلاب التاريخي والقطع السياسي ؛ بل هو برنامج هذا الانقلاب التاريخي، خبير بالإنسان وبشروطه . مثله كمثل قراءة رأس المال لماركس ، بالضرورة سوف يتم إسقاط قضايا تاريخية ولى زمنها وكتبت بناء على معطيات القرن التاسع عشر، لكن رأس المال يبقى كتاباً خبيراً ويحوي الكثير من الأمور النابضة والطيبة كالقرآن.
رابطة العمل الشيوعي في سوريا في أواخر السبيعنات وأوائل الثمانينات كانت إذا ما لاحظت شاباً لديه ميول يسارية كانت تضع عند باب بيته أو غرفته جريدتها "الراية الحمراء " دون علمه ، كانت تغبنه وتورطه بقضية لا علم له بها ! هذا الدرس التنظيمي الخاطئ قد يولد وسيولد بالضرورة ردود فعل مضادة ومعاكسة للغاية المرجوة . لو تم الانتباه إلى الدرس التنظيمي في القرآن الوارد في قصة يوسف وهو: حيلة يوسف في إبقاء أخيه بنيامين عنده بوضع السقاية (طاسة كان يشرب بها يوسف) في عدل أخيه : "فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيها العير إنكم لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون(71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا له زعيم(72) ... فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم (76)"حين وضع يوسف الصاع في رحل أخيه واتهمه بالسرقة من أجل أن يبقيه ويأخذه في دين الملك جاءه العتب واللوم الإلهي : ما كان ليوسف أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله" . لا يجوز أخذ أحد من الناس في مبدأ فكري أو حزب سياسي بالحيلة والغفلة ، بل لا بد من الحجة والإقناع والوعي بعواقب هذا الأخذ.
إذاً نقد النص القرآني لا يعني إسقاطاً له ، بل إحياء لدروسه الطيبة و الأصيلة، وهو تكريم له. وقد قال مهدي عامل مرة : نقد أعمالي إحياء لها. جبل من القراءات القرآنية في التراث العربي أبقت هذا النص حياً وأعطته هذا الجبروت المعاصر. أما ما عفى عليه الزمن فهو ساقط مثله كمثل أخوة يوسف حين خروا له سجدا. أنا أتكلم هنا كماركسي ولا أفكر هنا بالمعتقدات والعقائد. ليس فعلي النقدي كماركسي فعل تقويض للنص المقدس أو إسقاط دوغمائي إجمالي، بل إحياء وتكريم ونبش كل ما هو طيب ونابض ودمجه بالعلم الماركسي الجديد والمعاصر.
أ. نجيب: مثلما الفكر العربي مأزوم هناك أزمة بديل عند المثقف المعاصر. خصوصية المجتمع العربي مرتبطة بكونية النظرية . الخصوصية تعني الكوننة و الكوننة تعني الخصوصية ؛ علاقة جدل . بالتالي أقول : حركة التحرر الوطني العربي هي حركة تحرر طبقي ، وهذا تميز . النظرية الميكانيكية تقول: الصراع الوطني أولاً ثم يليه النضال الطبقي ثانياً .الصراع الطبقي والصراع الوطني لا ينفصلان وهذا تميز الماركسية في الوطن العربي. النضال الوطني والنضال الطبقي لا ينفصلان في الوطن العربي وهذا تميز في الكونية. لا نخرج بحجة الخصوصية خارج التاريخ ، و لسنا أمة شاذة وغير مقروءة وغير قابلة لأن تقرأ.
بهذا الشكل يكون إخراج الظاهرة من منطقها خطأ. هناك منطق للفكر . أن أآخي بين الماركسية والدين خطأ مميت . ركزنا عبر الحوار أن نقد الآخر يكون من منطق الاختلاف لا التشابه. هنا تربة مادية علمية ، وهناك تربة دينية مقدسة . حضارتنا حضارة النص ؛ النص في ثقافتنا التراثية مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هذا منطق إيماني دوغمائي ، ومنطقنا الماركسي منطق شك من أجل الوصول إلى اليقين. عليك هنا أن تتحرك على تربة مادية علمية تاريخية . النص تاريخي ومرتبط ببنية اجتماعية تاريخية محددة في الزمان والمكان . لكن أن انتقد الدين بالدين؛ أن أنتقد مقولة دينية بمقولة دينية هذه مغالطة.
الشخص الذي هو في موقع ماركسي علمي حين يتحاور مع ليبرالي رأسمالي ، يحاوره في حقله يكون قد سقط وتم الاستيلاء عليه . لا حسن نية في الحوار . نتعامل مع الدين بجدية كبيرة. أما أن نشهر السلاح بوجه الإله فهذا ليس في مصلحة الكادحين . أريد أن أحرر هذا الإنسان من العبودية والقمع والعسف والاستغلال ، وأحافظ على حقوقه وشرفه. على الاشتراكية أن تفعل ذلك للإنسان.
لو كانت اليهودية والمسيحية والإسلام قادرة على ذلك لفعلت من قبل. النص الديني مولود بيئة وبنية اجتماعية معينة ، نحن بحاجة إلى فكر جديد وعلى البشرية أن تغير دينها ، عليها أن تخضع كل المعتقدات لنقد تاريخي .المقدس جامد غير تاريخي علينا التخلص من الجوامد ، أي أن نتجاوزها معرفياً ، أي نظرياً. نحن نعيش في بنية اجتماعية جديدة ومعاصرة وعلينا أن ننتج أفكار جديدة مناسبة للبنية ومفسرة لها. لا أستطيع لفهم هذه البنية أن أعود إلى القرن الأول للهجرة أو القرن الأول للميلاد! يجب أن استخدم أدوات جديدة تنتجها هذه البنية المعاصرة.هذا العقل العربي فيه طيارة وفيه جمل وتمر ولبن!
أنا احترم مكتشف النار بقدر احترامي لمكتشف الذرة ، لكن الاكتشاف الثاني تجاوز الاكتشاف الأول بطريقة ما. أفكر بإنشتاين ونيوتن لكن إنشتاين تجاوز نيوتن .ماركس نسخ هيغل وأبطله ، أنا ماركسي ولست هيغلي في المذهب. يجب أن نصنع مفكر عربي من طراز جديد ، وأن نستفيد من التراث الإنساني ونستنبط منه ما هو رائع وجميل .أشير هنا إلى مقدمة ابن خلدون الرائعة . أن تمتلك التراث معرفياً ، وتجعله أحد مواضيعك المعرفية هذا مهم . أنا لا احيي التراث ولا أميته ، إنما أنقده ، أخرج ما هو صالح وأزيل ما لا يصح له البقاء.
د. نايف: أنا أميته موتاً جميلاً؛ موتاً فعالاً. حسب عبارة جاك دير يدا.
عندما تستورد بورجوازياتنا أحدث مقتنيات الصناعة الرأسمالية الألمانية لا احد يعترض ، وحين "نستورد" ديالكتيك ماركس أو حتى هيغل تعترض ، لأن هذا يهدد مصالحها أما ذاك فيكرس عجزها وتأخرها التاريخي.
إبراهيم: فهمت أنه يتوجب التخلص من الطريقة الدينية، واعتماد منهج العلم. لكن نحن هنا في هذه الندوة أقلية وحولنا الكثير من المتدينين.
أ. نجيب: نحن لا نشاكس الدين كفكر يومي ، نريد أن نؤسس فكر نظري وعلمي ، أما الدعاية له فتأتي بالتدريج ولكل شخص مفتاحه. صناعة الوعي مسؤولية ويجب أن يكون مرتبطاً بممارسة. أما كيف تقلب فكر مجتمع من فكر غيبي إلى علمي ، هذا ليس قراراً، الدين حلقة أولى.
د.نايف: هناك أمثلة ؛ الثورة الروسية انتصرت في البداية في مدينتين هما بطرس بورغ وموسكو ! الضباط الأحرار في مصر كانوا ثلة الخ.. كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة .. في القران. المسألة مسألة إعادة توجيه العملية الاجتماعية الاقتصادية والثقافية . لا يمكن أن يعم الوعي جميع الناس ، لكن مع السيطرة على سلطة الدولة تختلف الأمور. المسألة إعادة توجيه مجمل العملية الاجتماعية. لم تكن الطبقة العاملة الروسية تشكل بمجملها قبيل الثورة سوى 10% من السكان كان الفلاحون يشكلون 80% من السكان وكانت الأمية منتشرة بقوة ووسائل الإعلام بدائية. أنت لا تحمل على كتفك كتلة بشرية ضخمة بل تستفيد من طاقتها بإعادة التوجيه وفق برنامج شعبي واشتراكي. إطعام الناس واحترامهم هو الأساس . يتوجب توفر برنامج واضح وتفصيلي لإعادة التوجيه الاقتصادية الاجتماعية السالفة الذكر.
أ.نجيب : أخرج ما هو صالح تبقي على ما يصح له البقاء.
د. نايف: علينا إماتة التراث إماتة جميلة أو موتاً فعالاً . عندما تستورد البورجوازيات العربية أحدث التقنيات الغربية الرأسمالية لا يعترض أحد ، وعندما "نستورد" نحن الماركسيون الديالكتيك الألماني يعترضون.
أ. نجيب: يقول ماركس : "إن مطالبة الإنسان بالتخلي عن أوهام وضعه إنما هي المطالبة بالتخلي عن وضع يحتاج إلى أوهام " إبطال هذا الواقع هو إبطال لهذا الوهم. نحن لا ننتظر حتى نحصل على 19 مليون علماني سوري . لقد قاربنا مسائل نظرية متنوعة . حين ننتقل إلى الحقل السياسي يصبح الأمر كيف أوظف هذه المعرفة وهذا الوعي النظري في الصراع السياسي والاجتماعي .
أ. منصور : شكراً جزيلاً . هذا القسم الأول من ندوتنا ، وهناك أقسام أخرى تتوجب متابعتها حتى نصل معاً إلى نتائج مهمة . أشكركم جميعاً.
أ. نجيب: إذا كنت مقتنعاً بما تقول وما تفعل فامض في طريقك ودع الناس يقولون ما يشاءون. أحياناً يكون الرأي العام مغبون مُضلَل وغبي.
د.نايف: ليست الأغلبية العددية دائماً على حق ، ومع ذلك هي التي تقرر في الكثير من الأحيان ، هكذا أعدم عيسى المسيح.
أشكركم جميعاً.
ملاحظة : قام بتثبيت الهوامش وبضبطها ، وتدقيق الاقتباسات د. نايف سلوم





























نماذج الشيوعيين
محمد سيد رصاص

منذ جدالات لينين مع المناشفة في عام 1903 نلمس إدراكاً عنده بأن الطابع المتخلف لروسيا ، والذي تتداخل فيها الملامح الأوربية والآسيوية، سيجعل من الثورة الروسية ثورة متسمة بملامح خاصة، تختلف عما هو سائد من تفكير في الأحزاب العمالية الماركسية في أوربا الغربية.
فإضافة إلى ضرورة القضاء على العلاقات ما قبل –رأسمالية في الزراعة ، نرى لينين واعياً لضرورة تحديث وتمدين روسيا عبر برنامج لا يتجاوز ما أنجزته الثورة البورجوازية الفرنسية عام 1789 . إن هذا البرنامج، الذي تم توضيحه في كتاب لينين "خطتا الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية" عام 1905 ، لا نلمس فيه ملامح ذات طابع اشتراكي ، بالرغم من إلحاح لينين على ضرورة قيادة حزب الطبقة العاملة للثورة الديموقراطية عبر "ديكتاتورية العمال والفلاحين " في المرحلة الثورية الديمقراطية ، بخلاف تروتسكي الذي أكد عام 1906 في كتابه "نتائج وتوقعات " بأن حزب الطبقة العاملة، بقيادته لهذا التحالف في مرحلة الثورة الديمقراطية ذات الطابع البورجوازي من حيث المهام، لايستطيع أن يتوقف عند المهام الديمقراطية ، فهناك تداخل بينها وبين مهام الثورة الاشتراكية، وكلا الثورتين تندرجان ضمن "الثورة الدائمة" ، ولا توجد فواصل تخطيطية بينهما . الشيء الذي نرى لينين قد اتجه إلى منظور قريب منه ، ولومن منطلق آخر،لما انطلق من زاوية رؤيته لـ (الإمبريالية )، اعتباراً من مؤلفه "موضوعات نيسان " عام 1917 ، الذي يؤكد فيه على الطابع الاشتراكي للثورة القادمة ، وذلك عبر تحليله لعدم قدرة البورجوازية الروسية القائدة للحكومة المؤقتة، بعد ثورة شباط 1917 ، على انجاز مهام المرحلة الديمقراطية البورجوازية على طراز البورجوازية الفرنسية لعام 1789 ، مما يؤدي إلى تداخل المرحلتين والثورتين في ثورة واحدة ، والتي ستأخذ طابع الثورة الاشتراكية ، بحكم توجهاتها ، وبحكم التركيب الطبقي لقيادتها ، التي يلعب فيها حزب الطبقة العاملة دوراً مقرراً وحاسماً ، وهذا ما سيدفع الثورة الروسية القادمة إلى انجاز مهام 1789 الفرنسية وتجاوزها نحو الثورة الاشتراكية.
بعد الثورة الصينية الأولى(تشرين أول1911) نرى لينين متنبهاً إلى الطاقات الثورية الكامنة في آسيا ، وكان مدركاً بأن مهام التحرر الآسيوي ،في مواجهة إمبريالية الغرب ، ستأخذ طابعاً بورجوازياً ديمقراطياً شبيهاً ببرنامج 1789 الفرنسي ، أي تمدينياً وتحديثياً ، وأن البورجوازية الآسيوية ليست مثل البورجوازية الغربية ذات الطابع اليميني والرجعي ، بل هي تقدمية [انظر مقاله: "أوروبا المتأخرة وآسيا المتقدمة"، 1913]، وسيلعب الفلاح عبر قيادة البورجوازية للثورة الديمقراطية البورجوازية دوراً أساسياً في تحقيق مهام هذه الثورة ، في ضرب العلاقات ما قبل الرأسمالية في الزراعة . إلا أن لينين قد نبّه إلى أن هذه الثورة لا يمكن إلا أن تأخذ طابعاً قومياً في مواجهة الغرب الإمبريالي بحكم اصطفاف غالبية طبقات وفئات الأمة المضطهدة في وجه الهيمنة الأوربية ، وبالتالي فإن العامل القومي في البلدان المستعمرة والمتأخرة يلعب وسيلعب دوراً تقدمياً وثورياً . ونلاحظ في هذا الإطار كيف انشغل لينين في سنوات 1913-1916 بالمسألة القومية وموضوعة حق الأمم في تقرير مصيرها [كراس "حق الأمم في تقرير المصير"،1914] ، وصولاً إلى كتابه [ "الإمبريالية " 1916 ] . والموضوعان في ذهن لينين غير منفصلان بالرغم من أن مفهوم (الإمبريالية) هو أبعد، في تفكيره، ، من الموضوع الآسيوي ، ويمتد إلى رؤيته للعالم والثورة الاشتراكية.
بعد فشل الثورة الشيوعية الألمانية بقيادة روزا لوكسمبورغ (ك2 1919 ) والثورة المجرية بقيادة بيلاكون في آب 1919 ، وفشل هجوم الجيش الأحمر على بولندا بشهرآب 1920 ، وفشل الثورة الشيوعية الألمانية الثانية (آذار 1921 )، أدرك البلاشفة بأن الثورة الروسية سوف تعيش حالة انعزال وحصار ضمن حدودها بمعزل عن أي امتداد أوربي.
بدون هذه الخلفية ، لا يمكننا أن نفهم بعض الإجراءات الداخلية المتخذة. فرغم انتصار البلاشفة في الحرب الأهلية (1917-1920) إلا أنهم أدركوا أن التوازن الطبقي في المجتمع الروسي مختل لصالح الفلاحين والإنتاج البضاعيّ الصغير في المدينة وأنه لابد من اعتماد سياسات اقتصادية مرنة تجاههما . وهذا ما دفعهم للابتعاد عن السياسات العمالية الطبقية الضيقة وإلى انتهاج سياسة النيب( NEP )عام1921 . لكنهم كانوا مدركين بأن المرونة الاقتصادية ،إذا ترجمنا الحقائق الاقتصادية إلى الميدان السياسي ، تعني الانتحار السياسي للبلاشفة في ظل وضع طبقي ليس لصالح الطبقة العاملة المنهكة في الحرب الأهلية ، إذا رافق سياسة ( النيب ) حريات سياسية للقوى الأخرى . لذلك فإن المؤتمر العاشر للحزب البلشفي (آذار 1921) الذي قرر سياسة (النيب) قد قرر منع الكتل في الحزب ، وحظر الأحزاب الأخرى ، وتركز القمع على الاشتراكيين الثوريين ذوي القاعدة الفلاحية ، الذين ضربت منظماتهم ، وتم تقديمهم للمحاكمة في عام 1922 .
في الوقت نفسه تم اللجوء ، على الصعيد الخارجي، إلى التركيز على المحور الآسيوي الذي تشكل الصين، المجاورة للحدود السوفييتية، قلبه، لذلك فقد تم دفع الشيوعيين الصينيين لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني عام 1921 ، ودفعهم للتعاون مع القوميين في حزب الكومينتانغ ، وأخذ الكومنترن بين آب 1922 و ك2 1924 توجهاً بضرورة الانتساب الفردي للشيوعيين إلى هذا الحزب ، بدون أن يعني ذلك حل الحزب الشيوعي. وقد كان ستالين الذي أصبح أميناً عاماً للحزب في 3 نيسان عام 1922 ، أي أثناء مرض لينين ، مدركاً لضرورة تأمين علاقات جيدة مع الحزب الحاكم في الصين من أجل عدم نشوء توترات هناك للدولة السوفياتية الجديدة التي تعاني من حصار أوربي ، وربما من أجل تطوير العلاقات مع الصين إلى درجة التحالف ، ما يمكن أن يعوض عن فشل الثورات الشيوعية في الغرب الأوربي ، والتي كان المأمول أن تؤمن للسوفييت امتداداً غربياً حامياً وداعماً.
عارض تروتسكي الذي دخل في صراع مع ستالين ، منذ عام 1923 ،هذه السياسة تجاه الصين ، واتهمها باليمينية، واعتبرها موالية للاتجاهات القومية والفلاحية ، فيما أيدها بوخارين ، الذي كان بين عامي 1921-1929 من أكبر أنصار السياسات المرنة تجاه الفلاحين . وقد شكلت المسألة الصينية أحد محاور الصراع بين كتلة (ستالين- بوخارين) والمعارضة اليسارية (تروتسكي، زينوفييف، كامنييف) في عامي 1926 و 1927 . إلا أن ستالين، بعد اتجاه زعيم الكومينتانغ (شيانغ كاي تشيك) إلى الصدام مع الشيوعيين وقيامه بمذبحة شنغهاي (نيسان 1927 ) وبعد هزيمة المعارضة اليسارية في تشرين الثاني 1927 ، نراه (أي ستالين) يتجه إلى سياسة يسارية طبقية (عمالية) متشددة شبيهة بسياسة المعارضة اليسارية ، وقد تجسدت في المؤتمر السادس للكومنترن في تموز 1928 .
لقد أكد المؤتمر السادس على نبذ التحالف مع البورجوازية ، وهاجم البورجوازية الصغيرة ، واكد أولوية العمال على الفلاحين وقيادتهم للتحالف بينهما ، وعلى ضرورة نموذج سوفييتات العمال والفلاحين في أية ثورة قادمة، مؤكداً على نبذ التحالف مع الأحزاب البورجوازية والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية عبر سياسة "طبقة ضد طبقة" ، وعلى ضرورة التفاف الحركة الشيوعية العالمية حول "القلعة الاشتراكية المحاصرة" وتوافق سياساتها وانسجامها معها. وهذا ما كان إيذاناً بفك تحالف ستالين مع بوخارين (رغم كون الأخيركان ما يزال رئيساً للجنة التنفيذية للكومنترن في المؤتمر السادس )، واتجاهه( أي ستالين) إلى سياسة متشددة تجاه الفلاحين ، رأينا مفاعيلها في عام 1929 عبر سياسة الكلخزة-التي اتجهت نحو سياسة التجميع الزراعي القسري للفلاحين في الكولخوزات-.
لقد أدت هذه السياسة "اليسارية" إلى كوارث عبر منع الشيوعيين الألمان من تشكيل تحالف انتخابي مع الاشتراكيين الديمقراطيين لمنع وصول هتلر إلى السلطة ، وعبر دفع الشيوعيين الصينيين إلى سياسة يسارية مغامرة ، كان أبرز معارضيها ماو تسي تونغ، الذي أدرك أن القاعدة العمالية للشيوعيين قد تم تدميرها بعد مذبحتي شنغهاي وكانتون وأن مستقبل الثورة الصينية يتركز في الريف ، وهو في تركيزه على مسألة "الأمة" و"مكافحة الهيمنة الإمبريالية الخارجية " ، و"المسألة الزراعية" قد كان متوافقاً مع هوشي مينه الذي أعلن أمام المؤتمر الخامس للكومنترن (حزيران 1924) "أن أوربا لم تعد مركز الثورة " في معارضة مضمرة للسوفييت وستالين.
من خلال ذلك يمكننا أن نصل إلى تحديد نموذجين لـ (الشيوعي) قدمهما القرن العشرون:
1- نموذج (ماو) الذي اتجه إلى تصيين الماركسية و(هوشي مينه)، الذي كيفها مع الواقع الملموس في الهند الصينية، وغرامشي وتولياتي مع الواقع الإيطالي.
2- نموذج موريس توريز وخالد بكداش اللذين آمنا بالعملية "التي بدأت في المؤتمر الخامس للأمميةالكومنترن ، وهي العملية التي كانت تتجه إلى تذويب قضية الثورة العالمية بقضية الاتحاد السوفياتي ، وتلحق في بعض الظروف مصالح الثورة العالمية بمصالح السياسة السوفييتية الخارجية " والذين آمنوا ب "الجديد في مجال الخطة العامة للكومنترن (في المؤتمر السادس 1928) وهو المكان الاستثنائي الذي خُص به الاتحاد السوفييتي ، فأصبح منذ ذلك الحين الركن الأول ، وقبل البروليتاريا الثورية ، في تحالف افترض أنه يتيح للبلدان المستعمرة والتابعة تجنب المرحلة الرأسمالية . إن زعامة الحركة البلشفية على الحركة الشيوعية الدولية التي بدأت بالظهور منذ المؤتمر الخامس ، أصبحت في هذا المؤتمر على درجة كافية من البروز والجلاء . ولهذا فإن هذه الصيغة بالذات ، صيغة الموضوعات المتعلقة بهذه الناحية : (التحالف مع الاتحاد السوفييتي ، ومع بروليتاريا البلدان الإمبريالية) قد جاءت معلنة مبدأ(الاشتراكية في بلد واحد)." .
في الحقيقة إن هذين النموذجين لا يختلفان فقط حول موضوع العلاقة مع السوفييت ، بل إن الأمور تتعدى ذلك إلى طريقة التفكير وإلى أسسه ، وإلى موضوعاته، وهما يختلفان حول تحديد : ما هي(الماركسية)و( الماركسية-اللينينية)؟ .........هل هي(أوهما) علم مكتمل؟ ..... أم هي(أوهما) طريقة ومنهج في التحليل لمكان وزمان محددين ، ويملك صاحبها الاستقلالية الفكرية للوصول إلى نتائج مختلفة ، حسب الأوضاع الملموسة لكل بلد؟.
إن ماو ،الذي انتخب رئيساً للحزب الشيوعي الصيني في كانون الثاني 1935 ، قد دخل منذ مقاله " تحليل لطبقات المجتمع الصيني "- آذار 1926- في دراسات معمقة عن المجتمع الصيني ، وقام بتقديم دراسات أغنت الفكر الفلسفي الماركسي ، مثل مقاله "في الممارسة" – تموز1937 -، ومقاله "في التناقض" -آب 1937- فيما قدم غرامشي تطويرات مهمة للماركسية مثل مفهومه عن (المثقف العضوي) ، وكذلك فيما قدمه عن مفهوم (الهيمنة).
إذا عزلنا التفاصيل الجزئية ، فإن سياسة خالد بكداش ، في خطوطها العامة ، يمكن إيجاد مفاتيحها في موسكو.فسياسة "السلام الطبقي" التي تلمس في ميثاق المؤتمر الثاني للحزب- ك2 1944- ، وعدم وجود أي كلام عن الاشتراكية ، وأية مطالب حول الإصلاح الزراعي ومحاولته إظهار عدم وجود أي تناقض بين العمال والبورجوازيين ، لا تعود إلى كون سوريا في مرحلة نضال وطني ضد المستعمر فقط ، بل تعود أساساً إلى سياسة المؤتمر السابع للكومنترن (آب 1935 ) الذي اعتبر خطر النازية والفاشية هو الأساس ، ودعا إلى سياسة "الجبهة الوطنية المتحدة" ضد الفاشية ، مقسماً العالم إلى من هو مع "الديمقراطية" ، ومن هو مع "الفاشية" . ولا أحد يستطيع أن ينكر بأن سياسة الحزب الشيوعي السوري بين عامي 1936-1945 قد كانت تأخذ باعتبارها حقيقة العداء الفرنسي-الألماني ،و بأن الموقف من البورجوازية الوطنية قد كان مبنياً ، ليس فقط على اعتبارات الوحدة الوطنية ، وإنما، أيضاً ، على حقيقة عدم انجرارها إلى التحالف مع الألمان ، كما فعل رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941 ، والحاج أمين الحسيني في فلسطين . بالمقابل فإن السياسة الطبقية المتشددة التي اتبعها بكداش بين عامي 1948-1953 ووصلت ذروتها في تقريره عام 1951 أمام اللجنة المركزية ، لما سمي ب"حزب العمال والفلاحين" ، تجد منابعها في السياسة السوفياتية التي حددها جدانوف أمام المؤتمر التأسيسي للكومنفورم (ت1 1947 ) ، في أطروحة انقسام العالم إلى معسكرين ، في ظل أجواء بداية الحرب الباردة ، كما أن الهجوم القوي لبكداش في التقرير المذكور على الحزب الاشتراكي العربي (أكرم الحوراني) و (حزب البعث- عفلق) قد كان ناتجاً عن اتخاذهما موقف الحياد بين المعسكرين ، كما أنه ليس من المصادفة أن تترافق تلك الطبقوية المتطرفة مع الهجوم على تلك الأحزاب التي كانت تنادي بالاشتراكية والتي ربما أحس الحزب الشيوعي بأنها يمكن أن تنازعه عليها وعلى الطبقات والفئات الفقيرة7 . كما أن الهجوم على الأطروحات القومية و "التيتوية" قد تلاقى مع الخلافات السوفياتية مع يوغسلافيا صيف 1948 ، وبداية التصفيات لأي اتجاه مستقل أو قومي في الأحزاب الشيوعية في أوربا الشرقية (غومولكا- بولندا، راجيك – المجر، كوستوف- بلغاريا) في عام 1949 . فيما لايستطيع أحد أن يقول أن السياسة الإيجابية المتقاربة لبكداش مع عبد الناصر والبعث بين عامي 1955-1956 ، هي بمعزل عن السياسة السوفييتية تجاه التلاقي مع القوميين العرب-عبد الناصر- الذين شرعوا آنذاك في الاقتراب من السوفييت والدخول في مجابهة مع الغرب . وفي هذا الإطار يجب أن توضع أطروحاته الجديدة عن الوحدة العربية والقومية العربية في عامي 1955-1956 رغم أنه رفض اعتبار أن التحولات التي يقودها القوميون هي في إطار متجاوز لمهام الثورة الديمقراطية ، ومعتبراً أن الثورة الاشتراكية مشروطة بقيادة الحزب الشيوعي ، وبتبني الماركسية- اللينينية ، الشيء الذي رأيناه يستمر عليه حتى تقريره في المؤتمر الثالث للحزب (حزيران 1969) .
إن الياس مرقص الذي حاول إنشاء خط فكري مضاد لخط بكداش ، والذي شكلت اطروحاته بذرة فكرية بهذا الشكل أو ذاك لخط ( الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي) ، قد أكد أن" ليس هناك حائل بين الثورة ضد الاستعمار والاقطاعية وبين الثورة الثانية ؛ الاشتراكية ، ليس هناك جدار بين الثورة الوطنية الديموقراطية والثورة الاشتراكية (البروليتارية)" . وهو يرى أن التجربة العربية تدل على أن : "تراجع القومي الفعلي حمل انحسار الاجتماعي والطبقي والديمقراطي . وهذا الذي تثبته التجربة العربية وليس عكسه هو الذي يتفق مع اللينينية " ، منطلقاً من أن محتويات الثورة العربية يحددها واقع الهيمنة الإمبريالية ، مما يؤدي إلى جعل النضال القومي من أجل الوحدة ذو محتوى تقدمي ، ولا يؤدي فقط ، إلى التحرر القومي ، وإنما يحمل معه مضامين ديمقراطية تحديثية ، وتجاوزاً للعلاقات ما قبل رأسمالية ، ويحمل ويتداخل مع أفق الثورة الاشتراكية ، وهو يدلل في كتاباته المختلفة على أن هزيمة الوحدة تحمل معها تراجعاً للتقدم الاجتماعي ، في تعاكس جذري مع ما فعله بكداش ، أو السوفييت في "الملاحظات السوفييتية على مشروع برنامج الحزب الشيوعي السوري"-1971- حيث يفصلون الطبقي عن القومي ، والأخير عن الداخلي ، كما يفصلون هذا والاقتصادي عن العاملين الخارجي والعربي ، أو كما عبروا في مقدمة "الملاحظات " : "يجب أن يعالج الحزب جميع القضايا ، بما فيها قضية الوحدة من وجهة نظر طبقية ، يتوجب أخذ موقف طبقي خصوصاً في قضية الوحدة ، هذا ما يميز الحزب الشيوعي .تنبغي النظرة من خلال القضايا والمهمات الاجتماعية والاقتصادية ، هذا ما يميزكم عن غيركم من الأحزاب الأخرى" .






























قراءة في "أوراق عمل من أجل اليسار السوري"
جمال برّي

طالعتنا أوراق العمل من أجل اليسار السوري برؤية سياسية وفكرية متميزة للغاية ، اتصفت بالكثافة والشمولية ، وبإحاطة متميزة أيضاً بمجمل الوضع في منطقتنا العربية عموماً ، وفي سوريا على وجه الخصوص لدرجة أجد نفسي بعد قراءتها في تطابق شبه تام معها ، بحيث لن أقدم هنا ملاحظات انتقاديه جدية ، بل نوع من المتابعة أو الشرح وإسهاب لبعض الأفكار الواردة .
تبدأ الأوراق بتفكيك الإستراتيجية الأميركية والأوربية الخاصة بمنطقتنا وترسم لنا إستراتيجية بديلة . وهي رؤية هامة وطريقة صحيحة وضرورية للعمل السياسي عموماً (للأفراد والمنظمات)، إذ بدون إستراتيجية عمل واضحة لعمل سياسي ما لا يمكن وصف ذلك العمل إلا بالعمل الانفعالي القائم على الفعل ورد الفعل ، وهي رؤية ضيقة الأفق ، حيث يمكن أن تنشأ تناقضات جمة في تكتيكات هذه الحركة أو تلك، جراء فقدانها البوصلة المؤدية إلى الإستراتيجية.
إن سعي الإمبريالية الأميركية للسيطرة على العالم ينطلق من مبدأين اثنين أساسيين هما :
أولاً، السيطرة على منابع النفط ، كي يتسنى لها التحكم باقتصاد العالم ، معتمدة على قوتها العسكرية أساساً ، حيث ما تزال تعمل على توسيع حلف الأطلسي ، ونشر القواعد العسكرية هنا وهناك للإبقاء على الضغط اللازم بالنسبة لها ، تجاه دول العالم من جهة ، ولتشغيل مجمعها الصناعي العسكري من الجهة الأخرى ، على الرغم من الزعم بانتهاء الحرب الباردة . ولكن ذلك لا يعد إلا استمراراً لها مع تغير في احد طرفيها السابقين ، من الاتحاد السوفييتي إلى كافة الدول التي لا ترضخ لمصالحها وسياستها .
ثانياً، لا تتحقق السيطرة الكلية للإمبريالية الأميركية إلا عبر الهيمنة وهي تسعى لإشاعة اقتصاد السوق ونشر المفاهيم والمبادئ والقيم القائمة على السوق . يترافق ذلك مع محاولتها تحطيم كل الهويات والمبادئ التي تشكل عامل تجميع واتحاد للبشر . وهذه الهويات والمبادئ تتمثل في ثلاثة محاور أساسية هي :
1- الهويات القومية: في منطقتنا العربية بما لها من أهمية إستراتيجية بالغة في المستويين الاقتصادي والسياسي . وهي تشكل عامل استقطاب وتجميع وتوحد لحاملي هذه الهوية بغض النظر عن اختلاف برامجهم السياسية ومرجعياتهم الفكرية ، ليس لاستهدافها الحالي فحسب ، بل لأننا نعلم أن أهدافنا المستقبلية القريبة ليست بناء الاشتراكية ، فهو هدف لم تنضج ظروفه ، ولإنضاج هذه الظروف يتطلب الأمر إنهاء المرحلة القومية الديمقراطية ، حيث تشكل أرضية وقاعدة للانطلاق والدخول في المرحلة الاشتراكية.
ثم أننا كماركسيين نمتلك مبدأ مطلقاً برفض الاتفاقات الاستعمارية والإمبريالية التي سعت وتسعى إلى التفتيت والتقسيم والإضعاف والتهميش للدول والشعوب . من هذا المنطلق فنحن نرفض اتفاقية سايكس- بيكو وإجراءاته التي قضت بالتقسيم . ثم أن هناك من يقول أن ما قبل سايكس - بيكو لم تكن هناك دولة عربية موحدة . والجواب بسيط: إن إنجاز الوحدة القومية لشعب ما ، لا يتطلب ذلك وجود دولة موحدة ، وإلا أصبح الأمر نافلاً لا معنى له . ويصبح المطلب إعادة الوحدة أو استعادتها هو المطلب الأساسي.
2- الإسلام : وهم يمارسون لعبة السيف ذي الحدين فهم:
أولاً ، يسعون جاهدين مع أتباعهم في المنطقة وخارجها لإنتاج هوية إسلامية تكون بديلاً عن الهوية القومية مبدئياً ، ثم بعد ذلك يفعلون تناقضات هذه الهوية الجديدة المتمثلة بانقساماتها الطائفية والمذهبية والطرائقية الصوفية ، الخ.. وبالتالي تسهل مهمتهم في تفتيت وتمزيق البلدان المعنية ، وتسهل سيطرتهم عليها .
ثانياً، الهجوم الدائم على الإسلام يؤدي إلى مزيد من تفريخ منظمات متطرفة إرهابية ، وهي سياسة معتمدة من قبل الإمبريالية ، ولا تتعارض مع إستراتيجيتهم الداعية لمحاربة الإرهاب ، أي إنتاج أعداء جدد بديلاً عن السوفييت. ويسمح هذا لهم تحت تلك اليافطة بمزيد من التعقيدات والإجراءات المتواصلة والمستمرة الهادفة لتقليص الديمقراطية السياسية ، وأساسها الحريات الفردية . خذ بريطانيا مثلاً ، في الأيام الماضية ، طلبت رئاسة الوزراء الجديدة من كل مواطن بريطاني أن يشي بأي مواطن أو جار له يشتبه به بشكل ما . وهذا في إطار محاربة الإرهاب.وهو ليس إلا تحويل الجميع إلى مخبرين ، وبالتالي استخدامهم بطريقة تؤدي إلى إفقادهم حريتهم واستقلالهم ، وهي مقدمة لوضع الجميع في دائرة الاتهام بالإرهاب ، وسيدخل كل من يعارض سياستهم في تلك الدائرة.
ثالثاً، الهدف من إيجاد هذه الهوية الإسلامية تثبيت هوية الكيان الصهيوني القائمة أساساً على هوية دينية ، أي اليهودية . ومن هنا تزداد خطورة هذا الكيان المضافة إلى دوره السابق وأفضليته الحالية، لكونه يشكل نموذجاً للإمبريالية الأميركية.
3- الشيوعية: بالرغم من اعتقاد الأميركيين أنه بانتهاء الاتحاد السوفيتي- الداعم المعنوي والمادي للحركة الشيوعية- ستضعف هذه الحركة وتصبح هشة ومكشوفة ، إلا أن ذلك لم يردع الإمبريالية الأميركية ولن يردعها في الاستمرار بمحاربة الشيوعية. لأنها تشكل عامل تجمع وتوحيد للبشر على مبادئها ، بالتالي فهي في تعارض مع إستراتيجية التقسيم والتفتيت الأميركية.
4- أمام هذه الإستراتيجية الأميركية لا بد من وجود إستراتيجية بديلة مقاومة ، وقائمة أساساً على مشروع قومي ديمقراطي بمرتكزاته الأساسية : تنمية شاملة اقتصادية اجتماعية -سياسية ، حضارية ونهضوية. وهنا كنت أتمنى من الأوراق أن تسهب في شرح أهمية المسألة القومية وترابطها البنيوي مع الديمقراطية والتنمية الشاملة . وذلك لفقدان هذه البوصلة أو إهمالها من قبل الحركة الشيوعية السورية ، ويدخل في ذلك من في الجبهة الوطنية التقدمية ، ومن خارجها على السواء.
إن المراهنين على إنهاء الاستبداد من الخارج ليس مرده فقط لوعي مؤمن باستحالة التغيير من الداخل ؛ وعي منقوص وانفعالي غرائزي، وإنما لفقدان هذا الوعي أهمية المشروع القومي الديموقراطي ؛ أي لفقدان الوعي الاستراتيجي عموماً. كما أنه وعي منقوص لطبيعة النظام الرأسمالي القائمة على الليبرالية الاقتصادية دونما السياسية . وما الشكل الليبرالي السياسي ، أي ما يسمى الديمقراطية الرأسمالية إلا نتاج صراع الطبقات والفئات الاجتماعية المتعارضة أو المتناقضة مع الرأسمالية الكبيرة ، صراعاً استمر زمناً طويلاً ؛ فحتى بدايات القرن العشرين لم يسمح للنساء بالتصويت ناهيك عن الترشح في أية انتخابات تجري. والحفاظ على هذا الشكل الديموقراطي يتطلب استمرار النضال والتيقظ ، غذ لا تتوانى الإمبريالية بالانقضاض على هذا الشكل كلما سنحت الفرصة لها، بالتالي التحول إلى أنظمة استبداد شاملة .
إن الاستبداد في دول العالم الثالث قد اخذ وظائف متعددة ، ليس التغطية على النهب أحدها ، فالنهب أحد الوسائل الأساسية لرسملة البلاد ، لإنتاج طبقة رأسمالية . والاستبداد هنا يكوّن غطاء لهذا الشكل من الرسملة . وإنهاء الاستبداد يعني إنهاء هذا الشكل من الرسملة، واستبداله بالمشروع القومي الديمقراطي ، أي التنمية الشاملة. مضافاً على هذا الوعي المنقوص ،وقد يكون بشكل ما، نتيجة له. مضافاً غليه تأزم الآلية الداخلية التنظيمية للأحزاب القائمة ، آلية قمعية بيروقراطية، بعيدة عن الديموقراطية غير مبنية وفق أسس تسمو بالاختلاف والتباين واحترام الرأي الآخر . فكيف يمكن لهذه الأحزاب وبهذه الصفات المذكورة أن تتسق بنيتها التنظيمية غير الديموقراطية مع مطالبها السياسية الديمقراطية . وهنا تأخذ الممارسة بعدها الحقيقي. وهي غائبة جزئياً عن الأوراق وغائبة أيضاً عن الشيوعيين على وجه الخصوص ببعديها السياسي والاجتماعي.
في البعد السياسي ، الافتقاد للمصداقية . يطالبون بالديمقراطية وهي مغيبة ضمن تنظيماتهم . ويدعون الدفاع عن مصالح الجماهير ، وهم يشاركون في سلطة الفساد ، غطاء لها من جهة ومشاركة بفسادها من جهة أخرى (لدى هذا الفرد أو ذاك على سبيل) .
وفي البعد الاجتماعي ، غابت فكرة النمذجة عن أذهان الشيوعيين ، فهم يدعون التغيير الجذري للمجتمع ، بينما في الواقع منخرطون بعادات وتقاليد اجتماعية ، واتجاهات فكرية وسياسية وسلوكيات واهتمامات ذهنية وموسيقية وفنية عامة من دون توقف بسيط للتفكير فيما هم عليه ، أو فيما هم مقدمون عليه . ووصل الأمر إلى تواصل وانسجام مع أيديولوجية السوق الأميركية الاستهلاكية السلعية . فأين المصداقية في النمذجة والممارسة بعد هذا السواد .
وبما هو موجود من قوى سياسية بفعل المساوئ المذكورة ، يأتي السؤال المطروح ، هل هناك إمكانية للتغيير؟
من حيث المبدأ ، فقانون التطور يفضي إلى ذلك . لكن عندما تنضج الظروف الملائمة للتغيير وعندما تتوفر أدوات هذا التغيير وتنضج أيضاً.
الأوراق تشير إلى ضعف في النظام ، قد نتفق على ذلك ، لكن الأدوات اللازمة أي الحركة السياسية المفترض بها أن تقود التغيير ، أو الضغط على النظام من أجل التغيير ضعيفة. إذن النظام ضعيف ولا يستطيع بكل محاولاته ، إثر سوقه وفق خط محدد، ليبرالي بصبغته الأساسية أن يعود قوياً كما في السابق ، ولا الحركة السياسية قوية . هذا يعني حالة من السكون (الستاتيك) قد تؤدي إلى انفجار الوضع إن لم يتم ملء الفراغ الحاصل ، وبالتالي الفوضى والخراب.
لهذا نرى السلطة تحاول ملء هذا الفراغ ، بالعودة بشكل ما إلى الآلية القديمة ، مع تقديم وعود بإصلاح وتجديد ، الخ.. ما جرى في الاستفتاء يؤشر على ذلك ، والمحاصرة والقمع للقوى الوطنية ، وخاصة حركة اليسار مؤشر آخر. وسعيه هذا ، محاولة لابتلاع المجتمع مجدداً ، ومحاصرة أو إنهاء الحراك السياسي بعد الانفراج النسبي السابق، والاهتمام السياسي الشعبي بأحداث المنطقة ، أو نتيجة شعورها بالضعف بفعل الداخل (انتخابات مجلس الشعب والاستفتاء كمؤشرين) والصراع غير المعلن على القرار داخل السلطة . وبفعل الخارج الإمبريالي من ضغط يمارس لإضعاف النظام والبلد على العموم . وهنا تأتي الدعوة صحيحة لمسالتين أساسيتين:
أولاً، الدعوة لتيار علماني ديمقراطي
ثانياً، الدعوة ومن خلال التيار العلماني لانجاز المشروع القومي الديمقراطي .
وهذان الهدفان يمكن أن يشكلا مدخلاً لتجميع وحشد القوى صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير الديمقراطي النهضوي كبديل للفوضى القادمة ، ويشكلان أيضاً قدرة أكبر في مقاومة المشاريع الإمبريالية المطروحة (الشرق الأوسط الموسع، الشراكة الأوربية المتوسطية)
وقد أشارت الأوراق إلى هذه الأخطار ، والخطر الأميركي على وجه التحديد. والتي بينت فيه أنه مشروع قائم على أفكار المحافظين الجدد . وبرأي لن تتغير الإستراتيجية الأميركية برحيل بوش ومحافظيه. بل جل ما قد يتغير هو الوسائل التكتيكية عند الديمقراطيين لخدمة الإستراتيجية نفسها .
هذا الخطر الهادف على تغيير النظام أو سياساته يرتكز على مجموعة من المعطيات الداخلية الناتجة عن سياسات النظام لعقود طويلة، وهي بحد ذاتها تشكل مرتكزات سيستند إليها المشروع الأميركي ، إذا لم يتم حلها أو تجاوزها . هذه المعطيات نتاج القمع المتواصل وتغييب السياسة عن المجتمع والتي أدت إلى غياب وعي سياسي حقيقي لدى بعض القوى السياسية ولدى المواطن أيضاً ، وهي:
1- ضعف التعلق بمفهوم الوطن ، واستبداله بانتماءات طائفية وعشائرية ، الخ..
2- درجة النهب المستفحلة ، والتي أفرزت قيماً وسلوكيات مفرطة في التخريب والتسيب والإهمال والفوضى وثقافة النصب والاحتيال والرشوة والارتهان للمحسوبية والواسطة وغير ذلك من ثقافة الاستهلاك الرخيص.
3- انتشار الأفكار الخرافية الناتجة عن الردة الدينية.
4- انتشار ثقافة اليأس واستحالة التغيير.
5- فقدان المصداقية بالأحزاب الموجودة ، نتيجة انعدام مصداقيتها هي قبل أي شيء آخر.
6- بنية اقتصادية في قطاع الدولة هامشية وضعيفة وخاضعة للنهب ، وتوجه عام للقطاع الخاص نحو مشاريع هامشية خدمية.
7- حتى حرب تموز المنصرمة فقد استهلك الحماس المؤيد للمقاومة وسحب باتجاهات دينية عموماً ، وطائفية على وجه الخصوص. وحتى بعض القوى والأفراد الناشطين سياسياً كانت لهم مواقف مخزية من تلك الحرب .
هذه العوامل-المعطيات وغيرها ، ستكون نقاط استناد للأميركيين والتي سيوظفونها في عدوانهم على سوريا (سواء أكان العدوان سياسياً أم عسكرياً) .
إن التوجه الليبرالي الاقتصادي والذي تعمل عليه وتتبناه قوى سياسية معارضة وتيار داخل السلطة ، يهدف إلى الإمساك أكثر بالقرار السياسي بعد الاستيلاء القادم على القرار الاقتصادي ، وسيولد ذلك مزيداً من القمع ، وشكلاً "ديمقراطياً" للحكم مشوّه وغير حقيقي لسببين اثنين:
1- بيئة مجتمعية متخلفة لم يتم تجاوزها ، بل جرى تثبيتها . ولا وجود لمؤسسات مجتمع مدني وسياسي متبلور وصاحب حضور وحجم في الساحة السورية.
2- من حيث المبدأ أن الرأسمالية ليبرالية اقتصادياً بطبيعتها ، ما لم تخضع لشروط صراع من خارجها وتقبل بالليبرالية السياسية . والدليل التاريخي على ذلك ما جرى في أوربا التي تحكمها أنظمة ديمقراطية رأسمالية.
ملاحظتان هامتان لا بد من ذكرهما:
الأولى، صندوق الاقتراع لا يساوي الديمقراطية ، كما يؤكد البعض ، بل مؤشر من مؤشراتها ، أو جانب واحد من جوانبها العديدة (فلسطين مثلاً)
الثانية، إن حالة اليأس ، وضعف الحركة السياسية المعارضة ، أد
ت على ظهور أطياف معارضة ، قد تكون فردية منعزلة ، وقد لا تكون . هذه الأطياف وصلت إلى مرحلة القبول بـ "الديمقراطية الطائفية " ، كما في لبنان والعراق على حد زعمهم ، كمقدمة للانتقال إلى الديمقراطية السياسية المرجوة . و قد تكون بديلاً نهائياً لها. مستندين إلى أن التقسيم الطائفي العشائري واقع قائم (وقد نفخته السلطة واستخدمته ) وباستحالة التغيير . إذن قد يكون المطلب والهدف الممكن الآن. وهذا موقف يجب محاربته بلا هوادة ، لأنه يؤسس للفوضى والتخريب المدرجة على أجندة المشروع الأميركي إياه.
في الموضوع النظري، في الماركسية تحديداً وفي الموقف منها:
قبل البدء برفع شعار التطوير والتحديث والتجديد وما شابه ، والذي بات يشكل عنواناً للتباهي من جهة، والناي عن الدفاع عن الماركسية كي لا يتهمون بالجمود من جهة أخرى، ناهيك عن التلطّي وراء هذه الشعارات للإفلات من أي انتقاد والذي يوحي لي أن وراء ذلك سببين:
1- الانفلات من أية ضوابط في الفكر والسياسة والاقتصاد بحجة الابتعاد عن الجمود وتقديس النص .
2- رفض أي انتقاد لهذا الرأي أو ذاك ، حتى لا يصاب صاحبه بحساسية ديمقراطية مفرطة، متهماً الآخرين بتقييد حريته في التعبير.
بناء على هذا ، يجب تحديد الموقف بوضوح كي لا تضيع الحدود . وتصبح الفوضى الفكرية والنظرية مشروعة ، باعتبارها تطويراً وتجديداً وما شابه . ويجب القول برأيي الشخصي كما يلي:
أنا ماركسي أتبنى ما أنتجه ماركس -انجلز- لينين من أفكار ورؤى وفق المنهج الجدلي المادي التاريخي . معتبراً هذا المنهج صحيحاً وكلي القدرة . ومتهيئاً لقبول وتبني كل تطوير وتجديد يعتمد هذا المنهج.
ملاحظة: هناك من يعتبر الصراع الطبقي فكرة عامة أنتجها ماركس في سياق إنتاجه النظري العادي ، وليس لها أية علاقة بمنهجه الجدلي . ويذهب البعض إلى نفي ليس الصفة التاريخية عن المنهج الجدلي وحسب ، بل الصفة المادية أيضاً.
أخيراً:
في سياق العنوان: من أجل تصور برنامجي لليسار وضعت الفقرة في الإطار الاستراتيجي في المرتبة الرابعة . والمفترض وكي تكون منسجمة مع ما طرحته الأوراق ، أن تكون في المرتبة الأولى.
في النهاية :
شكر وتقدير لمن قدم هذه الأوراق الهامة ، وأتمنى وأنتظر مزيداً من الإنتاج والإبداع للأفكار والرؤية القيمة ، كي تنير لنا الطريق باستمرار.
ولا يسعني سوى القول ، تعبيراً عما ورد في هذه الأوراق أن القول التالي ينطبق عليها: "إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة".










































توافقات سياسية
(من أجل اللقاء الماركسي العربي)

يتعرّض العالم منذ عام 1990 لاجتياح إمبريالي أميركي خصوصاً، فرض احتلال عديد من الدول من كوسوفو إلى أفغانستان إلى العراق، وهو مستمرّ. ولقد بدأ هذا الاجتياح على ضوء انهيار المنظومة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، وبالتالي تفرّد الولايات المتحدة في القوة والمقدرة. ويهدف هذا الاجتياح السياسي الاقتصادي وبالأساس العسكري، إلى إعادة صياغة العالم بما يحقّق مصلحة الشركات الاحتكارية الإمبريالية التي باتت متعدّية الحدود و هائلة الرأسمال و التقنية وفائقة المقدرة على المناورة، لكنها المأزومة والتي تعاني من ضيق السوق و التنافس و من تضخّم الرأسمال المالي و من اختلال العلاقة بين الرأسمال المنتج ( الذي بات يشكّل ما يقرب من ألـ 20% من كتلة الرأسمال) و الرأسمال المنفلت الذي يبحث عن منافذ لنشاطه مادام لا يحمل إمكانية التوظيف في القطاع المنتج خشية تفاقم المنافسة و بالتالي خطر الانهيار. و لهذا فان الاجتياح العسكري هو محاولة للعودة إلى أشكال السيطرة القديمة القائمة على الاحتلال و النهب المباشر، و التدمير و التهميش، من أجل فتح المنافذ لاستثمارات تدرّ الربح الأعلى. مما يسهم في تعميّق الاستقطاب و توسيع اللاتكافؤ، و يقود إلى دمار ما تحقق في المجال الاقتصادي والمجتمعي في دول عديدة، خصوصاً في الصناعة، كما في المجال المجتمعي، مما يدخل الأطراف التي هي مخلّفة في حالة من التفكك والتفتت والموت السريري.
وإذا كانت فترة الحرب الباردة ( 1945- 1991) قد سمحت بتحقيق نهوض عام، و بالتالي قادت إلى انتصار حركات التحرّر القومي، نتيجة التوازن الدولي الذي كان وجود الاتحاد السوفييتي يفرضه، الأمر الذي أفضى إلى تحقيق تطوّر صناعي ومجتمعي معيّن في العديد من الأمم. وكانت قد انهارت تلك التجارب بعد دخول الاتحاد السوفييتي في أزماته، و نتيجة التناقضات الداخلية فيها بفعل النهب الذي مارسته الفئات المسيطرة. فان الاجتياح الإمبريالي الراهن يعقّد الوضع في مختلف بقاع العالم، و يجعل إمكانية التطوّر أكثر صعوبة، و كذلك أكثر ارتباطاً بالصراع ضد الرأسمالية، الأمر الذي يفتح على البحث من جديد عن بديل للرأسمالية يحقّق التطوّر بمعناه الاقتصادي الاجتماعي و الثقافي السياسي و المجتمعي الشامل من جهة، و يزيل الاضطهاد و الاستغلال و القهر و عدم المساواة و اللاتكافؤ من جهة أخرى.
وإذا كان إخفاق التطوّر العربي قد ارتبط بالأحزاب القومية العربية التي قادت النشاط الثوري منذ خمسينات القرن العشرين،رغم كل الإنجازات التي تحقّقت و هي كبيرة و لاشك، فان استعادة المشروع النهضوي العربي في وضع يفرض المواجهة مع الإمبريالية التي باتت قوّة احتلال مباشر ، وكذلك مع جزئها العضوي ( أي المشروع الصهيوني)، يتطلّب أن يسعى الماركسيون العرب لكي يكونوا قوّة فعلى حقيقي، و أن يعملوا على أن يخوضوا الصراع من موقع الفعل الريادي. لقد كان عليهم لعب هذا الدور منذ تشكّل العمل الشيوعي، حيث كان يجب أن يقودوا النضال الثوري من أجل الاستقلال و الوحدة والتطوّر، و من أجل تجاوز الرأسمالية، لكن "العقل" الذي حكمهم، و الرؤية التي مارسوا على أساسها، جعلتهم " يهربون" من السياسي إلى المطلبي و من الثوري إلى "الديمقراطي" و من الفعل إلى رد الفعل، و بالتالي من تبنّي الأهداف العميقة و الواقعية المعبّرة عن المشكلات الحقيقية، إلى لمس انعكاسات هذه المشكلات فقط، و تقديم حلول جزئية لها كذلك. كما أسّست هذه "العقلية" و تلك الرؤية لمنطق يقوم على القبول بالأمر الواقع و التكيّف معه و التخلّي عن ضرورة تجاوز الواقع انطلاقاً من ممكنات الواقع ذاته، هذه الممكنات التي ظلّت غائبة عن وعيهم لأنهم لم يستطيعوا وعي الواقع و ظلّوا في مستوياته "الخارجية"، أي في المستويات التي تطال السياسي بما هو سطحي. لهذا عرفوا بـ" السلب" أو بالنقد و لم يعرفوا بالميل لتأسيس ما هو ابعد من الواقع و يتجاوزه عبر تحديد البديل والعمل على تحقيقه.
ونتيجة ذلك اقتحم الريف واجهة المشهد، فقد دخلت الفئات الفقيرة و المتوسّطة الصراع وهي التي كانت تئنّ تحت وطأة استغلال عنيف طيلة قرون، حيث كان الإقطاع المتمدّن ( أي الذي يسكن المدينة و يعمل في التجارة كذلك) يمارس أبشع نهبه، و بالتالي كان الصراع الطبقي يتمركز هناك، حيث كان الريف هو التكوين الأساسي للمجتمع. كما أن النمط الرأسمالي العالمي الذي كان قد مدّ سيطرته كان يهمّشه، حيث كان يمنع التطوّر الذي كان يمكن أن يستوعب أزمات الريف عبر توظيف جيش العمل الاحتياطي، وكان يكرس البنى التقليدية مع تركيزه على إنتاج السلع الزراعية الضرورية لصناعته.
وكانت وسيلة اقتحامه هي الجيوش المشكّلة أصلاً من القاعدة الريفية. وإذا كانت الفئات التي انتصرت قد هدمت البنية القديمة - عبر الإصلاح الزراعي الذي كان هو مركز ثقل الثورة الديمقراطية، و أساس توحيد القطاعات الشعبية و تأسيس قوة تغيير حقيقية – إلا أنها كانت تعمل على تحقيق مشروعها الخاص، البادئ بالمساواة و الواصل إلى التحوّل إلى طبقة مترسملة عبر النهب. وهي لم تكن تحمل مشروعاً بديلاً عن المشروع الرأسمالي، رغم أنها- ولتحقيق مصالحها- قلّدت و استفادت من التجربة الاشتراكية. لقد نادت بـ " الاشتراكية" القائمة على المساواة و تقديس الملكية الخاصة، الأمر الذي كان يحوّل المساواة إلى لا مساواة، كما كان تقديس الملكية الخاصة يفرض النهب و مراكمة الثروة التي كانت تهرّب إلى البنوك في المراكز الإمبريالية. و لقد تحقق ذلك في ظل أنظمة دكتاتورية استبدادية دمرت النشاط السياسي و الاحتجاجات الشعبية و الميول المطلبية، ولم تستطع مواجهة الأخطار الامبريالية الصهيونية.
وإذا كانت قد ترسملت حقيقة و أعادت التكيّف مع النمط الرأسمالي، أو سعت إلى ذلك، فان نهبها و استبداديّتها أفضيا إلى إدخال عملية التطوّر في مأزق عميق، وأوجدا أزمة اقتصادية وإفقار شديد، وأسسا لحالة من الرفض الشعبي، مع تدمير للحركة السياسية و القيم و تشويش على الأهداف. وها هي الآن تواجه الاجتياح الإمبريالي فتتكيّف معه أو تقف عاجزة عن ردّه.
لكن ليست الحركة الأصولية هي البديل، لأنها ترفض الغرب ليس لأنه رأسمالية تستغل و تنهب و تضطهد و تدمر و تحتل، بل ترفضه من منطلق "ديني" وقيمي أخلاقي ماضوي، و بالتالي فهي تعيد الصراع إلى شكله المغرق في القدم، و تفتح الأفق للتدمير و القتل على أسس بالية، دون رؤية لبديل يحقّق التطوّر والحداثة التي ترفضهما. لكنها في الواقع تكرّس الاستغلال والإثراء والنهب، وأيضا التفكك و التخلف و الاستبداد، كما تكرّس التبعية لذاك "الغرب" الرأسمالي لأن رؤيتها تقوم على الحق المطلق في الملكية الخاصة، وعلى أن النشاط الاقتصادي هو التجارة فقط. الأمر الذي يجعل صراعها مع "الاستكبار" ( أو مع الإلحاد، أو المسيحية و اليهودية) مؤسس على وعي ماضوي، وليس من منطلق مستقبلي وبهدف مستقبلي، ولكنه سرعان ما يتحوّل إلى "تحالف" نتيجة توافقها مع ذاك الغرب في تعميم الحرية الاقتصادية القائمة على النشاط التجاري فقط، وإتحادهما ضد الإلحاد والشيوعية كما جرى لعقود طويلة قبل الحرب الباردة وخلالها. و هي في كل الأحوال لا تستطيع توحيد القطاعات الشعبية لأنها تميّز على أساس الدين. وتتجاهل أوضاع الطبقات الفقيرة، وإن نشطت في "الإحسان". على العكس من ذلك تقف مع الفئات الرأسمالية التابعة (وهي جزء منها) من أجل إلغاء الإصلاح الزراعي وإعادة "الإقطاعيين"، ومن أجل إلغاء التأميم وخصخصة الصناعة وكل المرافق العامة. وهي ترفض الميول التحررية حتماً. وتتجاهل أن الواقع يؤسس لتكوين مدني حديث نتيجة العلاقات الرأسمالية التي أصبحت واقعا لا يمكن شطبه، مما يجعل ميلها معاكسا لهذا المسار، ومدمرا لما هو ايجابي فيه، مع تكريس لما هو سلبي ومحافظ. لهذا ورغم أنها باتت تواجه " المسيحية و اليهودية" فان التصوّر الذي تطرحه لا يحمل أي ملمح يطال المشكلات التي نعيشها، و لا يقدّم حلولا حقيقية لها، على العكس من ذلك نجدها تقدّم الحلول المدمرة لمصالح الطبقة العاملة والفلاحين بالأساس، كما لتحررية الفئات الوسطى.
إذن، يتقدم الاجتياح الإمبريالي في لحظة انهيار البنى التي تشكلت خلال فترة الحرب الباردة، وانهيار الأحزاب التي تشكلت خلالها، و في إطار مقاومة ماضوية وهوجاء من قبل الحركة الأصولية. وفي وضع انتفت فيه البدائل، حيث أن انهيار النظم الاشتراكية فتح باب التشكيك في الاشتراكية كبديل، كما أن النهاية المأساوية لتجربة " رأسمالية الدولة" التي تحققت بقيادة الحركات القومية، قد أبعدت التفكير في هذه الصيغة من التطوّر. ووهم السماء لا يحل مشكلات الأرض. رغم أن الفقر و الجوع ينخران كتلة هائلة من المواطنين، و يؤسسان لاحتقان شديد، و يحرّضان على الفعل، على الانتفاض وعلى الثورة. كما أن الوجود الصهيوني والإرهاب الذي يمارسه والأخطار التي يوجدها على الوطن العربي، وكذلك احتلال العراق والسعي لإعادة صياغة خريطة المنطقة لدمجها في العولمة الإمبريالية المتوحّشة، كلها تحرّض على التمرّد والاندفاع إلى المقاومة، و هو الأمر الذي بات هاجس كتلة شعبية هامة تعيش احتقانا هائلا نتيجة القهر الذي يسببه الاجتياح الامبريالي الصهيوني وكل الممارسات الوحشية التي يقوم بها، ونتيجة الإفقار الشديد الذي باتت تعانيه، وبالتالي بدء تفاقم الصراع الطبقي.
وربما كان غياب البدائل هو الذي يجعل للحركة الأصولية هذا الدور الذي تلعبه في وضع يتّسم بالتفجّر، حيث يحل أمل السماء محل أمل الأرض، وحيث يلعب الإعلام دوراً في تضخيم الفعل الأصولي ضد الامبريالية مع تجاهل لكل المقاومات الأخرى.
و أيضا ربما استطاعت قوى لا تحمل بديلاً أن تواجه و تنتصر ( رغم صعوبة ذلك الآن)، لكن ذلك لا يسمح بتحقيق التطوّر و الحداثة، أي تحقيق المشروع النهضوي العربي، مشروع الاستقلال و التوحّد و الدمقرطة و التطوّر الاقتصادي ( بناء القوى المنتجة)، رغم أن هذا الاحتمال بات ضعيفاً جداً لأن الصراع مع النمط الرأسمالي بات حاسماً، الأمر الذي فرض تجاوز النمط ذاته، حيث عبر ذلك يمكن تحقيق التطور في القوى المنتجة و الحداثة، وكذلك كل المشروع القومي الديمقراطي.
هذا يطرح دور القوى والأحزاب الماركسية. لقد كان على الحركة الماركسية(الشيوعية) العربية أن تؤسس لنضال جذري ضد الاستعمار و ضد الطبقات المسيطرة الحاكمة و ضد التجزئة و التخلف و الإقطاع و المشروع الصهيوني، لكنها لم تُقْدم، فتاهت في الفكر و في الرؤية و مالت إلى المساومة و "الاستسلام" و المهادنة و التكيّف. أما الآن فيجب أن يختلف النظر، لكي تختلف الرؤية. و ليس مطلوباً هنا الانتقال من طرف إلى آخر، لأن المعاكس ليس هو الحقيقة، و لقد حاولت قوى ذلك و فشلت كذلك. المطلوب يتمثّل في وعي الواقع و وعي حركته( صيرورته) من أجل أن يتحدّد دور القوى الماركسية على ضوء هذا الوعي، وبالتالي لكي تلعب دورها الممكن. والممكن يشير إلى أن لها دور محوري يستطيع لمّ تململات الطبقات و القوى، و يمكنه تطوير المقاومة بشكل عاقل وعقلاني، كما أن بإمكانه بلورة بديل حقيقي، يتجاوز التخلف و التهميش و يحقق التطوّر و يزيل الاستغلال و الاضطهاد و ينحو لأن يحقق إنسانية الإنسان. إن الطابع الاستقطابي للنمط الرأسمالي يفرض أن يتحقق التطور و تتحقق الحداثة عبر تجاوزه ( أي عبر نفيه)، و ليس من مشروع يطمح إلى ذلك سوى المشروع الماركسي، المشروع المعبّر عن الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. لقد حاولت الفئات الوسطى تجاوز احتجاز التطوّر عن طريق الدور الذي لعبته الدولة، وكان جوهر مشروعها يتمثّل في الرسملة، لكنها فشلت حيث أنها فئات تغلّب الخاص على العام، المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. وإذا كان المشروع الرأسمالي مستحيل أصلاً نتيجة عالمية النمط الرأسمالي، فان الخروج على آليات النمط الرأسمالي تفرض الخروج على الرأسمالية ذاتها، و هنا يتحدّد دور المشروع الماركسي.
المسألة الآن هي مسألة مواجهة الاجتياح الإمبريالي الأمير كي، لكنها كذلك و في الوقت ذاته مسألة تحقيق التطوّر وتجاوز الاستغلال والاضطهاد والاغتراب والاستبداد.
الأمر الذي يفرض على القوى والأحزاب الماركسية في الوطن العربي أن تكون عنصر فعل حقيقي في الصراع، وأن تعمل على تطوير الصراع الطبقي ضد الطبقات المسيطرة، كما ضد الرأسمالية الإمبريالية و خصوصاً رأسمالية الولايات المتّحدة. و أن تعطي لهذا الصراع اتساقه وشموله وأبعاده العميقة عبر تفعيل حركة اجتماعية شاملة، عن طريق تطوير نشاطات الطبقات الفقيرة، خصوصاً العمال والفلاحين الفقراء وكل المهمشين، والدفاع عن حقوقها وعن دورها وحق تشكلها كذات سياسية. وهذا الدور يفرض عليها إعادة بناء تصوّراتها ورؤاها، وتحديد أهدافها. وفي هذا الوضع يجب التأكيد على الأمور التالية:
1) إن الصراع الأساسي هو صراع مع النمط الرأسمالي، وبالتالي مع الطبقة الرأسمالية الامبريالية في المراكز، وإن الهدف هو تجاوز الرأسمالية من أجل تحقيق التطور والحداثة والاشتراكية. وهذا يعني أن نفي الرأسمالية هو ما يوجّه النشاط و يفرض تجاوز الميول القائمة على التكيّف معها باعتبارها "حقيقة" ليس من الممكن تخطيها الآن. على العكس، ليس من الممكن تحقيق التطوّر وأي من الأهداف المطلبية التي تهمّ الطبقات الفقيرة مباشرة دون تجاوز الرأسمالية، كما أن الرأسمالية غدت قوّة تدمير و تخريب للبيئة و قوّة إفقار و تهميش. وإذا كانت الحركة الماركسية القديمة قد بنت سياساتها على أرضية الرأسمالية وانطلاقاً من ضرورتها باعتبارها مرحلة " تقدمية" لا يمكن تجاوزها، فان أوهامها سقطت منذ زمن بعيد، الأمر الذي يستدعي التأكيد على أن الرأسمالية في الأطراف ليست قوة تقدم بل هي قوة إعاقة، و أن عالمية النمط الرأسمالي تشكل قوة منع و تخليف إضافة إلى كونها قوة نهب و استغلال و اضطهاد و تدمير، أو نتيجة كونها كل ذلك. وإن التطور والحداثة وتجاوز الاضطهاد و الاستغلال تفرض كلها صيغة أخرى للتغيير تلعب الحركة الماركسية دوراً محورياً فيها.
إذن يجب أن تكون الحركة الماركسية في طليعة القوى التي تخوض الصراع ضد الاجتياح الإمبريالي الراهن، و بالتالي تكون في طليعة القوى التي تقاتل من أجل طرد الاحتلال الأمير كي من العراق وإنهاء الوجود الصهيوني في فلسطين، والتصدي للتوسّع ألاحتلالي الأميركي المستمر. أن تبني استراتيجيتها على أنها قوّة مقاومة وتغيير من جهة، و أنها تحمل مشروعاً بديلاً من جهة أخرى. و بالتالي فان مراهنتها على أن تنتصر الرأسمالية، أو أن تتخلّف عن أن تصبح قوة مقاومة عبر الركض وراء أوهام راهنية الرأسمالية، يفسح لقوى أخرى أن تحل التناقضات دون أن تقدّم بديلاً حقيقياً، الأمر الذي يفتح على مشكلات جديدة.
إن تحوّل الرأسمالية إلى نمط عالمي فرض أن يرتبط التطوّر بالحركة الماركسية، الأمر الذي جعلها قوة تطوير قبل أن تكون القوة التي تحقق الاشتراكية . إنها وهي تقاتل من أجل تكريس الاستقلال، وهو الأمر الضروري و الحاسم راهناً، تعمل من أجل تحقيق الأهداف الديمقراطية العامة، أهداف التطوّر والحداثة. وبالتالي فهي لا تسعى للرفض فقط بل تعمل من أجل تحقيق برنامج التطوّر و الحداثة كخطوة في طريق تجاوز النمط الرأسمالي.
2) ولهذا يجب أن تعمل من أجل تحقيق مشروع نهضة في الوطن العربي،أن تجيب على أسئلة التقدم العربي و تعبّر عن حداثته. إن مواجهة الرأسمالية ترتبط بتحقيق التطوّر، الذي يفترض تحقيق جملة المهام التي يفرضها تحقيق الثورة القومية الديمقراطية. أي مهام الانتقال من الاعتماد على المواد الأولية و الخدمات و الزراعة كقوي " منتجة" في الاقتصاد، إلى تأسيس قوى منتجة تكون الصناعة هي أساسها، ويجري تحديث الزراعة اعتماداً على ذلك. وكذلك الانتقال من التفكك السياسي الذي تكرّس خلال القرن العشرين إلى الدولة- الأمة. ومن أيديولوجيا القرون الوسطى و البنى القروسطية إلى المجتمع المدني الحديث الذي يتأسس على مفهوم المواطنة، والقائم على العلمانية والديمقراطية. ومن الفروق الطبقية الواسعة إلى تحقيق مصلحة الطبقات الشعبية. وأيضاً الانتقال من التبعية و الإلحاق إلى الاستقلال و لعب دور فاعل في العلاقات الدولية، و تكريس العلاقات الأممية و تشكيل التكتلات الاقتصادية الكبيرة.
مسائل مبدئية
هذا الدور يفرض إعادة النظر في كل الرؤية التي كانت هي الرؤية الرائجة، والتي همّشت الحركة الماركسية وأفضت إلى سيرها نحو التلاشي.
المسألة القومية:
أوّل هذه المسائل مسألة الموقف من المسألة القومية في الوطن العربي ،فالدول القائمة على الأرض العربية هي التكيّف العملي مع النمط الرأسمالي العالمي و هي نتاجه، لهذا فهي متنافرة مع التشكل التاريخي الذي كان العرب نتاجه و متضادة مع " الشعور القومي". كما أنها المكمّل للتكوين الاقتصادي الذي فرضه الالتحاق بالنمط الرأسمالي العالمي و المكرّس له، و بالتالي المكرّس لهيمنة القوى الإمبريالية. و إذا كان التحديد لا ينطلق من الدولة بل ينطلق من الأمة ( إلا إذا اعتبرنا أن الدولة القطرية تشكل أمة وهذا منافِ للواقع) فإن إستراتيجية النضال تنطلق من الإطار القومي. وبهذا تكون المسألة القومية مسألة تحتاج إلى حل، وتكون في صلب برنامج التطوّر، ويصبح " الشعور القومي " أصيلاً في فهم ميول العرب وتحديد مطامحهم. و من ثمّ يصبح النضال من أجل التوحيد القومي جزءاً جوهرياً في سياق تحقيق التطوّر، كما هو ميل لتجاوز اغتراب الذات عبر تحقّقها لكي يكون ممكناً تضمّنها في تكوين أشمل و أقصد الأممية.
لكن التأكيد على حل المسألة القومية العربية يجب أن يرتبط بحل مسألة الأقليات والقوميات المتداخلة مع العرب. وكذلك إعادة صياغة العلاقات القومية في كل المنطقة على أسس واضحة تنطلق من مبدأ حق تقرير المصير للأمم، وحق تشكيل الدولة –الأمة، مع تأسيس الترابط الضروري الذي يفرضه التداخل البشري والتعايش التاريخي، والأمل في تشكيل كتلة قادرة على تحقيق التطور في كل المنطقة في عصر سيطرة الاقتصاديات الضخمة للأمم الامبريالية.
ولهذا ، فإذا كان من حق الأمم أو أجزاء من أمم المتداخلة مع العرب أن تستقل، وأن أن يعمل الماركسيين في الوطن العربي على مساعدتها على ذلك، فإن من حق الأقليات القومية أن تحصل على المساواة وحق المواطنة وكل حقوقها اللغوية الثقافية وحتى الإدارية إذا اقتضت الضرورة ذلك.
إن الصيرورة الواقعية بما هي حركة من أجل التطوّر وتحقيق إنسانية الإنسان، هي أيضاً ميل لتحقيق هويته،ليكون " الشعور القومي" جزءاً عضوياً في الصيرورة ليس من الممكن إهماله. إن الترابط المتشكّل تاريخياً و المؤسّس لنشوء الأمم لا يمكن شطبه أو القفز عنه أو تجاهل مفاعيله، وبالتالي حينما لا ينتظم في تكوين موحّد يؤسّس لميل إلى التوحيد، و هو ما يطلق عليه الشعور القومي الذي يكون وفق ذلك ميلاً موضوعياً ليس من الممكن تجاهله. لهذا كما أن في كل " دولة" مشكلات محلية تتعلّق بوضع الطبقات و الاقتصاد و السلطة، ستكون التجزئة وبالتالي الميل لتشكيل الدولة- الأمة مشكلة داخلية في كل منها كما هي مشكلة عامّة، ولاشك في أن النشاط الشعبي تجاه العديد من المسائل العربية ( فلسطين و العراق مثلاً) يعبّر عن ذلك. من هنا يصبح تشكيل الدولة/ الأمة هدفاً في البرنامج الديمقراطي، و هو هدف محوري لأن تحقيق الوحدة القومية يؤسس لسوق واسعة قادرة على استيعاب التطوّر في القوى المنتجة ( الصناعة)، كما أنه قادر على تأسيس الدولة/ الأمة القادرة على حفظ استقلالها و بناء علاقات متكافئة على الصعيد العالمي.
لقد اختار الشيوعيون النشاط القطري ( خصوصاً منذ نهاية ثلاثينات القرن العشرين)، و كان ذلك من أسباب أزمتهم، كما عبّر عن تكيّفهم مع " المنطق البرجوازي" الذي حكم الرأسمالية المحلية المتكيّفة مع سياسات النمط الرأسمالي العالمي الذي أسس للصيغة الراهنة للوطن العربي، في سياق تكيّفهم مع كون الرأسمالية هي التي تحقّق التطور الراهن لتحقيق المهمات الديمقراطية. ولهذا فان التأسيس لدور مختلف يفرض تجاوز المنطق البرجوازي والتأسيس لوعي عميق بالمسألة القومية، والانطلاق من أنها جزء عضوي في صيرورة التطور الراهنة، وتحققها هو من مهمات الحركة الماركسية، لتصبح على رأس برنامجهم، ويكونوا في مقدّمة المناضلين من أجل حلّها، بالترابط مع تحديد موقف واضح من وضع الأمم المتداخلة مع العرب نتيجة تقسيمات اتفاق سايكس/ بيكو، ينطلق من مبدأ حق تقرير المصير المحدّد في حق الاستقلال. و كذلك التأكيد على حق الأقليات القومية الديمقراطية والثقافية. ولاشك في أن دورهم هذا يعطي للمسألة القومية طابعها التقدمي، لأن أممية الماركسيين تجعلهم يؤكدون على ترابط النضال الأممي و على تحالف الطبقات الفقيرة و المستغلّة ضد الرأسمال، و تحالف الأمم المضطهدة ضد المراكز الإمبريالية. ليكون تحقيق التوحيد القومي خطوة ضرورية في مسار تشكيل عالم موحّد.
يجب إذن أن يخرج الماركسيون من النظرة المحلّوية الضيّقة، و أن يؤسسوا لدور حقيقي ينطلق من تحقيق المهمات الديمقراطية ، فتكون المسألة القومية مسألة محورية في رؤيتهم،و يعملوا لكي يكونوا الأجدر في حلها عبر تحقيق الوحدة القومية العربية بالترابط مع حل مشكلة القوميات المتداخلة والأقليات القومية.
المسألة الفلسطينية:
المسألة الأخرى التي يجب على الماركسيين أن يؤسسوا لموقف مختلف منها هي المسألة الفلسطينية، حيث مال الموقف العام الذي راج و أصبح أساس سياسات الحركة الشيوعية إلى القبول بالأمر الواقع، و اعتبار أن ميزان القوى المختلّ يفرض التكيّف مع " الحقائق"، والانطلاق من أنه يمكن التعايش مع التكوين الجديد الذي هو الكيان الصهيوني (أو إسرائيل)، وأن يكون مبدأ " التعايش السلمي" هو أساس الرؤية، وأساس القبول بالمفاوضات والاعتراف بهذا الكيان، وبالتالي رفض كل سياسة تدعو إلى المقاومة باعتبارها طفولية و تطرّفاً، والقبول بكل "المبادرات الدولية" والتزام قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية التي هي في الواقع تكرّس الوجود الصهيوني.
ولما كان هذا الوجود يؤسس لرفض عربي شعبي بالأساس، و يهيئ لنشاط سياسي مقاوم، فقد أصبح موقف الحركة الشيوعية العربية صعباً ومحلّ رفض من قبل الأوساط الشعبية، حتى تلك التي يدافع الشيوعيون عن قضاياها المعيشية والمطلبية. الأمر الذي كان يضيّق من قاعدتها الاجتماعية، ويضعف من تأثيرها العام، كما كان يجعلها مجال هجوم من قبل الاتجاهات القومية وكل الاتجاهات الأخرى. وبالتالي كان يضعف دورها في تحقيق التطوّر و تحقيق المهمات الديمقراطية.
لقد نبعت إشكالية موقفها من المسألة الفلسطينية من خلل في الرؤية كما من خلل في المنهجية. حيث كان هذا الموقف يتجاهل الطابع الإمبريالي للمشروع الصهيوني، كون تأسيس الكيان الصهيوني هو جزء من السياسة الإمبريالية العامة للسيطرة على الوطن العربي، وحيث كان تكريس التجزئة الجزء الآخر منها، بهدف تكريس البنى التقليدية القديمة وتأبيدها لضمان استمرار السيطرة في سياق تحقيق مصالح الرأسمالية المهيمنة عالمياً. لهذا كان الوجود الصهيوني ضرورياً كمركز إمبريالي متقدّم، وكحاجز يؤسس لظروف تشلّ إمكانات تنامي الميول التوحيدية العربية، وكقوة ردع إمبريالية حينما تفرض الضرورة ذلك، ومن ثمّ كمركز اقتصادي متقدم حينما تتحقق الهيمنة. إذن ليس تأسيس الكيان الصهيوني حلّ للمسألة اليهودية ( التي هي مشكلة أوروبية بالأساس جرى تصديرها إلى الوطن العربي)، الأمر الذي ينفي عن هذا الحل أي طابع إنساني، ويضعه في خانة الاستعمار الاستيطاني في إطار السيطرة الإمبريالية على العالم، وليكون موطئ السيطرة على الوطن العربي. وبالتالي فان مواجهة الرأسمالية بما هي نمط عالمي يستدعي مواجهة تمظهراتها. لهذا تكون مواجهة الوجود الصهيوني جزء من الصراع مع الرأسمالية من أجل التطوّر و التحرر، وليس من الممكن رؤيتها خارج هذا الإطار، لأنه ليس من الممكن فصل الوجود الصهيوني عن الإمبريالية، وليس من الممكن رؤية الطابع " الإنساني" لهذا الوجود دون الطابع الإمبريالي، كما لا يمكن رؤيته دون رؤية انعكاساته غير الإنسانية على العرب.
لهذا سوف تصطدم كل السياسات التي تنطلق من القبول بالوجود الصهيوني والتعايش معه، باستحالة أن يتخلى هذا الوجود عن طابعه الإمبريالي، وبالتالي عن ميوله التوسّعية الهيمنية، و عن كونه احتلال استيطاني متعصّب، وكذلك عن كونه عنصر إعاقة وتوسّع وتدمير. الأمر الذي يجعل كل السياسات الهادفة إلى إيجاد " حل سلمي" تغرق في متاهات العدوانية الصهيونية و ميلها التوسّعي ألاحتلالي. و ما من شك في أن سنوات المفاوضات الطويلة التي مارسها العرب و الفلسطينيون توضّح مدى الوهم الذي ينبني على مفهوم التسوية و التعايش. وفي هذا الإطار تتوضح استحالة تحقيق أية تسوية، وخصوصاً أن كل الخطوات التي قامت بها الدولة الصهيونية منذ احتلال سنة 1967، وخصوصاً بعد اتفاقات أوسلو، تشير إلى سيطرتها على جزء مهم من أرض الضفة الغربية، وتعزيز الاستيطان، وحصر الفلسطينيين في كانتونات غير قابلة للحياة، وليس لإقامة دولة مستقلة فقط.
على الماركسيين إذن أن يجعلوا المسألة الفلسطينية مسألتهم، وأن ينطلقوا من أن الصراع مع الوجود الصهيوني هو جزء من الصراع مع الإمبريالية، وأن فلسطين جزء من الوطن العربي، و بالتالي يجب أن تظلّ كذلك. وانطلاقاً من ذلك يجب التأكيد على بلورة حل ديمقراطي للمسألة اليهودية، لا يقوم على القتل، و يقبل العيش مع اليهود ( الذين هم في قسم كبير منهم عرب عاشوا قروناً طوال في الوطن العربي) في إطار دولة ديمقراطية علمانية عربية. و هنا يستطيع الماركسيون العرب أن يقدّموا رؤية متماسكة لا تنطلق من التعصّب أو ارث التخلّف أو ردود الأفعال، بل تستند إلى كل ما هو إنساني و ديمقراطي في التراث العالمي.
يجب إذن مقاومة الاستسلام لميزان القوى كما للوجود الصهيوني، وبالتالي يجب العمل من أجل "تغيير ميزان القوى" عبر تغيير الواقع العربي، ليصبح الصراع ضد الوجود الصهيوني جزء من الصراع العام من أجل التطوّر والتوحيد والحداثة. ولا شك في أن تداخل السيطرة الإمبريالية والوجود الصهيوني و التخلّف و التجزئة و التفكك يفرض هذا الترابط الضروري، حيث سنكون في صراع متشعّب الاتجاهات ومتعدّد الأشكال، الأمر الذي يجعل تفعيل نشاط الطبقات الشعبية مسألة حاسمة، مما يفرض وعي ظروفها والدفاع الحقيقي عن مصالحها، وهو ما يعطي للصراع عمقه الاجتماعي ( الطبقي) الضروري.
مسألة الديمقراطية:
في هذا الوضع يصبح التأكيد على الديمقراطية و السعي من أجل العلمنة من المسائل الحساسة والضرورية كذلك. وإذا كانت الحركة الشيوعية قد بدت متجاهلة هاتين المسألتين أو رافضة لهما، أو كانت قد طرحتهما في سياق إشكالي، فإن مآلات التجربة الاشتراكية وموقع الاستبداد في الوصول إليها، يفرض التأكيد على أهميتهما و يعزّز الحاجة لأن يكونا في صلب البرنامج الديمقراطي. لقد بدا أن الديمقراطية هي الطريق للانتقال إلى اشتراكية أرقى، و هي التي تنهي اغتراب البشر و تعيدهم إلى صلب السياسة وبالتالي إلى تملّك مصيرهم، ومن ثمّ تحقيقهم التحولات الضرورية لتطوّر الاقتصاد وتحسّن الوضع المعاشي، لكن تجاهلها قاد إلى انهيار الاشتراكية لأن السلطة التي تبلورت والتي حكمت باسم الاشتراكية دفعت البشر ( و للتخلّص من اغترابهم ومسخ شخصياتهم) إلى التخلّص من الاشتراكية ذاتها، فساروا في هاوية مريعة، جلبت لهم الفقر و الموت دون أن تجلب نهاية الاغتراب أو الديمقراطية الحقة.
آن لنا إذن أن نتخلص من صيغة للعلاقات وللحكم نهايتها الدمار، وأن نؤسس تصوّراتنا و علاقاتنا على أساس ديمقراطي، خصوصاً وأن التجربة تكرّرت عندنا في صيغة مسخ، حيث سادت الدكتاتورية دون أن يتحقق التطوّر المرجو. وسادت " الحداثة" دون أن تتحقق القطيعة مع الأيديولوجية التقليدية، الأمر الذي أسس لعلمانية ملتبسة ومنخورة، مما أعاد نهوض الأصولية كحركة سياسية وجعلها قوة تدمير ببرنامج ظلامي وممارسات بشعة. لقد نشأت الحركة الأصولية ضد الحداثة والتطوّر، ولعبت دوراً في التدمير الداخلي القائم على أساس ديني ومذهبي، و قاتلت السلطات في بعض الدول انطلاقاً من ذلك وبالتحالف مع الامبريالية، كما سعت لفرض برنامج محافظ ورجعي( فيما يتعلق بالمرأة و العلاقات الاجتماعية و الاقتصاد ). وإذا كان الصراع العالمي قد حوّلها إلى قوة مناهضة لأميركا بعد أن تحالفت معها لعقود و تدرّبت لديها ( كما في أفغانستان مثلاً). وبالتالي بدت إزاء انهيار اليسار و الحركة القومية أنها القوة التي تناهض "الاستكبار" الأمير كي، وتقاتل "المسيحية واليهودية"، لتصبح هي قائدة "التحرر"، فان الرؤية التي تنطلق منها القائمة على أساس الدين ( صراع المسيحية/الإسلام، أو اليهودية/ الإسلام) تدخل الصراع، الذي هو صراع مصالح، في متاهات دموية لا تسمح بوصوله إلى الانتصار وبالتالي التحرّر. كما أنها يمكن أن تعيد التحالف مع القوى الامبريالية مادامت تنطلق من أولوية مواجهة الإلحاد والشيوعية والعلمانية لتكريس سلطة "الشريعة"، وفي إطار نظام اقتصادي ليبرالي تريده الرأسماليات الامبريالية.
إن البديل الضروري، لكي يكون الاستقلال حقيقياً، ولكي يصبح التطوّر فاعلاً، ولكي تتحقق المهمات الديمقراطية هو البديل المحقق لمصالح الطبقات الفقيرة في الوضع الحاضر. وهذا الأمر يجب أن يكون من أهداف الحركة الماركسية و من سياساتها. حيث أنها لا تعبّر عن القضايا المطلبية للعمال والفلاحين الفقراء فقط، بل أنها تعبّر عن مشروعها السياسي الطبقي. لهذا يجب عليها أن تطرح بديلها الاقتصادي الاجتماعي والسياسي، وأن تدمج النضالات المطلبية في سياق فعل سياسي يحقق التغيير لكي يكون ممكناً تحقيق كل تلك المهمات.
نقاط برنامجية

وعلى ضوء ذلك فإن الرؤية التي يجب أن تنطلق منها القوى والأحزاب الماركسية تتحدّد في المحاور الآتية:
1) مقاومة الاحتلال الأمير كي الجديد، وتطوير مقاومة شعبية ومسلحة ضده تتخذ أشكال القتال العسكري والمظاهرات الشعبية والإضرابات ومقاطعة المصالح والسلع. ولاشك في أن الاحتلال يفرض المقاومة المسلحة التي يجب أن تنصبّ على تدمير قوّاته و تكبيده أكبر الخسائر، و الحرص على توحيد كل القطاعات الشعبية في هذا الصراع من أجل هزيمة الاجتياح الإمبريالي وتكريس الاستقلال.
2) مواجهة المشروع الصهيوني والعمل على تغيير ميزان القوى عبر تحقيق التحويل العميق في المجتمع العربي، بما يسمح بإنهاء الدولة الصهيونية، وتقديم حلّ ديمقراطي للمسألة اليهودية تؤسس لتعايش سلمي في إطار دولة عربية ديمقراطية وعلمانية. وهذا الأمر يفرض تجاوز منطق التناحر الديني الذي تقيمه الحركات الأصولية، وبالتالي تجاوز منطق القتل العشوائي.
3) إن تحقيق ذلك، وأيضاً تحقيق التطور والحداثة يفرضان التأكيد بأن النظم القائمة هي نظم رأسمالية تابعة تسهم في تكريس السيطرة الامبريالية والتخلف والتفكك، لهذا يجب العمل على تحقيق التغيير لمصلحة العمال والفلاحين وكل الطبقات الشعبية.
4) السعي لتحقيق الوحدة القومية العربية و تأسيس الدولة/ الأمة على أساس ديمقراطي و فيدرالي، وتكريس استقلال الأمم المتداخلة مع العرب وحق الأقليات القومية في المواطنة وكل الحقوق الثقافية بما فيها التكلم بلغتها وتعليمها.
5) وهنا تصبح الديمقراطية هدفاً أساسياً و جزءاً من عملية التطوّر والحداثة. وهي تعني تأسيس نظام فيدرالي ديمقراطي، يقوم على مبدأ المواطنة ورفض التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو ديني أو إثني، ويفصل بين السلطات، ويفصل الدين عن الدولة، ويقرّ بكل الحريات العامة، ويقوم على الانتخاب.
6) التأكيد على مبدأ العلمانية القائم على فصل الدين عن السياسة و بالتالي عن الدولة. والتأكيد على علمنة مؤسسات الدولة، وفي مجال التعليم خصوصاً.
7) التأكيد على حق المواطنة و الحريات الأساسية و على التعددية و حقوق الإنسان السياسية و الاقتصادية/ الاجتماعية و حق النشاط السياسي و النقابي و المدني. حرية الرأي والصحافة وتشكيل الأحزاب وحق تشكيل النقابات والاتحادات والجمعيات.
8) الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة و الفلاحين الفقراء المطلبية و المعيشية، و كذلك الدفاع عن مصالح كل الفئات الشعبية الفقيرة و المهمّشة.
9) النظر الجدّي إلى وضع المرأة ودورها والتأكيد على دورها السياسي الفاعل، و إصدار التشريعات التي تكرّس ذلك.
10) تحقيق الحداثة في التعليم و في الثقافة و كذلك في التكوين المؤسسي.
11) صياغة برنامج تطوّر على الصعيد الاقتصادي تلعب الدولة دوراً محورياً في تحقيقه، ينطلق من بناء الصناعة وتطوير الزراعة وتأسيس البنية التحتية الحديثة. دون تجاهل دور الملكية الخاصة لكن مع ضبط نشاط الرأسمالية المافياوي والطفيلي. والانطلاق من ضبط العلاقة مع السوق العالمي بما يسمح بتحقيق فائض رأسمالي يكون أساس عملية التوسع في بناء القوى المنتجة وتطوير المستوى المعيشي لكل الطبقات الشعبية.
12) التأكيد على أن الهدف الذي يسعى كل الماركسيين الوصول إليه هو الاشتراكية، التي تمرّ بمرحلة تقوم على تجاوز الرأسمالية لتحقيق مجمل الهداف الديمقراطية، المحددة في الاستقلال والوحدة والتطور والحداثة.
13) العمل مع كل القوى الماركسية في العالم، ومع حركات الشعوب التحررية من أجل هزيمة الرأسمالية وتأسيس نمط بديل يخدم تقدم الشعوب ومساواتها وتحقيق التكافؤ فيما بينها، عالم تستطيع فيه الاشتراكية أن تتطور إلى أقصى مدى.


عن الماركسية ومهمات القوى الماركسية
الحركة الماركسية إذن هي حامل مشروع التطوّر، وهي التي يجب أن تقود تحقيقه. وإذا كانت لم تستطع الإمساك بهذه المهمة الكبيرة فيما مضى مما جعلها تتلاشى أو تكاد، فان تحقيق ذلك الآن يفرض إعادة النظر في " العقل"، أي في منطق التفكير، لأن الخطأ المعرفي هو الذي استحكم فيها في العقود الماضية. حيث كان ينقصها العمق والشمول والنسبية وكل النظر القائم على الجدل المادي الذي هو أس الماركسية وأساس تشكيلها الرؤية التي تحكم فعلها السياسي. لقد فشلت في أن تكون ماركسية حينما لم تستطع تجاوز المنطق الذي يترعرع ويجري توارثه، و المؤسس على الثنائية اللاهوتية التي تنطلق من رؤية الشكل ( السطح) في أحاديته وسكونه وتضاده، هذا التضاد الذي يبدو ثنائياً ( خير/ شر). لهذا فهمت السياسة في إطارها المبسّط والسطحي، معزولة عن الاقتصاد والمصالح الطبقية. كما فهمت في حدثيّتها ولحظيّتها دون رؤية صيرورتها وتحوّلاتها، الأمر الذي أسس لسيادة المنطق التكتيكي، أي المنطق الذي يبدأ من التكتيك و ينتهي به، لتغيب الرؤية وينتهي الفكر أو يتحوّل إلى عنصر تبرير لسياسة تكتيكية .
وهو الأمر الذي كان يقود إلى عدم رؤية الواقع بما هو صيرورة وتحوّلات. وبالتالي إلى العجز عن رؤية ممكنات التحوّل في ميزان القوى، مما كان يقود إلى التكيّف مع ميزان القوى الواقعي وليس رؤية ممكنات التغيير فيه من خلال استنهاض الحركة الاجتماعية، ورؤية أن فعل القوى المسيطرة يقود إلى استثارة الطبقات الشعبية، الأمر الذي يلقي على الحركة الماركسية مهمة تنظيم وتطوير النشاط الشعبي من أجل قلب ميزان القوى وفرض انتصار برنامج بديل هو برنامج العمال والفلاحين الفقراء وكل الطبقات الشعبية. إذن يجب تجاوز منطق التكيّف مع الأمر الواقع و الانطلاق من إمكانية تحويل الواقع لأنه يحمل هذه الإمكانية بفعل التناقضات التي يوجدها الاحتلال و توجدها السيطرة و النهب و الاضطهاد، أي التي توجدها ممكنات الصراع الطبقي. إن فعل البشر أساسيّ هنا، وهو جزء من الحركة الواقعية التي تسمى الصيرورة،وحيث لا يتحدّد ميزان القوى إلا بعد استنفاذ كل طاقاتهم عبر نشاطهم في الصراع. وهنا يكون وعي عمق الواقع حاسماً لأنه يؤسس لوعي فعل البشر هذا، مما يقود إلى بلورة الأشكال التي يمكن أن يتبلور فيها، و يفرض صياغة الرؤية الضرورية لتحقيق ذلك، والمؤسِّسة لتحديد الأهداف المحققة لمصالح البشر أنفسهم.

إن منطق المواجهة والمقاومة والتعبير عن أزمات الطبقة العاملة و الفلاحين الفقراء، ووعي مفاعيل صيرورة الانسحاق التي تلقى فيها، وبالتالي العمل على تسييسها وتحويلها إلى فعل سياسي منظّم، هو ما يجب أن يكون في رأس أولويّات الحركة الماركسية، حيث سيكون من مهمّتها وعي الظروف الواقعية من أجل وعي صيرورة التغيير التي هي مهمتهم. يجب الانطلاق من الدور الفاعل للماركسية والماركسيين دون الوقوع في الإرادوية، لكن بما يحقق تجاوز منطق " الاستسلام" والتكيّف، وبما يجعل الحركة الماركسية قيادة حركة اجتماعية حقيقية.
هذا ما يجب أن يحاوله الماركسيون و أن يمارسوه، حيث يجب أن يقودوا حركة المجتمع من أجل تحقيق مشروع تطوّر حقيقيّ لما بعد الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين. أن يقودوا القتال ضد الاحتلال الأمير كي، وأن يتصدّوا للمشروع الصهيوني انطلاقاً من بديل ديمقراطي للمسألة اليهودية، وأن يحققوا التغيير الجذري في النظام الإقليمي العربي بما يؤسس لمجتمع جديد يفتح أفقاً لتطوّر محتجز، ويفضي إلى نقل العرب إلى القرن الواحد والعشرين.
الماركسيون الآن يجب أن يناضلوا ضد النمط الرأسمالي العالمي، وضد عولمته وضد الحروب الإمبريالية التي يخوضها، وضد الاحتلال الأميركي الجديد، وضد المشروع الصهيوني. من أجل الاستقلال و التوحيد و التطوّر و بناء عالم آخر يعزز قيم الإنسان ويؤسس التشارك و المساواة و التكافؤ و الاعتماد المتبادل، هو عالم الشعوب.
الماركسية ليست تصوّراً فقط ، إنها قوّة فعل كذلك، لهذا يجب أن يتحدّد دورها في الصراع الراهن.













































نظرة في السياسة التعليمية في سوريا والوطن العربي
نجيب روميّه

لما كانت المؤسسة التعليمية كالمدارس والجامعات هي مؤسسة اجتماعية أولاً، فمن غير الممكن أن تتحدد إلا بترابطها مع البنية الاجتماعية لا بعيداً عنها، فهي في علاقة عضوية مع الكل الاجتماعي الذي هو بنية هذا المجتمع على الرغم من استقلاليتها النسبية؛ وبالتالي فهي متطورة بتطور المجتمع، لذا لا بد من وضعها في إطارها الاجتماعي الذي يحددها ولا تتجرد عنه. فالمؤسسة التعليمية ليست جوهراً مجرداً ميتافيزيقياً لا يتميز اجتماعياً وتاريخياً إذاً لا بد من ربطها بالواقع الاجتماعي كي يتحدد دورها في المجتمع ومن ثم وجودها، أما حين تتجوهر الجامعة أو المدرسة وتعامل كجمع مستقل فوق الطبقات لا صلة له بالبنية الاجتماعية فإنها تصبح أداة في يد الطبقة الحاكمة كبورجوازية في المجتمع الطبقي، وهذا الحال هو حال المدارس والجامعات في وطننا العربي. إنها تستخدم لتحقيق السيطرة الأيديولوجية للطبقة البورجوازية إلى جانب سيطرتها الاقتصادية والسياسية، ففي ضوء العلاقة بين السيطرة للبورجوازية وإعادة إنتاج علاقات الإنتاج في إطارها الطبقي القائم تبدو عملية إخضاع النظام التعليمي للمصالح الطبقية للبورجوازية أمراً هاماً. فهذه المؤسسات التعليمية هي القاعدة المادية (الاجتماعية) لوجود الأيديولوجية البورجوازية المسيطرة في نظام التعليم. فما دامت البورجوازية هي المسيطرة في المجتمعات العربية اقتصادياً وسياسياً وأيديولوجياً ومن ثم تمتلك بطبيعة الحال سلطة الدولة لتضعها في خدمة مصالحها الطبقية فهي التي تقوم دوماً بإعادة إنتاج علاقات الإنتاج نفسها لتأييد سيطرتها الطبقية. وهي هنا تحقق هذا التوافق الضروري بين سياستها الاقتصادية وسياستها التعليمية. ولا يمكن للبورجوازية أن تنتهج سياسة ثقافية أو اقتصادية أو تعليمية أو إدارية تضر بمصالحها الطبقية كطبقة مسيطرة. والنظرة الفاحصة للمادة التعليمية في برامج التعليم الثانوي والجامعي ترينا أنها مادة إيديولوجية محددة وليست مادة علمية بحتة، وليست معرفة مجردة عن أي طابع اجتماعي طبقي مجدداً أو ثقافة حيادية تابعة لأي فرد، ولكي تكون فعالة أكثر ينبغي أن يحضر العلم فيها بشكل جزئي ومشوه يحجب طبيعتها الطبقية كسلاح في الصراع بين مختلف الطبقات الاجتماعية. إن الطبقة المسيطرة على الإنتاج الاجتماعي هي ذاتها الطبقة المسيطرة على التعليم، والطبقات الخاضعة للسيطرة البورجوازية في حقل الإنتاج هي نفسها الخاضعة لهذه السيطرة في حقل التعليم. أما علمية المستوى التعليمي فإنها تتحدد في علاقتها الوثيقة بضرورات الإنتاج الاجتماعي لأن المدرسة تقوم بإنتاج قسم من القوى المنتجة الاجتماعية، فطابع الإنتاج الاجتماعي ينعكس بالضرورة في طابع التعليم لأن نظام التعليم قائم على أساس نظام الإنتاج الاجتماعي هذا. فكما أن للإنتاج طابعاً طبقياً كذلك للتعليم الطابع الطبقي نفسه. فالمقياس إذاً الذي به يتحدد مستوى التعليم في المجتمعات العربية ليس مقياساً علمياً بل هو مقياس طبقي بورجوازي يقتضيه تجدد علاقات الإنتاج القائمة وتجدد السيطرة الطبقية للبورجوازية. إن الدولة البورجوازية الكولونيالية حين وضعت مناهج التعليم إنما استهدفت أولاً قطع الطالب العربي عن واقعه الاجتماعي ومنعه من معرفة الحقيقة الطبقية لهذا الواقع. ولعل في تدريس مادة الفلسفة في المناهج دليلاً قاطعاً على ذلك، فلا تدرس مشكلات البنية الاجتماعية في الأقطار العربية والطالب يعيش في قلب هذه البنية ويواجه مشكلاتها الحادة يومياً في مختلف الميادين. فما الذي يقرؤه الطالب في مناهج الفلسفة مثلاً؟ إنه حديث عن الأخلاق والتجربة الأخلاقية وعن اللذة والألم والخير والشر... لكنه لا يقرأ شيئاً عن الصراع الطبقي أو الدولة ودورها في المجتمع أو الأيديولوجية أو التحرر الوطني أو الثقافة الوطنية أو التخلف... وكلها مشكلات تدور في خلد طالب الفلسفة.
إن ما ترى فيه دولة البورجوازية الكولونيالية ملامح ثورة أو تمرد على الواقع أو رائحة العلم الاجتماعي الحقيقي الذي يكشف جوهر البنية الاجتماعية الطبقية يحذف من المنهج أو يطمس ليتكون فكر الطالب دوماً في قالب الأيديولوجية البورجوازية المسيطرة في حين أن المطلوب من المدرسة أو الجامعة هو تجديد إنتاج الثقافة الوطنية وتعميق الفهم العلمي للحياة والمجتمع ومقاومة التضليل الأيديولوجي الذي يحجب الحقيقة العلمية في حقول المعرفة كافة.
وإذا كانت المدرسة هي المصنع لرجال الغد فمن الضروري أن نحسن تكوينه وإعداده ليكون الأداة الصحيحة لبناء الأجيال أكان من ناحية كوادره وإداراته أو من ناحية مناهجه وطرائقه مروراً بالأساليب المتبعة في الامتحانات ووصولاًَ إلى القبول الجامعي الذي بات هاجساً مؤرقاً لأجيالنا وذويهم. فليس صحيحاً أن نحشو ذهن الطالب بالمعلومات الجاهزة ليستظهرها، إنما يجب أن نشحذ عنده العقل وملكة التفكير، فالطالب فرن يحمى ولا وعاء يملأ، أما المدرس فمن الضروري أن يحسن انتقاؤه وفق الكفاءة والأهلية دونما نظر إلى أي اعتبار آخر. ولسنا في حاجة إلى أن نذكر بأن القاعة الضيقة تغص بالطلبة غالباً مما يؤدي إلى نقص الفائدة لدى الطالب وإرباك حقيقي للمدرس في صفه... وإذا ما التفتنا باتجاه التعليم الخاص وجدنا مشهداً آخر... تكاثر المنشآت التعليمية الخاصة لكل المستويات والتضخم في أعداد المقبلين عليها بعد أن ضُيّق عليهم في التعليم الرسمي بسبب القبول المرتبط بالمعدلات العالية مما يحمل أسرة الطالب الكادحة عبئاً مادياً لا تقوى على تحمله... وكثيراً ما يدفع بها الأمر إلى تسريب الطالب من حقل التعليم ليلتحق بجيوش العاطلين عن العمل أو ليمتهن ما تيسر له.. فضلاً عن أن قسماً كبيراً من القوى الطلابية المنتجة معطلة بسبب انعدام فرص العمل فتصبح بسبب من فساد التخطيط عبئاً على أنفسها وعلى الوطن....
إن تصحيح الوضع في المؤسسة التعليمية يرتبط عضوياً بتصحيح مسار الحياة على المستويات كافة، السياسية والاجتماعية والأيديولوجية.. فالمدرسة أو الجامعة جزء من البنيان الاجتماعي الكلي، فلمسة التغيير الإيجابي هنا ستنعكس حتماً على أحوال المدارس والجامعات، والسلطة السياسية المسيطرة هي التي تتحمل هذه المسؤولية التاريخية بشأن التصفية الطبقية في مجال التعليم، أما جماهير الكادحين وكل الوطنيين فهم مطالبون حتماً بأن يأخذوا دورهم لوقف تدهور العملية التعليمية والتربوية والنهوض بها من خلال التلاحم مع جماهير الطلبة والضغط باتجاه السلطة القابضة على مقدرات البلاد لانتزاع حقوق طلابنا وأبنائنا وجماهيرنا.
يجب أن نوطد ثقافة العلوم في مدارسنا وجامعاتنا ونوقف تعليم الدين فيها ونحد من تفشي ثقافة الغيب والوهم كي نؤسس لفكر علمي مادي يتفاعل مع الواقع الحي ومع الوجود الذي نعيش فيه فنعرف حينئذ على الأقل جغرافية هذا العالم وأسراره بالقدر الذي نعرف به جغرافية العالم الآخر وأسراره.... إن طلابنا وجماهير الكادحين هم أصحاب المصلحة الحقيقية في معرفة وفهم الواقع الملموس بغية تغييره، لكن البورجوازيات المسيطرة في العالم العربي لا يتفق مع مصالحها هذا النهوض العلمي الواعي للطلاب والكادحين على السواء، وحرصاًَ منها على الاحتفاظ بمصالحها الطبقية فإنها تقاوم بضراوة هذه المفاهيم العلمية حتى النهاية... وليس خافياً على أحد كم لاقت نظرية النشوء والتطور من مقاومة بائسة في مناهجنا وثقافتنا لأنها تغذي المزاج العلمي فينا وتنفحنا بالمزاج التطوري الذي ينعكس في مختلف جوانب المعرفة والحياة، إنها النقيض لثقافة الغيب والتبعية والتي تبطل دور العقل وتقدس الموروث المحنط ليظل الفكر العربي مأزوماً بين ماضيه وحاضره، فيمتنع عليه أن يفضح الطابع الطبقي للثقافة ولعلاقات الملكية السائدة في المجتمعات العربية. وهذا ما لا ترضى به حتى المؤسسات الدينية المرتبطة مصالحها بمصالح البورجوازيات المسيطرة. ونذكر في هذا السياق كلمة لصاحب رأس المال إذ يقول (إن الكنيسة الإنجليزية العليا مستعدة لأن تغفر خرق 38 شريعة من شرائعها التسع والثلاثين ولكنها لن تغفر مسّ واحد على تسعة وثلاثين ( 1/39 ) من دخلها النقدي... والإلحاد ذاته يعتبر هفوة قياساً لنقد علاقات الملكية الموروثة).
نحن بحاجة إلى ثقافة العلم والصناعة نعممها في مدارسنا ليكون لنا شأن بين الأمم. فالمجتمعات الزراعية وحدها التي تفشي ثقافة الدين وأدب الفقاقيع والفلسفة المجردة, ثقافة العقائد والتقاليد، وهذا يتطلب التركيز على العلوم التطبيقية التجريبية أسوة بالأمم الصناعية المتطورة. فنخرج بذلك من قدر التبعية الذي أرادوه لنا لنبقى حيث نحن.ففي الصناعة تكون الوفرة الاقتصادية ليرتفع مستوى دخل الفرد وينعم بالحياة الكريمة بعد أن تكون دولة الكادحين قد أحسنت التوزيع العادل للثروة الاجتماعية فحققت بذلك العدل الاجتماعي. حينئذ تصبح مدارسنا وجامعاتنا مراكز للإشعاع العلمي الحقيقي....























هل هي أزمة نفط أم أزمة سياسية اقتصادية
منصور أتاسي
أصدرت الحكومة مؤخرا قرارا بزيادة أسعار البنزين بمقدار /6/ ليرات للتر الواحد. وعلمنا مؤخرا أنهم زادوا أسعار المازوت للصيادين لأن السمك لا يزال مادة رخيصة نسبيا فقرروا منعه عن الفقراء, وجاءت الزيادة بعد مناقشات واسعة شاركت فيها كل الفعاليات السياسية والنقابية ومجلس الشعب والصحافة الرسمية والحزبية و....الخ وطبعا المعارضة. وهكذا فقد أجمعت الفعاليات النافذة في الوطن وتوحدت حول رفض قرار زيادة أسعار النفط ورغم كل ذلك فقد أدارت الحكومة ظهرها لهذا الإجماع.
يعتبر صدور القرار بمثابة مقدمة لزيادة أسعار باقي أنواع المحروقات المازوت- الغاز- والفيول- وحتى الغاز المنزلي..
فهل هناك ما يجبر الحكومة فعلا على اتخاذ هذا القرار؟
أكدت الدراسات والأبحاث والمناقشات التي نشرتها الصحافة السورية أن إنتاج النفط في سورية يبلغ / 19 / مليون طن سنويا وحاجة سورية تبلغ 12.5 مليون طن سنويا أي أنه يوجد عندنا فائض قدره 6.5 مليون طن0 وبالأرقام تبلغ كلفة استخراج النفط700 مليون دولار وتكلفة تكريره600 مليون دولار. وتكلفة استيراد بعض المشتقات النفطية /2.7 / مليار دولار أي أن مجموع تكلفة النفط / 4 / مليار دولار وبالمقابل فإن مجموع ما تحصل عليه الحكومة من أثمان التصدير والتوزيع الداخلي 6 مليارات دولار ويكون الفائض 2 مليار دولار يذهب للخزينة0 وهكذا فإن الحكومة رابحة في مجال النفط ولا يوجد لديها أي خسارة ولو أن الحكومات السابقة قد أنشأت مصفاة أو اثنتين لتكرير النفط لكانت استطاعت تغطية الحاجة لبعض المشتقات كالمازوت وصدرت فائض المشتقات النفطية ولتضاعفت موارد الدولة في هذا المجال.
والنفط ثروة باطنية وهو ملكية اجتماعية وطنية وليست ملكية حكومة أو أفراد فهذه الثروة يجب أن يتمتع فيها جميع أفراد الوطن بأسعار رخيصة قريبة من سعر تكلفة الاستخراج والتكرير+ ربح بسيط يضاف لموازنة الدولة لاستثماره في مواقع إنتاجية أخرى إلا أن سياسة الحكومة حجبت هذه الثروة عن جماهير الشعب وخاصة الفقراء منهم ولم تستطيع استثمارها بالشكل الأفضل لعدة أسباب:
الأول:- بيع كميات كبيرة من النفط الخام إلى الخارج دون تكريره وهذا تبديد للثروة الوطنية
الثاني:- التهريب الكبير فقد عرض الرفيق يوسف الفيصل أمام اجتماع القيادة المركزية للجبهة أن الحكومة لحظت /100/ مليار ليرة سورية في موازنة 2008 لتغطية الدعم وأورد أن هذا الدعم يذهب على الشكل التالي:
40 مليار ليرة سورية أسعار النفط الذي يستهلكه العراقيون في سورية
15 مليار ليرة سوري فروق أسعار النفط المهرب إلى لبنان
15 مليار ليرة سورية النفط المهرب إلى تركيا والأردن
30 مليار ليرة سورية لدعم النفط الذي يستهلكه الشعب السوري بملايينه الـ 18 من أغنياء وفقراء...الخ ونحن أوردنا عرض الرفيق الفيصل لأن أهل الحكم وحلفائهم يستطيعوا الحصول على بعض الإحصاءات وبالأرقام تقدمها الجهات الحكومية وهي سرية على باقي فئات الشعب فلو نشرت هذه الأرقام والإحصائيات في الصحافة السورية أو كان عندنا مجموعة إحصائية تقدم كل المعلومات لكانت قد توفرت قدرات لبحث الأشكال الأفضل لاستثمار الثروة الوطنية بمجملها. إلا أن نشر هذه المعلومات سيظهر فضائح خطيرة –كما نعتقد- غير قادرة السلطة على تحملها. أو أن سبب حجب هذه الإحصائيات والأرقام هو لتمرير السياسات الاقتصادية المقررة والهادفة إلى تنفيذ سياسات اقتصادية معادية لغالبية أبناء الشعب وبشكل ديماغوجي أي أن التجهيل سياسة مقررة عند حكومات وسلطات غير شعبية.
وبعودة لشكل توزيع الدعم المقررة نرى /30/ مليار ينفق للشعب السوري و/30/ مليار أخرى يعطى للمهربين أي أن حوالي /18/ مليون إنسان يستفيدوا من الدعم وحوالي 3-10 عشرة آلاف مهرب منهم بعض المهربين الكبار المعروفين بقربهم للسلطة يستفيدوا بنفس المقدار دون زيادة أو نقصان وهكذا فإن الحكومة تدعم عمليا هؤلاء المهربين. وكان رئيس مجلس الوزراء قد أعلن في اجتماعه مع مجلس الشعب قائلا: أن الحكومة غير قادرة على وقف التهريب أو وقف الغلاء بمعنى أن الدولة تسمح بالتهريب وتسهل الغلاء.أو أن المهربين والفاسدين أقوى من الحكومة وعلى الشعب أن يدفع ما يجنيه المهربين.
أما الـ 40 مليار التي تنفق على العراقيين الموجودين في سورية بعد الأحداث فإن قرار استقبال الأخوة العراقيين قرار حكومي وأيضا فإن هذه الأرقام وغيرها من النفقات التي تذهب للعراقيين تطالب الدولة بها في اجتماعات دول الجوار أو في الاجتماعات الثنائية مع –الحكومة – العراقية والحكومة أيضا تفرض على الشعب تحمل هذه النفقات.

وبالأصل فإن أرقام الدعم المقدم للمحروقات غير واضحة ولا يحسب من الوفر التي تؤمنه الدولة من تصدير النفط الفائض عن الحاجة والدولة تعاملنا كغرباء حين تحسب النفط بالأسعار العالمية.أي أنها تحسب أسعاره العالمية وأسعار التوزيع وتقرر الخسارة والربح. طبعا فهي عندما تقارن أسعاره مع الأسعار العالمية لا تأخذ بعين الاعتبار مطلقا الفارق بين مداخيلنا والمداخيل في الدول المجاروة التي حاولت زيادة أسعار بعض المشتقات النفطية ثم تراجعت عنها بفعل الضغط الشعبي كما جرى في الأردن مثلا. وليست كل الدول المجاورة أو المماثلة لنا تزيد تلقائيا أسعار المحروقات وهناك سياسة متبعة في عدد من الدول الفقيرة مثل دولنا تهدف إلى دعم الصناعة الوطنية لجعلها قادرة على منافسة الصناعة الأجنبية المستوردة وتشجيع التصدير. والانطلاق إلى الأسواق الخارجية. وأشكال الدعم كما هو معروف هي توفير طاقة رخيصة للصناعة ويد عاملة رخيصة+ إعفاءات ضريبية محددة
فيباع لتر البنزين في مصر مثلا بـ 10 ليرات سورية وسعر المازوت بـ 6 ليرات سورية. ولكن دولتنا لا تهتم بالصناعة الوطنية.
والسؤال المطروح بعد هذا العرض لماذا تصر الحكومة على زيادة أسعار المشتقات النفطية ؟
نعتقد أنه توجد ثلاثة أسباب رئيسية – كما أوردتها الصحافة الحكومية
1"- أخطرها الخضوع لشروط البنك الدولي الذي أثنى على الحكومة السورية في تقريره الأخير المنشور في عدد من الصحف السورية وطلب منها رفع الدعم عن مشتقات النفط. وها هي تلبي الأمر. وكما هو معروف فإن الحكومات التي انصاعت لسياسات البنك الدولي قد أصاب أوطانها الخراب الاقتصادي والاجتماعي ولم تعد قادرة على العودة لما كانت عليه سابقا وغالبية دول- الجنوب- تندد بهذه السياسات وحكومتنا تنفذها بدقة مخجلة.
2"- محاولة التخفيف من تأثير النهب والفساد الواقع على ميزانية الدولة بتأمين سيولة من أبناء الشعب ودون المساس بالفساد وهذا ما يفسر مجمل السياسات الاقتصادية.
3"- الانتقال التدريجي لسياسة السوق الرأسمالية وتأمين تراكم رأسمالي لفئات محددة مثلا حصل أحد الأثرياء الجدد على ثروة تقدر بـ 38 مليار دولار من شركات الخليوي في أقل من عشر سنوات وعمره لا يتجاوز الـ 38 عاما.
كل ذلك يؤكد لنا أن المشكلة ليست في النفط الفائض عن الحاجة الوطنية من حيث الإنتاج والرابح من حيث القيم المالية / 2/ مليار دولار – المشكلة هي أولا وأخيرا في السياسة الاقتصادية الاجتماعية التي تنتهجها الحكومة0
ما هو المستقبل وما العمل؟
تؤكد كل المؤشرات أن زيادات أسعار هائلة ستجتاح الأسواق لاحقا وستؤثر بشكل كبير على المنتجين والعمال في بلادنا وستؤدي إلى إفقار هائل لغالبية أفراد الشعب.
ولأنه لا توجد قوى سياسية فاعلة ومؤثرة, في الوسط الشعبي فإن ردود الأفعال ستنسجم مع الواقع السائد وستظهر بانفجارات شعبية ذات توجهات قومية أو دينية أو طائفية أو عرقية...الخ وهذا خطير جدا وبسبب الظروف السياسية المحيطة بسورية فإن القوى المعادية ستستفيد من هذا الاستياء وستعمل على توظيفه سياسيا لصالحها وأيضا فإن هذه الإجراءات ستسد جميع إمكانية الإصلاح أمام فئات متزايدة من المهتمين والمتابعين وستدفعهم لاتخاذ مواقف لا تخدم الوطن.
وأيضا فإن إدارة ظهر الحكومة للإجماع الوطني المتمثل برفض جميع الفعاليات السياسية والاجتماعية والإعلامية.الخ زيادة أسعار المحروقات يؤكد أن إعلان الرفض لدى هذه القوى غير قادر على ردع الحكومة ومنعها من إقرار ومنعها من إقرار سياسات لا وطنية.
لذلك لا بد من اعتماد إجراءات وسياسات أخرى قادرة على لجم الحكومة وهي متاحة بيد أحزاب الجبهة وبيد النقابات. ومن أهمها الاعتماد على حركة الشارع لإجبار الحكومة على تغير مواقفها المعادية لأوسع فئات الناس وهذه مهمة قوى المعارضة أيضا.















عرض وتلخيص مقدمة مارتن نيكولوس لـ "الغروندريسّة"
نايف سلوم

العنوان "الغروندريسّة؛ أسس نقد الاقتصاد السياسي
The " Grundrisse der Kritik der Politischen Ökonomie" (بالألمانية)
وقد اقترح ماركس عام 1858 عنواناً آخر هو : "نقد المقولات الاقتصادية (رسالة إلى لاسال، 22 شباط 1858 ) . وقد كتبت "الغروندريسّة" على شكل دفاتر أو كراسات .
"تلعب النقود ورأس المال دوراً كمتضادين (نقيضين) رئيسيين ضمن العمل ككل (ضمن الدفاتر)، إذ تظهر النقود لتشير لا إلى مجرد قطعة ورق أو معدن ، بل بالأحرى إلى نظام شامل من العلاقات الاجتماعية المستندة إلى قواعد وقوانين معينة ، وتنطوي على سياسة وحضارة بل وحتى شخصية معينة . أما رأس المال فيظهر هو الآخر كنظام من العلاقات الاجتماعية لكنه يستند إلى قوانين معاكسة للأولى تماماً ، بحيث أن الاقتصاد الرأسمالي ككل يمكن أن ينظر إليه ، وببسيط العبارة ، مدفوعاً إلى الأمام ومقوضاً في الوقت نفسه بفعل التوترات الكامنة فيه بين هاتين القوتين المكونتين له بشكل مشترك.
في نظرة تتجه من النظام الرأسمالي إلى الأنماط ما قبل الرأسمالية تظهر النقود كمقولة بسيطة ضمن مقولة عينية ومعاصرة هي مقولة رأس المال في النظام الرأسمالي الحديث. يكتب ماركس: "ليس رأس المال علاقة بسيطة ، بل إنه عملية يكون في أثناء كل لحظاتها المختلفة رأس مال دوماً" . يضيف ماركس: "لقد فقدت النقود صلابتها ، فبعد أن كانت شيئاً محسوساً(عنصراً) صارت عملية " (الدفتر الثاني)
تكمن مساهمة ماركس في دراسة النقود "في كشفه للفرضيات الاجتماعية والسياسية والقانونية للتعاريف المبتذلة للنقود التي تحويها كتب الاقتصاد السياسي المدرسية ، أي أن ماركس يعالج النقود والقيمة كعلاقات اجتماعية . وهو من ناحية ثانية يعالج الوظائف المختلفة للنقود في ترابطها ، كاشفاً التناقضات فيما بينها وضمنها ، وهو يعالج هذه الشبكة من العلاقات الاجتماعية في سياقها التاريخي باعتبارها نابعة من أصل وتنطوي على نهاية .
نعود إلى "الغروندريسّة" : "إن قياس استغلال العامل ليس معدل الربح ، بل معدل القيمة الفائضة " The rate of surplus value
في ملاحظة حول العلاقات الحقيقية بين الحرية البورجوازية والسوق يقول نيكولوس: "إن المساواة والحرية بصفتهما "مجرد أفكار" ليست إلا "تعابير مثالية" للعلاقات السائدة في دائرة التداول والعلاقات الاجتماعية والقانونية والسياسية التي تؤطر حرية ومساواة المالكين الأفراد ، هي مجرد بنى فوقية لما يجري في السوق"
في المجلد الأول من رأس المال يدرس ماركس التناقضات الرأسمالية بشكلها الجنيني [كائن بالقوة] potentially والتي تعبّر عنها مقولة السلعة (البضاعة). أما في المجلد الثالث فيدرس نمو هذه التناقضات بالفعل actually؛ أي النظام الرأسمالي (الإنتاج البضاعي) بمجمله .
يبدأ ماركس بالنقود [المبتذلة الشائعة؛ أي بالمفاهيم المبتذلة للنقود] ، ثم يغوص في مقولات المجتمع البورجوازي : القيمة، قوة العمل الحية كسلعة من نمط خاص (خلّاق وحي )، فضل القيمة .. التبادل .. ، ليخرج بمفهوم جديد للنقود (نقود ماركس: أي مفهومه للنقود بعد هذا العَوْدُ الأحمد).
ينطلق ماركس إذاً من المفهوم البورجوازي المبتذل في الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الإنكليزي حول النقود وينتهي على السطح من الجهة الثانية خارجاً بمفهوم جديد وعميق للنقود كما خرج إنياس عند شاطئ البحر من العالم السفلي ، مما يخلق فارقاً جوهرياً في طبيعة المفهوم وتحولاً أساسياً في طبيعة المناقشة .
التناقضات الرأسمالية كإمكانية كامنة في البضاعة (السلعة) يعالجها ماركس في المجلد الأول من الرأسمال ، بينما يعالج التناقضات عبر نموها وصيرورتها واقعاً فعلياً؛ أي خلال سير تطورها التاريخي الفعلي ، في المجلد الثالث من كتابه الرأسمال (نقد الاقتصاد السياسي).
يبدو أن هناك تناقضاً بين الكتاب الأول من الرأسمال وبين الكتاب الثالث منه، وهو التناقض بين الإمكانية والواقع الفعلي عبر النمو التاريخي والفعلي لهذه الإمكانية (بين الكائن بالقوة والكائن بالفعل ). وهذا النمو مشروط بظروف ، بمكان وزمان محددين في كل قطر.
لاحظ أيها القارئ المحترم هذا المقتطف لماركس: "من هنا فإن أرقى تطور للقوى المنتجة جنباً مع أكبر توسع في الثروة القائمة سيتطابقان مع اهتلاك رأس المال ، وانحطاط العامل وإنهاك قواه الحية بأكثر الأشكال فظاظة . وتولد هذه التناقضات انفجارات عنيفة وأزمات تؤدي آنياً إلى تعطيل العمل وإبادة حصة كبيرة من رأس المال بحيث يتقلص الأخير بشدة إلى المستوى الذي يستطيع عنده النشاط من جديد .. بيد أن هذه المصائب المتكررة بانتظام إنما تعاود الظهور بنطاق متسع حتى تصل أخيراً إلى الإسقاط العنيف للنظام "
يلاحظ هنا استخدام الفعل "أسقط" وليس الفعل "سقط" في إشارة مهمة إلى أن سقوط النظام الرأسمالي ليس سقوطاً عبر أزمات اقتصادية ، أي ليس عفوياً وميكانيكياً بل هو إسقاط عبر الممارسة السياسية الواعية للطبقات الهامشية وفي مقدمتها الطبقة العاملة . نقتطف من هاري ماجدوف قوله: "الدرس الهام الذي يجب تعلمه من تاريخ الرأسمالية هو أن المشاكل الكبرى لا تؤدي إلى انهيارها انهياراً أوتوماتيكياً.. فمصير الرأسمالية في النهاية سوف تحدده فقط الطبقات الناشطة داخل المجتمع والأحزاب القائمة على هذه الطبقات والتي لديها الإرادة والقدرة على استبدال النظام القائم " .. إن مثل هذه المجتمعات لا تنشأ من دون تغيير في تركيب السلطة ، من دون نقل السلطة إلى تلك الطبقات التي ستعيد ترتيب الأولويات الاجتماعية في اتجاه القضاء على الفقر والتعاسة ، والتي ستعتمد على البشر كما على العلم والتكنولوجيا"
يقول نيكولوس: "إن الغروند ريسّة سجل لذهن ماركس أثناء العمل وكيف يتلمس طريقه إذ يعالج القضايا الجوهرية للنظرية" . في 16 كانون الثاني 1858 ماركس يكتب إلى إنجلز في مانشستر: " لقد حققت تطوراً مفرحاً ، فمثلاً طوحت بمذهب الربح كلياً كما كان ينظر إليه في السابق ، ومن حيث أسلوب العمل ، أفادني كثيراً أنني بمحض الصدفة ... تصفحت منطق هيغل من جديد "
كان ماركس قد قدم نقداً إجمالياً لفلسفة هيغل في المخطوطات الاقتصادية الفلسفية عام 1844 Critique of Hegel’s Philosophy in General ، ثم عاد واستدرك نقده وقال إن هذا غير كاف. وهذا ما ظهر في تذييل الطبعة الثانية لرأس المال المؤرخة في 24 كانون الثاني 1873 يكتب ماركس: ".. إن الطابع الصوفي الذي ارتداه الديالكتيك على يدي هيغل لم يحل إطلاقاً دون أن يكون هيغل بالذات أول من قدم تصويراً شاملاً وواعياً للأشكال العامة لحركته" . ويقول لينين منتقداً إهمال بليخانوف: "إن الديالكتيك هو حقاً نظرية المعرفة (عند هيغل و ) عند الماركسية : "إن هذا "الجانب" من الأمر وهو ليس "جانباً" ، إنما هو جوهر الأمر قد أهمله بليخانوف، فضلاً عن الماركسيين الآخرين" . ويضيف لينين: "إن من المستحيل تماماً فهم رأس مال ماركس ، بخاصة فصله الأول من دون دراسة وفهم معمقين لـ (منطق )هيغل كلّه . ولهذا فإن أياً من الماركسيين لم يفهم ماركس بعد مضي نصف قرن " كل هذا للإشارة إلى أهمية منطق هيغل ؛ كل منطق هيغل. ولأن الحركة هي [المطلق] الثابت الوحيد ،فإن ماركس مثل هيغل، يستخدم تعبير "اللحظة" "moment" للدلالة على ما يسمى في نظام ساكن بـالـ "عنصر" أو "العامل" وهذا التعبير: "moment" يشير لدى ماركس إلى معنيين في آن واحد : فترة زمنية، وقوة كتلة متحركة. جاء في المورد في معنى كلمة moment : (1) لحظة، (2) فترة ، امتياز أو تفوق ، (3) أهمية (4) مرحلة في تطور الأحداث (5) العزم (ميكانيك) ؛ عزم القوة" . وقد أشار لينين إلى غياب الزمن عند هيغل ، في ملاحظاته على علم المنطق (خلاصة علم المنطق لهيغل- الدفاتر الفلسفية) . بقول آخر إن غياب الزمن عند هيغل يعني غياب التوسطات ؛ غياب الشرط الغير ذاتي.
نقرأ عند نيكولوس: "التناقض الملموس بين منهج ماركس ومنهج هيغل حول مسألة الزمن، ماركس (وقت العمل، وقت التداول ، الخ..)"
"إن مسألة الإحاطة بالشيء بالنسبة لماركس كما لهيغل ، هي بالدرجة الأولى ، الإحاطة بكونه في حالة حركة. وما يجعل هذه الخطوة المنطقية أكثر صعوبة هو أن هذه المسالة ليست بدهية على الإطلاق في المجرى العادي للأحداث ".. " فقط حين تنهار الأشياء أو تتصدع فجأة يغدو بدهياً أن حركة كانت في داخلها طوال الوقت " (ماركس). لاحظ أيها القارئ أن الاستقرار توتر؛ والتوتر حركة.
إن هذا السطح الهادئ الذي يخفي اضطراباً دائماً ، هو ما أسماه هيغل بـ "الحضور" الذي حين تقيم الحواس علاقة معه يغدو مظهراً لأشياء . وقد عرّف هيغل هذا الحضور بذكاء بأن له شكل وحدة مباشرة ، أحادية الجانب ، يخفي (شكل الوحدة) المتناقضات تحت سطحه. الوحدة هي وحدة ما هو مزدوج ، ولحظة الاستقرار هي توتر ، صراع وحركة خفية عن النظر العادي. السوق يمثل مجموعة العلاقات الأكثر عمومية وظهوراً وحضوراً في المجتمع الرأسمالي. والأيديولوجيا المستخلصة من السوق شبكة معقدة لا تعكس هذا المظهر فحسب ، بل الخطوات والأوهام وأوجه الشبه الأخرى . ففي موضع السوق تعرض أشكال الحرية والمساواة نفسها، وهناك يتلاشى التمييز بين البائع والمشتري ليصيرا وحدة. يكتب ماركس: " من المستحيل العثور على ذرة تمييز ، ناهيكم عن التناقض بينهما ، بل ليست هناك فوارق" (الدفتر الثاني)
ليس "الحضور" غير الوحدة المباشرة أحادية الجانب للعمليات الجارية في الأعماق ، لكنه لحظة موضوعية من لحظات الكُلّ ، ولا بد أن يكون متضمناً في مفهومه (مفهوم الكُلّ). هذا الحضور تابع متحدِّد ، إنه شيء ذو خواص محددة ، ويمكن بالإضافة لذلك قياسه كمياً . الحضور حدّ، قيد لأنه يدخل نفسه في تعارض منذ البدء مع توسع الشيء اللانهائي.
نضرب مثلاً؛ قانون القيمة ؛ أو التبادل المتكافئ! ؛ وحدة المتناقضات . إن قانون القيمة حد بوصفه كمية (كتلة القيم المتبادلة بشكل نقدي، الأجور النهائية) وبوصفه مقياساً (وقت العمل بوصفه مقياساً للقيمة) وكنوعية (قوة عمل حية خالقة للثروة على شكل قيم من نمط خاص؛ قيم للاستعمال)
نلخص قانون القيمة:
1- كمية ؛ القيمة كنقد، وكأجور نهائية
2- مقياساً؛ القيمة كزمن ؛ ساعات العمل ؛ وقت العمل كمقياس للقيمة .
3- نوعية ؛ كيفية : القيمة كقوة عمل حية ؛ أي كسلعة من نمط خاص التي هي "قوة عمل" العامل، وهذه القوة الحيّة أو السلعة الخاصة هي خالقة الثروة على شكل خاص ؛ أي على شكل قيم للاستعمال والاستهلاك.
يكتب ماركس: "فمعالجة عمليات السطح هذه كمجرد أمر شكلي فارغ ليست له إلاّ أهمية اسمية؛ يعني العجز عن الإحاطة بالكل . وهو خطأ ريكاردو ، على سبيل المثال في معالجته لمسألة النقود.. إن معالجته لمسائل الاقتصاد السياسي كانت وحيدة الجانب ، شكلية ، سطحية " (الدفتر الثالث)
إن السَّلب negation ، حسب رأي هيغل ، هو القوة الخلّاقة . لفهم النقود ينبغي التغلغل في جوهر رأس المال [رأس المال كسيرورة؛ كسلسلة من العمليات و من اللحظات].
كلما ازداد سلب العامل لنفسه، أو كلما ازداد سلبه من جانب رأس المال ، ازدادت الثروة التي يخلق .. فالسلب إذاً لا يعطي الشيء السمات الخاصة به في ذاته فحسب ، إنه كوضع (إيجاب) يعطيه سماته أمام الآخرين (يبين علاقته بالآخرين). يكتب ماركس: " في جوهر رأس المال ، فإن العامل بنفيه لنفسه (سلبه إياها) لا يعطي القيمة الفائضة للآخرين فحسب، ولكنه أيضاً يخلق ويعيد خلق علاقات العمل الأجير بذاتها ، ويخلق ويعيد خلق نفسه كعبد للأجر ورأس المال كرأس مال ، أما بالنسبة للعامل والرأسمالي كأفراد فإنهما لا يظهران في العملية إلا كـ "عمل أجير" و "رأسمال" بذاتيهما". لاحظ هنا جيداً أن عملية الإنتاج تعميق لا نهائي للتناقض النسبي..
إذا أردنا الإحاطة بالمجتمع ككل في حالة الحركة (أثناء سير عمله) فالأمر الجوهري الأول والأساس هو استيعاب دينامية عملية الإنتاج المباشرة ، لأن الطاقة أو محرك الكل – كما قال هيغل- تستمد مصدرها من التناقض الشامل أو الإجمالي.
الكل هو في أكثر الصياغات تجريدية . وحسب هيغل الكل وحدة الوحدة واللاوحدة . الكل عمليتان: 1- عملية السطح الناتج عنها هوية مباشرة أحادية الجانب ، تعوزها القوة الدافعة لإعادة توليدها 2- عملية تحت السطح هي المهيجة للتناقضات . [الهوية ومولّد الهوية]
في هذا الكل يمثل التناقض (اللاوحدة) اللحظة المهيمنة (الغالبة) لأنه يضفي طابعه على الآخر ويحدد طبيعة الكل .
يكتب ماركس: "إن السطح قيد (حدّ) على طبيعة نفسه ويغدو هذا القيد في مجرى التطور حاجزاً أكثر تضييقاً" .. وعند نقطة معينة يحدث ما يسميه هيغل وماركس القلب أو الإسقاط المفاجئ والقافز ، حيث يتم نقض (نفي ) القيد السابق أو الوحدة (قانون التكافؤ) ويعلق التناقض إذ يتحول الكل إلى عكسه مع بروز وحدات وتناقضات من نوع مختلف ومستوى أعلى .
"إن تتبع التطور الدقيق لمفهوم رأس المال أمر ضروري ، طالما أنه المفهوم الجوهري في الاقتصاد المعاصر ، كما أن رأس المال نفسه الذي تمثل صورته المجردة والمعكوسة مفهوم علم الاقتصاد ، هو في الوقت نفسه أساس المجتمع البورجوازي . ولا بد للصياغة الدقيقة للفرضيات الأساس لهذه العلاقة أن تبرز كل تناقضات الإنتاج البورجوازي بالإضافة إلى الحدود التي تندفع بعدها إلى تجاوز نفسها " (الدفتر الثالث )
جوهر المنهج هو الإحاطة بالكل باعتباره مجموعة تناقضات . هذا هو الدرس الأعظم الذي تعلمه ماركس من هيغل . لكن ماركس لا يكتفي بذلك بل ينتقد طريقة هيغل ويقلبه، عبر هيمنة مقولة جديدة في ديالكتيك ماركس هي مقولة التناقض بدلاً من هيمنة مقولة النسق أو النظام عند هيغل.
ماركس يقلب هيغل على النحو التالي: "إن التاريخ الحقيقي – والقول لماركس- للعالم ليس نتاج "عقل فذ" بل إن هذا العقل وكل علاقاته نتاج رأس الإنسان المنغرس في التاريخ الحقيقي [الفعلي] والاثنان مدفوعان ومحددان بأنماط وجود اجتماعية – اقتصادية متغيرة ومحددة... فالعقل نتاج رأس الإنسان متكامل مع جسده الحسي والمادي والاجتماعي . ومن خلال توجيه هذا الرأس للجسد يستطيع تعديل تاريخه وهو يقوم بذلك فعلاً معدلاً بذلك مصادر وشروط التفكير" [فاعلية المفهوم الموضوعي وفاعلية ممارسة البشر]
لقد تم قلب هيغل وإيقافه على قدميه من قبل كل من فيورباخ وماركس ، وإن بدرجات متفاوتة في أوائل الأربعينات من القرن التاسع عشر . يلخص (تقديم مارتن نيكولوس للغروندريسّة) هذه العملية ببراعة . وفي تذييل الطبعة الثانية لرأس المال - لمجلد الأول التي كتبها ماركس سنة 1873 يصف فيها عملية القلب بأنها إيقاف هيغل على قدميه مجدداً .
يقول ماركس حين يتحدث عن منطق هيغل: " فالديالكتيك يقف على رأسه عند هيغل . بينما ينبغي إيقافه على قدميه بغية الكشف عن اللب العقلاني تحت القشرة الصوفية "
لابد أن يقلب هيغل رأساً على عقب إذا أريد اكتشاف النواة العقلانية داخل القشرة الصوفية " لاحظ أيها القارئ المتأني أن ماركس لا يقول: أن قلب جدل هيغل رأساً على عقب ، وإيقافه على قدميه يكفي للوصول إلى الديالكتيك بشكله العقلاني (الديالكتيك الماديّ) ؛ هذه العملية خطوة أولى فحسب ، يمكن بعدها للخطوة الثانية ؛ (بناء مقولات الديالكتيك العقلاني ) أن تشق طريقها.
إن ديالكتيك ماركس المادي لا يساوي أبداً مجرد مقلوب حسابيّ لديالكتيك هيغل. لكن مقلوب ديالكتيك هيغل يقود إلى ماركس. "وهكذا فإن نقد منهج هيغل الديالكتيكي هو نقد لنظريته في التناقض" يكتب ماركس: "إن طريقتي الديالكتيكية لا تختلف من حيث الأساس عن طريقة هيغل وحسب ، بل وتناقضها بصورة مباشرة. وبالنسبة إلى هيغل فإن عملية التفكير ، التي يحولها تحت اسم الفكرة إلى ذات مستقلة ، هي ديمورغ (خالق، مبدع) الواقع الذي لا يشكل سوى مجرد مظهر لتجليها الخارجي . أما عندي فعلى العكس ، فالمثالي ما هو إلاّ مادي منقول إلى رأس الإنسان ومحول فيه" . لاحظ هنا عمليتين في الرأس: النقل والتحويل، وهذا الأخير ( التحويل أو الترجمة) هو ما يسميه هيغل "فاعلية المفهوم ". ورغم أن الديالكتيك قد عانى على يد هيغل من الصوفية ، فإن ذلك لم يمنع هيغل من أن يكون أول من عرض الأشكال العامة لحركة الديالكتيك بأسلوب شامل وواع " .
"إن نقد منهج هيغل الديالكتيكي .. هو نقد للعمليات الرئيسية التي يمر بها المفهوم الهيغلي، و[نقد] لتناول هيغل للحركة"
بعض الفوارق المهمة بين مفهومي هيغل وماركس للمنهج الديالكتيكي:
1- المقولة الأولى ، من أين ننطلق ؛ أو نبدأ؟
2- المقولة الثانية ، ما إذا كانت التناقضات ضمن أي وحدة متطابقة بشكل مباشر بالضرورة أم بشكل غير مباشر وفي شروط محددة؟
إذا كانت المتناقضات ضمن أية وحدة متطابقة بشكل مباشر؛ هذا يعني إلغاء للزمن . وإذا كان هذا التطابق يحتاج إلى شروط محددة (إلى توسطات) فهذا يعني وجود الزمن ؛ الحالة الأولى حاصلة عند هغل لأن التناقض قائم ضمن النسق أو النظام ، أما الحالة الثانية فهي قائمة عند ماركس لأن النسق أو النظام هو لحظة إيجابية أو وضعية من لحظات التناقض أو سير تطور التناقض (سير الحركة)
هيغل يلغي الزمن بتوحيده المتناقضات بشكل مباشر ودون أي توسطات ؛ مثال ذلك أن الفكرة عنده تنسلخ (تنسلب) إلى طبيعة خارجية (تظهر؛ تتخارج) من دون وساطة كما تخرج الفراشة من الشرنقة- الفكرة تصير واقع فعلي بوساطة ذاتها. الوجود يصير عدماً بشكل مباشر عند هيغل.
المسألة الأولى:
هيغل: الوجود المحض الخالص، ثم العدم الخالص؛ لا يمكن تصور الوجود الخالص من دون نقيضه المباشر، العدم الخالص. هذا تجريد غير تاريخي.
ماركس محاكياً هيغل: الإنتاج المادي بشكل عام ، الاستهلاك بشكل عام ؛ لا يمكن تصور الإنتاج بشكل عام من دون تصور الاستهلاك بشكل عام كنقيض مباشر. هذا التجريد غير تاريخي. هذا التصور يظهر الوحدة دون إبراز الفروق الجوهرية . ومن هنا لا تاريخية هذا التصور للبداية (أو للانطلاق)
يتابع ماركس تقدمه في هذه المسألة: ".. إن الإنتاج المادي مقولة مجردة عن التطور التاريخي بدل أن تكون مفسرة له .. . إن الإنتاج بشكل عام هو تجريد ، ولكنه تجريد عقلاني طالما أنه يبرز العنصر المشترك ويثبته حقاً موفراً علينا بذلك التكرار . ومع ذلك فإن هذه المقولة العامة ، هذا العنصر المشترك الذي تم تمحيصه وفرزه من خلال المقارنة ، خضع إلى التجزئة مراراً وانقسم حسب محددات مختلفة... إن المحددات المنطبقة مع الإنتاج [بالمعنى المجرد] يجب أن تصنف بدقة بحيث أنها في وحدتها ... لا يمكن نسيان الفرق الجوهري بينها" . وباختصار فإن "الإنتاج بصورة عامة" مقولة لا يمكن من خلالها الإحاطة بأية مرحلة تاريخية حقيقية (فعلية) للإنتاج .
إن الصفحات العديدة من مقدمة الغروندريسّة عند ماركس التي تعالج التطابق بين الإنتاج والاستهلاك هي في الوقت نفسه تقليد جادّ لمدخل كتاب هيغل المدرسي ، ومحاكاة تهكمية للكتاب . إنه كشف للديالكتيك المثالي الذي يبرهن على تفوقه الساحق على المادية الميكانيكية والتجريبية.
لاحظ أيها القارئ المتبصر: ماركس يقلد هيغل في المدخل ويحاكيه محاكاة ساخرة في المتن(متن الكتاب؛ المنطق). "يوجد في كل تمثيل ، (تقليد، محاكاة، تكرار) نقص باستثناء المحاكاة الساخرة parody "
يكتب ماركس: "وحتى أنني عمدت في بعض مواضع الفصل المتعلق بنظرية القيمة إلى محاكاة طريقة هيغل في التعبير "
ومع ذلك تبدو ملاحظات ماركس الساخرة من هذه المتطابقات ونقدها اللاحق لأنها " كما لو كانت المهمة هي الموازنة الديالكتيكية بين المفاهيم لا الإحاطة بالعلاقات الحقيقية ... وعلى هذا فليس هناك ما هو أسهل على الهيغليّ من تثبيت الإنتاج والاستهلاك المتطابقين . وهذا ما قام به لا المزركشون الاشتراكيون لوحدهم (برودون) فحسب، بل الاقتصاديون المبتذلون أنفسهم "
يصف ماركس مسارين اتخذهما البحث الاقتصادي السياسي : الأول؛ انطلق من "الكل الحي" (مثلاً، دولة أمة؛ فرنسا، بريطانيا) لينتهي عبر التحليل إلى اكتشاف عدد صغير من العلاقات المحددة ، المجردة ، العامة كتقسيم العمل ، النقود ، القيمة، الخ.. والثاني؛ يسير في الاتجاه المعاكس مبتدئاً بالعلاقات البسيطة ، المجردة، العامة ليصل في النهاية إلى "الكل الحي" . يستنتج ماركس: "بدهي أن الأخير هو المنهج العلمي الصحيح"
ولكن، أليس لهذه المقولات الأبسط وجود تاريخي أو طبيعي مستقل يسبق المقولات الأكثر عيانية ؟" .. إن البداية الملائمة ليست تلك المنطلقة من فجر التاريخ ، بل الأحرى الانطلاق من المقولة التي تحتل مركزاً مهيمناً ضمن التشكيلة الاجتماعية المحددة محل الدرس(موضوع الدراسة) "
"إن البداية الملائمة لنقد المقولات (مقولات النظام ) الاقتصادية البورجوازية ليست "الإنتاج المادي بشكل عام"، بل "رأس المال" أو على الأقل "الإنتاج من أجل القيمة التبادلية" فتلك هي المقولات التي تحكم هذا المجتمع" . لاحظ أن أفضل بداية هي النهاية لأنها تتضمن بشكل كامن كل تناقضات النظام ؛ على سبيل المثال، ماركس يبدأ بدراسة البضاعة أو السلعة عند دراسة عمليات رأس المال لأن السلعة هي الناتج "النهائي" لرأس المال ، أي الناتج المعد للاستهلاك .
لكي نتوصل إلى البداية الملائمة ، أي نقطة البداية التي تلقي بها جانباً صوفية هيغل و "الاقتصاديين المبتذلين" وشكوك ماركس نفسه لا بد لنا من الذهاب إلى آخر صفحة في الدفتر السابع من الغروندريسّة حيث القسم الذي أعطاه ماركس عنواناً فرعياً هو "القيمة" مع الملاحظة التالية : "يجب تقديمه إلى البداية " . هذه النكشة أو النُكْتة هي محاولة أصيلة لإعادة تلخيص محتويات كل المخطوط في شكل منهاجي متماسك . وتبدأ الفقرة كالتالي : "أولى المقولات التي تنكشف الثروة البورجوازية عبرها هي السلعة . وتبدو السلعة نفسها كوحدة لجانبين [قيمة استعماليه من جانب وقيمة تبادلية من الجانب الآخر] .. " إنها نقطة البدء في كتاب ماركس "إسهام في نقد الاقتصاد السياسي (1859) " وكذلك المجلد الأول من كتاب "رأس المال" (1867). إنها بداية مجسدة ومادية وتكاد تكون ملموسة منذ اللحظة الأولى ، فضلاً عن كونها محددة تاريخياً (أسلوب الإنتاج الرأسمالي) ، وتحتوي في داخلها على التناقض الأساس لنمط الإنتاج الرأسمالي ، وهي (السلعة) وحدة نقيضين ، يضم تطورها كل تناقضات هذا النمط الإنتاجي الأخرى.
"هذه البداية غير النقية" (المحددة؛ التاريخية) التي تنتهي إليها الغروند ريسّة تتفوق كديالكتيك على البدايات السابقة لأنها تحتوي على التناقض منذ البدء، بشكل جنيني ، فيما تنطلق البدايات "النقية " (غير المحددة ، الخالدة، المطلقة، الشمولية.. الله، الخ..) بطريقة زائفة إذ تستبعد النقيض (وإلا لما أصبحت نقية) ؛ وعند ذاك عليها أن تختلق النقيض اختلاقاً من العدم وبطريقة سحرية كما خرجت حواء من ضلع آدم . على البداية أن تكون "مادية" تنطلق من "المجسد " و"المحدد" بالتالي، وعلى حد تعبير هيغل نفسه ، "من المتناقض في ذاته " يقول ماركس في مقدمة "إسهام في نقد الاقتصاد السياسي" البديل لمقدمة الغروندريسّة ما يلي: "إنني أطوي مقدمة عامة كنت سطرتها على الورق .. إذ بتفحص الأمر بدقة أكبر يبدو لي أن أي استباق لنتائج تنتظر البرهنة عليها بعد ، هو تشويش . وعلى القارئ الراغب في متابعتي أصلاً أن يوطن نفسه على القفز من المحدد (الخاص) إلى العام "
المسألة الثانية: الفارق الجوهري بين المنهج الديالكتيكي في أيدي مثالية عنه في أيدي مادية ؛ نعني بذلك مسألة درجة المباشرة في وحدة المتضادات. "كل وحدة تتكون من أقطاب أو جوانب متضادة ، هل يترتب على ذلك أن وحدة هذه المتضادات مطلقة، مباشرة وغير مشروطة ، أم أنها بالأحرى متضادات بحاجة إلى وسيط لكي تشكل وحدة وأن فاعلية هذا الوسيط (وبالتالي الحفاظ على الوحدة) تعتمد على شروط معينة قد تكون متوافرة وقد لا تكون ؟". الوحدة المباشرة تترك الثنائيات المباشرة من دون مساس . والنقطة الأكثر إستراتيجية في المقارنة هي لحظة اكتمال عملية الإنتاج الرأسمالي عندما تقارب حصيلتها ، أي السلع ؛ الدخول مجدداً في التداول بهدف الاستهلاك . هنا لا تطرح وحدة العمليتين كمتضادات (بشكل عام) على امتداد التاريخ، بل في إطار الرأسمالية على التحديد (أي في شروط محددة تاريخياً). فهل الوحدة بين الإنتاج والاستهلاك وحدة مباشرة؟ على العكس تماماً. يكتب ماركس: "نقطة الأساس هنا ، إذا نحن معنيون بالمفهوم العام لرأس المال ، هي أن هذه الوحدة بين الإنتاج والاستهلاك (التحقيق) ليست مباشرة ، بل هي كعملية فحسب مرتبطة بشروط محددة (مشروطة)" (الدفتر الرابع)
يهاجم ماركس صراحة المفهوم الذي يقول أن "الإنتاج متطابق مباشرة مع الاستهلاك" ويبين أن هذا المفهوم ، حين يتبناه الأكثر مهارة مثل ريكاردو، قد يقود إلى رؤى عميقة لكنه لا يقود إلى الإحاطة بالكل في حالة حركة، وهو يقود في النهاية ، حين يتبناه الأقل قدرة ، إلى صبيانية وسخافة". .."بادئ ذي بدء هناك حدود ليست كامنة في الإنتاج بشكل عام ، بل في الإنتاج القائم على رأس المال " . تلك هي الصياغة المادية لوحدة المتناقضات (المتضادات) ، التي تنكر مباشرة وإطلاقاً حتمية تلك الوحدة وتؤكد بدل ذلك أن تلك الوحدة هي عملية تجري في الزمان والمكان وتتطلب وسائط مادية ذات طبيعة محددة ومشروطة (تاريخية).
يكتب نيكولوس: "إن دراسة مفصلة للديالكتيك المادي في الغروندريسّة ستكون دراسة للتوسطات لدى ماركس". من المحاولات العديدة للإحاطة بالخلاف الجوهري بين ديالكتيك هيغل وديالكتيك ماركس التالية:
1- المحاولة الأوضح والأكثر دقة والتي أكدت الغروندريسّة على كل تفاصيلها الجوهرية هي "حول الديالكتيك" وهي خلاصة قراءة لينين لمنطق هيغل ، وهو تعميم أصيل لعمل لينين في دراسة قضايا الفلسفة خلال سنتي 1914، 1915 . إضافة إلى ملاحظاته في "الدفاتر الفلسفية"
2- روسدولسكي: يشير إلى جوهر القضية دون أن يطورها .
3- جورج لوكاش: تعليق أهمية كبيرة على مسألة التوسّطات في عمل ماركس في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي" ولا يبدو أن لوكاش يدرك أن صلة ماركس بهيغل تكمن هنا وبدرجة أكبر بمعارضة ماركس لهيغل . وتبقى هيغلية لوكاش عائقاً أمام رؤية ذلك.
4- هربرت ماركوز: في كتابه "العقل والثورة" يركز بصواب على الطبيعة التاريخية للديالكتيك لدى ماركس.
5- لويس ألتوسير: المحاولة الأحدث في "التناقض والتحديد المفرط" بحاجة إلى أن توقف على قدميها ، إذ أن مفهومه حول "التحديد المفرط" ، إما أن يكون مجرد قضية كمية (أكبر قدر، تراكم التناقضات) ، أو أنه صياغة مقلوبة وملتوية لشرطية وتوسط التناقضات . ويبقى ألتوسير غامضاً تماماً فيما يتعلق بالمسألة الأساس ؛ أي ما هو العقلاني وما هو الصوفي في مفهوم هيغل العام. كما أن هذا المقال الأولي "في التناقض والتحديد المفرط" لم يتناول "الغروندْريسّة" ولا "دفاتر لينين الفلسفية"!
إن محاولة ألتوسير هذه قد "بينت إمكانية البورجوازية على تحريف الماركسية" .
"إن التوسط في الهيكل الأساس لمناقشات هيغل هو إما ذاتي أو مطلق ، أو الاثنين معاً في وقت واحد" . هذا يعني أن التوسطات عند هيغل غير موضوعية وغير تاريخية . إن وحدة الأضداد مشروطة بالنسبة لماركس، مثال ذلك : السلعة أو البضاعة كوحدة نقيضين(قيمة استعماليه وقيمة تبادلية). هذه الوحدة مشروطة بنمط إنتاج محدد وتاريخي الذي هو نمط الإنتاج البضاعي. لكن تفكك الوحدة وصراع الأضداد وانهيارها أمور حتمية ، أما لدى هيغل فالحالة معكوسة بالضبط (الوحدة مطلقة) .
إن الهدف الرئيسي .. هو تبيان أن التناقضات داخل هذه الوحدة تقود بالضرورة إلى تعليق تلك الشروط نفسها ومن ثم تؤدي إلى تحطيم الإنتاج السلعي وقيام نظام يستند إلى قيم الاستعمال.
يخلص هيغل إلى وجود متوحِّد ، وجود ساكن ، وجود بلا عدم . فيما يخلص ماركس إلى صيرورة جديدة مشروطة بغياب التضاد الاجتماعي . إن المطلق بالنسبة لماركس مشروط هو الآخر (مطلق ضمن حدود زمانية ومكانية؛ مطلق ضمن فترة تاريخية) . الصيرورة الاشتراكية للبشرية مشروطة بتحطيم العلاقات الرأسمالية ؛ تحطيم الإنتاج البضاعي .
ننتقل إلى نقطة أخرى في المقدمة: "إن العمل هو نشاط العامل، وهو خالق كل قيمة.. وهو (العمل) بحد ذاته لا قيمة له.. إن مقياسه الوحيد هو الزمن.. والسلعة التي يبيعها العامل إلى الرأسمالي هي قوة عمله، أو بشكل أكثر دقة بعد: الحق بالتصرف بقوة عمله أو عملها... أي الحق في كيفية استخدام تلك القوة.. لذا فإن بيع حق التصرف بقوة العمل ليس مجرد "فعل" اقتصادي محض، بل هو فعل سياسي.. ومع هذا المفهوم لما يبيع العامل للرأسمالي يكتسب تعبير "الاقتصاد السياسي" كامل معناه.." (الدفتر الثاني) إن مراجعة لمقدمة انجلز لطبعة 1891 من كراس ماركس "العمل الأجير و رأس المال" . يساعد على إبراز أهمية التحول من استخدام مفهوم "العمل" إلى استخدام مفهوم "قوة العمل " عند ماركس وانجلز. وهو انتقال من الهوية إلى الجوهر المتناقض؛ انتقال من القياس السطحي إلى الجوهر ؛ انتقال من الحضور إلى الجوهر؛ من البسيط إلى العيانيّ والمعاصر. العمل مقولة عامة لكل أنماط الإنتاج؛ بالتالي غير تاريخية، قوة العمل هي المتوسط الحسابي لقوة عمل العامل في قطر بعينه وضمن شروط نمط الإنتاج الرأسمالي العالمية، أي ضمن الزمن المحدد بالاجتماع الرأسمالي المعاصر.
مقولة العمل: مقولة بسيطة تظهر كسطح ، كظاهر للمقولة الثانية ، أو كمقولة سابقة لها تاريخياً .
مقولة قوة العمل: مقولة عينية تاريخية مشروطة بوجود نمط إنتاج محدد ؛ مقولة معاصرة.
نكتة (نقطة) أخرى بخصوص نظرية الربح الجديدة: يقول ماركس : هي "من كل النواحي أهم قانون في الاقتصاد السياسي المعاصر والأساس لفهم أعقد العلاقات" (الدفتر الرابع).. فقد كان الشكل متعلقاً إلى حد ما بالتنظيم الداخلي للموضوع . (شكل عرض الموضوع بعد الانتهاء من دراسته وبحثه)
ملاحظة حول "مخطوطات 1844 الاقتصادية – الفلسفية" (مخطوطات باريس) ؛ كانت الكتابات المبكرة وبخاصة مخطوطات 1844 بعيدة عن توضيح ما إذا كان الاستلاب (الاغتراب alienation) شرطاً إنسانياً شاملاً وخالداً ، أو أنه يجد جذوره في نمط الإنتاج الرأسمالي المحدد تاريخياً ، وبالتالي فهو وضع انتقالي ، عارض (بالمعنى التاريخي). يلاحظ في مخطوطات باريس وجود بقايا اتصال مع أنثروبولوجية فيورباخ؛ آثار من فيورباخ عند ماركس على شكل عدم وضوح . وقد وجد عدم الوضوح والتماسك التامين أسسهما، كما تم التعبير عنهما ، في مطابقة مفهوم "التشيؤ" مع مفهوم "الاستلاب" . ولما كان التشيؤ (صنع الأشياء؛ موضعة الفاعلية الإنسانية الروحية والبدنية أشياء) غير قابل للانفصال عن أي مجتمع إنساني يتجاوز المجتمع البدائي فإن مطابقة هذين التعبيرين يمكن تفسيره ببساطة باعتباره "رؤيا" ماركس للاستلاب على أنه استلاب أبدي؟!
يردّ ماركس في الغروندريسّة: "يحبس الاقتصاديون البورجوازيون أنفسهم ضمن مفاهيم تنتمي إلى مرحلة تاريخية محددة من مراحل التطور الاجتماعي لدرجة أن ضرورة تشييء قوى العمل الاجتماعي تبدو لهم غير قابلة للفصل عن استلابها في مواجهة العمل الحي " (الدفتر السابع) هنا يشْخصُ النظر بالدرجة الأولى إلى الاستلاب كعلاقة ملكية محددة ، هي بالتحديد علاقة بيع اضطرارية (تنازل عن الملكية ) إلى آخر (خصم [طبقي]) (الدفتر الرابع).. إن نظرية ماركس عن دائرة التداول مع نظريته في الإنتاج تقدم ضمنياً الأساس لنظرية عن أشكال الدولة . فعلى سبيل المثال ، وبشكل أولي ، تقدم الأولى الأساس لتفسير القشرة الديمقراطية وتقدم الثانية الأساس لتفسير الديكتاتورية الرأسمالية . (دكتاتورية طبقة اجتماعية؛ أي تنظيم الطبقة الحاكمة لسيطرتها وهيمنتها على المجتمع ككل) . هنا تطرح مهمة نظرية هي تطوير نظرية أساسية عن أشكال الدولة. في كتاب "أصل الأسرة والدولة والملكية الخاصة " يقدم انجلز إسهاماً ملفتاً. لكن علينا التفريق بشكل واضح بين "شكل الدولة" من جهة و "أشكال الحكم" من الجهة الثانية؛ فالدولة الواحدة ذات أشكال حكم مختلفة ومتنوعة.
في رسالة من ماركس إلى كوغلمان يعلن ماركس " أن نظرية عن أشكال الدولة محتواة في العمل نفسه ، ولكن لابد من تطويرها "
فلاديمير لينين
خطة ديالكتيك (منطق ) هيغل: PLAN OF HEGEL,S DIALECTICS (LOGIC)
محتويات المنطق الصغير (موسوعة العلوم الفلسفية) .
ترجمها عن الإنكليزية: نايف سلوم
 . مذهب الكائن. The Doctrine of Being
A) الكيف Quality
a) الكائن Being
b ) الكائن المحدّد Determinate Being
c) الكائن- لذاته Being-for-self
B ) الكم Quantity
a) الكم المجرد أو الخالص Pure .Q
b) المقدار (الكميّة) Quantum
c) الدَّرجة Degree
C ) القياس Measure
 . مذهب الماهية.The Doctrine of Essence
A) الماهية، بوصفها أساس الكائن بالفعل Existence
a ) الهُوية – الاختلاف – الأساس؛ Identity, Difference, Ground
b ) الكائن بالفعل؛ Existence
c ) الشيء . The Thing
Appearance ) الظاهر (الهيئة) B
) عالم الظاهر a
b ) المحتوى والشكل Content and Form
c ) العلاقة Relation
C ) الواقع الفعلي (الفِعليّة). Actuality
a ) الصلة الجوهرانيّة
b ) الصلة السببية
c ) الفعل التبادلي .

 . مذهب الفكرة العامة Notion

A ) الفكرة الذاتية
a ) الفكرة العامة (الانطباع المفهوميّ الشخصي)
b ) الحكم Judgment
c ) القياس Syllogism
B ) الموضوع Object
a ) الميكانيكية (الآلية)
b ) الكيميائية
c ) الغائية Teleology

C ) الفكرة Idea
a ) الحياة
b ) المعرفة Cognition
c ) الفكرة المطلقة

المفهوم(المعرفة) يكشف الماهية (قانون السببية، الهُوية، الاختلاف، الخ..) في "الكائن" (في الظاهرات المباشرة؛ غير الموسّطة) – تلك هي فعلاً المسيرة العامة لكل معرفة بشرية (لكل علم) بشكل عام. تلك هي أيضاً مسيرة علم الطبيعة والاقتصاد السياسي [والتاريخ] .
بنفس القدر إن ديالكتيك هيغل هو تعميم لتاريخ الفكر. تَتبُّع هذه المسيرة بمزيد من الدقة وبتفصيل أكبر في تاريخ العلوم المختلفة تبدو مهمة رفيعة إلى حد عال. في المنطق، يجب ، بواسطته وعلى نطاق واسع، أن يتوافق تاريخ الفكر مع قوانين التفكير ....

إذا كان ماركس لم يخلف وراءه "منطقاً" (بالحرفL الكبير Logic ) فقد ترك لنا منطق الرأسمال ، ويجب أن نستفيد من ذلك على أكمل وجه ممكن . فيما يخص هذه المسألة (المنطق في رأس المال) يطبق ماركس على علم واحد ؛ وهو الاقتصاد السياسي كل من (المنطق، الديالكتيك، ونظرية المعرفة المادية. لا حاجة لثلاث كلمات ، إنها أمر واحد)، آخذاً كل ما له قيمة عند هيغل ومطوِّراً إيّاه.
السلعة- المال- رأس المال __ إنتاج القيمة الفائضة المطلقة
__ إنتاج القيمة الفائضة النسبية
تاريخ الرأسمالية وتحليل المفاهيم التي تلخص هذا لتاريخ.
نقطة الانطلاق- "الموجود" الأكثر بساطة، الأكثر إلفة، الأكثر شيوعاً، والأكثر مباشرة ؛ السلعة المفردة ("الكائن" "Sein" في الاقتصاد السياسي) . تحليل هذه السلعة كعلاقة اجتماعية. تحليل مزدوج ، استنتاجي واستقرائي – منطقي وتاريخي (أشكال القيمة) .
الاختبار بالوقائع أو بالممارسة على التوالي، علينا اكتشافه هنا في كل خطوة من التحليل.
فيما يتعلق بمسألة الماهية بالتقابل مع الظاهر
- السعر والقيمة
- العرض والطلب مقابل القيمة Wert (العمل المُتبلّر)
- الأجور وسعر قوة- العمل
ف. إ. لينين- 1915



































الركن الأدبي





















مرثاةُ وطن
ذات صباح عبقَ العطر بأروقتي
وامتدّ بناني يفتح كمّاً للبرعمِ
مختبئاً خلف شفيفٍ من نسج شغاف القلب
سنابلُ شوقي شمختْ
والصّدرُ بدا حقلاً مفروشاً بالأسرار
أذكرنيْ قمري القادم من أمواج ليلي الأمسِ
بكل تواريخٍ للأنس مع الحسنِ، وبالوطن
أذكرني ألف ربيعْ
جنّدتُ كتائب عشقي، وخبّأتُ
القمرَ، الوطنَ، جوار الروح
في زمن يسرقُ فيه الوطنُ
ويرمى في سوقٍ للذلِّ
ويجأرُ كلُّ خصيٍّ من حكامٍ منقرضين
بأنّ العلةَ خلف حدود الوطن
وهم العلّةُ في الإفساد وفي الذلِّ
وفي التفتيت، وزرع بذور الضعفِ مع العقمِ
وبلا خجلٍ
يتباكى كلُّ شيوخ العبثِ ، زناةِ الحرفِ
لموت الشمم وذلِّ الوطن
في هذا الزمن جنايات، ما عرف التاريخ لها شبهاً
والجاني يجلس في كرسيِّ العرش
وجعجعةٌ في كلِّ مكان
للمسموع وللمرئي وللمقروء:
"نحن بخير، نصمد، لا نتراجع
وبغير القدس مع الجولان فلن نرضى"
لكنّ العلّةَ يا قمري
أنظمةُ الزفتِ العربيّة
واخجلتنا!! هذا زمن أمسى فيه الشَّعبُ قطيعاً
يحفظ كلَّ نصوصِ الطاعة والإذعان
يصفق للجلادْ
يردّدُ ألف شعار كلَّ صباح
وبلا جدوى
يحتشد بزرٍّ، ثم بزرٍّ يترك ذاك الحشدْ
وفي الأحلام يهلوسُ
أما النَّصر ففي الأوهام
في الطّرفِ الآخر شِرذِمةٌ
يتَّسخُ العارُ بسمعتها
تُتاجر، ترقص في أعراس العهرِ
بحقِّ الوطنِ وحقِّ الشّعب
وكلُّ السّادة متفقون
هذا زمنٌ يُخجل حتى السَّفلة
قرصانُ العالم باتَ هنا
في ثقةٍ يرقبُ ما يجري
خدم القرصان كما الجرذان
ساحاتُ الهرْجِ تغصُّ بهم
والعاتي يبصق في أوجههم
ذاتَ يمينٍ، ذاتَ شمالْ
قلبَ الطاولة وأنهى
مباراةَ الأقزامْ

عمران

من أوراق نبيل إسماعيل
شرود
شاردُ الذهنِ
عيناهُ تشقّان المدى
فتحصل كارثةٌ
في الطرف الآخرْ
ألف قصيدة لم تكتب
ألف بركان انساب بهدوء
ألف عاشق كنتُ أنا
لا يغويه إلاّ الصمتَ
ووجوه أناس حديدية
وفَمٌ ترك التوازن
لخواص الأشياء المبعثرة
ومسافة للسلامةْ
خطوة إلى الأمامْ
خطوتان إلى الوراءْ
خطوة إلى أمام
وأخرى إلى لا مكانْ
دعوة لتردّد الصوت
ما يزال يرقص منذ حين
يهزُّ الجدران والمخارجْ
يأبى الخروج والاندثار
لحوحٌ على الروح صوتُها
مصرٌ على اللحن الطويل
مصرٌ على التكرار

مساحة مخبأة للحزن
تكبّري
البسمةُ ليست صيفاً
مزهريةٌ للأشواك الواقفةْ
لم تتسن لي رؤيتكِ خارج الثوب المزركشْ
واللامبالاة الفائضة
لكنني ، رأيتكِ دوماً في مرآة نفسي
مساحة للحزن المخبأْ
اليدُ لا تقدِّر النرجسْ
والأصابع مغطاة بالطحالب وبقعٌ سوداء
الليلة ندمٌ
وغداً بدون إزعاج
الصورة لم تنكسر بعدُ
تكبَّري
رجيمةٌ هي المكابرة
وأجمل من الصخر!







#تجمع_اليسار_الماركسي_في_سورية (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيان عن أعمال اجتماع القيادة المركزية لتجمع اليسار الماركسي ...
- بيان
- الوثيقة التأسيسية
- بيان اعلان تجمع اليسار الماركسي في سوريا - تيم


المزيد.....




- حاول اختطافه من والدته فجاءه الرد سريعًا من والد الطفل.. كام ...
- تصرف إنساني لرئيس الإمارات مع سيدة تونسية يثير تفاعلا (فيديو ...
- مياه الفلتر المنزلي ومياه الصنبور، أيهما أفضل؟
- عدد من أهالي القطاع يصطفون للحصول على الخبز من مخبز أعيد افت ...
- انتخابات الهند.. قلق العلمانيين والمسلمين من -دولة ثيوقراطية ...
- طبيبة أسنان يمنية زارعة بسمة على شفاه أطفال مهمشين
- صورة جديدة لـ-الأمير النائم- تثير تفاعلا
- الدفاع الروسية تعلن إسقاط 50 مسيرة أوكرانية فوق 8 مقاطعات
- مسؤول أمني عراقي: الهجوم على قاعدة كالسو تم بقصف صاروخي وليس ...
- واشنطن تتوصل إلى اتفاق مع نيامي لسحب قواتها من النيجر


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - تجمع اليسار الماركسي في سورية - جدل - مجلة فكرية- ثقافية- سياسية : العدد الأول: أواسط كانون الأول 2007